توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار

مسألة1 [في أقسام الحديث]
قال "أقسام الحديث" أي في اصطلاحات أئمة الحديث "قسمه الخطابي" هو الحافظ حمد بفتح الميم بغير همزة كما رواه الحاكم أبو عبد الله أنه سئل الخطابي عن اسمه قال اسمي حمد ولكن الناس كتبوا أحمد فتركته عليه والخطابي فقيه أديب محدث له مؤلفات منها "معالم السنين" على أبى داود وله أعلام السنن في شرح البخاري وغير ذلك وفاته سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة بمدينة بست بضم الموحدة وسكون السين المهملة ومثناه فوقية مدينة من بلاد كابل والخطابي بفتح الخاء المعجمة وتشديد الطاء المهملة وبعد الألف موحدة نسبة إلى جده وقيل إنه ذوية زيد بن الخطاب1 "في المعالم" أي معالم السنن جمع معلم بفتح الميم وسكون المهملة في القاموس معلم الشيء كمقعد مظنته وما يستدل به عليها كالعلامة كرمانة والمراد مظنة السنن وما يستدل به عليها وبهذا سمى البغوي2 تفسيره "معالم التنزيل" "إلى صحيح وحسن وسقيم" وقال ابن الصلاح: في كتابه علوم الحديث3 اعلم أن الحديث عند أهله ينقسم إلى صحيح وحسن وضعيف."
"وعرف الصحيح" 4 أي رسمه "بأنه عندهم: ما اتصل سنده" السند هو الإخبار عن
__________
1 انظر ترجمته في: وفيات الأعيان "2/214"، وتذكة الحفاظ "1019"، والعبر "3/39". ومرآة الجنان "2/435".
2 البغوي هو: الإمام الفقيه الحافظ أبو محمد الحسين بم مسعود بن محمد الفراء الشافعي. بورك له في تصانيفه لقصده الصالح؛ فإنه كان من العلماء الربانيين. مات سنة "516". له ترجمة في: البداية والنهاية "12/193". وشذرات الذهب "4/48". ووفيات الأعيان "1/145".
3 ص "18".
4 وعرف الصحيح: قدم لاستحقاقه التقديم رتبة ووضعا، وترك تعريفه لغة بأنه ضد المكسور والسقيم، وهو حقيقة في الأجسام بخلافه في الحديث والعبادة والمعاملة وسائر المعاني فمجاز، أو من باب الاستعارة بالتبعية لكونه خروجا عن الغرض. "فتح المغيث للسخاوي". "1/14".

(1/15)


طريق المتن1 من قولهم "فلان سند" أي معتمد سمي سندا لاعتماد الحفاظ في صحة الحديث وضعه عليه وأما الإسناد فهو رفع الحديث إلى قائله وقد يستعمل كل منهما في مكان الآخر فقوله "ما اتصل سنده" احتراز عن المتقطع وهو الذي لم يتصل سنده بأقسامه2 ويأتي بيان أقسامه في كلام المصنف "وعدلت نقلت" احتراز عن المستور ومن قيه نوع جرح والعدل عندهم من له ملكة تحمله على ملازمة التقوى والمروءة ويأتي لنا بحث في رسم العدل بهذا.
"ولم يشترط" الخطابي في رسم الصحيح "الضبط" كما اشترط غيره من أئمة الحديث قال السيوطي في شرح ألفيته قال الحافظ ابن حجر قول الخطابي "وعدلت نقلته" مغن عن التصريح باشتراط الضبط لأن المعدل من عدلة النقاد أي وثقوه وإنما يوثقون من اجتمع فيه العدالة والضبط بخلاف من عرفه بلفظ العدل فيحتاج إلى زيادة قيد الضبط فلا اعتراض عليه [ويؤخذ من هذا أنه إذا قيل فلان ثقة يخطئ ففيه مناقضة] نعم يبقى الاعتراض عيه بعد زيادة قيد السلامة عن الشذوذ كما يأتي والضابط عندهم من يكون حافظا متيقظا غير مغفل ولا ساه ولا شاك في حالتي التحمل والأداء وهذا الضبط التام وهو المراد هنا.
واعلم أن الضبط قسمان ضبط صدر بأن يثبت الراوي ما سمعه بحيث يتمكن من استحضاره متى شاء وضبط كتاب بأن يصونه منذ سمع فيه وصححه إلى أن يؤدي منه لأن الناقل إن كان فيه نوع قصور عن درجة الإتقان دخل حديثه في حد الحسن وإذا نزلت درجته عن ذلك ضعف حديثه3.
__________
1 قوله: "طريق المتن" يعنون بالطريق سلسلة الرواة الناقلين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سموا طريقا على سبيا المجاز؛ لأنهم يوصلون إلى المتن كما يوصل الطريق إلى المكان المقصود. "المصباح". ص "9".
2 لم يتصل سنده بأقسامه: يدخل فيه المنقطع والمرسل بقسميه والمعضل والمعلق الصادر ممن لم يشترط الصحة كالبخاري؛ لأن تعليقه المجزومة المستجمعة للشروط فيمن بعد المعلق عنه لها حكم الاتصال، وإن لم نقف عليها من طريق المعلق عنه فهو لقصورنا وتقصيرنا. "فتح المغيث". "114".
3 انظر "فتح المغيث". "1/15".

(1/16)


"ولا" اشترط الخطابي "سلامة الحديث من الشذوذ" احترازا عن الحديث الشاذ وسيأتي بيانه "و" لا اشترط سلامته من "العلة" والذي لم يسلم منها يقال له المعل أي الذي لم يسلم عن أسباب حفية قادحة كما ستعرفه في تعريف العلة في كلام المصنف فإن قيل هذا قيد مستدرك فإنه لا يخفى على الضابط الحازم مثل تلك القادحة قيل يقال الصارم قد ينبو والحازم قد يسهو.
"ولا بد من اشتراط الضبط" أي لا فراق ولا محالة كما في القاموس أي لا بد من اشتراط تمام الضبط ولا مطلقه كما ستعرفه من عبارات أئمة هذا الشأن وكأن المصنف أطلقه بناء على أن الضبط التام هو الفرد الكامل المتبادر كما هو الواقع في رسوم الصحيح عند علماء الفن.
قال ابن الصلاح: أما الحديث الصحيح فهو الحديث المسند الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه1 وقال الحافظ ابن حجر في "لنخبة"2بنقل عدل تام الضبط ومثله عبارة المصنف في مختصره في هذا الفن.
ووجه الاحتياج إلى هذا القيد في الرسم قوله "لأن من كثر خطؤه عند المحدثين" الظاهر تعلقه بقوله "استحق الترك" فلو أخره كان أولى فإن المعنى استحقاق كثير الخطأ الترك عند أئمة الحديث لا أن كثرة أخطائه عند المحدثين كما هو واضح ترشد إليه عبارته الآتية قريبا "وإن كان عدلا" إذا العدالة لا تنافي كثرة الخطأ في الرواية إذ مدرك ذلك عدم تمام الضبط ومدرك العدالة غيره وهذا في كثرة الخطأ وأما خفته فإنه يكون الراوي معه مقبولا ويصير حديثه حسنا كما قال الحافظ فإن حف الضبط فهو الحسن لذاته.
وقال المصنف في مختصره فإن خف الضبط وكان له من جنسه تابع أو شاهد فالحسن ويأتي تحقيق ذلك في بحثه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
"وكذلك" أي يستحق الترك "عند الأصوليين" أي أهل أصول الفقه ولكن بشرط غير شرط الأولين وهو "إذا كان خطؤه أكثر من صوابه واختلفوا" أي الأصوليون لا أهل الحديث فإنه يعلم أنهم إذا تركوا من كثر خطؤه فتركهم من تساوي خطؤه وصوابه بالأولى والفرق بين كثيرا وأكثر ظاهر فهذان قسمان والثالث: أشار إليه بقوله "إذا
__________
1 علوم الحديث ص "20".
2 ص "29".

(1/17)


استويا فالأكثر منهم" أي الأصوليين "على رده" لعدم الظن بصدقه "لأنه لا يحصل الظن بصدقه" ولا يقبل إلا ما يظن صدقه وإلا كان تحكما وهذا ثالث الأقسام ورابعها أن يخف ضبطه وهذا لم يذكره المصنف وقد أشرنا إليه وخامسها من صوابه أكثر من أخطائه وهو مفهوم كلام المصنف حيث قال لأن من كثر خطؤه عند المحدثين واستحق الترك كما سلف وهذا يحتمل أنه الخفيف الضبط فهو مقبول عند المحدثين لكن حديثه حسن لا صحيح عندهم ويكون مقبولا عند الأصوليين.
"ومنع رده جماعة منهم المنصور بالله" عبد الله بن حمزة "ولكنه قال طريق قبوله الاجتهاد" ولا يخفي أن هذه كلها أخبار آحاد وطريق قبولها الاجتهاد وهو النظر في أدلة التعبد بأخبار الآحاد فما وجه تخصيص هذا القسم بالشرط المذكور ثم لا يخفى أنه إذا استوى ضبط الراوي وعدمه كان قبول روايته قبولا مع الشك فيها والشك لا يعمل به فإن أراد المنصور بالله أنه إذا حفته قرائن تقيد المجتهد ظن صدقه فليس يعلم بالمشكوك فيه من هذه الجهة بل من جهة ما حفه من القرائن.
"كما هو قول عيسى بن أبان" بفتح الهمزة "ذكره" المنصور بالله "في" كتابه "الصفوة" وحكاه عنه في الجوهرة للشيخ الحسن الرصاص "وكذلك الفقيه عبد الله بن زيد" العنسي "ذهب إلى قبوله" أي قبول من تساوى ضبطه وعدمه.
وأما قوله "وادعى الإجماع على قبوله إن كان صوابه أكثر من خطائه" فيحمل على أن ضمير قبوله في هذه الجملة للراوي المفيد بكثرة صوابه على خطائه لتصح دعوى الإجماع لا فيمن تساويا وإن كانت عبارته تقضي بعود الضمير إليه إذ الكلام فيه ولا يصح أن يجعل قوله "إن كان صوابه أكثر من خطائه" قيدا لقوله "ذهب إلى قبوله" لأنه غير محل النزاع فإن النزاع فيمن تساويا فيه ولا من كان خطؤه مكثورا فإن مفهوم قوله آنفا أنه يرد الأصوليون من كان خطاؤه أكثر من صوابه أن من كان صوابه أكثر من خطائه غير مردود عندهم وكذلك عند المحدثين لأن الأظهر أنه المراد بخفيف الضبط الذي جعلوا حديثه حسنا ولهذا راج للفقيه عبد الله دعوى الإجماع على قبوله "ذكر" الفقيه عبد الله "ذلك كله في الدرر" جمع درة، وهو كتاب للفقيه في أصول الفقه "وفي دعوى" الفقيه عبد الله "الإجماع نظر لمخالفة المحدثين".
اعلم أنه يتصور هنا أربع صور:
الأولى: تام الضبط.

(1/18)


الثانية: من تساوى ضبطه وعدمه.
الثالثة: من كان ضبطه أكثر من عدمه.
الرابعة: من عدم ضبطه أكثر من ضبطه.
وينضاف إليها صورتان:
الأولى: من قل غلطه.
والثانية: من كثر غلطه.
الأولى من الأربع بشرط الصحيح والخامسة شرط الحسن فإن قلة الضبط هي خفته والسادسة هي التي قال المصنف إنه يستحق صاحبها الترك عند المحدثين وأما من صوابه أكثر من خطائه وهي الصورة الثالثة فمفهوم كلام المصنف أن صاحبها مقبول عند الأصوليين ويحتمل أنها صورة خفة الضبط عند المحدثين فيكون مقبولا عندهم أيضا فأنا لم ترهم عينوا خفة الضبط برتبة يتميز بها عن غيره وعلى هذا فقد قبل المحدثون أهل هذه الصفة في رجال الحسن فلا يتم قول المنصف إن في دعوى الفقيه عبد الله الإجماع نظرا لمخالفة المحدثين فإن الفقيه عبد الله ادعى الإجماع على قبول من صوابه أكثر من خطائه وهو فيما يظهر لنا خفيف الضبط فيتم دعواه الإجماع على قبوله من الفريقين لكنه شرط للحسن والفقيه عبد الله إنما يتكلم على مجرد القبول لا على ما هو شرط الصحيح ويدل لذلك أن المحدثين جعلوا من القوادح في الراوي فحش غلطة أي كثرته وسوء حفظه وهو عبارة عمن يكون غلطة أكثر من إصابته هكذا ذكره الحافظ في النخبة وشرحها.
فالذي ذكر المحدثون أربع صور تام الضبط خفيفة كثير الغلط من غلطة أكثر من حفظه فالأوليان مقبول من اتصف بهما والأخريان مردود من اتصف بهما.
فعرفت أن قوله "إلا أن يعني إجماع الصحابة وإجماع غيرهم كما أشار إليه" لا حاجة إليه اللهم إلا أن يتبين أن المحدثين يفرقون بين من صوابه أكثر من خطائه وبين خفيف الضبط فيقبلون الثاني: في الحسن ويردون الأول صح ما قاله المصنف رحمه الله تعالى!
"وأما السلامة من الشذوذ والعلة" عطف على قوله "ولا بد من اشتراط الضبط" أي وأما اشتراط السلامة من الشذوذ والعلة أي في رسم الصحيح كما صنعه جماعة من أئمة الحديث "فقال الشيخ تقي الدين" هو العلامة التقي محمد ابن علي القشيري

(1/19)


المعروف بابن دقيق العيد1 "في" كتابه المسمى "الاقتراح في هذين الشرطين نظر" أي في ذكرهما في رسم الصحيح "على مقتضى نظر الفقهاء" لا على مقتضى نظر أئمة الحديث وقد صرح بهذا المفهوم بقوله "إن أصحاب الحديث زادوا ذلك في حد الصحيح" "فإن كثيرا من العلل التي يعلل بها المحدثون لا تجري على أصول الفقهاء" فليست عندهم شرطا في صحة الحديث.
واعلم أن بعض المحدثين يردون الحديث بالعلل سواء كانت قادحة أو غير قادحة كما صرح به الحافظ ابن حجر في نكته على ابن الصلاح حيث قال وأما الفقهاء فلا يردونه إلا بالعلة القادحة كما ذكره الشيخ تقي الدين بقوله فإن كثيرا من العلل إلى قوله لا تجري على أصول الفقهاء2 فإن فيه ما يدل أن قليلا منها تجري على أصولهم وهي العلل القادحة لا غير القادحة.
قال الحافظ وأما العلل التي يعلل بها كثير من المحدثين ولا تكون قادحة أي عند الفقهاء فكثيرة منها أن يروي العدل الضابط عن تابعي مثله عن صحابي حديثا فيرويه عدل ضابط مثله مساو له في عدالته وضبطه وغير ذلك من الصفات العلية عن ذلك التابعي بعينه عن صحابي آخر فإن هذا يسمى علة عندهم أي المحدثين لوجود لوجود الاختلاف على ذلك التابعي في شيخه ولكنها غير قادحة لجواز أن يكون التابعي سمعه من الصحابيين معا ومن هذا جملة كثيرة انتهى.
قلت: كلام الشيختقي الدين تنظير على شرطي السلامة من الشذوذ من العلة ولم يبين وجه النظر إلا في اشتراط السلامة من العلة دون الشذوذ فالعلة قاصرة عن المدعي ثم لا يخفى أنه قد حصل مما ذكر أن اصطلاح الفقهاء في صحة الحديث غير اصطلاح المحدثين إذ المحدثون يشترطون خلوه من العلة مطلقا والفقهاء يشترطون خلوه من العلة القادحة فهو اصطلاحهم أخص منه باصطلاح الفقهاء وإذا كان كذلك فلا يتم جمع الخاص والعام في رسم واحد فاعتراض الشيخ تقي الدين على رسم المحدثين بأنه غير موافق لاصطلاح الفقهاء غير وارد بل لا بد من مخالفة الرسمين.
__________
1 التقي محمد بن علي القشيري المعروف بابن دقيق العيد الإمام الفقيه الحافظ شيخ الإسلام. كان من أذكياء زمانه، واسع العلم، مديما للسهر، لم تر العيون مثله. مات سنة "702" له ترجمة في: شذرات الذهب "6/317"، والوافي بالوفيات "4/193".
2 انظر "فتح المغيث"، "1/16".

(1/20)


لاختلاف الاصطلاحين.
"قال ابن الصلاح": هو كما قال الذهبي في التذكرة الإمام الحافظ المفتي شيخ الإسلام تقي الدين أبو عمرو عثمان الشهرزوري الشافعي صاحب كتاب علوم الحديث وقال أبو حفص بن الحاجب في معجمه إمام ورع وافر العقل حسن السمت متبحر في الأصول والفروع بارع في الطب وأثنى عليه الذهبي كثيرا ولد سنة سبع وسبعين وخمسمائة قال بان خلكان كان أوحد فضلاء عصره في التفسير والفقه "وزين الدين" هو العلامة الحافظ عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن بن العراقي البغدادي كان إماما علامة مقرئا فقيها شافعي المذهب أصوليا منقطع القرين في فنون الحديث وصناعته ارتحل فيه إلى البلاد النائية وشهدت له بالتفرد فيه أئمة عصره وعولوا عليه ولى قضاء المدينة نحو ثلاث سنين وسلوك وانتفع به الأجلاء مع الزهد والورع والتحري في الطهارة وغيرها والتقنع باليسير التواضع والكرم والوفاء أفرد ابنه له ترجمة في تأليف مات في شعبان سنة ست وثمانمائة عن إحدى وثمانين سنة ذكره الحافظ السخاوي في "شرح الألفية"1 "فالصحيح ما اتصل سنده بنقل عدل ضابط عن مثله من غير شذوذ ولا علة قادحة" ظاهره أن هذا رسم ابن الصلاح والزين بلفظه والذي رسمه ابن الصلاح، ليس فيه لفظ قادحة بل لفظه كما قدمنا بعضه وتمامه "وأن لا يكون شاذا ولا معللا".
وأما الزين فإنه زاد وصف العلة بالقادحة في رسمه فكأن المصنف أراد أن هذا الرسم مجموع رسميهما وإن ذكر أحدهما ما لم يذكره الآخر لكن عرفت أن الرسم على اصطلاح المحدثين إذ هذه الكتب ألف في بيان اصطلاح وعرفت أنهم يشترطون في الصحيح السلامة من العلة مطلقا فزيادة القادحة في وصف العلة زيادة قادحة في صحة الرسم على أصلهم فحذف ابن الصلاح لها هو الصواب وإثبات الشيخ زين الدين لها صير رسمه على اصطلاح الفقهاء وهو بصدد بيان اصطلاح المحدثين نعم قال ابن الصلاح: في بيان فوائد قيود حده إنه احترز عما فيه علة قادحة يريد أنه وقع الاحتراز عن هذا بقوله "معللا". ومراده قادحة على رأي المحدثين وإن لم تكن قادحة عند الفقهاء بدليل أنه مثل في النوع الثامن عشر في بحث
__________
1 "1/2". وله ترجمة أيضا في: إنباه الغمر "2/275"، وشذرات الذهب "7/55"، والضوء اللامع "4/171".

(1/21)


المعلل بأمثلة يقدح بها المحدثون ولا يقدح بها الفقهاء وسيأتي.
وبهذا تعرف أن وصفه للعلة بالقادحة عند بيان القيود وإهمالها في الرسم بيان منه لما عليه المحدثون فإن العلة تقدح عندهم في صحة الحديث وإن لم تقدح عند غيرهم فحذف وصفها بالقادحة في الرسم لأن ألفاظه إنما يؤتى بها للاحتراز والجمع والمنع فلو أتى بقيد القادحة في الرسم لحمل رسمه على اصطلاح الفقهاء فإنه يحترز به عن العلة التي ليست بقادحة عندهم وأتى به في بيان فوائد القيود وصفا كاشفا لا تحترز به عن شيء وبه تعرف أن وصف العلة بالقادحة عند الفقهاء احتراز عن علة لا يقدح بها وأن وصفها في لسان المحدثين إنما هو للكشف لا للاحتراز.
وقلنا في نظمنا للنخبة في رسم الصحيح:
وهو بنقل العدل ذي التمام
...
في ضبط ما يروى عن الأعلام
منصلا إسناد ما يرويه
...
لا علة ولا شذوذ فيه
يدعي الصحيح في العلوم عرفا
فهذا كما ترى جامع مانع على اصطلاح أئمة الحديث.
وبهذا التحقيق تعلم أن اعتراض الشيخ تقي الدين ليس في محله وتعرف أن قول ابن حجر في جوابه عن اعتراضه إن ابن الصلاح لم يخل بذلك القيد بل قوله في الرسم ولم يكن معللا يريد علة خفيه قادحة مستدلا برسمه للحديث المعلل على اصطلاح المحدثين حيث قال: "أنه الحديث الذي اطلع في إسناده على علة خفيه قادحة" غير صحيح لأنه لم يرد بوصف العلة بالقادحة في رسم العلل إلا القادحة عند المحدثين ولا مفهوم لها بل هي وصف كاشف وتعرف إتقان ابن الصلاح في رسمه وجريه على اصطلاح أئمة الحديث من غير ملاحظة لاصطلاح غيرهم.
وقد حذف المصنف في مختصره من رسم الصحيح قيد القادحة فهو غير موافق لما قررناه هنا فتأمل وتعرف أنه كان يحسن من المصنف تأخير كلام الشيخ تقي الدين وأن يفرد عبارة ابن الصلاح ثم يورد عقبيها اعتراض الشيخ تقي الدين فإنه اعتراض لرسم ابن الصلاح.
"قال الشيخ تقي الدين: لو قيل هذا" أي الرسم الذي ذكره ابن الصلاح وزين الدين رسم "الحديث الصحيح المجمع على صحته لكان" قولا "حسنا لأن من لا يشترط هذه الشروط لا يحصر الصحيح في هذه الأوصاف" يريد أنه لو قيل إن رسم ابن الصلاح

(1/22)


الذي سبق اعتراضه له رسم للحديث الصحيح المتفق على صحته لكان حسنا لأن من العلماء من لا يشترط ما ذكر من الشروط فيما يجعله صحيحا فيكون هذا صحيحا عنده لأنه حوى ما شرطه وزيادة "ومن شرط الحد الجمع" لأفراد المحدود "والمنع" لدخول غيرها في، "فقال ابن الصلاح1: هذا صحيح باتفاق أهل الحديث" قلت: ذلك لأنه قد جمع القيود المعتبرة عند أئمة الحديث وهي ثلاثة ثبوتية وهي اتصال السند وعدالة الناقل وضبطه وقيدان عدميان هما عدم الشذوذ والعلة فهذه الخمسة هي المعتبرة في حقيقة الصحيح عند المحدثين لكن تقييده هنا للعلة بالقادحة أخرج منه بعض أفراد الصحيح وهو ما فيه علة غير قادحة فإنه غير صحيح عند المحدثين كما عرفت.
فقوله: "صحيح باتفاق المحدثين" مسلم لكنه غير جماع لخروج بعض أفراد الصحيح منه عندهم كما عرفت وقد قال الشيخ تقي الدين "من شرط الحد الجمع والمنع" وهذا الحد قد جمع أفراد المحدود ومنع ما عندها وإن خرج منه بعض أفراد الصحيح أئمة الحديث وتسمية مثل هذه الرسوم حدودا لا يتم على اصطلاح أهل الميزان فهو من باب التسامح في ذلك.
ويحتمل أن يراد بقوله: "ومن شرط الحد ... إلى آخره" الاعتراض على الحد بأنه لم يشمل كل أفراد الصحيح على اصطلاح الفقهاء فلم يكن جامعا فإن أراد هذا فجوابه ما سلف أنه بصدد رسمه على اصطلاح المحدثين ومعناه أخص من معناه عند الفقهاء ولا يتم جمع الأخص والأعم في حد.
وقد أفصح ابن الصلاح عن مراده من بيان معناه عند الفقهاء بما نقله عنه المصنف من قوله "فقال ابن الصلاح: هذا صحيح باتفاق أهل الحديث" ولفظ ابن الصلاح فهذا هو الحديث الذي يحكم له بالصحة بلا خلاف بين أهل الحديث انتهى فتسامح الزين في عبارته ولم ينقلها بلفظها وتبعه المصنف ثم رأيت بعد ككتب هذا بأيام في "شرح الإلمام" لابن دقيق العيد المتن والشرح له ما لفظه إن لكل من أئمة الفقه والحديث طريقا غير طريق الآخر فإن الذي تقضيه قواعد الأصول والفقه أن العمدة في تصحيح الحديث عدالة الراوي وجزمه بالرواية ونظرهم يميل إلى اعتبار التجويز الذي يمكن
__________
1 علوم الحديث ص "20".

(1/23)


معه صدق الراوي وعدم غلطه فمتى حصل ذلك وجاز أن لا يكون غلطا وأمكن الجمع بين روايته ورواية من خالفه بوجه من الوجوه الجائزة لم يترك حديثه فأما أهل الحديث فإنهم قد يروون الحديث من رواية الثقات العدول ثم تقوم لهم علل تمنعهم عن الحكم بصحته انتهى كلامه بنصه وهو صريح في اختلاف الاصطلاحين في مسمى الصحيح من الحديث كما قررناه والحمد لله.
واعلم أن ابن الصلاح قال في كتابه "علوم الحديث": "أما الحديث الصحيح فهو الحديث المسند الذي يتصل بإسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه ولا يكون شاذا ولا معللا" ثم قال: "فهذا الحديث الذي تحكم له بالصحة بلا خلاف بين المحدثين" انتهى كلامه بلفظه.
إذا عرفت هذا عرفت أن تعريف ابن الصلاح جامع مانع على رأي أهل الحديث كما قررناه ولكن المصنف لما أتى بالتعريف الذي نسبه إلى ابن الصلاح والزين وفيه تقييد العلة بالقادحة فخرج بزيادتها عن أن يكون جامعا على رأي المحدثين كما عرفناك.
ثم قال ابن الصلاح:: "فهذا هو الحديث ... إلى آخره" مشيرا إلى رسمه فكلامه صحيح وحده جامع مانع على رأي المحدثين فالخلل وقع من نسبة المصنف الحد الذي أتى به إلى الزين وابن الصلاح وزيادة "قادحة" للزين فقط وعرفت أن قول المصنف فقال ابن الصلاح: هذا صحيح نقل لكلام ابن الصلاح بالمعنى على أنه إنما أشار بهذا إلى الحديث حيث قال فهذا الحديث الذي نحكم له بالصحة وعبارة المصنف رحمه الله تعالى قاضية بأن الإشارة إلى الحد الذي ذكره هو.
"قال زين الدين: إنما قيد" أي ابن الصلاح "نفى الخلاف بأهل الحديث لأن في المعتزلة من يشترط العدد1" أي زيادة عدد الرواة على الواحدة "حكاه الحازمي" هو الأمام الحافظ البارع النسابة أبو بكر محمد بن موسى بن حازم الهمذاني أثنى على الذهبي وذكر له عدة مؤلفات منها الناسخ والمنسوخ في الحديث وعدله أشياء غير ذلك2 "في شروط الأئمة" لفظ الزين في شرح ألفيته بعد نقل كلام ابن الصلاح إنما قيد نفي
__________
1 فتح المغيث "1/11".
2 قال ابن النجار: كان من اتلأئمة الحفاظ، العالمين بفقه الحديث ومعانيه ورجاله، ثقة حجة زاهدا ورعا عابدا، أدركه أجله شابا. له ترجمة في: البداية والنهاية "12/332"، والعبر "4/254"، ووفيات الأعيان "1/488".

(1/24)


الخلاف بأهل الحديث لأن بعض متأخري المعتزلة يشترط العدد في الرواية كالشهادة إلى آخره فأفادت عبارته أنه أشار ابن الصلاح إلى من يقول أنه يشترط في الرواية عدد الشهادة وهو الاثنان وهذا العدد ذكره أبو منصور عن الجاحظ1.
[وعبارة المصنف بقوله العدد مجملة في قدر العدد فلذا نقلنا لفظ الزين] .
وأنه يشترط في الرواية الاثنين عن الاثنين والمصنف قال "قلت: بل مذهب البغدادية من المعتزلة اشتراط التواتر" وهو نقل جماعة عن جماعة تحيل العادة تواطؤهم على الكذب مع استواء الوسط2 والطرفين3 بشرط أن يسند إلى الحس4 ولا يشترط له عدد معين عند المحققين كما عرف في الأصول.
وكأن المصنف أراد بمجرد الإفادة أن من الناس من يشترط التواتر وإلا فأنه لا يصح تفسير عبارة الزين بمذهب البغدادية من المعتزلة لأن من يشترط التواتر لا يشترط عددا معينا وعبارة الزين أن بعض المعتزلة يشترط العدد في الرواية كالشهادة فلا يصح أن يجعل إشارة إلى القائلين منهم بشرطية التواتر.
فإن قلت: لعل معتزلة بغداد يجعلون للتواتر عددا معينا فيصح تفسير ما قاله الزين بهم.
قلت: لا يصح وإن قالوا بالعدد لاتفاق القائلين إنه لابد وأن يكون أهل التواتر أكثر من أربعةوزين الدين أشار إلى من يقول إن الرواية كالشهادة والشهادة عند
__________
1 الجاحظ هو/ أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الكناني، ويعرف بالجاحظ لجحوظ عينيه، واشتهر بقبيح خلقته، وبلغ من الذكاء وجودة القريحة ما جعله من كبار أئمة الأدب. مات سنة "255هـ". له ترجمة في: وفيات الأعيان "1/388"، وطبقات الأدباء "254"، وتاريخ بغداد "12/214".
2 يقصد بالاستواء: الاستواء في الكثرة، وإن تفاوت العدد مثل أن يكون عدد الطبقة الأولى ألفا، وعدد الثانية تسعمائة، وعدد الثالثة ألفا وتسعمائة.
3 الطرفين: المراد بهما الطبقة الأولى من الرواة، وهي التي نقلت الخبر عن مصدره الأصلي، والطبقة الأخيرة وهي التي ألقت الخبر إلى السامع.
4 الحسن: معناه أن يكون ذلك الخبر مما يدرك بالحس، ويكون مستند المخبرين هو الإحساس على وجه اليقين.
وذلك مثل أن يقولوا: رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل كذا، وسمعناه يقول كذا، فإن كان الخبر مما لا يدرك بالحس لا يسمى متواترا. "توجيه النظر" ص "34" بتصرف يسير.

(1/25)


الإطلاق تتبادر إلى الاثنين على أنا لو حملنا عبارته على أكثر نصاب الشهادة فهو أربعة [كما في الزنا] والتواتر لا يكفي فيه الأربعة.
واعلم أنه قال الحافظ ابن حجر إنه رأي في تصانيف الجاحظ أحد المعتزلة أن الخبر لا يصح عندهم إلا إن رواه أربعة وعن أبي علي الجبائي أحد المعتزلة كما حكاه أبو الحسين البصري في المعتمد أن الخبر لا يقبل إذا رواه العدل الواحد إلا إذا انضم إليه خبر عدل آخر وعضده موافقة ظاهر الكتاب أو ظاهر خبر آخر أو يكون قد اشتهر بين الصحابة أو عمل بعضهم انتهى.
وفي مختصر المنتهى لابن الحاجب أن الجبائي يقول لا يجوز التعبد بخبر الواحد عقلا وأما وجوب العمل به فإنه نسب عدم وجوب العمل به إلى القاشاني وابن داود والرافضة وجعلها مسألتين.
"وعندي أنه" أي ابن الصلاح "لو لم يقيد نقي الخلاف بذلك" أي بقوله عند المحدثين "كما فعل الشيخ تقي الدين" ابن دقيق العيد فإنه قال لو قيل هذا الحديث الصحيح المجمع على صحته فإنه أطلق الإجماع ولم يقيده بالمحدثين ولا غيرهم لكان أي الحد مع عدم التقييد "صحيحا ويحمل على إجماع الصحابة" أي يحمل رسم ابن الصلاح للصحيح بتلك القيود على أنه أراد إجماع الصحابة والمراد إجماعهم على قبول من له تلك الأوصاف لا أنهم رسموا الصحيح فإن هذا التقسيم للحديث عرف حادث بعد عصرهم "ومن بعدهم" من التابعين "حتى حدث هذا الخلاف" أي خلاف المعتزلة.
قلت: في كلام المصنف رحمه الله تعالى أبحاث:
أحدها: أن الصحابة لم يجمعوا على قبول من له هذه الأوصاف فإنه سيأتي للمصنف رحمه الله تعالى أن عليا كرم الله وجهه يحلف الراوي وقد علم من كتب الحديث أن عمر1 رضي الله عنه رد خبر المغيرة ورد خبر أبي موسى حتى انضم إليهما غيرهما ورد خبر فاطمة بنت قيس ورد على رضي الله عنه خبر معقل بن سنان وقال أعرابي بوال على عقبيه وإن قيل إنه لم يصح عنه ثم كانوا يقبلون
__________
1 عمر هو: ابن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى القرشي العدوي المدني أمير المؤمنين، كان من قديمي الإسلام والهجرة، وممن صلى إلى القبلتين، وشهد المشاهد كلها. ومات سنة "23". له ترجمة في: أسد الغابة "4/145"، والإصابة "2/511"، وشذرات الذهب "1/33".

(1/26)


المرسل فإنهم قالوا إن ابن عباس1 رضي الله عنهما لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم: إلا بضعة عشر حديثا وقيل أقل وروي الكثير الطيب عن الصحابة من دون ذكرهم وكذلك غيره.
الثاني: أن ابن الصلاح قد صرح بمراده من قيد نقي الخلاف فإنه قال باختلاف بين أهل الحديث وقد يختلفون في صحة بعض الأحاديث لاختلافهم في وجود هذه الأوصاف فيه أو لاختلاف في اشتراط بعض هذه الأوصاف كما في المرسل انتهى فأفاد أن المحدثين يختلفون في صحته لعدم وجود بعض الأوصاف التي هي الاتصال بنقل العدل الضابط عن مثله وعدم الشذوذ والعلة فإن وجدت فهو عندهم صحيح بلا خلاف بينهم وإن فقد البعض منها جاء فيه الخلاف ومثل بالمرسل لأنه فقد الاتصال وقد ذهب أقوام إلى أنه صحيح ولذا قال المصنف في مختصره في رسم الصحيح إنه نقل عدل تام الضبط متصل السند غير معل ثم قال وعند من يقبل المرسل نقل عدل غير مغفل بصيغة الجزم دون التمريض والبلاغ فجعل المرسل قابليه قسما من الصحيح.
وإذا عرفت هذا عرفت أن ابن الصلاح لم يرد بقوله بلا خلاف بين أهل الحديث الإشارة إلى من يشترط العدد من المعتزلة كما قاله زين الدين بل الإشارة إلى خلاف أهل الحديث الذين ألف كتابه في اصطلاحهم ولذا قال قد يختلفون أي أهل الحديث أنفسهم فالحديث إن جمع تلك القيود اتفقوا على صحته وإن فقد بعضها جاء فيه الخلاف بين أهل الحديث إذا منهم من لا يشترط تمام الضبط فيدخل الحسن في الصحيح كما سيأتي.
وبه تعرف أنه لا بد من التقييد لنفي الخلاف بالمحدثين إذ التأليف على اصطلاحهم والخلاف بينهم لا أنه إشارة إلى من يشترط العدد وتعرف أنه لا يريد إجماع الصحابة وكيف يحمل كلامه على الإشارة إلى من يشترط العدد كما زعمه زين الدين وهو يقول لاختلافهم في وجود هذه الأوصاف فيه أو لاختلافهم في اشتراط بعض الأوصاف - أي في شرطيته - كالاتصال فان من يقبل المرسل لا يشترطه ولم يقل
__________
1 ابن عباس هو: عبد الله بن عباس القرشي الهاشمي المكي، وهو حبر الأمة وترجمان القرآن، روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثر. مات سنة "70". له ترجمة في: أسد الغابة "3/290"، والإصابة "1/322".

(1/27)


لاختلافهم هل تكفي هذه الأوصاف أو لابد من زيادة عليها حتى يفسرها باشتراط العدد.
وبه أيضا تعرف أن قول المصنف قلت: بل مذهب البغدادية من المعتزلة اشتراط التواتر ليس في محله.
البحث الثالث: أن من جعل ذلك القيد للإشارة إلى من يشترط العدد مبنى على أنه أريد بالعدل الضابط في الرسم الواحد فلا يدخل فيه الاثنان ولا أكثر منهما ولا تصح إرادته لأنه يخرج حينئذ عن الرسم الحديث العزيز وهو ما يرويه اثنان عن اثنين والمشهور وهو ما له طرق محصورة بأكثر من اثنين والكل من قسم الآحاد ورسم الصحيح عام لهما فلابد من أن يراد بالعدل والضابط والجنس ليشمل ما ذكر وحينئذ لا يخرج عنه من يشترط العدد باثنين أو أكثر.
البحث الرابع: كلام الزين والسيد محمد رحمهما الله تعالى أن شرط العدد إنما هو لجماعة غير أهل الحديث غير صحيح فإن أهل الحديث قاطبة قد اعتبروا العدد في العزيز وهو أحد أقسام الآحاد كما عرفت وإنما اختص الجبائي بأنه حصر المقبول من الآحاد عليه فما فوقه ثم أنه قد نقل ابن الأثير في مقدمة جامع الأصول أن شرط الشيخين أن يروي الحديث الصحابي المشهور بالرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وله راويان ثقتان ثم يرويه عنه التابعي المشهور بالرواية عن الصحابة وله راويان ثقتان ثم يرويه عنه من أتباع التابعين الحافظ المشهور وله رواة من الطبقة الرابعة ثم يكون شيخ البخاري ومسلم متقنا مشهورا بالعدالة في روايته ثم قال وهذا الشرط الذي ذكرناه ذكره الحاكم ثم رد ابن الأثير على من قال إن هذا لا يتم إذ في البخاري أحاديث على غير هذا الشرط كما هو معروف في كتابه وقرر أن هذا شرط الشيخين.
وقال الحافظ ابن حجر في النخبة وشرحها1 عند ذكر العزيز وهو أن لا يروي الحديث أقل من اثنين وليس شرطا للصحيح خلافا لمن زعمه وهو أبو على الجبائي من المعتزلة وإليه يومئ كلام الحاكم2 في علوم الحديث قال الصحيح أن يرويه
__________
1 ص "24".
2 الحاكم هو: الحافظ الكبير إمام المحدثين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن حمدويه الضبي الطهماني النيسابوري. كان إمام عصره في الحديث العارف به معرفته، ثقة يميل إلى التشيع. مات سنة "405". له ترجمة في: البداية والنهاية "11/355".، والعبر "3/91"، ووفيات الأعيان "1/484".

(1/28)


الصحابي الزائل عنه اسم الجهالة بأن يكون له راويان ثم يتداوله أهل الحديث إلى وقتنا كالشهادة على الشهادة وصرح به القاضي أبو بكر بن العربي1 في شرح البخاري.
ثم قال: قال ابن رشيد2: ولقد كان يكفي القاضي في بطلان ما ادعى أول حديث فيه مذكور. انتهى.
قلت: وإليه أشرنا في نظم النخبة بقولنا:
وليس شرطا للصحيح فاعلم ... وقيل شرط وهو قول الحاكم
ومراده ابن رشيد بأول حديث: "إنما الأعمال بالنيات" 3 وهو مروي بالآحاد فإنه لم يروه إلا عمر رضي الله عنه ولم يروه عنه إلا علقمة ولم يروه عن علقمة إلا محمد بن ابراهيم ثم تفرد به يحيى بن سعيد عن محمد وكذلك آخر حديث مذكور فيه وهو حديث: "كلمتان خفيفتان على اللسان...." إلخ4 لم يروه إلا أبو هريرة وتفرد به عنه أبو زرعة وتفرد به عنه عمارة بن القعقاع وتفرد به محمد بن فضيل وعنه انتشر.
وإذا عرفت هذا عرفت أن في اعتبار خلافا لبعض أئمة الحديث وادعي أنه شرط البخاري لكن التحقيق خلاف ذلك.
"وسوف يأتي تعريف الحسن والضعيف وغيرهما إن شاء الله تعالى" بعد استيفاء الكلام على ما يتعلق بالصحيح.
__________
1 أبو بكر بن العربي هو: العلامة الحافظ القاضي أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد الإشبيلي. جمع وصنف وكان متبحرا في العلم، ثاقب الذهن، كريم الشمائل. مات سنة "453". له ترجمة في: البداية والنهاية "12/228"، والعبر "3/340"، ووفيات الأعيان "1/489".
2 ابن رشيد هو: الإمام المحدث ذو الفنون محب الدين أبو عبد الله محمد بن عمر بن محمد بن رشيد الفهري السبتي. قال ابن حجر: طلب الحديث فمهر فيه. وقال لسان الدين بن الخطيب: كان إماما، علي الإسناد، تام العناية بصناعة الحديث. مات سنة "721". له ترجمة في: البدر الطالع "2/234"، والدرر الكامنة "4/229".
3 البخاري "1/2"، ومسلم في: الإمارة: حديث "155"، وأحمد "1/25".
4 البخاري "8/107".، ومسلم في: الذكر والدعاء: حديث "13"، وأحمد "2/232".

(1/29)


مسألة 2 [في بيان مراد أهل الحديث بقولهم: هذا حديث صحيح]
"المراد" أي مراد أهل علوم الحديث "بالصحيح والضعيف" ذكره وإن كان تعريفه متأخرا ذكرا لحكم النقيض عند حكم نقيضه "قال زين الدين: وحيث يقول المحدثون هذا حديث صحيح فمرادهم فيما ظهر لنا عملا بظاهر الإسناد لا أنه مقطوع بصحته" 1 هو مأخوذ من كلام ابن الصلاح فإنه قال ليس من شرطه يريد الصحيح أن يكون مقطوعا به "في نفس الأمر" 2.
وهذا كلام صحيح "لجواز الخطأ والنسيان على الثقة" سواء أريد المصحح له من الرواة إلا أنه لا يخفي أن هذا الإخبار عن مرادهم قليل الإفادة لأنه معلوم أن ما في نفس الأمر لا يطلع عليه إلا الله تعالى وأنه لا يكلف أحدا إلا بالعمل بما خوطب به وظهر له صحته أو غيرها.
وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: "إنما أقطع له قطعة من نار" 3 لأنه يحكم بما أوجب عليه الحكم به عنده وهو حصول نصاب الشهادة مثلا وإن كانت كذبا في نفس الأمر وقد نقل إليه صلى الله عليه وسلم أن رجلا يأتي أم ولده فأرسل عليا عليه السلام لقتله فوجده محبوبا فتركه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أحسنت" 4.
ولكنه ذكره المصنف ليتوصل به إلى قوله: "هذا هو الصحيح الذي عليه أكثر أهل العلم خلافا لمن قال: إن خبر الواحد يوجب العلم الظاهر كحسين الكرابيسي" نسبة إلى الكرباس بالكسر الثوب الأبيض من القطن معرب فارسيته بالفتح غيروه لغزة
__________
1 فتح المغيث "1/11".
2 علوم الحديث ص "21".
3 البخاري "9/32، 86". وأبو داود "3583"، والبهقي "10/149".
4 مسلم في: التوبة: حديث "59"، وأحمد "3/281".

(1/30)


فعلال والنسبة كرابيسي كأنه شبه بالأنصاري1 وإلا فالقياس كرباسي قاله في القاموس "وغيره".
واعلم أن ظاهر مراده بالعلم العلم بالمعنى الأخص إذ العلم بالمعنى الأعم يشمل الظن لكن لما قال الظاهر قال الحافظ ابن حجر إنما يكون ذلك مخالفا لو قال يفيد العلم وأطلق فأما الظاهر وهو غلبة الظن على صحته فلا خلاف في أنه يفيده والله أعلم بمراد الكرابيسي فإن العبارة المذكورة هنا لا تصرح بالمقصود وقد نقل عن أبي بكر القفال مثلها وأول ذلك بغالب الظن لأن العلم لا يتفاوت. اهـ.
قلت: يعني لا يقال فيه ظاهر وغير ظاهر بخلاف الظن.
"وحكاه ابن الصباغ" بفتح الصاد المهملة فموحدة مشدده فغين معجمة بعد ألفه هو أبو نصر عبد الله بن محمد بن عبد الواحد فقيه العراقيين في وقته مؤلف كتاب الشامل في فقه الشافعية والعدة في الأصول "في العدة عن قوم من أصحاب الحديث" قد علم أن خبر الواحد يفيد الظن فإذا حفته القرائن أفاد العلم كما قال الحافظ في النخبة وشرحها2 وقد يقع فيها أي في أخبار الآحاد المنقسمة إلى مشهور وعزيز وغريب وهي أقسام الآحاد ما يفيد العلم النظري بالقرائن على المختار. اهـ.
وقلنا في نظم النخبة:
وقد يفيد العلم أعني النظري ... إذا أتت قرائن للخبر
واعلم أن الأقوال في خبر الواحد في إفادته العلم ثلاثة كما ذكره ابن الحاجب والعضد وغيرهما:
الأول: أنه يفيد العلم بنفسه مطردا أي كلما حصل خبر الواحد حصل العلم وهو قول أحمد بن حنبل3.
والثاني: أنه يحصل به العلم ولا يطرد أي ليس كلما حصل حصيل العلم به.
الثالث: أنه لا يحصل العلم به إلا بقرينة.
__________
1 تدريب الراوي "1/75".
2 ص "26".
3 أحمد بن خنبل بن هلال الشيباني المروزي، أبو عبد الله أحد الأئمة، حافظ فقيه، حجة زاهد ورع، وهو رأس الطبقة العاشرة. مات سنة "141". له ترجمة في: تاريخ بغداد "4/412"، وشذرات الذهب "2/96"، ووفيات الأعيان "1/47".

(1/31)


والمسألة مستوفاة هنالك والمراد بيان أن المسألة من المسائل المعروفة والخلاف فيها واسع فأحد أقوال أحمد كقول الكرابيسي وكأنه الذي أراده ابن الصباغ بقوله عن قوم من أصحاب الحديث والحق أن فيه ما يفيد العلم كما هو أحج الأقوال.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يبعث الآحاد إلى الأقطار يدعون إلى الإيمان ولابد فيه من العلم ولا يكفي فيه الدخول بالظن وكان يرتب على خبر الآحاد ما يرتب على ما يفيد العلم كقبوله خبر الوليد بن عقبة في قصة بني المصطلق وإرادته صلى الله عليه وسلم غزوهم استنادا إلى خبره حتى أنزل الله: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ} [الحجرات: 6] ثم المراد من العلم هنا بخبر الآحاد العلم بالمعنى الخاص وهو الاعتقاد الجازم المطابق الذي لا يبقى معه شك ولا شبهة فقول الزين العلم الظاهر يريد به هذا المعنى إذ العلم بالمعنى الأعم لا خلاف في إفادة خبر الآحاد له على أن قول الكرابيسي العلم الظاهر يحتمل أه لا يريد به ما في نفس الأمر بل أنه يفيد خبر الآحاد العلم المذكور ظاهر لا قطعا.
"قال الباقلائي" هو أبو بكر محمد بن الطيب الباقلائي بفتح الموحدة وبعد الألف قاف ثم لام ألف وبعده نون نسبة إلى الباقلا وبيعه وأنكر الحريري هذه النسبة وقال من قصر الباقلا قال باقلي ومن مد قال باقلاوي وباقلائي وفي جامع الأصول قولهم باقلائي على خلاف القياس مثل صنعائي ذكر ابن خلكان أنه سكن بغداد وصنف التصانيف الكثيرة في علم الكلام وسمع الحديث "أنه" أي القول بإفادة خبر الواحد العلم "قول من لا يحصل علم هذا الباب" أي باب ما تفيده أخبار الآحاد ولا يخفى ما تقدم من قول أحمد وغيره في إفادته إياه.
والحاصل أنه قبل بإفادته العلم وعدمها مطلقا وإفادته تارة وعدمها أخرى فكيف يقال أنه قول من لا يحصل على هذا الباب على أنه لا يخفي أن من أخبر نفسه بأنه حصل له العلم بأي سبب من الأسباب المحصلة له يصدق في نفسه وأما حكمه بأنه تحصل لغيره ما حصل له من العلم بذلك السبب فهذه دعوى على الغير مستندها القياس على النفس واختلاف الإدراك معلوم فلا يكاد يستوي اثنان في رتبه فالقول بأن هذا السبب الفلاني مثلا يفيد العلم أولا يفيده لكل من حصل له ليس بمقبول.
"قال زين الدين: إن أخرجه" أي الحديث الصحيح الأحادي "الشيخان" البخاري

(1/32)


ومسلم أي اتفقا على إخراجه على الصحابي "أو" انفرد "أحدهما" بإخراجه "فاختيار ابن الصلاح القطع بصحته وخالفه المحققون كما سيأتي" 1 للمصنف في ذكر حكم الصحيحين ويأتي الكلام عليه.
"وكذا قولهم" أي أئمة الحديث "هذا حديث ضعيف مرادهم فيما لم يظهر لنافيه شروط للصحة" أي ولا الحسن "لا أنه كذب في نفس الأمر" هذا إذا كان تضعيفه لكذب راوية وإلا فإن أسباب التضعيف كثيرة كما يأتي فلو قال لا أنه ضعيف في نفس الأمر لكان أشمل وفي قوله وإصابة من هو كثير الخطأ إشارة إلى ما صوبنا به عبارته إذ كثير الخطأ ليس خبره كذبا بل مردودا "لجواز صدق الكاذب وإصابة من هو كثير الخطأ" 2.
__________
1 فتح المغيث "1/12".
2 فتح المغيث "1/28"، وتدريب الراوي "1/76".

(1/33)