الغاية في شرح الهداية في علم الرواية المدبج
(188 - (ص) تدبيجهم أَن يرْوى القرين ... عَن مثله وَهُوَ لَهُ
يدين)
(189 - مثل أَبى هر مَعَ الصديقة ... لأوزاع مَعَ مالكهم
حَقِيقَة)
(ش) : التدبيج بِالدَّال الْمُهْملَة وَالْجِيم: هُوَ أَن
يرْوى القرين عَن مثله، والقرين المروى عَن قرينه. [يدين] أى
يجازى، يُقَال: " كَمَا تدن تدان "، كَمَا تجازى بفعلك، أَو
بِحَسب مَا عملت فَالْحَاصِل: أَنه رِوَايَة كل من القرينين
عَن الآخر، مَأْخُوذ من ديباجتى الْوَجْه، وهما صفحتا
الْخَدين.
قَالَ ابْن الصّلاح: المدبج رِوَايَة الأقران بَعضهم عَن بعض،
وهم المتقاربون فى السن والإسناد، وَرُبمَا اكْتفى الْحَاكِم
أَبُو عبد الله فِيهِ بالتقارب فى الْإِسْنَاد، وَإِن لم يُوجد
فِيهِ السن.
(1/216)
ثمَّ أَشَارَ النَّاظِم إِلَى مثالين لَهُ
أَحدهمَا: فى الصَّحَابَة وَهُوَ رِوَايَة كلا من أَبى
هُرَيْرَة وَعَائِشَة الصديقة - رضى الله عَنْهُمَا - عَن
الآخر فى تابعى التَّابِعين، وَهُوَ رِوَايَة كلا من الأوزعى،
وَهُوَ عبد الرَّحْمَن بن عمر الأوزعى الشامى وَمَالك بن أنس -
رحمهمَا الله تَعَالَى - عَن الآخر.
وَكَذَلِكَ روى التابعيان كلا من الزهرى، وَعمر بن عبد
الْعَزِيز، عَن الْأُخَر.
وَمن أَتبَاع الِاتِّبَاع كل من أَحْمد، وَابْن المدينى عَن
الآخر، وفى الْمُتَأَخِّرين كل من المزى والبزارالي إِلَى
أَحدهمَا عَن الآخر، طول مَعَ كَونه أفرد بالتأليف وَقد روى
أحد القرينين عَن الآخر دون عَكسه كسليمان التيمى، حَيْثُ روى
مسعر، وَلَا يعلم لمسعر عَن التيمى رِوَايَة، وهما قرينان،
وَرُبمَا اجْتمعَا ثَلَاثَة، بل أَرْبَعَة من الأقران فى
سلسلة، وَقَوله: [مثل أَبى هر] هُوَ بالتنكير والتذكير، نقلا
من التَّأْنِيث والتصغير وَقَوله: [لاوزاع] اسْتَعْملهُ
بِنَقْل حَرَكَة همزته إِلَى السَّاكِن قبلهَا، وَحذف الْهمزَة
الأولى مَعَ با النِّسْبَة للضَّرُورَة.
رِوَايَة الأكابر عَن الأصاغر
(190 - (ص) وَإِن يكن بَينهمَا بعد مدى ... طبقَة ورتبة
وأسندا)
(191 - أَعلَى عَن أدنى فَهُوَ الأكابر ... يرْوى عَن
الْأَوَاخِر الأصاغر)
(192 - مثل النبى عَن تَمِيم الدارى ... وَمَالك عَنهُ روى
الأنصارى)
(ش) : إِذا كَانَ بَين الرِّوَايَتَيْنِ غَايَة بعيدَة، وهى
الْمعبر عَنْهَا بقوله: [بعد مدى] لِأَن المدى الْغَايَة،
وَذَلِكَ الْبعد، إِمَّا أَن يكون الراوى أقدم طبقَة، وأكبر
سنا من المروى عَنهُ، وَإِمَّا أَن يكون فى الرُّتْبَة فَقَط،
بِأَن يكون أكبر قدرا فى الْحِفْظ وَالْعلم والإتقان عَن
المروى عَنهُ، وَإِمَّا أَن يكون فيهمَا مَعًا، وَاقْتصر
النَّاظِم على التَّصْرِيح بِهِ، وَأسْندَ الْأَعْلَى من هَذِه
الْأَقْسَام عَن الْأَدْنَى، فَهَذَا يُسمى رِوَايَة الأكابر
عَن الأصاغر، وَهُوَ مَعَ الثَّلَاثَة بعده، طول
(1/217)
مَعَ كَونه أفرد بالتأليف، وَقد روى أحد
القرينين عَن الآخر دون عَكسه، كسليمان التيمى، حَيْثُ روى عَن
مسعر، وَلَا يعلم لمسعر عَن التيمى رِوَايَة، وهما قرينان،
وَرُبمَا اجْتمع ثَلَاثَة، بل أَرْبَعَة من الأقران فى سلسلة،
وَقَوله [لاوزاع] اسْتَعْملهُ بِنَقْل حَرَكَة همزته إِلَى
السَّاكِن قبلهَا، وَحذف الْهمزَة الأولى مَعَ يَاء النِّسْبَة
للضَّرُورَة. مِمَّا أدرجه خلال مَا سرده من الْأَقْسَام
أَولا، ثمَّ أَشَارَ بالتمثيل بِرِوَايَة النبى [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] عَن تَمِيم الدارى، كَمَا فى صَحِيح مُسلم
لحَدِيث " الْجَسَّاسَة " إِلَى الْأَخير مِنْهَا، وَهُوَ أجل
مِثَال فى ذَلِك، وَلِهَذَا قدمه، وفى بعض طرقه أَنه [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] رأى تميما، فَقَالَ يَا تَمِيم: " حدث النَّاس
بِمَا حدثتنى ". فاستفيد من ذَلِك علو الْإِسْنَاد، وتنبيه
الشَّيْخ الطَّالِب على الْأَخْذ عَمَّن حدث عَنهُ، إِذا كَانَ
حَيا إِلَى غير ذَلِك مِمَّا لَا مدْخل لَهُ فى هَذَا الْبَاب،
وَنَحْو هَذَا الْمِثَال مَا يرْوى أَن رَسُول الله [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] [/ 146] قَالَ: أخبرنى عمر بن الْخطاب - رضى
الله عَنهُ - أَنه: " مَا سابقت أَبَا بكر فى خير إِلَّا سبقنى
" وَكَذَا من أمثلته رِوَايَة العبادلة عَن كَعْب،
وَالصَّحَابَة عَن التَّابِعين، وَغير ذَلِك، والتمثيل
رِوَايَة الأنصارى، وَهُوَ يحيى بن سعيد، عَن مَالك إِلَى
الأول مِنْهَا، فيحيى تابعى مَاتَ بعد الْأَرْبَعين وَمِائَة
وَمَالك من أَتبَاع التَّابِعين، لَا رِوَايَة لَهُ عَن أحد من
الصَّحَابَة، مَاتَ فى سنة تسع وَسبعين وَمِائَة، وَلم يشر
إِلَى مِثَال لثانيها لكَون التَّقَدُّم فى السَّنَد هُوَ
مَطْلُوب الْبَاب.
وللخطيب فى هَذَا النَّوْع تصنيف حافل، وَكَذَا لغيره، وَمن
فَوَائده: أَن لَا يتَوَهَّم
(1/218)
كَون المروى عَنهُ أكبر، وَأفضل من الراوى،
نظرا إِلَى الْأَغْلَب فى ذَلِك فيجهل، وَقد صَحَّ قَول
عَائِشَة: " أمرنَا رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَن
ننزل النَّاس مَنَازِلهمْ " [والآواخر] صفة للأصاغر وَهُوَ
زِيَادَة للنظم.
رِوَايَة الْآبَاء عَن الْأَبْنَاء وَالْأَبْنَاء عَن الْآبَاء
(193 - (ص) وَحدث الْآبَاء عَن الْأَبْنَاء ... مثلى وَعَكسه
كثير جارى)
(ش) : هَذَانِ نَوْعَانِ، فَأَما أَولهمَا: فَهُوَ رِوَايَة
الأباء عَن الْأَبْنَاء، وَهُوَ يدْخل فى رِوَايَة الأكابر عَن
الأصاغر، لكنه أخص مِنْهُ، وَله أَمْثِلَة كَثِيرَة يُؤْخَذ
حلهَا من مُصَنف للخطيب فى ذَلِك، وَمن فَائِدَته الْأَمْن من
توهم التَّصْحِيف وَنَحْوه، وَقَوله: [مثلى] إِشَارَة إِلَى
مَا حَدثهُ بِهِ ابْنه أَبُو الْخَيْر، عَن أَخِيه أَبى
الْقَاسِم على، عَن النَّاظِم أَبِيهِمَا عَن أَبى الْبَنَّا
مَحْمُود بن خَليفَة قَالَا: نَا أَبى الْحَافِظ عبد الْمُؤمن
بن خلف الدمياطى أَنى الْحَافِظ يُوسُف بن الْخَلِيل، هَكَذَا
قرأته بِخَط [/ 147] النَّاظِم فى بعض تعاليقه. وَأما
ثَانِيهمَا: فَهُوَ رِوَايَة الْأَبْنَاء عَن الْآبَاء،
الْمشَار إِلَيْهِ بقوله: [وَعَكسه] وَقد أفرد بالتصنيف
أَيْضا، وَيظْهر أَن من فَوَائده كَون ولد الرجل غَالِبا أمس
بحَديثه بِحَيْثُ مَا يقدم مَا يَقع من ذَلِك على رِوَايَة
غَيرهم
(1/219)
مِمَّن لم يكن كثير المخالطة لَهُ، أَو أخص
مِنْهُ رِوَايَة الابْن عَن أَبِيه عَن جده، وَأكْثر مَا
بلغنَا مَا انْتَهَت الْآبَاء إِلَيْهِ فِيهِ إِلَى أَرْبَعَة
عشر أَبَا. وَقد رواينا عَن مَالك رَحمَه الله أَنه قَالَ: فى
قَوْله تَعَالَى: {وَإنَّهُ لذكر لَك ولقومك} قَالَ: هُوَ قَول
الرجل: حَدثنِي أَبى عَن جدى، وَقَالَ غَيره: الْإِسْنَاد بعضه
عوالى، وَبَعضه معالى، وَقَول الرجل: حَدَّثَنى أَبى عَن جدى،
من المعالى، وللعلائى مُصَنف فى ذَلِك لخصه شَيخنَا فشفى،
وَكفى.
السَّابِق واللاحق
(194 - (ص) وَذُو اشْتِرَاك سَابق ولاحق ... فى فَرد شيخ
وَهُوَ نوع لَائِق)
(ش) : [السَّابِق واللاحق] : هُوَ عبارَة عَمَّن اشْترك فى
الرِّوَايَة عَنهُ رِوَايَات مُتَقَدّمَة ومتأخر، تبَاين وَقت
وفاتهما تباينا شَدِيدا، فَحصل بَينهمَا أمد بعيد، وَأَن
الْمُتَأَخر غير مَعْدُود بِهِ من معاصرى الأول وَمن طبقته،
وَمن أمثلته الْفَخر بن البخارى روى عَنهُ المنذرى، وَمَات فى
سنة سِتّ وَخمسين وسِتمِائَة، وَالصَّلَاح ابْن أَبى عَمْرو،
وَمَات فى سنة ثَمَانِينَ وَسَبْعمائة، وَالصَّلَاح هَذَا سمع
مِنْهُ الْحَافِظ الذهبى، وَمَات سنة ثَمَان وَأَرْبَعين
وَسَبْعمائة، وَآخر من لَقيته مِمَّن روى لنا عَنهُ، مَاتَ فى
سنة سبعين وثمان مائَة [/ 148] وَشَيخنَا الْعِزّ ابْن
الْفُرَات روى عَنهُ أَبوهُ، وَمَات سنة سبع وثمانى مائَة،
وَأَصْحَابه أَرْجُو بقاءهم إِن بقى الزَّمَان إِلَى قرب
الْأَرْبَعين من الْقرن الْعَاشِر، قَالَ شَيخنَا: وَأكْثر مَا
وقفنا عَلَيْهِ من ذَلِك مَا بَين الرِّوَايَتَيْنِ عَنهُ فى
الْوَفَاة مائَة وَخَمْسُونَ سنة، وَذَلِكَ أَن الْحَافِظ
السلفى سمع مِنْهُ أَبُو على البردانى أحد مشايخه حَدِيثا
رَوَاهُ عَنهُ، وَمَات على رَأس الْخَمْسمِائَةِ، ثمَّ كَانَ
آخر أَصْحَاب السلفى بِالسَّمَاعِ سبطه أَبُو الْقَاسِم عبد
الرَّحْمَن بن مكى، وَكَانَت وَفَاته سنة
(1/220)
خمسين وسِتمِائَة، وَمن قديم ذَلِك أَن البخارى حدث عَن
تِلْمِيذه أَبى الْعَبَّاس السراج بأَشْيَاء فى " التَّارِيخ "
وَغير ذَلِك، وَمَات - أى البخارى - سنة سِتّ وَخمسين
وَمِائَتَيْنِ، وَآخر من حدث عَنهُ السراج بِالسَّمَاعِ، أَبُو
الْحُسَيْن الْخفاف، وَمَات سنة - يعْنى الْخفاف - ثَلَاث
وَتِسْعين وثلثمائة. وغالب مَا يَقع من ذَلِك أَن المسموع
مِنْهُ قد يتَأَخَّر بعد أحد الرِّوَايَتَيْنِ عَنهُ زَمَانا،
حَتَّى يسمع مِنْهُ بعض الْأَحْدَاث ويعيش بعد السماع مِنْهُ
دهرا طَويلا، فَيحصل من مَجْمُوع ذَلِك نَحْو هَذِه الْمدَّة،
وللخطيب - رَحمَه الله تَعَالَى - فِيهِ تصنيف حسن. وَقد
استدرك عَلَيْهِ الذهبى وَغَيره بثمان.
وَمن فَوَائده تَقْدِير حلاوة الْإِسْنَاد فى الْقُلُوب،
وَلِهَذَا قَالَ النَّاظِم: [وَهُوَ نوع لَائِق] ويلتحق بِهِ
أَن أَبَا الْقَاسِم البغوى مَاتَ فى شَوَّال سنة سبع عشرَة
وثلثمائة، وَمَات الحجار فى سنة ثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة، فجملة
مَا بَين وفاتيهما أَرْبَعمِائَة سنة وَزِيَادَة على عشْرين
سنة، وَبَينهمَا فى الْعدَد أَرْبَعَة أنفس، قَالَ الذهبى
وَهَذَا [/ 149] شئ لَا نَظِير لَهُ فى الْأَعْصَار، وَهُوَ
متعقب بالفخر على وأبى قلَابَة الرقاشى بَين وفاتيهما
أَرْبَعمِائَة سنة وَأَرْبع عشرَة وبابن كُلَيْب بَينه وَبَين
ابْن الْمُبَارك أَرْبَعمِائَة وبضع عشر، وبابن طبرزد وَابْن
علية بَين وفاتيهما أَرْبَعمِائَة سنة ونيف وَعِشْرُونَ وبعائش
بن عبد الهادى، وَابْن عبد الهادى وَابْن أَبى شُرَيْح بَين
وفاتيهما نَحْو ذَلِك على الْأَرْبَعَة، تخص كل وَاحِد
زِيَادَة على مائَة عَام واتفاق تسلسل مثله نَادِر. |