اليواقيت والدرر في شرح نخبة ابن حجر الحَدِيث الصَّحِيح بنوعيه
وَخبر الْآحَاد حَال كَونه بِنَقْل عدل (وَهُوَ من لَهُ ملكة
تحمله على مُلَازمَة التَّقْوَى والمروءة) تَامّ الضَّبْط عَن
مثله، بِأَن أتقن مَا سَمعه بِحَيْثُ يُمكنهُ استحضاره مَتى
شَاءَ على مَا يَأْتِي، لَكِن توقف فِيهِ الشَّيْخ قَاسم
وَقَالَ: الله أعلم بِتمَام الضَّبْط.
قَالَ بعض الْمُحَقِّقين: وَكَانَ الأخصر الْأَحْسَن (أَن
يَقُول: بِنَقْل ثِقَة، لِأَنَّهُ من جمع الْعَدَالَة والضبط،
والتعاريف تصان عَن الإسهاب) .
مُتَّصِل بِالنّصب على الْحَال السَّنَد غير مُعَلل وَلَا شَاذ
هُوَ الصَّحِيح لذاته (أَي لنَفسِهِ) ، وَهُوَ أول تَقْسِيم
المقبول إِلَى أَرْبَعَة أَنْوَاع، لِأَنَّهُ إِمَّا أَن
يشْتَمل من صِفَات الْقبُول على أَعْلَاهَا أَو لَا،
(1/335)
الأول الصَّحِيح لذاته، وَالثَّانِي
يَأْتِي لنَفسِهِ أما إِن وجد مَا يجْبر ذَلِك الْقُصُور
لِكَثْرَة الطّرق فَهُوَ الصَّحِيح - أَيْضا - لَكِن لذاته بل
لغيره وَحَيْثُ لَا جبران فَهُوَ الْحسن لذاته، وَإِن قَامَت
قرينَة ترجح جَانب قبُول مَا يتَوَقَّف فِيهِ فَهُوَ الْحسن
أَيْضا لَكِن لَا لذاته بل لغيره، بِأَن يَأْتِي من طَرِيق
آخر، وَقد يُقَال: يلْزم تَقْدِيم الْحسن لغيره على الْحسن
لذاته بِاعْتِبَار الْقَرِينَة كَمَا ذكره بَعضهم.
وَقدم الْمُؤلف كَغَيْرِهِ من الْمُحدثين الْكَلَام على /
الصَّحِيح لذاته لعلو رتبته على غَيره من بَقِيَّة الْأَنْوَاع
الثَّلَاثَة لِأَنَّهُ الأَصْل، ومدار الْعَمَل عَلَيْهِ،
ومرادهم بِالصَّحِيحِ مَا وجدت بِهِ هَذِه الشُّرُوط، وبالضعيف
مَا لم تُوجد فِيهِ أَو بَعْضهَا لَا مَا هُوَ صَحِيح فِي نفس
الْأَمر أَو ضَعِيف
(1/336)
فِيهِ، لجَوَاز صدق الْكَاذِب وَخطأ
الصَّادِق، وَإِن الصَّحِيح قد يكون فَردا وَغير فَرد - كَمَا
علم مِمَّا مر وَيَأْتِي - لِأَن الْأَدِلَّة على قبُول خبر
الْوَاحِد لَا تفرق بَين الْفَرد وَغَيره.
الْعَدَالَة وَالْمرَاد بِالْعَدْلِ
وَالْمرَاد بِالْعَدْلِ: من لَهُ ملكة تحمله على ملازمته
التَّقْوَى والمروءة.
اعْترض بِأَن الأولى أَن يَقُول كَمَا قَالَ أهل الْأُصُول -
ملكة أَي هَيْئَة راسخة فِي النَّفس، تمنع عَن اقتراف
الْكَبَائِر، وصغائر الخسة كسرقة لقْمَة وتطفيف تَمْرَة،
والرذائل الْمُبَاحَة - أَي الْجَائِزَة - كالبول فِي
الطَّرِيق الَّذِي هُوَ مَكْرُوه، وَالْأكل فِي السُّوق لغير
سوقي، وَاتِّبَاع هوى النَّفس.
وَالْمعْنَى عَن اقتران كل فَرد من أَفْرَاد مَا ذكر، فباقتران
الْفَرد من ذَلِك تَنْتفِي الْعَدَالَة.
أما صغائر غير الخسة ككذبة لَا يتَعَلَّق بهَا ضَرَر، ونظرة
إِلَى
(1/337)
أَجْنَبِيَّة فَلَا يشْتَرط الْمَنْع عَن
اقتران كل مِنْهَا، فباقتران الْفَرد مِنْهَا لَا تَنْتفِي
الْعَدَالَة. وَأما تَعْبِير المُصَنّف بِمَا ذكره فقد تبع
فِيهِ صَاحب " البديع " حَيْثُ قَالَ: الْعَدَالَة هَيْئَة
تحمل على مُلَازمَة التَّقْوَى والمروءة وَقد رد بِأَنَّهُ
يفْسد بِهِ طرد التَّعْرِيف.
الضَّبْط وأنواعه
وَالْمرَاد بالتقوى اجْتِنَاب / الْأَعْمَال السَّيئَة من شرك،
أَو فسق، أَو بِدعَة. والضبط نَوْعَانِ:
1 - الأول: ضبط صدر أَي يُسمى بذلك، وَيُسمى أَيْضا ضبط حفظ
وَهُوَ أَن يثبت الرَّاوِي مَا سَمعه من شَيْخه متقناً لذَلِك
فِي حافظته بِحَيْثُ أَنه يتَمَكَّن عَادَة من استحضاره لَهُ
مَتى شَاءَ لَكِن لَا يشْتَرط أَن يكون استحضاره دفعياً، بل
يَكْفِي أَن يستحضره شَيْئا فَشَيْئًا على التدريج.
(1/338)
2 - وَالثَّانِي: ضبط كتاب أَي يُسمى بذلك
وَهُوَ صيانته أَي الْكتاب إِن كَانَ حدث فِيهِ لَدَيْهِ أَي
عِنْده مُنْذُ سمع فِيهِ وَصَححهُ إِلَى أَن يُؤَدِّي مِنْهُ
ليصير حِينَئِذٍ على يَقِين من عدم إِدْخَال أحد فِيهِ مَا
لَيْسَ مِنْهُ.
وَتعقبه تِلْمِيذه الشَّيْخ قَاسم: بِأَن قَوْله والضبط ضبط
صدر ... إِلَى آخِره، إِن كَانَ هَذَا هُوَ التَّام فَلَا
تتَحَقَّق الْمَرَاتِب، فَإِن من لم يكن بِهَذِهِ
الْحَيْثِيَّة فَهُوَ سيء الْحِفْظ أَو ضعيفه، وَلَيْسَ
حَدِيثه بِالصَّحِيحِ. ثمَّ الضَّبْط بالصدر لَا يتَصَوَّر
فِيهِ تَمام وقصور أصلا، وَبِالْجُمْلَةِ فَفِي التَّعْرِيف
تجهيل.
وَقيد الضَّبْط بالتمام إِشَارَة إِلَى بُلُوغ الرُّتْبَة
الْعليا فِي ذَلِك ليخرج الْحسن لذاته فَإِنَّهُ لَا يشْتَرط
فِيهِ ذَلِك.
اتِّصَال السَّنَد
والمتصل هُوَ مَا أَي حَدِيث سلم إِسْنَاده من سُقُوط فِيهِ،
بِحَيْثُ يكون كل من رِجَاله سمع ذَلِك الْمَرْوِيّ من شَيْخه
بِلَا وَاسِطَة، وَلَو قَالَ: من شَيْخه فِيهِ كَانَ أولى،
وَقد يسمع من شَيْخه الحَدِيث ثمَّ يطْرَأ عَلَيْهِ
(1/339)
عِلّة بِنَحْوِ مرض فينسى / بِسَبَبِهِ
مسموعه، فيضطر إِلَى سَماع ذَلِك الحَدِيث بِوَاسِطَة عَن
شَيْخه، ثمَّ تسْقط الْوَاسِطَة وَيَأْتِي بِلَفْظ مُحْتَمل،
فقد صدق أَنه سَمعه من شَيْخه، فَقَوْل المُصَنّف: مَا سلم
إِسْنَاده من سُقُوط جيد لَوْلَا قَوْله بعده: بِحَيْثُ ...
إِلَى آخِره، لَكِن قَوْله: غير مُعَلل، يخرج ذَلِك والسند
تقدم تَعْرِيفه وَمر مَا فِيهِ من النَّقْد.
الْمُعَلل
والمعلل لُغَة نصب على
الظَّرْفِيَّة الاعتبارية، بِمَعْنى نِسْبَة الْخَبَر إِلَى
الْمُبْتَدَأ، أَو حَال من الْمُضَاف إِلَيْهِ أَي حَال كَونه،
أَو لَفظه فِي اللُّغَة أَي معدوداً من جملَة مَعَانِيهَا أَو
من جِهَتهَا.
مَا فِيهِ عِلّة، واصطلاحهاً ظرف اعتباري مُتَعَلق بِمَعْنى
نِسْبَة الْخَبَر
(1/340)
إِلَى الْمُبْتَدَأ، أَو بِمَحْذُوف حَالا
من الْمُضَاف إِلَيْهِ أَي حد الْمُعَلل حَال كَون الْمُعَلل
فِي مَعَاني الِاصْطِلَاح، أَو معدوداً من الْمعَانِي
المتعارفة بَين أهل الِاصْطِلَاح، المُرَاد (اصْطِلَاح
الْمُحدثين) مَا فِيهِ عِلّة خُفْيَة على غير المتبحر فِي
هَذَا الشَّأْن قادحة طرأت على الحَدِيث السَّالِم ظَاهره
مِنْهَا، فَخرج بالخفية الظَّاهِرَة كانقطاع وَضعف رَاوِي.
وبالقادحة غَيرهَا كَرِوَايَة الْعدْل الضَّابِط.
الشاذ
والشاذ لُغَة هُوَ الْمُنْفَرد عَن غَيره بقال وَاصْطِلَاحا
مَا يُخَالف فِيهِ الرَّاوِي من هُوَ أرجح مِنْهُ فِي
الْعَدَالَة والضبط والإتقان، وَهَذَا قد تعقبه عَلَيْهِ
الشَّيْخ قَاسم: بِأَنَّهُ لَيْسَ بجيد، إِذْ يدْخل فِيهِ
الْمُنكر، قَالَ: فَالصَّوَاب أَن يَقُول مَا خَالف فِيهِ
الثِّقَة من هُوَ أرجح مِنْهُ وَله تَفْسِير آخر يَأْتِي
بَيَانه أَي فِي / أَوَاخِر الْكَلَام على سوء الْحِفْظ حَيْثُ
قَالَ: إِنَّه إِن
(1/341)
كَانَ لَازِما للراوي فَهُوَ الشاذ على
رَأْي، نبه على ذَلِك الْكَمَال بن أبي شرِيف.
(وَقَالَ بَعضهم: سَيَأْتِي قَوْله بَيَانه أَي وَهُوَ قَوْله،
وَعرف من هَذَا التَّقْرِير أَن الشاذ مَا رَوَاهُ مُخَالفا
مِمَّن هُوَ أولى مِنْهُ، وَهَذَا هُوَ الْمُتَعَمد فِي
تَعْرِيف الشاذ بِحَسب الِاصْطِلَاح. انْتهى) .
وَاعْلَم أَنهم قد يحكمون للإسناد بِالصِّحَّةِ فَيَقُولُونَ:
هَذَا حَدِيث إِسْنَاده صَحِيح دون الحكم للمتن بهَا، وَنَحْو
هَذَا حَدِيث صَحِيح لِأَن الْإِسْنَاد قد يَصح لثقة رِجَاله
وَلَا يَصح حَدِيثه لشذوذ أَو عِلّة، لَكِن الْمُعْتَمد فيهم:
إِذا اقْتصر على قَوْله صَحِيح الْإِسْنَاد الظَّاهِر مِنْهُ
الحكم بِأَنَّهُ صَحِيح فِي نَفسه بِقَرِينَة عدم ذكره القادح.
(تَنْبِيه) :
قَوْله فِي الْمَتْن وَخبر الْآحَاد كالجنس، وَبَاقِي قيوده
كالفصل
(1/342)
وَتَقْدِير الْكَلَام: الصَّحِيح لذاته
هُوَ خبر الْآحَاد (فخبر الْآحَاد) هُوَ الْحَد والمحدود،
وَهُوَ الصَّحِيح، وَقدم الْمُعَرّف على الْمُعَرّف لِأَن
معرفَة الْمُعَرّف أقدم من معرفَة الْمُعَرّف عِنْد الْعقل،
فَقدم فِي الْوَضع ليطابق مَا عِنْد الْعقل.
وَقَوله: بِنَقْل عدل، احْتِرَازًا عَمَّا يَنْقُلهُ غير
الْعدْل. وَقَوله هُوَ يُسمى فصلا يتوسط بَين الْمُبْتَدَأ
الَّذِي هُوَ هُنَا: وَخبر الْآحَاد وَالْخَبَر الَّذِي هُوَ
قَوْله: هُوَ الصَّحِيح. يُؤذن أَي يعلم بِأَن مَا بعده خبر
عَمَّا قبله وَلَيْسَ بنعت لَهُ اعْتَرَضَهُ بعض الْمُحَقِّقين
بِأَن هَذِه لَيست نُكْتَة الْإِتْيَان بِهِ على مَا قَالَه
أَرْبَاب الْمعَانِي، بل نكتته إِفَادَة التَّخْصِيص وَالْقصر.
وَقَوله فِي الْمَتْن - أَيْضا - لذاته يخرج مَا يُسمى صَحِيحا
لأمر خَارج
(1/343)
عَنهُ - كَمَا تقدم -. كالحسن إِذا روى من
غير / وَجه، وَمَا اعتضد بتلقي الْأمة لَهُ بِالْقبُولِ وَإِن
لم يكن لَهُ إِسْنَاد صَحِيح. قَالَ الْكَمَال بن أبي شرِيف:
وَلَو قَالَ: وَخبر الْآحَاد إِن نَقله عدل تَامّ الضَّبْط
حَال كَونه مُتَّصِلا السَّنَد ... إِلَى آخِره كَانَ أولى.
محترزات تَعْرِيف الصَّحِيح
وَخرج بالقيد الأول: مَا نَقله فَاسق أَو مَجْهُول عينا أَو
حَالا، أَو مَعْرُوف بالضعف.
وَبِالثَّانِي: مَا نَقله مُغفل كثير الْخَطَأ.
وبالثالث: الْمُنْقَطع والمعضل والمرسل على رَأْي من لَا
يقبله.
وبالرابع وَالْخَامِس: الْمُعَلل والشاذ.
انتقادات لتعريف الصَّحِيح
وَهَذَا التَّعْرِيف قد انتقد من وُجُوه:
(1/344)
1 - الأول: وَهُوَ للْمُصَنف إِن ذكر
الْقَيْد الثَّانِي مُسْتَدْرك فَإِنَّهُ يُغني عَنهُ الأول،
لِأَن اشْتِرَاط الْعَدَالَة يَسْتَدْعِي صدق الرَّاوِي وَعدم
غفلته وَعدم تساهله عِنْد التَّحَمُّل وَالْأَدَاء.
2 - الثَّانِي: أَن اشْتِرَاط نفي الشذوذ يُغني عَن اشْتِرَاط
الضَّبْط، لِأَن الشاذ إِذا كَانَ هُوَ الْفَرد الْمُخَالف،
وَكَانَ شَرط الصَّحِيح إِن سلم مِنْهُ تَنْتفِي مِنْهُ
الْمُخَالفَة، فَمن كثرت مِنْهُ الْمُخَالفَة - وَهُوَ غير
الضَّابِط - أولى.
وَأجِيب: بِأَن (الْكَلَام) فِي مقَام التَّبْيِين فَلم يكتف
بِالْإِشَارَةِ.
3 - الثَّالِث: إِن اشْتِرَاط السَّلامَة من الشذوذ وَالْعلَّة
لم يذكرهَا الْفُقَهَاء وَأهل الْأُصُول بل زَاده المحدثون،
وَفِيه نظر على مُقْتَضى نظر الْفُقَهَاء وَأهل الْأُصُول.
(1/345)
وَأجِيب: بِأَن من يؤلف فِي علم إِنَّمَا
يذكر الْحَد عِنْد أَهله لَا عِنْد غَيرهم. كَون أُولَئِكَ لم
يشترطوا ذَلِك فِي الصَّحِيح لَا يفْسد الْحَد / عِنْد من
يشترطهما.
4 - الرَّابِع: إِن هَذَا التَّعْرِيف نَاقص إِذْ بَقِي من
تَمَامه أَن يَقُول: (وَلَا مُنكر) .
ورد: بِأَن الْمُنكر عِنْد الْمُؤلف - التَّابِع للنووي وَابْن
الصّلاح - هُوَ والشاذ سيان، فَذكره مَعَه تكْرَار، وَعند
غَيرهم أَسْوَأ حَالا من الشاذ، فاشتراط نفي الشذوذ يقتضى
اشْتِرَاط نَفْيه بِالْأولَى.
- الْخَامِس: إِنَّه لم يفصح كَابْن الصّلاح بمراده من الشذوذ
فِي التَّعْرِيف الْمَذْكُور فِي الْمَتْن، وَذكر فِي الشَّرْح
أَنه مُخَالفَة الثِّقَة لأرجح مِنْهُ، وَاعْتَرضهُ فِي غير
هَذَا الْكتاب: بِأَن الْإِسْنَاد إِذا كَانَ مُتَّصِلا،
وَرُوَاته
(1/346)
عدُول ضابطون فقد انْتَفَت عَنهُ الْعِلَل
الظَّاهِرَة، وَإِذا انْتَفَى كَونه معلولاً فَمَا الْمَانِع
من الحكم بِصِحَّتِهِ. وَغَايَة مَا فِيهِ رُجْحَان رِوَايَة
على أُخْرَى، والمرجوحية لَا تنَافِي الصِّحَّة، وَأكْثر مَا
فِيهِ أَن يكون هُنَا صَحِيح وَأَصَح فَيعْمل بالراجح لَا
بالمرجوح، وَلَا يلْزم مِنْهُ الحكم بضعفه بل غَايَته الْوَقْف
عَن الْعَمَل بِهِ كَمَا فِي النَّاسِخ والمنسوخ.
وبفرض تَسْلِيم أَن الشاذ لَا يُسمى صَحِيحا فَلَا يلْزم
مِنْهُ جعل انتقائه شرطا فِي الصِّحَّة، وَلم لَا يحكم
للْحَدِيث بِالصِّحَّةِ إِلَى أَن تظهر الْمُخَالفَة، فَيحكم
بالشذوذ.
وَمنع بِأَن هَذَا يُفْضِي إِلَى الاسترواح بِحَيْثُ يحكم على
الحَدِيث بِالصِّحَّةِ قبل تتبع طرقه الَّتِي يعلم بهَا الشذوذ
نفيا وإثباتاً، وَقد يتَمَسَّك بذلك من لَا يحسن فَالْأَحْسَن
/ سد الْبَاب.
6 - السَّادِس: إِن قَوْله غير مُعَلل وَلَا شَاذ نَاقص، فَلَا
بُد أَن يكون
(1/347)
فِي التَّعْرِيف بعلة قادحة.
وَأجِيب: بِأَن ذَلِك يُؤْخَذ من تَعْرِيف الْمَعْلُول حَيْثُ
ذكر فِي مَوْضِعه، قَالَ الْمُؤلف: وَلَا يرد ذَلِك إِلَّا على
من قَالَ من غير شذوذ وَلَا عِلّة. فَإِن عَلَيْهِ أَن يصف
الْعلَّة بِكَوْنِهَا قادحة وَكَونهَا خُفْيَة.
قَالَ: وَلم يصب من قَالَ لَا حَاجَة إِلَى ذَلِك، لِأَن لفظ
الْعلَّة لَا يُطلق إِلَّا على مَا كَانَ قادحاً.
7 - السَّابِع: إِنَّهُم أوردوا عَلَيْهِ الْمُتَوَاتر
فَإِنَّهُ صَحِيح قطعا، وَلَا يشْتَرط فِيهِ هَذِه الْقُيُود.
لَكِن فِي وجود حَدِيث متواتر لَا يجمع هَذِه الشُّرُوط توقف.
وتتفاوت رُتْبَة أَي الصَّحِيح من حَيْثُ هُوَ بتفاوت هَذِه
الْأَوْصَاف الْمُقْتَضِيَة للتصحيح فِي الْقُوَّة. اسْتشْكل
ذَلِك ابْن قطلوبغا فَقَالَ: لَا
(1/348)
أعلم بعد التَّمام رُتْبَة، وَدون التَّمام
لَا يُوجد الْحَد، فليطلب تَصْوِير هَذِه الْأَوْصَاف وَكَيف
تَتَفَاوَت؟ . انْتهى.
فَإِنَّهَا لما كَانَت مفيدة لغَلَبَة الظَّن الَّذِي عَلَيْهِ
مدَار الصِّحَّة اقْتَضَت أَن يكون لَهَا دَرَجَات بَعْضهَا
فَوق بعض بِحَسب الْأُمُور المقوية. قَالَ المُصَنّف:
وَالْغَلَبَة لَيست بِقَيْد وَإِنَّمَا أردْت دفع توهم
إِرَادَة الشَّك لَو عبرت بِالظَّنِّ.
وَإِذا كَانَت كَذَلِك فَمَا (أَي فَالْحَدِيث الَّذِي) تكون
رُوَاته فِي الدرجَة الْعليا من الْعَدَالَة والضبط وَسَائِر
الصِّفَات الَّتِي توجب التَّرْجِيح كَانَ أصح مِمَّا دونه.
بذلك، وَاسْتشْكل بِأَن هَذَا شَيْء لَا يَنْضَبِط، وَلَا
يعتبروه / فِي الصَّحَابَة، فَكيف بغيرهم؟ من الْأَحَادِيث
(1/349)
الصَّحِيحَة الَّتِي لم تبلغ رواتها تِلْكَ
الدرجَة.
أصح الْأَسَانِيد
فَمن الْمرتبَة الْعليا فِي ذَلِك مَا أطلق عَلَيْهِ بعض
الْأَئِمَّة أَنه أصح الْأَسَانِيد كالزهري أَي كالحديث
الَّذِي يرويهِ الزُّهْرِيّ الْمَعْرُوف بِابْن شهَاب عَن
سَالم أَي نَاقِلا لَهُ عَن سَالم بن عبد الله بن عمر عَن
أَبِيه وَمذهب أَحْمد وَابْن رَاهَوَيْه أَن هَذَا أصح
الْأَسَانِيد مُطلقًا. قَالَ بعض الْمُحَقِّقين على الألفية:
وَمَا الْجمع بَين هَذَا و (بَين) قَول الْمُؤلف - كَغَيْرِهِ:
أصح الصَّحِيح مَرْوِيّ البُخَارِيّ وَمُسلم وَمَعَ أَنَّهُمَا
لم يرويا حَدِيثا بِهَذَا الْإِسْنَاد وَلَا بِمَا بعده؟ .
وَلَعَلَّ الْجمع هُوَ الْجمع بَين قَول الْجُمْهُور أَن
كِتَابَيْهِمَا أصح
(1/350)
(كتب الحَدِيث وَبَين قَول الشَّافِعِي مَا
على وَجه الأَرْض بعد كتاب الله أصح) من موطأ مَالك: إِن ذَلِك
قيل قبل وجود الْكِتَابَيْنِ. انْتهى.
وَأجَاب ابْن قطلوبغا - أَيْضا - بِأَن هَذَا لَيْسَ اخْتِيَار
الشَّيْخَيْنِ، وَلَا اخْتِيَار من قَالَ: أرفع الصَّحِيحَيْنِ
مرويهما، وَالْعبْرَة فِي أصح الْأَسَانِيد مَا نَص عَلَيْهِ
من غير نظر إِلَى الْوَاسِطَة بَين صَاحب الْكتاب وَأول
التَّرْجَمَة.
وكمحمد بن سِيرِين عَن عُبَيْدَة بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة
وَكسر الْبَاء ابْن عَمْرو السَّلمَانِي عَن عَليّ أَمِير
الْمُؤمنِينَ، وَمذهب ابْن الْمَدِينِيّ
(1/351)
وَالْفَلَّاس أَن هَذَا أصح الْأَسَانِيد
مُطلقًا وكإبراهيم النَّخعِيّ عَن عَلْقَمَة بن قيس عَن ابْن
مَسْعُود، وَمذهب ابْن معِين أَن هَذَا أصح الْأَسَانِيد
مُطلقًا. أَو كالزهري عَن زين / العابدين عَليّ بن الْحُسَيْن
عَن أَبِيه عَن جده.
(1/352)
وَهُوَ قَول عبد الرَّزَّاق وَابْن أبي
شيبَة.
وَقيل: أَصَحهَا يحيى بن أبي كثير عَن أبي سَلمَة عَن أبي
هُرَيْرَة.
وَقيل: قَتَادَة عَن ابْن الْمسيب عَن عَامر أخي أم سَلمَة
(عَن أم سَلمَة) .
(1/353)
وَقيل غير ذَلِك.
ودونها أَي الْأَسَانِيد الْمَذْكُورَة فِي الرُّتْبَة،
كَرِوَايَة بريد بن عبد الله ... ... ... ... ... ... ... بن
أبي بردة عَن جده عَن أَبِيه أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ.
اسْتشْكل الشَّيْخ قَاسم: بِأَن بريد بن عبد الله إِن كَانَ
(1/354)
تَامّ الضَّبْط فَلَا يَصح جعله فِي
الْمرتبَة الَّتِي هِيَ أدنى مِمَّا فَوْقهَا، وَإِن لم يكن
تَامّ الضَّبْط فَلَيْسَ حَدِيثه بِالصَّحِيحِ فَلم يدْخل فِي
أصل الْمقسم.
وكحماد بن سَلمَة بن دِينَار الْبَصْرِيّ عَن ثَابت بن أسلم
الْبنانِيّ عَن أنس بن مَالك. وَفِيه الْإِشْكَال
الْمُتَقَدّم.
ودونها فِي الرُّتْبَة كسهيل (بِالتَّصْغِيرِ) بن أبي صَالح
عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة.
وكالعلاء بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة
فَإِن الْجَمِيع
(1/355)
يشملهم اسْم الْعَدَالَة والضبط.
اعْتَرَضَهُ الشَّيْخ قَاسم: بِأَن هَذَا ظَاهر فِي أَن
الْمُعْتَبر فِي حد الصَّحِيح مُطلق الضَّبْط لَا الْمَوْصُوف
بالتمام فينافي مَا قَدمته.
إِلَّا أَن للمرتبة الأولى من الصِّفَات المرجحة مَا يَقْتَضِي
تَقْدِيم روايتهم على الَّتِي تَلِيهَا. أَي على رِوَايَة أهل
الْمرتبَة الَّتِي بعْدهَا وَفِي الَّتِي تَلِيهَا من قُوَّة
الضَّبْط مَا يَقْتَضِي تَقْدِيمهَا على الثَّالِثَة.
اعْتَرَضَهُ تِلْمِيذه ابْن قطلوبغا بِأَن مناظرة / أبي حنيفَة
مَعَ الْأَوْزَاعِيّ مَعْرُوفَة رَوَاهَا الْحَارِثِيّ
وَغَيره.
وَهِي مُقَدّمَة على رِوَايَة من يعد (بِضَم الْيَاء وَفتح
الْعين وَشد
(1/356)
الدَّال) مَا ينْفَرد بِهِ حسنا لَا
صَحِيحا كمحمد بن إِسْحَق صَاحب الْمَغَازِي عَن عَاصِم بن عمر
عَن جَابر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ، وَعَمْرو ابْن شُعَيْب
عَن أَبِيه عَن جده عبد الله بن عَمْرو وَقس أَنْت على هَذِه
الْمَرَاتِب مَا يشبهها، والمرتبة الأولى هِيَ الَّتِي أطلق
عَلَيْهَا بعض الْأَئِمَّة (يَعْنِي الإِمَام ابْن حَنْبَل)
أَنَّهَا أصح الْأَسَانِيد قَالَ بَعضهم: فِي كَلَامه هَذَا
إِشْعَار باعتماده، لَكِن قَالَ غَيره الْأَصَح مُطلقًا:
الشَّافِعِي عَن مَالك عَن نَافِع عَن ابْن عمر وَهُوَ قَول
البُخَارِيّ وَالْإِمَام
(1/357)
أبي مَنْصُور التَّمِيمِي، وَهُوَ الَّذِي
صدر بِهِ الْحَافِظ الْعِرَاقِيّ كَلَامه.
قَالَ السُّيُوطِيّ: وَهُوَ الَّذِي تميل إِلَيْهِ النُّفُوس،
وتنجذب إِلَيْهِ الْقُلُوب.
بل نقل السُّهيْلي عَن بَعضهم أَن مثل ذَلِك عَن نَافِع مُوجب
للْعلم. وعَلى هَذَا قَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور: أصح
الْأَسَانِيد مُطلقًا: أَحْمد عَن الشَّافِعِي عَن مَالك عَن
نَافِع عَن ابْن عمر، وَتسَمى هَذِه التَّرْجَمَة سلسلة
الذَّهَب، وَلَيْسَ فِي مُسْند أَحْمد على كبره مِنْهَا سوى
حَدِيث وَاحِد.
(1/358)
قَالَ البُلْقِينِيّ: وَأَبُو حنيفَة وَإِن
روى عَن مَالك - كَمَا ذكره الدَّارَقُطْنِيّ - فَلم تشتهر
رِوَايَته عَنهُ كاشتهار رِوَايَة الشَّافِعِي عَنهُ.
الرَّأْي الْمُخْتَار فِي أصح الْأَسَانِيد
وَالْمُعْتَمد عدم الْإِطْلَاق لترجمة مُعينَة مِنْهَا أَي
الْمُعْتَمد عَلَيْهِ عِنْد متأخري الْمُحدثين منع إِطْلَاق /
كَونهَا أصح الْأَسَانِيد مُطلقًا.
نعم يُسْتَفَاد من مَجْمُوع مَا أطلق الْأَئِمَّة عَلَيْهِ
ذَلِك أرجحيته على مَا لم يطلقونه وأصل ذَلِك قَول النَّوَوِيّ
- كَابْن الصّلاح: وَالْمُخْتَار أَنه لَا يجْزم فِي إِسْنَاد
بِأَنَّهُ أصح الْأَسَانِيد مُطلقًا.
لِأَن تفَاوت مَرَاتِب الصِّحَّة مُرَتّب على تمكن الْإِسْنَاد
من شُرُوط الصِّحَّة، ويعز وجود أَعلَى دَرَجَات الْقبُول فِي
كل وَاحِد وَاحِد من رجال الْإِسْنَاد الكائنين فِي تَرْجَمَة
وَاحِدَة.
(1/359)
(قَالَ بعض الْمُحَقِّقين: بل لم يتَّفق
هَذَا قطّ) .
وَلِهَذَا اضْطربَ من خَاضَ فِي ذَلِك فَقَالَ كل بِحَسب مَا
رأى، إِذْ لم يكن عِنْدهم استقراء تَامّ، وَإِنَّمَا رجح كل
مِنْهُم مَا رَجحه بِحَسب مَا قوي عِنْده، سِيمَا إِسْنَاد
بَلَده لِكَثْرَة اعتنائه بِهِ.
نعم يُسْتَفَاد من مَجْمُوع مَا أطلق الْأَئِمَّة ذَلِك
أرجحيته. انْتهى.
المفاضلة بَين الصَّحِيحَيْنِ
ويلتحق بِهَذَا التَّفَاضُل مَا اتّفق الشَّيْخَانِ على
تَخْرِيجه بِالنِّسْبَةِ لما انْفَرد بِهِ أَحدهمَا. قَالَ
الْمُؤلف: مَا انْفَرد بِهِ البُخَارِيّ رَاجِح - أَيْضا -
لترجيح أفضليتهما فَإِنَّهُم إِذا قصروا اخْتِلَافهمَا
عَلَيْهِمَا اسْتُفِيدَ مرجوحية غَيرهمَا، وترجيحهما - أَي
البُخَارِيّ وَمُسلم - إِذا اتفقَا، وَأفَاد تَصْرِيح
الْجُمْهُور بِتَقْدِيم البُخَارِيّ. كَذَا قَالَه فِي
تَقْرِيره حِين قريء عَلَيْهِ الْكتاب. قَالَ الْعَلامَة
قَاسم: لَيْسَ فِي هَذَا أَكثر مِمَّا فِي الشَّرْح فِي
الْمَعْنى لَكِن فِي اللَّفْظ.
وَمَا انْفَرد بِهِ البُخَارِيّ بِالنِّسْبَةِ لما انْفَرد
بِهِ مُسلم لِاتِّفَاق
(1/360)
الْعلمَاء بعدهمَا على تلقي كِتَابَيْهِمَا / بِالْقبُولِ
كَمَا تقدم وَاخْتِلَاف بَعضهم فِي أَيهمَا أرجح: فَمَا اتفقَا
عَلَيْهِ أرجح من هَذِه الْحَيْثِيَّة. أَي من حَيْثُ تلقي
كِتَابَيْهِمَا بِالْقبُولِ مِمَّا لم يتَّفقَا عَلَيْهِ وَقد
يعرض عَارض يَجْعَل المفوق فائقاً كَذَا ذكره المُصَنّف.
فَإِذا قَالُوا: مُتَّفق عَلَيْهِ، أَو على صِحَّته فمرادهم
(اتِّفَاق) الشَّيْخَيْنِ لَا الْأمة لَكِن يلْزم - كَمَا
قَالَ ابْن الصّلاح - من اتِّفَاقهمَا اتِّفَاق الْأمة لتلقيهم
لَهما بِالْقبُولِ كَمَا تقرر. |