توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار

مسألة 3 [من علوم الحديث: في معرفة أصح الأسانيد]
"أصح الأسانيد- واختلفوا" أي أئمة الحديث على ثلاثة أقوال إطلاقين وتفصيل كما ستعرفها "هل يمكن معرفة" المحدث "أصح الأسانيد" وكذا يجري في الحديث نفسه.
قال ابن الصلاح1: ولهذا ترى الإمساك عن إسناد أو حديث إلى آخره فليس الكلام مقصورا على الأسانيد كما هنا.
قلت: كأنه حذف الزين قوله أو حديث لأنه قال الحافظ ابن حجر لا يحفظ عن أحد من أئمة الحديث أنه قال حديث كذا أصح الأحاديث على الإطلاق لأنه لا يلزم من كون الإسناد أصح من غيره أن يكون المتن المروي به أصح من المتن المروي بالإسناد المرجوح لاحتمال انتفاء العلة عن الثاني: ووجودها في الأول أو كثرة المنابعات وتواترها على الثاني: دون الأول فلأجل هذا ما خاض الأئمة إلا في الأول خاصة وكأنه قال هل يمكن أو لا يمكن.
"قال زين الدين: والمختار أنه" أي معرفة الأصح ذكر الضمير لإضافته إلى المذكر "لا يصح" الظاهر أن يقال لا يمكن أنه عنوان البحث فكأنه أراد الصحة الإمكان "لأن تفاوت مراتب الصحة" التي يفيدها صحيح وأصح إلا أن ابن الصلاح ذكر هذا البحث بعد بيان مراتب الصحة فإنه قال الصحيح يتنوع إلى متفق عليه ومختلف فيه ويتنوع إلى مشهور وغريب وبين ذلك ثم قال إن درجات الصحيح تتفاوت في القوة بحسب تمكن الحديث من الصفات المذكورة التي تنبني الصحة عليها وتنقسم باعتبار ذلك إلى أقسام يستعصي إحصاؤها على العاد الحاصر2. اهـ.
__________
1 علوم الحديث ص "22".
2 علوم الحديث ص "22".

(1/34)


وهذا التفاوت في المراتب التي علل بها زين الدين لا يتضح إلا بعد معرفة هذه التقاسيم فلو أشار إليها كان أتم في الإفادة لقوله: "مترتب على تمكن الإسناد من شروط الصحة" ولا سبيل إلى معرفة تمكنه منها إلا بعد معرفة هذه التقاسيم ليعرف الأعلى مرتبة من الأدنى كما قال: "ويعز وجود أعلى درجات القبول في كل فرد فرد" من الرواة: بأن يكون أكمل رواة الأحاديث عدالة وضبطا بالنسبة إلى كل راو في الدنيا للحديث النبوي "في ترجمة واحدة بالنسبة لجميع الرواة" إذ قد لا يعز في بعض الرواة أو في تراجم معقودة رواة متعددين كما يأتي أنه قد حكم على بعض التراجم بالنسبة إلى راو معين وهذا التعليل يشعر بأنه يمكن وإنما يعز ولو عبر المصنف في أول البحث بقوله يعز معرفة أصح الأسانيد لكان أوفق لما ذكره هنا.
نعم عبارة الحافظ بلفظ لا يمكن أن يقطع الحكم في أصح الأسانيد لصحابي واحد وكأنه لذلك قال المصنف "وقريب من هذا" أي من كلام الزين "ما قاله الحاكم" أي أبو عبد الله الإمام الكبير الحافظ الشهير الضبي النيسابوري متفق على إمامته وجلالته ويأتي ذكر كتابه المستدرك وكلام الأئمة فيه وهذا الذي ذكره المصنف ذكره الحاكم في كتابه علوم الحديث "وسيأتي كلامه" قريبا.
وهذا الإطلاق الأول في مسألة والإطلاق الثاني: ما أفاده قوله: "قال ابن الصلاح: إن جماعة من المحدثين خاضوا غمرة ذلك" الغمرة بالغين المعجمة فيم ساكنة فراء من غمرة الماء غطاه ففي الكلام استعارة شبه البحث عن أصح الأسانيد بالبحر فأثبت له الخوض والغمرة وهذا دليل على أن هؤلاء الخائضين يرون إمكان معرفة أصح الأسانيد بل وجزموا فيما عينوه.
وهذا القسم يقابل قول المصنف يمكن وكأنه قال أولا ثم ذكر القسم الأول وأخذ في ذكر الثاني "فاضطربت أقوالهم" اختلفت في تعيين أصح الأسانيد.
"فقال البخاري: أصح الأسانيد" زاد ابن الصلاح لفظ كلها وكذلك الحاكم في الرواية عن البخاري وما كان يحسن حذفها إذا فيها التنصيص على المارد أي كل سند في الدنيا "ما رواه مالك1" الإمام المعروف "عن نافع" مولى عبد الله بن عمر "عن ابن
__________
1 مالك هو: ابن أنس بن مالك الأصبحي الحميري أبو عبد الله المدني. شيخ الأئمة، وإمام دار الهجرة. قال الشافعي: إذا جاء الأثر فمالك النجم. مات سنة "179". له ترجمة في: البداية والنهاية "10/174"، وشذرات الذهب "1/289"، ووفيات الأعيان "1/439".

(1/35)


عمر" هو الصحابي الجليل عبد الله بن عمر بن الخطاب أخرج هذا الحاكم عن البخاري بسنده فهذا رأي البخاري ولا يصح أنه يريد أصح أسانيد عبد الله بن عمر عنده في نظره لأنه صرح بقوله كلها فإذا هذا الحكم بالنسبة إليه ليس محلا للخلاف إذ محله بالنسبة إلى كل حديث يروى ثم إذا كان البخاري عين الأصح عنده فلا يقال إنها اضطربت أقوال من عين رتبة الأصح عنده لأنه أخبر عن رأيه وما حصل عنده فكل قائل قوله غير مضطرب في نفسه ولا يلزمه القول بقول غيره إذ هو مخبر عما صح له.
"وقال عبد الرزاق" هو الصنعاني الإمام المعروف صحاب المسند "وأبو بكر بن أبي شيبة" هو عبد الله بم محمد بن أبي شيبة صاحب المسند والمصنف "أصحها مطلقا الزهري" هو محمد بن شهاب التابعي المعروف منسوب إلى زهرة بن كلاب بطن من قبيلة من قريش منهم أم النبي صلى الله عليه وسلم: "عن علي بن الحسين" زين العابدين وإمام المتقين شهرة أمره تغني عن ذكره "عن أبيه الحسين بن علي" ريحانة المصطفى وسيد الشهداء وقتيل كربلاء "عن جده" على بن أبي طالب أمير المؤمنين أبي الحسن خامس أهل الكساء وسيد الأتقياء وإمام الشهداء قد بينا بعض ما يجب من بيان فضائله في الروضة الندية شرح التحفة العلوية "سلام الله عليهم أجمعين" وهذه الرواية عن عبد الرزاق وابن أبي شيبة أخرجها الحاكم في علوم الحديث يسنده وفيها أصح الأسانيد كلها.
"وقال أحمد" هو إمام الحدثين أبو عبد الله أحمد بن حنبل صاحب المسند "واسحاق" هو أبو يعقوب اسحق بن ابراهيم الحنظلي من أئمة الحديث عرف بابن راهوية "أصحها" مطلقا "الزهري عن سلام ابن عبد الله بن عمر عن أبيه" عبد الله بن عمر بن الخطاب.
"وقال عمر بن علي الفلاس" أخرجه الحاكم عنه وفي كتاب ابن الصلاح عمرو بفتح العين وهي نسخة في كتاب المصنف والفلاس بفتح الففاء فتشديد اللام فسين مهملة "وسليمان بن حرب" وفي كتاب علوم الحديث للحاكم ابن داود وفي نكت الحافظ ابن حجر ابن حرب مثل ما هنا "وعلي بن المديني" وهو الحافظ المعروف شيخ البخاري "أصحها محمد بن سيرين" التابعي المعروف بتعبيره الأحلام "عن عبيدة" بفتح المهملة فموحدة فمثناة تحتية فدال مهملة "السلماني" بالسين المهملة وسكون اللام ويقال

(1/36)


بفتحها وهو أحد الرواة "عن علي بن أبي طالب عليه السلام إلا أن علي بن المديني قال: أجود الأسانيد" كأنه عبارة عن أصحها ليوافق ما تقدم [من قوله أصحها] "عبد الله بن عون عن" محمد "ابن سيرين عن عبيدة عن علي" فشرط أن يكون الراوي عن محمد بن سيرين عبد الله بن عون.
"وقال سليمان بن حرب: أصحها أيوب" السختياني الثقة المعروف "عن محمد بن سيرين بن عن عبيدة عن علي" فشرط في الراوي عن ابن سيرين أن يكون أيوب فقد اتفق الثالثة: أن أصحها محمد بن سيرين عن عبيدة عن عي وإن اختلفوا في الراوي عن محمد وظاهر هذا أن الفلاس لم يشترط راويا معينا عن محمد.
"وقال ابن معين" بفتح الميم فعين مهملة فمثناة تحتية فنون هو يحيى بن معين الإمام الحافظ صاحب الجرح والتعديل "أصحها سليمان ابن مهران" بسكر الميم وسكون الهاء فراء "الأعمش" بعين مهملة فشين معجمة حافظ مشهور ثقة عالم رأي أنس بن مالك ولم يرزق السماع منه فهو تابعي برؤية الصحابي وأما ما يرويه عنه فهو مرسل أرسل عن كبار التابعين "عن ابراهيم بن يريد النخعي" بفتح النون وفتح الخاء المعجمة فعين مهملة فقيه كوفي أحد الأئمة المشهورين تابعي رأي عائشة ولم يسمع منها وهو منسبوب إلى النخع قبيلة كبيرة من مذحج باليمين "عن علقمة" بعين مهملة مفتوحة فلام فقاف فقيه ثبت تابعي عالم "ابن قيس" ابن عبد الله النخعي الكوفي "عن عبد الله بن مسعود" أخرجه الحاكم بسنده عن يحيى زاد فقال له أي ليحيى إنسان الأعمش مثل الزهري فقال برئت من الأعمش أن يكون مثل الزهري كان يرى العرض والإجازة وكان يعمل لبني أمية وكان الأعمش فمدحه فقال فقير صبور مجانب للسلطان.
"فهذه الأقوال" وهي خمسة "ذكرها ابن الصلاح1 قال زين الدين" بعد سياقه لكلام ابن الصلاح "وفي المسألة أقوال أخر ذكرتها في الشرح الكبير" الذي شرح به ألفيته.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر أقوالا أخر نص أئمة من أئمة الحديث بأنها أصح الأسانيد غير ما ذكر.
"وفيه" أي في الشرح الكبير "فوائد مهمة لا يستغني عنها طالب الحديث" 2 لنفعها
__________
1 علوم الحديث ص "22- 23".
2 فتح المغيث "1/14".

(1/37)


في ذلك الفن فهذان الإطلاقان إلى هنا والتفصيل ما أفاده قوله "قال" أي زين الدين "ولا يصح تعميم الحكم في أصح الأسانيد" كسند حديث أبي هريرة مثلا "في ترجمة لصحابي واحد بل ينبغي أن تقيد كل ترجمة منها بصاحبيها" على جميع تراجم الصحابة أي لا يحكم بأنها أصح أسانيد الأحاديث كلها وهذا منه رد لما قاله من ساق كلامهم من الأئمة في حكمهم بأن أصح الأسانيد مطلقا رواية الصحابي الذي عينوه وهذا الكلام من كلام الحاكم فإنه قال بعد سياقه لما ذكر من التراجم التي حكم عليها بأنها أصح الأسانيد وهي التي سلف ذكرها قريبا ما لفظه إن هؤلاء الأئمة الحافظ قد ذكر كل واحد منهم ما أدى أليه اجتهاده في أصح الأسانيد ولكل صحابي رواة من التابعين ولهم أتباع وأكثرهم ثقات.
ثم ما نقله المصنف بقوله: "قال الحاكم: لا يمكن أن يقطع الحكم في أصح الأسانيد لصحابي واحد" ثم قال الحاكم: "فنقول وبالله التوفيق" في بيان أصح الأسانيد وتقييد كل ترجمة بصحابيها "إن أصح أسانيد أهل البيت عليهم السلام" ما رواه "جعفر" هو جعفر الصادق "ابن محمد" هو محمد الباقر "عن أبيه" محمد "عن جده" علي بن الحسين زين العابدين وهذا الذي نقله المصنف هو لفظ الحاكم كما رأيناه في كتاب الحاكم إلا أنه لا يخفي أن الظاهر أن يراد بأبيه محمد لأن علي بن الحسين جد جعفر لا أبوه مع أنه مشكل فإن ضمير جده على هذا يكون لعلي بن الحسين فأنه جد جعفر ولكن علي بن الحسين لم يسمع من علي بن أبي طالب فيكون منقطعا فيكف يكون من أصح الأسانيد وإذا أعيد ضمير أبيه إلى علي بن الحسين وإن كان جدا لجعفر فإنه يصح إطلاق الأب عليه لغة وحينئذ فلا انقطاع إلا أنه لا يتم إلا بعد ثبوت سماع جعفر من جده علي بن الحسين ولأن هذا خلاف القاعدة لهم فإنهم إذا قالوا عن أبيه عن جده لا يريدون إلا أنه يروي عن أبيه وأبوه يروي عن جده وقد ثبت سماع جعفر عن جده علي بن الحسين لأن مولد جعفر سنة ثمانين ووفاة علي بن الحسين سنة ثلاث وتسعين فقد صحب جعفر جده علي بن الحسين ثلاث عشرة سنة فسماعه منه يقين كما أن سماع زين العابدين من أبيه الحسين السبط يقين فإنه حضر الطف مع أبيه وعمره ثلاث وعشرون سنة "عن جده" الحسين السبط "عن علي" رضي الله عنهم "إذا كان الراوي عن جعفر ثقة" نقل عن المصنف أنه إنما قيد الحاكم بذلك لكثرة رواية الضعفاء عنه.

(1/38)


"قلت: قال أحمد بن حنبل: هذا إسناد لو مسح به على مريض لشفي رواه" عن أحمد "المنصور بالله" عبد الله بن حمزة "في المجموع المنصوري" وذكره السمهودي في جواهر العقدين من طريق المحدثين يريد أنه يشفي لبركة هؤلاء الأئمة وكأنه يريد لو كتب ومسح به أولو قرئ على المريض ومسح بيده القارئ.
قال الحاكم: "وأصح أسانيد أبي بكر" رضي الله عنه لفظ الحاكم الصديق عن أبي بكر وكذا نقله عن الزين ما رواه "إسماعيل بن أبي خالد" البجلي ثقة روي عن كبار التابعين "عن قيس ابن أبي حازم" بالحاء المهملة والزاي وقيس هو أبو عبد الله الكوفي البلخي مخضرم من كبار التابعين وهو ثقة "عن أبي بكر وأصح أسانيد عمر رضي الله عنه الزهري عن سالم" بن عبد الله بن عمر "عن أبيه" عبد الله "عن جده" عمر.
وقال ابن حزم: أصح طريق يروي في هذه الدنيا عن عمر رواية الزهري عن السائب بن يزيد عنه.
"وأصح أسانيد أبي هريرة: الزهري عن سعيد بن المسيب" بفتح المثناة وروي عنه أه كان يقول بكسرها تابعي مشهور فاضل "عن أبي هريرة".
"وأصح أسانيد ابن عمر: مالك عن نافع عن ابن عمر" وهي التي قال البخاري إنها أصح الأسانيد مطلقا كما سلف.
"وأصح أسانيد عائشة: عبيد الله بن عمر" ابن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب كان أحد الأعلام "عن القاسم" بن محمد ابن أبي بكر "عن عائشة" عمته أخت أبيه أخرج الحاكم عن يحيى بن معين أنه قال عبيد الله بن عمر عن القاسم بن محمد عن عائشة ترجمة مشبكة بالذهب.
"وأصح أسانيد عبد الله بن مسعود: سفيان" هو أبو عبد الله سفيان بن سعيد "الثوري" بالمثلثة مفتوحة وسكون الواو فراء نسبة إلى ثورين عبد مناف وهو رأس في العلم والورع والتقوى "عن منصور" هو ابن المعتمر "عن ابراهيم النخعي عن علقمة" تقدم "عن ابن مسعود".
"وأصح أسانيد أنس بن مالك: عن الزهري عن أنس" فهذه أصح الأسانيد بالنظر إلى الصحابي من غير اعتبار محل وأما باعتبار المحلات فقال:
"وأصح أسانيد المسكين من الرواة: سفيان" بسين مهملة مثلثة الحركات "ابن عيينة"

(1/39)


بضم العين المهملة وفتح المثناة التحتية وسكون المثناة التحتية وفتح النون هو أبو محمد سفيان ثبت حجة معروف "عن عمرو بن دينار" بالدال بلفظ الدينار المعروف "عن جابر بن عبد الله".
"وأصح أسانيد اليمانيين" جمع يماني منسوب ويقال في النسبة أيضا يمني ويمان كقاض كما في القاموس والمراد رواة "معمر" بفتح الميم وسكون العين المهملة وفتح الميم الثانية فراء هو أبو عروة بن راشد الأزدي نزيل اليمن ثقة فاضل "عن همام" بفتح الهاء وتشديد الميم ابن منبه هو تابعي وهو أخو وهب بن منبه اليماني صاحب الأخبار "عن أبي هريرة".
"وأثبت أسانيد المصريين" أي أصحها "الليث" 1 ابن سعد أحد أعلام عصرة "عن يزيد بن أبي حبيب" المضري أي حازم اسم أبيه سويد ثقة فقيه كان يرسل "عن أبي الخير" بالخاء المعجمة وتحتية اسمه مرثد بن عبد الله ثقة فقيه "عن عقبة" بضم العين المهملة وسكون القاف فموحدة "ابن عامر" وعقبة صحابي معروف.
"وأثبت أسانيد الشاميين" جمع شامي منسوب إلى شام ويقال في النسبة إلى الشام أيضا شام وشامي كما في القاموس "الأوزاعي" بفتح الهمزة وسكون الواو فزاي مفتوحة مفهمة وهو أبو عمر عبد الرحمن ابن عمرو ثقة جليل2 "عن حسان" بمهملتين الثانية مشددة "ابن عطية" هو أبو بكر حسان الدمشقي فقيه عابد "عن الصحابة".
"وأثبت أحاديث الخراسانيين: الحسين بن واقد" اسم فاعل من الوقود ولي قضا مرو وكان يحمل حاجته من السوق وثقة ابن معين وغيره واستنكر أحمد بعض حديثه "عن عبد الله بن بريده" تصغير برد الحالف التاء "عن أبيه" بريدة بن الحصيب الصحابي المعروف قال الحاكم: بعد سياقه لهذا ولعل قائلا يقول هذا الإسناد لم يخرج منه في الصحيحين إلا حديثان فيقال له أوجدنا للخراسانيين أصح من هذا الإسناد وكلهم ثقات وخراسانيون وبريدة بن الحصيب مدفون "بمرو". انتهى.
__________
1 الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي أبو الحارث المصري. قال يحيى بن بكير: ما رأيت أحدا أكمل من الليث بن سعد، كان فقيه البدن، عربي اللسان، يحسن القراءة والنحو، ويحفظ الحديث والشعر، لم أر مثله. مات سنة "175". له ترجمة في: تاريخ بغداد "13/3"، وشذرات الذهب "1/285"، والعبر "1/266".
2 له ترجمة في: تذكرة الحفاظ "1/178"، والعبر "1/227"، وتهذيب التهذيب "6/238".

(1/40)


وقال الحافظ ابن حجر بعد سياقه لكلام الحاكم هذا ما لفظه قلت: وهذا الذي ذكره فد ينازع في بعضه ولاسيما في أصح أسانيد أنس فإن قتادة وثابتا البناتي أقعد وأسعد بخدمته من الزهري ولهما في الرواة جماعة فأثبت أصحاب ثابت البناني حماد بن زيد وأثبت أصحاب قتادة شعبة وقيل غيره وإنما جزمت بشعبة لأنه كان لا يأخذ ع أحد ممن وصف بالتدليس إلا ما صرح فيه ذلك المدلس بسماعه من شيخه وقوله في أسانيد أهل الشام فيه نظر فان جماعة من أئمتهم رجحوا راوية سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد عن أبى إدريس الخولاني عن أبى ذ ر ثم قال تنبيه لم يذكر المصنف - يريد ابن الصلاح - أوهى الأسانيد وقد ذكره الحاكم وأظنه حذفه لقلة جدواه بالنسبة إلى مقابله. انتهى.
واعلم أن فائدة معرفة أصح الأسانيد مما ذكر وغيره أنه إذا عارضه حديث مما لم ينص فيه إمام على أصحيته يرجع ما نص على أصحيته عليه وإن كان صحيحا فان عارضه مه نص أيضا على أصحيته يرجع إلى المرجحات فأيهما كان أرجع حكم بقوله وإلا رجع إلى القرائن التي تحف أحد الحديثين فيقدم بها على غيره.

(1/41)


مسألة 4 [في ذكر أول من صنف في جمع الصحيح]
"أصح كتب الحديث أول من صنف صحيح البخاري" هذا كلام ابن الصلاح1 قال الحافظ ابن حجر إنه اعترض عليه شيخ علاء الدين مغلطاى فيما قرأت بخطه بأن مالكا أول من صنف الصحيح وتلاه أحمد بن حنبل وتلاه الدارمى2 قال وليس لقائل أن يقول لعله أراد الصحيح المجرد فلا يرد كتاب مالك لأن فيه البلاغ3 والموقوف والمتقطع والفقه وغير ذلك لوجود ذلك في كتاب البخاري. اهـ.
قال: وقد أجاب شيخنا يريد به زين الدين ثم ذكر جوابه واعتراضه بما هو حق ثم قال لكن الصواب في الجواب ثم ذكر ما حاصله أنه يصدق على مالك أنه أول من صنف الصحيح اعتبار انتقائه للرجال فكتابه أصح من الكتب المصنفة في هذا الفن من أهل عصره وما قاربه كمصنفات سعيد بن أبي عروبة وحماد بن سلمة الثوري4 وابن اسحق ومعمر وابن جريح وابن المبارك وعبد الرزاق وغيرهم ولهذا قال الشافعي ما بعج كتاب الله اصح من كتاب مالك فكتابه أصح عنده وعند من يتبعه ممن يحتج بالمرسل والموقوف.
__________
1 علوم الحديث ص "25".
2 الدارمي هو: عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام الدارمي أبو محمد السمرقندي. الحافظ، أحد الأعلام. قال أبو حاتم: إمام أهل زمانه. مات سنة "255". له ترجمة في: تاريخ بغداد "10/29"، وشذرات الذهب "2/130"، والعبر "2/8".
3 البلاغ: هي الأحاديث التي يقول فيها بلغني.
4 الثوري هو: سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري أبو عبد الله الكوفي، أحد الأعلام. قال شعبة وغير واحد: سفيان أمير المؤمنين في الحديث. مات سنة "161هـ". له ترجمة في: تاريخ بغداد "9/151"، والعبر "1/235"، ووفيات الأعيان "1/210".

(1/42)


وأما أول من صنف الصحيح المعتبر عند أئمة الحديث الموصوف بالاتصال وغير ذلك من الأوصاف فأول من جمعه البخاري ثم مسلم كما جزم به ابن الصلاح1 وأما قول مغلطاي إن أحمد أفرد الصحيح فقد أجاب عنه الشيخ ابن الصلاح في التنبيه السادس من الكلام على الحديث الحسن انتهى كلام ابن حجر.
قلت: يريد حيث قال الشيخ ابن الصلاح2 كتب المسانيد غير ملحقة والكتب الخمسة التي هي الصحيحان وسنن أبي داود وسنن النسائي وجامع الترمذي وما جرى مجراها في الاحتجاج بها والركون إلى ما ورد فيها مطلقا كمسند أبي داود الطيالسي ومسند عبيد الله بن موسى ومسند اسحق ومسند عبد بن حميد ومسند الدرامي ومسند أبي يعلي الموصولي ومسند الحسن بن سفيان ومسند البزار أبي بكر وأشباهها فهذه عادتهم فيها أن يخرجوا في مسند كل صحابي ما رووه من حديثه غير متفيدين بأن يكون حديثا محتجا به أولا فلهذا أخرت مرتبتها وإن جلت لجلالة مؤلفيها عن مرتبة الكتب الخمسة انتهى.
ثم قال الحافظ: وأما ما يتعلق بالدرامي فتعقبه الشيخ زين الدين بأن فيه الضعيف والمنقطع لكن بقي مطالبة مغلطاي بصحة دعواه أن جماعة أطلقوا على مسند الدرامي كونه صحيحا فأنى لم أر ذلك في كلام أحد ممن يعتمد عليه.
ثم قال: كيف ولو أطلق عليه ذلك من يعتمد لكان الواقع بخلافه لما في الكتاب المذكور من الأحاديث الضعيفة والمنقطعة والموضوعة والموطأ في الجملة أنظف أحاديث وأتقن رجالا منه ومع ذلك كله فلستأسلم أن الدارمي صنف كتابه قبل تصنيف البخاري الجامع لتعاصرهما ومن ادعى عليه ذلك فعليه البيان. انتهى.
قلت: ومن ادعى تقدم تصنيف البخاري على تصنيف الدارمي فعليه البيان أيضا وكأنه اغتر الحافظ العلائي3 بكلام مغلطاي فإنه قال ينبغي أن يجعل مسند الدارمي سادسا للخمسة بدل ابن ماجة فإنه قليل الرجال الضعفاء، ناذر الأحاديث المنكرة وإن كان فيه أحاديث مرسلة وموقوفة فهو مع ذلك أولى من سنن ابن ماجه،
__________
1 علوم الحديث ص "25".
2 علوم الحديث ص "56".
3 العلائي هو: الشيخ الإمام العلامة صلاح الدين أبو سعيد خليل بن كيكلدي الشافعي. قال الذهبي: حافظ يستحضر الرجال والعلل، وتقدم في هذا الشأن. "761", له ترجمة في: شذرات الذهب "6/190"، والنجوم الزاهرة "10/337".

(1/43)


إلى آحر كلامه، ويحتمل أنه إنما أراد تفضيله على ابن ماجه بخصوصه وأن ابن ماجه رجاله الضعفاء أكثر وأحاديثه الشاذة والمنكر غير نادرة.
إذا عرفت هذا فعلى تحقيق الحافظ ينبغي أن يقال أول صنف في الصحيح المعتبر عند أئمة الحديث الموصوف بالاتصال وغير ذلك من الأوصاف البخاري غير أن جواب الحافظ لم يتضح به رد كلام مغلطاي كل الاتضاح كما لا يخفى.
"وكتابه" أي البخاري "أصح من كتاب مسلم عند الجمهور وقال النووي إنه الصواب واختاره زين الدين قالاهما" أي النووي والزين "وغيرهما" من أئمة الحديث "والمراد" بالحكم بأصحية كتابه على مسلم أصحية "ما أسنده دون التعليق" يأتي تعريفه "والتراجم" جمع ترجمة وهي عنوان الباب الذي تساق فيه الأحاديث ولا بد أن تكون مناسبة لما يساق من الأحاديث قالوا وذلك لأن الصفات التي تدور عليها الصحة في كتاب البخاري أثم منها في كتاب مسلم وشروطه فيها أقوى وأشد.
أما رجحانه من حيث الاتصال فلاشتراطه أن يكون الراوي قد ثبتت له لقاء من روي عنه ولو مرة واكتفي مسلم بمطلق المعاصرة.
وأما رجحانه من حيث العدالة والضبط فلأن الرجال الذي تكلم فيهم من رجال مسلم أكثر عددا من الرجال البخاري فإن الذين انفرد بهم البخاري أربعمائة وخمسة وثالثون رجلا المتكلم منهم فيه بالضعف ثمانون رجلا والذين تفرد بهم مسلم ستمائة وعشرون رجلا المتكلم منهم فيه بالضعف مائة وستون رجلا على الضعف من كتاب البخاري ولا شك أن التخريج عمن لم يتكلم فيه أصلا أولى من التخريج عمن تكلم فيه ولأن الذين تفرد بهم البخاري ممن تكلم فيه لم يكثر من تخريج أحاديثهم وليس لواحد منهم نسخة كبيرة أخرجها أو أكثرها كنسخة عكرمة عن ابن عباس بخلاف مسلم فقد أخرج أكثر تلك النسخ التي رواها عمن تكلم فيه كأبي الزبيب عن جابر أتهيل عن أبيه عن أبي هريرة ونحوهم مع أن البخاري لم يكثر من إخراج أحاديث من تكلم فيهم وغالبهم من شيوخه الذين أخذ عنهم ومارس حديثهم ولا شك أن المرء أشد معرفة بحديث شيوخه وبصحيح حديثهم من ضعيف ممن تقدم عن عصرهم بخلاف مسلم في الأمرين فإن أكثر من تفرد بتخريج حديثه

(1/44)


ممن تكلم فيه من المتقدمين وقد أخرج نسخهم كما قدمنا ذكره ثم إن من يخرج لهم البخاري ممن تكلم فيه من المتقدمين يخرج أحاديثهم غالبا في الاستشهادات والمتابعات والتعليقات بخلاف مسلم فإنه يخرج لهم الكثير في الأصول فأكثر من يخرج لهم البخاري في المتابعات يحتج بهم مسلم.
وأما رجحانه من حرث عدم الشذوذ والإعلال فلأن ما انتقد على البخاري من الأحاديث أقل عدا مما انتقد على مسلم فإن جملة الأحاديث التي انتقدت عليهما مائتا بألف التثنية حديث وعشرة اختص البخاري منها بأقل من ثمانين.
قلت: هذا كلام الحافظ هنا وسيأتي نقل المصنف عنه أنه ذكر في مقدمة فتح الباري مما اعترض الحفاظ على البخاري مائة حديث وعشرة أحاديث وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى.
ثم قال ويشتركان في اثنين وثلاثين وباقيها مختص بمسلم مع أنه قد اتفق العلماء أن البخاري كان أجل من مسلم في العلوم وأعرف بصناعة الحديث منه وأن مسلما تلميذه وخريجه ولم يستفد إلا منه وتتبع آثاره حتى لقد كان يقول الدارقطني1 لولا2 البخاري لما راح مسلم ولا جاء ومن مرجحات البخاري أن مسلما صرح في أول صحيحه أن المعنعن له حكم الاتصال إذا تعاصر المعنعن والمعنعن عنه وإن لم يثبت اجتماعهما. انتهى.
قلت: قال الملا على قاري فإن قلت: كيف يكفي ذلك مع أن كتابه صحيح ولا بد فيه الاتصال قلت: لعله جاء هذا الحديث في كتابه، متصلا في آخر أوكان اتصاله بمن روى مشهورا فالمراد بمن روى عنه من أدى عنه ظاهرا ولو كان بالواسطة وفيه أنه لو كان كذلك لكان الاختلاف لفظيا قال والصواب كون الخلاف حقيقيا. انتهى.
__________
1 الدارقطني هو: الإمام شيخ الإسلام أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي البغدادي. قال الخطيب: كان فريد عصره وإمام وقته، وانتهى إليه علم الأثر، والمعرفة بالعلل وأسماء الرجال. مات سنة "385هـ". له ترجمة في: البداية والنهاية "11/317"، وتاريخ بغداد "12/34"، وشذرات الذهب "3/116".
2 لولا البخاري لما راح.... إلخ: قال بعضهم إنه كناية عن كونه عيلة على البخاري. "حاشية الأجهوري" ص "19".

(1/45)


قلت: ولم يدفع الأشكال.
ثم قال الحافظ. والبخاري لا يحمله على الاتصال حتى يثبت اجتماعهما ولو مرة واحدة وقد أظهر البخاري هذا المذهب في التاريخ وجرى عليه في الصحيح وهو مما يرجح به كتابه لأنا وإن سلمنا ما ذكره مسلم من الحكم بالاتصال فلا يخفى أن شرط البخاري أوضح في الاتصال فبهذا تعلم أن شرطه في كتابه أقوى اتصالا وأشد تحريا أفاد هذا الحافظ ابن حجر في مؤلفاته.
وأقول لا يخفي أن هذه الوجوه أو أكثرها لا تدل على المدعي وهو أصحية البخري بل غايتها تدل على صحته ثم إنه لا يخفي أيضا أن الشيخين اتفقا في أكثر الرواة وتفرد البخاري بإخراج أحاديث جماعة وانفرد مسلم بجماعة كما أفاده ما سلف من كلام الحافظ فهذه ثلاثة أقسام.
الأول: ما اتفقنا على إخراج حديثه فهما في هذا القسم سواء لا فضل لأحدهما على الآخر لاتحاد رجال سند كل واحد منهما فيما رواه والقول بأن هؤلاء أرجح إذا روي عنهم البخاري لا إذا روي عنهم مسلم عين التحكم وهذا بناء على أن المراد بما اتفقا عليه الاتفاق على رجال الإسناد جميعا لا يقال لا تحكم لأنه شرط البخاري اللقاء دون مسلم لأنا نقول الفرض أنهم على شرط البخاري من حصول اللقاء لأنه روي عنهم ولا يروي إلا عمن وافق شرطه ومعلوم أنهم قد صاروا على شرط مسلم بالأولى لأنه ثبت اللقاء فقد ثبتت المعاصرة.
وإذا عرفت هذا فلا وجه للحكم بأصحية رواية البخاري فيما اتفق هو ومسلم على إخراجه ورجاله إلا جاء التحكم المحض وهذا القسم هو أكثر أقسامه قطعا وحينئذ فلا يصح الحكم على كتاب البخاري بالأصحية بالنسبة إلى هذه الأحاديث وكيف يتم القول بأن كتاب البخاري أصح على هذا؟.
والقسم الثاني: ما انفرد البخاري بإخراج أحاديثهم فهذا القسم ينبغي أن يقال أنه أصح مما انفرد به مسلم لأنه حصل فيه شرائط البخاري منفردة وقد تقرر ببعض ما ذكر من المرجحات أنه أقوى من شرائط مسلم في الصحة وحينئذ فيتعين أن يقال ما في كتاب البخاري من الأحاديث التي انفرد بإخراجها أصح من التي انفرد مسلم بإخراجها وهذا القسم قليل كما عرفت ولا بد من تقييد ذلك بغير من تكلم فيهم وهذا التقسيم هو التحقيق وإن غفل عنه الأئمة السابقون فإن من المعلوم يقينا أن

(1/46)


الصحة والأصحية ليستا بالنظر إلى ذات الشيخين بل بالنظر إلى رجال كتابيهما ثم لا يخفي أيضا أن كون من تكلم فيهم من رجال البخاري أقل ممن تكلم فيهم من رجال مسلم لا يقتضي أصحية أحاديث البخاري مطلقا غاية ما يقتضيه أن الصحيح فيه أكثر وليس محل النزاع على أن في شرطه اللقاء ولو مرة واحدة بحثا وهو أنه قد يكثر الشخص الحديث عمن لاقاه بحيث يعلم يقينا أنه لا يتسع لأخذه عنه تلك الأحاديث في الموقف الذي انحصر فيه اللقاء فلابد من تقييد ذلك بزيادة أن يتسع زمان اللقاء لكن ما عنه روي ثم رأيت بعد أيام مسلما قد ألزم البخاري حيث شرط اللقاء بهذا الإلزام في مقدمة صحيحه ورأيت الحافظ ابن حجر قد التزم هذا وقال يكفي اللقاء ولو مرة واحدة ولو كان بعض ما يرويه عمن لاقاه لا يستحق سماعه منه وسيأتي لنا ولم يقيد كلام البخاري بما قيدناه به من قولنا إن اتسع ... إلى آخره.
وإذا عرفت هذا فقد عاد إلى مجرد المعاصرة على أن المعاصرة لا تكفي مطلقا بأن يكون أحدهما في بغداد والآخر في اليمن بل لابد من تقارب المحلات ليمكن اتصال الرواة إلا كان من باب الإجازة والمكاتبة ولعلهم لا يكتفون به هنا.
واعلم أنا راجعنا مقدمة مسلم فوجدناه تكلم في الرواية بالعنعنة وأنه شرط فيها البخاري ملاقاه الراوي لمن عنعن عنه وأطال مسلم في رد كلامه والتهجين عليه ولم يصرح أنه البخاري وإنما اتفق الناظرون أنه أراده ورد مقالته ثم قال إن كل حديث فيه فلان عن فلان وقد أحاط العلم بأنهما قد كانا في عصر واحد وجائز أن يكون الحديث الذي روي الراوي قد سمعه منه وشافهه به غير أنا لا نعلم له نه سماعا ولم نجد في شيء من الروايات أنهما التقيا قط أو تشافها بحديث ثم قال إن هذا هو القول الشائع المتفق عليه بين أهل العلم بالأخبار والروايات قديما وحديثا أكل رجل ثقة روي عن مثله وجائز ممكن لقاءه والسماع منه لكونهما كانا جميعا في عصر واحد ولم يأت في خبر قط أنهما اجتمعا ولا تشافها بكلام فالرواية ثابتة والحجة بها لازمة إلى آخر كلامه وقد نقلنا فيما يأتي في بحث العنعنة.
إذا عرفت هذا عرفت أن الخلاف بين الشيخين في رواية العنعنة لا غير وهو الذي أفاده الحافظ في قوله ومن مرجحات البخاري أن مسلما صرح إلى آخره فشرط البخاري فيها اللقاء ومسلم المعاصرة وحينئذ فلا يرجح البخاري برمته على مسلم برمته بهذا الشرط بل يقال عنضة البخاري أصح وأرجح من عنعنة مسلم فالعجب كيف

(1/47)


يعده الحافظ من وجوه ترجيح البخاري مطلقا ثم قد ظهر المراد بالمعاصرة أنها التي يمكن معها السماع ولا يكفي مطلقها.
فإن قلت: إنما جعله ترجيحا للبخاري مطلقا لكون كل ما فيه من الأحاديث قد تم فيها شرطية اللقاء معنعنا وغيره.
قلت: أما غير المعنعن وهو ما كان بنحو حدثنا فهو ومسلم سواء فيه فإنه لا يكون إلا بالمشافهة إنما الخلاف في رواية متصلة عند مسلم وبه يتضح لك ضعف ما قدمنا عن الملا على قاري سؤالا وجوابا وأنه بناه على عدم تحقيقه لمراد مسلم.
ثم جعل الحافظ ابن حجر كون شيوخنا البخاري هم الذي تكلم فيهم وجها مرجحا فيه تأمل لأنه قد يقال هم باب علمه وعنهم أخذ ومنهم استمد رواياته وقد علل الحافظ ذلك بما سمعته فانظر فيه ثم لا يعزب عنك أن قولهم أصح الحديث ما اتفق عليه الشيخان لا يوافق قولهم هنا إن أصح الكتابين كتاب البخاري لأنهم قد جعلوا ما اتفقا عليه أصح أقسام الحديث وقد عرفت أن الذي اتفقا عليه هو أكثر أقسام الكتابين ولم يتفقا عليه إلا بعد حصول شرائط الرواية عندهما في روايته فهما مثلان في هذا كما أسلفنا فلا يتم القول بأن كتاب البخاري أصح إلا باعتبار ما انفرد به وهو القليل الحقير ولا يحسن إطلاق صفة الجزء على الكل في مقام التقعيد والتمهيد على أن استثناءهم التعاليق والتراجم فقط من الحكم بالأصحية فاض بأن الحكم بها حكم على كل حديث لا أنه كما تأولنا من وصف الكل بصفة الجزء وقد ألحقوا بذلك ما تكلم فيه.
"ثم صحيح مسلم بعده" أي بعد صحيح البخاري فإن تعارضا قدم ما في البخاري "وذهب بعض المغاربة" أي بعض علماء الغرب وسيأتي أنه ابن حزم1 "والحافظ أبو علي الحسين بن علي النيسابوري شيخ الحاكم" يريد أبا عبد الله صحاب المستدرك "إلى تفضيل صحيح مسلم على البخاري" فقال أبو علي: ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم في علم الحديث بهذا اللفظ نقله عنه زين الدين والحافظ ابن حجر
__________
1 ابن حزم هو: الإمام العلامة الحافظ الفقيه أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد القرطبي الظاهري. كان صاحب فنون وورع وزهد، وإليه المنتهى في الذكاء والحفظ. مات سنة "457". له ترجمة في: شذرات الذهب "3/299"، والعبر "3/239"، ووفيات الأعيان "1/340".

(1/48)


"وحكاه" أي تفضيل كتاب مسلم "القاضي عياض1 عن أبي مروان الطبني" بضم الطاء المهملة وبعدها هاباء موحدة مشددة مضمومة وقبل ياء النسبة نون كذا ضبطه ابن السمعاني وقيل بضم الطاء وسكون الموحدة حكاه ابن الأثير وغيره وهي بلدة بالغرب ينسب إليها جماعة قاله البقاعي واسمه عبد الملك بن زياد "عن بعض شيوخه" قال: كان من شيوخي من يفضل كتاب مسلم على كتاب البخاري وحكاه الخطيب في تاريخ بغداد في ترجمة مسلم عن محمد بن اسحق عن ابن منده قال أيضا مما تحت أديم السماء، أصح من كتاب مسلم في علوم الحديث وإليه ميل كلام القرطبي في خطبة تلخيصه لمسلم ونقله عن جماعة وغزاه في اختصاره للبخاري إلى أكثر المغاربة وعزا ترجيح البخاري إلى أكثر المشارقة ذكره الزركشي.
"وقال ابن الصلاح" 2 بعد نقله لكلام أبي علي "فهذا" أي تفضيل صحيح مسلم "إن كان المراد به أن كتاب مسلم يترجح أنه لم يمازجه غير الصحيح" قال ابن الصلاح: فإنه ليس فيه بعد خطبته إلا الحديث الصحيح مسرودا غر ممزوج بمثل ما في كتاب البخاري في تراجم أبوابه من الأشياء التي لا يسندها على الوجه المشروط في الصحيح "فهذا لا بأس به" أي لا بأس في التفضيل لصحيح مسلم من هذه الجهة إلا أنه معلوم أن عبارة أبي على لا تساعد هذا التوجيه كل المساعدة "وإن كان المراد به" أي يقول أبى علي "أنه أصح كما هو المتبادر" من عبارته "فهذا مردود" بما أسلفنا من مرجحات صحيح البخاري كما عرفت.
واعلم أن ظاهر كلام ابن الصلاح وزين الدين والمصنف أن بعض المغاربة ومن ذكر معه ذهبوا إلى تفضيل صحيح مسلم من حيث إنه أصح من صحيح البخاري فإن كان بعض المغاربة هو أبو محمد بمحزم وبه جزم الحافظ ابن حجر فإنه قال بعد ذكر ابن الصلاح لبعض المغاربة ما لفظه وقد وجدت التصريح بما ذكره المصنف من الاحتمال عن بعض المغاربة فذكر أبو محمد القاسم بن القاسم التجيبي في فهرسته عن أبي محمد بن حزم أنه كان يفضل كتاب مسلم على كتاب البخاري لأنه ليس فيه بعد
__________
1 القاضي عياض هو: ابن موسى بن عياض بن عمر اليحصبي السبتي، ولى قضاء سبتو ثم غرناطة، وكان إمام أهل الحديث في وقته، وأعلم الناس بعلومه. مات سنة "544". له ترجمة في: البداية والنهاية "12/225"، والعبر "4/122"، ووفيات الأيان "1/392".
2 علوم الحديث ص "26".

(1/49)


خطبته إلا الحديث المنفرد. انتهى.
قال الحافظ قلت: ما فضله به بعض المغاربة ليس راجعا إلى الأصحية بل هو لأمور:
أحدهما: ما تقدم عن ابن حزم.
الثاني: أن البخاري كان يرى جواز الرواية بالمعنى وجواز تقطيع الحديث من غير تنصيص على اختصاره بخلاف مسلم والسبب في ذلك أمران أحدهما أن البخاري صنف كتابه في طول رحلته فقد روينا عنه أنه قال رب حديث سمعته بالشام فكتبته بمصر ورب حديث سمعته بالبصرة فكتبته بخراسان فكان لأجل هذا ربما كتب الحديث من حفظه فلا يسوق ألفاظه برمتها بل يتصرف فيه ويسوقه بمعناه ومسلم صنف كتابه في بلده بحضور أصوله في حياة شيوخه وكان يتحرز في الألفاظ ويتحرى في السياق.
والثالث: أن البخاري استنبط فقه كتابه من أحاديثه فاحتاج أن يقطع المتن الواحد إذا اشتمل على عدة أحكام ليورد كل قطعة منه في الباب الذي يستدل به على ذلك الحكم الذي استنبط منه لأنه لو ساقه في المواضع كلها برمته لطال الكتاب ومسلم لم يعتمد ذلك يسوق أحاديث الباب كلها سردا عطفا بعضها على بعض في موضع واحد. انتهى.
وقلت: وبه تعرق أن بعض المغاربة هو أبو محمد بن حزم وتعرف أنه لم يفضل صحيح مسلم من حيث الأصحية وتعرف أنه ما كان ينبغي لابن الصلاح ومن تبعه جعل خلافه وخلاف أبى على النيسابوري واحدا وأنه من جهة واحدة ثم لا يخفي أن ما قاله الزركشي فيما نقلناه عنه آنفا إن دائرة الخلاف أوسع والذاهبون إلى ترجيح مسلم أكثر ممن ذكر.
وقال الحافظ: ما قاله أبو علي النيسابوري فلم نجد عنه تصريحا قط بأن كتاب مسلم أصح من كتاب البخاري وإنما نفى الأصحية عن غير كتاب مسلم عيه ولا يلزم من ذلك أن يكون كتاب مسلم أصح من كتاب البخاري فيجوز أن يوجد ما يساويه فإذا كان كلام أبى على محتملا لكل من الأمرين فجزم
ابن الصلاح أن أبا علي قال صحيح مسلم أصح من صحيح البخاري غير صحيح وقد رأيت هذه العبارة في كلام الشيخ محيي الدين النووي والقاضي بدر الدين ابن جماعة والشيخ تاج الدين

(1/50)


التبريزي وتبعهم جماعة وفي إطلاق ذلك نظر لما بيناه انتهى بمعناه.
قلت: ولا يعزب عنك أن هذا التأويل الذي ذكره الحافظ خروج عن محل النزاع فإن الدعوى بأن البخاري أصح الكتابين وهذا التأويل أفاد أنهما مثلان فما أتى التأويل إلا بخلاف المدعي على أن قول القائل "ما تحت أديم السماء أعلم من فلان" يفيد عرفا أنه أعلم الناس مطلقا وأنه لا يساويه أحد في ذلك وأما في اللغة فيحتمل توجه النفي إلى الزيادة أعني زيادة إنسان عليه في العلم لا نفي المساوي له فيه والحقيقة العرفية مقدمة سيما في مقام المدح والمبالغة بقوله "تحت أديم السماء".
ثم رأيت بعد هذا أنه قال البقاعي الحق أن الصيغة تارة تستعمل على مقتضى أصل اللغة فتنتفي الزيادة فقط وتارة على مقتضى ما شاع من العرف فتنتفي المساواة فمثل قوله صلى الله عليه وسلم: "ما طلعت شمس ولا غربت على أفضل من أبي بكر" وإن كان ظاهره نفي أفضلية الغير لكنه إنما سيق لإثبات أفضلية المذكور والسر في ذلك أن الغالب في كل اثنين هو التفاضل دون التساوي فإذا نفى أفضلية أحدهما ثبتت أفضلية الآخر. انتهى.
"قال زين الدين: وعلى كل حال" سواء قيل البخاري أصح أو مسلم "كتاباهما أصح كتب الحديث" لأن من قال كتاب البخاري أصح قائل بأن بعده في الصحة كتاب مسلم ومن قال إن كتاب مسلم أصح كتاب بعده كتاب البخاري فقد اتفق الكل على انهما أصح كتب الحديث ولماصح أن الشافعي قال إن كتاب الموطأ أصح الكتب الحديثية قال الزين "وأما قول الشافعي ما على وجه الأرض بعد كتاب الله أصح من كتاب مالك فذاك" قاله الشافعي "قبل وجود الكتابين" فكلامه صحيح نظرا إلى زمان تكلمه وهذه الرواية أخرجها عن الشافعي أبو بكر بن محمد بن ابراهيم الصفار عن طريق هرون بن سعيد الأيلي قال سمعت الشافعي يقول ما بعد كتاب الله أنفع من كتاب مالك ذكره الحافظ ابن حجر.
قال الحافظ ابن حجر: أول من صنف في العلم وبوبه ابن جريح1 بمكة ومالك وابن أبي ذئب بالمدينة فإن ابن أبي ذئب موطأ أكبر من موطأ مالك بأضعافه،
__________
1 ابن جريج هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي مولاهم أبو الوليد المكي، أحد الأعلام. قال أحمد: إذا قال ابن جريج "قال" فاحذروه. مات سنة "150". له ترجمة في: تاريخ بغداد "10/400"، والعبر "1/213"، وشذرات االذهب "1/226".

(1/51)


حتى قبل لمالك: ما الفائدة في تصنيفك فقال ما كان لله بقي والأوزاعي بالشأم والثوري بالكوفي وسعيد بن أبي عروبة والربيع ابن صبيح بالبصرة ومعمر باليمين قال وكان هؤلاء في عصر واحد فلا يدري أيهم سبق.

(1/52)