اليواقيت والدرر في شرح نخبة ابن حجر

شرح غَرِيب الحَدِيث

وَلما ذكر جَوَاز تَغْيِيره الْمَتْن بالمرادف أرشد إِلَى بَيَان مَا يكْشف ذَلِك مِنْهُ وَهُوَ شرح الْغَرِيب فَقَالَ: فَإِن خَفِي الْمَعْنى المُرَاد من الحَدِيث بِأَن كَانَ اللَّفْظ مُسْتَعْملا بقلة. أَي قَلِيل / الِاسْتِعْمَال احْتِيجَ إِلَى الْكتب المصنفة فِي شرح الْغَرِيب.
وَهُوَ فن مُهِمّ يقبح جَهله بِأَهْل الحَدِيث، والخوض فِيهِ صَعب، حقيق بِالتَّحَرِّي، جدير بالتوقي، فليحذر خائضه وليتق الله ربه أَن يقدم على تَفْسِير كَلَام نبيه عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام رجما بِالظَّنِّ إِن بعض الظَّن إِثْم. وَكَانَ السّلف يتثبتون فِيهِ اشد التثبت، ويتحرون فِيهِ أعظم التَّحَرِّي، وَلِهَذَا لما سُئِلَ أَحْمد - رَضِي الله عَنهُ - عَن حرف مِنْهُ قَالَ: سلوا أهل الْغَرِيب، فَإِنِّي أكره أَن أَتكَلّم فِي الحَدِيث بِالظَّنِّ. وَسُئِلَ الْأَصْمَعِي عَن معنى حَدِيث الْجَار أَحَق بسقبه؟ فَقَالَ: أَنا

(2/125)


لَا أفسر حَدِيث رَسُول الله، وَلَكِن الْعَرَب تزْعم أَن السقب اللزيق.
وَقد أَكْثرُوا التصنيف فِيهِ، وَقيل: إِن أول من صنف فِيهِ النَّضر بن شُمَيْل، وَقيل أَبُو عُبَيْدَة معمر بن الْمثنى، ثمَّ النَّضر، ثمَّ الْأَصْمَعِي اه.
ثمَّ كثرت التصانيف وانتشرت (ككتاب أبي عبيد بِالتَّصْغِيرِ الْقَاسِم بن سَلام

(2/126)


بشد اللَّام وَهُوَ غير مُرَتّب وَلَا مهذب وَقد رتبه الشَّيْخ موفق الدّين بن قدامَة بِالضَّمِّ من أكَابِر الْحَنَابِلَة والمحدثين على الْحُرُوف فسهل بذلك تنَاوله، لكنه مَعَ ذَلِك غير جَامع) وَأجْمع مِنْهُ كتاب ابي / عبيد (التصغير) الْهَرَوِيّ بِفتْحَتَيْنِ نِسْبَة إِلَى هراة مَدِينَة بخراسان الْمُسَمّى ب " الغريبين " وَقد اعتنى بِهِ الْحَافِظ الْكَبِير أَبُو مُوسَى فَنقبَ عَلَيْهِ واستدرك فِي كتاب سَمَّاهُ " الذيل ". وَألف فِيهِ - أَيْضا - ابْن قُتَيْبَة، ثمَّ الْخطابِيّ، ثمَّ عبد الغافر الْفَارِسِي كتابا سَمَّاهُ " مجمع الغرائب "،

(2/127)


ثمَّ السَّرقسْطِي كتابا سَمَّاهُ " غَرِيب الحَدِيث " وللزمخشري فِي هَذَا النَّوْع كتاب اسْمه " الْفَائِق " فِي مجلدين ضخمين حسن التَّرْتِيب بليغ الْعبارَة ثمَّ جمع الْجَمِيع أَي جَمِيع التصانيف المذكوره ابْن الْأَثِير فِي كتاب " النِّهَايَة " وَكتابه الْمَذْكُور أسهل الْكتب المذكوره تناولا وأحسنها وضعا مَعَ إعواز قَلِيل فِيهِ بل فَاتَهُ الْكثير، فذيل عَلَيْهِ الصفي الأرموي وَغَيره.
وَإِن كَانَ اللَّفْظ مُسْتَعْملا بِكَثْرَة لَكِن فِي مدلولة دقة احْتِيجَ إِلَى الْكتب المصنفة فِي شرح مَعَاني الْأَخْبَار وَبَيَان الْمُشكل فِيهَا، وَقد أَكثر

(2/128)


الْأَئِمَّة من التصانيف فِي ذَلِك كالطحاوي فألف فِيهِ كتابا حافلا والخطابي وَأَبُو عمر ابْن عبد الْبر وَابْن فورك وَغَيرهم.

(2/129)


الْجَهَالَة بالراوي

ثمَّ الْجَهَالَة بالراوي: وَهِي السَّبَب الثَّامِن فِي الطعْن كَذَا عبر الْمُؤلف - رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ - قَالَ الْكَمَال ابْن أبي شرِيف: وَكَانَ يَنْبَغِي أَن يَقُول: وَهِي الْقسم الثَّامِن من أَقسَام الطعْن.
وسببها أَمْرَانِ / أَحدهمَا: إِن الرَّاوِي قد تكْثر نعوته من أسم أَو كنية، أَو لقب، أَو صفة، أَو حرفه، أَو نسب إِلَى أَب، أَو بلد، أَو حِرْفَة فيشتهر بِشَيْء مِنْهَا فيذكر فِي سَنَد بِغَيْر مَا اشْتهر بِهِ لغَرَض من الْأَغْرَاض، فيظن أَنه آخر فَتحصل الْجَهَالَة بِحَالهِ. دون الْبَاقِي، أَو يروي عَنهُ جمع فيعرفه كل وَاحِد بِغَيْر مَا عرفه بِهِ الآخر، أَو يروي عَنهُ وَاحِد فيعرفه مرّة بِهَذَا مرّة بِذَاكَ فيلتبس على من لَا معرفَة عِنْده، بل وعَلى كثير من أهل الْمعرفَة.
وَأكْثر من يفعل ذَلِك المدلسون، وَيُسمى عِنْدهم تَدْلِيس الشُّيُوخ،

(2/130)


وَهُوَ فن غويص جدا تمس الْحَاجة إِلَيْهِ، فَإِن كَانَ الْغَرَض إخفاء ضعفه لكَونه لَو سمي عرف حَاله كَانَ ذَلِك قادحا فِي فَاعله، لِأَن فِيهِ إخراجا لذَلِك الرَّاوِي من حيّز الْقطع وتطرحه لكَونه متروكا والتسامح بقبوله لصيرورته مَجْهُولا وأقبح من ذَلِك أَن يكنى الضَّعِيف بكنية الثِّقَة الْمُسَمّى باسمه.
وصنفوا فِيهِ - أَي فِي هَذَا النَّوْع - الموضح لَا وهام الْجمع والتفريق وأجاد فِيهِ الْخَطِيب، وَسَبقه إِلَيْهِ عبد الْغَنِيّ وَهُوَ ابْن سعيد الْأَزْدِيّ ثمَّ الْمصْرِيّ، صنف كتابا نَافِعًا سَمَّاهُ " إِيضَاح الْإِشْكَال " ثمَّ الصُّورِي وَهُوَ تلميذ عبد الْغَنِيّ وَشَيخ الْخَطِيب.
وَمن أمثلته مُحَمَّد بن السَّائِب بن بشر الْكَلْبِيّ الْمُفَسّر الْعَلامَة فِي

(2/131)


/ الْأَنْسَاب، أحد الضُّعَفَاء، وراوي حَدِيث ذَكَاة كل مسك دباغة نسبه بَعضهم وَهُوَ أَبُو أُسَامَة حَمَّاد بنم أُسَامَة إِلَى جده فَقَالَ: مُحَمَّد بن بشر، وَسَماهُ بَعضهم: حَمَّاد بن السَّائِب، وكناه بَعضهم وَهُوَ مُحَمَّد ابْن إِسْحَاق أَبَا النَّضر، وَبَعْضهمْ وَهُوَ عَطِيَّة الْعَوْفِيّ أَبَا سعيد وَلم يذكرُوا اسْمه لتوهم النَّاس أَنه إِنَّمَا روى عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ الصَّحَابِيّ (وَبَعْضهمْ: أَبَا هِشَام. فَهَذَا يظنّ أَنه جمَاعَة وَهُوَ وَاحِد) وَمن لَا يعرف (حَقِيقَة الْأَمر فِيهِ) وَهُوَ أَن هَذِه مسميات لمسمى وَاحِد لَا

(2/132)


يعرف شَيْئا من ذَلِك.
وَمثل ذَلِك سَالم الرَّاوِي عَن أبي هُرَيْرَة وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ وَعُثْمَان وَعَائِشَة وَسعد بن أبي وَقاص. هُوَ سَالم أَبُو عبد الله الْمدنِي، وَسَالم مولى مَالك بن أَوْس، وَسَالم مولى شَدَّاد بن الْهَاد، وَسَالم مولى دوس، وَسَالم مولى الْمهرِي، وَأَبُو عبد الله مولى شَدَّاد.
وَمثله مُحَمَّد بن قيس الشَّامي المصلوب الوضاع دلّس اسْمه على خمسين وَجها، بل يُقَال: مائَة.
وَاسْتعْمل الْخَطِيب شَيْئا كثيرا من هَذَا، قَالَ الْجلَال السُّيُوطِيّ: وَتبع الْخَطِيب فِي ذَلِك المحدثون - خُصُوصا الْمُتَأَخِّرين - أخرهم شيخ الْإِسْلَام الْحَافِظ ابْن حجر. وَلم أر الْعِرَاقِيّ فِي " أَمَالِيهِ " يصنع

(2/133)


شَيْئا من ذَلِك. اه وَهَذَا النَّوْع عويص جدا.
وَالْأَمر الثَّانِي: الرَّاوِي / قد يكون مقلا من الحَدِيث فَلَا يكثر الْآخِذ عَنهُ. بِصِيغَة اسْم الْفَاعِل، وَلَيْسَ هُوَ الْآخِذ بِلَفْظ الْمصدر كَمَا وهم فِيهِ بَعضهم.
وَاعْترض: بِأَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَن يَقُول الآخذون إِذْ لَا يلْزم من كثرت الْآخِذ كَثْرَة الآخذين.
وَالِاعْتِبَار فِي الْجَهَالَة وَعدمهَا بالآخذين وَبِقَوْلِهِ لَا يخفي مَا بَين قَوْله، فَلَا يكثر الْأَخْذ عَنهُ وَبَين قَوْله.
وَقد صنفوا فِيهِ الوحدان وَهُوَ من لم يرو عَنهُ إِلَّا وَاحِد، وَلَو سمى بالنباء للْمَفْعُول فَمِمَّنْ جمعه مُسلم، وَالْحسن بن سُفْيَان

(2/134)


فألفا فِيهِ وَغَيرهمَا.
وَمن فَوَائده معرفَة الْمَجْهُول إِذا لم يكن صحابيا فَلَا يقبل. مِثَاله: وهب بن خنبش - بِفَتْح الْمُعْجَمَة وَالْمُوَحَّدَة بَينهمَا نون سَاكِنة - الطَّائِي، وعامر بن شهر، وَعُرْوَة بن مُضرس، وَمُحَمّد بن صَفْوَان، وَمُحَمّد ابْن صَيْفِي صحابيون، لم يرو عَنهُ غير الشّعبِيّ. وأمثلته فِي التَّابِعين - فَمن بعدهمْ - كَثِيرَة.

(2/135)


المبهمات

أَو لَا يُسمى الرَّاوِي اختصارا من الرَّاوِي عَنهُ، كَقَوْلِه أَخْبرنِي فلَان، أَو شيخ، أَو رجل، أَو بَعضهم، أَو ابْن فلَان. ويستدل على معرفَة اسْم الْمُبْهم بوروده مُسَمّى من طَرِيق أُخْرَى تسمى بِغَيْر ذَلِك.
وَقد صنفوا فِيهِ أَي فِيمَن ابهم اسْمه المبهمات وَهِي كَثِيرَة جدا، كَذَا ذكره المُصَنّف وَتعقبه الْكَمَال بن أبي شرِيف بِأَن مَوْضُوع كتب المبهمات / أَعم من ذَلِك، لتناولها تَفْسِير إِبْهَام صَاحب الْوَاقِعَة كجاء رجل وَالنَّبِيّ أفضل الصَّلَاة وَالتَّسْلِيم يخْطب. فَقَالَ رجل: إِلَّا الْإِذْخر، فَقَالَ

(2/136)


رجل: (مَا أحْسنهَا) أكسنيها يَا رَسُول الله من الْحلَّة الَّتِي أهديت لَك. اه.
وَقد يكون الِاسْم الْمُبْهم فِي الْمَتْن، وَقد ألف فِيهِ عبد الْغَنِيّ، والخطيب، وَابْن بشكوال.
وَلَا يقبل حَدِيث الْمُبْهم فِي السَّنَد مَا لم يسم لِأَن شَرط قبُول الْخَبَر عَدَالَة راوية وَفِي بعض النّسخ عَدَالَة رُوَاته وَهِي الأصوب،

(2/137)


وبإبهامه يَنْتَفِي تحقق الْعَدَالَة وظنها.
وَمن أبهم اسْمه لَا تعرف عينه فَكيف عَدَالَته؟ كَذَا عبر المُصَنّف، وَاعْتَرضهُ البقاعي بِأَنَّهُ تَعْبِير غير قويم، لِأَنَّهُ إِذا سمي خرج عَن كَونه مُبْهما فَلَا حَاجَة لتقييده بذلك، بل الصَّوَاب تَركه لإفهامه أَن حَدِيثه كَانَ مَقْبُولًا كَذَلِك فقد ذكر هُوَ على الْأَثر فِيهِ تَفْصِيلًا لَا يُقَال الْمَفْهُوم إِذا كَانَ فِيهِ تَفْصِيل لَا يرد، لأَنا نقُول ذَلِك لَا يدْفع الْأَوْلَوِيَّة فَلَو قَالَ لَا تعرف عينه فَلَا تعرف عَدَالَته كَانَ أولى.
تَنْبِيه:
لَو روى الثِّقَة عَن إِنْسَان سَمَّاهُ لم يكن تَعْدِيل، وَقيل هُوَ تَعْدِيل، لَكِن ذهب جمع إِلَى أَنه إِن كَانَ لَا يروي إِلَّا عَن عدل كالشيخين فتعديل إِلَّا فَلَا وَاخْتَارَهُ ابْن الْجَزرِي.

(2/138)


وَكَذَا لَا يقبل خَبره وَلَو أبهم بِلَفْظ التَّعْدِيل كَأَن يَقُول الرَّاوِي عَنهُ أَخْبرنِي أَو حَدثنِي الثِّقَة لِأَنَّهُ قد يكون / ثِقَة عِنْده مجروحا عِنْد غَيره. معما فِي ترك تَسْمِيَته من الرِّيبَة الموقعة فِي التَّرَدُّد. هَذَا مَا ذكره المُصَنّف.
ورده الشَّيْخ قَاسم بِأَنَّهُ لَا يلْزم من ذَلِك تَقْدِيم الْجرْح المتوهم على التَّعْدِيل الثَّابِت وَهُوَ خلاف النّظر، على أَنه لَو عرف فِيهِ الْجرْح كَانَ مُخْتَلفا فِيهِ وَلَيْسَ بمردود اه.
وَهَذَا على الْأَصَح فِي الْمَسْأَلَة. وَبِه قطع الْخَطِيب، والصيرفي، وارتضاه ابْن الْجَزرِي. وَجزم غَيرهم بِالْقبُولِ قَالُوا: لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة مَا لَو عدله مَعَ التَّعْيِين لِأَنَّهُ مَأْمُون فِي الْحَالَتَيْنِ.

(2/139)


وَحكى ابْن الصّلاح عَن بعض الْمُتَأَخِّرين: إِن الْقَائِل لذَلِك إِن كَانَ عَالما أَجْزَأَ فِي حق يُوَافقهُ فِي مذْهبه.
وبهذه النُّكْتَة لم يقبل الْمُرْسل وَلَو أرْسلهُ الْعدْل جَازِمًا بِهِ لهَذَا الِاحْتِمَال بِعَيْنِه.
قَالَ بَعضهم: وَهَذَا تكْرَار مَعَ قَوْله وبهذه النُّكْتَة. وَقيل: يقبل مُطلقًا كَمَا لَو عينه لِأَنَّهُ مَأْمُون فِي الْحَالَتَيْنِ وتمسكا بِالظَّاهِرِ وَهُوَ السَّلامَة إِذْ الْجرْح على خلاف الأَصْل فالتمسك بِالظَّاهِرِ أولى. وَقيل: إِن كَانَ الْقَائِل عَالما أَجْزَأَ ذَلِك يَعْنِي من أَئِمَّة الحَدِيث وَالْفِقْه كَقَوْل الإِمَام الشَّافِعِي كثيرا: أَخْبرنِي الثِّقَة، وَكَذَا مَالك قَلِيلا. يَعْنِي كفى فِي حق من يُوَافقهُ من أَئِمَّة مذْهبه لِأَن واصفه من أَئِمَّة الحَدِيث وَالْفِقْه لَا يصفه بالثقة إِلَّا وَهُوَ كَذَلِك، وعَلى هَذَا جمَاعَة من الْمُحَقِّقين وَاخْتَارَهُ إِمَام الْحَرَمَيْنِ والرافعي فِي شرح الْمسند / قَالَ السُّبْكِيّ: وَهُوَ

(2/140)


الْوَجْه (لِأَن واصفه لَا يصفه بالثقة إِلَّا وَهُوَ كَذَلِك) .
وَقَول الصَّيْرَفِي والخطيب: لَا يقبل لجَوَاز أَن يكون فِيهِ جارح لم يطلع عَلَيْهِ الواصف. رد ببعد ذَلِك جدا مَعَ كَون مثل مَالك أَو الإِمَام الشَّافِعِي محتجا بِهِ على حكم دين الله.
وَهَذَا يعرف عِنْد كثير من الْمُحدثين بالتعديل على الْإِبْهَام، وَعند بَعضهم بالتعديل الْمُبْهم.
وَمثل مَا لَو قَالَ الإِمَام الشَّافِعِي: أَخْبرنِي من لَا أَتَّهِمهُ بِأَنَّهُ يقبل خلافًا للصيرفي وَغَيره. وَقَول الذَّهَبِيّ: لَيْسَ توثيقا بل نفيا

(2/141)


للاتهام. رد: بِأَن مثل ذَلِك إِذا وَقع من الشَّافِعِي يحْتَج بِهِ على حكم فِي دين الله كَانَ المُرَاد بِهِ مَا يُرَاد بِالْوَصْفِ بالثقة وَإِن كَانَ دونه فِي الرُّتْبَة.
وَيقبل من أقدم جَاهِلا على فعل مفسق مظنون كشرب نَبِيذ، أَو مَقْطُوع كشرب خمر فِي الْأَصَح، سَوَاء اعْتقد الْإِبَاحَة أم لم يعْتَقد شَيْئا لعذره بِالْجَهْلِ. أما الْمُقدم على المفسق عَالما فَلَا يقبل قطعا.
وَهَذَا لَيْسَ من مبَاحث عُلُوم الحَدِيث بل من مبَاحث علم أصُول الْفِقْه

(2/142)


مَجْهُول الْعين

فَإِن سمى الرَّاوِي وَانْفَرَدَ راو وَاحِد بالرواية عَنهُ وَلم يشْتَهر بِنَفسِهِ بِطَلَب الْعلم، وَلَا بحرفة الْعلمَاء، وَلَا يعرف حَدِيثه إِلَّا من جِهَته فَهُوَ مَجْهُول الْعين عِنْد الْمُحدثين.
كالمبهم إِلَّا أَن يوثقه غير من ينْفَرد عَنهُ على الْأَصَح.
قَالَ الشَّيْخ قَاسم: هَذَا اخْتِيَار الْقطَّان، وَقَيده الموثق / بِكَوْنِهِ من أَئِمَّة الْجرْح وَالتَّعْدِيل وَقد أهمله الْمُؤلف. وَقَالَ الشَّيْخ الْمَنَاوِيّ: وَفِي مَجْهُول الْعين خَمْسَة أَقْوَال، الْمُصَحح مِنْهَا عدم الْقبُول، لانضمام جَهَالَة الْعين إِلَى جَهَالَة الْحَال. وَكَذَا من ينْفَرد عَنهُ إِذا كَانَ متأهلا لذَلِك. قَالَ بَعضهم: مَا جرى عَلَيْهِ الْمُؤلف هُوَ مَا حَكَاهُ الْخَطِيب فِي " كِفَايَته " عَنْهُم، ونازعه ابْن الصّلاح بِرِوَايَة

(2/143)


البُخَارِيّ عَن مرداس الْأَسْلَمِيّ، وَمُسلم عَن ربيعَة بن كَعْب الْأَسْلَمِيّ وَلم يرو عَنْهُمَا غير وَاحِد وَهُوَ قيس بن أبي حَازِم عَن الأول، وَأَبُو سَلمَة عَن الثَّانِي. وَذَلِكَ مصير مِنْهُمَا إِلَى أَن الرَّاوِي يخرج عَن كَونه مَجْهُولا بِرِوَايَة وَاحِد عَنهُ.
قَالَ النَّوَوِيّ: وَالصَّوَاب مَا نَقله الْخَطِيب وَلَا يَصح الرَّد عَلَيْهِ بذينك، فَإِنَّهُمَا صحابيان مشهوران، وَالصَّحَابَة عدُول فَلَا يحْتَاج فِي رفع الْجَهَالَة عَنْهُم إِلَى تعدد الروَاة. وَقَالَ الشَّيْخ قَاسم: إِن كَانَ الَّذِي انْفَرد عَنهُ راو وَاحِد من التَّابِعين يَنْبَغِي أَن يقبل خَبره، وَلَا يضرّهُ مَا ذكره المُصَنّف، لأَنهم قبلوا الْمُبْهم من الصَّحَابَة وَقَالُوا: كلهم عدُول. وَاسْتدلَّ لَهُ الْخَطِيب فِي " الْكِفَايَة "

(2/144)


بِخَبَر خير الْقُرُون قَرْني ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ، وَهَذَا بِعَيْنِه جَار فِي التَّابِعِيّ فَيكون الأَصْل الْعَدَالَة إِلَى أَن يقوم دَلِيل الْجرْح، وَالْأَصْل لَا يتْرك للاحتمال. انْتهى.
وَيُؤَيِّدهُ قَول ابْن كثير: الْمُبْهم إِذْ سمي وَلم يعرف عينه لَا يقبل رِوَايَته عِنْد أحد علمناه إِلَّا إِن كَانَ من عصر التَّابِعين.
ثمَّ قَالَ الشَّيْخ قَاسم: وَقَوله إِن كَانَ متأهلا يُقَال عَلَيْهِ: مَا الْفرق بَين من يتفرد عَنهُ وَبَين غَيره حَتَّى يشْتَرط تأهل غير الْمُنْفَرد بالتوثيق دون الْمُنْفَرد.
(قَالَ الشَّيْخ الْقَاسِم) : وَقَوله اثْنَان فَصَاعِدا قَيده ابْن الصّلاح

(2/145)


بكونهما عَدْلَيْنِ حَيْثُ قَالَ: وَمن روى عَنهُ عَدْلَانِ ارْتَفَعت عَنهُ هَذِه الْجَهَالَة - أَي جَهَالَة الْعين.
وَقَالَ الْخَطِيب: أقل مَا يرفع الْجَهَالَة رِوَايَة اثْنَيْنِ مشهورين بِالْعلمِ. والمؤلف أهمل ذَلِك مَعَ كَونه لَا بُد مِنْهُ.

(2/146)


مَجْهُول الْحَال

أَو أَن روى عَنهُ اثْنَان فَصَاعِدا وَلم يوثق أَو لم ينص أحد من أَئِمَّة الحَدِيث على تعديله وَلَا تجريحه فَهُوَ مَجْهُول الْحَال، وَهُوَ المستور وَهُوَ من لم يطلع لَهُ على مفسق وَلم تعلم عَدَالَته لعدم تزكيته وَقد قبل رِوَايَته جمَاعَة بِغَيْر قيد مِنْهُم ابْن فورك، وسليم الرَّازِيّ، وعزي لأبي حنيفَة اكْتِفَاء بِظَنّ حُصُول الشَّرْط لِأَن الظَّاهِر من عَدَالَته فِي (الظَّاهِر عَدَالَته فِي) الْبَاطِن. قَالَ ابْن الصّلاح: وَعَلِيهِ الْعَمَل فِي كتب الحَدِيث الْقَدِيمَة الْعَهْد وَتعذر خبْرَة باطنهم.
وردهَا الْجُمْهُور قَالَ بَعضهم: وَهُوَ الْمَشْهُور وَالتَّحْقِيق أَن رِوَايَة المستور وَنَحْوه مِمَّا فِيهِ الِاحْتِمَال كمن جرح من غير بَيَان سَببه لَا

(2/147)


يُطلق / القَوْل بردهَا وَلَا بقبولها بل يُقَال هُوَ مَوْقُوفَة (عَن الْقبُول وَالرَّدّ) إِلَى استبانه حَالَة بالبحث عَنهُ كَمَا جزم بِهِ إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَنَحْوه قَول ابْن الصّلاح فِيمَن جرح بِجرح غير مُفَسّر (بِفَتْح السِّين) ، وَعبارَة الإِمَام: يُوقف إِلَى تَبْيِين حَاله بالبحث عَنهُ، وَيجب الْكَفّ عَمَّا ثَبت حلّه بِالْأَصْلِ إِذا روى هُوَ التَّحْرِيم فِيهِ إِلَى الظُّهُور احْتِيَاطًا.
وَاعْترض ذَلِك التَّاج السُّبْكِيّ - مَعَ قَول الأبياري بِالْمُوَحَّدَةِ ثمَّ التَّحْتَانِيَّة - فِي " شرح الْبُرْهَان " أَنه مجمع عَلَيْهِ. بِأَن الْيَقِين لَا يرفع بِالشَّكِّ، يعْنى فالحل الثَّابِت بِالْأَصْلِ لَا يرفع بِالتَّحْرِيمِ الْمَشْكُوك فِيهِ كَمَا لَا يرفع الْيَقِين أَي استصحابه بِالشَّكِّ بِجَامِع الثُّبُوت.

(2/148)


حكم رِوَايَة المبتدع

ثمَّ الْبِدْعَة، وَهِي السَّبَب التَّاسِع من أَسبَاب الطعْن فِي الرَّاوِي كَذَا عبر الْمُؤلف - رَحمَه الله -.
قَالَ الْكَمَال ابْن أبي شرِيف: وَكَانَ يَنْبَغِي أَن يَقُول: وَهِي الْقسم التَّاسِع من أَقسَام الطعْن فِي الرَّاوِي.
وَهِي لُغَة: مَا أحدث على غير مِثَال سبق. فَشَمَلَ الْمَحْمُود والمذموم. وَقد أجْرى فِيهَا ابْن عبد السَّلَام الْأَحْكَام الْخَمْسَة، وَالشَّرْع

(2/149)


خصها بالمذموم وَهِي إِمَّا أَن تكون بمكفر كَأَن يعْتَقد مَا يسْتَلْزم الْكفْر كَذَا عبر بِهِ الْمُؤلف.
قَالَ الشَّيْخ قَاسم: وَفِي التَّكْفِير باللازم كَلَام لأهل الْعلم /. انْتهى. وَلم يبين ذَلِك، وَقد بَينه ابْن أبي شرِيف فَقَالَ: لَيْسَ المُرَاد بِمن كفر ببدعة من أَتَى بِمَا هُوَ صَرِيح كفر كالغرابية وَنَحْوهم، بل من يَأْتِي بِالشَّهَادَتَيْنِ مُعْتَقد الْإِسْلَام، غير أَنه ارْتكب بِدعَة يلْزمهَا أَمر هُوَ كفر، فكفره من يرى أَن لَازم الْمَذْهَب مَذْهَب كالمجسمة فَإِنَّهُ يلْزم قَوْلهم الْجَهْل بِاللَّه، وَالْجهل بِاللَّه كفر. وَيلْزمهُ أَن العابد لجسم غير عَابِد لله وَهُوَ كفر.

(2/150)


وَمن لَا يرى تكفيرهم يُجيب عَن الأول: بِأَن الْجَهْل بِاللَّه من بعض الْوُجُوه لَيْسَ بِكفْر بعد الْإِقْرَار بِوُجُودِهِ ووحدانيته، وَأَنه الْخَالِق الْعَلِيم، الْقَدِيم الأزلي، وبرسالة الرُّسُل.
وَعَن الثَّانِي: بِمَنْع كَونه عابدا لغير الله، بل هُوَ مُعْتَقد فِي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا لَا يجوز عَلَيْهِ، مِمَّا جَاءَ بِهِ الشَّرْع على تَأْوِيل وَلم يؤوله فَلَا يكون كَافِرًا.
وَقد قرر الْغَزالِيّ أَن عدم التَّكْفِير اقْربْ إِلَى السَّلامَة، هَذَا وَالَّذِي جرى عَلَيْهِ النَّوَوِيّ فِي الْمَجْمُوع التَّكْفِير.
أَو بمفسق فَالْأول لَا يقبل صَاحبهَا الْجُمْهُور لعظم بدعته وقبحها، بل حكى فِي " التَّقْرِيب " كَأَصْلِهِ الِاتِّفَاق على عدم الْقبُول. لَكِن نوزع: بِأَن الإِمَام الرَّازِيّ وَأَتْبَاعه قَائِلُونَ بقبوله إِذا كَانَ يحرم الْكَذِب وَإِن كفر ببدعته لَا من الْكَذِب فِيهِ أَي لِأَن اعْتِقَاده حُرْمَة

(2/151)


الْكَذِب يزجره عَن الْإِقْدَام عَلَيْهِ فَيحصل ظن صَدَقَة / وَهُوَ مُوجب للْعَمَل بِخَبَرِهِ، لعُمُوم اعْتِبَار الظَّن الْحَاصِل عَن خبر الْعدْل، إِذْ الأَصْل عدم اعْتِبَار الظَّن، بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: (إِن الظَّن لَا يُغني من الْحق شَيْئا) خُولِفَ: فِي خبر من ظَهرت عَدَالَته، وفيمن كَانَ فسقه مظنونا، وَذَلِكَ لدَلِيل خَاص بهما.
وَقيل: يقبل مُطلقًا أَي حَيْثُ كَانَ يحرم الْكَذِب، وَهُوَ أَضْعَف الْأَقْوَال وأولاها بِالرَّدِّ.
وَقيل: إِن كَانَ لَا يعْتَقد حل الْكَذِب لنصرة مقَالَته قبل. وَاخْتَارَهُ الإِمَام الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول " وَقَالَ: إِنَّه الأَصْل الْأَصَح.
قَالَ الْمُؤلف: وَالتَّحْقِيق إِنَّه لَا يرد كل مكفر ببدعته لِأَن كل طَائِفَة تَدعِي أَن مخالفيها مبتدعة، وَقد تبالغ فتكفر مخالفيها، قَول أَخذ ذَلِك على الْإِطْلَاق لاستلزم تَكْفِير جَمِيع الطوائف، فَالْمُعْتَمَد أَن الَّذِي ترد رِوَايَته من أنكر أمرا متواترا من الشَّرْع، مَعْلُوما من الدّين

(2/152)


بِالضَّرُورَةِ، وَكَذَا من اعْتقد عَكسه. بِأَن اعْتقد أمرا يُخَالف مَا علم من الدّين بِالضَّرُورَةِ.
وَأما من لم يكن بِهَذِهِ الصّفة، وانضم إِلَى ذَلِك ضَبطه لما يرويهِ مَعَ ورعه وتقواه فَلَا مَانع من قبُوله. كَمَا هُوَ ظَاهر كَلَام مُسلم، حَيْثُ قَالَ: اعْلَم أَن الْوَاجِب على كل أحد ... إِلَى أَن قَالَ: ويتقى مِنْهَا مَا كَانَ مِنْهَا عَن أهل التهم، والمعاندين من أهل الْبدع. . فَهَذَا مذْهبه.
وَالثَّانِي وَهُوَ / من لَا تَقْتَضِي بدعته الْكفْر أصلا وَقد اخْتلف - أَيْضا - فِي قبُوله ورده، فَقيل: يرد مُطلقًا. لِأَن مُخَالفَته للقواطع يَقْتَضِي الْقطع بِفِسْقِهِ، ودخوله فِي قَوْله تَعَالَى: (إِن جَاءَكُم فَاسق بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا) . وَلَا يَنْفَعهُ التَّأْوِيل. قَالَ النَّوَوِيّ: وَهَذَا القَوْل ضَعِيف

(2/153)


جدا فَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا من كتب أَئِمَّة الحَدِيث الِاحْتِجَاج بِكَثِير من المبتدعة غير الدعاة، وَلم يزل السّلف وَالْخلف على قبُول الرِّوَايَة مِنْهُم، والاحتجاج بهم، وَالسَّمَاع مِنْهُم، وإسماعهم من غير نَكِير مِنْهُم. اه.
قَالَ الْمُؤلف: وَهُوَ أَي هَذَا القَوْل بعيد، وَأكْثر مَا علل بِهِ أَن فِي الرِّوَايَة عَنهُ ترويجا لأَمره، وتنويها بِذكرِهِ. وَهُوَ من لَا ينْهض حجَّة، وَمِمَّا ضعف بِهِ - أَيْضا - احتجاج صَاحِبي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا بِكَثِير من المبتدعة.
وعَلى هَذَا فَيَنْبَغِي أَن لَا يروي عَن مُبْتَدع شَيْء يُشَارِكهُ فِيهِ غير مُبْتَدع لوُجُود الْعلَّة، وَهِي ترويج حَاله، والتنويه بِذكرِهِ، وَهُوَ بعيد - أَيْضا -.
وَقيل يقبل مُطلقًا إِلَّا إِن اعْتقد حل الْكَذِب فِي نصْرَة مذْهبه أَو لأهل - مذْهبه كَمَا تقدم أَي وَإِن كَانَ دَاعِيَة. قَالَ النَّوَوِيّ: وَهُوَ محكي عَن الإِمَام الشَّافِعِي - رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

(2/154)


وَقيل: يقبل من لم يكن دَاعِيَة إِلَى بدعته أَي يَدْعُو النَّاس إِلَيْهَا، أَي وَكَانَ يحرم الْكَذِب كَمَا فِي " جمع الْجَوَامِع " / فَغير الداعية مَقْبُول بِخِلَاف الداعية. لِأَن تَزْيِين بدعته يحملهُ على تَحْرِيف الرِّوَايَات وتسويتها على مَا يَقْتَضِيهِ مذْهبه.
وَاعْترض الْكَمَال ابْن أبي شرِيف عبارَة المُصَنّف هَذِه فَقَالَ: إِنَّمَا ذكره من التَّعْلِيل منطبق على مَفْهُوم هَذِه الْعبارَة، أما منطوقها فَلم يُصَرح بتعليله: وَهُوَ انْتِفَاء الْمَحْذُور. وَكَأَنَّهُ سكت عَنهُ اعْتِمَادًا على أَنه يفهم مِمَّا قدمه، وَمِمَّا فِي تَعْلِيله الْمَفْهُوم، فَإِن عِلّة قبُول غير الداعية هُوَ انْتِفَاء الْمَحْذُور من خشيَة تَحْرِيف الحَدِيث، وتسويته على مُقْتَضى بدعته إِذْ الْغَرَض أَنه يروي مَا لَيْسَ فِيهِ تَقْوِيَة لبدعته كَمَا صرح بِهِ بعد ذَلِك.
ثمَّ فِي انطباق تَعْلِيله على مَفْهُوم الْعبارَة نظر، فَإِن مفهومها أَن الداعية ترد مُطلقًا وَالتَّعْلِيل أخص مِنْهُ، فَإِنَّهُ أورد على مَا لَهُ تعلق ببدعته فَقَط فَيَقْتَضِي أَن مَا لَا تعلق لَهُ بهَا يقبل.

(2/155)


فَإِن قيل: لَيْسَ أخص، إِذْ الداعية قد يحرف مَا لَيْسَ لَهُ تعلق ببدعته فَيَجْعَلهُ على مُقْتَضى بدعته. قُلْنَا: الْكَلَام فِي حَدِيث وَجَدْنَاهُ من رِوَايَته، وَلَا تعلق لَهُ ببدعته، وَلَا ملائمة بَينه وَبَينهَا. إِلَى هُنَا كَلَامه.
وَقَالَ البقاعي: لم يُعلل المُصَنّف مَنْطُوق قَوْله يقبل من لم يكن دَاعِيَة وتعليله: إِنَّه لَا مَحْذُور فِي رِوَايَته لعدم خوف أَن يحرف الحَدِيث إِلَى بدعته لِأَن الْغَرَض أَنه لَيْسَ / دَاعِيَة، بل علل مفهومة وَهُوَ أَن الداعية لَا تقبل، وَعبارَته تفهم أَن الداعية ترد مُطلقًا، وتعليله أخص من هَذَا فَإِنَّهُ وَارِد على مَا لَهُ تعلق ببدعته فَقَط، فَيَقْتَضِي أَن مَا لَا تعلق لَهُ بهَا يقبل. فتقدير كَلَامه: يقبل من لم يكن دَاعِيَة مُطلقًا وَمن كَانَ دَاعِيَة وروى حَدِيثا لَا يتَعَلَّق ببدعته لعدم الْمَحْذُور فيهمَا. وَلَا يقبل الداعية إِذا روى مَا يتَعَلَّق ببدعته إِلَى آخِره. انْتهى.
وَهَذَا فِي القَوْل الْأَصَح الَّذِي قَالَ النَّوَوِيّ فِي " تقريبه " وَغَيره: أَنه الْأَظْهر الأعدل، وَقَول الْكثير أَو الْأَكْثَر. قَالَ: وَضعف الْمَنْع مُطلقًا باحتجاج صَاحِبي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا بِكَثِير من المبتدعة غير الدعاة.

(2/156)


وَأغْرب ابْن حبَان فَادّعى الِاتِّفَاق على قبُول غير الداعية وَلَيْسَ كَمَا زعم، بل الْخلاف مُحَقّق بِغَيْر تَفْصِيل، نعم الْأَكْثَر على قبُول غير الداعية إِلَّا أَن يروي مَا يُقَوي بدعته.
قَالَ المُصَنّف: وَيُقَاس عَلَيْهِ مَا إِذا روى الداعية شَيْئا يرد بدعته فَيقبل، أَي إِذا اجْتمعت فِيهِ بَقِيَّة شُرُوط الْقبُول. نَقله عَنهُ الْكَمَال ابْن أبي شرِيف وارتضاه.
فَيرد على الْمَذْهَب الْمُخْتَار عِنْد الْمُؤلف تبعا لجمع، وَهُوَ كَمَا قَالَ الأشموني: جَار على مَذْهَب من يرى رد الشَّهَادَة بالتهمة.
وَقَالَ النَّوَوِيّ: إِنَّه مَذْهَب كثيرين أَو الْأَكْثَرين من الْعلمَاء، قَالَ: وَهُوَ الأعدل الصَّحِيح /.
وَبِه صرح الْحَافِظ أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن يَعْقُوب الْجوزجَاني بِضَم الْجِيم الأولى وَفتح الزَّاي شيخ أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ فِي كِتَابه " معرفَة

(2/157)


الرِّجَال " فَقَالَ فِي وصف الروَاة: وَمِنْهُم زائغ عَن الْحق أَو السّنة صَادِق اللهجة، فَلَيْسَ فِيهِ حِيلَة إِلَّا أَن يُوجد فِي حَدِيثه مَا لَا يكون مُنْكرا، إِذا لم يقو بِهِ بدعته. انْتهى.
وَمَا قَالَه مُتَّجه، لِأَنَّهُ الْعلَّة الَّتِي يرد بهَا حَدِيث الداعية وَارِدَة فِيمَا إِذا كَانَ ظَاهر الْمَرْوِيّ يُوَافق مَذْهَب المبتدع وَلَو لم يكن دَاعِيَة.
قَالَ الشَّيْخ قَاسم: وَظَاهر كَلَام الْمُؤلف هَذَا قبُول رِوَايَة المبتدع إِذا كَانَ ورعا فِيمَا عدا الْبِدْعَة، صَادِقا ضابطا سَوَاء كَانَ دَاعِيَة أَو غير دَاعِيَة إِلَّا فِيمَا يتَعَلَّق ببدعته. انْتهى.
تَنْبِيهَات:
1 - الأول: قَالَ الْحَافِظ الْعِرَاقِيّ: اعْترض على ذَلِك بِأَن الشَّيْخَيْنِ

(2/158)


احتجا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " بالدعاة، فاحتج البُخَارِيّ بعمران بن حطَّان وَهُوَ مِنْهُم.
ثمَّ أجَاب: بَان أَبَا دَاوُد قَالَ: لَيْسَ فِي أهل الْأَهْوَاء أصح حَدِيثا من الْخَوَارِج. واحتجا بِعَبْد الحميد الْحمانِي وَكَانَ دَاعِيَة إِلَى الإرجاء. 2 - الثَّانِي: الْأَصَح أَنه لَا يقبل رِوَايَة الرافضة، وساب السّلف كَمَا فِي " الرَّوْضَة " فِي الْقَضَاء وَإِن سلف فِي بَاب الشَّهَادَة عَن التَّصْرِيح باستثنائهم. 3 - الثَّالِث: ألحق السلَفِي وَابْن رشيد بالمبتدع المشتغل (بعلوم

(2/159)


الْأَوَائِل) كالفلسفة / والمنطق نَقله عَنْهُم السُّيُوطِيّ.
4 - الرَّابِع: يقبل رِوَايَة التائب من الْكَذِب فِي حَدِيث النَّاس وَالْفِسْق مُطلقًا، وَأما تعمد الْكَذِب على الْمُصْطَفى فَقَالَ أَحْمد والْحميدِي: على أَنه لَا يقبل تَوْبَته تمسكا بقوله عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام: (إِن كذبا عَليّ لَيْسَ ككذب على أحد. .) وَنَقله الْحَارِثِيّ عَن أبن الْمُبَارك، وَالثَّوْري، وَرَافِع بن الأشرس، وَأبي نعيم وَغَيرهم. قَالَ الْخَطِيب: وَهُوَ الْحق. ورده النَّوَوِيّ فِي " شرح مُسلم " وَقطع بِصِحَّة تَوْبَته، وَقبُول رِوَايَته لإجماعهم على صِحَة رِوَايَة الْكَافِر بعد إِسْلَامه، وَقبُول شَهَادَته. وَحمل قَول الْمُخَالف على التغليط

(2/160)


وَالْمُبَالغَة فِي الزّجر عَنهُ لمُخَالفَته للقواعد، وَلعدم الْفرق بَينه وَبَين الشَّهَادَة.
وانتصر بَعضهم للْأولِ: بِأَنَّهُ الْأَصَح عِنْد الْمُحدثين وَجُمْهُور الْفُقَهَاء.
وَأغْرب الدَّامغَانِي الْحَنَفِيّ بقبوله مُطلقًا حَتَّى بحَديثه الْمَرْدُود.
وتوسط بَعضهم فَقَالَ: يقبل فِي غير الْمَرْدُود لَا فِيهِ إِن لم يكن بِتَأْوِيل. أما مَا كَانَ فِي فَضَائِل الْأَعْمَال وَلم يعْتَقد ضَرَره أَو فعله دفعا لضَرَر يلْحقهُ من الْعَدو فَيقبل تَوْبَته. قَالَ الْحَازِمِي والخطيب: وَلَو قَالَ لم أتعمد قبل مُطلقًا.
5 - (الْخَامِس) : فِي جمع الْجَوَامِع وشروحه: يقبل المتساهل فِي غير الحَدِيث بِأَن يتحرز فِي الحَدِيث عَن النَّبِي عَلَيْهِ أفضل الصلاو وَالسَّلَام لَا من الْخلَل فِيهِ، بِخِلَاف المتساهل فِيهِ فَإِنَّهُ لَا يقبل: وَقيل: يرد مُطلقًا وَسَوَاء الحَدِيث وَغَيره، لِأَن التساهل فِي غير

(2/161)


الحَدِيث يجر إِلَى التساهل فِيهِ. وَيقبل من لَيْسَ فَقِيها خلافًا للحنفية فِيمَا يُخَالف الْقيَاس.
وَيقبل المكثر من الرِّوَايَة وَإِن ندرت خالفته للمحدثين أَي وَالْحَال كَذَلِك، لَكِن إِذا أمكن تَحْصِيل ذَلِك الْقدر الْكَبِير الَّذِي رَوَاهُ من الحَدِيث فِي ذَلِك الزَّمَان الَّذِي خالط فِيهِ الْمُحدثين، فَإِن لم يُمكن فَلَا تقبل فِي شَيْء مِمَّا رَوَاهُ لظُهُور كذبه فِي بعض لَا تعلم عينه.

(2/162)


الشاذ

ثمَّ سوء الْحِفْظ وَهُوَ السَّبَب الْعَاشِر (من أَسبَاب الطعْن) كَانَ يَنْبَغِي أَن يُقَال: وَهُوَ الْقسم الْعَاشِر من أَقسَام الطعْن وَالْمرَاد بِهِ: من لم يرجح جَانب إِصَابَته على جَانب خطأه.
قَالَ الشَّيْخ قَاسم: هَذَا يُنَافِي مَا مر من قَوْله أَو سوء حفظه وَهِي عبارَة عَمَّن يكون غلطه أقل من إِصَابَته وَقد أصلحته بِلَفْظ نَحوا من إِصَابَته.
قَالَ المُصَنّف: وَفهم مِمَّا لم يرجح، أما من يرجح جَانب خطأه أَو اسْتَويَا (فَلَيْسَ بسئ الْحِفْظ) .
قَالَ الشَّيْخ قَاسم: هَذَا يُؤَيّد أَن قَوْله فِيمَا مر فِي حد سوء الْحِفْظ وَهُوَ عبارَة عَمَّن يكون خَطؤُهُ كأصابته. من النّسخ

(2/163)


الصَّحِيحَة بِخِلَاف أقل من إِصَابَته فَإِنَّهَا مُخَالفَة لما هُنَا، وَلَيْسَت بصحيحة من جِهَة الْمَعْنى لِأَن / الْإِنْسَان لَيْسَ بمعصوم من الْخَطَأ، فَلَا يُقَال فِيمَن وَقع لَهُ الْخَطَأ مرّة أَو مرَّتَيْنِ أَنه سيء الْحِفْظ وَإِن كَانَ يصدق عَلَيْهِ أَن خطأه أقل من إِصَابَته، لِأَنَّهُ لم يصدق عَلَيْهِ إِنَّه لم يرجح إِصَابَته.
وَهُوَ على قسمَيْنِ: إِن كَانَ لَازِما للراوي فِي جَمِيع حالاته فَهُوَ الشاذ أَي يُسمى حَدِيث ذَلِك الرَّاوِي بالشاذ على رَأْي بعض أهل الحَدِيث قَوْله على (رَأْي) متن وَشَرحه الْمُؤلف بِمَا بعده، قَالَ الْكَمَال بن أبي شرِيف: واللايق بالدمج أَن يُقَال على رَأْي هُوَ رَأْي. . إِلَى آخِره كَمَا مر نَظِيره مرَارًا.
قَالَ بعض من لقيناه: وَمَا ذكره الْمُؤلف فِيهِ مُسَامَحَة، إِذْ سوء الْحِفْظ لَا يُوصف بالشذوذ وَكَذَلِكَ لَا يُوصف بالاعتداد.

(2/164)


الْمُخْتَلط

أَو إِن كَانَ سوء الْحِفْظ طارئا على الرَّاوِي الثِّقَة: إِمَّا لكبره أَو لعماة أَو خرافة أَو فَسَاد عقل أَو لذهاب بَصَره، أَو لاحتراق كتبه، أَو عدمهَا بِأَن كَانَ يعتمدها فَرجع إِلَى حفظه فسَاء أَي حفظه فَهَذَا هُوَ الْمُخْتَلط أَي يُسمى ذَلِك الرَّاوِي مختلطا.
وَالْحكم فِيهِ: أَن مَا حدث فِيهِ قبل الِاخْتِلَاط إِذا تميز قبل، وَإِذا لم يتَمَيَّز وأشكل الْحَال توقف فِيهِ إِلَى التَّبْيِين. قَالَ الشَّيْخ قَاسم: وَالْمرَاد إِذا تميز لنا وَإِلَّا فَهُوَ يتَمَيَّز فِي نَفسه إِذْ الْأَعْرَاض (لَا يتَصَوَّر) فِيهَا الِاخْتِلَاط الَّتِي لَا تميز مَعَه.
وَكَذَا من اشْتبهَ الْأَمر فِيهِ كَذَا عبر الْمُؤلف، وَتعقبه الشَّيْخ قَاسم: بِأَن هَذَا اللَّفْظ فِيهِ إِبْهَام لِأَن ظَاهر السُّوق أَنه كَحَدِيث الْمُخْتَلط، وَلَفظه من لمن يعقل، فَلَا تصلح للْحَدِيث، فَإِن استعملها فِيمَن يعقل

(2/165)


يكون انْتقل من الحَدِيث إِلَى الرَّاوِي فَلَيْسَ بِظَاهِر.
وَإِنَّمَا يعرف ذَلِك بِاعْتِبَار الآخذين عَنهُ. فَمن أَخذ عَنهُ قبل الِاخْتِلَاط فروايته مَقْبُولَة، أَو بعده فمردودة، أَو أشكل الْحَال فَيتَوَقَّف عَن الْعَمَل بهَا إِلَى الظُّهُور.
مِثَال من اخْتَلَط لكبر صَالح بن نَبهَان مولى التَّوْأَمَة قَالَ أَحْمد: أدْركهُ مَالك وَقد اخْتَلَط وَهُوَ كَبِير، وَمَا أعلم مِمَّن سمع مِنْهُ قَدِيما. وَقَالَ ابْن معِين: ثِقَة خرف قبل مَوته، فَمن سمع مِنْهُ قبل فَهُوَ ثَبت، فَقيل لَهُ: إِن مَالِكًا تَركه؟ قَالَ: إِنَّمَا ادركه بعد أَن خرف. وَقد ميز الْأَئِمَّة من سمع مِنْهُ قبل وَبعد.
وَمِثَال من اخْتَلَط لذهاب بَصَره عبد الرَّزَّاق بن همام الصَّنْعَانِيّ قَالَ أَحْمد: أتيناه قبل الْمِائَتَيْنِ وَهُوَ صَحِيح الْبَصَر، وَمن سمع مِنْهُ بِعْ عماه فَهُوَ ضَعِيف، وَكَانَ يلقن بعد عماه فيتلقن.

(2/166)


وَقد صنف مغلطاي كتابا حافلا فِي " الْمُخْتَلطين "، وَذكر الْحَازِمِي فِي " التُّحْفَة " أَنه ألف فيهم كتابا، وَلم يقف على ذَلِك الْعِرَاقِيّ - كَابْن الصّلاح - فَقَالَا: إِن (هَذَا النَّوْع) لم يؤلف فِيهِ.

(2/167)