توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار

المجلد الأول      
مقدمة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف.
حمدا لك يا من صح سند كل كمال إليه فلا يحوم حوله قدح ولا إعلال وشكرا لك على أياديك الحسان المنزهة عن الضعف والإعضال والصلاة والسلام على رسولك المرسل الموصول بشرائف الخلال وعلى آله الذين أحاديث شرفهم مرفوعة غير موضوعة وعلوم حديثهم لمن أرادها غير مقطوعة ولا ممنوعة الموقوف على حبهم الفوز في المعاد الموضوع من ناوأهم عن الاعتماد وعلى أصحابه الذين عليهم يدور فلك الإسناد.
وبعد فهذا شرح كتبته على "تنقيح الأنظار" تأليف الإمام الحافظ العلامة النظار محمد بن إبراهيم الوزير أسكنه الله جنات تجري من تحتها الأنهار! فإنه جمع فيه نفائس تحقيقات أئمة الآثار وأضاف إليه من أنظاره ما هو نور للبصائر ولما أخذ علينا فيه بعض من لا يقنعه من التحقيق إلا أقصاه ولا يشفيه من الأبحاث إلا ما بلغ غايته ومنتهاه أمليت عليه من المعاني عند حل المباني ما يجب أن يدخره الأول للثاني فطلب كتب لفظه وإبرازه في الوجود الخطي إبقاء لحفظه فكتبت عليه ما هو قرة لعين طالب التوفيق ولا يستغني عنه إلا من يستغني التصور عن التصديق وسميته "توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار" والله أسأله أن ينفع به كاتبه وقارئه والناظر بعين الإنصاف في ألفاظه ومعانيه.
واعلم أن المصنف رحمه الله تعالى لم يجعل لمسائل كتابه عنوانا بمسألة ولا فصل ولا نوع ولا باب وفي عنوان المسائل بذلك مالا يخفى على ذوي الألباب، وقد عنون ابن الصلاح1 كتابه بالأنواع والمصنف رحمه الله جعل اسم كل نوع ترجمته كقوله
__________
1 ابن الصلاح هو: الإمام الحافظ، شيخ الإسلام، تقي الدين أبو عمرو عثمان بن صلاح الدين عبد الرحمن بن عثمان الكردي الشهرزوى الشافعي. أحد فضلاء عصره في "التفسير" و "الحديث" و "الفقه". مات سنة "643" له ترجمة في: البداية والنهاية "13/168"، والعبر "5/177"،

(1/9)


"أصح الأسانيد" وقوله "المراد بالصحيح" إلا أنه عنوان خفي فرأيت أن اجعل عنوان كل بحث لفظ مسألة إذ قد لا يتنبه الناظر لجعله أسماء الأنواع عنوانا وقد قال جار الله1 إنه بوب المصنفون في كل من كتبهم أبوابا موشحة الصدور بالتراجم ومن فوائده أن الجنس إذا انطوت تحته أنواع واشتمل على أصناف كان أحسن وأنبل وأفخم من أن يكون بيانا2 واحدا ومنها أن القارئ إذا ختم سورة أو بابا من الكتاب ثم أخذ في آخر كان أنشط له وأهز لعطفه وأبعث على الدروس والتحصيل منه لو استمر على الكتاب بطوله إلى آخر كلامه.
وقد أضبط من أجوز خفاء ضبط لفظه من الرجال أو أذكر من حاله بعض ماله من الخلال ولا أتعرض لمن هو مشهود الصفات يعرفه طلبه الفن والإثبات كأهل الأمهات ومن شاركهم في الشهرة من الرواة أو أئمة المصنفات.
__________
= ووفيات الأعيان "1/312".
1 جار الله هو: محمود بن عمر بن محمد بن أحمد العلامة أبو القاسم الزمخشري الخوارزمي. كان واسع العلم، كثير الفضل، غاية في الذكاء وجودة القريحة، علامة في الأدب والنحو. مات سنة "538". له ترجمة في: البداية والنهاية "12/219". وتذكرة الحفاظ "4/1238"، ووفيات الأعيان "4/254".
2 ببانا واحدا: أي طريقة واحدة ومنهج واحد. قاله شيخ شيخنا في "التعليقة السابقة".

(1/10)


بسم الله الرحمن الرحيم
"الحمد لله الذي رفع أعلام" جمع علم وهو كما في القاموس العلم محركة الجبل الطويل والراية وله معان آخر وأنسبها هنا الراية إذ رفع العلم هنا كتابه عن علو الشأن بالنصر ونحوه "علوم الحديث" 1 شبه علوم الحديث بالجيش ثم أثبت لها لازمه وهو العلم فهو من باب أظفار المنية2 "وفضل العلم النبوي" هو كل ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير ويدخل القرآن في العلم النبوي إلا أن يحمل العلم على أن اللام فيه لعلم الحديث بقرينة سبق ذكره وأن كان قوله "بالإجماع" يناسب أن يراد به ما يشمل القرآن والسنة لأنه من المتفق "على شرفه في قديم الزمان والحديث" ولا ضير في إرادة الأعم وإن كان التدوين للأخص إذا الحديث شعبة من القرآن في معانيه وبيان ما فيه.
وقوله "اشترك في الحاجة إليه والحث عليه بالقرابة" وهم آله صلى الله عليه وسلم "والصحابة" يأتي تفسير الصحابي "والسلف" سلف الأمة فيشمل الصحابة ومن بعدهم إذ السلف كل متقدم كما يفيده القاموس "والخلف" هو من ذهب من الحي ومن حضر منه كما فيه أيضا والمراد هنا الآخر "فهو علم قديم الفضل" لحاجة السلف إليه وحثهم عليه "شريف الأصل" لأنه نبع من بحر النبوة، وتفرع من دوحة الرسالة فلا غرو ولأنه.
"دل على شرفه العقل" لأنه علم دل على كل ما يقرب إلى الله ويبعد عما سواه وأرشد إلى مصالح الدين والدنيا ودعا العباد إلى نيل الذروة العليا وما كان بهذه
__________
1 هذا العلم يقال له: علوم الحديث، أو مصطلح الحديث، أو علم أصول الحديث، أو علم الحديث دراية: "أصول الحديث" ص "11".وعلم الحديث دراية. "أصول الحديث" ص "11".
2 من باب أظفار المنية: قال شيخ شيخنا: يريد أنه استعار بالكناية؛ لأنه شبه علوم الحديث بالجيش، أو طوى أركانه التشبيه كلها ما عدا المشبه، ثم أثبت للمشبه ما هو من لوازم المشبه به وهو الأعلام، وإضافة الأعلام إلى "علوم الحديث" تخييل كإضافة أظفار إلى المنية في قولنا: أظفار المنية نشبت بفلان". اهـ.

(1/11)


الصفات دل العقل على أن له الشرف الذي تقصر عن وصفه العبارات "و" كذلك دل على شرفه "النقل" عنه صلى الله عليه وسلم فإنه ورد مالا يدخل تحت الحصر من بيان شرف علم الحديث.
أخرج البيهقي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من تمسك بسنتي عنه فساد أمتي فله أجر مائة شهيد" وأخرجه الطبراني من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال الحافظ المنذري بإسناد لا بأس به إلا أنه قال: "أجر شهيد" 1.
وكفى فيه بحديث معاذ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية وطلبه عبادة ومذاكرته تسبيح والبحث عنه جهاد وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة وبذله لأهله قربة لأنه معالم الحلال والحرام ومنار سبيل الجنة وهو الأنيس في الوحشة والصاحب في الغربة والمحدث في الخلوة والدليل على السراء والضراء والسلاح على الأعداء والزين عند الأخلاء يرفع الله أقواما فيجعلهم في الخير قادة وأئمة تقتص آثارهم ويقتدي بأفعالهم وينتهي إلى رأيهم ترغب الملائكة في خلتهم وبأجنحتها تمسحهم فيستغفر لهم كل رطب ويابس وحيتان البحر وهوامه وسباع البر وأنعامه لأن العلم حياة القلوب من الجهل ومصابيح الأبصار من الظلم يبلغ العبد بالعلم منازل الأخبار والدرجات العلى في الدنيا والآخرة والتنكر فيه يعدل الصيام، ومدارسته تعدل القيام به توصل الأرحام وبه يعرف الحلال من الحرام وهو إمام العمل والعمل تابعه يلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء".
رواه ابن عبد البر في كتاب العلم2 قال: وهو حديث حسن جدا وليس له إسناد قوي. اهـ.
قال الحافظ ابن حجر3: راد بالحسن حسن اللفظ قطعا فإنه من رواية موسى بن
__________
1 "ضعيف جدا". السلسلة الضعيفة "326".
2 "1/54- 55".
3 الحافظ ابن حجر هو: شيخ الإسلام، وإمام الحفاظ في زمانه أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد الكناني العسقلاني ثم المصري الشافعي. برع في الحديث، في جميع فنونه. مات سنة "852". له ترجمة في: شذرات الذهب "7/270". والضوء اللامع "2/36".

(1/12)


محمد البلقاوي عن عبد الرحيم بن زيد العمي والبلقاوي هذا كذاب كذبه أبو زرعة وأبو حاتم ونسبه ابن حبان والعقيلي إلى وضع الحديث والظاهر أن هذا الحديث مما صنعت يداه1 وعبد الرحيم بن زيد العمي متروك أيضا2 انتهى ذكره استدلالا بأن أئمة الحديث قد يطلقون الحسن على الحديث الضعيف ويريدون حسن لفظه وسيأتي هذا في بحث الحسن وقال الحافظ المنذري وإسناده ليس بالقوي وقد رويناه من طرق شتى موقوفا انتهى. و
لا يخفي أن عليه حلاوة الكلام النبوي وطلاوته ولفصوله شواهد في شرف العلم والأحاديث كثيرة وكل حديث في الحث على العلم وفضله فإنه صادق على علم الحديث بل هو العلم الحقيقي والفرد الكامل عند إطلاق لفظ العلم:
العلم قال الله قال رسوله ... إن صح والإجماع فاجهد فيه
وحذار من نصب الخلاف جهالة ... بين النبي وبين قول فقيه
وقال المصنف رحمه الله تعالى:
العلم ميراث النبي كذا أتى ... في النص والعلماء هم ورائه
فإذا أردت حقيقة تدري بمن ... ورائه فكرت ما ميراثه
ما خلف المختار غير حديثه ... فينا فذاك متاعه وأثاثه
فلنا الحديث ورائه نبوية ... ولكل محدث بدعة أحداثه
"واعتضد" من عضده كنصره أعانه "الإجماعان" إجماع السلف والخلف "عليه" أي على فضل العلم النبوي "من بعد" أي من بعد إجماع السلف وهو إجماع الخلف "ومن قبل" أي من قبل إجماع الخلف وهو إجماع السلف ويحتمل إجماع الصحابة والقرابة أو إجماع أهل العقل والنقل.
ولا ريب أن علم الحديث من أشرف العلوم وأفضلها لأنه ثاني أدلة علوم الإسلام ومادة علوم الأصول والأحكام لا يرغب في نشره إلا كل صادق تقي ولا يزهد في نصره إلا كل منافق شقي قال أبو نصر بن سلام وليس شيء أثقل على أهل الإلحاد ولا أبغض إليهم من سماع الحديث وروايته وإسناده.
__________
1 انظر ترجمته في: الميزان "4/211"، والمجروحين "2/242".
2 انظر ترجمته في: المجروحين "2/161"، والتاريخ الكبير "2/600".

(1/13)


"والصلاة والسلام على خاتم الرسل" لما كانت هذه الصفة معينة للموصوف وهو محمد صلى الله عليه وسلم اكتفى بها عن تعيين اسمه "وعلى أهله" هم آله1 "خير أهل" له أو خير أهل لكل ذي أهل "وعلى أصحابه كنوز الفضل" في القاموس الكنز المال المدفون فقد جعل الفضل كالمال المدفون وجعل الصحابة محله الذي يستخرج منه "وسيوف الفصل" أي السيوف التي تفصل الحق من الباطل والمؤمن من الكافر.
"وبعد" أي بعد حمد الله والصلاة "فهذا" أي المعاني المخزونة في النفس بعد تزيلها المحسوس لكمال ظهورها لديه "مختصر يشتمل على مهمات علوم الحديث" وهو علم دراية لا رواية رسمه الشيخ عطا في مختصره المسمى "بالقول المعتبر في مصطلح أهل الأثر" بقوله علم يعرف به حال الراوي والمروي من جهة القبول والرد وموضوعه الراوي والمروي عنه من هذه الجهة وغايته معرفة ما يقبل وما يرد وأما الحديث فهو علم رواية ورسمه أيضا بأنه علم يشتمل على نقل ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم: قيل أو إلى صحابي فمن دونه قولا أو فعلا أو هما أو تقريرا أو صفة وقيل ما جاء عن النبي صلى عليه وآله وسلم والخبر ما جاء عن غيره وعلم درايته اصطلاحي كما قال المصنف "واصطلاحات أهله ولا غنى لطالب هذا العلم" أي علم الحديث "عن معرفته" المختصر "أو" معرفة "مثله" وقد جعل ابن الصلاح أنواع علوم الحديث خمسة وستين نوعا وجعل النوع الأول معرفة الصحيح كما جعل المصنف أقسام الحديث أول أبحاثه.
__________
1 هم آله: عند الإمام الشافعي أقاربه المؤمنون من بني هاشم والمطلب؛ لحديث مسلم في الصدقة: "إنها لاتحل لمحمد ولا لآل محمد".
وقال في حديث رواه الطبراني: "إن لكم في خمس الخمس ما يكفيكم – أو يغنيكم- " وقد قسم صلى الله عليه وسلم الخمس على بين هاشم والمطلب تاركا أخويهم بني نوفل وعبد شمس مع سؤالهم له، كما رواه البخاري. "تدريب الراوي" "1/60- 61".

(1/14)