اليواقيت والدرر في شرح نخبة ابن حجر

نظمه جَوَاز الشّرْب قَائِما

ونظم جَوَاز الشّرْب قَائِما فَقَالَ:
(إِذا رمت تشرب فاجلس تفز ... بِسنة صفوة أهل الْحجاز)
(وَقد صححوا شربه قَائِما ... وَلكنه لبَيَان الْجَوَاز)
نظمه الْأَيَّام الَّتِي يتوقى الِانْتِقَال فِيهَا من أَيَّام الشَّهْر

وَله فِي الْأَيَّام الَّتِي يتوقى الِانْتِقَال فِيهَا من أَيَّام الشَّهْر هُوَ مَا قَالَ:
(توق من الْأَيَّام سبعا كوامل ... وَلَا تحدثن فِيهِنَّ امْرَءًا وَلَا سفر)

(1/170)


(وَلَا تحتفر بِئْرا وَلَا دَار تشتري ... وَلَا تصْحَب السُّلْطَان فالحذر الحذر)
(وَلَا تلبس ثوبا جَدِيدا وحلة ... وَلَا تنْكح الْأُنْثَى وَلَا تغرس الشّجر)
(ثَلَاث وَخمْس ثمَّ ثَالِث عشرَة ... وتتبعه من بعده السَّادِس الْعشْر)
(وحادية الْعشْرين إياك شومة ... وَأَرْبَعَة الْعشْرين وَالْخَامِس الأشر)
(روينَاهُ عَن بَحر الْعُلُوم نصيحة ... عَليّ ابْن عَم الْمُصْطَفى سيد الْبشر)
الْأَشْعَار فِي مدح ابْن حجر

وَقد مدحه جمَاعَة كَثِيرُونَ، مِنْهُم مبارك شاه ذَاكِرًا ختم

(1/171)


البُخَارِيّ تأليفه:
(أتبرز خدا للمقبل أم يدا ... وَتعطف قدا للمعانق أميدا)
(وتسبل فرعا طَال سهدي بليله ... وتطلع من فرق الغزالة فرقدا)
(فديتك لَا أخْشَى الغلال بقرعها ... وَقد لَاحَ فرق للضلال من الْهدى)
(وَمن عجب أَنِّي خليع صبَابَة ... وشوقي إِلَيْهَا لَا يزَال مجدداً /)
(وأعجب من ذَا إِن لين قوامها ... تثني بِجمع الْحسن يخْطر مُفردا)
(لَهَا سيف لحظ فَوق دِينَار وجنة ... فيا فرق قلب قد رَآهُ مُجَردا)
(وطرف غَد فِي السحر فتْنَة عاشق ... نحيل من حَبل الذوايب أسودا)

(1/172)


(ومذ قلت إِن الْوَجْه لِلْحسنِ جَامع ... غَدا الطّرف فِي محرابه مترددا)
(وَلم لَا يكون الْوَجْه قبْلَة عاشق ... إِذا مَا جلا ركنا من الْخَال أسودا)
(فوا لهف قلبِي وَهِي تقلبه فِي القلى ... على قيس من ضدها قد توقدا)
(وَمَجْنُون طرفِي فِي شبابيك هَدْيه ... مسلسلة من دمعة قد تعبدا)
(وَلَو لَاحَ للأحي بديع جمَالهَا ... لما رَاح فِيهِ الْيَوْم يلحي وَلَا غَدا)
(لَهَا طلعة أبهى من الشَّمْس بهجة ... كَأَن شهَاب الدّين فِي وَجههَا بدا)

(1/173)


(شهَاب ضِيَاء الدّين من نور فَضله ... زكي على الْآفَاق يشرف بالهدا)
(وَنحر رَأَيْت الْقلب مِنْهُ بصدره ... وَلَكِن حوى ذهناً غَدا متوقدا)
(فكم رمت مَحْمُود الأيادي فَلم أجد ... ريسا غير أَحْمد أحمدا)
(وناهيك من قدر حواه وَكَاد أَن ... يدر والورى مِنْهُ يكون مجيدا)
(لَهُ منطق فِي كل عقد يحله ... من الشهد أشهى حِين تحضر مشهدا)
(لَهُ قلم كالميل والنقش كحله ... يداوي بِهِ من كَانَ فِي النَّاس أرمدا)
(لمرتاح حسن الْخط والحظ والنهى ... فَمَا سود التصنيف إِلَّا وجودا)

(1/174)


(وزهد فِي التَّأْلِيف كل مؤلف ... فَصَارَ بتأليف الحَدِيث مزهدا /)
(إِذا مَا حضرت الْيَوْم مجْلِس حكمه ... ترى فِيهِ مَا فِيهِ الْخَلَاص لَهُ عدا)
(فدم لجَمِيع النَّاس فِي الْعَصْر سيدا ... فَإنَّك فِي الْعليا قد لحت مُفردا)
(عَن الصعب يرَوْنَ المكارم للورى ... وَلَا زَالَ عَن سهل عطاؤك مُسْندًا)
(وعلمك جم والتصانيف جملَة ... وَوَاللَّه مَا فِي الْعَصْر غَيْرك يقتدا)
(صَحِيح البُخَارِيّ مذ شرحت حَدِيثه ... بِفَتْح من الْبَارِي وَنصر تأيدا)
(فكم مغلق بِالْفَتْح أصبح وَاضحا ... إِلَى فهم لولاك مَا كَانَ مهتدا)

(1/175)


(فَللَّه فتح طن فِي الْكَوْن ذكره ... أغار إِلَى أقْصَى الْبِلَاد وأنجدا)
(وَكم صدر صدر قد شرحت بختمه ... وَكم حَاسِد بالهم مِنْهُ تنهدا)
(هَنِيئًا لَهُ قد سَار بَين ذَوي النهى ... وَمَا سَار حَتَّى صَار مثلك أوحدا)
(وَكم دمد حلي على حسنه انطوى ... فأظهر حَقًا بالسرور وموردا)
(فعش لوفود سيف نَحْوك عيشهم ... إِذا زَمْزَم الْحَادِي بذكرك أوحدا)
وللمنصوري يمدح صَاحب التَّرْجَمَة:
(إِن قَاضِي الْقُضَاة باسم أَبِيه ... رفع الله قيمَة الْأَحْجَار)

(1/176)


(هُوَ من جَوْهَر عَجِيب ومرجان ... غَرِيب وَفِضة ونضار)
(يهْبط الْبَعْض مِنْهُ من خشيَة الله ... وَبَعض ينشق بالأنهار)
وللشمس النواجي أديب الْعَصْر، وفريد الدَّهْر، وَقد أعطَاهُ شاشا:
(شكرا لفضلك يَا قَاضِي الْقُضَاة وَمن ... يحار فِي معنى جوده الناشي /)
(توجت رَأْسِي بِمَا أهديته فغدت ... لي حلية بك أرويها عَن الشَّاشِي)
فَقَالَ أَحْمد بن نصر الله التسترِي لما أتم تَخْرِيج أَحَادِيث الرَّافِعِيّ:
(جزى الله رب الْعَرْش خير جَزَائِهِ ... مخرج ذَا الْمَجْمُوع يَوْم لِقَائِه)

(1/177)


(لقد حَاز قصبات السباق بأسرها ... وفاز بمرقى لَا انْتِهَاء لارتقائه)
(يَدُوم لَهُ عز بِهِ وجلالة ... وَذكر جميل شامخ فِي ثنائه)
(فَلَا زَالَ مَقْرُونا بِكُل سَعَادَة ... وَلَا انْفَكَّ محروس الْعلَا فِي اعتلائه)
(وَلَا بَرحت أقلامه فِي سَعَادَة ... توقع الْأَحْكَام طول بَقَائِهِ)
(وخرقت الْعَادَات فِي طول عمره ... تزيد على الْأَعْمَار عِنْد وفائه)
وَقَالَ ابْن الْمُقْرِئ:
(قل لِلشِّهَابِ بن عَليّ بن حجر ... سورا على مودتي من الْغَيْر)

(1/178)


(فركن ودي فِيك قد أسسته ... من الصَّفَا والمروتين وَالْحجر)
فَأَجَابَهُ الْمُؤلف بقوله:
(يَا أَيهَا القَاضِي الَّذِي مُرَاده ... مُوَافق حكم الْقَضَاء وَالْقدر)
(در لَهُ ثدي الْمعَانِي حافلاً ... حَتَّى احتوى على الْمعَانِي وَقت در)
ومدحه الأبي بقوله:
(أَقمت بِمصْر يَا صدر الأعالي ... وصيتك فِي العوالم غير خافي)
(وينت الوري جيلاً فجيلاً ... فشرقت القوادم والخوافي /)
وَطلب من إِبْرَاهِيم بن رِفَاعَة إِجَارَة بقوله:
(تطلب إِذْنا بالرواية عَنْكُم ... فعادتكم إِيصَال بر وإحسان)

(1/179)


(ليرْفَع مقداري ويخفض حاسدي ... وافخر بَين الطالبين ببرهان)
فَأَجَابَهُ مخطيا للوزن فِي الْبَيْت الثَّانِي:
(أجزت شهَاب الدّين دَامَت حَيَاته ... بِكُل حَدِيث حَاز سَمْعِي بإتقان)
(وَفقه وتاريخ وَشعر رويته ... وَمَا سَمِعت أُذُنِي وَقَالَ لساني)
ومدحه الشهَاب ابْن عمر التروجي بقصيدة مِنْهَا:
(جمال الدّين أَحْمد جَاءَت فِيهِ آيَات ... وَفِي مَعَانِيه قد صحت رِوَايَات)
(وَفِي محاسنه الْحسنى قد وَردت ... أَخْبَار صدق وَفِي الْمَعْنى حكايات)
ومدحه إِبْرَاهِيم الخوافي بقوله:
(شهَاب الْمجد من شرف وَقدر ... علا مستغنياً عَن اتصاف)

(1/180)


(مُحِيط الْفَخر طود الْعلم حَقًا ... لَهُ الْفضل الْعَظِيم بِلَا خلاف)
انْتهى مَا أوردناه من تَرْجَمَة الْمُؤلف الْمَذْكُور - رَحمَه الله تَعَالَى - ولنشرع الْآن فِي الْمَقْصُود من شرح شرح النخبة الْمَذْكُورَة. وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَان وَعَلِيهِ التكلان.

(1/181)


شرح الْبَسْمَلَة والحمدلة

قَالَ رَحمَه الله: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، الْحَمد الله. افْتتح بالبسملة، وعقبها بالحمدلة اقْتِدَاء بِالْكتاب الْمجِيد، المفتتح بِالتَّسْمِيَةِ والتحميد، وَعَملا بالأثر الْمَأْثُور، وَالْخَبَر الْمَشْهُور، / (كل أَمر ذِي لَا يبتدأ فِيهِ بِسم الله فَهُوَ أَبتر) . . (وكل أَمر ذِي بَال لَا يبْدَأ فِيهِ بِالْحَمْد لله فَهُوَ أَجْذم) .
وَمعنى بَدو الْأَمر ذِي البال بذلك أَن تصدره بِهِ، وتذكره بَادِي بَدو وتجعله أول الْعَمَل على مَا هُوَ الشايع الْمُتَبَادر من بَدو الشَّيْء بالشَّيْء، وَقد نَص عَلَيْهِ

(1/182)


فِي " الْكَشَّاف "، وَوَقع عَلَيْهِ عمل أهل الْحل وَالْعقد من الْعَهْد النَّبَوِيّ إِلَى الْآن، وَلِهَذَا أوردوا أَن بَين ظاهري الْحَدِيثين تَعَارضا إِذْ الْعَمَل بِأَحَدِهِمَا يفوت الْعَمَل بِالْآخرِ.
وَالْبَاء للإلصاق، كَقَوْلِك بِهِ دَاء، وَأَقْسَمت بِاللَّه فَإِن البدو لصق باسم الله لصوق الرَّاء بِالرجلِ. وَلَا يَنْبَغِي حملهَا على الِاسْتِعَانَة لِأَنَّهَا إِنَّمَا تتَصَوَّر فِي الْأُمُور الَّتِي لَهَا شَأْن وخطر من حَيْثُ أَن الحَدِيث أَفَادَ أَنَّهَا خداج لَا يعْتد بهَا شرعا وَإِن تمت حسا مَا لم تصدر باسمه تَعَالَى فَكَانَ بِمَنْزِلَة آله يستعان بهَا فِي إِتْمَامهَا، وَأما البدؤ فِي محقرات الْأُمُور فَلَا يتَصَوَّر فِيهَا ذَلِك لتمامها بِدُونِهِ حسا وَشرعا، تيسيراً على الْعباد، وصوناً لذكر الله عَن الابتذال.
وَلَا على الملابسة لِأَن بَاء الملابسة تفِيد تلبس فَاعل الْفِعْل

(1/183)


الَّذِي وَقع فِي خَبره أَو فِي مَفْعُوله. بمجردها حَال تلبسه بذلك للْفِعْل كَمَا فيقولك: خرج زيد بعشيرته، واشتريت / الرَّحَى بأدواتها، فَيكون الْمَعْنى وجوب تلبس الْفَاعِل بِذكر بِسم الله حَال تلبسه بذلك للْفِعْل كَمَا فِي قَوْلك: خرج زيد بعشيرته، واشتريت / الرَّحَى بأدواتها، فَيكون الْمَعْنى وجوب تلبس الْفَاعِل بِذكر بِسم الله حَال تلبسه بِعَمَل آخر جُزْء من الْأَمر الْمَشْرُوع فِيهِ، فَيفوت الْمَعْنى المُرَاد على أَنه لَا يُمكن ذَلِك فِي بعض الْأَفْعَال كالتلاوة، وَالْأكل، وَالشرب.
ومنشأ الِاشْتِبَاه مَا قيل: من تَعْلِيق اسْم الله بِالْفِعْلِ الْمَقْصُود فِي قَول الْفَاعِل بِسم الله تعلق الِاسْتِعَانَة أَو الملابسة فَظن أَن الْحَال فِي لفظ الحَدِيث على ذَلِك، حَتَّى قيل لَا تعَارض بَين الْحَدِيثين إِذْ يُمكن الِاسْتِعَانَة فِي عمل وَاحِد بأمرين، وَكَذَا صور مثل ذَلِك فِي التَّلَبُّس بارتكاب مَا فِيهِ تعسف ثمَّ أَن الْآيَة الْمُبْتَدَأ بهَا كتاب الله بَيَان لِمَعْنى الْحَدِيثين، وَكَيْفِيَّة الْعَمَل بهما، حَيْثُ وصف فيهمَا أثْنَاء التَّيَمُّن باسمه بِكَوْنِهِ معطياً لجلائل النعم، ودقائقها فَإِن الْحَمد لله الَّذِي هُوَ الْوَصْف بالجميل على الْجَمِيل قبل الْفَرَاغ من أَمر التَّسْمِيَة، فَظهر أَن التَّسْمِيَة لكَونهَا ذكر الذَّات يجب تَقْدِيمهَا بِوَجْه مَا على

(1/184)


الْحَمد الَّذِي هُوَ ذكر الْوَصْف بِقدر مَا ينْدَفع بِهِ ضَرُورَة امْتنَاع الْجمع بَينهمَا فِي المبدؤ، فَيكون البدو بِالْحَمْد إضافياً قَرِيبا من الْحَقِيقِيّ.
وَأما جعل الِابْتِدَاء أمرا عرفياً ممتداً فَلَا يخفى مَا فِيهِ، وَقد أُجِيب أَيْضا بأجوبة غير طايل لَا نطيل بهَا.
معنى علم الله

الَّذِي / لم يزل عليما بِجَمِيعِ الكليات والجزئيات، محيطا بهَا، قَالَ تَعَالَى: (عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة) . وَهَذِه الْأَفْعَال المتقنة تدل على علم فاعلها، وَمن تفكر فِي بَدَائِع الْآيَات السماوية والأرضية وَفِي نَفسه وجد دقائق حِكْمَة تدل على كَمَال حكم مبدعها، وَعلمه الْكَامِل، (سنريهم آيَاتنَا فِي الْآفَاق وَفِي أنفسهم) .
وَلَا يرد أَن الْحَيَوَانَات قد يصدر عَنْهَا أَفعَال عَجِيبَة متقنة كَمَا يُشَاهد من

(1/185)


بيُوت النَّمْل والنحل، فَإِنَّهَا مخلوقة لله على أصُول الْأَشْعَرِيّ، إِذْ لَا يُؤثر غَيره على أَن عدم علم تِلْكَ الْحَيَوَانَات بهَا محَال، بل بِظَاهِر الْكتاب وَالسّنة يدل على علمهَا، قَالَ تَعَالَى (وَأوحى رَبك إِلَى النَّحْل أَن اتخذي من الْجبَال بُيُوتًا) . ونظائره كثير، وَلَيْسَ المُرَاد بِالْعلمِ فِي حَقه تَعَالَى مَا يشبه علم الْمَخْلُوق، فَإِن علمنَا عرض ومحدث وقاصر، ومستفاد من الْغَيْر، وَعلمه تَعَالَى صفة أزلية كَامِلَة ذاتية، يدْرك بهَا كل مَعْلُوم على وَجه الشُّمُول والإحاطة: وَاجِبا، أَو جَائِزا، أَو محالاً كلياً، أَو جزئياً، يعلم ذَلِك كَمَا هُوَ بِعلم قديم وَاحِد، وَلَا تَتَعَدَّد المعلومات، وَلَا تتجدد بتجددها، أحَاط بِكُل شَيْء علما، فَعلمه مُحِيط بِكُل شَيْء جملَة وتفصيلا، كلياً وجزئياً، كَيفَ لَا يُعلمهُ وَهُوَ خلقه؟ (أَلا يعلم من خلق) وَقد اشْتهر عَن الْحُكَمَاء / أَنه لَا يعلم الجزئيات المادية بِالْوَجْهِ الجزئي، بل إِنَّمَا يعلمهَا بِوَجْه كلي محتم فِي الْخَارِج وَقد كثر تشنيع الطوائف عَلَيْهِم فِي ذَلِك، وَكَفرُوا من قَالَ بِهِ، حَتَّى أَن

(1/186)


الْعَلامَة النصير الطوسي - مَعَ توغله فِي الِانْتِصَار لَهُم - قَالَ: هَذِه السِّيَاقَة مِنْهُم تشبه سِيَاقَة الْفُقَهَاء فِي تَخْصِيص بعض الْأَحْكَام بِأَحْكَام تعارضها فِي الظَّاهِر، وَذَلِكَ أَن الحكم بِأَن الْعلم بِالْعِلَّةِ يُوجب الْعلم بالمعلول إِن لم يكن كلياً لم يُمكن أَن يحكم بإحاطة الْوَاجِب بالكلي وَإِن كَانَ كلياً وَكَانَ الجزئي الْمُتَعَيّن من جملَة معلولاته يُوجب ذَلِك الحكم أَن يكون عَالما بِمَا لَهُ فَالْقَوْل بِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يكون عَالما بِهِ لِامْتِنَاع أَن يكون الْوَاجِب مَوْضُوعا للتغيير

(1/187)


بتخصيص لذَلِك الحكم الْكُلِّي بِأَمْر آخر يُعَارضهُ فِي بعض الصُّور، وَهَذَا دأب الْفُقَهَاء وَمن يجْرِي مجراهم، وَلَا يجوز أَن يَقع مثل ذَلِك فِي المباحث المعقولة لِامْتِنَاع تعَارض الْأَحْكَام فِيهَا. إِلَى هُنَا كَلَامه.
وَمِمَّا رد بِهِ عَلَيْهِم أَن تغير الْإِضَافَة لَا يُوجب تغير الْمُضَاف كالقديم يُوجد قبل الْحَادِث ثمَّ بعده.
فَإِن قلت: كَيفَ مَال إِلَيْهِ حجَّة الْإِسْلَام مَعَ تصريحهم بتكفير منكري الْعلم بالجزئيات؟ قلت: قَالَ فِي " الفتوحات " إِنَّمَا أَرَادَ / الْحُكَمَاء بِمَا عزي إِلَيْهِم أَنه سُبْحَانَهُ عَالم بالجزئيات فِي ضمن الكليات، من غير احْتِيَاج إِلَى تَحْلِيل وتفصيل كَمَا فِي علم الْمَخْلُوقَات، فأرادوا الْمُبَالغَة فِي التَّنْزِيه فأخطأوا فِي التَّعْبِير فَقَط، فالحجة لحظ ذَلِك، وَعَلِيهِ لَيْسَ فِي الْعَالم من يُنكر تعلق الْعلم بالجزئيات، فَإِن وَقع ذَلِك من بعض المقلدين فَهُوَ خطأ فِي الْفَهم عَن أسلافهم.
بَيَان قدرَة الله عز وَجل

قَدِيرًا أَي قدرَة ذَا تَامَّة، واستيلاؤه عَام على كل مَوْجُود، جوهراً

(1/188)


كَانَ أَو عرضا. وَقدرته غير مُنْقَطِعَة وَلَا مقتصرة على بعض الممكنات، لِأَن الْمُقْتَضى للقادرية هُوَ الذَّات والمصحح للمقدورية الْإِمْكَان، فَالله على كل شَيْء قدير، وخالفت الْمُعْتَزلَة فِي القبائح، وَالْبَعْض فِي مَقْدُور العَبْد، وَالْبَعْض فِي مثله.
وَالْمرَاد بالمقدور الْمُمكن، فالمستحيل لَا تتَعَلَّق الْقُدْرَة بِهِ لَا لنَقص فِيهَا بل لعدم قابليته للوجود، فَلم يصلح محلا لمتعلقها، وَقَول من قَالَ هُوَ قَادر على اتِّخَاذ ولد وَإِلَّا فَهُوَ عجز.
رد بِأَن اتِّخَاذه محَال، وَهُوَ لَا يدْخل تَحت الْقُدْرَة فَلَا عجز. وَأنكر الْحُكَمَاء كَونه قَادِرًا، لِأَن صُدُور الْفِعْل عَن الْقَادِر يتَوَقَّف عِنْدهم على الدَّاعِي إِلَيْهِ، وَذَلِكَ فِي حَقه غير مُتَصَوّر، لِأَنَّهُ الْغَنِيّ الْمُطلق فَلَا محَال لِأَن يكون الدَّاعِي مصلحَة الْغَيْر، والعالي لَا يفعل لأجل السافل / فَلَا احْتِمَال لِأَن يكون الذاتي مصلحَة الْغَيْر فانسد بَاب الدَّاعِي فِي حَقه تَعَالَى.
ورد بِأَنَّهُ لَا يلْزم مِنْهُ أَن لَا يكون مُتَمَكنًا من الْفِعْل وَالتّرْك أصلا حَتَّى يلْزم الْإِيجَاب، لِأَن التَّمَكُّن من الْفِعْل وَالتّرْك فِي الْجُمْلَة بِأَن لَا يكون وَاحِد مِنْهُمَا لَازِما لذات الْفَاعِل لَا يسْتَلْزم الْحَاجة إِلَى الدَّاعِي، إِنَّمَا الْحَاجة إِلَيْهِ عِنْد صِحَة كل مِنْهُمَا بَدَلا عَن الآخر فِي الْوَاقِع، وَهَذَا أخص من الأول.

(1/189)


بَيَان حَيَاة الله عز وَجل

حَيا أَي ذَا حَيَاة أزلية، وَلَيْسَ المُرَاد فِي حَقه تَعَالَى بِالْحَيَاةِ مَا يشبه حَيَاة الْمَخْلُوق، لِأَنَّهَا إِمَّا اعْتِدَال المزاج النوعي، أَو قُوَّة تتبع ذَلِك المزاج تفيض مِنْهَا قوى الْحس وَالْحَرَكَة، وكل ذَلِك محَال فِي حَقه تقدس، بل صفة أزلية توجب صِحَة الْعلم وَالْقُدْرَة.
بَيَان قيوميته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى

قيوماً أَي قَائِما بِكُل شَيْء تدبيراً، وحفظاً، وَرِزْقًا، وَالْقِيَام بِأَمْر الموجودات هُوَ قيام لَا يتناهى فَيكون الْقيام بِأَمْر لَا يتناهى لَا سِيمَا إِذا لوحظ أَن الصِّفَات والذات غي متناهية، وَلَيْسَ قِيَامه تَعَالَى بالموجودات فِي حفظهَا وأرزاقها فَقَط، بل فِي ذَاتهَا وصفاتها قيَاما مستمراً تتجدد بِهِ التعلقات.
وَقيل: القيوم الْقَائِم بِنَفسِهِ الْمُقِيم لغيره مقَام كل متجدد بِهِ، لَا يُقَال يَسْتَحِيل عَلَيْهِ تَعَالَى تجدّد التَّعَلُّق، أَو التجدد مُطلقًا / لأَنا نقُول لم يَتَجَدَّد لَهُ التجدد، وَوجه الْمُبَالغَة على الْوَجْهَيْنِ زِيَادَة الْكمّ والكيف.
وَقَالَ الرَّاغِب: يُقَال قَامَ كَذَا: أَي دَامَ، وَقَامَ بِكَذَا: أَي حفظه، والقيوم

(1/190)


الْقَائِم الْحَافِظ لكل شَيْء، الْمُعْطِي مَا بِهِ قوامه وَذَلِكَ هُوَ الْمَعْنى الْمَذْكُور فِي آيَة: (أعْطى كل شَيْء خلقه) وَفِي: (أَفَمَن هُوَ قَائِم على كل نفس بِمَا كسبت) .
قَالَ الْمُحَقق الدواني: وَظَاهره أَن الْقيام بِمَعْنى الدَّوَام، ثمَّ يصير بِسَبَب التَّعْدِيَة بِمَعْنى الإدامة وَهُوَ الْحِفْظ، وَحِينَئِذٍ يتَوَجَّه عَلَيْهِ أَن الْمُبَالغَة فِي اللَّازِم رُبمَا تَتَضَمَّن معنى آخر مُتَعَدِّيا، بل الْمَعْنى اللَّازِم قد يتَضَمَّن بِنَفسِهِ ذَلِك كالقيام المتضمن لتحريك الْأَعْضَاء.
نعم يرد على من فسره بالقائم بِذَاتِهِ الْمُقَوّم لغيره، وَلَا يَتَأَتَّى هُنَا مَا أجَاب صَاحب الْكَشْف فِي الطّهُور من أَنه لما لم تكن الطَّهَارَة فِي نَفسهَا قَابِلَة للزِّيَادَة رجعت الْمُبَالغَة فِيهَا إِلَى انضمام معنى التَّطْهِير إِلَيْهَا، وَذَلِكَ

(1/191)


لِأَنَّهُ قَابل للزِّيَادَة كَمَا وكيفا - كَمَا مر - على أَن فِي جَوَابه وَقْفَة من حَيْثُ أَنه انضمام معنى التَّطْهِير لما كَانَ مستفاداً من الْبَالِغَة بمعونة عدم قبُول الزِّيَادَة كَانَت الْمُبَالغَة فِي الْجُمْلَة سَببا للتعدي، وَيُمكن التَّقَصِّي بِأَن الْمَعْنى اللَّازِم بَاقٍ بِحَالهِ وَالْمُبَالغَة أوجبت انضمام الْمُتَعَدِّي إِلَيْهِ لَا تَعديَة ذَلِك باللازم، وَبَينهمَا فرقان، ثمَّ الظَّاهِر / أَن القوام الْمَذْكُور فِي قَوْله: أعْطى مَا بِهِ القوام بِمَعْنى الْوُجُود إِذْ جعله بِإِحْدَى الْمَعْنيين غير منَاف كَمَا لَا يخفى أَن الْمُبَالغَة لَيست من أَسبَاب التَّعْدِيَة، فَإِذا عري القيوم عَن أَدَاة التَّعْدِيَة لم يكن إِلَّا بِالْمَعْنَى اللَّازِم، فَلَا يَصح تَفْسِيره بِالْحَافِظِ، ثمَّ أَن الْمُبَالغَة فِي الْحِفْظ كَيفَ أعْطى مَا بِهِ القوام وَلَعَلَّه من حَيْثُ الِاسْتِقْلَال بِالْحِفْظِ إِنَّمَا يتَحَقَّق بذلك، لِأَن الْحِفْظ فرع التقوم فَلَو كَانَ التقوم لغيره لم يكن مُسْتقِلّا بِالْحِفْظِ، وعَلى هَذَا لَا يرد مَا أوردهُ على تَفْسِير الطّهُور بالطاهر فِي نَفسه

(1/192)


المطهر لغيره، من أَن الطَّهَارَة لَازم وَالْمُبَالغَة فِي اللَّازِم لَا توجب التَّعَدِّي وَذَلِكَ لِأَن الْمُبَالغَة فِي اللَّازِم رُبمَا تَتَضَمَّن معنى آخر مُتَعَدِّيا فَلَا يخفى.
بَيَان كَونه تَعَالَى سميعاً بَصيرًا

سميعاً بَصيرًا لكل مبصر، وَلكُل مسموع، وَلَيْسَ المُرَاد بِالسَّمْعِ وَالْبَصَر مَا يشبه سمعنَا وبصرنا، بل هما صفتان قديمتان زائدتان على الْعلم، لَيْسَ كسمع الْخلق وبصرهم لدلَالَة النُّصُوص القاطعة، وَإِجْمَاع الْأَنْبِيَاء بل الْعُقَلَاء على ذَلِك، وَلِأَن الْخُلُو عَنْهُمَا نقص، وَلَا يلْزم قدم المسموع والمبصر وَذَلِكَ لما ثَبت أَنه تَعَالَى هُوَ الْمُحدث لهَذَا الْعَالم البديع وَمن أحدث مثله لَا يكون مَوْصُوفا إِلَّا بِهَذِهِ الصِّفَات.
قَالَ الدواني: نقل ابْن تيميه أَن هَذَا عَلَيْهِ إِجْمَاع الْعُقَلَاء قاطبة وَلَا خلاف / بَين الْمُتَكَلِّمين والحكماء فِي كَونه تَعَالَى عَالما قَادِرًا، وَهَكَذَا فِي جَمِيع الصِّفَات، لكِنهمْ مخالفون فِي كَون الصِّفَات عين الذَّات أَو غير الذَّات،

(1/193)


أَو لَا عين وَلَا غير.
فَذهب الْمُعْتَزلَة والحكماء إِلَى أَنَّهَا غير الذَّات، ومحصول كَلَام الْحُكَمَاء نفي الصِّفَات وَإِثْبَات نتائجها وغياياتها، وَأما الْمُعْتَزلَة فَإِنَّهَا عِنْدهم من الاعتبارات الْعَقْلِيَّة الَّتِي لَا وجود لَهَا فِي الْخَارِج، وَاسْتدلَّ الْفَرِيقَانِ على نفي الغيرية بِأَنَّهَا لَو زَادَت لكَانَتْ مُمكنَة لاحتياجها إِلَى الْمَوْصُوف.
وَذهب أهل السّنة إِلَى أَنَّهَا زَائِدَة على الذَّات، قَالُوا: وَقَول الْمُعْتَزلَة فِيهِ استكمال بِالْغَيْر، وتكثير للقدماء مَمْنُوع بِأَن الصّفة لَا عين وَلَا غير، وَالْكفْر تعدد الذوات الْقَدِيمَة كَمَا لزم النَّصَارَى لَا تعدد الصِّفَات.
وَاعْلَم بِأَن الْمُؤلف قد افْتتح بِهَذَيْنِ الوصفين إِشَارَة إِلَى تأهيل الله إِيَّاه لتأليف مثل هَذَا الْكتاب الْمُفْرد الظريف اتصاف بصفتي الْعلم والاقتدار على

(1/194)


التصنيف فِي هَذَا الْفَنّ، وَلَيْسَ ذَلِك تَزْكِيَة لنَفسِهِ، بل لأمرين:
1 - الأول: امْتِثَال قَوْله تَعَالَى: (وَأما بِنِعْمَة رَبك فَحدث) .
2 - وَالثَّانِي: أَن يعْتَمد وَيعرف بالوصفين الموجبين للركون إِلَى كَلَامه وتوثيقه، وَقد وصف البُخَارِيّ نَفسه بِحِفْظ مائَة ألف حَدِيث.
بيد أَنه / لَو قَالَ: عَلَيْهِمَا لتجري الْأَوْصَاف على نسق وَاحِد لَكَانَ اقعد.
وَقد فَاتَهُ مَعَ مِمَّا اتّصف بِهِ من البلاغة والبراعة ورسوخ قدمه فِي الْإِنْشَاء وَالنّظم الْإِشَارَة إِلَى براعة الاستهلال وَهِي عبارَة: عَن أَن يَأْتِي الْمُتَكَلّم فِي مطلع كَلَامه بِمَا يُشِير إِلَى مجامع الْعلم الْمُؤلف فِيهِ، كَقَوْلي فِي " شرح الْجَامِع الصَّغِير ": الْحَمد لله الَّذِي علمنَا من تَأْوِيل الْأَحَادِيث.

(1/195)


وَفِي ابْتِدَاء " شرح بهجة الْفُؤَاد الْحَاوِي لكَمَال الْإِرْشَاد ": حمدا لله ... ... وَنَحْو ذَلِك مِمَّا هُوَ عَادَة البلغاء من الاعتناء بِمَا يكسوا الْكَلَام رونقاً وبراعة فِي ابْتِدَاء المطلع. فَكَانَ مُتَعَيّنا عَلَيْهِ أَن يفْتَتح هُنَا بِشَيْء من أَنْوَاع الحَدِيث: كالمرفوع، والمرسل، وَالصَّحِيح، وَالْحسن، وَنَحْو ذَلِك كَمَا فعل شَيْخه الْحَافِظ الْعِرَاقِيّ فِي " شرح ألفيته ": الْحَمد لله الَّذِي قبل تَصْحِيح النِّيَّة، وَحسن الْعَمَل، وَحمل الضَّعِيف الْمُنْقَطع على مراسل لطفه فاتصل ... إِلَى آخر مَا قَالَ.