اليواقيت والدرر في شرح نخبة ابن حجر معرفَة الضَّعِيف
وَلما فرغ من ذكر أحد قسمي الْإِسْنَاد وَهُوَ المقبول شرع فِي
بَيَان قسمه الآخر وَهُوَ الْمَرْدُود فَقَالَ:
ثمَّ الْمَرْدُود، وَمُوجب الرَّد لَو حذف مُوجب وَقَالَ
وَالرَّدّ لَكَانَ أحسن، لأجل قَوْله السقط. ذكره بعض
الْمُتَأَخِّرين.
إِمَّا أَن يكون لسقط من إِسْنَاد الْمَتْن هُوَ قَوْله ثمَّ
الْمَرْدُود وَإِمَّا أَن يكون ... ... ... إِلَى آخِره،
وَقَوله مُوجب الرَّد شرح كَذَا فعل الْمُؤلف، قَالَ الشَّيْخ
قَاسم: وَالشَّرْح غير معنى الأَصْل.
وَقَالَ الْكَمَال ابْن أبي شرِيف: اللايق بالدمج أَن يُقَال:
ثمَّ الْمَرْدُود إِمَّا أَن يكون رده لسقط من إِسْنَاد - أَي
حذف لبَعض رجال الْإِسْنَاد.
(1/482)
أَو طعن فِي راو على اخْتِلَاف وُجُوه
الطعْن وَذَلِكَ أَعم أَن يكون الْأَمر يرجع إِلَى ديانَة
الرَّاوِي وَإِلَى ضَبطه وإتقانه.
وَكَانَ الأولى للمؤلف أَن يذكر مَرَاتِب الْمَرْدُود كَمَا
فعل فِي المقبول.
وَقد ذكره ابْن الْجَوْزِيّ فَقَالَ: أَعلَى مَرَاتِب
الضَّعِيف من لم يجمع على ضعفه، بِأَن حكم بَعضهم على متن /
أَو إِسْنَاد بِأَنَّهُ ضَعِيف، وَحكم بَعضهم بتقويته، بل
هَذَا قد ألحقهُ بَعضهم بقسم المقبول.
وَالْحَاصِل أَن الضَّعِيف يتَفَاوَت رُتْبَة بِحَسب بعده من
شُرُوط الصِّحَّة كَمَا يتَفَاوَت دَرَجَات الصَّحِيح بتمكنه
فِيهَا، وَقد قسمهَا ابْن حبَان
(1/483)
إِلَى نَحْو خمسين قسما شملها الضَّابِط
الْمَذْكُور.
فالسقط إِمَّا أَن يكون من مبادئ السَّنَد أَي من طرفه الَّذِي
فِيهِ الصَّحَابِيّ. قَالَ بعض مَشَايِخنَا: فِيهِ نظر، إِن
يصدق بِمَا إِذا سقط مِنْهُ الرَّاوِي الثَّانِي إِذْ هُوَ من
المبادئ فَلَو غير بدله بِأول كَانَ أولى.
من تصرف مُصَنف فِي الْإِسْنَاد، قَالَ بعض مَشَايِخنَا:
التَّقْيِيد بِهِ إِنَّمَا هُوَ بِالنّظرِ إِلَى الْغَالِب لَا
لإِخْرَاج المذاكرة.
(1/484)
أَو من آخِره - أَي الْإِسْنَاد - وَبعد
التَّابِعِيّ أَو غير ذَلِك من وُجُوه السقط المبينة فِي
المطولات بأمثلتها.
فَالْأول هُوَ الْمُعَلق أَي يُسمى بذلك، مَأْخُوذ من تَعْلِيق
الْجِدَار لقطع الِاتِّصَال سَوَاء فِي تَسْمِيَته بذلك كَانَ
السَّاقِط وَاحِدًا أَو أَكثر من وَاحِد، وَلم يستعملوه فِيمَا
سقط وسط إِسْنَاده.
وَبَينه وَبَين المعضل الْآتِي ذكره عُمُوم وخصوص من وَجه،
فَمن حَيْثُ تَعْرِيفه المعضل بِأَنَّهُ الَّذِي سقط مِنْهُ
اثْنَان فَصَاعِدا يجْتَمع مَعَ بعض صور الْمُعَلق، وَمن
حَيْثُ تَقْيِيد الْمُعَلق بِأَنَّهُ من تصرف مُصَنف من مبادئ
السَّنَد يفْتَرق مِنْهُ، إِذْ هُوَ أَعم من ذَلِك. /
أَي فيوجد فِي أثْنَاء السَّنَد، وَآخره، ووسطه، لَكِن قَول
الْمَتْن أَو غير ذَلِك اعْتَرَضَهُ بعض تلامذة المُصَنّف:
بِأَنَّهُ لَا يصدق على السقط من الْوسط، لِأَن
(1/485)
ذَلِك إِشَارَة إِلَى الأول وَالْآخر
وَغَيرهمَا هُوَ الْوسط.
وَاعْتَرضهُ - أَيْضا - البقاعي: بِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا
يُجَامع الْمُعَلق بل هُوَ معضل فَقَط، وينفرد الْمُعَلق
بِأَنَّهُ يكون تَارَة بِسُقُوط وَاحِد من مبادئ السَّنَد
فَلَا يجامعه المعضل لشرط أَن يكون بِاثْنَيْنِ فصاعاً.
انْتهى.
وَابْن قطلوبغا فَقَالَ: لَا يَقع الِافْتِرَاق بِهَذَا،
وَإِنَّمَا يَقع من حَيْثُ صدق الْمُعَلق بِحَذْف وَاحِد كَمَا
فِي الصُّورَة الَّتِي اخْتلف فِيهَا وَنَحْوهَا. انْتهى.
وَتعقبه غَيرهمَا: بِأَن هَذَا إِنَّمَا يَأْتِي على مَا
يَقْتَضِيهِ كَلَام غير الْمُؤلف من أهل الِاصْطِلَاح: من أَن
المعضل مَا سقط مِنْهُ اثْنَان فَأكْثر على التوالي من أَي
مَوضِع كَانَ. قَالَ الْعِرَاقِيّ: سَوَاء سقط الصَّحَابِيّ
والتابعي، أَو التَّابِعِيّ وَتَابعه، أَو اثْنَان قبلهمَا.
وَأما على مَا يَقْتَضِيهِ كَلَام النخبة هُنَا فَلَيْسَ
بَينهمَا إِلَّا التباين فَإِن كلا من الْأَنْوَاع الثَّلَاثَة
خص فِيهَا بخصوصية
(1/486)
مَتى وجدت فِي غَيره زَالَ الِاخْتِصَاص.
فَخص الْمُعَلق بِأول السَّنَد وَمن تصرف مُصَنف، والمرسل
بِآخِرهِ، والمعضل بِغَيْر ذَلِك، وَلَيْسَ غَيره إِلَّا
الاثناء فَمَتَى جَامع المعضل الْمُعَلق / انْفَكَّ اخْتِصَاصه
بالاثناء، وَقد خص بِهِ هَذَا خلف.
ثمَّ إِن هَذَا على ظَاهر الْعبارَة وَهُوَ أَن يعْطف على
مبادئ فَيكون التَّقْدِير: إِمَّا أَن يكون سقط من أول
السَّنَد أَو آخِره أَو من غير ذَلِك، وَيُمكن أَن يعْطف على
أَن يكون فَيكون التَّقْدِير السقط إِمَّا أَن يكون خَاصّا
بِالْأولِ أَو الآخر أَو يغاير ذَلِك بِأَن لَا يكون خَاصّا
بِوَاحِد مِنْهُمَا وَحِينَئِذٍ (فيتمشى) الْعُمُوم
وَالْخُصُوص بَين الْمُعَلق والمعضل، وَالْمُعَلّق والمنقطع.
قَالَ الْعِرَاقِيّ: وَاخْتلف فِي صُورَة الْمُنْقَطع
فَالْمَشْهُور أَنه مَا سقط من رُوَاته راو وَاحِد.
(1/487)
فَلَو قَالَ المُصَنّف: فالسقط إِنَّمَا
أَن يخْتَص بِأول السَّنَد وَتصرف مُصَنف، أَو آخِره بعد
التَّابِعِيّ أَولا. لم يرد عَلَيْهِ شئ من ذَلِك. انْتهى.
وَمن صور الْمُعَلق قَالَ ابْن الصّلاح أَن يحذف كل رجال
السَّنَد، وَيُقَال - مثلا: قَالَ رَسُول الله، وَمِنْهَا أَن
يحذف إِلَّا الصَّحَابِيّ، أَو إِلَّا التَّابِعِيّ والصحابي
(مَعًا) .
قَالَ الْمُؤلف: أَكثر مَا فِي البُخَارِيّ من الْمُعَلق
مَوْصُول فِي مَوضِع آخر مِنْهُ.
وَمِنْهَا: أَن يحذف من حَدثهُ ويضيف إِلَى من فَوْقه فَإِن
كَانَ من فَوْقه شَيخا لذَلِك المُصَنّف فقد اخْتلف فِي هَذَا
أَي فِي
(1/488)
مَحل الْخلاف هَل يُسمى تَعْلِيقا؟ أَو
لَا؟ وَالصَّحِيح فِي هَذَا التَّفْصِيل فَإِن عرف بِالنَّصِّ.
أَي نَص إِمَام من أَئِمَّة الحَدِيث / ذكره الشَّيْخ قَاسم.
أَو الاستقراء التَّام من أحد من أهل الْفَنّ أَن فَاعل ذَلِك
مُدَلّس قضي بِهِ. أَي بالتدليس، وَهَذَا تَقْيِيد لما أطلقهُ
فِي الْمَتْن وَإِلَّا أَي بِأَن لم يعرف ذَلِك فتعليق أَي
فَيحكم بِأَنَّهُ تَعْلِيق أَي يعْطى لَهُ حكم الْمُعَلق.
وَإِنَّمَا ذكر التَّعْلِيق فِي قسم الْمَرْدُود للْجَهْل
بِحَال الْمَحْذُوف فَيحْتَمل كَونه مجروحاً فَلَا يحكم
بقبوله، قَالَ بَعضهم: وَلَا خُصُوصِيَّة لَهُ بذلك، بل
الْمُنْقَطع والمعضل كَذَلِك.
وَقد يحكم بِصِحَّتِهِ إِن عرف، بِأَن يَجِيء السَّاقِط
مُسَمّى من وَجه (آخر) فِي (طَرِيق) أُخْرَى.
فَإِن قَالَ (المُصَنّف والراوي) جَمِيع من أحذفه ثِقَات
جَاءَت مَسْأَلَة التَّعْدِيل على الْإِبْهَام. أَي جَاءَ
هُنَا مَا حُكيَ فِيهَا من
(1/489)
الْخلاف وَالْجُمْهُور أَنه لَا يقبل
حَتَّى يُسمى لاحْتِمَال أَن يكون ثِقَة عِنْده غير ثِقَة
عِنْد غَيره، فَإِذا ذكره يعلم حَاله. ذكره الْمُؤلف. ورده
ابْن قطلوبغا: بِأَنَّهُ تَقْدِيم للجرح المتوهم على
التَّعْدِيل الصَّرِيح.
لَكِن قَالَ ابْن الصّلاح (هُنَا) فِي مُخْتَصره وَتَبعهُ
النَّوَوِيّ وَغَيره إِن وَقع الْحَذف فِي كتاب التزمت صِحَّته
أَي الْتزم مُؤَلفه أَن يُورد فِيهِ إِلَّا الصَّحِيح كالبخاري
فِي صَحِيحه، فَخرج بذلك غَيره من كتبه كالأدب الْمُفْرد
وتواريخه الثَّلَاثَة فَمَا أَتَى فِيهِ من المعلقات
بِالْجَزْمِ أَي بِصِيغَة جزم كقال فلَان، وروى فلَان دلّ على
أَنه ثَبت إِسْنَاده عِنْده بطرِيق صَحِيح لِأَنَّهُ لَا
يستجيز / أَن يجْزم بذلك إِلَّا وَقد صَحَّ عِنْده. وَإِنَّمَا
حذف لغَرَض من الْأَغْرَاض كَأَن يكون الرَّاوِي لَيْسَ على
شَرطه وَإِن كَانَ مَقْبُولًا وَمَا أَتَى فِيهِ بِغَيْر جزم
بل بِصِيغَة تمريض كيروى وَيذكر وَذكر وَنَحْو ذَلِك فَفِيهِ
مقَال،
(1/490)
وَقد أوضحت أمثلته فِي النكت على مُخْتَصر
ابْن الصّلاح.
وَحَاصِله (كَمَا قَالَ الْعِرَاقِيّ) : إِن أَكثر مَا فِي
البُخَارِيّ من الْمُعَلق مَوْصُول فِي مَوضِع آخر مِنْهُ،
وَإِنَّمَا أوردهُ مُعَلّقا اختصاراً، ومجانبة للتكرار.
وَالَّذِي لم يوصله فِي مَحل آخر مائَة وَسِتُّونَ حَدِيثا
(قَالَ: وَقد أوصلتها) فِي " كتاب التَّوْفِيق ".
قَالَ ابْن كثير: لَكِن هَذَا وَإِن حكم بِصِحَّتِهِ لَيْسَ
هُوَ من نمط الصَّحِيح الْمسند فِيهِ، فَلَا يُقَال أَنه على
شَرطه بل أَنه يلْتَحق بِشَرْطِهِ. انْتهى.
(لَكِن أورد على مَا ذكره المُصَنّف: أَن البُخَارِيّ قَالَ
فِي كتاب التَّوْحِيد فِي بَاب وَكَانَ عَرْشه على المَاء:
وَقَالَ الْمَاجشون عَن عبد الله بن الْفضل عَن
(1/491)
أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة. ثمَّ ذكر
هُوَ بِنَفسِهِ حَدِيث الْمَاجشون فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء
عَن ابْن الْفضل عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة لَا ذكر
فِيهِ لأبي سَلمَة، وَكَذَا رَوَاهُ مُسلم وَالنَّسَائِيّ
حَتَّى قَالَ أَبُو مَسْعُود الدِّمَشْقِي - ذكر كَلَام
البُخَارِيّ - إِنَّمَا يعرف ذَلِك عَن الْمَاجشون عَن ابْن
الْفضل عَن الْأَعْرَج) .
هَذَا شيخ ذكره بِصِيغَة الْجَزْم وَهُوَ خطأ. وَقَالَ فِي
كتاب الصَّلَاة:
(1/492)
وَيذكر عَن أبي مُوسَى قَالَ: كُنَّا
نتناوب النَّبِي لصَلَاة الْعشَاء.
ثمَّ قَالَ فِي بَاب فضل الصَّلَاة حَدثنَا مُحَمَّد بن
الْعَلَاء حَدثنَا أَبُو أُسَامَة عَن بريد عَن أبي بريد عَن
أبي مُوسَى. وَقَالَ فِي كتاب الْأَشْخَاص: وَيذكر عَن
(1/493)
جَابر أَنه عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة
وَالسَّلَام رد على الْمُتَصَدّق صدقته. ثمَّ روى هُوَ
بِسَنَدِهِ عَن جَابر: دبر رجل عبدا لَيْسَ لَهُ مَال،
فَبَاعَهُ النَّبِي من نعيم بن النحام ... ... الحَدِيث.
(1/494)
وَقَالَ فِي كتاب الطِّبّ وَيذكر عَن ابْن
عَبَّاس عَن النَّبِي فِي الرقي / بِفَاتِحَة الْكتاب، وأسنده
مرّة هُوَ بِنَفسِهِ. وَيُقَال على التَّعْلِيل: أَنه يلْزم
مِنْهُ صِحَة الحَدِيث الْمُرْسل عِنْد من أرْسلهُ، فَإِن ابْن
الْمسيب لَا يستجيز أَن يجْزم بِأَن النَّبِي قَالَ كَذَا
إِلَّا وَقد صَحَّ عَنهُ، وَإِن تَصْحِيح سعيد مثلا أولى من
تَصْحِيح البُخَارِيّ بِأَنَّهُ عَارِف حَال من روى عَنهُ
بطرِيق الْخَبَر، وَالْبُخَارِيّ بطرِيق الْخَبَر، وَمَا كَانَ
عَن اجْتِهَاده فاجتهاد ابْن الْمسيب أولى بالاتباع من
اجْتِهَاد البُخَارِيّ، وَظن أَن البُخَارِيّ ينقر عَن
أَحْوَال الرِّجَال دون من تقدم حَيْثُ كَانُوا يَأْخُذُونَ
عَن كل ضرب ظن فَاسد، مُخَالف لصريح النَّقْل عَنهُ، روى
الْبَيْهَقِيّ فِي " الْمعرفَة " عَن الإِمَام الشَّافِعِي
قَالَ أخبرنَا سُفْيَان عَن يحيى بن سعيد قَالَ: سَأَلت ابْنا
لعبد الله بن عمر عَن مَسْأَلَة فَلم يقل فِيهَا شَيْئا فَقيل
لَهُ: إِنَّا نعظم أَن
(1/495)
يكون مثلك يسْأَل عَن أَمر لَيْسَ عِنْده
فِيهِ علم. فَقَالَ: أعظم وَالله من ذَلِك عِنْد الله، وَعند
من عرف الله، وَعند من عقل عَن الله أَن أَقُول مَا لَيْسَ لي
بِهِ علم، أَو أخبر عَن غير ثِقَة.
وَعَن طاؤوس: إِن كَانَ الَّذِي حَدثَك مَلِيًّا وَإِلَّا
فَدَعْهُ - يَعْنِي حَافِظًا ثِقَة -.
وَعَن عَطاء أَنه كَانَ يسْأَل عَن الشَّيْء فيرويه عَمَّن
كَانَ قبله، وَيَقُول سمعته وَمَا سمعته من ثَبت.
وَقَالَ الشَّافِعِي: كَانَ ابْن مَسْعُود وَالنَّخَعِيّ وَغير
وَاحِد من التَّابِعين يذهب هَذَا الْمَذْهَب فِي أَن لَا يقبل
/ إِلَّا مِمَّن عرف.
قَالَ: وَمَا لقِيت وَمَا علمت أحدا من أهل الْعلم
بِالْحَدِيثِ يُخَالف هَذَا الْمَذْهَب.
وروى ابْن أبي خَيْثَمَة فِي تَارِيخه: عَن مُوسَى بن
إِسْمَاعِيل حَدثنَا
(1/496)
حَمَّاد قَالَ: قَالَ ابْن زيد رُبمَا حدث
الْحسن الحَدِيث، فَأَقُول: يَا أَبَا سعيد مِمَّن سَمِعت
هَذَا؟ فَيَقُول: أَخَذته عَن ثِقَة ... ... .
فَتبين أَن الْمُرْسل إِنَّمَا يُرْسل مَا ثَبت عِنْده، كَمَا
أَن البُخَارِيّ إِنَّمَا يجْزم فِي تَعْلِيقه بِمَا ثَبت
عِنْده، وَأَن تَقْلِيد التَّابِعين العارفين بأحوال من أخذُوا
عَنهُ بالْخبر أولى.
(1/497)
الحَدِيث الْمُرْسل
وَالثَّانِي: وَهُوَ مَا سقط من آخِره من بعد التَّابِعِيّ أَي
الحَدِيث الَّذِي حذف مِنْهُ الصَّحَابِيّ وَرَفعه تَابِعِيّ
الصَّحَابِيّ إِلَى الْمُصْطَفى أَي نِسْبَة إِلَيْهِ.
هُوَ الْمُرْسل: أَي النَّوْع الْمُسَمّى بالمرسل، سمي بِهِ
لِأَنَّهُ التَّابِعِيّ أرْسلهُ وَلم يُقَيِّدهُ بِتَسْمِيَة
من أرْسلهُ عَنهُ.
وَصورته: أَن يَقُول التَّابِعِيّ سَوَاء كَانَ كَبِيرا وَهُوَ
من لَقِي جمعا من الصَّحَابَة كعبيد الله بن الْخِيَار -
بِكَسْر الْمُعْجَمَة مخففاً - أَو صَغِيرا وَهُوَ من لَقِي
وَاحِدًا مِنْهُم، أَو اثْنَيْنِ كيحيى بن سعيد.
(كَذَا قيل، قَالَ بعض مَشَايِخنَا: ضَابِط التَّابِعِيّ
الْكَبِير أَنه من أَكثر رواياته عَن الصَّحَابَة، وَالصَّغِير
من أَكثر رواياته عَن التَّابِعين. وَأما ضبط الصَّغِير
بِأَنَّهُ لم يلق إِلَّا الْوَاحِد والاثنين وَنَحْوهمَا من
الصَّحَابَة فَلَا يلايم تَعْلِيلهم) .
(1/498)
قَالَ رَسُول الله أَو فعل كَذَا أَو فعل
بِحَضْرَتِهِ كَذَا أَو نَحْو ذَلِك، وَإِنَّمَا ذكر فِي قسم
الْمَرْدُود للْجَهْل بِحَال الْمَحْذُوف لِأَنَّهُ يحْتَمل
أَن يكون صحابياً، وَأَن يكون تابعياً، وعَلى الثَّانِي
يحْتَمل أَن يكون ضَعِيفا (وَيحْتَمل) أَن يكون ثِقَة. وعَلى
الثَّانِي يحْتَمل أَن يكون حمل عَن صَحَابِيّ وَأَن يكون حمل
عَن تَابِعِيّ آخر، وعَلى الثَّانِي / فَيَعُود الِاحْتِمَال
السَّابِق، ويتعدد إِمَّا بالتجويز الْعقلِيّ فَإلَى مَا لَا
نِهَايَة لَهُ.
اعْتَرَضَهُ ابْن قطلوبغا: بِأَنَّهُ محَال عِنْد الْعقل أَن
يجوز أَن يكون بَين التَّابِعِيّ وَالنَّبِيّ من لَا يتناهى،
كَيفَ وَقد وَقع التناهي فِي الْوُجُود الْخَارِجِي بِذكر
النَّبِي.
والكمال بن أبي شرِيف: بِأَنَّهُ لَو قَالَ: فَإلَى مَا لَا
ضَابِط لَهُ، أَو
(1/499)
قَالَ: إِمَّا بالتجويز الْعقلِيّ فَلَا
ضَابِط لَهُ - لَكَانَ متجها - وَإِلَّا فعدد التَّابِعين
متناه.
وَإِمَّا بالاستقراء فَإلَى سته أنفس أَو سَبْعَة وَهُوَ أَكثر
مَا وجد من رِوَايَة بعض التَّابِعين عَن بعض.
قَالَ الْمُؤلف: أَو هُنَا للشَّكّ، لِأَن السَّنَد الَّذِي
ورد فِيهِ سَبْعَة أنفس اخْتلف فِي أحدهم هَل هُوَ صَحَابِيّ
أَو تَابِعِيّ؟ فَإِن ثبتَتْ صحبته كَانَ التابعون فِي
السَّنَد سِتَّة وَإِلَّا فسبعة. انْتهى.
كَذَا نَقله عَنهُ الْكَمَال ابْن أبي شرِيف - وَغَيره -
وَحَاصِل مَا ذكره الْمُؤلف أَن الْخَطِيب صنف فِي ذَلِك، فروى
عَن رجل من التَّابِعين بَينه وَبَين امْرَأَة أبي
(1/500)
أَيُّوب سِتَّة عَن أبي أَيُّوب. فَقَالَ
الْخَطِيب: إِن كَانَت امْرَأَة أبي أَيُّوب صحابية فهم
سِتَّة، وَإِلَّا فسبعة.
فَإِن عرف من عَادَة التَّابِعِيّ أَنه لَا يُرْسل إِلَّا عَن
ثِقَة فَذهب جُمْهُور الْمُحدثين إِلَى التَّوَقُّف لبَقَاء
الِاحْتِمَال.
لَو قَالَ: لوُجُود لَكَانَ أوضح.
وَهُوَ أحد قولي أَحْمد بن حَنْبَل، وَالْمَشْهُور عَنهُ
مُقَابلَة. وَثَانِيهمَا - وَهُوَ قَول المالكيين والكوفيين -
يَعْنِي الْحَنَفِيَّة / يقبل مُطلقًا وَعَلِيهِ الْآمِدِيّ.
(1/501)
قَالُوا: لِأَن الْعدْل لَا يسْقط
الْوَاسِطَة بَينه وَبَين النَّبِي إِلَّا وَهُوَ عدل عِنْده،
وَإِلَّا تلبيساً قادحاً فِيهِ.
قَالَ الشَّيْخ قَاسم: كَانَ الأولى ترك قَوْله مُطلقًا أَو
تَأَخّر قَول المالكيين والكوفيين عَن قَول الإِمَام
الشَّافِعِي لِئَلَّا يتَوَهَّم من الْإِطْلَاق أَنه سَوَاء
عرف من عَادَته (مَا ذكر) أَولا، فيخالف مَا عِنْد
الْكُوفِيّين والمالكيين.
قَالَ الإِمَام الشَّافِعِي: يقبل أَن اعتضد بمجيئه من وَجه
آخر تبَاين الطَّرِيق الأولى مُسْندًا كَانَ، أَو مُرْسلا،
ليرجح احْتِمَال كَون الْمَحْذُوف ثِقَة فِي نفس الْأَمر.
(1/502)
وَكَذَا لَو عضد مُرْسل كبار التَّابِعين
ضَعِيف صَالح للترجيح: لقَوْل صَحَابِيّ، أَو فعله، أَو أَكثر
الْعلمَاء، (أَو قِيَاس) ، أَو انتشار بِغَيْر نَكِير، أَو عمل
لَكِن يكون الْمَجْمُوع حجَّة وفَاقا للشَّافِعِيّ لَا مُجَرّد
الْمُرْسل وَلَا المنضم إِلَيْهِ لضعف كل مِنْهُمَا على
انْفِرَاده. وَلَا يلْزم من ذَلِك ضعف الْمَجْمُوع لِأَنَّهُ
يحصل من اجْتِمَاع الضعيفين قُوَّة مفيدة للظن، وَعَن
الشَّافِعِي: ضعيفان يغلبان قَوِيا.
وَأما مُرْسل صغَار التَّابِعين كالزهري وَنَحْوه فباق على
الرَّد مَعَ العاضد لشدَّة ضعفه.
وَضَابِط من التَّابِعِيّ الْكَبِير: أَنه من أَكثر رواياته
عَن الصَّحَابَة،
(1/503)
وَالصَّغِير: من أَكثر رواياته عَن
التَّابِعين، وَأما ضبط الصَّغِير بِأَنَّهُ لم يلق إِلَّا
الْوَاحِد والاثنين وَنَحْوهمَا من الصَّحَابَة فَلَا يلائم
تَعْلِيلهم.
وَلَو تجرد الْمُرْسل عَن العاضد وَلَا دَلِيل فِي الْبَاب
سواهُ وَكَانَ مَدْلُوله الْمَنْع من شَيْء / فَالْأَظْهر
الانكفاف عَن ذَلِك الشَّيْء لأَجله احْتِيَاطًا.
وَنقل أَبُو بكر الرَّازِيّ برَاء ثمَّ زَاي نِسْبَة إِلَى
الرّيّ مَدِينَة من بِلَاد الديلم، وَهُوَ من الْحَنَفِيَّة
وَأَبُو الْوَلِيد الْبَاجِيّ نِسْبَة إِلَى باجا - بجيم
خَفِيفَة - مَدِينَة بالأندلس (وَهُوَ من الْمَالِكِيَّة) أَن
الرَّاوِي إِذا كَانَ يُرْسل عَن الثِّقَات وَغَيرهم لَا يقبل
مرسله مُطلقًا اتِّفَاقًا.
(1/504)
وَذهب جمع مِنْهُم ابْن الْحَاجِب، وَصَاحب
البديع إِلَى أَنه إِن كَانَ الْمُرْسل من أَئِمَّة النَّقْل
كسعيد بن الْمسيب وَالشعْبِيّ قبل: لانْتِفَاء الْمَحْذُور
وَهُوَ حِينَئِذٍ مُسْند حكما.
أَو من غَيرهم فَلَا تعد بِظَنّ من لَيْسَ يعدل عدلا فيسقطه
بظنه، وَهُوَ على الِاحْتِجَاج بِهِ أَضْعَف من الْمسند خلافًا
لجمع.
تَنْبِيه:
1 - يرد على تَخْصِيصه - كَغَيْرِهِ - الْمُرْسل بالتابعي من
سمع من الْمُصْطَفى وَهُوَ كَافِر ثمَّ أسلم بعد مَوته، فَهُوَ
تَابِعِيّ اتِّفَاقًا، وَحَدِيثه غير مُرْسل بل هُوَ مَوْصُول
لَا خلاف فِي الِاحْتِجَاج
(1/505)
بِهِ كرسول هِرقل.
2 - وَمن رأى الْمُصْطَفى غير مُمَيّز كمحمد بن أبي بكر
(فَإِنَّهُ صَحَابِيّ) ، وَحكم رِوَايَته حكم الْمُرْسل لَا
الْمَوْصُول، وَلَا يَأْتِي فِيهِ مَا قيل فِي مَرَاسِيل
الصَّحَابَة، لِأَن أَكثر رِوَايَة هَذَا وَشبهه عَن
التَّابِعين بِخِلَاف الصَّحَابِيّ الَّذِي أدْرك وَسمع.
(1/506)
الحَدِيث المعضل والمنقطع
وَالْقسم الثَّالِث من أَقسَام الْقسْط من الْإِسْنَاد: إِن
كَانَ بِاثْنَيْنِ فَصَاعِدا أَي حذف من بَين طرفِي إِسْنَاده
راويان فَأكْثر مَعَ التوالي / فَهُوَ المعضل بِفَتْح الضَّاد
الْمُعْجَمَة. فَقَوله مَعَ التوالي يخرج (الْمُنْقَطع) من
موضِعين فَأكْثر.
وَإِلَّا بِأَن كَانَ السقط بِاثْنَيْنِ غير متواليين فِي
موضِعين فَهُوَ الْمُنْقَطع، سَوَاء كَانَ السَّاقِط محذوفا،
أَو مُبْهما كَرجل، وَكَذَا إِن سقط وَاحِد فَقَط، أَو أَكثر
من اثْنَيْنِ بِشَرْط عدم التوالي
لَو اقْتصر على التَّمْثِيل بِالسقطِ بِوَاحِد كَانَ أولى
لوُجُود التّكْرَار فِيمَا ذكره، إِذْ يصدق عَلَيْهِ أَنه سقط
وَاحِد فِي موضِعين أَو
(2/3)
مَوَاضِع. نبه عَلَيْهِ بعض
الْمُتَأَخِّرين.
قَالَ المُصَنّف: وَيُسمى مَا سقط مِنْهُ وَاحِد فِي مَوضِع،
وَمَا سقط مِنْهُ اثْنَان - بِالشّرطِ الْمَذْكُور - مُنْقَطع
فِي موضِعين، وَهَكَذَا إِن ثَلَاثَة فَفِي ثَلَاثَة، وان
أَرْبَعَة فَفِي أَرْبَعَة وَهَكَذَا.
وللمنقطع أَمْثِلَة مِنْهَا: مَالك عَن يحيى بن سعيد عَن
عَائِشَة، فَإِن يحيى بن سعيد لم يسمع من عَائِشَة وَإِنَّمَا
سمع مِمَّن سمع مِنْهَا.
وللمعضل أَمْثِلَة مِنْهَا: الإِمَام الشَّافِعِي عَن مَالك
عَن أبي هُرَيْرَة، بِإِسْقَاط أَبى الزِّنَاد والأعرج.
وَأعلم أَن التبريزى خص فِي " الْكَافِي ": الْمُنْقَطع
والمعضل
(2/4)
بِمَا بَين طرفِي الْإِسْنَاد وَلم
يَخُصهَا ابْن الصّلاح بِهِ. فَمَا حذف من أول إِسْنَاده
وَاحِد مُنْقَطع عِنْده، وَمَا حذف من أَوله اثْنَان متواليان
معضل عِنْده، وَكِلَاهُمَا عِنْد التبريزى مُعَلّق.
وَذكر الجوزقانى فِي مُقَدّمَة كِتَابه " الموضوعات ": أَن
المعضل أَسْوَأ حَالا من الْمُنْقَطع، والمنقطع أَسْوَأ حَالا
من الْمُرْسل، والمرسل لَا يقوم بِهِ حجَّة.
قَالَ بَعضهم: وَإِنَّمَا يكون المعضل أَسْوَأ حَالا إِذا
كَانَ انْقِطَاع فِي مَحل وَاحِد، فَإِن كَانَ فِي محلين
سَاوَى الْمُنْقَطع فِي سوء الْحَال.
وَذكر الرشيد الْعَطَّار: أَن فِي مُسلم بضعَة عشر حَدِيثا فِي
(2/5)
إسنادها انْقِطَاع. اه وَأجِيب عَنهُ بتبين
اتصالها إِمَّا من وَجه آخر عِنْده، وَإِمَّا من ذَلِك
الْوَجْه عِنْد غَيره.
وَمن مظان الْمُرْسل والمعضل والمنقطع: كتاب السّنَن لسَعِيد
بن مَنْصُور، ومؤلفات ابْن أَبى الدُّنْيَا.
ثمَّ إِن السقط من الْإِسْنَاد قد يكون وَاضحا يحصل
الِاشْتِرَاك فِي مَعْرفَته وَهُوَ الَّذِي يظْهر لكَون
الرَّاوِي - مثلا - لم يعاصر من روى
(2/6)
عَنهُ. بِأَن مولد الرَّاوِي مُتَأَخّر عَن
وَفَاة من روى عَنهُ، أَو تكون جهتهما مُخْتَلفَة كخراسان
وتلمسان وَلم ينْقل أَن إحدهما رَحل عَن جِهَته إِلَى جِهَة
الآخر.
أَو يكون خفِيا فَلَا يُدْرِكهُ إِلَى الْأَئِمَّة الحذاق
المطلعون على طرق الحَدِيث، وَعلل الْأَسَانِيد، فَالْأول -
وَهُوَ الْوَاضِح - يدْرك بِعَدَمِ التلاقي بَين الرَّاوِي
وَشَيْخه لكَونه لم يدْرك عصره، أَو أدْركهُ لَكِن لم يجتمعا
وَلَيْسَت مِنْهُ إجَازَة وَلَا وجادة فَهَذَا وَاضح لَا
يحْتَاج مَعَه إِلَى شَيْء آخر.
قَالَ بَعضهم: وَلَا بُد أَن تقترن الوجادة بِالْإِجَازَةِ
فَهِيَ أخص، فَكَانَ يَنْبَغِي تَقْدِيمهَا لكنه / جرى على
طَريقَة من لَا يشْتَرط فِيهَا الْإِجَازَة.
(2/7)
وَاعْلَم أَن الشَّيْخ قَاسم قد اعْترض
قَول الْمُؤلف أَو لَا يحصل. . إِلَى آخِره مَعَ قَوْله بعد
ذَلِك يدْرك بِأَنَّهُ تكْرَار مَحْض، لَا فَائِدَة لَهُ.
وَمن ثمَّ أَي وَمن هُنَا احْتِيجَ إِلَى معرفَة التَّارِيخ
فِي هَذَا الْفَنّ لتَضَمّنه تَحْرِير مواليد الروَاة ووفاتهم
وأوقات طَلَبهمْ وارتحالهم وَنَحْو ذَلِك وَقد أفتضح أَقوام
كَثِيرُونَ ادعوا الرِّوَايَة عَن شُيُوخ ظهر بالتاريخ كذب
دَعوَاهُم.
والتاريخ ذكر ابْتِدَاء الْمدَّة، قَالَ الْحَاكِم: لما قدم
علينا أَبُو جَعْفَر الكشى - بِضَم الْكَاف وَشدَّة
الْمُعْجَمَة - وَحدث عَن عبد بن حميد سَأَلته عَن مولده؟
فَذكر أَنه سنة سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ فَقلت لِأَصْحَابِنَا:
هَذَا الشَّيْخ سمع من عبد حميد بعد مَوته بِثَلَاثَة عشر سنة.
(2/8)
وَقَالَ الْحميدِي: ثَلَاثَة أَشْيَاء يجب
تَقْدِيم الْعِنَايَة بهَا: الْعِلَل وَأحسن مَا وضع فِيهِ
كتاب الدَّارَقُطْنِيّ، و " المؤتلف والمختلف " وَأحسن مَا
فِيهِ كتاب " ابْن مَاكُولَا "، و " الوفيات " وَلَيْسَ فِيهِ
كتاب. وَكَأَنَّهُ يُرِيد " الِاسْتِيعَاب " (وَإِلَّا فهناك
كتب فِيهِ) . وَاعْلَم أَنه لم يكن التَّارِيخ فِي صدر
الْإِسْلَام إِلَى أَن ولى عمر فَوَضعه.
(2/9)
معرفَة المدلس
وَالْقسم الثَّانِي: وَهُوَ الْخَفي، المدلس بِفَتْح اللَّام
وَهُوَ مَا رَوَاهُ الرَّاوِي عَمَّن لقِيه وَلم يسمع مِنْهُ،
أَو عَمَّن لقِيه وَسمع مِنْهُ غير الَّذِي رَوَاهُ / بِلَفْظ
مُحْتَمل للسماع وموهم لَهُ.
سمي بذلك لكَون الرَّاوِي لم يسم من حَدثهُ، وأوهم سَمَاعه
للْحَدِيث مِمَّن لم يحدث بِهِ. واشتقاقه من الدلس -
بِالتَّحْرِيكِ - وَهُوَ اخْتِلَاط الظلام. الَّذِي هُوَ سَبَب
لتغطية الْأَشْيَاء عَن الْبَصَر.
وَمِنْه التَّدْلِيس فِي البيع يُقَال: دلّس فلَان على فلَان
أَي ستر عَنهُ الْعَيْب الَّذِي فِي مَتَاعه كَأَنَّهُ أظلم
عَلَيْهِ الْأَمر. وَهُوَ اصْطِلَاحا رَاجع إِلَى ذَلِك
سمي بذلك لاشْتِرَاكهمَا فِي الخفاء فَإِن من أسقط من الاسناد
شَيْئا
(2/10)
فقد أخْفى ذَلِك الَّذِي أسْقطه وغطاه،
وَزَاد فِي التغطية بإتيانه بِعِبَارَة موهمة. وَكَذَا
تَدْلِيس الشُّيُوخ فَإِن الرَّاوِي يخفي النَّعْت الَّذِي
يعرف بِهِ الشَّيْخ ويغطيه بِالْوَصْفِ بِغَيْر مَا شهر بِهِ.
وَأعلم أَن قَول المُصَنّف وَالْقسم الثَّانِي. . إِلَى آخِره
قد اعْتَرَضَهُ الشَّيْخ قَاسم: بِأَن الْمقسم السقط والمدلس
والإسناد الَّذِي وَقع فِيهِ السقط فَلَا يكون الْحمل
حَقِيقِيًّا. انْتهى.
وَمِثَال ذَلِك مَا رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن سُفْيَان
الثَّوْريّ عَن أبي إِسْحَق عَن زيد بن يثيع - بمثناة تحتية
مَضْمُومَة ففوقية - عَن حُذَيْفَة مَرْفُوعا:
(2/11)
" إِن وليتموها أَبَا بكر فقوي أَمِين.
فَهَذَا الحَدِيث فِي صُورَة الْمُتَّصِل، لِأَن عبد
الرَّزَّاق سَمَاعه من الثَّوْريّ مَشْهُور وَكَذَا سَماع /
الثَّوْريّ من أبي إِسْحَق وَهُوَ مُنْقَطع فِي موضِعين: فَإِن
عبد الرَّزَّاق لم يسمعهُ من الثَّوْريّ وَإِنَّمَا سَمعه من
النُّعْمَان بن أبي شيبَة. وَلم يسمعهُ - الثَّوْريّ من أبي
إِسْحَق وَإِنَّمَا سَمعه من شريك عَن أبي إِسْحَاق كَمَا
جَاءَ ذَلِك مُبينًا من وَجه آخر.
وَاعْلَم أَن مَا رَوَاهُ الصَّحَابِيّ عَن الْمُصْطَفى وَلم
يسمعهُ مِنْهُ مُرْسل صَحَابِيّ وَلَا يُسمى مدلسا أدبا.
وَيرد المدلس بِصِيغَة من صِيغ الْأَدَاء يحْتَمل وُقُوع
اللِّقَاء بَين المدلس وَمن أسْند عَنهُ موهما الِاتِّصَال.
قَالَ الشَّيْخ قَاسم: وَكَانَ الأولى أَن يَقُول يحْتَمل
السماع كَمَا
(2/12)
صرح بِهِ النَّوَوِيّ وَغَيره من أهل
الْفَنّ.
كعن وَيُسمى المعنعن كَقَوْل الرَّاوِي فلَان عَن فلَان
بِلَفْظ عَن من غير بَيَان التحديث والإخبار وَالسَّمَاع.
وَكَذَا قَوْله قَالَ فلَان أَو فعل كَذَا، فَإِنَّهُ مثل عَن
عِنْد الْجُمْهُور مخالفين للْإِمَام أَحْمد.
وَمثل عَن وَقَالَ مَا لَو أسقط أَدَاة الرِّوَايَة فَقَالَ
فلَان، قَالَ عَليّ بن خشرم: كُنَّا عِنْد سُفْيَان بن
عُيَيْنَة فَقَالَ: الزُّهْرِيّ. فَقيل لَهُ: حَدثكُمْ
الزُّهْرِيّ؟ فَسكت. ثمَّ قَالَ: الزُّهْرِيّ. فَقيل لَهُ:
سمعته من الزُّهْرِيّ؟ قَالَ: لَا، وَلَا عَمَّن سَمعه من
الزُّهْرِيّ، حَدثنِي عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن
الزُّهْرِيّ.
وَمَتى وَقع بِصِيغَة صَرِيحَة لَا تجوز فِيهَا كَانَ كذبا.
(2/13)
قَالَ الْمُؤلف: أردْت بالتجوز نَحْو قَول
/ الْحسن: حَدثنَا ابْن عَبَّاس على مِنْبَر الْبَصْرَة،
فَإِنَّهُ لم يسمع مِنْهُ وَإِنَّمَا أَرَادَ أهل الْبَصْرَة
الَّذين هُوَ مِنْهُم. وَقَول ثَابت البنانى خَطَبنَا عمرَان
بن حُصَيْن. كَذَا نَقله عَنهُ الْكَمَال ابْن أبي شرِيف
وَغَيره.
وَأما حَدِيث الْحسن: فَرَوَاهُ الإِمَام الشَّافِعِي عَن
إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد حَدثنِي عبد الله بن أبي بكر بن
مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم عَن الْحسن قَالَ: خسف الْقَمَر
وَابْن عَبَّاس بِالْبَصْرَةِ فصلى بِنَا رَكْعَتَيْنِ فِي كل
رَكْعَة ركوعان، فَلَمَّا فرغ خَطَبنَا، فَقَالَ: صليت بكم
كَمَا رَأَيْت رَسُول الله يصلى بِنَا.
قَالَ الْمُؤلف فِي تَخْرِيج (أَحَادِيث) الرَّافِعِيّ:
وَإِبْرَاهِيم
(2/14)
ضَعِيف، وَقَول الْحسن خَطَبنَا لم يَصح،
فَإِن الْحسن لم يكن بِالْبَصْرَةِ لما كَانَ ابْن عَبَّاس
بهَا. وَيُقَال: إِن هَذَا من تدليسه وَإِن خَطَبنَا أَي خطب
أهل الْبَصْرَة.
وَضَابِط ذَلِك أَن يجمع الرَّاوِي الضَّمِير ويقصد أهل
بَلَده، أَو أَقَاربه، أَو المشاركين لَهُ فِي صفة مَا، وَيدل
لجَوَاز ذَلِك قَول الرجل الَّذِي يقْتله الدَّجَّال: أشهد
أَنَّك الرجل الَّذِي حَدثنَا رَسُول الله أَي حدث الْأمة
الَّذِي أَنا مِنْهُم.
والتدليس قِسْمَانِ:
1 - الأول: تَدْلِيس الْإِسْنَاد: بِأَن يروي عَمَّن لقِيه مَا
لم يسمعهُ مِنْهُ موهما سَمَاعه. وَرُبمَا لم يسْقط شَيْخه
وأسقطه غَيره لكَونه ضَعِيفا أَو صَغِيرا تحسينا للْحَدِيث.
2 - الثَّانِي: تَدْلِيس الشُّيُوخ: بِأَن يُسمى شَيْخه، أَو
يكنيه، أَو
(2/15)
ينْسبهُ، أَو يصفه بِمَا لَا يعرف بِهِ،
أَو يصف شيخ شَيْخه بذلك.
فَالْأول مَكْرُوه جدا، ذمه الْجُمْهُور حَتَّى قَالَ شعبه:
لِأَن أزني أحب إِلَى من أَن أدلس. وَقَالَ التَّدْلِيس أَخُو
الْكَذِب. وَحكمه أَن مَا رَوَاهُ بِلَفْظ مُحْتَمل لم يبين
فِيهِ السماع لم يقبل، وَمَا بَينه فِيهِ كسمعت وَحدثنَا
وَأخْبرنَا وَنَحْو ذَلِك فمقبول يحْتَج بِهِ. وَفِي
الصَّحِيحَيْنِ - وَغَيرهمَا - مِنْهُ كثير.
وَمَا فِي نَحْو الصَّحِيحَيْنِ عَن المدلسين بعن مَحْمُول على
ثُبُوت اللِّقَاء من جِهَة أُخْرَى، وَإِنَّمَا آثر صَاحب
الصَّحِيح طَرِيق العنعنة لِأَنَّهَا على شَرطه دون تِلْكَ.
(2/16)
وَأما الثَّانِي: فكراهته أخف، وَيخْتَلف
الْحَال فِي كَرَاهَته بِحَسب قَصده، ككون المغير اسْمه
ضَعِيفا فيدلسه لِئَلَّا يظْهر رِوَايَته عَن الضُّعَفَاء.
وَالأَصَح أَنه لَيْسَ بِجرح إِذا كَانَ لكَونه صَغِيرا أَو
مُتَأَخّر الْوَفَاة أَو نَحْو ذَلِك، وَمِمَّنْ سمع مِنْهُ
كثيرا فَامْتنعَ فِي تكراره على صُورَة وَاحِدَة إيهاما
لِكَثْرَة الشُّيُوخ.
قَالَ لي شَيخنَا عَالم الشَّافِعِيَّة (فِي الأقطار المعربة)
الشَّمْس الرملى - رَحمَه الله تَعَالَى - عَن مُحَقّق
الشَّافِعِيَّة أَبِيه عَن شُيُوخه: أَن الْمُؤلف احْتَاجَ
إِلَى رِوَايَته عَن ولد شَيْخه الْحَافِظ الزين
(2/17)
الْعِرَاقِيّ - هُوَ شيخ الْإِسْلَام
الْوَلِيّ الْعِرَاقِيّ - فَصَارَ يَقُول فِي " أَمَالِيهِ ":
حَدثنِي أَحْمد الصحراوي موهما أَنه غَيره لصغره ومشاركته لَهُ
/ فِي شُيُوخه.
وَمن أَقسَام التَّدْلِيس: عكس هَذَا، وَهُوَ إِعْطَاء شخص آخر
مَشْهُورا تَشْبِيها، ذكره فِي " جمع الْجَوَامِع " فَيَقُول
أخبرنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ يَعْنِي الذَّهَبِيّ،
تَشْبِيها بالبيهقي حَيْثُ يَقُول حَدثنَا أَبُو عبد الله
الْحَافِظ يعْنى بِهِ الْحَاكِم لظُهُور الْمَقْصُود.
وَكَذَا إِبْهَام اللقي والرحلة كحدثنا من وَرَاء النَّهر
يُوهم أَنه نهر جيحون - يعْنى نهر بَلخ -، وَمَا رَوَاهُ إقليم
اشْتهر أَهله بِأَهْل
(2/18)
مَا وَرَاء النَّهر مِنْهُم كثير من
الْعلمَاء الْحَنَفِيَّة، وَهُوَ إِنَّمَا يُرِيد الجيزة -
مثلا - وَهُوَ بِمصْر، وَلَيْسَ هَذَا بِجرح قطعا لِأَنَّهُ من
المعاريض لَا من الْكَذِب كَمَا فِي " الاقتراح " و " أَحْكَام
" الآمدى وَغَيرهمَا.
وَحكم من يثبت عَنهُ التَّدْلِيس إِذا كَانَ عدلا أَن لَا يقبل
مِنْهُ إِلَّا مَا صرح فِيهِ بِالتَّحْدِيثِ على الْأَصَح.
وَمُقَابل الْأَصَح: الْقبُول مُطلقًا، وَالرَّدّ مُطلقًا
وَإِن صرح بِالتَّحْدِيثِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ أهل الْأُصُول
أَن التَّدْلِيس فِي الْأَسَانِيد لَيْسَ بِجرح مُطلقًا.
وَقَول ابْن السَّمْعَانِيّ: إِلَّا أَن يكون بِحَيْثُ لَو
يسْأَل عَنهُ لم يُبينهُ فَإِن صنعه حِينَئِذٍ جرح لَهُ
(2/19)
لظُهُور الْكَذِب فِيهِ. رد بِمَنْع ذَلِك
فَترك الِاسْتِثْنَاء أظهر مِنْهُ، فالاطلاق أظهر. اه.
أما مُدَلّس الْمُتُون وَهُوَ من يدرج كَلَامه مَعهَا بِحَيْثُ
لَا يتميزان فمجروح لإيقاعه غَيره فِي الْكَذِب على رَسُول
الله.
(2/20)
|