اليواقيت والدرر في شرح نخبة ابن حجر زِيَادَة الثِّقَة
وَزِيَادَة راويهما - أَي الصَّحِيح وَالْحسن أَي زِيَادَة
الْعدْل الضَّابِط فِيمَا رَوَاهُ على غَيره من الْعُدُول /
مَقْبُولَة لِأَنَّهَا فِي حكم حَدِيث
(1/410)
مُسْتَقل انْفَرد بِهِ ثِقَة، وَلَا يرويهِ
عَن شَيْخه غَيره، وَهَذَا مَا لم تقع أَي الزِّيَادَة
مُنَافِيَة لرِوَايَة من هُوَ أوثق مِمَّن لم يذكر تِلْكَ
الزِّيَادَة لمزيد ضبط أَو كَثْرَة عدد. قَالَ الْكَمَال بن
أبي شرِيف: وَمن فِي قَوْله مِمَّن بَيَان لقَوْله: من هُوَ.
اه وَلَيْسَت مُتَعَلقَة بِفعل التَّفْضِيل، لِأَن الزِّيَادَة
إِمَّا أَن تكون لَا تنَافِي بَينهَا وَبَين رِوَايَة من لم
يذكرهَا فَهَذِهِ تقبل مُطلقًا لِأَنَّهَا فِي حكم الحَدِيث
المستقل الَّذِي ينْفَرد بِهِ الثِّقَة وَلَا يرويهِ عَن
شَيْخه غَيره.
وَمن أَمْثِلَة ذَلِك حَدِيث مُسلم وَغَيره من رِوَايَة أبي
مَالك
(1/411)
الْأَشْجَعِيّ عَن ربعي عَن حُذَيْفَة
مَرْفُوعا: " جعلت لنا الأَرْض مَسْجِدا، وَجعلت لنا تربَتهَا
طهُورا ". فَإِن زِيَاد تربَتهَا تفرد بِهِ الْأَشْجَعِيّ،
وَرِوَايَة جَمِيع الروَاة جعلت لنا الأَرْض مَسْجِدا
وَطهُورًا.
وَحَدِيث ابْن عمر فِي صَدَقَة الْفطر، انْفَرد بِهِ سعيد بن
عبد الرَّحْمَن الجُمَحِي بِزِيَاد أَو صَاعا من قَمح، وَأكْثر
الروَاة لم يذكرُوا إِلَّا صَاعا من تمر أَو صَاعا من شعير
فَقَط.
(1/412)
وَأما أَن تكون مُنَافِيَة بِحَيْثُ يلْزم
من قبُولهَا رد الرِّوَايَة الْأُخْرَى فَهَذِهِ الَّتِي يَقع
التَّرْجِيح بَينهَا وَبَين معارضها فَيقبل الرَّاجِح وَيرد
الْمَرْجُوح.
وَمن وُجُوه الْمُنَافَاة مَا لَو غيرت الزِّيَادَة إِعْرَاب
الْبَاقِي (فيتعارضان - أَي خبر الزِّيَادَة وَخبر عدمهَا -
للِاخْتِلَاف حِينَئِذٍ خلافًا لأبي عبد الله الْبَصْرِيّ) .
قَالَ الشَّيْخ قَاسم: وَقَوله لِأَن الزِّيَادَة ... ...
إِلَى آخِره تَقْسِيم للزِّيَادَة لَا تَعْلِيل لما وَقع فِي
الْمَتْن هَذَا هُوَ الظَّاهِر من السُّوق، فَإِن اعْتَبرهُ
المُصَنّف / تعليلا فَهُوَ أَعم مِمَّا فِي الْمَتْن، وَكَانَ
اللايق بِالتَّعْلِيلِ أَن يَقُول لِأَن المنافية لرِوَايَة من
هُوَ أوثق مُعَارضَة بأرجح فَلم تقبل، وَالَّتِي لم تناف
بِمَنْزِلَة حَدِيث مُسْتَقل. وَيفهم مِنْهُ
(1/413)
أَنه أَن مَا نافى، وَلَيْسَ بأوثق أَنه
مقدم.
وَقَالَ البقاعي: لَو قَالَ إِذا لم تناف رِوَايَة أوثق مِنْهُ
كَانَ أحسن، فَإِن نافت بِأَن لزم من قبُولهَا رد الْأُخْرَى
احْتِيجَ إِلَى التَّرْجِيح بَينهَا وَبَين معارضها، فَيقبل
الرَّاجِح وَيرد الْمَرْجُوح.
واشتهر عَن جمع من الْعلمَاء أَي أهل الْأُصُول وَالْفِقْه
القَوْل بِقبُول الزِّيَادَة - مُطلقًا من (غير تَفْصِيل)
قَالُوا: زِيَاد الثِّقَة مَقْبُولَة إِن علم تعدد الْمجْلس
لجَوَاز كَون النَّبِي ذكرهَا فِي مجْلِس وَسكت عَنْهَا فِي
آخر، وَكَذَا إِن لم يعلم تعدده وَلَا اتحاده لِأَن الْغَالِب
التَّعَدُّد، فَإِن علم اتحاده فأقوال:
1 - أَحدهَا: الْقبُول (مُطلقًا، قَالَ الْكَمَال بن أبي شرِيف
- كَغَيْرِهِ: وَهُوَ الَّذِي اشْتهر عَن الشَّافِعِي رَضِي
الله عَنهُ، وَنَقله الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ عَن جُمْهُور
الْعلمَاء والمحدثين بل ادّعى ابْن طَاهِر اتِّفَاق الْمُحدثين
عَلَيْهِ) لجَوَاز غَفلَة غير من زَاد.
(1/414)
2 - وَالثَّانِي: عَدمه لجَوَاز خطأ من
زَاد.
3 - وَالثَّالِث: الْوَقْف وَإِن كَانَ السَّاكِت (عَنْهَا -
أَي غير) الذاكر لَهَا - أضبط مِمَّن ذكرهَا، أَو صرح بِنَفْي
الزِّيَادَة على وَجه لَا يقبل، كَأَن قَالَ: مَا سَمعتهَا -
أَي تعَارض الخبران فِيهَا - نعم إِن نفاها على وَجه لَا يقبل
بِأَن مَحْض النَّفْي فَقَالَ: لم يقلها النَّبِي عَلَيْهِ
أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام.
فَإِنَّهُ لَا أثر لذَلِك، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِك على طَرِيق
الْمُحدثين الَّذين يشترطون فِي الصَّحِيح أَن لَا يكون شاذا،
ثمَّ يفسرون الشذوذ بمخالفة الثِّقَة لمن هُوَ أوثق مِنْهُ.
قَالَ الشَّيْخ قَاسم: قد ذكر المُصَنّف فِي تَقْرِيره لذَلِك
إِن الْمُخَالفَة تصدق على زِيَادَة / لَا تنَافِي فِيهَا،
فَلَا يحسن الْإِطْلَاق، وَلَيْسَ فِي الشاذ مَا يُخَالف،
فَلذَلِك قيدت بِقَوْلِي مَا لم تقع مُنَافِيَة ... ... إِلَخ.
قَالَ الشَّيْخ قَاسم: وَلَيْسَ فِي هَذَا زِيَاد فَائِدَة
وَمَا فِي الشَّرْح يُغني عَنهُ.
وَالْعجب مِمَّن أغفل ذَلِك مِنْهُم مَعَ اعترافه بِاشْتِرَاط
(1/415)
انْتِفَاء الشذوذ فِي حد الحَدِيث
الصَّحِيح وَكَذَا الْحسن.
قَالَ الشَّيْخ قَاسم: أَعَادَهُ لأجل ذكر الْحسن وَأَنه يكون
أولى أَن يشْتَرط فِي الصَّحِيح.
وَالْمَنْقُول عَن أَئِمَّة الْمُحدثين الْمُتَقَدِّمين:
كَابْن مهْدي وَيحيى الْقطَّان نسبته إِلَى بيع الْقطن وَأحمد
بن حَنْبَل وَيحيى بن معِين وَعلي بن الْمَدِينِيّ بِفَتْح
الْمِيم وَكسر الْمُهْملَة وَسُكُون التَّحْتِيَّة - نِسْبَة
إِلَى مَدِينَة (نيسابور) وَقيل غَيرهَا وَالْبُخَارِيّ وَأبي
زرْعَة وَأبي حَاتِم وَالنَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ
بِفَتْح الرَّاء وَضم الْقَاف وَسُكُون الطَّاء نِسْبَة إِلَى
دَار الْقطن محلّة بِبَغْدَاد وَغَيرهم اعْتِبَار التَّرْجِيح
فِيمَا يتَعَلَّق بِالزِّيَادَةِ وَغَيرهَا، وَلَا يعرف عَن
أحد مِنْهُم إِطْلَاق قبُول الزِّيَادَة، وأعجب من
(1/416)
ذَلِك إِطْلَاق كثير من الشَّافِعِيَّة
القَوْل بِقبُول زِيَادَة الثِّقَة مَعَ أَن نَص الشَّافِعِي
يدل على غير ذَلِك، فَإِنَّهُ قَالَ فِي أثْنَاء كَلَامه على
مَا يعْتَبر فِيهِ حَال الرَّاوِي فِي الضَّبْط مَا نَصه:
وَيكون إِذا شرك أحدا من الْحفاظ لم يُخَالِفهُ، فَإِن خَالفه
فَوجدَ حَدِيثه أنقص كَانَ فِي ذَلِك دَلِيل على / صِحَة مخرج
حَدِيثه وَمَتى خَالف مَا وصفت أضرّ ذَلِك بحَديثه. انْتهى.
(كَلَامه وَمُقْتَضَاهُ أَنه إِذا خَالف فَوجدَ حَدِيثه أَزِيد
ضرّ ذَلِك بحَديثه) فَدلَّ على أَن زِيَادَة الْعدْل عِنْده
لَا يلْزم قبُولهَا مُطلقًا وَإِنَّمَا تقبل من الْحَافِظ،
فَإِنَّهُ اعْتبر أَن يكون حَدِيث هَذَا الْمُخَالف أنقص من
حَدِيث من خَالفه من الْحفاظ، وَجعل نُقْصَان هَذَا الرَّاوِي
من الحَدِيث دَلِيلا على صِحَّته لِأَنَّهُ يدل على تحريه،
وَجعل مَا عدا ذَلِك مضرا بحَديثه فَدخلت فِيهِ الزِّيَادَة،
فَلَو كَانَت عِنْده مَقْبُولَة مُطلقًا لم تكن مضرَّة
(بِحَدِيث) صَاحبهَا.
(1/417)
كَذَا زَعمه المُصَنّف، وَقد رده عَلَيْهِ
جمع مِنْهُم الْكَمَال بن أبي شرِيف فَقَالَ: الثِّقَة هُوَ
الْعدْل الضَّابِط وَكَلَام الشَّافِعِي فِيمَن لم يعرف ضَبطه
فَلَا يكون دَلِيلا على عدم قبُول الزِّيَادَة مُطلقًا كَمَا
زَعمه المُصَنّف، إِذْ لَيْسَ الحكم فِيهِ إِلَّا فِي حَدِيث
من يختبر ضَبطه.
قَالَ: وَقَول الشَّافِعِي وَيكون مَنْصُوب عطفا على مَا قبله
فِي كَلَامه، فَإِنَّهُ قَالَ: ثمَّ يعْتَبر عَلَيْهِ بِأَن
يكون إِذا سمى من روى عَنهُ لم يسم مَجْهُولا وَلَا مرغوباً
عَن الرِّوَايَة عَنهُ. ثمَّ قَالَ: وَيكون. انْتهى.
وَمِنْهُم البقاعي فَقَالَ: كَلَام الإِمَام الشَّافِعِي فِي
عدل لم يعرف ضَبطه فَلَا يُعَارض قبولهم زِيَادَة الثِّقَة،
فَإِن الثِّقَة هُوَ الَّذِي جمع إِلَى الْعَدَالَة الضَّبْط.
قَالَ: وَقَوله وَإِنَّمَا / يقبل من الْحَافِظ يُقَال
عَلَيْهِ: سلمنَا ذَلِك،
(1/418)
فَإِن أردْت مُطلق الثِّقَة فَهُوَ غير مَا
قُلْنَا، وَإِلَّا فَلَا دلَالَة لكَلَام الشَّافِعِي
عَلَيْهِ.
وَقَوله وَجعل نُقْصَان هَذَا الرَّاوِي من الحَدِيث دَلِيلا
على صِحَّته لِأَنَّهُ يدل على تحريه ... ... إِلَى آخِره
مُسلم، لَكِن الْكَلَام فِي الزِّيَادَة الْوَاقِعَة من
الثِّقَة لَا فِي مُطلق الزِّيَادَة الْوَاقِعَة من الثِّقَة
وَغَيره، وَهَذَا كُله لَيْسَ ردا على مَا فصل وَإِنَّمَا هُوَ
دفع للاستدلال بِكَلَام الإِمَام الشَّافِعِي، فَإِنَّهُ لَا
دلَالَة فِيهِ على مَا ادَّعَاهُ أصلا.
وَمِنْهُم الشَّيْخ قَاسم الْحَنَفِيّ فَقَالَ: قَوْله وأعجب
من ذَلِك ... إِلَى آخِره إِلَى أَن قَالَ كَونه أعجب لوُجُود
نَص أمامهم فِي ذَلِك. أَقُول: لَيْسَ هَذَا مَحل مَا ذكره
إمَامهمْ لِأَنَّهُ فِيمَن يختبر ضَبطه، وَكَلَامهم فِي
الثِّقَة وَهُوَ عِنْدهم الْعدْل الضَّابِط فَلَا تجب. الْعجب
مِنْك.
وَقَوله وَجعل نُقْصَان هَذَا الرَّاوِي ... ... إِلَى آخِره
يُقَال عَلَيْهِ: لم لَا
(1/419)
يجوز أَن يكون نقصانه دَلِيلا على نُقْصَان
حفظه.
وَقَوله: وَجعل مَا عدا ذَلِك ... إِلَى آخِره. أَقُول إِذا
حمل كَلَام الإِمَام على مَا نَحن فِيهِ فَظَاهره منع قبُول
الزِّيَادَة مُطلقًا لَا على التَّفْضِيل الْمَذْكُور، ويتبادر
من سوق الْكَلَام فِي قَوْله وَزِيَادَة رَاوِيه إِلَى هُنَا
أَن الْمُخَالفَة من حَيْثُ أَن يزِيد الثِّقَة مُخَالفا لمن
هُوَ أوثق مِنْهُ، أَو يزِيد الضَّعِيف مُخَالفا للثقة،
وَالْوَاقِع أَن المُرَاد / مُجَرّد الْمُخَالفَة. انْتهى.
فَإِن خُولِفَ أَي الرَّاوِي بأرجح مِنْهُ لمزيد ضبط وإتقان
أَو كَثْرَة عدد أَو غير ذَلِك من وُجُوه الترجيحات سَوَاء
خَالفه فِي السَّنَد أَو فِي الْمَتْن فالراجح يُقَال لَهُ
الْمَحْفُوظ وَمُقَابِله وَهُوَ الْمَرْجُوح يُقَال لَهُ
الشاذ.
فالمحفوظ: مَا رَوَاهُ المقبول مُخَالفا لمن دونه فِي الْحِفْظ
والإتقان، والشاذ: مَا رَوَاهُ المقبول مُخَالفا لمن فَوْقه
فِي الْحِفْظ والإتقان. وَسَيَأْتِي فِي كَلَامه.
وَخرج بالمقبول الْمَعْرُوف وَالْمُنكر فَإِن رَاوِي كل
مِنْهُمَا غير مَقْبُول.
وبمن دونه الشاذ كَمَا يَأْتِي.
وَمِثَال ذَلِك يَعْنِي مِثَال الْمُخَالفَة فِي الْإِسْنَاد
مَا رَوَاهُ
(1/420)
الْحَاكِم وَصَححهُ وَالتِّرْمِذِيّ
وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من طَرِيق سُفْيَان بن عُيَيْنَة
عَن عَمْرو بن دِينَار عَن عَوْسَجَة عَن ابْن عَبَّاس
مَوْصُولا أَن رجلا توفى على عهد رَسُول الله وَلم يدع وَارِثا
إِلَّا مولى هُوَ أعْتقهُ ... الحَدِيث وتتمته: فَدفع مِيرَاثه
إِلَيْهِ. وتابع ابْن عُيَيْنَة على وَصله ابْن جريج وَغَيره،
وَخَالفهُم حَمَّاد بن زيد فَرَوَاهُ عَن عَمْرو بن دِينَار
عَن عَوْسَجَة وَلم يذكر ابْن عَبَّاس. قَالَ أَبُو حَاتِم
الرَّازِيّ: الْمَحْفُوظ حَدِيث ابْن عُيَيْنَة.
(1/421)
انْتهى. وَتَابعه مُحَمَّد بن مُسلم، وَقصر
حَمَّاد بن زيد فحماد بن زيد من أهل الْعَدَالَة والضبط وَمَعَ
ذَلِك رجح أَبُو حَاتِم رِوَايَة من هُوَ أَكثر عددا مِنْهُ.
وَفِيه هُنَا أَمْرَانِ:
1 - الأول: أَن تمثيله بذلك / قد نازعه فِيهِ ابْن قطلوبغا،
فَقَالَ: الأولى فِي الْمِثَال أَن يكون بمتن خَالف فِيهِ
الثِّقَة غَيره لِأَن هَذِه الْأَنْوَاع من الشذوذ وَنَحْوه
إِمَّا هِيَ وَاقعَة بِالذَّاتِ على الْمَتْن لما فِيهِ أَو
فِي طَرِيقه مَا يقتضيها.
2 - الثَّانِي: أَن قَوْله قَالَ أَبُو حَاتِم ... ... إِلَى
آخِره قد رده عَلَيْهِ الشَّيْخ قَاسم بِأَن هَذَا معَارض لما
قدمه عَن الشَّافِعِي لِأَن النُّقْصَان أضرّ بحَديثه وَلم يكن
ذَلِك دَلِيل تحريه، فَهَذَا هُوَ المُرَاد لما فهمه
المُصَنّف.
(1/422)
والكمال بن أبي شرِيف على هَذَا. فَذكر مَا
ذكره الشَّيْخ قَاسم ثمَّ قَالَ: وعَلى هَذَا) فالثقة فِي قَول
الإِمَام الشَّافِعِي الشاذ: أَن يروي الثِّقَة مَا يُخَالف
مَا روى النَّاس. بِمَعْنى المقبول الشَّامِل للعدل الضَّابِط،
وللصدوق الْقَرِيب من دَرَجَة الضَّبْط والإتقان.
أَو يكون ذكر الثِّقَة للِاحْتِرَاز عَن الضَّعِيف لَا عَن
الصدوق بل لإفهام أَن مُخَالفَة الصدوق الْمَذْكُور أولى باسم
الشذوذ. انْتهى.
وَمن أمثلته فِي الْمَتْن مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
وَالتِّرْمِذِيّ من حَدِيث
(1/423)
عبد الْوَاحِد بن زِيَاد عَن الْأَعْمَش
عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: " إِذا صلى أحدكُم
رَكْعَتي الْفجْر فليضطجع عَن يَمِينه " ... قَالَ
الْبَيْهَقِيّ: خَالف عبد الْوَاحِد الْعدَد الْكثير فِي هَذَا
فَإِن النَّاس إِنَّمَا رَوَوْهُ عَن فعل الْمُصْطَفى لَا من
قَوْله، وَانْفَرَدَ عبد الْوَاحِد من بَين ثِقَات أَصْحَاب
الْأَعْمَش بِهَذَا اللَّفْظ.
وَعرف من هَذَا التَّقْرِير أَن الشاذ مَا رَوَاهُ المقبول
مُخَالفا لمن هُوَ أولى مِنْهُ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمد فِي
تَعْرِيف الشاذ بِحَسب الِاصْطِلَاح. وَأما بِحَسب اللُّغَة
فَإِنَّهُ مُطلق / الِانْفِرَاد.
وَإِن وَقعت الْمُخَالفَة مَعَ الضعْف بِأَن روى الضَّعِيف
حَدِيثا وَخَالف فِي إِسْنَاده أَو مَتنه ضَعِيف أرجح مِنْهُ
لكَونه أقل مِنْهُ ضعفا، وَأحسن مِنْهُ حَالا فَمَا رَوَاهُ
الضَّعِيف الرَّاجِح يُقَال
(1/424)
لَهُ الْمَعْرُوف مُقَابِله وَهُوَ مَا
رَوَاهُ الضَّعِيف الْمَرْجُوح يُقَال لَهُ الْمُنكر.
فَخرج بِقَيْد الضَّعِيف فِي كل مِنْهُمَا الْمَحْفُوظ والشاذ
لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا رَاوِيه مَقْبُول.
ثمَّ مثل لذَلِك بقوله: مِثَاله مَا رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم
من طَرِيق حبيب بِضَم (الْحَاء الْمُهْملَة) وَفتح بَاء
مُوَحدَة وَكسر يَاء تحتية مُشَدّدَة مُصَغرًا بن حبيب بِفَتْح
فَكسر - (وَهُوَ أَخُو حَمْزَة بن حبيب) -
(1/425)
كقريب الزيات الْمقري عَن أبي إِسْحَق عَن
الْعيزَار بِعَين مُهْملَة، فزاي بعد الْمُثَنَّاة
التَّحْتِيَّة، وَبعد الْألف رَاء ابْن حُرَيْث بِالتَّصْغِيرِ
عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من
أَقَامَ الصَّلَاة وَآتى الزَّكَاة وَحج وَصَامَ وقرى الضَّيْف
دخل الْجنَّة ". قَالَ أَبُو حَاتِم: هُوَ أَي حَدِيث حبيب
هَذَا مُنكر لِأَن غَيره من الثِّقَات رَوَاهُ عَن أبي إِسْحَق
مَوْقُوفا وَهُوَ الْمَعْرُوف.
وَنقل بعض تلامذة الْمُؤلف عَنهُ أَنه قَالَ: المُرَاد
بِقَوْلِي وَإِن وَقعت الْمُخَالفَة مَعَ الضعْف أَن يكون فِي
الْجَانِبَيْنِ مَعَ رُجْحَان أَحدهمَا.
(1/426)
قَالَ تلميذ المُصَنّف الْمَذْكُور: لَكِن
مَا مثل بِهِ أولى وَقَول أبي حَاتِم: هُوَ مُنكر لِأَن غَيره
من الثِّقَات رَوَاهُ عَن أبي إِسْحَق مَوْقُوفا يبين أَن
الضعْف فِي أَحدهمَا.
قَالَ: وَقد أوقفت الشَّيْخ يَعْنِي / المُصَنّف على هَذَا
فَقَالَ: أَن اللايق فِي التَّمْثِيل التَّمْثِيل بِغَيْرِهِ،
وروجع فِي أَن الْمَأْخُوذ أَولا زِيَادَة رَاوِي الْحسن أَو
الصَّحِيح.
فَأجَاب: بِأَنَّهُ لَيْسَ معزيا هُنَا، وَأَن الْكَلَام وَقع
اسْتِطْرَادًا هُنَا لأجل مُطلق الْمُخَالفَة.
ثمَّ رُوجِعَ، فَأخْبر بِمَا فسر بِهِ أَولا من كَون الضَّعِيف
فِي الْمُخَالف مَعَ قَوْله أَو وجا فيهمَا كَانَ كَذَلِك فِي
التَّسْمِيَة أَي يُقَال لمن قل ضعفه مَعْرُوف وَالْآخر مُنكر.
انْتهى.
(1/427)
وَعرف بِهَذَا أَن بَين الشاذ وَالْمُنكر
عُمُوما وخصوصاً من وَجه، لِأَن بَينهمَا اجتماعاً فِي
اشْتِرَاط الْمُخَالفَة، وافتراقاً فِي أَن الشاذ رَاوِيه
ثِقَة أَو صَدُوق، وَالْمُنكر رَاوِيه ضَعِيف.
وَتعقبه الشَّيْخ قَاسم: بِأَنَّهُ يشْتَرط فِي الْعُمُوم
وَالْخُصُوص من وَجه أَن يكون بَين الْمَذْكُورين مَادَّة
اجْتِمَاع يصدق فِيهَا كل مِنْهُمَا، وَلَيْسَ الْمَذْكُور
هُنَا كَذَلِك.
قَالَ: وَمَا ذكره المُصَنّف فِي تَوْجِيهه لَيْسَ على حد مَا
عِنْد الْقَوْم.
والبقاعي فَقَالَ: مَا ذكره الْمُؤلف من الْعُمُوم وَالْخُصُوص
غير صَحِيح، وَإِنَّمَا بَين الشاذ وَالْمُنكر من النّسَب
المباينة الْكُلية لَا شَيْء من الشاذ بمنكر، وَلَا شَيْء من
الْمُنكر بشاذ، وَلم يجتمعا فِي مُطلق الْمُخَالفَة
الْمَذْكُورَة فِي الشاذ لِأَنَّهَا مُقَيّدَة بالثقة، وَلَا
بِمُطلق الْمُخَالفَة الْمَذْكُورَة فِي الْمُنكر فَإِنَّهَا
مُقَيّدَة بالضعيف.
قَالَ: لَيْسَ هَذَا كالحيوان وَالْأسود فِي فَرد من أَفْرَاد
الْحَيَوَان / فَإِنَّهُمَا اجْتمعَا فِي مُطلق الْحَيَوَان
الْأسود وَأما هُنَا فَلم يجتمعا فِي فَرد من أَفْرَاد
الْمُنكر، وَلَا فِي فَرد من أَفْرَاد الشاذ كَمَا اجْتمع
الْحَيَوَان وَالْأسود فِي فَرد
(1/428)
من أَفْرَاد الْحَيَوَان، فَكَانَ بعض
الْحَيَوَان أسود وَبَعض الْأسود حَيَوَان إِلَى هُنَا
كَلَامه.
وتبعهما على ذَلِك الأشموني فَقَالَ: مَا ذكره الْمُؤلف
مَمْنُوع، وَإِنَّمَا الَّذِي بَين الشاذ وَالْمُنكر تبَاين
كلي لَا عُمُوم وخصوص من وَجه كَمَا زَعمه، لِأَن الشاذ لَا
يصدق على شَيْء من أَفْرَاد الْمُنكر، كَمَا أَن الْمُنكر لَا
يصدق على شَيْء من أَفْرَاد الشاذ، لِأَن الشاذ من رِوَايَة
المقبول وَالْمُنكر من رِوَايَة الضَّعِيف. انْتهى.
وَمَا ذكره غَفلَة عَن مُرَاد الْمُؤلف مِمَّا ذكره، فَإِن
الْكَمَال بن أبي شرِيف نقل عَنهُ أَنه قَالَ لَهُ: إِنَّه
لَيْسَ مُرَاده الْعُمُوم وَالْخُصُوص المصطلح عَلَيْهِ:
وَهُوَ صدق كل مِنْهُمَا على بعض مَا يصدق عَلَيْهِ الآخر،
وَإِنَّمَا مُرَاده مَا فسر بِهِ وَهُوَ أَن بَينهمَا
اجْتِمَاع وافتراق. انْتهى.
وَأما الْجَواب بِأَن شَرط الْعُمُوم وَالْخُصُوص مَوْجُود
هُنَا، وَهُوَ وجود مَادَّة يصدق فِيهَا كل مِنْهُمَا لِأَن
لنا رَاوِيا وَاحِدًا يكون حَدِيثه شاذاً ومنكراً، شَاذ
(1/429)
بِاعْتِبَار أَنه صَدُوق ومنكر بِاعْتِبَار
أَنه سيئ الْحِفْظ أَو مُغفل أَو فَاحش الْغَلَط أَو مُبْتَدع
فَهُوَ ضَعِيف بِهَذِهِ الاعتبارات إِذْ كل وَاحِد مِنْهَا -
أَي من هَذِه الْأَوْصَاف - يضعف بهَا الرَّاوِي لَا يُنَافِي
أَن / يكون صَدُوقًا.
وَالْحَاصِل: أَن بقوله أَو صَدُوق ينْدَفع الِاعْتِرَاض عَنهُ
فَفِيهِ تعسف لَا يخفى.
وَقد غفل من سوى بَينهمَا أَي كَابْن الصّلاح حَيْثُ قَالَ فِي
الْمُنكر أَنه بِمَعْنى الشاذ.
وَتعقب الشَّيْخ قَاسم هَذَا: بِأَنَّهُم أطْلقُوا فِي غير
مَوضِع النكارة على
(1/430)
رِوَايَة الثِّقَة مُخَالفا لغيره، من
ذَلِك حَدِيث نزع الْخَاتم حَيْثُ قَالَ أَبُو دَاوُد: وَهَذَا
حَدِيث مُنكر. مَعَ أَن رَاوِيه همام بن يحيى وَهُوَ ثِقَة
احْتج بِهِ أهل الصِّحَّة، وَفِي عبارَة النَّسَائِيّ مَا
يُفِيد فِي هَذَا الحَدِيث بِعَيْنِه. أَنه يُقَابل
(1/431)
الْمَحْفُوظ، وَكَأن الْمَحْفُوظ
وَالْمَعْرُوف ليسَا بنوعين حقيقين تحتهما أَفْرَاد مَخْصُوصَة
عِنْدهم، وَإِنَّمَا هِيَ أَلْفَاظ تسْتَعْمل فِي التَّضْعِيف
فَجَعلهَا الْمُؤلف أنواعاً فَلم يُوَافق مَا وَقع عِنْدهم.
انْتهى.
قَالَ بَعضهم: وَالْمَحْفُوظ وَالْمَعْرُوف من الْأَنْوَاع
الَّتِي أهملها ابْن الصّلاح وَالنَّوَوِيّ، وحقهما أَن يذكرَا
كَمَا ذكر الْمُتَّصِل مَعَ مَا يُقَابله من الْمُرْسل
والمنقطع والمعضل.
تَنْبِيه:
وَقع فِي عباراتهم: أنكر مَا رَوَاهُ فلَان كَذَا وَإِن لم يكن
ذَلِك الحَدِيث ضَعِيفا، قَالَ ابْن عدي: أنكر مَا روى بريد بن
عبد الله بن أبي بردة: " إِذا أَرَادَ
(1/432)
بِأمة خيرا قبض نبيها قبلهَا ".
قَالَ: وَهَذَا طَرِيقه حسن، وَرَوَاهُ ثِقَات، وَقد أدخلهُ
قوم فِي صحاحهم. انْتهى.
والْحَدِيث فِي مُسلم.
وَقَالَ / الذَّهَبِيّ: أنكر مَا للوليد بن مُسلم من
الْأَحَادِيث حَدِيث فِي حفظ
(1/433)
الْقُرْآن، وَهُوَ عِنْد التِّرْمِذِيّ
وَحسنه، وَصَححهُ الْحَاكِم وَقَالَ: على شَرط الشَّيْخَيْنِ.
(1/434)
وَمَا تقدم ذكره من الْفَرد النسبي
الْمَتْن هُوَ قَوْله: والفرد النسبي وَقَوله مَا تقدم ذكره من
شرح كَذَا صنع الْمُؤلف.
وَتعقبه البقاعي: بِأَن الْفَرد فِي الْمَتْن مُبْتَدأ
مَرْفُوع، وَفِي الشَّرْح مجرور فَهُوَ مخل بالمزج. قَالَ
البقاعي.
وَقَالَ الْكَمَال بن أبي شرِيف: قَوْله من الْفَرد فِيهِ
الْفَرد مجرور مَعَ أَنه فِي الْمَتْن مَرْفُوع فَلم يَفِ
بِمَا يَنْبَغِي فِي التَّضْمِين، فَلَو قَالَ: وَهُوَ الْفَرد
بدل من الْفَرد كَانَ أولى، أَو لَو أَتَى بِعِبَارَة يكون
فِيهَا الْفَرد معرباً بِالرَّفْع كَانَ أحسن.
إِن وجد بعد ظن كَونه فَردا قد وَافقه غَيره فَهُوَ المتابع.
(1/435)
يَعْنِي فَذَلِك الْغَيْر هُوَ المتابع
بِكَسْر الْمُوَحدَة بعد الْألف مصدر ميمي لتابعه تباعا.
وَاصْطِلَاحا: وجدان راو غير صَحَابِيّ مُوَافق لراو ظن صدقه
أَنه فَرد نسبي، أَو لشيخه، أَو شيخ شَيْخه، فِي لفظ مَا
رَوَاهُ أَو فِي مَعْنَاهُ.
وتخصصه ذَلِك بالفرد النسبي أورد عَلَيْهِ: أَن المتابع قد
يكون فِي الْفَرد الْمُطلق.
وتنقسم إِلَى: تَامّ وَإِلَى قَاصِرَة كَمَا بَين ذَلِك بقوله
والمتابعة بِفَتْح الْمُوَحدَة على مَرَاتِب: إِن حصلت للراوي
على نَفسه فَهِيَ التَّامَّة، وَإِن / حصلت لشيخه فَمن فَوْقه
أَي لشيخ شَيْخه أَو شيخ شيخ شَيْخه وَهَكَذَا فَهِيَ القاصرة
يَعْنِي الرَّاوِي عَن متابع شَيْخه متابع لَهُ، لَكِنَّهَا
لَيست فِي شَيْخه فَهِيَ القاصرة.
وَيُسْتَفَاد مِنْهَا أَي الْمُتَابَعَة بقسميها التقوية فتكسب
قُوَّة فِي الْفَرد المتابع ونفعاً فِيهِ.
(1/436)
مِثَال الْمُتَابَعَة (التَّامَّة) مَا
رَوَاهُ الإِمَام الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فِي
كِتَابه " الْأُم " عَن مَالك بن أنس عَن عبد الله بن دِينَار
عَن ابْن عمر أَن رَسُول الله قَالَ: " الشَّهْر تسع
وَعِشْرُونَ فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تروا الْهلَال، وَلَا
تفطروا حَتَّى تروه، فَإِن غم عَلَيْكُم فأكملوا الْعدة
ثَلَاثِينَ ".
كَذَا مثل بِهِ المُصَنّف للمتابعه التَّامَّة، (وَاعْترض مَا
لَيْسَ مِثَالا للتامة) وَإِنَّمَا مثالها مَا ذكره بعد من
قَوْله لَكِن وجدنَا للْإِمَام الشَّافِعِي مُتَابعًا وَهُوَ
عبد الله بن مسلمة ... إِلَى آخِره. فَكَانَ يَنْبَغِي
تَقْدِيمه وَتَأْخِير مَا قدمه، إِلَّا أَن يُقَال: تَقْدِيمه
ضَرُورِيّ لَا بتناء الْكَلَام بعده عَلَيْهِ، واتضاح
الْمَعْنى المُرَاد بِهِ.
فَهَذَا الحَدِيث (الْمَذْكُور) بِهَذَا اللَّفْظ ظن قوم من
الْمُحدثين
(1/437)
أَن الإِمَام الشَّافِعِي تفرد بِهِ أَي
براويته عَن مَالك فعدوه فِي غرايبه لِأَن أَصْحَاب مَالك
رَوَوْهُ عَنهُ بِهَذَا الْإِسْنَاد بِلَفْظ " فَإِن غم
عَلَيْكُم فاقدروا لَهُ قدره " لَكِن وجدنَا للْإِمَام
الشَّافِعِي مُتَابعًا وَهُوَ عبد الله بن مسلمة بِفَتْح
الْمِيم وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة ثمَّ لَام وَمِيم /
مفتوحتين القعْنبِي بِفَتْح الْقَاف وَسُكُون الْعين
الْمُهْملَة ثمَّ نون مُوَحدَة كَذَلِك أخرجه البُخَارِيّ
عَنهُ عَن مَالك وَهَذِه مُتَابعَة تَامَّة أَي قَوْله وجدنَا
... إِلَى آخِره، وَلَا تكْرَار مَعَ قَوْله أَولا مِثَال
التَّامَّة لِأَن هَذَا تنصيص على أَنه الْمِثَال فِي
الْحَقِيقَة.
وَوجدنَا لَهُ - أَيْضا - مُتَابعَة قَاصِرَة فِي صَحِيح ابْن
خُزَيْمَة من
(1/438)
رِوَايَة عَاصِم بن مُحَمَّد عَن أَبِيه
مُحَمَّد بن زيد عَن جده عبد الله بن عمر بِلَفْظ "
فَكَلَّمُوا ثَلَاثِينَ ". وَفِي صَحِيح مُسلم فِي رِوَايَة
عبيد الله ابْن عمر عَن نَافِع عَن ابْن عمر بِلَفْظ " فاقدروا
ثَلَاثِينَ ".
وَلَا اقْتِصَار فِي هَذِه الْمُتَابَعَة سَوَاء كَانَت
تَامَّة أَو قَاصِرَة على اللَّفْظ بل لَو جَاءَت بِالْمَعْنَى
لكفى لَكِنَّهَا مُخْتَصَّة بِكَوْنِهَا من رِوَايَة ذَلِك
الصَّحَابِيّ.
كَذَا ذكره المُصَنّف، وَاعْتَرضهُ الْكَمَال بن أَبى شرِيف
والشرف الْمَنَاوِيّ: بِأَن الَّذِي نَقله ابْن الصّلاح ثمَّ
الْحَافِظ الْعِرَاقِيّ عَن ابْن حبَان وَلم
(1/439)
يتعقباه فِي تَمْثِيل الْمُتَابَعَة
يَقْتَضِي أَن رِوَايَة غير الصَّحَابِيّ ذَلِك الحَدِيث عَن
الْمُصْطَفى مُتَابعَة للصحابي.
وَإِن وجد متن يرْوى من حَدِيث صَحَابِيّ آخر يُشبههُ فِي
اللَّفْظ وَالْمعْنَى، أَو فِي الْمَعْنى فَقَط كَمَا فِي
الْمِثَال المسوق للمتابعة القاصرة فَإِنَّهُ لَيْسَ
بِاللَّفْظِ فَهُوَ الشَّاهِد فالشاهد فِي الِاصْطِلَاح: متن
بِمَعْنى الْفَرد النسبي بِلَفْظِهِ أَو بِمَعْنَاهُ دون لَفظه
من رِوَايَة صَحَابِيّ آخر.
ومثاله فِي / الحَدِيث الَّذِي قدمْنَاهُ مَا رَوَاهُ
النَّسَائِيّ من رِوَايَة مُحَمَّد بن حنين بِالتَّصْغِيرِ عَن
ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي فَذكر مثل حَدِيث عبد الله بن
دِينَار عَن ابْن عمر سَوَاء فَهَذَا
(1/440)
بِاللَّفْظِ وَأما بِالْمَعْنَى فَهُوَ مَا
رَوَاهُ البُخَارِيّ من رِوَايَة مُحَمَّد بن زِيَاد عَن أبي
هُرَيْرَة بِلَفْظ: " فَإِن غم عَلَيْكُم فأكملوا عدَّة
شعْبَان ثَلَاثِينَ " وَذَلِكَ شَاهد بِالْمَعْنَى.
وَخص قوم الْمُتَابَعَة بِمَا حصل بِاللَّفْظِ سَوَاء كَانَ من
رِوَايَة ذَلِك عَن الصَّحَابِيّ أم لَا. وَالشَّاهِد بِمَا
حصل بِالْمَعْنَى كَذَلِك أَي سَوَاء كَانَ من رِوَايَة ذَلِك
الصَّحَابِيّ أم لَا كَمَا قَالَه المُصَنّف (فِي تَقْرِيره)
قَالَ الشَّيْخ قَاسم: وَهُوَ ظَاهر.
وَقد يُطلق الْمُتَابَعَة على الشَّاهِد وَعَكسه وَالْأَمر
سهل.
كَذَا ذكره الْمُؤلف، قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم:
وَيُسمى الْمُتَابَعَة شَاهدا وَلَا يُسمى الشَّاهِد
مُتَابعَة. وَهُوَ مُخَالف لما ذكره الْمُؤلف.
(1/441)
وَيدخل فِي الْمُتَابَعَة وَالشَّاهِد
رِوَايَة من لَا يحْتَج بِهِ وَلَا يدْخل فِي ذَلِك كل ضَعِيف.
وَاعْلَم أَن تتبع الطّرق الْمَتْن قَوْله وتتبع الطّرق
وَقَوله اعْلَم شرح هَكَذَا صنع الْمُؤلف.
وَتعقبه البقاعي: بِأَن تتبع فِي الْمَتْن مَرْفُوع، وَفِي
الشَّرْح مَنْصُوب، وَلَيْسَ من طَرِيق المزج فِي شَيْء،
فَكَانَ الأولى أَن يَقُول وتتبع الطّرق من الْمُحدث من
الْجَوَامِع وَالْمَسَانِيد وَالسّنَن والأجزاء والتواريخ
وَغَيرهَا لذَلِك
(1/442)
الحَدِيث الَّذِي يظنّ أَنه فَرد ليعلم هَل
لَهُ متابع / أَو شَاهد أَو لَا، هُوَ الِاعْتِبَار أَي يُسمى
بذلك، فَهُوَ أَن يَأْتِي إِلَى حَدِيث بعض الروَاة فيعتبره
بروايات غَيره من الروَاة، بسبر طرق الحَدِيث ليعرف هَل
شَاركهُ فِيهِ غَيره فَرَوَاهُ عَن شَيْخه أَو لَا؟ فَإِن لم
يكن فَينْظر هَل تَابع (أحد) شيخ شَيْخه فَرَوَاهُ عَمَّن
رَوَاهُ عَنهُ؟ وَهَكَذَا إِلَى آخر الْإِسْنَاد وَذَلِكَ
الْمُتَابَعَة، فَإِن لم يكن فَينْظر هَل أَتَى بِمَعْنَاهُ
حَدِيث آخر وَهُوَ الشَّاهِد، فَإِن لم يكن فَالْحَدِيث فَرد
فَلَيْسَ الِاعْتِبَار قسيما للمتابع وَالشَّاهِد بل للتوصل
كَمَا أَشَارَ المُصَنّف إِلَى ذَلِك بقوله: وَقَول ابْن
الصّلاح: معرفَة الِاعْتِبَار والمتابعات والشواهد قد يُوهم
أَن الِاعْتِبَار قسيم لَهَا، وَلَيْسَ كَذَلِك بل هُوَ
هَيْئَة التَّوَصُّل إِلَيْهِمَا.
كَذَا زَعمه المُصَنّف، ورده الشَّيْخ قَاسم: بِأَن مَا قَالَه
ابْن الصّلاح
(1/443)
صَحِيح لِأَن هَيْئَة التَّوَصُّل إِلَى
الشَّيْء غير الشَّيْء.
وَجَمِيع مَا تقدم من أَقسَام المقبول تحصل فَائِدَة تقسيمه
بِاعْتِبَار مراتبه عِنْد الْمُعَارضَة.
قَالَ المُصَنّف (فِي تَقْرِيره) : يَعْنِي إِذا تعَارض حديثان
صَحِيح لذاته وصحيح لغيره، أَو حسن لذاته وَحسن لغيره، قدم
الَّذِي لذاته على الَّذِي لغيره.
كَذَا قَرَّرَهُ الْمُؤلف وَتعقبه الشَّيْخ قَاسم: بِأَنَّهُم
لم يراعوا فِي ترجيحاتهم هَذَا الِاعْتِبَار، وَيعرف هَذَا من
صَنِيع الْبَيْهَقِيّ فِي " الخلافيات " وَالْغَزالِيّ فِي
كِتَابه " تَحْسِين المأخذ " وَغير ذَلِك. انْتهى.
قَالَ ابْن حبَان: وَطَرِيق الِاعْتِبَار أَن يروي / حَمَّاد
مثلا حَدِيثا لم يُتَابع عَلَيْهِ، عَن أَيُّوب عَن ابْن
سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة عَن الْمُصْطَفى،
(1/444)
فَينْظر هَل رَوَاهُ ثِقَة غير أَيُّوب عَن
ابْن سِيرِين فَإِن وجد علم أَن لَهُ أصلا يرجع إِلَيْهِ،
وَإِلَّا فثقه غير ابْن سِيرِين رَوَاهُ عَن أبي هُرَيْرَة،
وَإِلَّا فصحابي غير أبي هُرَيْرَة رَوَاهُ عَن الْمُصْطَفى
فَأَي ذَلِك وجد علم أَن للْحَدِيث أصلا وَإِلَّا فَلَا.
قَالَ الْحَافِظ الْعِرَاقِيّ: فمثال مَا عدمت فِيهِ المتابعات
من وَجه يثبت مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من طَرِيق حَمَّاد بن
سَلمَة عَن أَيُّوب عَن ابْن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة رَفعه
إِلَى الْمُصْطَفى: " أحبب حَبِيبك هونا
(1/445)
مَا " ... قَالَ التِّرْمِذِيّ: غَرِيب لَا
نعرفه بِهَذَا الْإِسْنَاد إِلَّا من هَذَا الْوَجْه.
أَي من وَجه يثبت، وَإِلَّا فقد رَوَاهُ الْحسن بن دِينَار عَن
أبن سِيرِين، وَالْحسن مَتْرُوك الحَدِيث لَا يصلح للمتابعات.
ثمَّ المقبول يَنْقَسِم - أَيْضا - إِلَى مَعْمُول بِهِ، وَغير
مَعْمُول بِهِ، لِأَنَّهُ إِن سلم من الْمُعَارضَة - أَي لم
يَأْتِ خبر يضاده فَهُوَ الْمُحكم. بِفَتْح الْكَاف، من أحكمت
الشَّيْء: أتقنته. كَذَا عبر المُصَنّف.
وَتعقبه الشَّيْخ قَاسم: بِأَن الْمُعَارضَة مصدر، وَالْخَبَر
الَّذِي يضاده اسْم فَاعل، وَلَا حَامِل على هَذَا
الِاسْتِعْمَال مَعَ تيَسّر اسْتِعْمَال الْحَقِيقَة. انْتهى.
وَاعْلَم أَن هَذَا زَاده الْمُؤلف فِي الْأَنْوَاع على
الْمُتَأَخِّرين آخِذا من كَلَام الْحَاكِم.
(1/446)
وأمثلته كَثِيرَة مِنْهَا حَدِيث: " إِن
أَشد النَّاس عذَابا يَوْم / الْقِيَامَة الَّذين يشبهون بِخلق
الله "، وَحَدِيث: " لَا يقبل الله صَلَاة بِغَيْر طهُور وَلَا
صَدَقَة من غلُول ". وَحَدِيث: " إِذا وضع الْعشَاء وأقيمت
الصَّلَاة ... إِلَى آخِره ".
(1/447)
وَهَذَا النَّوْع قد صنف فِيهِ الدَّارمِيّ
كتابا حافلاً وَإِن عورض بِخَبَر يضاده، بِأَن تنَافِي
الدليلان - أَي ظَاهر - إِذْ لَو وَقع حَقِيقَة لم يكن دَفعه.
فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون معارضه مَقْبُولًا مثله (أَو
يكون مردوداً) مثله.
بِأَن يكون الحديثان ظنيان دلَالَة، مستويان فِي الْقُوَّة،
بِأَن نافى كل مِنْهُمَا الآخر كلياً أَو جزئياً، سَوَاء
كَانَا بِاعْتِبَار السَّنَد قطعيين، أَو ظنيين، أَو
مُخْتَلفين.
وَأما مَا نَقله الْكَمَال بن أبي شرِيف عَن تَقْرِير الْمُؤلف
أَنه قَالَ: المُرَاد أصل الْقبُول لَا التَّسَاوِي فِيهِ،
حَتَّى لَا يكون الْقوي نَاسِخا للأقوى، بل لَا يكون الْحسن
نَاسِخا للصحيح المقبول، وَاعْتِبَار التَّرْجِيح يدل على
هَذَا لِأَنَّهُمَا لَو كَانَا متساويين لم يتأت التَّرْجِيح.
(1/448)
وَتعقبه الشَّيْخ قَاسم: بِأَن هَذَا
مُخَالف لما تقدم من قَوْله تحصل فَائِدَة تقسيمه بِاعْتِبَار
مراتبه عِنْد الْمُعَارضَة قَالَ: فَإِن قَالَ قَائِل هَذَا
أَمر وَقع فِي أثْنَاء التَّقْرِير فَلَا يبْحَث فِيهِ؟ .
قُلْنَا: فَقَوله لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون معارضه
مَقْبُولًا مثله أَو يكون مردوداً تَقْسِيم غير حاصر،
لِأَنَّهُ جَائِز أَن يكون معارضه دونه فِي الْقبُول وَلَيْسَ
بمردود. انْتهى.
وَهَذَا كُله فِي / الْقَوْلَيْنِ، أما الفعليان فَلَا
يتعارضان كَمَا فِي " الْمُخْتَصر " و " الْمِنْهَاج "،
والقولي والفعلي فِي تعارضهما خلاف وتفصيل فِي المطولات.
(1/449)
فَالثَّانِي لَا أثر لَهُ لِأَن الْقوي لَا
تُؤثر فِيهِ مُخَالفَة الضَّعِيف.
فَيجوز نسخ الْآحَاد المقبولة بالآحاد المقبولة وبالمتواتر،
وَلَا يجوز نسخ الْمُتَوَاتر بالآحاد وَإِن كَانَت فِي أَعلَى
دَرَجَات الْقبُول وَإِنَّمَا ينسخه مثله.
وَإِن كَانَت الْمُعَارضَة بِمثلِهِ وَكَانَا عَاميْنِ مستويين
فِي الْعُمُوم بِأَن يصدق كل مهما على مَا يصدق عَلَيْهِ
الآخر، وَكَذَا إِن كَانَا خاصين فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن
يُمكن الْجمع بَين مدلوليهما بِغَيْر (تعسف أَو لَا، فَإِن
أمكن الْجمع بَينهمَا) بِأَن تحمل كل مِنْهُمَا على حَال
مُغَاير لما حمل عَلَيْهِ الآخر لَا مَانع شرعا من الْحمل
عَلَيْهِ فَيجب الْجمع عِنْد الْإِمْكَان، وَإِن أمكن
التَّرْجِيح بِأَن وجد مُرَجّح أَحدهمَا على الآخر فَعلم أَنه
إِذا أمكن كل من الْجمع وَالتَّرْجِيح
(1/450)
قدم الْجمع وَهُوَ الْأَصَح، لِأَن فِيهِ
عملا بهما مَعًا فَهُوَ النَّوْع الْمُسَمّى مُخْتَلف
الحَدِيث. قَوْله فَهُوَ متن وَقَوله النَّوْع الْمُسَمّى شرح
وَقَوله مُخْتَلف الحَدِيث متن فقد تغير إِعْرَاب مُخْتَلف
الَّذِي هُوَ من الْمَتْن شرح مَا ذكر، لِأَنَّهُ كَانَ
مَرْفُوعا فَصَارَ مَنْصُوبًا فَلَو قَالَ: فَهُوَ النَّوْع
الَّذِي يُقَال لَهُ مُخْتَلف الحَدِيث كَانَ أولى وَخرج بقوله
بِغَيْر تعسف مَا لَو لم يكن إِلَّا بتعسف / فَإِنَّهُ ينْتَقل
إِلَى مَا بعد ذَلِك من الْمَرَاتِب، لِأَن مَا كَانَ بتعسف
فللخصم أَن يردهُ وينتقل إِلَى مَا بعْدهَا. كَذَا قَالَه
الْمُؤلف، وَالظَّاهِر خِلَافه فقد أطلق فِي " جمع الْجَوَامِع
" وَأقرهُ شَارِحه الْمُحَقق: إِن الْعَمَل بالمتعارضين وَلَو
من وَجه أولى من إِلْغَاء أَحدهمَا وَلم يشْتَرط ذَلِك.
(1/451)
وَمثل لَهُ جمع بِحَدِيث التِّرْمِذِيّ
وَغَيره: " أَيّمَا إهَاب دبغ فقد طهر " مَعَ حَدِيث أبي
دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَغَيرهمَا: " لَا تنتفعوا من
(1/452)
الْميتَة بإهاب وَلَا عصب ". الشَّامِل
للإهاب المدبوغ وَغَيره حملناه على غَيره جمعا بَين
الدَّلِيلَيْنِ.
وَمثل لَهُ آخَرُونَ بِحَدِيث: " إِذا بلغ المَاء قُلَّتَيْنِ
لم يحمل الْخبث " وَحَدِيث:
(1/453)
" خلق الله المَاء طهُورا لَا يُنجسهُ
شَيْء إِلَّا مَا غلب على طعمه أَو لَونه أَو رِيحه ".
(1/454)
فَإِن الأول ظَاهره طَهَارَة الْقلَّتَيْنِ
تغير أم لَا، وَالثَّانِي ظَاهره طَهَارَة غير الْمُتَغَيّر
هبه قُلَّتَيْنِ أم أقل، فَخص عُمُوم كل مِنْهُمَا بِالْآخرِ.
وَمثل لَهُ آخَرُونَ - أَيْضا - بِخَبَر " شَرّ الشُّهُود من
شهد قبل أَن يستشهد "
(1/455)
وَخبر " خير الشُّهُود من شهد قبل أَن
يستشهد " فَحمل الأول على غير شَهَادَة الحسية وَالثَّانِي
عَلَيْهَا، أَو يحمل الأول على مَا لَو كَانَ من لَهُ
الشَّهَادَة عَالما بهَا وَالثَّانِي على خِلَافه.
وَمثل لَهُ آخَرُونَ - أَيْضا - بِخَبَر الشَّيْخَيْنِ أَن
الْمُصْطَفى
(1/456)
تَوَضَّأ وَغسل رجلَيْهِ وَخبر
الْبَيْهَقِيّ - وَغَيره - تَوَضَّأ ورش المَاء على قَدَمَيْهِ
وهما فِي النَّعْلَيْنِ، وكل من الْغسْل والرش خَاص، فَجمع
بَينهمَا بِأَنَّهُ سمى الْغسْل رشا مجَازًا، أَو أَرَادَ
بِالْوضُوءِ / فِي خبر الْغسْل الْوضُوء الشَّرْعِيّ وَفِي خبر
الرش الْوضُوء اللّغَوِيّ، أَو أَن الْغسْل فِي الْوضُوء عَن
(1/457)
حدث والرش فِي الْوضُوء المجدد فَيكون
إِطْلَاق الْوضُوء عَلَيْهِ مجَازًا شَرْعِيًّا إِن كَانَ الرش
على حَقِيقَته لعدم الِاكْتِفَاء بِهِ فِي المجدد كَغَيْرِهِ،
فَإِن أُرِيد بِهِ الْغسْل الْخَفِيف الْمُنَاسب للتجديد
فحقيقه، أَو المُرَاد الْمسْح على الْخُفَّيْنِ بِقَرِينَة ذكر
النَّعْلَيْنِ.
مثل لَهُ ابْن الصّلاح بِحَدِيث " لَا عدوى وَلَا طيرة " مَعَ
حَدِيث " فر من المجذوم فرارك من الْأسد " وَكِلَاهُمَا فِي
الصَّحِيح، وظاهرهما
(1/458)
التَّعَارُض، وَوجه الْجمع بَينهمَا: أَن
هَذِه الْأَمْرَاض لَا تعدِي بطبعها لَكِن الله سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى جعل مُخَالطَة الْمَرِيض بهَا للصحيح سَببا لإعدائه
مَرضه، وَقد يتَخَلَّف ذَلِك عَن سَببه كَمَا فِي غَيره من
الْأَسْبَاب.
وَقد لَا يتَخَلَّف، كَذَا جمع بَينهمَا ابْن الصّلاح تبعا
لغيره. بل نَص عَلَيْهِ الإِمَام الشَّافِعِي - رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ - كَمَا أَفَادَهُ الْمُؤلف فِي غير هَذَا
الْكتاب وَالْأولَى فِي الْجمع أَن يُقَال: أَن نَفْيه للعدوى
بَاقٍ على عُمُومه، وَقد صَحَّ قَوْله: لَا يعدي شَيْء شَيْئا
وَقَوله لمن عَارضه بِأَن الْبَعِير الأجرب يكون فِي الْإِبِل
الصَّحِيحَة فيخالطها فتجرب حَيْثُ رد عَلَيْهِ بقوله فَمن
أعدى الأول يَعْنِي أَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ابْتَدَأَ
ذَلِك فِي الثَّانِي كَمَا ابتدأه فِي الأول. وَأما الْأَمر
بالفرار
(1/459)
من / المجذوم فَمن بَاب سد الذرائع
لِئَلَّا يتَّفق للشَّخْص الَّذِي يخالطه شَيْء من ذَلِك
بِتَقْدِير الله تَعَالَى ابْتِدَاء لَا بالعدوى المنفية فيظن
أَن ذَلِك بِسَبَب مخالطته فيعتقد صِحَة الْعَدْوى فَيَقَع فِي
الْحَرج فَأمر بتجنبه حسماً للمادة. وَالله تَعَالَى أعلم.
وَاعْترض: بِأَن القَوْل لسد الذرائع إِنَّمَا هُوَ مَذْهَب
الْمَالِكِيَّة.
وَأجِيب - أَيْضا - (عَن التَّعَارُض) : بِأَن إِثْبَات
الْعَدْوى فِي نَحْو الجذام مَخْصُوص من عُمُوم نفي الْعَدْوى،
فَيكون معنى قَوْله لَا عدوى أَي إِلَّا من الجذام وَنَحْوه،
فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا يعدي شَيْء شَيْئا إِلَّا فِيمَا تقدم
بَيَان أَنه يعدي.
وَمِمَّا أُجِيب بِهِ - أَيْضا: أَن الْأَمر بالفرار رِعَايَة
لخاطر المجذوم لِأَنَّهُ إِذا رأى الصَّحِيح تعظم مصيبته،
وتزيد حسرته، وَيُؤَيِّدهُ حَدِيث: " لَا تدم النّظر
(1/460)
إِلَى المجذوم " فَإِنَّهُ مَحْمُول على
هَذَا الْمَعْنى.
قَالَ البقاعي: وَإِنَّمَا اخْتَار الْمُؤلف الْجَواب
الثَّانِي لِأَن الإِمَام الشَّافِعِي - رَضِي الله عَنهُ -
نَص على الْعَدْوى، فَقَالَ فِي " الْأُم " فِي بَاب الْخِيَار
بعد أَن ذكر أثرا عَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - (فِي
الْخِيَار) بالجنون والجذام والبرص: فَإِن قَالَ قَائِل: هَل
من عِلّة جعلت لَهَا الْخِيَار غير الْأَثر؟ قيل: نعم، الجذام
والبرص فِيمَا زعم أهل الْعلم بالطب والتجارب تعدِي الزَّوْج
كثيرا، وَهُوَ
(1/461)
دَاء مَانع الْجِمَاع لَا تكَاد نفس أحد
تطيب بِأَنَّهُ يُجَامع من هُوَ بِهِ، وَلَا نفس امْرَأَة أَن
يُجَامِعهَا من هُوَ بِهِ.
فَأَما الْوَلَد فَبين - وَالله أعلم - أَنه إِذا وَلَده
أَجْذم أَو أبرص، أَو جذماً أَو برصاً / قَلما يسلم مِنْهُ،
وَإِن سلم أدْرك نَسْله - نسْأَل الله تبَارك وَتَعَالَى
الْعَافِيَة - وَالنَّفْي بِلَا يعدي شَيْء شَيْئا وَارِد على
مَا كَانُوا يعتقدونه من أَن المخالطة تعدِي بطبعها من غير فعل
الله تَعَالَى، وَكَذَا قَوْله فَمن أعدى الأول وَنَحْو ذَلِك
كُله إِثْبَات لفعل الله، وَنفى أَن يكون لغيره تَأْثِير
مُسْتَقل هَذَا هُوَ المُرَاد، وَلم يرد نفي مَا أثبتته
التجربة الَّتِي هِيَ إِحْدَى اليقينيات، هَذَا هُوَ
الْأَلْيَق بمحاسن الشَّرِيعَة أَن لَا يحمل شَيْء مِنْهَا على
مَا يصادم يَقِينا محسوساً، فَإِن مثل ذَلِك لَو وَقع لم يعْدم
أَن يكون سَببا لوُقُوع شكّ من النَّاس.
(وَلَا ضَرُورَة إِلَى ذَلِك مَعَ إِمْكَان دفع الْمَحْذُور
بأسهل مِنْهُ، كَمَا أَن الْمُصْطَفى
(1/462)
عَلَيْهِ السَّلَام لم ينف أَن يكون
الدَّجَّال سَببا لظُهُور الخوارق بل أثبت ذَلِك، وَإِنَّمَا
نفى أَن يكون هُوَ فاعلها بِالْحَقِيقَةِ، وَأثبت فعلهَا لله
تَعَالَى، وَلَا حَاجَة فِي إِثْبَات اخْتِصَاص الله
بِالْقُدْرَةِ إِلَى أَكثر من ذَلِك. انْتهى) .
قَالَ النَّوَوِيّ - كَابْن الصّلاح: وَهَذَا النَّوْع من أهم
الْأَنْوَاع، ويضطر إِلَى مَعْرفَته جَمِيع طوائف الْعلمَاء،
وَإِنَّمَا يتأهل لَهُ الْأَئِمَّة الجامعون بَين الحَدِيث
وَالْفِقْه، والأصوليون، والغواصون على الْمعَانِي. اه الدقيقة
والتحقيقات الغامضة (الوشيقة) .
وَقد صنف فِي هَذَا النَّوْع (أَي فِيمَا يخصص بمختلف
الحَدِيث) الإِمَام الشَّافِعِي - رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
-، وَهُوَ أول من تكلم فِيهِ واخترعه كِتَابه اخْتِلَاف
الحَدِيث لكنه لم يقْصد استيعابه بل ذكر جملا مِنْهُ
(1/463)
فِي الْكتاب الْمَذْكُور، وَفِي " الْأُم "
وصنف بعده ابْن قُتَيْبَة والطَّحَاوِي (بِالْفَتْح
وَالتَّخْفِيف، نِسْبَة إِلَى طحا قَرْيَة بصعيد مصر كَذَا
ذكره، وَلَيْسَ هُوَ مِنْهَا بل هُوَ من طحطوط قَرْيَة بقربها
وكومعن أَن يُقَال طحطوطي صنف) كِتَابه " مُشكل الْآثَار "،
وَجمع فأوعى فِيهِ، وَشَرحه الْعَيْنِيّ فَأفَاد وأجاد
وَغَيرهمَا كَابْن خُزَيْمَة وَابْن جرير وَهُوَ من أحسن
النَّاس كلَاما فِيهِ حَيْثُ قَالَ: لَا أعرف حديثين متعارضين
أصلا.
معرفَة النَّاسِخ والمنسوخ
وَإِن لم / يُمكن الْجمع بَينهمَا، كَذَا عبر الْمُؤلف،
وَعبارَة جمع الْجَوَامِع: فَإِن تعذر الْعَمَل بالمتعارضين
أصلا. وَقَوله أصلا: فِيهِ إِشَارَة إِلَى رد مَا تقدم عَن
المُصَنّف أَن الْجمع بتعسف لَا أثر لَهُ.
(1/464)
فَلَا يَخْلُو: إِمَّا أَن يعرف التَّارِيخ
أَو لَا، فَإِن عرف التَّارِيخ وَلم ينس، وَكَانَ الحكم قَابلا
للنسخ - أما مَا لَا يقبله كصفات الْبَارِي - فَإِن كَانَ
أَحدهمَا قَطْعِيا وَالْآخر ظنياً قدم الْقطعِي، أَو ظنيين طلب
التَّرْجِيح، فَإِن تعذر لم يبعد التَّخْيِير.
وَثَبت الْمُتَأَخر بِهِ أَو بأصرح مِنْهُ كَذَا وَقع
للْمُصَنف، وَاعْتَرضهُ البقاعي - وَغَيره -: بِأَن عِبَارَته
تفهمك أَن الْمُتَأَخر لَا يثبت بِمثلِهِ وَلَا بمقبول دونه
وَلَيْسَ كَذَلِك، فَلَو قَالَ: بِهِ أَو بمقبول غَيره لسلم من
ذَلِك.
فَهُوَ النَّاسِخ وَالْآخر الْمَنْسُوخ وَإِن نقل الْمُتَقَدّم
بالتواتر والمتأخر بالآحاد على الْأَصَح، فَيجب الْعَمَل بِهِ
لِأَن دَوَامه بِأَن لَا لَا يُعَارض مظنون، ولبعضهم احْتِمَال
بِالْمَنْعِ لِأَن الْجَوَاز يُؤَدِّي إِلَى إِسْقَاط
الْمُتَوَاتر بالآحاد فِي بعض الصُّور.
وَقد ألف فِي النَّاسِخ والمنسوخ فِي الْأَحَادِيث
النَّبَوِيَّة جمَاعَة من أَئِمَّة الحَدِيث: كالزهري، والحافظ
أبي الْفرج ابْن الْجَوْزِيّ، والحافظ أبي بكر بن
(1/465)
مُحَمَّد الْحَازِمِي، ثمَّ جَاءَ بعدهمْ
الْبُرْهَان الجعبري فألف فِي ذَلِك تأليفاً حافلاً لم يسْبق
إِلَيْهِ.
تَعْرِيف النّسخ لُغَة وَشرعا:
والنسخ لُغَة: الْإِزَالَة، أَي الإعدام لذات الشَّيْء أَو
صفته، وَإِن كَانَ مزيل الثَّانِي صفة - أَيْضا - كَقَوْلِهِم
/: نسخت الشَّمْس الظل إِذا أزالته ورفعته بِوَاسِطَة انبساط
ضوئها على مَحل الظل.
وَشرعا: رفع تعلق حكم أَي تعلقه بالمكلفين شَرْعِي بِدَلِيل
شَرْعِي مَنْطُوق أَي مَفْهُوم قولي أَو فعلي مُتَأَخّر عَنهُ.
وَنظر الْبَيْضَاوِيّ فِي هَذَا التَّعْرِيف بِأَن الْحَادِث
ضد السَّابِق، وَلَيْسَ رفع الْحَادِث للسابق بِأولى من رفع
(1/466)
السَّابِق للحادث، وَهَذَا أحد الْوُجُوه
الَّتِي رد القَاضِي بهَا هَذَا التَّعْرِيف، وَإِنَّمَا كَانَ
النّسخ رفع تعلق الحكم لَا نَفسه، لِأَن الحكم قديم فَلَا
يرفع، وَالْمَرْفُوع تعلقه التنجيزي وَهُوَ حَادث لَا قديم.
والناسخ يَعْنِي الَّذِي يُسمى هُنَا نَاسِخا مَا دلّ على
الرّفْع للْحكم الْمَذْكُور وتسميته نَاسِخا مجَاز لِأَن
النَّاسِخ فِي الْحَقِيقَة هُوَ الله تَعَالَى.
وَالْمرَاد بِرَفْع الحكم قطع تعلقه عَن الْمُكَلّفين،
وَاحْترز بِهِ عَن بَيَان الْمحل، وبإضافته إِلَى الشَّارِع
عَن أَخْبَار بعض من شَاهد النّسخ من الصَّحَابَة فَإِنَّهُ
لَا يكون نسخا، وَإِن لم يحصل التَّكْلِيف بِهِ لمن لم يبلغهُ
قبل ذَلِك إِلَّا بإخباره. وبالحكم عَن رفع الْإِبَاحَة
الْأَصْلِيَّة فَإِنَّهُ لَا يُسمى نسخا، وبالمتقدم عَن
التَّخْصِيص الْمُتَّصِل بالتكليف كالاستثناء وَالشّرط
وَنَحْوهمَا فَإِنَّهُ لَا يكون
(1/467)
بدلالته على رفع الحكم فِي بعض الْأَحْوَال
نَاسِخا، وَعلم بِهَذَا أَن الْمُتَّصِل لَا يكون نَاسِخا.
الطّرق الَّتِي يعرف بهَا النَّاسِخ من الْمَنْسُوخ:
وَيعرف النّسخ بِأُمُور: أصرحهَا مَا ورد فِي النَّص كَحَدِيث
بُرَيْدَة فِي مُسلم: " كنت / نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة
الْقُبُور أَلا فزوروها فَإِنَّهَا تذكر الْآخِرَة وَكنت
نَهَيْتُكُمْ عَن لُحُوم الْأَضَاحِي فَوق ثَلَاث فَكُلُوا مَا
بدا لكم وَكنت نَهَيْتُكُمْ عَن الظروف ... ... ... الحَدِيث.
(1/468)
وَمِنْهَا: مَا يجْزم الصَّحَابِيّ
بِأَنَّهُ مُتَأَخّر كَقَوْل جَابر آخر الْأَمريْنِ من رَسُول
الله ترك الْوضُوء من مَا مسته النَّار أخرجه أَصْحَاب السّنَن
الْأَرْبَعَة، وَصَححهُ ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان.
(1/469)
وكحديث أبي بن كَعْب: كَانَ الْمسْح رخصَة
فِي أول الْإِسْلَام ثمَّ أَمر بِالْغسْلِ. رَوَاهُ أَبُو
دَاوُد وَغَيره. وَقَول عَليّ: قَامَ رَسُول الله للجنازة ثمَّ
قعد. رَوَاهُ مُسلم، وَرَوَاهُ ابْن حبَان بِلَفْظ: كَانَ
يَأْمُرنَا بِالْقيامِ فِي الْجَنَائِز ثمَّ جلس، وأمرنا
بِالْجُلُوسِ.
وَاخْتلف فِي قَول الصَّحَابِيّ: هَذَا نَاسخ لذاك فَقَالَ
الأصوليون: لَا يثبت بِهِ النّسخ لجَوَاز أَن يكون قَوْله
ذَلِك عَن رَأْي واجتهاد. وَقَالَ المحدثون: يثبت، لِأَن
النّسخ لَا مدْخل للرأي فِيهِ بل لمعْرِفَة السَّابِق
مِنْهُمَا، وَالظَّاهِر من حَال
(1/470)
الصَّحَابِيّ أَنه لَا يَقُول ذَلِك إِلَّا
بعد الْمعرفَة بِهِ.
وَمِنْهَا: مَا يعرف بالتاريخ وَهُوَ كثير كَصَلَاة
الْمُصْطَفى فِي مرض مَوته قَاعِدا وَالنَّاس حوله قيام، وَقد
قَالَ قبل ذَلِك: " وَإِذا صلى جَالِسا فصلوا جُلُوسًا
أَجْمَعِينَ ".
وكحديث شَدَّاد بن أَوْس مَرْفُوعا: " أفرط الحاجم والمحجوم "
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره، ذكر الإِمَام / الشَّافِعِي
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه مَنْسُوخ بِحَدِيث
(1/471)
مُسلم عَن ابْن عَبَّاس أَن الْمُصْطَفى
احْتجم وَهُوَ محرم صَائِم، فَإِن ابْن عَبَّاس صَحبه محرما
فِي حجَّة الْوَدَاع سنة عشر، وَفِي بعض حَدِيث شَدَّاد أَن
ذَلِك كَانَ سنة ثَمَان.
وَلَيْسَ مِنْهَا: مَا يرويهِ الصَّحَابِيّ الْمُتَأَخر
الْإِسْلَام مُعَارضا لمتقدم عَنهُ، لاحْتِمَال أَن يكون سَمعه
من صَحَابِيّ آخر أقدم من الْمُتَقَدّم الْمَذْكُور أَو مثله
فَأرْسلهُ.
كَذَا ذكره الْمُؤلف، قَالَ: وَإِنَّمَا قلته لِأَن
الْمُصْطَفى قَالَ لَيْلَة الْعقبَة أَن المصائب للذنوب
كَفَّارَة لأَهْلهَا فَمن أصَاب من ذَلِك شَيْئا
(1/472)
فَعُوقِبَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَة لَهُ.
وروى أَبُو هُرَيْرَة وَهُوَ مُتَأَخّر الْإِسْلَام عَن
لَيْلَة الْعقبَة بِنَحْوِ سبع سِنِين أَن الْمُصْطَفى قَالَ:
" لَا أَدْرِي الْحُدُود كَفَّارَة لأَهْلهَا أَو لَا ".
وَهَذَا خبر لَا يجوز النّسخ فِيهِ.
(1/473)
لَكِن إِن وَقع التَّصْرِيح بِسَمَاعِهِ
لَهُ من النَّبِي فَيتَّجه أَن يكون نَاسِخا، بِشَرْط أَن يكون
لم يتَحَمَّل عَن النَّبِي شَيْئا قبل إِسْلَامه.
كَذَا بَحثه المُصَنّف، قَالَ الْكَمَال بن أبي شرِيف:
وَيشْتَرط - أَيْضا - أَن يكون مُتَقَدم الْإِسْلَام سمع
الحَدِيث الْمعَارض قبل سَماع مُتَأَخّر الْإِسْلَام، بِأَن
يعلم ذَلِك بِنَقْل أَو قرينَة.
قَالَ البقاعي: وَلَا بُد من الِاحْتِرَاز عَن هَذَا، لِأَن
الْمُتَقَدّم الصُّحْبَة يحْتَمل أَن يسمع حَدِيثا بعد مَا
سَمعه فِيهَا الْمُتَأَخر.
(1/474)
وَأما / الْإِجْمَاع فَلَيْسَ بناسخ
كالإجماع على ترك حَدِيث قتل شَارِب الْخمر فِي الرَّابِعَة.
بل يدل على ذَلِك أَي يدل على النَّاسِخ، وَالْإِجْمَاع لَا
ينْسَخ وَلَا ينْسَخ، إِلَّا أَنه قد ثَبت كَونه نَاسِخا كنسخ
نِكَاح الْمُتْعَة فَإِنَّهُ ثَبت بِإِجْمَاع الصَّحَابَة،
إِذْ لَا إِجْمَاع فِي حَيَاة الْمُصْطَفى لِأَنَّهُ
(1/475)
مُنْفَرد بِبَيَان الشَّرَائِع وَلَا
ينْسَخ بعده.
وَإِن لم يعرف التَّارِيخ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يُمكن
تَرْجِيح أَحدهمَا على الآخر بِوَجْه من وُجُوه التَّرْجِيح
الْمُتَعَلّقَة بِالْمَتْنِ أَو بِالْإِسْنَادِ، أَولا، فَإِن
أمكن التَّرْجِيح تعين الْمصير إِلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا.
قَالَ الشَّيْخ قَاسم: قد يُقَال هَذَا لَا معنى لَهُ لِأَن
ركن الْمُعَارضَة تَسَاوِي الحجتين فِي الثُّبُوت، فَإِذا
كَانَ أحد السندين أرجح لم يتَحَقَّق الْمُعَارضَة.
فَصَارَ مَا ظَاهره التَّعَارُض وَاقعا على هَذَا التَّرْتِيب:
الْجمع إِن أمكن، فاعتبار النَّاسِخ والمنسوخ، فالترجيح.
وَهُوَ تَقْوِيَة أحد الطَّرفَيْنِ إِن تعين عبارَة غَيره: إِن
أمكن.
قَالَ ابْن قطلوبغا: وَقَوله فَصَارَ ... ... ... ... إِلَى
آخِره
(1/476)
مُقْتَضى النّظر طلب التَّارِيخ أَولا ...
... ... ... ... لتنتفي الْمُعَارضَة إِن وجدت وَإِلَّا
فَيتَحَقَّق للْجَهْل بالتاريخ. اه وَمن أَمْثِلَة التَّرْجِيح
حَدِيث ابْن عَبَّاس أَن الْمُصْطَفى نكح مَيْمُونَة وَهُوَ
محرم.
رَوَاهُ الشَّيْخَانِ. وروى التِّرْمِذِيّ عَن أبي رَافع أَنه
نَكَحَهَا وَهُوَ حَلَال قَالَ: وَكنت الرَّسُول بَينهمَا /
فرجح بِكَوْن رَاوِيه صَاحب الْوَاقِعَة فَهُوَ أدرى بذلك.
(1/477)
والمرجحات كَثِيرَة، بلغَهَا الْحَازِمِي
فِي كتاب " الاعتناء فِي النَّاسِخ والمنسوخ " نَحْو الْخمسين،
وأوصلها غَيره إِلَى أَكثر من مائَة واستوفاها الْحَافِظ
الْعِرَاقِيّ فِي نكته فَمِنْهَا:
1 - علو الْإِسْنَاد.
2 - وَفقه الرَّاوِي.
3 - ولقيه وَنَحْوه.
4 - وَكَونه مزكى بالاختبار لَا بالأخبار.
5 - (وورعه.
6 - وَضَبطه وَحفظه ويقظته.
7 - وَعدم بدعته.
8 - وشهرة عَدَالَته) .
(1/478)
9 - أَو أَكثر مزكين.
10 - ومعروف النّسَب.
11 - وَحفظ الْمَرْوِيّ.
12 - والتعويل على الْحِفْظ دون الْكِتَابَة.
13 - وَظُهُور طَرِيق رِوَايَته.
14 - وسماعه من غير حجاب.
15 - وَكَونه من أكَابِر الصَّحَابَة.
16 - وذكرا خلافًا للإسناد.
17 - ومتأخر الْإِسْلَام.
18 - وَقيل متقدمه.
19 - وَكَونه متحملاً بعد التَّكْلِيف.
20 - وَغير مُدَلّس.
21 - وَغير ذِي اسْمَيْنِ.
22 - ومباشر الرِّوَايَة.
23 - وَصَاحب الْوَاقِعَة.
24 - وراويا بِاللَّفْظِ.
25 - وَكَون الْخَبَر لم يُنكره رَاوِي الأَصْل.
26 - وَغير ذَلِك.
(1/479)
ثمَّ التَّوَقُّف عَن الْعَمَل
بِأَحَدِهِمَا وجوبا إِلَى تبين التَّارِيخ ليعلم بالمتأخر
مِنْهُمَا، (لِاسْتِوَائِهِمَا فِي احْتِمَال تَقْدِيم كل
مِنْهُمَا على الآخر) ، فَإِن لم يعلم أَو علم وَنسي حمل على
الْمُقَارنَة فيستمر الْوَقْف مَعَ أَنه فِي الْوَاقِع
أَحدهمَا مَنْسُوخ، لَكِن اشْتِبَاه الْحَال يَقْتَضِي
الْوَقْف لِئَلَّا يلْزم التَّرْجِيح بِلَا مُرَجّح، وَذَلِكَ
كَحَدِيث أبي دَاوُد قَالُوا يَا رَسُول الله: مَا يحل من
الْحَائِض؟ فَقَالَ: مَا فَوق الْإِزَار.
وَحَدِيث مُسلم " اصنعوا كل شَيْء إِلَّا النِّكَاح " يَعْنِي
الوطىء، بِقَرِينَة
(1/480)
اصنعوا وَمن جملَته الوطىء فِيمَا فَوق /
الحايل فيتعارضا فِيهِ، فرجح بَعضهم التَّحْرِيم احْتِيَاطًا،
وَالْبَعْض الْحل لِأَنَّهُ الأَصْل. وَالتَّعْبِير بالتوقف
أولى بالتساقط (الَّذِي عبر السُّبْكِيّ) وَغَيره لِأَن خَفَاء
تَرْجِيح أَحدهمَا على الآخر إِنَّمَا هُوَ بِالنّسَبِ
للمعتبر. فِي الْحَالة الراهنة مَعَ احْتِمَال أَن يظْهر لغيره
أَو لَهُ فِي حَالَة أُخْرَى مَا خَفِي عَلَيْهِ وَهَذَا ظَاهر
وَإِن نوزع بِمَا لَا يجدي.
(1/481)
|