اليواقيت والدرر في شرح نخبة ابن حجر

الْعَزِيز

أَو بهما - أَي بِاثْنَيْنِ فَقَط - (أَو بِوَاحِد) ، وَالْمرَاد بقولنَا: إِن يرد بِاثْنَيْنِ أَن لَا يرد بِأَقَلّ مِنْهُمَا، فَإِن ورد بِأَكْثَرَ فِي بعض الْمَوَاضِع من سَنَد وَاحِد لم يضر فِي تَسْمِيَته عَزِيزًا إِذْ الْأَقَل فِي هَذَا الْعلم يقْضِي على الْأَكْثَر. حَتَّى إِذا وجد فِي بعض الطَّبَقَات مَا ينقص عَن الشُّرُوط خرج عَن التَّوَاتُر، كَذَا قرر بِهِ تِلْمِيذه الشَّيْخ قَاسم عِبَارَته.

(1/251)


وَقَالَ الْكَمَال ابْن أبي شرِيف: قَول الْمُؤلف فِي بعض الْمَوَاضِع دَلِيل على أَنه لَو ورد فِي كلهَا لَا يُسمى عَزِيزًا بل مَشْهُورا، فَلَيْسَ بَينهمَا عُمُوم مُطلقًا، فَشرط تَسْمِيَة الحَدِيث عَزِيزًا أَن يرد فِيهِ اثْنَان وَلَو فِي مَوضِع وَاحِد. انْتهى.
وَقَالَ البقاعي: عبارَة الْمُؤلف مُخْتَلفَة، فَإِنَّهُ إِذا كَانَ المُرَاد بالاثنين فَقَط أَن لَا ينقص فَلَا حَاجَة لقَوْله يقْضِي على الْأَكْثَر، إِذْ هَذَا إِنَّمَا يَأْتِي إِذا كَانَ معنى فَقَط لَا أقل وَلَا أَكثر، وَيكون دُخُوله بطرِيق التغليب، فَكيف هَذَا. انْتهى.
وَأجِيب: بِأَنَّهُ أَرَادَ بقوله: إِذْ الْأَقَل ... ... إِلَى آخِره بَيَان كَيْفيَّة وجود الْأَكْثَر مَعَ ذكر الِاثْنَيْنِ.
سَبَب تَسْمِيَة الْمُتَوَاتر

فَالْأول: الْمُتَوَاتر بمثناة فوقية، سمي متواتراً لما أَنه لَا يَقع دفْعَة وَإِنَّمَا الَّذِي يَقع دفْعَة الْعلم الْحَاصِل عَنهُ. وَقيل: لتواتر رِجَاله حَيْثُ جَاءُوا وَاحِدًا بعد آخر بفترة. قَالَ التَّفْتَازَانِيّ: سمي بِهِ لِأَنَّهُ لَا يَقع دفْعَة

(1/252)


بل على التَّعَاقُب / والتوالي وَهُوَ (الْمُفِيد) للْعلم أَي مُوجبا بِنَفسِهِ إِيجَابا عادياً لسامعه حُصُول الْعلم بِصدق مضمونه، وَإنَّهُ تخلف عَنهُ ذَلِك الْحُصُول بِالْفِعْلِ الْمَانِع لحصوله بِغَيْرِهِ، لِامْتِنَاع تَحْصِيل الْحَاصِل.
فَخرج بِمَا أوجب الْعلم بِالْغَيْر الْمَذْكُور مَا لَا يُوجب كَذَلِك.
وبنفسها مَا لَا يُوجِبهُ بِنَفسِهِ بل بِوَاسِطَة الْقَرَائِن الزَّائِدَة على الْقَرَائِن الَّتِي لَا يَنْفَكّ الْخَبَر عَنْهَا عَادَة. ونقضه بتخلف إِفَادَة الْمُتَوَاتر الْعلم فِي إِخْبَار النَّصَارَى بقتل عِيسَى، وَالْيَهُود عَن التَّوْرَاة بتأبيد دين مُوسَى، فَإِن كلا مِنْهُمَا خبر مُفِيد للْعلم بمضمونه مَعَ أَنه كذب كَمَا دلّت عَلَيْهِ الشَّرَائِع.
رد بِمَنْع كَون كل مِنْهُمَا متواتراً لِأَن مرجع خبر النَّصَارَى إِلَى الْيَهُود الَّذين دخلُوا على عِيسَى الْبَيْت، وَقد كَانُوا تِسْعَة، فَلَا يحِيل الْعَادة تواطؤهم على الْكَذِب.

(1/253)


أما إِخْبَار الْيَهُود بتأبيد دين مُوسَى فَإِن كَانَ افتراؤهم إِيَّاه بعد وَاقعَة بخْتنصر فانتفاء تواتره فِيمَا قبل ظَاهر، أَو قبلهَا فقد قتل بخْتنصر كل يَهُودِيّ من الْمشرق إِلَى الْمغرب فَلم يتْرك إِلَّا الْأَطْفَال، فَانْتفى عدد التَّوَاتُر مِنْهُم، على أَنهم حرفوا التَّوْرَاة وَزَادُوا ونقصوا، ودلت معجزات عِيسَى وَمُحَمّد عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام على أَن خبرهم آحَاد كذب.
اليقيني يَعْنِي الضَّرُورِيّ بِدَلِيل مُقَابلَته لَهُ بالنظري فِي قَوْله فَأخْرج النظري على مَا يَأْتِي تَقْرِيره بِشُرُوطِهِ الَّتِي تقدّمت وَذَلِكَ لَا يُخَالف الْمَعْرُوف فِي الِاصْطِلَاح كَمَا ادَّعَاهُ / / الْكَمَال ابْن أبي شرِيف. لِأَن

(1/254)


أهل الِاصْطِلَاح قد يسمون كل يقيني ضَرُورِيًّا وَعَكسه، أَلا ترى إِلَى قَوْله فِي " شرح المواقف " عِنْد نقد المحصل: قد يُرَاد الضَّرُورِيّ معنى اليقيني دون البديهي المستغني عَن النّظر. قَالَ: وَقد يُسمى كل يقيني ضَرُورِيًّا مُوَافقَة لقَوْل (الشَّيْخ) الْأَشْعَرِيّ. وَمعنى كَونه ضَرُورِيًّا أَنه يحصل عِنْد سَمَاعه من غير احْتِيَاج إِلَى نظر، ومصادفة حُصُول الْعلم بمضمون ذَلِك الْخَبَر من غير شُبْهَة.
فَاعْلَم أَن تَعْرِيفه بِالْعلمِ دوري لتوقفه على مَعْرفَته وعَلى تَعْرِيفه. ذكره البقاعي. وَقَالَ الْكَمَال ابْن أبي شرِيف: إِن كَانَ الْعلم بمضمون الْخَبَر مستفاداً من التَّوَاتُر فإثبات التَّوَاتُر بِهِ دوري.
وَأجِيب: بِأَن استفادة الْعلم بمضمون الْخَبَر من التَّوَاتُر بِاعْتِبَار

(1/255)


حُصُوله، وترتبه على سَمَاعه، وَفهم معنى اللَّفْظ المسموع ودلالته على صدق التَّوَاتُر على الْخَبَر بِاعْتِبَار كَون حُصُوله وترتبه مَعْلُوما لمن حصل لَهُ، فالتحقيق أَن الْحَاصِل بالتواتر هُوَ الْعلم بمضمون الْخَبَر، وَدَلِيل صدق الْمُتَوَاتر هُوَ الْعلم بذلك وهما غيران.
وَالْيَقِين: هُوَ الِاعْتِقَاد الْجَازِم المطابق أَرَادَ بالجازم مَا لَا احْتِمَال مَعَه، وَلَا يَزُول بالتشكيك فَلَا حَاجَة لزياد بَعضهم الثَّابِت.
وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمد أَن الْخَبَر الْمُتَوَاتر يُفِيد الْعلم الضَّرُورِيّ يَعْنِي هُوَ مُوجب للْعلم بِالضَّرُورَةِ وَهُوَ الَّذِي يضْطَر الْإِنْسَان إِلَيْهِ بِحَيْثُ لَا يُمكنهُ دَفعه قَالَ / بَعضهم: وَهَذَا التَّعْبِير غير قوي؛ لِأَن النّظر بعد مُبَاشرَة الْأَسْبَاب كَذَلِك، والضروري قبل مباشرتها يُمكنهُ دَفعه بِصَرْف نظره عَنهُ.
وَقيل: يَعْنِي وَقَالَ الإِمَام الرَّازِيّ وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ لَا يُفِيد الْعلم إِلَّا

(1/256)


نظرياً وَلَيْسَ هَذَا القَوْل بِشَيْء يعْتد بِهِ لِأَن الْعلم بالتواتر قَالَ الشَّيْخ قَاسم: لَو قَالَ بالمتواتر - بِالْمِيم - كَانَ أولى حَاصِل لمن لَيْسَ لَهُ أَهْلِيَّة النّظر كالعامي، إِذا النّظر تَرْتِيب أُمُور مَعْلُومَة، أَو مظنونة يتَوَصَّل بهَا إِلَى مَعْلُوم أَو مظنون، وَلَيْسَ فِي الْعَاميّ أَهْلِيَّة ذَلِك، فَلَو كَانَ نظرياً لما حصل لَهُم.
وَاعْترض هَذَا: بِأَن الْعَاميّ فِيهِ أَهْلِيَّة النّظر على طَرِيق الْعَوام فَلَا يَصح التَّمْثِيل بِهِ، فَكَانَ الأولى أَن يَقُول كَمَا غَيره: كالبله وَالصبيان.
وَالتَّحْقِيق أَنه لَا خلاف، فَإِن من قَالَ أَنه نَظَرِي كَالْإِمَامِ الرَّازِيّ وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ وأتباعهما فسروا كَونه نظرياً بتوقفه على مُقَدمَات حَاصِلَة عِنْد السَّامع، وَهِي مُحَققَة لكَونه الْخَبَر متواترا من كَونه خبر جمع، وكونهم لَا يُجِيز الْعقل توافقهم على الْكَذِب، وَكَونه عَن حسي، وَلَيْسَ مُرَادهم الِاحْتِيَاج إِلَى النّظر عقب سَمَاعه فَلَا خلاف فِي الْمَعْنى فِي أَنه ضَرُورِيّ،

(1/257)


وتوقفه على تِلْكَ الْمُقدمَات لَا يُنَافِي كَونه ضَرُورِيًّا. قَالَ بَعضهم: وَحَاصِل مَا مر وَيَأْتِي أَن الْعلم الضَّرُورِيّ الْحَاصِل من التَّوَاتُر فِي قَول مَنْقُول عَن الرَّسُول وَغَيره هُوَ الْعلم بِتِلْكَ الْأَلْفَاظ / وَكَونهَا كَلَام من أسندت إِلَيْهِ، وَأما الْعلم بِثُبُوت مَدْلُوله فِي الْوَاقِع فَهُوَ استدلالي.
ولاح بِهَذَا التَّقْرِير الْفرق بَين الْعلم الضَّرُورِيّ وَالْعلم النظري إِذْ الضَّرُورِيّ يُفِيد الْعلم بِلَا اسْتِدْلَال. قَالَ بَعضهم: هَذَا التَّرْكِيب فَاسد، لِأَن الضَّرُورِيّ هُنَاكَ صفة لعلم فَيصير معنى التَّرْكِيب أَن الْعلم الضَّرُورِيّ يُفِيد الْعلم بِلَا اسْتِدْلَال، وَلَا يخفى فَسَاده.
والنظري يفِيدهُ لَكِن مَعَ الِاسْتِدْلَال على الإفادة اعْترض هَذَا الصَّنِيع، لِأَنَّهُ إِن أَرَادَ بِهِ الْعلم لزم الدّور، أَو اللَّفْظ - أَي لفظ الضَّرُورِيّ يُفِيد كَذَا بِحَسب الْوَضع - فَصَحِيح، لَكِن خلاف الْمُتَبَادر من كَلَامه. فَلذَلِك قَالَ الْكَمَال ابْن أبي شرِيف - كالبقاعي -: صَوَاب الْعبارَة أَن يَقُول الضَّرُورِيّ الْعلم الْحَاصِل بِلَا اسْتِدْلَال، والنظري هُوَ المفاد بالاستدلال. قَالَ الْكَمَال: وَقَوله على الإفادة منتقد بِأَن الْمُسْتَدلّ إِنَّمَا يسْتَدلّ على الحكم لَا على الإفادة.

(1/258)


فَإِن الضَّرُورِيّ يحصل لكل سامع، والنظري لَا يحصل إِلَّا لمن فِيهِ أَهْلِيَّة النّظر وَزعم أَن خبر كل وَاحِد لَا يُفِيد إِلَّا الظَّن، وَضم الظَّن إِلَى الظَّن لَا يُوجب إِلَّا الْيَقِين، وَجَوَاز كذب كل وَاحِد يُوجب جَوَاز كذب الْمَجْمُوع لِأَنَّهُ نفس الْآحَاد.
رد بِأَنَّهُ قد يكون مَعَ الِاجْتِمَاع مَا لَا يكون مَعَ الِانْفِرَاد كقوة الْحَبل الْمُؤلف من شَعرَات.
وَالْقَوْل بِأَن الضروريات لَا يَقع فِيهَا / تفَاوت وَلَا اخْتِلَاف مَعَ أَن الْعلم بِكَوْن الْوَاحِد نصف الِاثْنَيْنِ أقوى من الْعلم بِوُجُود ذِي القرنين.
منع بِأَن الضَّرُورِيّ قد تَتَفَاوَت أَنْوَاعه لتَفَاوت الإلف وَالْعَادَة والممارسة والإخطار بالبال، وتصورات أَطْرَاف الْأَحْكَام، وَقد تخْتَلف فِيهِ عناداً، أَو تصورا، أَو مُكَابَرَة، أَو قصوراً فِي الْإِدْرَاك.
سَبَب إِبْهَام ابْن حجر شُرُوط التَّوَاتُر

وَإِنَّمَا أبهمت شُرُوط الْمُتَوَاتر فِي الأَصْل يَعْنِي الْمَتْن لِأَنَّهُ على هَذِه الْكَيْفِيَّة لَيْسَ من مبَاحث علم الْإِسْنَاد وَإِنَّمَا ذكره فِيهِ للتكثير إِذْ علم الْإِسْنَاد يبْحَث فِيهِ عَن صِحَة الحَدِيث أَو ضعفه، ليعْمَل بِهِ أَو يتْرك. أَي

(1/259)


ليعلم هَل هُوَ صَحِيح أَو حسن فَيجب الْعَمَل بِهِ، أَو ضَعِيف فَلَا يعْمل بِهِ فِي الْأَحْكَام بل فِي الْفَضَائِل إِن لم يشْتَد ضعفه.
من حَيْثُ صِفَات الرِّجَال وصيغ الْأَدَاء، والمتواتر لَا يبْحَث عَن رِجَاله بل يجب الْعَمَل بِهِ من غير بحث. كعن وَنَحْوهَا من المدلس. وَلذَلِك لم يفرد ابْن الصّلاح وَلَا من اختصر كِتَابه كالنووي، أَو نظمه كالعراقي الْمُتَوَاتر بِنَوْع.
وَاعْترض على الْمُؤلف من وَجْهَيْن: -
[1] الأول: إِنَّه يجب بَيَان شُرُوط ليتميز من غَيره فَإِن شُرُوطه مَأْخُوذَة فِي تَعْرِيف الْمَشْهُور الَّذِي هُوَ من مبَاحث هَذَا الْفَنّ.
وَأجَاب ابْن الْجَزرِي عَن عدم إفرادهم لَهُ: بِأَنَّهُم اكتفوا من مبَاحث هَذَا الْفَنّ بِالصَّحِيحِ الْمجمع عَلَيْهِ عِنْدهم المتلقى بِالْقبُولِ.
[2] الثَّانِي: إِن مَا ذكره من أَن / الْمُتَوَاتر لَا يبْحَث عَن رِجَاله يُوجب أَنه لَا دخل لصفات المخبرين فِي بَاب التَّوَاتُر، وَهُوَ نقيض لما قدمه آنِفا.

(1/260)


(فَائِدَة) من الْفُؤَاد، لانها تعقل بِهِ. أَو من الفيد لَا من الْفُؤَاد على مَا مر قريره فِي الْخطْبَة.
ذكر ابْن الصّلاح فِي " مُخْتَصره " أَن مِثَال الْمُتَوَاتر على التَّفْسِير الْمُتَقَدّم فِي الْأَحَادِيث النَّبَوِيَّة يهز وجوده إِلَّا أَن يدعى ذَلِك أَي وجوده فِي حَدِيث من كذب على مُتَعَمدا قد نقل النَّوَوِيّ فِي " شَرحه لمُسلم " أَنه ورد عَن مائتى صَحَابِيّ مِنْهُم الْعشْرَة، فَمن الصِّحَاح: عَليّ

(1/261)


وَالزُّبَيْر. وَمن الحسان: طَلْحَة، وَسعد، وَسَعِيد، وَأَبُو عُبَيْدَة.
وَمن الضَّعِيف المتماسك طَرِيق عُثْمَان، وَبَقِيَّة طرقه واهية أَو سَاقِطَة.
قَالَ الْحَافِظ الْعِرَاقِيّ: وَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا حَدِيث أجمع على رِوَايَته

(1/262)


الْعشْرَة غَيره، وَغير حَدِيث الْمسْح على الْخُفَّيْنِ.
وَمن ذَلِك - أَيْضا: حَدِيث رفع الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاة، فقد تتبع الذَّهَبِيّ طرقه فبلغت نيفاً وَأَرْبَعين صحابياً.
وَذكر المُصَنّف - غَيره - أَن من أمثلته: من بنى لله مَسْجِدا،

(1/263)


وَالْمسح على الْخُفَّيْنِ، والشفاعة والحوض، ورؤية الله تَعَالَى فِي الْآخِرَة، وَالْأَئِمَّة من قُرَيْش، وَأنزل القرءان على سَبْعَة أحرف، وَغسل الْيَدَيْنِ فِي الْوضُوء، وَخير النَّاس قُرَيْش، واتخاذ الْقُبُور

(1/264)


مَسَاجِد، وسؤال الْقَبْر، وكل مُسكر حرَام، ونضر الله امْرَءًا سمع مَقَالَتي، وَبَدَأَ الْإِسْلَام / غَرِيبا، وكل ميسر لما خلق لَهُ، والمرء مَعَ من أحب.
فَلذَلِك رد المُصَنّف مَا ادَّعَاهُ ابْن الصّلاح بقوله: وَمَا ادَّعَاهُ من الْعِزَّة مَمْنُوع، وَكَذَا مَا ادَّعَاهُ غَيره. قَالَ الشَّيْخ

(1/265)


قَاسم: وَذكر بعض المحققيين أَن الْمَنْع الْمُجَرّد مَعَ الْمَيِّت لَا يقبل، لِأَن الْمَنْع طلب الدَّلِيل وَلَا طلب مِمَّن مَاتَ.
وَكَذَا مَا ادَّعَاهُ غَيره كَابْن حبَان وَغَيره من الْعَدَم من بَاب أولى لَان ذَلِك نَشأ عَن قلَّة الِاطِّلَاع على كَثْرَة الطّرق، وأحوال الرِّجَال، وصفاتهم الْمُقْتَضِيَة لإبعاد الْعَادة أَن يتواطؤا على الْكَذِب، أَو يحصل مِنْهُم اتِّفَاقًا أَرَادَ بالقلة مَا يَشْمَل عزة الْوُجُود والعدم ليصلح عِلّة لادعاء الْقلَّة والعدم، وَلَو أخذت الْقلَّة بِأحد الْمَعْنيين دون الآخر لفات تَعْلِيل أَحدهمَا وَلم يصلح لَهُ، هَذَا مَا ذكره بعض الْمُتَكَلِّمين عَلَيْهِ.
وَقَالَ البقاعي: كَلَام المُصَنّف فَاسد من أَصله، لِأَن قلَّة الِاطِّلَاع لَيست عِلّة لِامْتِنَاع دَعوَاهُم وَإِنَّمَا هُوَ عِلّة لوقوعهم فِيمَا ادعوهُ، وصواب الْعبارَة أَن يَقُول: وَإِنَّمَا صدرت هَذِه الدَّعْوَى مِمَّن صدرت مِنْهُ لِأَن ذَلِك نَشأ ... إِلَى آخِره على أَنه إِنَّمَا نَشأ عَن الْغَفْلَة عَن أَنه لَا يحْتَاج إِلَى

(1/266)


إِسْنَاد خَاص فِي نِسْبَة الْكتب الْمَشْهُورَة إِلَى مصنفها الَّذِي سَيذكرُهُ وَأَن ذَلِك ثَبت بالتواتر، وَإِمَّا قلَّة الِاطِّلَاع على كَثْرَة الطّرق من المصنفين. انْتهى.
وَاعْترض الشَّيْخ قَاسم مَا ذكره المُصَنّف أَيْضا / بِأَنَّهُ قدم قبله: إِن التَّوَاتُر لَيْسَ من مبَاحث علم الْإِسْنَاد، وَإنَّهُ لَا يبْحَث عَن رِجَاله، وَحِينَئِذٍ فَلَو سلم قلَّة اطلَاع من ذكرهم المُصَنّف على أَحْوَال الرِّجَال وصفاتهم لم يُوجب مَا ذكره. انْتهى.
وَقد أجَاب بعض شرَّاح الألفية عَن ابْن الصّلاح وَمن تبعه: بِأَن مُرَادهم الْعِزَّة من حَيْثُ الرِّوَايَة لَا الشُّهْرَة.
وَقَالَ شَيخنَا النَّجْم الغيطي: أَرَادَ ابْن الصّلاح بِالْعِزَّةِ عدم الْوُجُود بِدَلِيل قَوْله: إِلَّا أَن يدعى ذَلِك ... إِلَى آخِره، وَإِن كَانَ قَول المُصَنّف وَمَا ادَّعَاهُ غَيره من الْعَدَم يدل على أَن مُرَاده الْقلَّة.
وَمن أحسن مَا بِهِ تقرر كَون الْمُتَوَاتر مَوْجُودا - وجود كَثْرَة فِي

(1/267)


الْأَحَادِيث - وَأَن الْكتب الْمَشْهُورَة المتداولة بَين أَيدي أهل الْعلم شرقاً وغرباً الْمَقْطُوع عِنْدهم بِصِحَّة نسبتها إِلَى مصنفيها إِذا اجْتمعت على إِخْرَاج حَدِيث، وتعددت طرقه تعدداً يحِيل الْعَادة بتواطئهم أَي الواقعين فِي الطّرق على الْكَذِب إِلَى آخر الشُّرُوط أَفَادَ الْعلم اليقيني بِصِحَّة نسبته إِلَى قَائِله وَمثل ذَلِك فِي الْكتب الْمَشْهُورَة كثير.
قَالَ البقاعي: وَلَيْسَ القَوْل قيدا خلافًا لما يُوهِمهُ كَلَامه، بل لَو كَانَ الحَدِيث فعلياً كَانَ كَذَلِك بِلَا ريب، أَو علم أَن مقَالَة الْمُؤلف قد كَاد يجمع من جَاءَ بعده على ترتيبها، فتعقبها بعض الآخذين عَنهُ: بِأَن أول مقَالَته هَذِه لَا تلتئم مَعَ مَا سلف تَحْقِيقه من أَنه لَا دخل لصفات المخبرين من التَّوَاتُر.

(1/268)


وَالشَّيْخ قَاسم / بِأَن الْبَحْث فِي وجود الْمُتَوَاتر لَا فِي طَرِيق إِمْكَان وجوده. وَبِأَن قَوْله الْمَقْطُوع عِنْدهم بِصِحَّة نسبتها إِلَى مؤلفيها إِن سلم مَا ذكره من الْقطع وَهُوَ بِنَفس النِّسْبَة لَا بِصِحَّتِهَا. وَقَوله وَمثل ذَلِك كثير. دَعْوَى مُجَرّدَة فَلَا يُفِيد فِي مَحل النزاع.
والكمال بن أبي شرِيف: بِأَنَّهُ لَا يلْزم من الْقطع بِصِحَّة نِسْبَة الْكتب إِلَى مصنفيها كَون ذَلِك الْقطع حَاصِلا فِي التَّوَاتُر، وَقد يحصل بِخَبَر الْآحَاد المحتف بالقرائن وَإِلَّا فَهَذَا صَحِيح البُخَارِيّ الَّذِي هُوَ أصح كتاب بعد كتاب الله لَا يروي الْآن بِالسَّمَاعِ الْمُتَّصِل إِلَّا عَن الْفربرِي، بل وغالب الْكتب الْمَشْهُورَة لَا تبلغ - فِيمَا تعلم رواتها عَن مؤلفيها

(1/269)


الَّذين يتَّصل الْإِسْنَاد فِي عصرنا إِلَيْهِم سَمَاعا - عدد التَّوَاتُر ... ...
أَقسَام الْآحَاد

وَالثَّانِي وَهُوَ أول أَقسَام الْآحَاد بِالْمدِّ، وأخره عَن الْمُتَوَاتر لاعتباره فِي معنى الْآحَاد نفي معنى الْمُتَوَاتر.
مَا لَهُ طرق محصورة بِأَكْثَرَ من اثْنَيْنِ قَالَ البقاعي: هَذَا يَأْتِي فِيهِ مَا مر من أَن الْحصْر إِنَّمَا يكون فِي معِين وَهُوَ الْمَشْهُور عِنْد الْمُحدثين أَي النَّوْع الَّذِي يُقَال لَهُ الْمَشْهُور عِنْدهم سمي بذلك لوضوحه أَشَارَ بذلك إِلَى الْمُنَاسبَة المصححة لنقله من الْمَعْنى اللّغَوِيّ إِلَى الاصطلاحي. قَالَ

(1/270)


البقاعي: وَلَو قَالَ لظُهُوره كَانَ أبلغ لأهل اللُّغَة، فَإِنَّهُم قَالُوا: الْمَشْهُور ظُهُور الشَّيْء، والشهير مَعْرُوف.
وَاعْلَم أَن مَا / جرى عَلَيْهِ الْمُؤلف من أَن أقل عدد الْمَشْهُور ثَلَاثَة هُوَ مَا اقْتَضَاهُ كَلَام ابْن الصّلاح.
لَكِن اخْتَار ابْن الْحَاجِب - تبعا للآمدي والإمامين والغزالى - أَن أَقَله مَا زَادَت نقلته على ثَلَاثَة مَا لم يبلغ حد التَّوَاتُر، وَهُوَ رأى مأثور عَن النظام، وَجزم بِهِ البُلْقِينِيّ وَمَال إِلَيْهِ الْكَمَال ابْن أبي شرِيف

(1/271)


وَقَالَ: القَوْل بِالثَّلَاثَةِ غَرِيب. قَالَ: وَلَا يُقَال هَذَا اصْطِلَاح أهل الْأُصُول دون الْمُحدثين لأَنا نقُول: مَمْنُوع، وَقد جزم ابْن الْجَزرِي فِي " منظومته " الَّتِي نظمها فِي هَذَا الْعلم بِأَنَّهُ الْمَشْهُور فِي اصْطِلَاح أهل الحَدِيث حَيْثُ قَالَ:
(واصطلحوا الْمَشْهُور مَا يرويهِ ... فَوق ثَلَاثَة عَن الْوَجِيه)
أَي عَن راو ذِي وجاه وَقدر.
وَهُوَ المستفيض على رَأْي جمَاعَة من أَئِمَّة الْفُقَهَاء أَي قَول جمَاعَة من الْفُقَهَاء، وَكَذَلِكَ للأصوليين وَبَعض الْمُحدثين كَمَا عبر بِهِ السخاوي، وَأَخْطَأ من قَالَ كلهم. وعَلى هَذَا الرَّأْي جرى المُصَنّف فِي " الْإِصَابَة "، لَكِن هَذَا الرَّأْي مَرْجُوح كَمَا أفهمهُ تَعْبِير " جمع الْجَوَامِع " بقوله: قد يُسمى أَي المستفيض مَشْهُورا.

(1/272)


قَالَ الْكَمَال بن أبي شرِيف، والشرف الْمَنَاوِيّ: واللايق بالدمج أَنه كَانَ يَقُول: على رَأْي. هُوَ رَأْي جمَاعَة، أَو على رَأْي لجَماعَة، لِأَن الرَّأْي فِي الْمَتْن منون.
سمي بذلك لانتشاره واشتهاره وإشاعته فِي النَّاس، مَأْخُوذ من قَوْلهم فاض / المَاء يفِيض فيضاً وفيوضة، إِذا كثر حِين سَالَ على صفة الرَّاوِي.
وَمِنْهُم من غاير بَين المستفيض وَالْمَشْهُور وَفرق بَينهمَا أَن المستفيض يكون فِي ابْتِدَائه وانتهائه يعْنى وَفِيمَا بَينهمَا سَوَاء وَقد صرح بذلك الْمُؤلف فِي " تَقْرِيره " فَقَالَ: من الِابْتِدَاء إِلَى الِانْتِهَاء حَتَّى تدخل الْوَاسِطَة.
وَالْمَشْهُور أَعم من ذَلِك بِحَيْثُ يَشْمَل مَا كَانَ أَوله مَنْقُولًا عَن وَاحِد

(1/273)


كَحَدِيث " الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ "، وَإِن اعْترض ابْن الصّلاح التَّمْثِيل بِهِ لِأَن الشُّهْرَة فِيهِ نسبية.
وَمِنْهُم من غاير على كَيْفيَّة أُخْرَى فَفرق بِأَن المستفيض مَا تَلَقَّتْهُ الْأمة بِالْقبُولِ دون اعْتِبَار عدد، وَلذَلِك قَالَ الصَّيْرَفِي والقفال: إِنَّه هُوَ والمتواتر بِمَعْنى وَاحِد.
بل قَالَ الْمَاوَرْدِيّ أَنه أقوى من التَّوَاتُر كَذَلِك نَقله ابْن كثير عَنهُ ثمَّ قَالَ: وَهَذَا اصْطِلَاح (مِنْهُ) .
وَمِنْهُم من غاير بِأَن المستفيض هُوَ الشَّائِع عَن أصل كَيفَ كَانَ،

(1/274)


وَالْمَشْهُور مَا زَادَت رُوَاته على ثَلَاثَة.
وَلَيْسَ من مبَاحث هَذَا الْفَنّ أَي وَلَيْسَ تَحْقِيق الْمُغَايرَة أَو الترادف بَينهمَا من مبَاحث علم الحَدِيث بل مَحَله أصُول الْفِقْه.
ثمَّ الْمَشْهُور عِنْد الْمُحدثين (قِسْمَانِ الأول أَنه) يُطلق على مَا حرر هُنَا قَالَ العلائي: وَهَذَا الْقسم مُلْحق بالتواتر عِنْد الْمُحدثين، يُفِيد الْعلم النظري إِذا كَانَت طرقه متباينة / سَالِمَة من ضعف الروَاة، وَمن الشذوذ وَالْعلَّة، لكنه يُفَارق الْمُتَوَاتر فِي أَنه يشْتَرط عَدَالَة نقلته، فَإِن الْمَشْهُور قد يكون أحادي الأَصْل ثمَّ يشْتَهر بعد الصَّحَابَة فِي الْقرن الثَّانِي فَمن بعدهمْ، وَفِي أَن الْمَشْهُور لَا يحصل الْعلم بِهِ إِلَّا لعالم بِالْحَدِيثِ متبحر فِيهِ، عَارِف بأحوال الروَاة، مطلع على الْعِلَل بِخِلَاف الْمُتَوَاتر فَإِنَّهُ يحصل بِهِ لكل سامع.
وَالثَّانِي: أَنه يُطلق على مَا أَي على الحَدِيث الَّذِي اشْتهر على

(1/275)


الْأَلْسِنَة فَيشْمَل مَا لَهُ إِسْنَاد وَاحِد (فَصَاعِدا) وَإِن لم يكن صَحِيحا بل مَا لَا يُوجد لَهُ إِسْنَاد أصلا.
ك " عُلَمَاء أمتِي كأنبياء بني إِسْرَائِيل "، و " ولدت فِي زمن الْملك الْعَادِل كسْرَى "، و " من بشرني بِخُرُوج آذار بَشرته بِالْجنَّةِ "، و " يَوْم نحركم يَوْم صومكم ".

(1/276)


وَمن نظر " الواهيات " و " الموضوعات " لِابْنِ الْجَوْزِيّ علم لذَلِك أَمْثِلَة كَثِيرَة.
وَمن الْقسم الأول وَهُوَ الصَّحِيح: حَدِيث " إِن الله لَا يقبض الْعلم انتزاعاً ينتزعه "، وَحَدِيث " من أَتَى الْجُمُعَة فليغتسل ".
ومثاله وَهُوَ حسن: حَدِيث " طلب الْعلم فَرِيضَة على كل مُسلم ". فقد أَفَادَ الْمزي أَن طرقه يرتقى بهَا إِلَى الْحسن.

(1/277)


وَحَدِيث: " للسَّائِل حق وَإِن جَاءَ على فرس ". قَالَ السخاوي: رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن الْحُسَيْن وَعَن وَالِده، وخرجه أَحْمد عَن الْحُسَيْن وَغَيره.
ومثاله وَهُوَ ضَعِيف: " الأذنان من الرَّأْس ". قَالَ

(1/278)


بَعضهم: وينقسم الْمَشْهُور - أَيْضا - إِلَى مَشْهُور عِنْد / الْمُحدثين فَقَط، (وَإِلَى مَشْهُور بَينهم وَبَين غَيرهم فمثال الْمَشْهُور عِنْد الْمُحدثين فَقَط) كَحَدِيث مُحَمَّد بن عبد الله الْأنْصَارِيّ عَن سُلَيْمَان التَّيْمِيّ عَن أبي مجلز عَن أنس أَن الْمُصْطَفى قنت شهرا بعد الرُّكُوع. فَهَذَا مَشْهُور بَين الْمُحدثين وَرَوَاهُ التَّيْمِيّ عَن أنس - أَيْضا -، وَأما غَيرهم فيستغربه من جِهَة أَن التَّيْمِيّ يروي عَن أنس بِلَا وَاسِطَة.

(1/279)


الْعَزِيز

وَالثَّالِث الْعَزِيز وَهُوَ أَن لَا يرويهِ أقل من اثْنَيْنِ عَن اثْنَيْنِ أَي يرويانه عَن اثْنَيْنِ، فَقَوله: عَن اثْنَيْنِ. نعت اثْنَيْنِ لَا مُتَعَلق بيروي هَذَا مَا جرى عَلَيْهِ الْمُؤلف هُنَا، لَكِن كَلَام شَيْخه الْعِرَاقِيّ فِي " ألفيته " ظَاهر - كَمَا قَالَه السخاوي - فِي الِاكْتِفَاء بِوُجُود ذَلِك فِي طبقَة وَاحِدَة بِحَيْثُ لَا يمْتَنع أَن يكون فِي غَيرهَا من طباقه غَرِيبا بِأَن يتفرد بِهِ راو آخر عَن شَيْخه، بل وَلَا أَن يكون مَشْهُورا كاجتماع ثَلَاثَة فَأكْثر على رِوَايَته فِي بعض طباقه، وَجرى على ذَلِك فِي غير هَذَا الْكتاب. وَإِلَّا وَجه كَمَا صَار إِلَيْهِ السخاوي: إِن مَا كَانَت الْعِزَّة فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى راو يُقيد أَو بِأَن يُقَال عَنهُ فِيهِ عَزِيز من حَدِيث فلَان، وَأما عِنْد الْإِطْلَاق

(1/280)


فَيَنْصَرِف لما أَكثر طباقه كَذَلِك، لِأَن وجود سَنَد على وتيرة وَاحِدَة بِرِوَايَة اثْنَيْنِ عَن اثْنَيْنِ ادّعى فِيهِ ابْن حبَان عدم الْوُجُود، وَكَاد الْمُؤلف أَن يُوَافقهُ حَيْثُ قَالَ: إِنَّه يُمكن أَن يسلم بِخِلَافِهِ فِي الصُّورَة الَّتِي جوزناها وَهِي أَن لَا يرويهِ أقل من اثْنَيْنِ عَن أقل من اثْنَيْنِ يَعْنِي على مِمَّا حَرَّره هُوَ فَإِنَّهُ مَوْجُود.
سمى بذلك (إِمَّا) لقلَّة وجوده لِأَنَّهُ يُقَال عز يعز / بِكَسْر الْعين فِي الْمُضَارع عزا وعزازة بِفَتْح الْعين إِذا قل بِحَيْثُ لَا يكَاد يُوجد. وَإِمَّا لكَونه عز أَي قوي بمجيئه من طَرِيق أُخْرَى من عز يعز - بِفَتْح الْعين فِي الْمُضَارع - عزازة أَيْضا إِذا اشْتَدَّ وَقَوي، وَمِنْه (فعززنا بثالث)

(1/281)


أَي قوينا وشددنا، وَجمع الحَدِيث عزاز ككرم وكرام قَالَ الشَّاعِر:
(بيض الْوُجُوه البة ومعاقل ... فِي كل نائبة عزاز الْأَنْفس)
وَلَيْسَ اشْتِرَاط الْعدَد بِأَن لَا يرويهِ اقل من اثْنَيْنِ شرطا لصحيح أَي للْحَدِيث الصَّحِيح خلافًا لمن زَعمه وَهُوَ أَبُو عَليّ الجبائي بِالضَّمِّ وَالتَّشْدِيد نِسْبَة إِلَى جبى الْقصر وَالتَّشْدِيد قَرْيَة بِالْبَصْرَةِ من الْمُعْتَزلَة أهل الْأُصُول حَيْثُ قَالَ: لَا يقبل خبر الْوَاحِد الْعدْل إِلَّا إِن انْضَمَّ إِلَيْهِ آخر، وعضده مُوَافقَة الْكتاب، أَو ظَاهر خبر آخر، وانتشر بَين الصَّحَابَة، أَو عمل بِهِ بَعضهم، بل نقل عَنهُ (أَنه) اشْترط أَرْبَعَة.

(1/282)


وَنقل النَّوَوِيّ عَن بعض الْقَدَرِيَّة أَنه اشْترط أَرْبَعَة أَيْضا، قَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: وَلَا عِبْرَة بِخِلَاف أبي على الجبائي وَلَا بِبَعْض الْقَدَرِيَّة فِي ذَلِك. وَإِلَيْهِ يؤمي كَلَام الْحَاكِم أبي عبد الله من أكَابِر الْمُحدثين فِي كِتَابه الْمُسَمّى " بالمدخل " - وَقَوله أَبُو عبد الله احْتَرز بِهِ عَن الْحَاكِم أبي أَحْمد - فِي كِتَابه الَّذِي أَلفه فِي عُلُوم الحَدِيث حَيْثُ قَالَ: الصَّحِيح أَن يرويهِ الصَّحَابِيّ الزائل / عَنهُ اسْم الْجَهَالَة، بِأَن يكون لَهُ راويان ثمَّ يتداوله أهل الحَدِيث إِلَى وقتنا كَالشَّهَادَةِ على الشَّهَادَة. وَوَافَقَهُ

(1/283)


على ذَلِك من الْمُحدثين - أَيْضا - ابْن الْأَثِير فِي مُقَدّمَة " جَامع الْأُصُول "، وَوَافَقَهُمَا على ذَلِك من الْفُقَهَاء إِبْرَاهِيم ابْن علية، وَجزم بذلك الْبَيْضَاوِيّ فَقَالَ: إِن روايه - أَي الحَدِيث - إِن كَانَ مثنى أَو أَكثر كَمَا فِي الْأَحَادِيث الَّتِي رَوَاهَا الإمامان البُخَارِيّ وَمُسلم يُسمى صحاحاً.
والميانجي - من الْمُحدثين - وَزَاد: إِن شَرط الشَّيْخَيْنِ أَن يرويهِ عَن الْمُصْطَفى اثْنَان فَأكْثر، وَيَرْوِيه عَن كل مِنْهُمَا أَرْبَعَة، وَيَرْوِيه عَن كل مِنْهُم أَكثر من أَرْبَعَة.
ورده الْمُؤلف بِأَنَّهُ لَو قيل: أَنه لَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيث وَاحِد بِهَذِهِ الصّفة لم يبعد.

(1/284)


قَالَ شَيخنَا الغيطي: والإيماء فِي كَلَام الْحَاكِم من قَوْله: كَالشَّهَادَةِ على الشَّهَادَة. فَإِنَّهُ اقْتضى أَن يكون الحَدِيث رَوَاهُ اثْنَان عَن اثْنَيْنِ من الصَّحَابِيّ الَّذِي زَالَ عَنهُ اسْم الْجَهَالَة إِلَيْنَا، لكنه لم يشْتَرط أَن يرويهِ اثْنَان عَن النَّبِي كَمَا اشْتَرَطَهُ غَيره. انْتهى.
وَبِذَلِك علم أَن اشْتِرَاط الْعدَد لَيْسَ خَاصّا بِبَعْض الْمُعْتَزلَة، بل عَلَيْهِ جمَاعَة من الْمُحدثين وَغَيرهمَا، فَقَوْل الْمُؤلف فِي " نكته عَن ابْن الصّلاح " أَنه خَاص بِبَعْض الْمُعْتَزلَة غير صَحِيح.
وَصرح أَبُو بكر ابْن الْعَرَبِيّ الْمَالِكِي فِي شرح البُخَارِيّ بِأَن ذَلِك شَرط البُخَارِيّ / حَيْثُ قَالَ: مَذْهَب البُخَارِيّ أَن الصَّحِيح لَا يثبت حَتَّى يرويهِ اثْنَان عَن اثْنَيْنِ، وَهُوَ بَاطِل.
وتقدمه إِلَى القَوْل بذلك بعض الْمُحدثين حَكَاهُ الْجُوَيْنِيّ عَنْهُم

(1/285)


وَأجَاب أَي ابْن الْعَرَبِيّ عَمَّا أورد عَلَيْهِ من ذَلِك من أَن حَدِيث " إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ " الَّذِي هُوَ أول حَدِيث فِي البُخَارِيّ انْفَرد بِهِ عمر بِجَوَاب فِيهِ نظر ثمَّ بَين وَجه النّظر بقوله لِأَنَّهُ قَالَ: فَإِن قيل حَدِيث الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ فَرد بِأَنَّهُ لم يروه عَن عمر بن الْخطاب إِلَّا عَلْقَمَة بن وَقاص قُلْنَا: قد خطب بِهِ عمر على الْمِنْبَر بِحَضْرَة الصَّحَابَة فلولا أَنهم يعرفونه لأنكروه عَلَيْهِ. قَالَ: فَالْبُخَارِي وَإِن كَانَ بنى كِتَابه على حَدِيث يرويهِ اكثر من وَاحِد، فَهَذَا الحَدِيث لَا يرد عَلَيْهِ، فَإِن عمر لما قَالَه بِمحضر الصَّحَابَة وأقروه صَار كالمجمع عَلَيْهِ، فعمر ذكرهم لَا أخْبرهُم.
وَتعقب يعْنى تعقبه ابْن رشيد فِي " ترجمان التراجم " بِأَنَّهُ لَا يلْزم من كَونهم سكتوا عَنهُ أَن يَكُونُوا سَمِعُوهُ من غَيره. قَالَ الشَّيْخ قَاسم:

(1/286)


حَاصِل السُّؤَال أَنه لم يروه عَن عمر إِلَّا وَاحِد، وَحَاصِل الْجَواب أَنه رَوَاهُ عمر وَغَيره، فَلَا يمس هَذَا الْجَواب السُّؤَال بِوَجْه من الْوُجُوه.
وَإِن هَذَا لَو سلم فِي عمر أَي فِي انْفِرَاده بِهِ وَحده منع فِي تفرد عَلْقَمَة عَنهُ بِهِ ثمَّ تفرد مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة، ثمَّ تفرد يحيى بن سعيد بِهِ / عَن مُحَمَّد عَن عَلْقَمَة وَعنهُ تعدّدت رُوَاته.
وَتعقبه الشَّيْخ قَاسم: بِأَن ظَاهر التعقب أَنه على اشْتِرَاط التَّعَدُّد فِي الصَّحَابِيّ وَمن بعده، وَظَاهر كَلَام ابْن الْعَرَبِيّ وَالْحَاكِم أَنه لَا يشْتَرط التَّعَدُّد فِي الصَّحَابِيّ بل فِيمَن بعده على مَا هُوَ الصَّحِيح الْمَعْرُوف عِنْد الْمُحدثين، وَقد وَردت لَهُ

(1/287)


متابعات كَغَيْرِهِ لَا عِبْرَة بهَا لِضعْفِهَا وَقد أَفَادَ المُصَنّف فِي تَقْرِير هَذَا حِين قرئَ عَلَيْهِ الشَّرْح: إِن هَذَا إِشَارَة إِلَى أَن المتابعات الَّتِي وَردت لهَذَا الحَدِيث لَا تخرجه عَن كَونه فَردا لِضعْفِهَا فَلَا يعْتد بهَا.
وَكَذَا لَا نسلم جَوَابه فِي غير حَدِيث عمر كالوارد من غير طَرِيق أبي سعيد عِنْد الْبَزَّار قَالَ ابْن رشيد بِالتَّصْغِيرِ فِي كِتَابه " ترجمان التراجم " بَعْدَمَا تعجب من ابْن الْعَرَبِيّ وَاشْتَدَّ إِنْكَاره عَلَيْهِ وَلَقَد كَانَ يَكْفِي القَاضِي ابْن الْعَرَبِيّ فِي بطلَان مَا ادّعى أَنه شَرط البُخَارِيّ أول حَدِيث مَذْكُور فِيهِ وَهُوَ حَدِيث " الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ " فَإِنَّهُ مَرْوِيّ آحاداً. قَالَ: وَكَيف يَدعِي عَلَيْهِ ذَلِك ثمَّ يزْعم أَنه بَاطِل؟ وَمن أعلمهُ بِأَنَّهُ شَرطه؟ إِن كَانَ مَنْقُولًا فليبينه؟ أَو عرفه بالاستقراء فقد وهم، وَأَخْطَأ.
وَقَوله ذكرهم لَا أخْبرهُم من قبيل الرَّجْم بِالْغَيْبِ، لاحْتِمَال كَون السُّكُوت لقبُول الْخَبَر لَا لمعْرِفَة مَا أخبر بِهِ.

(1/288)


وَقد استبان بذلك أَن أول حَدِيث فِي البُخَارِيّ مَرْوِيّ بالآحاد، وَكَذَا آخر حَدِيث / فِيهِ، فَإِن أَبَا هُرَيْرَة تفرد بِهِ عَن الْمُصْطَفى، وَتفرد بِهِ عَنهُ أَبُو زرْعَة وَتفرد بِهِ عَنهُ عمَارَة بن الْقَعْقَاع، وَتفرد بِهِ عَنهُ مُحَمَّد بن فُضَيْل وَعنهُ انْتَشَر.
وَادّعى ابْن حبَان نقيض دَعْوَاهُ أَي القَاضِي ابْن الْعَرَبِيّ فَقَالَ: إِن رِوَايَة اثْنَيْنِ عَن اثْنَيْنِ إِلَى أَن يَنْتَهِي الْإِسْنَاد لَا يُوجد أصلا فِي شَيْء من الْجَوَامِع، وَلَا المسانيد وَغَيرهَا. وَكَاد الْمُؤلف أَن يُوَافقهُ على ذَلِك حَيْثُ

(1/289)


قَالَ: قلت: إِن أَرَادَ أَن رِوَايَة اثْنَيْنِ فَقَط عَن اثْنَيْنِ فَقَط لَا يُوجد أصلا فَيمكن أَن يسلم لَهُ ذَلِك فَإِنَّهُ قريب.
وَأما صُورَة الْعَزِيز الَّتِي حررناها فِيمَا تقدم فموجودة بِكَثْرَة، وَذَلِكَ بِأَن لَا يرويهِ أقل من اثْنَيْنِ عَن أقل من اثْنَيْنِ يَعْنِي على مَا حَرَّره هُوَ، فَإِنَّهُ مَوْجُود بِكَثْرَة مِثَاله: مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث أنس بن مَالك وَالْبُخَارِيّ فَقَط من حَدِيث أبي هُرَيْرَة الدوسي أَن رَسُول الله قَالَ: " لَا يُؤمن أحدكُم " وَفِي رِوَايَة: " وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَا يُؤمن أحدكُم حَتَّى أكون أحب إِلَيْهِ من وَالِده وَولده ". الحَدِيث أَي إِلَى تَمام الحَدِيث، وَهُوَ قَوْله: " وَالنَّاس أَجْمَعِينَ ".
رَوَاهُ بِهَذَا اللَّفْظ عَن أنس قَتَادَة بن دعامة الْأنْصَارِيّ وَعبد الْعَزِيز بن

(1/290)


صُهَيْب بِالتَّصْغِيرِ وَرَوَاهُ عَن قَتَادَة شُعْبَة كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَسَعِيد بن أبي عرُوبَة وَرَوَاهُ عَن عبد الْعَزِيز / الْمَذْكُور إِسْمَاعِيل ابْن علية بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح اللَّام وَشدَّة الْمُثَنَّاة التَّحْتِيَّة كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَعبد الْوَارِث بن سعيد كَمَا فِي مُسلم وَرَوَاهُ عَن كل مِمَّن ذكر جمَاعَة هَذَا مَا ذكره الْمُؤلف.
وَتعقبه السخاوي بِأَن مَا ذكره من رِوَايَة سعيد لم يقف عَلَيْهِ بعد التتبع والكشف.
وَاعْترض شَيخنَا النَّجْم الغيطي صَنِيع الْمُؤلف هَذَا بِأَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَن يَأْتِي بروايتين عَن الراويين عَنْهُمَا وَهَكَذَا، فاقتصاره على هَذَا الْوَجْه غير جيد.

(1/291)


الْغَرِيب

الرَّابِع: الْغَرِيب كَانَ اللايق أَن يقدم الْغَرِيب على الْعَزِيز، والعزيز على الْمَشْهُور، لِأَن الْغَرِيب من الْعَزِيز بِمَنْزِلَة الْبَسِيط من الْمركب، كَمَا أَن الْعَزِيز كَذَلِك، ذكره بعض شُيُوخنَا.
وَهُوَ هُنَا، أَي فِي اصْطِلَاح أهل هَذَا الْفَنّ مَا أَي حَدِيث ينْفَرد بروايته أَي بِرِوَايَة زِيَادَة فِي مَتنه أَو إِسْنَاده شخص وَاحِد فِي أَي طبقَة عَن جَمِيع رُوَاته الثِّقَات وَغَيرهم، فَلم يرو ذَلِك غَيره فِي أَي مَوضِع وَقع التفرد بِهِ فِي السَّنَد أَي سَوَاء وَقع التفرد فِي جَمِيع طباقه بِأَن انْفَرد بِهِ الصَّحَابِيّ، ثمَّ التَّابِعِيّ ثمَّ تَابع التَّابِعِيّ وهلم جرا. أَو فِي بَعْضهَا، قَالَ بَعضهم: وَلَو قَالَ فِي مَوضِع مَا من إِسْنَاده كَانَ أولى على مَا سيقسم إِلَيْهِ: الْغَرِيب الْمُطلق، والغريب النسبي. وَالْقسم مُطلق الْغَرِيب، وكل من الْقسمَيْنِ لَهُ أَمْثِلَة كَثِيرَة سَيَجِيءُ بَعْضهَا وَلَا يدْخل / فِيهِ إِفْرَاد الْبلدَانِ المضافة إِلَيْهَا إِلَّا أَن يُرَاد بقوله تفرد بِهِ أهل الْبَصْرَة مثلا أَو أحد من أَهلهَا.

(1/292)


وَكلهَا - أَي الْأَقْسَام الْأَرْبَعَة الْمَذْكُورَة - سوى الأول وَهُوَ الْمُتَوَاتر أَن يُسمى خبر آحَاد، وَيُقَال أَيْضا لكل مِنْهُمَا خبر وَاحِد بِالْإِضَافَة، سَوَاء كَانَ مَشْهُورا، أَو عَزِيزًا أَو غَرِيبا، أَو يمْتَنع تواطؤ رُوَاته على الْكَذِب فِي بعض طباقه دون كلهَا، أَو خبر عَمَّا لَيْسَ بمحسوس.
وَخبر الْوَاحِد فِي اللُّغَة: مَا يرويهِ شخص وَاحِد وَفِي الِاصْطِلَاح أَي فِي اصْطِلَاح الْمُحدثين مَا لم يجمع شُرُوط التَّوَاتُر. هَذَا تَقْرِير عبارَة المُصَنّف، وَتعقبه الشَّيْخ قَاسم: بِأَن الَّذِي تحصل من كَلَامه أَن الْخَبَر يَنْقَسِم إِلَى متواتر وآحاد، وَأَن الْآحَاد: مَشْهُور، وعزيز، وغريب، وَأَن الْمَشْهُور مَا رُوِيَ مَعَ حصر عدد بِمَا فَوق الِاثْنَيْنِ، وَأَن الْغَرِيب هُوَ الَّذِي ينْفَرد بِهِ شخص وَاحِد فِي أَي مَوضِع وَقع التفرد بِهِ.

(1/293)


وَقد تقدم أَن خلاف الْمُتَوَاتر يرد بِلَا حصر عدد فَهُوَ خَارج عَن الْأَقْسَام، غير مَعْرُوف الِاسْم.
وفيهَا أَي الْآحَاد: المقبول وَهُوَ مَا يجب الْعَمَل بِهِ عِنْد الْجُمْهُور وَإِن لم يجب الْعَمَل بِهِ عِنْد الْبَعْض كالمعتزلة وَغَيرهم مِمَّن لَا يرى الْعَمَل بِخَبَر على مَا يَأْتِي تَفْصِيله.
وفيهَا الْمَرْدُود وَهُوَ الَّذِي لم يرجح صدق الْمخبر بِهِ كَذَا ذكره المُصَنّف، وَاعْترض بِأَن تَعْرِيفه المقبول بِأَنَّهُ مَا يجب الْعَمَل بِهِ غير مُسْتَقِيم، لِأَن وجوب الْعَمَل / بِهِ حكمه لَا حَده، وَالصَّوَاب أَن يَقُول: المقبول هُوَ مَا يرجح صدق الْمخبر بِهِ كَمَا ذكره البقاعي.
وَذكر الشَّيْخ قَاسم نَحوه فَقَالَ: قَوْله المقبول يجب الْعَمَل

(1/294)


بِهِ هَذَا حكم المقبول، وَهُوَ أَثَره الْمُرَتّب عَلَيْهِ، فَلَا يَصح تَعْرِيفه بِهِ، وَقد ادعوا الدّور فِي دون هَذَا، فَكَانَ الصَّوَاب أَن يُقَال: إِن الْمَرْدُود حَيْثُ كَانَ هُوَ الَّذِي لم يرجح صدق الْمخبر بِهِ، والمقبول هُوَ الَّذِي يرجح صدق الْمخبر.
قَالَ: وَقَوله فِي الْمَرْدُود: هُوَ الَّذِي لم يرجح صدق الْخَبَر بِهِ يَشْمَل المستور والمختلف فِيهِ بِلَا تَرْجِيح، فَلْيحْفَظ هَذَا فَرُبمَا يَأْتِي مَا يُخَالف. انْتهى.
وَقَالَ شَيخنَا النَّجْم الغيطي: يَأْتِي فِي كَلَام الْمُؤلف تَقْسِيم المقبول إِلَى مَعْمُول بِهِ كالمنسوخ فَإِنَّهُ يُسمى مَقْبُولًا، وَكَذَا الحديثان الصحيحان المتعارضان حَيْثُ لَا تَرْجِيح، لَا يُقَال: مَا ذكر من المتعارضين غير مُسلم لِأَنَّهُمَا غير مقبولين لأَنا نقُول: قَوْله فِي الْمُتَوَاتر وَكله مَقْبُول، يُوضح ذَلِك لِأَنَّهُ قد يكون مَنْسُوخا، لَكِن الْكَلَام حَيْثُ لم يُمكن أمرا آخر يُوجب عدم الْقبُول فَلَا إِيرَاد.
وَإِنَّمَا كَانَت الْآحَاد كَذَلِك لتوقف الِاسْتِدْلَال بهَا على الْبَحْث عَن

(1/295)


أَحْوَال الرِّجَال ورواتها جرحا وتعديلاً فَكل راو ثَبت اتصافه بِصِفَات الْقبُول فخبره مَقْبُول، وَإِن جَازَ كَونه فِي نفس الْأَمر كَاذِبًا أَو غالطاً، وكل من لم يثبت اتصافه بذلك فخبره مَرْدُود، وَإِن جَازَ كَونه فِي نفس الْأَمر صَادِقا.
دون الأول - وَهُوَ الْمُتَوَاتر - فَإِنَّهُ لَا يتَوَقَّف على ذَلِك / فكله مَقْبُول لإفادته الْقطع بِصدق مخبره كَمَا تقدم بِخِلَاف غَيره من (أَخْبَار) الْآحَاد، لَكِن إِنَّمَا وَجب الْعَمَل بالمقبول مِنْهَا لِأَنَّهَا إِمَّا أَن يُوجد فِيهَا أصل صفة الْقبُول وَهُوَ ثُبُوت صدق النَّاقِل. أورد عَلَيْهِ إِنَّه قد يقبل الْآحَاد من لم يعلم صدق النَّاقِل للاعتضاد.
وأصل صفة الرَّد - وَهُوَ - ثُبُوت كذب النَّاقِل أَولا، فَالْأول:

(1/296)


يغلب على الظَّن صدق الْخَبَر لثُبُوت صدق ناقله فَيُؤْخَذ بِهِ، وَالثَّانِي: يغلب على الظَّن كذب الْخَبَر لثُبُوت كذب ناقله فيطرح، وَالثَّالِث: إِن وجدت فِيهِ قرينَة تلْحقهُ بِأحد الْقسمَيْنِ الْتحق بِهِ، وَجرى عَلَيْهِ حكمه وَإِلَّا فَيتَوَقَّف فِيهِ إِلَى تَبْيِين الْحَال بالبحث والاستقراء وَإِذا توقف عَن الْعَمَل بِهِ وَهُوَ مَا توقف فِيهِ صَار كالمردود لَا لثُبُوت صفة الرَّد بل لكَونه لم يُوجد فِيهِ صفة توجب الْقبُول.
اعْتَرَضَهُ تِلْمِيذه الشَّيْخ قَاسم من وَجْهَيْن: -
1 - الأول: إِن قَوْله: إِنَّمَا وَجب الْعَمَل بالمقبول مِنْهَا ... إِلَى آخِره.
ظَاهر السُّوق أَن قَوْله: لِأَنَّهَا دَلِيل لوُجُوب الْعَمَل بالمقبول. وَلَيْسَ كَذَلِك، إِنَّمَا هُوَ دَلِيل انقسامها إِلَى المقبول والمردود. قَالَ: وَلَو كَانَ لي من الْأَمر

(1/297)


شَيْء لَقلت بعد قَوْله الأول فَإِن وجد فيهم مَا يغلب ظن صدقهم فَالْأول، وَإِلَّا فَإِن ترجح عدم الصدْق فَالثَّانِي، وَإِن تساوى الطرفان فالثالث.
2 - وَالْوَجْه الثَّانِي: قَوْله إِذْ أصل صفة الرَّد - وَهُوَ - ثُبُوت كذب النَّاقِل. يُخَالف مَا قدمه فِي تَفْسِير الْمَرْدُود فَهُوَ تنَاقض /. انْتهى.
وَاعْلَم أَن الغرائب وَإِن انقسمت إِلَى الصِّحَّة وَالْحسن والضعيف لَكِن الْغَالِب عَلَيْهَا عدم الصَّحِيح، فَلَا يعْمل بأكثرها إِلَّا فِي الْفَضَائِل، وَلِهَذَا كره جمع من الْأَئِمَّة تتبع الغرائب فَقَالَ أَحْمد: لَا تكتبوها فَإِنَّهَا مَنَاكِير، وعامتها فِي الضَّعِيف.
وَسُئِلَ عَن حَدِيث ابْن جريج عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس أَتردينَ

(1/298)


عَلَيْهِ حديقته؟ فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ مُرْسل. فَقيل: إِن ابْن أبي شيبَة زعم أَنه غَرِيب. قَالَ: صدق إِذا كَانَ خطأ فَهُوَ غَرِيب.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة: من طلبَهَا كذب.
وَقَالَ مَالك: شَرّ الْعلم الْغَرِيب وخيره الظَّاهِر الَّذِي رَوَاهُ النَّاس. وَقَالَ عبد الرَّزَّاق: كُنَّا نرى أَن الْغَرِيب خير فَإِذا هُوَ شَرّ. تَنْبِيه: مَا تقرر من أَن وجوب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد مر مجمله

(1/299)


وتفصيله، إِنَّمَا يقبل من خبر الْوَاحِد يجب الْعَمَل بِهِ فِي الْفَتْوَى وَالشَّهَادَة إِجْمَاعًا، وَأما بَقِيَّة الْأُمُور الدِّينِيَّة فَذهب قوم إِلَى وجوب الْعَمَل - أَيْضا - فِيهَا كَأَن يخبر بتنجيس المَاء، وَالْمَاء وبدخول وَقت الصَّلَاة، وَنَحْو ذَلِك.
ووجوبه سمعا، وَقيل: عقلا وَإِن دلّ عَلَيْهِ السّمع - أَيْضا - لِأَنَّهُ لَو لم يجب الْعَمَل بِهِ تعطلت وقائع الْأَحْكَام المروية بالآحاد وَهِي كَثِيرَة جدا، وعزى هَذَا إِلَى الإِمَام أَحْمد والقفال وَابْن سُرَيج وَبَعض الْمُعْتَزلَة.
وَقَالَت الظَّاهِرِيَّة: لَا يجب الْعَمَل بِهِ فِي الْحُدُود لِأَنَّهَا تدرأ بِالشُّبْهَةِ.
وَقَالَ بَعضهم: لَا يجب الْعَمَل بِهِ فِي ابْتَدَأَ النصب. وَقَالَ قوم: لَا يجب الْعَمَل بِهِ فِيمَا عمل فِيهِ الْأَكْثَر بِخِلَافِهِ. وَقَالَ الْمَالِكِيَّة: لَا يجب الْعَمَل بِهِ /

(1/300)


فِيمَا عمل أهل الْمَدِينَة فِيهِ بِخِلَافِهِ. وَقَالَ الْحَنَفِيَّة: لَا يجب الْعَمَل بِهِ فِيمَا تعم بِهِ الْبلوى، وَلَا فِيمَا خَالفه رَاوِيه، وَلَا فِيمَا إِذا كَانَ مُعَارضا للْقِيَاس وَلم يكن رَاوِيه فَقِيها.
وَالْحق وجوب الْعَمَل بِهِ مُطلقًا، لِأَن الْمُصْطَفى كَانَ يبْعَث الْآحَاد إِلَى الْآفَاق لتبليغ الْأَحْكَام، فلولا لُزُوم الْعَمَل بخبرهم لَهُ لم يكن لبعثهم فَائِدَة.
لَا يُقَال: الْوَارِد ببعثه الْآحَاد حاد، فإثبات حجَّته خبر الْوَاحِد بهَا مصادرة على الْمَطْلُوب، فَلَا يثبت بحجته.
لأَنا نقُول: التفاصيل الْوَارِدَة ببعثهم - وَإِن كَانَت أَخْبَار - آحَاد - فجملتها تفِيد التَّوَاتُر الْمَعْنَوِيّ، كالأخبار الدَّالَّة على وجود حَاتِم

(1/301)


وشجاعة عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - وَقد يَقع فِيهَا يَعْنِي وَكَثِيرًا مَا يَقع أَي فِي أَخْبَار الْآحَاد المنقسمة إِلَى: مَشْهُور، وعزيز، وغريب، مَا يُفِيد الْعلم لَا مُطلقًا، لاحْتِمَال الْخَطَأ فِيهِ عَادَة، فَإِن رَاوِيه من لم يبلغ عَادَة وُقُوع الْكَذِب مِنْهُ، والتواطىء عَلَيْهِ من مثله فِي جَمِيع الطَّبَقَات لَا يُفِيد (الْعلم) الْقطعِي بل النظري بالقرائن المحتفة بِهِ على الْمُخْتَار الَّذِي ذهب إِلَيْهِ الإمامان والغزالى، والآمدي، وَابْن الْحَاجِب، والبيضاوي حَيْثُ قَالُوا: خبر الْوَاحِد لَا يُفِيد الْعلم إِلَّا بِقَرِينَة، كَأَن يخبر إِنْسَان بِمَوْت وَلَده الْمَرِيض مَعَ قرينَة الْبكاء، وإحضار الْكَفَن والنعش.
خلافًا لمن أَبى ذَلِك وهم الْجُمْهُور، فَقَالُوا: لَا تفيده مُطلقًا، قَالَ التَّاج السُّبْكِيّ فِي " شرح الْمُخْتَصر ": وَهُوَ الْحق.
وَتَبعهُ الشَّيْخ قَاسم فَقَالَ عِنْد (قَول) المُصَنّف: على الْمُخْتَار: الْمُخْتَار

(1/302)


خلاف هَذَا / الْمُخْتَار.
قَالُوا: وَمَا ذكره مَعَ الْقَرِينَة يُوجد مَعَ الْإِغْمَاء. وَاعْترض بِأَن هَذَا قدح فِي الْمِثَال الجزئي، وَلَا يلْزم الْقدح فِي الْمُدعى الْكُلِّي وَدفع بِمَا هُوَ مَبْسُوط فِي المطولات، وَقَالَ الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل: يفِيدهُ مُطلقًا.
وَأطَال التَّاج السُّبْكِيّ فِي رده لِأَنَّهُ - لَا يجب الْعَمَل بِهِ - كَمَا مر - وَإِنَّمَا يجب الْعَمَل بِمَا يُفِيد الْعلم.
وَقَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَق الإسفرائني وَابْن فورك: يُفِيد المستفيض دون غَيره.
وجري عَلَيْهِ من الشَّافِعِيَّة ابْن سُرَيج، والعناني والشرف الْمَنَاوِيّ.

(1/303)


وَالْخلاف فِي التَّحْقِيق لَفْظِي، لِأَن من جوز إِطْلَاق الْعلم قَيده بِكَوْنِهِ نظرياً وَهُوَ الْحَاصِل عَن الِاسْتِدْلَال، وَمن أبي الْإِطْلَاق قَالَ بَعضهم: لَيْسَ المُرَاد بِالْإِطْلَاقِ هُنَا أَن لَا يُقيد، بل المُرَاد من جَوَاز التَّسْمِيَة خص لفظ الْعلم بالمتواتر، وَمَا عداهُ عِنْده ظَنِّي، لكنه لَا يَنْفِي أَن مَا احتف بالقرائن أرجح مِمَّا خلا عَنْهَا كَذَا ادَّعَاهُ المُصَنّف، ورده ابْن أبي شرِيف والشرف الْمَنَاوِيّ بِأَن القَوْل بِأَن مَا حَفَّتْهُ الْقَرَائِن أرجح لَيْسَ قولا بِأَنَّهُ يُفِيد الْعلم، فَلم يفد هَذَا الِاسْتِدْلَال كَون الْخلاف لفظياً بل هُوَ معنوي، نعم إِن أَرَادَ من أَن الْإِطْلَاق بِالْعلمِ الْعلم الَّذِي يفِيدهُ التَّوَاتُر - وَهُوَ الضَّرُورِيّ - كَانَ الْخلاف لفظياً. انْتهى.

(1/304)


وتلميذه الشَّيْخ قَاسم الْحَنَفِيّ فَقَالَ عِنْد قَوْله: الْخلاف فِي التَّحْقِيق لَفْظِي. التَّحْقِيق خلاف هَذَا التَّحْقِيق - كَمَا يَأْتِي.
قَالَ: وَقَوله: لكنه لَا يَنْفِي أَن مَا احتف بالقرائن أرجح. يَقُول: نعم هُوَ أرجح وَمَعَ / كَونه هُوَ أرجح لَا يُفِيد الْعلم، فَالْحَاصِل عِنْد من يَقُول: أَن الْآحَاد لَا تفِيد الْعلم أَن الدَّلِيل الظني على طَبَقَات، وَلَيْسَ مِنْهَا مَا يُفِيد الْعلم.
والمناوي فَقَالَ: مَا ذكره الْمُؤلف فِيهِ نظر، لِأَن الْخلاف فِي إِفَادَة الْعلم فِي الرجحان فِيهِ.
وَالْخَبَر المحتف بالقرائن أَنْوَاع: مِنْهَا مَا أخرجه الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِمَّا لم يبلغ التَّوَاتُر فَيُفِيد الْعلم النظري عِنْد ابْن الصّلاح وَجَمَاعَة فَإِنَّهُ احتفت بِهِ قَرَائِن مِنْهَا جلالتهما فِي هَذَا الشَّأْن ورسوخ قدمهما فِيهِ.

(1/305)


وتقدمهما فِي الْمعرفَة بِهَذِهِ الصِّنَاعَة لَا سِيمَا فِي تَمْيِيز الصَّحِيح من الضَّعِيف على غَيرهمَا وجودة الْوَضع، وبلوغهما أَعلَى الْمَرَاتِب، وَالِاجْتِهَاد فِي الْإِمَامَة فِي هَذَا الْعلم وتلقي الْعلمَاء لكتابيهما بِالْقبُولِ وَإِجْمَاع الْأمة المعصومة فِي إجماعها عَن الْخَطَأ على ذَلِك.
وَهَذَا التلقي وَحده أقوى فِي إِفَادَة الْعلم من مُجَرّد كَثْرَة الطّرق القاصرة عَن التَّوَاتُر، إِلَّا أَن هَذَا يخْتَص بِمَا (لم) ينتقده أحد من الْحفاظ مِمَّا فِي الْكِتَابَيْنِ.
قَالَ الشَّيْخ قَاسم: هَذَا فِيهِ إِشَارَة إِلَى أَن الْعلمَاء لم يتلقوا كل مَا فِي الْكِتَابَيْنِ بِالْقبُولِ وَبِمَا لم يَقع التجاذب بَين مدلوليه مِمَّا وَقع فِي الْكِتَابَيْنِ حَيْثُ لَا تَرْجِيح. قَالَ الشَّيْخ قَاسم: لقَائِل أَن يَقُول: لَا حَاجَة إِلَى هَذَا لِأَن الْكَلَام فِي إِفَادَة الْعلم بِثُبُوت الْخَبَر لَا فِي إِفَادَة الْعلم بمضمونه. لِاسْتِحَالَة ان يُفِيد المتناقصان الْعلم بصدقهما من غير تَرْجِيح لأَحَدهمَا على الآخر، وَمَا عدا ذَلِك فالإجماع حَاصِل / على تَسْلِيم

(1/306)


صِحَّته قَالَ بَعضهم: كَانَ الصَّوَاب أَن يَقُول لَا على الْعلم بِهِ، وَالْإِجْمَاع من مجتهدي الْأمة على أَنه صَحِيح، وَإِن قَالُوا ذَلِك عَن ظن فَإِنَّهُ - لعصمتهم عَن الْخَطَأ - لَا يخطيء.
قَالَ بَعضهم: لَا يخفى أَنَّهُمَا إِذا كَانَ فِي أَحدهمَا تَرْجِيح لَا يفيدان الْعلم بصدقهما.
فَإِن قيل: إِنَّمَا اتَّفقُوا على وجوب الْعَمَل بِهِ لَا على صِحَّته منعناه، وَسَنَد الْمَنْع أَنهم متفقون على وجوب الْعَمَل بِكُل مَا صَحَّ وَلَو لم يُخرجهُ الشَّيْخَانِ، فَلم يبْق لِلصَّحِيحَيْنِ (فِي هَذَا) مزية، وَالْإِجْمَاع قَائِم (حَاصِل) على أَن لَهما مزية فِيمَا يرجع إِلَى نفس الصِّحَّة.
لَكِن لحديثه احْتِمَال كَونه المزية أَن أحاديثهما أصح الصَّحِيح كَذَا قَالَ بَعضهم.

(1/307)


وَقَالَ الشَّيْخ قَاسم: حَاصِل السُّؤَال أَنهم اتَّفقُوا على وجوب الْعَمَل - وَهُوَ لَا يسْتَلْزم صِحَة الْجَمِيع - بِالْمَعْنَى المصطلح عَلَيْهِ، لِأَن الْعَمَل يجب بالْحسنِ كَمَا يجب بِالصَّحِيحِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يلْزم أَن يكون الِاتِّفَاق على الصِّحَّة.
قَالَ: وَقَوله منعناه أَي منعنَا قَوْله لَا على صِحَّته، وَحَاصِل الْجَواب أَن لِلشَّيْخَيْنِ مزية فِيمَا خرجاه، وَمَا حسن أَو صَحَّ وَجب الْعَمَل بِهِ وَإِن لم يكن من مرويهما فَيلْزم أَن مَا أَخْرجَاهُ أَعلَى الْحسن وَأَعْلَى الصَّحِيح، فَيلْزم من الِاتِّفَاق على وجوب الْعَمَل بِمَا فيهمَا مَعَ مزيتهما الِاتِّفَاق على صِحَّته، هَذَا نِهَايَة الْمُمكن فِي تَقْرِير هَذَا الْمحل، وَأما الْعبارَة فَإنَّك إِذا نظرت إِلَيْهَا تجدها تنبو عَن ملائمة الطَّبْع السَّلِيم. انْتهى /
وَبَقِي أَن يُقَال: سلمنَا حُصُول الْإِجْمَاع على أَن لَهما مزية فِيمَا يرجع

(1/308)


إِلَى نفس الصِّحَّة، لَكِن هَل المُرَاد أَن الْإِجْمَاع حصل على أَن شُرُوط الصِّحَّة مجتمعة فِي رُوَاة أحاديثهما غير المنتقدة؟ فَإِن لَهَا مزية وَهِي كَون الْإِجْمَاع حصل بذلك بِخِلَاف غَيرهَا، إِذْ لَيْسَ مجمعا عَلَيْهِ، بل لم يتَكَلَّم على صِحَّته وَعدمهَا إِلَّا بعض الْعلمَاء.
أم المُرَاد بالمزية أَنه قطع لصِحَّة الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة؟ الَّذِي أَخْرجَاهُ مَحل تردد كَذَا قَالَه الْمُؤلف وَقَضيته كَلَامهم تَرْجِيح الثَّانِي، وَهَذَا كُله جَار على مَا صَححهُ ابْن الصّلاح فِي طَائِفَة من الْمُحدثين، والأصوليين، وَالْفُقَهَاء من الْقطع بِصِحَّة كل مَا ذكرَاهُ مُجْتَمعين، ومنفردين، بإسنادهما الْمُتَّصِل، دون المنتقد وَهُوَ نَحْو مِائَتي حَدِيث، والتعاليق، وَمَا وَقع التجاذب بَين مدلوليه وَلَا مُرَجّح - كَمَا مر -.
قَالَ البُلْقِينِيّ: قد تقدم ابْن الصّلاح إِلَى القَوْل بذلك: أَبُو حَامِد،

(1/309)


وَأَبُو الطّيب، وَأَبُو إِسْحَق الشِّيرَازِيّ من الشَّافِعِيَّة، والسرخسي من الْحَنَفِيَّة، وَالْقَاضِي عبد الْوَهَّاب من الْمَالِكِيَّة، وَأَبُو يعلى، وَأَبُو الْخطاب من الْحَنَابِلَة.
وَمِمَّنْ صرح بإفادة مَا أخرجه الشَّيْخَانِ الْعلم النظري الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق الإسفرايني بِالْكَسْرِ وَسُكُون الْمُهْملَة، وَفتح الْفَاء وَالرَّاء، وَكسر التَّحْتِيَّة نِسْبَة إِلَى إسفراين بليدَة بنواحي نيسابور وَهُوَ بِلَا همز وَمن أَئِمَّة الحَدِيث: أَبُو عبد الله الْحميدِي نِسْبَة بِالتَّصْغِيرِ إِلَى جده حميد وَأَبُو

(1/310)


الْفضل / (مُحَمَّد) بن طَاهِر الْمَقْدِسِي وَغَيرهمَا أَي من أَئِمَّة الحَدِيث، وَلِهَذَا أعَاد الضَّمِير على الْمُحدثين.
وَعبارَة الْأُسْتَاذ الإسفرايني: أهل الصَّنْعَة مجمعون على الْأَخْبَار الَّتِي اشْتَمَل عَلَيْهَا الصحيحان، مَقْطُوع بِصِحَّة أُصُولهَا ومتونها، وَلَا يحصل الْخلاف فِيهَا بِحَال، فَمن خَالف خَبرا مِنْهَا بِلَا تَأْوِيل نقض حكمه، لِأَن هَذِه الْأَخْبَار تلقتها الْأمة بِالْقبُولِ.
قَالَ ابْن قطلوبغا: وَحجَّة ابْن الصّلاح - وَمن وَافقه - إِن الْأمة تلقت ذَلِك بِالْقبُولِ، وَمَا تَلَقَّتْهُ بِالْقبُولِ مَقْطُوع بِصِحَّتِهِ، وَهَذِه الصِّحَّة غير مسلمة لصِحَّة تلقيهم بِالْقبُولِ مَا غلب على ظنهم صِحَّته. قَوْله:

(1/311)


إِن التلقي بِالْقبُولِ مُوجب للْعَمَل بِهِ، ووجوبه يَكْفِي فِيهِ الظَّن، لِأَن ظنهم لَا يخطي لعصمتهم لَا يفِيدهُ فِي مَطْلُوبه، لِأَن مُتَعَلق ظنهم الحكم الشَّرْعِيّ لِأَنَّهُ هُوَ مَحل وجوب الْعَمَل لَا أَن مُتَعَلق ظنهم أَن الْمُصْطَفى قَالَ لَهُ كَذَا، وَهَذَا الثَّانِي هُوَ مَطْلُوبه وَمَا ذكره لَا يفِيدهُ فِي مَطْلُوبه إِلَّا أَن يَدعِي إِجْمَاع الْأمة على الصِّحَّة نَفسهَا، وأنى لَهُ ذَلِك بِهِ. وَلذَلِك لما نظر فِي الْمقنع إِلَى ذَلِك قَالَ فِيهِ نظر، لِأَن الْإِجْمَاع إِن وصل إِلَيْنَا بأخبار الْآحَاد كَانَ ظنياً، وَلِهَذَا استدرك النَّوَوِيّ على ابْن الصّلاح، قَالَ: قد خَالف الْمُحَقِّقُونَ وَالْجُمْهُور لِأَنَّهُ لَا يُفِيد فِي أَصله قبل التلقي / إِلَّا الظَّن، وَهُوَ لَا يَنْقَلِب بتلقيهم قطعا، وَقد عَابَ ابْن عبد السَّلَام على ابْن

(1/312)


الصّلاح - وَمن قَالَ بمقالته - فَقَالَ: إِن الْمُعْتَزلَة يرَوْنَ إِن الْأمة إِذا عملت بِحَدِيث اقْتضى الْقطع بمضمونه، وَهُوَ مَذْهَب ردي. وَأَيْضًا إِن أَرَادَ كل الْأمة فَلَا يخفى فَسَاده، إِذْ الْأمة الَّذين وجدوا بعد وضع الْكِتَابَيْنِ فهم بَعْضهَا لَا كلهَا، وَإِن أَرَادَ كل حَدِيث مِنْهَا يلقى بِالْقبُولِ (فِي كَافَّة النَّاس فَغير مُسلم، ثمَّ أَنا نقُول التلقي بِالْقبُولِ) لَيْسَ بِحجَّة، فَإِن النَّاس اخْتلفُوا أَن الْأمة إِذا عملت بِحَدِيث وَأَجْمعُوا على الْعَمَل بِهِ هَل يُفِيد الْقطع؟ أَو الظَّن؟ وَمذهب أهل السّنة أَنه يُفِيد الظَّن مَا لم تتواتر. انْتهى.
قَالَ قَاسم: وَإِذا تَأَمَّلت هَذَا وجدته عقدا تناثرت درره.

(1/313)


وَمِنْهَا أَي مَا احتف بالقرائن الْمَشْهُور إِذا كَانَت لَهُ طرق متباينة اعْترض بَعضهم هَذَا التَّعْبِير: بِأَنَّهَا لَا يكون إِلَّا متباينة، وَقد تزيد الطّرق على ثَلَاثَة وَيحصل فِي بَعْضهَا عدم التباين لَكِن الزِّيَادَة غير شَرط فِي الْمَشْهُور سَالِمَة من ضعف الروَاة والعلل لِأَنَّهُ يُفِيد الْعلم النظري وَمِمَّنْ صرح بإفادته الْعلم الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور الْبَغْدَادِيّ، وَأَبُو بكر بن فورك (وَغَيرهمَا) بِضَم الْفَاء مَمْنُوع من الصّرْف، فَإِنَّهُم يدْخلُونَ الْكَاف عوض يَاء التصغير، وَمثله ابْن زيرك كَذَا نَقله (الشَّيْخ) قَاسم عَن الْمُؤلف / ثمَّ رده بِأَن هَذَا لَيْسَ عِلّة منع عَن الصّرْف كَمَا عرف فِي الْعَرَبيَّة. اه وَجعله الْأُسْتَاذ وَابْن فورك وَاسِطَة بَين الْمُتَوَاتر الْمُفِيد للْعلم الضَّرُورِيّ والآحاد الْمُفِيد للظن.
وَمِنْهَا المسلسل بالأئمة الْحفاظ المتقنين حَيْثُ لَا يكون غَرِيبا

(1/314)


كالحديث الَّذِي يرويهِ أَحْمد بن حَنْبَل - مثلا ويشاركه فِيهِ غَيره عَن الشَّافِعِي، ويشاركه فِيهِ (غَيره أَي غير ابْن حَنْبَل عَن الشَّافِعِي ويشاركه أَي الشَّافِعِي فِيهِ) غَيره عَن مَالك بن أنس، فَإِنَّهُ يُفِيد الْعلم عِنْد سامعه بالاستدلال من جِهَة جلالة رُوَاته، وَأَن فيهم من الصِّفَات اللايقة الْمُوجبَة للقبول مَا يقوم مقَام الْعدَد الْكثير من غَيرهم، وَلَا يتشكك من لَهُ أدنى ممارسة بِالْعلمِ وأخبار النَّاس أَن مَالِكًا مثلا لَو شافهه بِخَبَر أَنه صَادِق فِيهِ، فَإِذا انضاف إِلَيْهِ من هُوَ فِي تِلْكَ الدرجَة ازْدَادَ قُوَّة، وَبعد مَا يخْشَى عَلَيْهِ من السَّهْو.
تعقب الشَّيْخ قَاسم قَوْله: إِنَّه صَادِق ... ... إِلَى آخِره. بِأَنَّهُ إِن أَرَادَ أَنه لم يتَعَمَّد الْكَذِب فَلَيْسَ مَحل النزاع، وَإِن أَرَادَ أَنه لَا يجوز عَلَيْهِ السَّهْو والغفلة والغلط فَمحل تَأمل. اه

(1/315)


وَانْظُر إِلَى قَول عَائِشَة فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس: إِن الْمَيِّت يعذب ببكاء أَهله عَلَيْهِ.
وَهَذِه الْأَنْوَاع الثَّلَاثَة الَّتِي ذَكرنَاهَا لَا يحصل الْعلم بِصدق الْخَبَر مِنْهَا إِلَّا للْعَالم بِالْحَدِيثِ، المتبحر فِيهِ، الْعَارِف بأحوال الروَاة، المطلع على الْعِلَل وَكَون / لَا يحصل لَهُ الْعلم بِصدق ذَلِك لقصوره عَن بُلُوغ الْأَوْصَاف الْمَذْكُورَة لَا يَنْفِي حُصُول الْعلم للمتبحر الْمَذْكُور.
كَذَا زَعمه الْمُؤلف، ورده ابْن قطلوبغا بِأَنَّهُ لَو سلم حُصُول مَا ذكر لم يكن مَحل النزاع، لِأَن الْكَلَام فِيمَا هُوَ سَبَب الْعلم لِلْخلقِ لَا لبَعض الْأَفْرَاد. انْتهى.

(1/316)


ومحصل الْأَنْوَاع الثَّلَاثَة الَّتِي ذَكرنَاهَا (وَهِي مَا خرجه الشَّيْخَانِ، وَالْمَشْهُور، والمسلسل) أَن الأول يخْتَص بالصحيحين، وَالثَّانِي بِمَا لَهُ طرق مُتعَدِّدَة، وَالثَّالِث بِمَا رَوَاهُ الْأَئِمَّة الْكِبَار كمالك، وَالشَّافِعِيّ، وَأحمد وَيُمكن اجْتِمَاع الثَّلَاثَة فِي حَدِيث وَاحِد، فَلَا يبعد حِينَئِذٍ الْقطع بصدقه. انْتهى.
قَالَ تِلْمِيذه الْكَمَال بن أبي شرِيف: وَقَوله: وَيُمكن اجْتِمَاع الثَّلَاثَة. هُوَ بِاعْتِبَار المسلسل بالأئمة الْحفاظ لَا بالذين مثل بهم، فَإِن الشَّافِعِي لَا رِوَايَة لَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ كَمَا هُوَ ظَاهر.
أَقسَام الغرابة

ثمَّ الغرابة عبر ثمَّ إِشَارَة إِلَى (تراخي) رُتْبَة الْغَرِيب كَمَا مر، وَهِي معِين فِي الْغَرِيب كالفاعلية (معِين فِي الْفَاعِل) والقادرية معِين فِي الْقَادِر.

(1/317)


إِمَّا أَن يكون فِي أصل السَّنَد - أَي فِي الْموضع الَّذِي يَدُور الْإِسْنَاد عَلَيْهِ وَيرجع وَلَو تعدّدت الطّرق إِلَيْهِ. قَالَ الْمُؤلف: أصل السَّنَد وأوله ومنشؤه وَآخره وَنَحْو ذَلِك يُطلق وَيُرَاد (بِهِ الطّرف الأول) من جِهَة الصَّحَابِيّ، وَيُطلق وَيُرَاد بِهِ الطّرف الآخر بِحَسب الْمقَام - أَي - وَالْمرَاد هُنَا الأول كَمَا صرح بِهِ فِي قَوْله وَهُوَ أَي هُنَا طرفه الَّذِي فِيهِ الصَّحَابِيّ قَالَ المُصَنّف /: أَي الَّذِي يروي عَن الصَّحَابِيّ وَهُوَ التَّابِعِيّ، وَإِنَّمَا لم يتَكَلَّم فِي الصَّحَابِيّ لِأَن الْمَقْصُود مَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ من الْقبُول وَالرَّدّ، وَالصَّحَابَة عدُول، وَهَذَا بِخِلَاف مَا تقدم فِي حد الْعَزِيز وَالْمَشْهُور حَيْثُ قَالُوا: إِن الْعَزِيز لَا بُد أَن لَا ينقص عَن اثْنَيْنِ من الأول إِلَى الآخر، فَإِن إِطْلَاقه يتَنَاوَل ذَلِك، وَوَجهه أَن الْكَلَام هُنَاكَ فِي وصف السَّنَد بذلك، وَهنا فِيمَا يتَعَلَّق بِالْقبُولِ وَالرَّدّ. انْتهى.
قَالَ الشَّيْخ قَاسم: وَفِيه مَا لَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي هَذَا الْمقَام.

(1/318)


أَو لَا يكون كَذَلِك، بِأَن يكون التفرد فِي أَثْنَائِهِ كَأَن يرويهِ عَن الصَّحَابِيّ أَكثر من وَاحِد ثمَّ يتفرد بروايته عَن وَاحِد مِنْهُم شخص وَاحِد. قَالَ الْمُؤلف: إِن روى ن الصَّحَابِيّ تَابع وَاحِد فَهُوَ الْفَرد الْمُطلق، سَوَاء اسْتمرّ التفرد أَو لَا، بِأَن رَوَاهُ عَنهُ جمَاعَة.
وَإِن روى عَن الصَّحَابِيّ أَكثر من وَاحِد ثمَّ تفرد عَن أحدهم وَاحِد فَهُوَ الْفَرد النسبي، وَيُسمى مَشْهُورا فالمدار على أَصله. انْتهى.
قَالَ ابْن قطلوبغا: وَيُسْتَفَاد مِنْهُ أَن قَوْله - كَمَا تقدم -: أَو مَعَ حصر عدد بِمَا فَوق الِاثْنَيْنِ لَيْسَ بِلَازِم فِي الصَّحَابِيّ.
فَالْأول هُوَ الْفَرد الْمُطلق أَي سمي بذلك كَحَدِيث النَّهْي عَن بيع الْوَلَاء وَعَن هِبته، تفرد بِهِ عبد الله

(1/319)


ابْن دِينَار عَن ابْن عمر بن الْخطاب. وَحَدِيث مَالك عَن الزُّهْرِيّ عَن أنس أَن / الْمُصْطَفى دخل مَكَّة وعَلى رَأسه المغفر تفرد بِهِ مَالك عَن الزُّهْرِيّ.
وَقد يتفرد بِهِ راو عَن ذَلِك الْمُنْفَرد كَحَدِيث الْبَيْهَقِيّ الَّذِي أوردهُ فِي كتاب " شعب الْإِيمَان " فَإِنَّهُ قد تفرد بِهِ أَبُو صَالح السمان عَن أبي هُرَيْرَة، وَتفرد بِهِ عبد الله بن دِينَار عَن أبي صَالح، وَقد يسْتَمر التفرد فِي جَمِيع رُوَاته أَو أَكْثَرهم. نَحْو مَا رَوَاهُ أَصْحَاب السّنَن

(1/320)


الْأَرْبَعَة من طَرِيق سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن وَائِل بن دَاوُد عَن ابْنه بكر ابْن وَائِل عَن الزُّهْرِيّ عَن أنس أَن الْمُصْطَفى أَو لم على صَفِيَّة بسويق. قَالَ ابْن طَاهِر: تفرد بِهِ وَائِل عَن ابْنه، وَلم يروه عَنهُ غير سُفْيَان.

(1/321)


وَفِي مُعْجم الْأَوْسَط للطبراني، ومسند الْبَزَّار أَمْثِلَة كَثِيرَة لذَلِك وَقد ألف فِيهِ الدَّارَقُطْنِيّ مؤلفاً حافلاً جدا.
وَالثَّانِي هُوَ الْفَرد النسبي، سمي نسبياً لكَون التفرد بِهِ حصل بِالنِّسْبَةِ إِلَى شخص معِين (أَو صفة مُعينَة، أَو إِلَى مَدِينَة أَو بلد، قَالَ بَعضهم: وَلَا يخفي مَا فِيهِ إِذْ الْفَرد الْمُطلق كَذَلِك) وَإِن كَانَ الحَدِيث فِي نَفسه مَشْهُورا.
مِثَاله فِي آخر الْإِسْنَاد بِالنِّسْبَةِ إِلَى شخص معِين حَدِيث: " أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يشْهدُوا أَن لَا إِلَه إِلَّا الله " رَوَاهُ مُسلم عَن أبي غَسَّان

(1/322)


عَن عبد الْملك بن الصَّباح عَن شُعْبَة عَن وَاقد بن مُحَمَّد بن زيد بن عبد الله بن عمر عَن أَبِيه عَن جده ابْن عمر.
تفرد بِهِ أَبُو غَسَّان عَن ابْن الصَّباح، وَلم ينْفَرد ابْن الصَّباح بل تَابعه ابْن عمَارَة عَن / شُعْبَة.

(1/323)


ومثاله فِي أثْنَاء الْإِسْنَاد بِالنِّسْبَةِ إِلَى صفة مُعينَة حَدِيث أَن الْمُصْطَفى - كَانَ يقْرَأ فِي الْأَضْحَى وَالْفطر بقاف واقتربت.
رَوَاهُ مُسلم عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك عَن ضَمرَة عَن عبيد الله ابْن عبد الله عَن أبي وَاقد اللَّيْثِيّ عَن النَّبِي.
انْفَرد بِهِ من الثِّقَات ضَمرَة وَهُوَ مدَار الحَدِيث. ومثاله بِالنِّسْبَةِ إِلَى بلد معِين أَن يتفرد بِهِ أهل بلد بِنَقْل حَدِيث لم يشاركهم فِيهِ

(1/324)


غَيرهم، كَقَوْلِهِم تفرد بِهِ أهل مَكَّة، أَو بَغْدَاد، أَو مصر، أَو الشَّام، أَو الْبَصْرَة، مَا رَوَاهُ الطَّيَالِسِيّ عَن همام عَن قَتَادَة عَن أبي نَضرة عَن أبي سعيد أمرنَا أَن نَقْرَأ بِفَاتِحَة الْكتاب وَمَا تيَسّر.
قَالَ الْحَاكِم: تفرد بِذكر الْأَمر فِيهِ أهل الْبَصْرَة من أول السَّنَد إِلَى آخِره.
وَمَا رَوَاهُ مُسلم من طَرِيق عبد الله بن زيد فِي صفة وضوء الْمُصْطَفى وَمسح رَأسه بِمَاء غير فضل يَده.

(1/325)


قَالَ الْحَاكِم: هَذِه سنة غَرِيبَة تفرد بهَا أهل مصر ... ...
ويقل إِطْلَاق الفردية عَلَيْهِ أَي الْفَرد النسبي، قَالَ بَعضهم: لَا يخفى مَا فِي هَذِه الْعبارَة، وَإِن (كَانَ آخرهَا رُبمَا) أوضح الْمَقْصُود لِأَن الْغَرِيب والفرد مُتَرَادِفَانِ لُغَة وَاصْطِلَاحا، إِلَّا أَن أهل الحَدِيث غايروا بَينهمَا من جِهَة كَثْرَة الِاسْتِعْمَال وقلته، فالفرد أَكثر مَا يطلقونه على الْفَرد الْمُطلق، والغريب أَكثر مَا يطلقونه على الْفَرد النسبي وَهَذَا من حَيْثُ إِطْلَاق الِاسْم عَلَيْهِمَا، أما من حَيْثُ استعمالهم الْفِعْل الْمُشْتَقّ فَلَا يفرقون بَينهمَا فَيَقُولُونَ / فِي الْمُطلق والنسبي جَمِيعًا تفرد بِهِ فلَان أَو أغرب فلَان.
كَذَا ادَّعَاهُ الْمُؤلف وَفِيه أَمْرَانِ: -
1 - الأول: قَالَ الْكَمَال بن أبي شرِيف: فِيمَا زَعمه من كَونهمَا مترادفين لُغَة نظر، أَي لِأَن الْفَرد فِي اللُّغَة الْوتر، وَهُوَ الْوَاحِد. والغريب

(1/326)


من بعد عَن وَطنه، وَأغْرب فلَان جَاءَ بِشَيْء غَرِيب أَو كَلَام غَرِيب بعيد عَن الْفَهم. هَذَا كَلَام أهل اللُّغَة، فَالْقَوْل بالترادف لُغَة بَاطِل.
وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخ قَاسم: الله أعلم بِمن حكى هَذَا الترادف، وَقد قَالَ ابْن فَارس فِي " الْمُجْمل ": عزب بعد، والغربة الاغتراب عَن الوطن. والفرد: الْوتر، والفرد الْمُنْفَرد هَذَا كَلَام أهل اللُّغَة، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي الترادف وَلَا يُوهِمهُ.
2 - الثَّانِي: هَذَا التَّعْلِيل - أَعنِي قَوْله: لِأَن الْغَرِيب ... إِلَى آخِره - فِي حيّز الرَّد، قَالَ البقاعي: لَيْت شعري هَذَا التَّعْلِيل لماذا؟ إِن كَانَ لعِلَّة إِطْلَاق الفردية لم يَصح، لِأَن الترادف إِن لم يقتض التَّسْوِيَة فِي الْإِطْلَاق لم يقتض تَرْجِيح أحد المترادفين فِيهِ، وَإِن كَانَ تعليلاً لإِطْلَاق الْفَرد الْمُطلق والفرد النسبي على الْغَرِيب لم يَصح أَيْضا، لِأَن الترادف

(1/327)


إِنَّمَا هُوَ بَين مُطلق الْغَرِيب وَمُطلق الْفَرد (لَا بَين الْفَرد) الْمُقَيد بِالْإِطْلَاقِ أَو بِالنِّسْبَةِ بَينه وَبَين الْغَرِيب، فأنعم النّظر فِيهِ. انْتهى.
وَقَالَ الْكَمَال بن أبي شرِيف: لما كَانَ الْغَرِيب والفرد مترادفين اصْطِلَاحا قصد أهل الِاصْطِلَاح الْإِشْعَار بِالْفرقِ بَين الْفَرد الْمُطلق والفرد النسبي، فغايروا بَينهمَا من جِهَة الِاسْتِعْمَال / فَكَانَ أَكثر استعمالهم الْفَرد فِي الْمُطلق، والغريب فِي النسبي، لذَلِك فَهَذَا معنى الْعبارَة - (وَإِن كَانَ فِي أَخذه مِنْهَا تَكْلِيف - وَإِنَّمَا قُلْنَا أَنه معنى الْعبارَة) لِأَنِّي سَمِعت الْمُؤلف يقرره هَكَذَا إِلَى هُنَا كَلَامه.
وَقَرِيب من هَذَا أَي التغاير بَين الْفَرد والغريب اخْتلَافهمْ فِي

(1/328)


الْمُنْقَطع والمرسل، هَل هما متغايران أَو لَا؟ فَأكْثر الْمُحدثين على التغاير لكنه عِنْد إِطْلَاق الِاسْم، وَأما عِنْد اسْتِعْمَال الْفِعْل الْمُشْتَقّ فيستعملون الْإِرْسَال فَقَط، فَيَقُولُونَ: أرْسلهُ فلَان أَي وَلَا يَقُولُونَ قطعه فلَان سَوَاء كَانَ مُرْسلا أم مُنْقَطِعًا، وَمن ثمَّ أَي وَمن جِهَة اسْتِعْمَال لفظ أرْسلهُ فِي الْمُرْسل والمنقطع أطلق غير وَاحِد مِمَّن لم يُلَاحظ مواقع استعمالهم على كثير من الْمُحدثين خرج بِهِ الأصوليون على مَا سَيَأْتِي تَقْرِيره أَنهم لَا يغايرون بَين الْمُرْسل والمنقطع وَلَيْسَ كَذَلِك لما حررناه، وَقل من تنبه على النُّكْتَة فِي ذَلِك.
قَالَ الْكَمَال بن أبي شرِيف: وَالسَّبَب فِي ذَلِك - أَي فِي استعمالهم الْإِرْسَال فَقَط حَتَّى فِي الْمُنْقَطع - أَنهم لَو قَالُوا قطعه فلَان لسبق

(1/329)


إِلَى الْوَهم أَنه مَقْطُوع، والمقطوع غير الْمُنْقَطع اصْطِلَاحا، إِذْ الْمَقْطُوع من أَوْصَاف الْمَتْن والمنقطع من أَوْصَاف السَّنَد، وَالْقطع لَازم لَا يُمكن إِسْنَاده إِلَى الرَّاوِي فألجأهم ذَلِك إِلَى التَّعْبِير بأرسله فافهمه فَإِنَّهُ دَقِيق.
قَالَ: وَقَول المُصَنّف: من الْمُحدثين. احْتَرز بِهِ عَن الْأُصُولِيِّينَ، فَإِنَّهُ لَا فرق عِنْدهم بَين الْمُرْسل والمنقطع أصلا.
تَنْبِيهَات
: -
1 - الأول: يَنْقَسِم / الْغَرِيب إِلَى صَحِيح كأفراد الصَّحِيح، وَغير صَحِيح وَهُوَ الْغَالِب، قَالَ الإِمَام أَحْمد: لَا تكْتبُوا هَذِه الْأَحَادِيث الغرائب (فَإِنَّهَا مَنَاكِير، وعامتها عَن الضُّعَفَاء. وَقَالَ مَالك: شَرّ الْعلم الْغَرِيب) وَخير الْعلم الظَّاهِر الَّذِي رَوَاهُ النَّاس. وَقَالَ عبد الرازق:

(1/330)


كُنَّا نرى أَن غَرِيب الحَدِيث خير فَإِذا هُوَ شَرّ. وَقَالَ ابْن الْمُبَارك: خير الْعلم الَّذِي يَأْتِيك من هَا هُنَا، وَهَا هُنَا يَعْنِي الْمَشْهُور.
رَوَاهَا الْبَيْهَقِيّ فِي " الْمدْخل ". وَقَالَ الزُّهْرِيّ: لَيْسَ الْعلم مَا لَا يعرف إِنَّمَا الْعلم مَا عرف. وروى ابْن عدي عَن أبي يُوسُف: من طلب الدّين بالْكلَام تزندق، وَمن طلب غَرِيب الحَدِيث كذب، وَمن طلب المَال بالكيميا أفلس.
2 - الثَّانِي: يَنْقَسِم الْغَرِيب - أَيْضا - إِلَى:
أ - غَرِيب متْنا وإسناداً كَأَن تفرد بمتنه وَاحِد.
ب - وَإِلَى غَرِيب إِسْنَادًا لَا متْنا كَحَدِيث روى مَتنه جمع من الصَّحَابَة انْفَرد وَاحِد بروايته عَن صَحَابِيّ آخر، وَفِيه يَقُول التِّرْمِذِيّ: غَرِيب من هَذَا الْوَجْه. وَمن أمثلته - كَمَا قَالَ ابْن سيد النَّاس -: مَا رَوَاهُ عبد الْمجِيد بن

(1/331)


عبد الْعَزِيز بن أبي رواد عَن مَالك عَن زيد بن أسلم عَن عَطاء عَن أبي سعيد عَن الْمُصْطَفى: " الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ ".
قَالَ الخليلي فِي " الْإِرْشَاد ": أَخطَأ فِيهِ عبد الْمجِيد، وَهُوَ غير مَحْفُوظ عَن زيد بن أسلم، فَهَذَا مِمَّا أَخطَأ فِيهِ الثِّقَة عَن الثِّقَة.
قَالَ ابْن سيد النَّاس: هَذَا إِسْنَاد غَرِيب كُله والمتن صَحِيح. انْتهى.

(1/332)


وَلَا يُوجد غَرِيب متْنا فَقَط لَا إِسْنَادًا إِلَّا إِذا اشْتهر الْفَرد فَرَوَاهُ عَن الْمُنْفَرد كَثِيرُونَ / صَار غَرِيبا مَشْهُورا غَرِيبا (متْنا) لَا إِسْنَادًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أحد طَرفَيْهِ وَهُوَ الْأَخير كَحَدِيث " إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ ".
3 - الثَّالِث: قد يكون الحَدِيث - أَيْضا - عَزِيزًا مَشْهُورا، وَقَالَ الْحَافِظ العلائى: حَدِيث " نَحن الْآخرُونَ السَّابِقُونَ يَوْم الْقِيَامَة " عَزِيز عَنهُ، رَوَاهُ عَنهُ حُذَيْفَة بن الْيَمَان وَأَبُو هُرَيْرَة، وَهُوَ مَشْهُور. وَعَن أبي هُرَيْرَة رَوَاهُ عَنهُ

(1/333)


سِتَّة: أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن وَأَبُو حَازِم، (طَاوُوس) ، والأعرج، وَهَمَّام، وَأَبُو صَالح.

(1/334)