توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار مسألة 13 [في بيان القسم الثاني: وهو
الحديث الحسن]
ولما فرع المصنف من التكلم على الصحيح أخذ في التكلم على الحسن
فقال "القسم الثاني الحسن" تقدم له أنه قسم الخطأ بي الحديث
إلى ثلاثة أقسام ثانيهما الحسن.
قال الشيخ تقي الدين بن تيمية إثبات الحسن اصطلاح للترمذي وغير
الترمذي من أهل الحديث ليس عندهم إلا صحيح وضعيف والضعيف عندهم
ما انحط عن درجة الصحيح ثم قد يكون متروكا هو أن يكون رواية
متهما أو كثير الغلط وقد يكون حسنا بأن لا يتهم بالكذب قال
وهذا معنى قول أحمد العمل بالضعيف أولى من صحاب القياس "وفيه"
أي وفي هذا البحث المذكور فيه الحسن "ذكر شروط أهل السنن
الأربعة" وشروط "أهل المسانيد وغيرهم" كأنه يريد أهل الأطراف.
"اختلفت أقوال الأئمة" من أهل الحديث "في حد الحديث الحسن
فقال" في تعريفه "أبو سليمان الخطابي الحسن ما عرف مخرجه" بفتح
الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الراء قال الحافظ ابن حجر إنه
فسر القاضي أبو بكر بن العربي مخرج الحديث بأن يكون الحديث من
رواية راو قد اشتهر برواية حديث أهل بلد كقتاة في البصريين
وأبي اسحق السبيعي في الكوفيين وعطاء في المكيين وأمثالهم فإن
حديث البصريين إذا جاء عن قتادة مثلا كان مخرجه معروفا وإذا
جاء عن غير قتادة ونحوه كان شاذا "واشتهر رجاله" أي كان رجال
سنده مشهورين غير مستورين وعرفه الحافظ في النخبة بتعريف
الصحيح وإنما فرق بينهما بخفة الضبط في رجال الحسن ومثله صنع
المصنف في مختصره في علوم الحديث "وعليه مدار أكثر أهل الحديث
وهو الذي يقبله أكثر العلماء ويستعمله عامة الفقهاء انتهى كلام
الخطابي قال زين الدين: ورأيت في كلام بعض المتأخرين أن قوله
ما عرف مخرجه احتراز عن المنقطع وعن حديث المدلس قبل أن يبين
تدليسه" لا يخفي أن كلام ابن العربي الذي نقلناه آنفا دال على
أنه خرج بذلك
(1/144)
القيد الشاذ.
"قال الشيخ تقي الدين" ابن دقيق العيد "ليس في عبارة الخطابي
كثير تلخيص وأيضا فالصحيح قد عرف مخرجه واشتهر رجاله فيدخل
الصحيح في حد الحسن" على تعريف الخطابي قال الشيخ تقي الدين
متأولا للخطابي "وكأنه" أي الخطابي "يريد ما لم يبلغ درجة
الصحيح" قد أجاب عن هذا الشيخ أبو سعيد العلائي فقال إنما
يتوجه الاعتراض على الخطابي أن لو كان عرف الحسن فقط أما وقد
عرف الصحيح أولا ثم عرف الحسن فيتعين حمل كلامه على أنه أراد
بقوله عرف مخرجه واشتهر رجاله ما لم يبلغ درجة الصحيح ويعرف
هذا من مجموع كلامه انتهى.
قلت: هذا هو الجواب الذي أشار إليه الشيخ تقي الدين آخرا لكنه
أورد عليه الحافظ ابن حجر أنه على تسليم هذا الجواب فهذا القدر
غير منضبط انتهى.
قلت: ويقال للحافظ وكذلك تعريفك الحسن في النخبة وشرحها بقولك
فإن خف الضبط أي قل مع بقية الشروط المتقدمة في حد الصحيح فحسن
لذاته غير منضبط أيضا فإن خفة الضبط أمر مجهول ومثله تعريف
المصنف له في مختصره والجواب بأنه مبني على العرف أو على
المشهور غير نافع إذ لا عرف في مقدار خفة الضبط.
"قال الشيخ تاج الدين التبريزي في كلام الشيخ تقي الدين نظر
لأنه ذكر من بعد أن الصحيح أخص من الحسن ودخول الخاص" وهو
الصحيح هنا في "حد العام" وهو الحسن هنا "أمر ضروري" لوجود
العام في ضمن قيود الخاص ضرورة أن الخاص هو العام وزيادة
"والتقييد بما يخرجه" أي الخاص "عنه" أي عن حد العام "مخل
للحد" فإنه ليس ذلك حقيقة العام والخاص.
"قال زين الدين: وهو اعتراض متجه" قال الحافظ بن حجر بين الحسن
والصحيح عموم وخصوص من توجه وذلك بين واضح لمن تدبره فلا يرد
اعتراض التبريزي إذ لا يلزم من كون الصحيح أخص من الحسن من وجه
أن يكون أخص منه مطلقا حتى يدخل الصحيح في الحسن انتهى.
"قلت: بل هو" أي تنظير التبريزي "اعتراض غير متجه" على ابن
دقيق العيد "لأن العموم والخصوص إنما يقع على الحقيقة في
الحدود الحقيقية المعرفة للذوات المركبة المشتملة على الأجناس
والفصول وليس في الحديث الصحيح والحسن شيء من ذلك" قد عرفت مما
سلف أن رسم الصحيح ما اتصل سنده بنقل العدل الضابط عن مثله ...
(1/145)
إلخ ورسم الحسن بأنه ما اتصل سنده برواية
من خف ضبطه إلى آخره فقيد الضبط قد أخذ في الرسمين إنما اختلفت
صفة خفته وخلافها فقد تغايرا تغاير الخاص والعام فكل صحيح حسن
وزيادة كما أن كل إنسان حيوان وزيادة والعموم والخصوص يجري بين
المفاهيم عرضية كانت أو ذاتية نعم رسم الترمذي للحسن على ما
سنحققه مغاير لرسم الصحيح مغايرة ظاهرة فإنه لا يشترط فيه
الاتصال الذي لا بد منه في الصحيح لعدم اشتراطه في رجال ما
يشترط في رجال الصحيح فأما قول الحفاظ إن بينهما عموما وخصوصا
من وجه فلا يتم على تقدير إرادة الحسن لذاته أو الحسن لغيره بل
على الأول بينهما عموم وخصوص مطلق وعلى الثاني: بينهما تباين
كما ستعرفه وقول المصنف "لأن لكل واحد منهما" أي من الصحيح
والحسن "أمارة يجب العمل عندها وبعضها أقوى في الظن من الأخرى"
صحيح لكنه لا ينافي كون أحدهما أخص من الآخر بل فيه الإقرار
بأنه قد جمعهما وجوب العمل كما يجمع العام والخاص أمر يعمهما
ثم يفترقان بأمر يختص به أحدهما "لا أن القوية" أي الإمارة
القوية هي أمارة الصحيح "متركبة من الضعيفة" وهي أمارة الحسن
"ومن أمر آخر" أي كما هو شأن الذاتيات مثل الإنسان والحيوان
فإن الخاص مركب من الأعم بزيادة قيد الناطقية مثلا ويجاب بأنه
قد حصل في مفهوم الرسمين من التغاير ما يحصل بين العام والخاص
وأما كونه ذاتيا أو غير ذاتي فليس التغاير يختص بالذاتيات بل
يقع بين المفاهيم وهو المراد هنا وقوله "فإن الحديث الصحيح
المروي عن ابن سيرين لم يتركب من الحديث الحسن المروي عن ابن
اسحق ومن الحديث الصحيح المروي عن ابن سيرين وأمثال ذلك" خارج
عم محل النزاع إذ الكلام في رسم الصحيح والحسن ومفهومها لا في
معروضها فهو انتقال من المعارض وهو الصحيح والحسن إلى المعروض
وهو أفراد الأسانيد.
"وبالجملة فالحد الحقيقي" أي التام وهو الذي يجمع الجنس والفصل
القريبين والناقص من الحد ما كان بالجنس البعيد والفصل القريب
والرسم التام ما كان بالجنس القريب والخاصة والرسم الناقص ما
كان بالخاصة وحدها أو بها وبالجنس البعيد "متعذر هنا" بل قد
قيل إنه غير مقطوع به في مثل الحيوان الناطق الذي جزم به
المناطقة بأنه حد حقيقي لجواز أنهما ليسا ذاتيين وعلى تجويز
ذلك فيجوز أنهما غير قريبين "وإنما تفيد تمييز الاعتبارات
المصطلح عليها بعضها من بعض" قد قدمنا لك هذا بعينه
(1/146)
في أو ل بحث الصحيح فتذكر "وذكر الحدود
المحققة أمر أجنبي عن هذا الفن فال حاجة إلى التطويل فيه" قد
عرفت قريبا أقسام التعريف الأربعة للحد والرسم إلا أن هاهنا
بحثا وهو أن الرسوم يقال لها تعاريف كما يقال للحدود إذ تعريف
الشيء هو الذي يلزم من تصوره تصور ذلك الشيء أو امتيازه عن كل
ما عداه كما هو معروف في كتب الميزان الرسالة الشمسية وغيرها
فالرسوم لا بد فيها من جنس قريب وخاصة وهو التام أو خاصة فقط
أو مع الجنس البعيد وهو الناقص فإذا عرفت هذا عرفت أن العموم
والخصوص يجري في الرسوم كما يجري في الحدود.
"وقال أبو عيسى الترمذي" وهو محمد بن سورة "في العلل التي في
أواخر الجامع ما ذكرنا في هذا الكتاب حديث حسن فإنما أردنا به
حسن إسناده وحقيقته" عنده "هو كل حديث يروى ولا يكون في إسناده
من يتهم بالكذب ولا يكون الحديث شاذا ويروي من غير وجه نحو ذلك
فهو عندنا حسن" قلت: قد أورد على كلام الترمذي أنه لا حاجة إلى
قوله ولا يكون شاذا إذ قوله ويروى من غير وجه يغني عنه وقال
الحافظ ابن حجر ليس في كلامه تكرار والشاذ عنده ما خالف فيه
الراوي من هو أحفظ منه أو أكثر سواء تفرد به أو لم يتفرد كما
سرح به الشافعي وقوله ويروي من غير وجه شرط زائد على ذلك وإنما
يتمشى ذلك على رأي من يزعم أن الشاذ ما تفرد به الراوي مطلقا
وحمل كلام الترمذي على الأول أولى لأن الحمل على التأسيس أولى
من الحمل على التأكيد سيما في التعاريف انتهى.
"قال الحافظ أبو عبد الله محمد بن أبي بكر المواق" عبارة الزين
ابن المواق معترضا على الترمذي "لم يخص الترمذي الحسن بصفة
تميزه عن الصحيح" فإن شرائط الحسن هذه لا بد منها في الصحيح
"فلا يكون" الحديث "صحيحا إلا وهو غير شاذ" كما عرفت في رسم
الصحيح "ويكون رواته غير متهمين" لأنا قلنا في رسمه بنقل العدل
الضابط والمتهم غير عدل "بل ثقات فظهر من هذا" الرسم الذي ذكره
الترمذي للحسن "أن الحسن عند أبي عيسى صفى لا تخص هذا القسم بل
قد يشركه فيه الصحيح قال" أبو عبد الله "فكل الصحيح عنده حسن
وليس كل حسن عنده صحيحا" ظاهر كلامه أن الترمذي أتى بقيود
الصحيح في رسم الحسن ولم يميزه بقيد يخصه به وإذا كان كذلك
فقياسه أن يقول فكل صحيح حسن وكل حسن صحيح.
"قلت: هذا" أي القول بالأعمية والأخصية المطلقة "مثل كلام تاج
الدين" التبريزي
(1/147)
"المقدم" وقد رده المصنف بما رددناه "وليس
ما قاله" ابن الموإق "بلازم للترمذي" من اتحاد الصحيح والحسن
"لأنه يشترط في رجال الصحيح من قوة العدالة".
قلت: كلامهم كلهم ومنهم المصنف في مختصره وقد نقلنا عبارته قاض
بأنه لا يخالف الحسن الصحيح إلا بخفة ضبط رواته لا بضعف
العدالة على أن في تحقق ضعف العدالة تأملا لا يخفي "وقوة الحفظ
والإتقان" هذا صحيح وبهذا تعرف أن الحسن يتميز عن الصحيح
بزيادة شروط في القيود ولا يخفي أن الحافظ ابن حجر والمصنف لم
يفرقا بين الصحيح والحسن إلا بخفة ضبط الراوي فقط وزاد المصنف
هنا الإتقان في شرائط رواة الصحيح ولم يذكره فيما مضى إلا أن
يقال إن قولهم في حد الصحيح الضبط التام عبارة تفيد شرطية
الإتقان "ما لا يشترط في رجال الحسن" حينئذ فالحسن يتميز عن
الصحيح بزيادة قيود في شروط الصحيح وقد عرفت غير مرة أنه لم
يفرق المصنف والحافظ ابن حجر بين الحسن والصحيح إلا بخفة ضبط
الراوي لا غير.
"ولكن يعترض عليه" أي على الترمذي "كونه لم يورد ذلك" أي لم
يورد ما يدل على اشتراطه بقوة رجال الصحيح عدالة وحفظا وإتقانا
وقد يقال إذا لم يورد ذلك فبأي شيء عرف أنه يشترطه فأجاب بأنه
"يمكن أن يجاب عنه بأنه مفهوم من عبارته حيث شرط في رجال الحسن
أن يكونوا غير متهمين بالكذب لأن الثقة الحافظ لا يوصف في عرف
المحدثين بأنه غير متهم بالكذب فقط لأن عدم التهمة بذلك قد
يوصف بها الضعفاء" الذين ضعفوا بسوء الحفظ أو الغفلة أو نحو
ذلك "وقد بين مراده بقوله بعد ذلك ويروي من غير وجه نحو ذلك
يعني حتى ينجبر ما فيه من الضعف" فإنه لما خص رسم الحسن بهذا
الاشتراط كان قرينة قوية على مراده في صفات رجاله وإلا لو
حملنا صفة رجال الصحيح للزم من زيادة هذا القيد أن يكون الحسن
أقوى من الصحيح والمعلوم خلافه على أنه لا يتم هذا إلا في
القسم الثاني: من الحسن كما ستعرفه من كالم المصنف "وغرض
الترمذي إفهام مراده لا التحديد المنطقي فلا اعتراض عليه
بمناقشات أهل الحدود" من دعوى العموم والخصوص وقد عرفت ما فيه.
"وأورد الشيخ زين الدين على كلام الترمذي هذا سؤلا متجها" وذلك
أنه شرط في الحديث أن يروي من غير وجه "وهو أنه قد حسن أحاديث
لا تروى إلا من وجه واحد
(1/148)
كحديث إسرائيل" بن يونس بن أبي اسحق
السبيعي "عن يوسف بن أبي بردة" بن أبي موسى الأشعري "عن أبيه"
أبي بردة "عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا
خرج من الخلاء قال غفرانك قال" الترمذي "فيه" بعد روايته له
"حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث إسرائيل عن يوسف عن أبي برده
ولا يعرف في هذا إلا حديث عائشة" فوصفه بالحسن مع تصريحه بأنه
لا يعرف هذا الباب غيره فدل على أنه لم يأتي من وجه آخر فكان
نقضا لما رسم به الحسن.
"وأجاب الشيخ أو الفتح اليعمري عن هذا الحديث بأن الذي يحتاج
إلى مجيئه من غير ما كان روايته في درجة المستور" ويأتي تعريفه
"ومن لم تثبت عدالته" ولا يخفي أن هذا زيادة قيد لم صرح به
الترمذي "وأكثر ما في الباب من أن الترمذي عرف الحسن بنوع منه
لا بكل أنواعه" والنوع الذي قد عرفه وهو ما كان في رواته مستور
ومن لم تثبت عدالته وحديث عائشة هذا ليس فيه مستور ولا من لم
تثبت عدالته.
"قلت: أظن أن أبا الفتح يريد أن الغرابة في الحديث إنما هي في
رواية يوسف له عن أبيه عن عائشة ولم يتابع يوسف على هذا أحج
ويوسف ثقة بغير خلاف" وإذا كان كذلك فلا يشترط أن يأتي من وجه
آخر "وأما إسرائيل فمختلف فيه" فلا بد بالنظر إليه من إتيان
الحديث من وجه آخر وهذا مبني على أن مراده أي أبي الفتح
اليعمري بقوله ومن لم تثبت عدالته لم يتفق على عدالته ليقابله
المصنف بقوله مختلف فيه "لكنه لم ينفرد" إسرائيل "بالحديث عن
يوسف" حتى يلزم أنه حديث فيه من لم تثبت عدالته ولم يرو من وجه
آخر بل قد رواه عن يوسف غير إسرائيل إذا عرفت هذا "فالحديث
حسن" أي من هذا النوع من الحسن "بالنظر إلى رواية إسرائيل
ويغره من الضعفاء" لأنه قد وجد في رواته من لم تثبت عدالته وقد
روي من وجه آخر عن جماعة من الضعفاء "عن يوسف" فهو من هذا
النوع أعني الحسن الذي عرفه المصنف لاجتماع الشرائط فيه "وغريب
بالنظر إلى تفرد يوسف بروايته عن أبيه عن عائشة" فيتم وصفه
بالحسن والغرابة لوجودهما فيه.
واعلم أن إسرائيل اعتمده الشيخان في الأصول وقال الذهبي في
الميزان1 هو في الثبت كالأسطوانة فلا يلتفت إلى تضعيف من ضعفه
وقال أحمد بن حنبل ثقة
__________
1 1/20/- 209//820.
(1/149)
وكان يتعجب من حفظه وقال الحافظ ابن حجر في
التقريب1ثقة تكلم فيه بلا حجة وأما يوسف بن أبي برده فقال
مقبول ولم يذكر فيه قدحا ولا ذكره الذهبي في الميزان لأنه ليس
على شرطه.
"وقال ابن الجوزي2 في العلل المتناهية وفي الموضوعات" كتاب ابن
الجوزي "الحديث الذي فيه ضعف قريب3 محتمل4 هو الحديث الحسن
بشرط الترمذي" الذي عرفته في التحسين.
"وقال ابن الصلاح: وقد أمعنت النظر" في القاموس أمعن في الأمر
أبعد وعبارته قد أمعنت النظر في ذلك والبحث "جامعا بين أطراف
كلامهم ملاحظا مواقع استعمالهم فتنقح لي" كأنه من تنقيح الشعر
تهذيبه "واتضح أن الحديث الحسن" في اصطلاحهم في كلامهم "قسمان
أحدهما الذي لا تخلو رجال إسناده من مستور" فسر الحافظ ابن حجر
في التقريب المستور بقوله بأنه من روى عنه أكثر من واحد ولم
يوثق قال وإليه الإشارة بلفظ مستور أو مجهول الحال وفي شرح
ملاقاري للنخبة وشرحها لابن حجر أن المستور الذي لم يتحقق
عدالته ولا جرحه وقال السخاوي المستور الذي لم ينقل فيه جرح
ولا تعديل وكذا إذا نقلا ولم يترجح أحدهما وفي حاشية تلميذه أن
الراوي إذا لم يسم كرجل سمي مبهما وإن ذكر مع عدم تمييز فهو
المهمل وإن لم يتميز ولم يرو عنه إلا واحد فمجهول وإلا فمستور
انتهى ويأتي
__________
1 1/64/460.
2 ابن الجوزي هو: الإمام العلامة الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن
بن علي بن عبد الرحمن الصديقي الحنبلي الواعظ حصل له من الخطوة
في الوعظ ملم يحصل لأحد قط. قال الذهبي: لا يوصف ابن الجوزي
بالحفظ عندنا باعتبار الصنعة بل باعتبار كثرة اطلاعه وجمعه مات
سنة 597. له ترجمة في: البداية والنهاية 13/28, والعبر 4/297.
3 ضعف قريب: أي ذاتي أو نسبي فهو شامل للحسن لذاته والحسن
لغيره أما الحسن لذاته فهو ضعيف بالنسبة للصحيح وأما الحسن
لغيره فهو ضعيف أصالة وإنما جاء الحسن مما عضده فاحتمل الضعف
لوجود العاضد.
ومعنى قربه: أنه غير شديد الضعف ومعنى شدة ضعفه عدم تأثيره في
الاحتجاج به. حاشية الأجهوري ص 24.
4 محتمل: بضم الميم الأولى وفتح الثانية أي مغتفر أي لم يؤثر
في الاحتجاج وذكره بعد قريب توكيد له. حاشية الأجهوري ص 24.
(1/150)
للمصنف كلام ف المستور غير هذا "لم تتحقق
أهليته غير أنه لي مغفلا كثير الخطأ فيما يرويه ولا هو متهم
بالكذب في الحديث أي لم يظهر من هـ الكذب في الحديث ولا" متهم
"بسبب آخر مفسق" هذا في الراوي "و" في المروي "يكون متن الحديث
مع ذلك قد عرف بأن يروي مثله أو نحوه من وجه آخر" والمثل ما
يساويه في لفظه أو معناه والنحو ما يقاربه في معناه "أو أكثر
حتى" يكون قد "اعتضد بمتابعة من تابع راوية على مثله أو بما له
من شاهد وهو ورود حديث آخر مثله فيخرج بذلك عن أن يكون شاذا أو
منكرا وكلام الترمذي على هذا القسم يتنزل" قال الحافظ ابن حجر
إن المعرف عند الترمذي هو حديث مستور.
قلت: وهذا كما فهمه المصنف ولا يعده كثير من أهل الحديث من
قبيل الحسن وليس هو نفي التحقيق عند الترمذي مقصورا على رواية
المستور بل يشترك فيه الضعيف بسبب سوء الحفظ والموصوف بالخطأ
والغلط وحديث المختلط بعد اختلاطه والمدلس إذا عنعن وما في
إسناده انقطاع خفيف فكل ذلك عنده من قبيل الحسن بالشروط
الثلاثة وهو أن لا يكون فيهم من يتهم بالكذب ولا يكون الإسناد
شاذا وأن يروي مثل ذلك الحديث أو نحوه من وجه آخر فصاعدا وليس
كلها في المرتبة على حد سواء بل بعضهم أقوى من بعض ومما قوي
هذا ويعضده أنه لم يتعرض لمشروطية اتصال الإسناد أصلا بل أطلق
ذلك ولهذا وصف كثيرا من الأحاديث المتقطعة بكونها حسانا.
ثم قال فمن أمثلة ما وصفه بالحسن وهو من رواية الضعيف السيئ
الحفظ ما رواه من طريق شعبة عن عاصم بن عبيد الله عن عبد الله
بن عامر بن ربيعة عن أبيه قال: إن امرأة من بني فزارة تزوجت
على نعلين, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرضيت من نفسك
ومالك بنعلين", قالت: نعم, الحديث قال الترمذي هذا حديث حسن1
وفي الباب عن أبي هريرة وعائشة وأبي حدرد وذكر جماعة غيرهم
وعاصم بن عبيد الله قد ضعفه الجمهور ووصفوه بسوء الحفظ وعاب
ابن عيينة على شعبة الرواية عنه وقد حسن الترمذي حديثه هذا
لمجيئه من غير وجه كما شرط والله أعلم.
__________
1 الترمذي 1113, وأحمد 3/445, والبيهقي 7/138, وابن عساكر
7/127.
(1/151)
ومثال ما حسنه وهو من رواية الضعيف الموصوف
بالخطأ والغلط ما أخرجه من طريق عيسى بن يونس عن مجالد بن أبي
الوداك عن أبي سعيد قال كان عندنا خمر ليتيم فلما نزلت آية
المائدة سألت رسول لله صلى الله عليه وسلم فقلت: إنه ليتيم,
فقال صلى الله عليه وسلم: "أهر يقوه ... ", الحديث فقال هذا
حديث حسن1.
قلت: ومجالد ضعفه جماعة ووصفوه بالغلط والخطأ وإنما وصفه
بالحسن لمجيئه من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم: من
حديث أنس وغيره.
ثم قال ومن أمثلة ما وصفه بالحسن وهو من رواية من سمع من مختلط
بعد اختلاطه ما رواه من طريق يزيد بن هارون عن المسعودي عن
زياد بن علاقة قال صلى بنا المغيرة بن شعبة فلما صلى ركعتين
قام فلم يجلس فسبح به من خلفه فأشار إليهم أن قوموا فلما فرغ
من صلاته سلم وسجد سجدتي السهو وسلم وقال هكذا صنع رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال هذا حديث حسن2.
قلت: والمسعودي اسمه عبد الرحمن وهو ممن وصف بالاختلاط وكان
سماع يزيد بعد أن اختلط وإنما وصفه بالحسن لمجيئه من أوجه أخر
بعضهما عند المصنف أيضا ومن أمثلة ما وصفه بالحسن وهو من رواية
مدلس قد عنعن ما رواه من طريق يحيى بن سعيد عن المثني بن سعيد
عن قتادة عن عبد الله بن بربده عن أبيه عن النبي صلى الله عليه
وسلم: قال: "المؤمن يموت بعرق الجبين", قال هذا حديث حسن3 وقد
قال بعض أهل العلم لم يسمع قتادة من عبد الله بن بريدة.
قلت: وهو عصريه وبلديه كلاهما من أهل البصرة ولو صح أنه سمع
منه فقتادة مدلس معروف بالتدليس وقد روي هذا بصيغة العنعنة
وإنما وصفه بالحسن لأن له شواهد من حديث عبد الله بن مسعود
وغيره.
ومن أمثلة ما وصفه بالحسن وهو منقطع الإسناد ما رواه من طريق
عمرو ابن مرة عن أبي البختري عن علي رضي الله عنه قال: إن
النبي صلى الله عليه وسلم قال
__________
1 البخاري 5/167, ومسلم في: الصيد: حديث 33, وابن ماجة 3195.
وأبو داود في: الأشربة: ب 7.
2الترمذي في: الصلاة: ب 152. حديث: 364. وأحمد 4/253.
3 الترمذي 982. والنسائي 4/6. وابن ماجة 1452. وأحمد 5/357,
360.
(1/152)
لعمر في العباس رضي الله عنه: "إن عم الرجل
صنو أبيه" وكان عمر تكلم في صدقته وقال هذا حديث حسن1.
قلت: أبو البختري اسمه سعيد بن فيروز ولم يسمع من علي رضي الله
عنه فالإسناد منقطع ووصفه بالحسن لأن له شواهد مشهورة من حديث
بريدة وغيره.
وأمثلة ذلك عنده كثيرة ثم ساق الحافظ منها شطرا صالحا وذكر
تصريح الترمذي بوصفه لأحاديث بالحسن مع تصريحه بانقطاعها فإنه
قال في محلات هذا حديث حسن وليس إسناده بمتصل ثم قال الحافظ
وذلك مصير منه إلى أن الصورة الاجتماعية لها تأثير في التقوية
وإذا تقرر ذلك كان من رأيه أي الترمذي أن جميع ذلك إذا اعتضد
بمجيئه من أوده أخر نزل منزلة الحسن احتمل أن لا يوافقه غيره
على هذا الرأي أو يبادر للإنكار عليه ما إذا وصف حديث الراوي
الضعيف أو ما إسناده منقطع بكون حسنا فاحتاج إلى التنبيه على
اجتهاده في ذلك وأفصح عن مقصده فيه. انتهى.
قلت: وبه تعرف عدم ورود ما أورده بدر الدين ابن جماعة على ابن
الصلاح أنه يلزم حيث نزل كلام الترمذي على هذا القسم دخول
المرسل والمنقطع في رسم الحسن عند الترمذي إذا كان في رجالهما
مستور وروي مثله أو نحوه من وجه آخر لما عرفت من التزامه دخول
ذلك في رسم الحسن إذا روي من وجه آخر حسن لأنه لا يشترط
الاتصال في الحسن وهو شرط في الصحيح اتفاقا وتعرف أيضا أن
الحسن على اصطلاحه غير الحسن على اصطلاح الحافظ ابن حجر
والمصنف كما أشرنا إلى ذلك.
"القسم الثاني": من الحسن "أن يكون رواية من المشهورين بالصدق
والأمانة غير أنه لا يبلغ درجة رجال الصحيح لكونه يقصر عنهم في
الحفظ والإتقان وهو مع ذلك يرتفع عن حال من يعد ما ينفرد به
منكرا قال" أي ابن الصلاح "ويعتبر في كل هذا مع سلامة الحديث
من أن يكون شاذا أو منكرا سلامته" نائب يعتبر "من أن يكون
معللا وعلى القسم الثاني: ينزل كلام الخطابي" حيث قال الحسن ما
عرف مخرجه واشتهر رجاله كما نقله عنه المصنف آنفا "قال" أي ابن
الصلاح "فهذا كلام جامع لما تفرق في كلام من
__________
1 الترمذي في: المناقب ب 28. ومسلم في: الزكاة حديث 11. وأحمد
1/94.
(1/153)
بلغنا كلامه في ذلك قال وكأن الترمذي ذكر
أحد نوعي الحسن" بتعريفه الماضي "وذكر الخطابي" فيما مضى من
كلامه "النوع الآخر مقتصرا كل واحد منهما على ما رأى أنه مشكل
أو أنه غفل عن البعض" أي غفل كل واحد من الترمذي والخطابي عما
تركه "وذهل انتهى كلام ابن الصلاح في تعريف الحسن".
قال الحافظ ابن حجر بين الترمذي والخطابي في ذلك فرق وذلك أن
الخطابي قصد تعريف الأنواع الثالثة عند أهل الحديث فذكر الصحيح
ثم الحسن ثم الضعيف وأما الذي سكت عنه وهو حديث المستور إذا
أتى من غير وجه فإنما سكت عنه لأنه عنده ليس من قبيل الحسن فقد
صرح بأن رواية المجهول م قسم الضعيف وأطلق ذلك ولم يفصل
والمستور قسم من المجهول وأما الترمذي فلم يقصد التعريف
بالأنواع المذكورة عند أهل الحديث بدليل أنه لم يعرف بالصحيح
ولا بالضعيف بل ولا بالحسن المتفق على كونه حسنا بل المعروف
عنده هو حديث المستور على ما فهمه المصنف ولا يعده كثير من أهل
الحديث من قبيل الحسن.
"قال" أي ابن الصلاح "ومن أهل الحديث من لا يفرد نوع الحسن
ويجعله مندرجا في أنواع الصحيح لاندراجه في أنواع ما يحتج به
قال وهو الظاهر من تصرفات الحاكم وهو لا ينكر أنه دون الصحيح
المقدم فهو إذا اختلاف في العبارة انتهى".
واعلم أنه تحصل من الأبحاث السابقة أن الحسن قسمان:
حسن لذاته وهو الذي قصد الخطابي تعريفه والذي عرفه الحافظ ابن
حجر في النخبة والمصنف في مختصره فإنهما رسما الصحيح برسمه
المعروف ثم قال فإن خف الضبط فهو حسن لذاته وظاهر كلامهما أنه
لا يفارق الصحيح إلا بخفة الضبط لا غير ولذا قال ابن الصلاح:
إن رجاله رجال الصحيح لكنهم يقصرون عنهم في الحفظ والإتقان
وهذا هو الذي يقال إنه أعم من الصحيح مطلقا والصحيح أخص منه
وهذا القسم يشترط فيه الاتصال ولذا نقل المصنف عن البعض أن قول
الخطابي ما عرف مخرجه احتراز عن المنقطع وهذا هو القسم الثاني:
الذي ذكره ابن الصلاح فيما نقله عنه المصنف ونزل عليه كلام
الخطابي وهذا القسم لم يتعرض له الترمذي إذ ليس من اصطلاحه وهو
الذي أدرجه بعض المحدثين في الصحيح والقسم الثاني: هو ما وقع
عليه اصطلاح الترمذي وهو الذي لم يشترط فيه الاتصال ولا عدم
تدليس راوية ولا وصفة بالغلط والخطأ ولا عدم ضعفه ولا عدم سماع
الراوي من شيخه بعد
(1/154)
الاختلاط كم قررناه كله بأمثلته عن كلامه
وإنما اشترط أن يروي من غير وجه نحو ذلك فهذا يوصف بالحسن عند
الترمذي وهو بهذا الرسم مباين للصحيح لا يلاقيه بعموم ولا خصوص
مباين للحسن أيضا المعنى الأول.
قلت: ومن هنا تعرف أن كلام ابن المواق غير صحيح حيث زعم أن كل
صحيح عند الترمذي حسن وليس كل حسن صحيحا بل هما عنده متباينان
إن كان رأي ابن المواق في الصحيح رأي الجمهور وإنما هذا العموم
والخصوص يجري في الحسن لذاته الذي رسمه الخطابي وغيره وتعرف أن
قول المصنف فيما سلف إن الترمذي يشترط في رجال الصحيح من قوة
العدالة وقوة الحفظ والإتقان ما لا يشترط في رجال الحسن غير
صحيح فإن الترمذي لم يشترط في رجال الحسن إلا عدم التهمة
بالكذب ولم يشترط عدالة ولا إتقانا لا قويا ولا ضعيفا وكيف
يشترطهما وقد جعل من أقسام الحسن رواية الضعيف الموصوف بالغلط
والخطأ ورواية من روي عمن سمع عن المختلط ما سمعه منه اختلاطه
وكيف وهو لا يخلو رجال إسناده عن مستور والمستور من لم يوثق
وإنما هذه القيود التي ذكرها المصنف قيود الحسن لذاته فسافر
ذهنه الشريف من أحد الحسنين إلى الآخر فوصف ما هو حسن بالغير
بصفة ما هو حسن بالذات.
تنبيه عرف المصنف الحسن في مختصره بقوله فإن خف وكان له من
جنسه تابع أو شاهد فالحسن وعرفه الحافظ ابن حجر في النخبة1
بقوله فإن خف الضبط فهو الحسن لذاته وقد عرفت مما قدمناه أن
الحسن لذاته لا يحتاج إلى شاهد وتابع وهذا هو الحسن لذاته الذي
عرفه الخطابي.
والثاني: وهو الذي يحتاج إلى شاهد وتابع هو الحسن لغيره وهذا
هو الذي أراده الترمذي وحملوا عليه عبارة الترمذي فإذا عرفت
هذا عرفت أن المصنف رحمه الله خلط التعريفين فأخذ خفة الضبط من
رسم الحسن لذاته وأخذ اعتبار الشاهد والتابع من رسم الحسن
لغيره فإن الحسن للغير لا يلاحظ فيه خفة ضبط رواته بل يقبل مع
حصول ضعف الراوي أو غلطه كما لا يلاحظ الشاهد أو التابع في رسم
الحسن لذاته فرسم المصنف غير صحيح على التقديرين ولا يقال هذا
اصطلاح له لأنه بصدد بيان اصطلاح أئمة الحديث.
__________
1 ص 33.
(1/155)
"فإن قيل هل يجوز العمل بما حكم الترمذي
بتحسينه وتصحيحه" لإخفاء أن الكلام في تحسين الترمذي فذكر
تصحيحه استطراد لأجل العلة المذكورة "فإن ابن حزم قد زعم أنه"
أي الترمذي "مجهول" والمجهول لا يعتبر تحسينه ولا تصحيحه "وأن
الحفاظ قد يعترضونه في بعض ما يحسنه أو يصححه" ويثبتون أنه
يصحح حديث من لم يجتمع فيه صفات رواة الصحيح ويحسن حديث من ليس
حديثه بحسن "مثل حديث الصلح جائز بين السملين فإنه رواه"
الترمذي1 "من طريق كثير" بالمثلثة "ابن عبد الله بن عمرو بن
عوف المزني المدني ثم صححه وهذا الرجل" يعني كثيرا "متروك
بالمرة ولم ينقل له توثيق عن أحد من أهل الحديث بل قال الشافعي
وأبو داود إنه ركن من أركان الكذب وقال ابن حبان له رواية عن
أبيه عن جده نسخة موضوعة" قال الذهبي في ترجمته في الميزان2
قال ابن معين ليس بشيء وضرب أحمد على حديثه وقال الدارقطني
وغيره متروك وقال أبو حاتم ليس بالمتين وقال النسائي ليس بثقة.
"وقال الذهبي" في الميزان "وأما الترمذي فروى له حديث: "الصلح
جائز يبن المسلين" وصححه فلهذا لا يعتمد العلماء على تصحيح
الترمذي انتهى كلامه في الميزان في ترجمة كثير بين عبد الله
المذكور قلنا قد قال الذهبي" في الميزان "في ترجمة الترمذي إنه
حافظ علم ثقة مجمع عليه ولا الثقات إلى قول أبي بكر محمد بن
حزم فيه إنه مجهول فإنه ما عرفه ولا درى بوجود الجامع ولا"
كتاب "العلل التي له انتهى كلامه".
وقال الذهبي في التذكرة قال ابن حبان3 في كتاب الثقات كان
الترمذي ممن جمع وصنف وحفظ وقال أبو سعيد الإدريسي كان أبو
عيسى يضرب به المثل في الحفظ وقال الحاكم: سمعت عمر بن علك
يقول مات البخاري ولم يخلف بخرسان مثل أبي سعيد في العلم
والحفظ والورع والزهد بكى حتى عمي وصار ضريرا سنين.
__________
1 رقم 1352. وأبو داود 3594. وابن ماجة 2352. وأحمد 2/366.
2 3/407/6943.
3 ابن حبان هو: الحافظ العلامة أبو حاتم محمد بن حبان التميمي
البستي صاحب التصانيف ولي قضاء سمرقند وكان من فقهاء الدين
وحفاظ الآثار عالما بالنجوم والطب وفنون العلم مات سنة 354. له
ترجمة في: البداية والنهاية 11/295. وشذرات الذهب 3/16.
والنجوم الزاهرة 3/342.
(1/156)
وقال فيها أيضا قال أبو نصر عبد الرحيم بن
عبد الخالق اليوسفي الجامع يريد كتاب الترمذي على أربعة أقسام
قسم مقطوع بصحته وقسم على شرط أبي داود والنسائي كما بينا وقسم
أخرجه الصدر وأبان عن علته وقسم رابع أبان عنه فقال ما أخرجت
في كتابي هذا إلا حديثا قد عمل به بعض الفقهاء وقال فيها قال
الترمذي صنفت كتابي هذا وعرضته على علماء الحجاز والعراق
وخراسان فرضوا به ومن كان في بيته هذا الكتاب يعني الجماع
فكأنما في بيته نبي يتكلم. انتهى.
"وفيه" أي في كلام الذهبي "ما يدل على جواز الاعتماد على تصحيح
الترمذي وتحسينه لانعقاد الإجماع" الذي حكاه الذهبي "على ثقته
وحفظه في الجملة ولكنه لما ندر منه الغلط الفاحش استحسنوا
اجتناب ما صحح أو حسن" ولما كان ظاهر كلام الذهبي التدافع وأنه
لا يقبل تصحيح الترمذي ولا تحسينه ودفعه المصنف بقوله "وأما
قول الذهبي أن العلماء لا يعتمدون على تصحيحه فلعله يريد لا
يعتمدون على تصحيحه فيما روي عن كثير بن عبد الله كما ذلك
موجود في بعض النسخ" أي من الميزان "وقد قال ابن كثير الحافظ
في إرشاده وقد نوقش الترمذي في تصحيح هذا الحديث" ففي عبارته
إرشاد إلي أن المناقشة في تصحيح هذا الحديث بخصوصه لا في كل ما
صححه.
"قلت: هذا خطأ نادر والعصمة مرتفعة من الأئمة الحفاظ والعلماء
وقد نص مسلم أنه ربما أخرج الحديث في صحيحه من طريق ضعيف لعلوه
والحديث معروف عند أئمة هذا الشأن من ريق العدول ولكن بإسناد
نازل روي هذا النووي في شرح مسلم عن مسلم تنصيصا" عن أسباط بن
نصر وقطن بن نسير وأحمد بن عيسى المصري فقال مسلم إنما أدخلت
من حديث أسباط وقطن وأحمد ما قد روي الثقات عن شيوخهم إلا أنه
ربما وقع إلى عنهم بارتفاع ويكون عندي رواية أوثق منهم بنزول
فأقتصر على ذلك وأصل الحديث معروف من رواية الثقات انتهى "وكذا
الترمذي يحتمل أنه صحح هذا الحديث لثبوته من غير طريق كثير بن
عبد الله المزني هذا فالحديث روي من غير طريق" أي من طرق كثيرة
"وقد رواه الحاكم أبو عبد الله في مستدركه من طريق كثير بن زيد
المدني عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة مرفوعا" في الميزان
كثير بن زيد الأسامي المدني قال أبو زرعة صدوق فيه ليس وقال
النسائي ضعيف والوليد بن
(1/157)
رباح بالراء والموحدة آخره مهملة قال في
التقريب صدوق ولم يذكره الذهبي في الميزان.
"وقال الحاكم: صحيح على شرطهما" ولكن كثير بن زيد لم يخرجا له
"وهو مقرون بعبد الله بن الحسين المصيصي" نسبة إلى مصيصة
بمهملتين بينهما مثناة تحتية بزنة سفينة ولا تشدد بلد الشام
كما في القاموس قال في الميزان في ترجمة عبد الله بن الحسين
المصيصي قال ابن حبان يسرق الأخبار ويقلبها ولا يحتج بما انفرد
به فقول المصنف "وهو ثقة" عجيب فلم يوثقه أحد في الميزان ولا
ذكره الحافظ في التقريب "وأخرج الحاكم له شاهدين عن أنس وعائشة
رواهما من رواية عبد العزيز بن عبد الرحمن الجزري" في الميزان
عبد العزيز بن عبد الرحمن النابلسي عن خصيف اتهمه أحمد وقال
النسائي ليس بثقة وضرب أحمد على حديثه عن خصيف بالمعجمة فصاد
مهملة مصغر في التقريب أنه صدوق سيئ الحفظ خلط بأخرى رمي
بالإرجاء وفي الميزان إنه ضعفه أحمد وقال مرة ليس بقوي وقال
ابن معين صالح وقال مرة ثقة.
إذا عرفت هذا فقد وقع للمصنف سبق قلم يجعله عبد العزيز جزريا
وهو نابلسي وإنما الجزري خصوف ثم قد عرفت أن المصنف أراد حمل
تصحيح الترمذي لحديث كثير على ما قاله مسلم إذا روى الحديث عن
ضعيف فهو لعلوه هو ثابت عن العدول بنزول وهذه الطرق الثلاث
التي ساقها المصنف كلها لا تخلو عن مقال فلم يثبت حديث كثير عن
العدول حتى يكون صحيحا على نحو ما قاله المصنف بل غابة ما
تفيده هذه الطرق أن تصيره حسنا لغيره على رأي الترمذي على أنه
لا يصح ذلك هنا على رأيه لأنه إما جعل حديث المستور أو الضعيف
أو أحد الخمسة التي ذكرناها حسنا لغيره إذا روي من طرق وأما
حديث من قال فيه الأئمة إنه ركن من أركان الكذب فلا ينطبق عليه
ما قاله الترمذي من أنه حسن لغيره وحينئذ فلا يتم أن حديث كثير
صحيح ولا حسن على القولين.
إذا عرف هذا فلم يبق عذر للترمذي في تصحيحه لحديث كثير بن عبد
الله إلا قول المصنف إن هذا خطأ نادر وإن العصمة مرتفعة عن
الحفاظ والعلماء وأما هذه التكلفات التي أراد بها المصنف ترويج
ما وقع من تصحيح الترمذي لحديث كثير فإنها لم تفد ما دندن حوله
وقد نسبه إلى غيره بقوله "ذكر ذلك الإمام الحافظ تقي الدين في
(1/158)
كتابه الإلمام" لا شك في إمامة الشيخ تقي
الدين فإن كان ما ذكره المصنف كله عنه ففيه ما سمعته من نصوص
أئمة الحديثة في رجال ما ساقه من الأحاديث وأنه لا يتم معها
صحة تصحيح حديث كثير ولا تحسينه.
"وذكر الحافظ ابن كثير الشافعي في إرشاده أن أبا داود روى
الحديث عن أبي هريرة بإسناد حسن هذا كله مع شهادة القرآن بذلك
في قوله "والصلح خير" وفي قوله "أو إصلاح بين الناس" لكن عرفت
أن الشواهد على تنفع في حديث من جزم بكذبه إنما تنفع فيما
ذكرناه من أنواع الحسن لغيره وكأنه استشعر المصنف أنه يقال
فإذا أثبت الحديث من طريق حفاظ لا مغمز فيهم فلم اختار الترمذي
إيراده من طريق كثير فقال "وأما اختيار الترمذي لإسناد الحديث
من طريق كثير بن عبد الله فيحتمل وجهين أحدهما أنه لم يرد
بالسماع من غير طريقه وقد عرفت قوته وصحته" من طرق "بالوجادة
والإجازة ومذاكرة الشيوخ" لا يخفى أن المصنف قد اجتهد في البحث
عن طرقه فذكر تلك الطرق التي لم تنهض على صحته ولا حسنه
"وثانيهما أن يكون قد رواه من طرق كثيرة في كل منها فقال
فاكتفى بإيراد أحدهما كما قد صح عن مسلم أنه كان يفعله" يريد
ما تقدم من نصه لكنه قال إنه لا يفعل ذلك إلا والحديث معروف
عند أئمة هذا الشأن من رواية العدول ولم يتم هذا في حديث كثير
كما عرفت "وكما صح عن أبي داود أيضا أنه كان يفعله بل قد صح عن
البخاري مثل ذلك ولكنه قليل فأنه قد روى نادرا في الصحيح عمن
ضعفه في تاريخه" فيه ما سلف.
"ومما يدل على ذلك" أي على أن حديث كثير ثابت من غير طريقه "أن
الترمذي قد روى حديث التكبير في صلاة العيدين من طريق كثير بن
عبد الله هذا وحسنه" لفظ الترمذي1 ثنا مسلم بن عمرو وأبو عمر
المدني ثنا عبد الله بن نافع الصائغ عن كثير بن عبد الله عن
أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم: كبر في العيدين في
الأولى سبعا قبل القراءة وفي الأخرى خمسا قبل القراءة وفي
الباب عن عائشة وابن عمر وعبد الله بن عمرو قال أبو عيسى يعني
الترمذي حديث جد كثير حديث حسن وهو أحسن شيء روي في هذا الباب
عن النبي صلى الله عليه وسلم: واسمه عمرو بن عوف المزني والعمل
على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب
__________
1 في: الجمعة ب 34. حديث 536.
(1/159)
النبي صلى الله عليه وسلم: وغيرهم وهكذا
روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى في المدينة نحو هذه
الصلاة وهو قول أهل المدينة وبه يقول مالك بن أنس والشافعي
وأحمد واسحق انتهى "ولم يصححه فلو كان تصحيحه لحديث الصلح
اعتمادا على كثير بن عبد الله لصحح حديثه في صلاة العيدين
ولكنه حسن حديثه في صلاة العيد لقصور شواهده عن مرتبة الصحة"
لا يخفى أنه ذكر الترمذي لحديث كثير شواهد عن ثلاثة من الصحابة
وأنه عمل أهل المدينة وأنه ذهب غليه أربعة من أئمة المذاهب
فهذه الشواهد حسنة وإن كنا عرفناك أنه لا يتم تحسين حديث من
قيل إنه كذاب "وصحح حديثه" أي كثير "في الصلح لارتفاع شواهده
إلى مرتبة الصحة".
اعلم أنه تطابق الأئمة الثلاثة الذهبي وابن كثير والمصنف على
أن الترمذي صحح حديث كثير في الصلح وراجعت الترمذي فرأيت فيه
ما لفظه بابا ما جاء في الصلح حدثنا الحسن بن علي الخلال ثنا
أبو عامر العقدي ثنا كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني
عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الصلح
جائز بين المسلين إلا صلحا حرما حلالا أو أحل حراما والمسلمون
عند شروطهم إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما" انتهى. بلفظه ولم
يتبعه بحرف واحد من تصحيح ولا تحسين بل قال عقبه باب ما جاء أن
اليمين على ما يصدقه صاحبه ولا نسخة التي راجعناها ظاهرة الصحة
فلينظر غيرها من أراد ذلك.
ثم أنه لم يذكر الترمذي لحديث الصلح هذا شاهدا واحدا وذكر
لحديث في تكبير العيد ما عرفت من الشواهد التي حسنه لأجلها
وتحسينه له مع كثرة شواهده مما يدلك ذلك أنه لم يصحح حديثه في
الصلح أصلا لأنه لم يأت له بشاهد وأما قول المصنف لارتفاع
شواهده إلى مرتبة الصحة فقد عرفت أنه نقل المصنف ثلاثة شواهد
لا يخلو واحد منها عن القدح فأيمرتبة صحة ترقي حديث الصلح
يرتفع بها بل حديثه في تكبير العيد له شواهد أكثر مما سقناها
من كلامه فلو صحح للشواهد لصححه لأجلها على أنه لم يمجعل حديث
كثير في التكبير حسنا مطلقا بل قال إنه أحسن شيء روي في الباب
على أن كلام المصنف هاهنا يناقض ما سلف له تقريبا من التصريح
بأنه ضعيف بالمرة أي شديد الضعف مردود وذلك كأن يكون راويه
متهما بالكذب فإن حديثه لا يعتد به ولا ترفعه الشواهد إلى درجة
المقبول وسبق كلامه في كثير وأنه من أركان الكذب فتدبر.
(1/160)
"والعجب أن ابن النحوي ذكر في خلاصته" أي
خلافة البدر المنير "عن البيهقي أن الترمذي قال سألت البخاري
عنه يعني حديث كثير بن عبد الله في صلاة العيد فقال ليس في
الباب شيء أصح منه".
قلت: بل العجب أن الحافظ ابن حجر قال في تلخيص الجبير بعد ذكره
لحديث عمرو بن عوف في تكبير صلاة العيد إنه قال البخاري
والترمذي إنه أصح شيء في هذا الباب انتهى وقد قدمنا لك لفظ
الترمذي وأنه قال أحسن شيء في هذا الباب لا أصح ولم ينقل عن
البخاري تصحيحه.
"وقال ابن دقيق العيد في الإلمام في هذا الحديث في صلاة العيد
إن البيهقي روى عن الترمذي عن البخاري أنه صحيح لكن ابن دقيق
العيد رواه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ثم عزاه إلى
الترمذي وعقبه برواية البيهقي" التي قال فيها إنه قال البخاري
إنه صحيح ومحل التعجب أن المنقول عن البخاري إنما هو تصحيح
رواية كثير ابن عبد الله ونقل البيهقي عن الترمذي إنما هي في
رواية كثير وهي التي
أخرجها الترمذي فاتفق الشيخ تقي الدين وهما أحدهما نقل كلام
البيهقي عن الترمذي عن البخاري أنه صحح رواية عمرو بن شعيب
الثانية عزوه حديث عمرو بن شعيب إلى الترمذي ولم يرو الترمذي
في تكبير العيد إلا حديث كثير ابن عبد الله "ورواية عمرو بن
شعيب منسوبة إلى أبي داود وأحمد وابن ماجه في كثير من كتب
الأحكام المستخرجة من الكتب الستة ولم يضفها أحد إلى الترمذي
وكذلك هي غير موجودة في جامع الترمذي من طريق عمرو ابن شعيب
والله أعلم" إنما هي عنده من طريق كثير بن عبد الله كما عرفت.
واعلم أني راجعت سنن الحافظ أبي بكر البيهقي فرأيت فيه ما لفظه
بعد سياقه لحديث كثير بن عبد الله قال أبو عيسى الترمذي سألت
محمدا يعني البخاري عن هذا الحديث فقال ليس في الباب شيء أصح
من هذا وبه أقول وقال حديث عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي عن
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في هذا الباب هو صحيح أيضا انتهى
بلفظه فعرفت أن البخاري صحح الحديثين حديث عمرو بن شعيب وحديث
كثير بن عبد الله لأن قوله وقال يريد به البخاري لأن السياق
فيه إلا أنه قال في حديث كثير أنه أصح شيء في الباب وقال في
حديث عمرو بن شعيب إنه صحيح.
(1/161)
وبعد هذا فلا عجب في نقل ابن دقيق العيد عن
البيهقي عن الترمذي عن البخاري أنه قال في حديث عمرو بن شعيب
إنه صحيح فإنه نقل صحيح لا عجب فيه ولا وهم وإنما العجب من
المصنف حيث ظن أن كلام الترمذي في نقله عن البخاري ليس في
روايته بتصحيح رواية كثير بن عبد الله بل لرواية عمرو بن شعيب
ولو تأمل لفظ ابن دقيق العيد الذي نقله لعلم أنه غير اللفظ
الذي قاله البخاري في رواية كثير يعين وقد نقله المصنف قريبا
فإن لفظها في رواية كثير إنها أصح شيء في الباب ولفظه في تصحيح
رواية عمرو ابن شعيب أنه صحيح وهذا هو اللفظ نقله ابن دقيق
العيد فلو تأمل العبارتين لعلم اختلاف اللفظين.
نعم عزو ابن دقيق العيد لرواية عمرو بن شعيب إلى الترمذي وهم
بلا شك إن صح أنه عزاه إليه فإنا راجعنا سنن الترمذي في باب
التكبير من صلاة العيد فلم نجد فيه إلا رواية كثير بن عبد
الله.
نعم كلامه الذي نقله عن البخاري ونقله عنه البيهقي لم نجده في
جامع الترمذي وكأنه ثبت عنه في غير جامعه فإنه ليس في جامعه
على ما رأيناه إلا قوله بعد سياقه لرواية كثير وهو أحسن شيء في
هذا الباب ويف النسخة الأخرى أنه قال حسن صحيح ولم ينقل عن
البخاري فيه شيئا وقد ذكر أن نسخ الترمذي كثيرة الاختلاف
فتراجع نسخه.
ثم أنه قال الحاكم: في رواية عمرو بن شعيب وكذلك ما روي عن
عائشة وابن عمر وعبد العزيز وأبي هريرة أن طرقها كلها فاسدة
وتقال ابن رشد في نهاية المجتهد إنما صاروا يريد في تكبير
العيدين إلى الأخذ بأقاويل الصاحبة لأنه لم يرو عن النبي صلى
الله عليه وسلم: فيها شيء انتهى.
قلت: والمصنف قد ذكر رواية أبي هريرة وأنه قال الحاكم: إنها
صحيحه على شرطهما ثم ذكر الرواية عن أنس وعائشة وقد عرفت أن
الحاكم ذكر أن طرق تلك الأحاديث فاسدة وساق منها حديث أبي
هريرة فعارض ما نقله عنه المصنف وإنما قال الحاكم: إن طرقها
كلها فاسدة لأن في حديث عائشة ابن لهيعة قال الطحاوي في معاني
الآثار ثنا ابن الجارود قال ثنا سعيد بن كثير بن عفير ثنا ابن
لهيعة عن أبي الأسود عن عروة عن أبي واقد الليثي عن عائشة أن
النبي صلى الله عليه وسلم: صلى بالناس يوم الفطر والأضحى وكبر
في الأولى سبعا وقرأ سورة ق والقرآن
(1/162)
المجيد وفي الثانية خمسا وقرأ اقتربت وله
طرق أخرى ساقها الطحاوي كلها تدور على ابن لهيعة وكلام الأئمة
فيه معروف ولأنه اضطرب فيه فتارة يرويه عن عقيل وتارة عن خالد
بن يزيد عن شهاب ومرة عن أبي الأسود عن عروة عن عائشة وأبي
واقد.
وأما حديث عبد الله بن عمر فأخرجه الطحاوي أيضا قال حدثنا يحيى
بن عثمان حدثنا عبدوس العطار عن الفرح بن فضالة عن عامر
الأسلمي عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: في
تكبير العيد في الركعة الأولى سبعا وفي الثانية خمسا ثم قال
الطحاوي إنما تدور على عبد الله بن عامر وهو عندهم ضعيف وإنما
أصل الحديث عن عمر نفسه.
وأما حديث عمرو بن شعيب فإنه يدور على عبد الله بن عبد الرحمن
وليس هو عندهم بالذي يحتج به هذا كلام الطحاوي.
قلت: عرفت ما نقله البيهقي عن البخاري من أن حديث عمرو بن شعيب
صحيح ونقله ابن دقيق العيد ونقله المصنف أيضا ويفه هذا الراوي
الذي قال الطحاوي إنه لا يحتج به عندهم ورأيت في ترجمته في
الميزان فقال عبد الله بن عبد الرحمن أبو يعلي الطائفي الثقفي
ذكره ابن حبان في الثقات وقال لابن معين صويلح وقال مرة ضعيف
وقال النسائي وغيره ليس بالقوي وكذا قال أبو حاتم قال ابن عدي
أما سائر أحاديثه يعني عمرو بن شعيب فهي مستقيمة فهو ممن يكتب
حديثه قال ثم خلط من بعده انتهى كلام الذهبي ثم قال الطحاوي ثم
هذا أيضا عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وذلك عندهم ليس
بسماع.
وأما حديث أبي هريرة فقال الطحاوي ثنا أبو بكرة ثنا روح ثنا
مالك وصخر بن جويرة ونافع فأما مالك فالإمام المعروف ونافع
مثله وصخر بن جويرة وثقة أحمد وجماعة وقال أبن معين صالح وقال
أبو داود تكلم فيه وأما روح فهو ابن عبادة القيسي فقيه حافظ
مشهور من علماء أهل البصرة تكلم فيه القواريري بلا حجة حدث عن
مالك سماعا وأخرج له الستة أفاد هذا الحافظ الذهبي في الميزان
وأما أبو بكرة فشيخ الطحاوي لا أعرف له ترجمة إلا أنه يعتمده
الطحاوي كثيرا.
إذا عرفت هذا فأحسن الأحاديث في تكبير العيدين حديث أبي هريرة
لما عرفت من رجال إسناده وتكون الأحاديث الأخر شواهد له فيقوي
القول بهذه الصفة في
(1/163)
التكبير ولعل بهذه الشواهد ينهض الدليل على
ذلك ولو نقل المصنف رحمه الله هذه الشواهد لحديث كثير لقللت من
التهجين على الترمذي في تصحيحه حديثه إن صح أنه صححه "فهذا
الكلام انسحب من ذكر شروط الترمذي في التحسين والعمل بما
حسنه".
اعمل أنه يظهر من كلام المصنف أنه يعمل بما حسنه الترمذي وقد
عرفت مما سقناه عن الحافظ ابن حجر أنه حسن الترمذي أحاديث فيها
ضعفاء وفيها من رواية المدلسين ومن كثر غلطة وغير ذلك فكيف
يعمل بتحسينه وهو بهذه الصفة وقد نقل الحافظ عن الخطيب أنه قال
أجمع أهل العلم على أن الخبر لا يجب قوله إلا من العاقل الصدوق
المأمون على ما يخبر به قال الحافظ أيضا وقد صرح أبو الحسن بن
القطان أحد الحفاظ النقاد من أهل الغرب في كتابه بيان الوهم
والإيهام أن هذا القسم لا يحتج به كله بل يعمل به في فضائل
الأعمال ويتوقف عن العمل به في الأحكام إلا إذا كثرت طرقه أو
عضده اتصال عمل أو موافقة شاهد صحيح أو طاهر القرآن وهذا حسن
قوي رائق ما أظن منصفا يأباه ويدل على أن الحديث إذا وصفه
الترمذي بالحسن لا يلزم أن يحتج به لأنه أخرج حديث خيثمة
البصري عن الحسن عن عمران بن حصين وقال بعده هذا حديث حسن وليس
إسناده بذاك وقال في كتاب العلم بعد أن أخرج حديثا في فضل
العلم هذا حديث حسن وإنما لم يقل لهذا الحديث صحيح لأنه يقال
إن الأعمش دلس فيه فرواه بعضهم عنه فقال حدثت عن أبي صالح عن
أبي هريرة انتهى فحكم له بالحسن للتردد الواقع فيه وامتنع عن
الحكم عليه بالصحة لذلك لكن في كل من المثالين نظر لاحتمال أن
يكون سبب تحسينه لهما أنهما جاءا من وجه آخر كما تقدم تقريره
لكن محل بحثنا هنا هل يلزم من الوصف بالحسن الحكم له بالحاجة
أم لا بل يتوقف فيه والقلب إلى ما حرره ابن القطان أميل انتهى
كلامه.
"وقد اختلف الناس في العمل بالحسن مطلقا" أي على رأي الجمهور
وعلى رأي الترمذي "بعد تسليم حسنه فذهب البخاري إلى أن الحديث
الحسن لا يعمل به في التحريم والتحليل واختاره القاضي أبو بكر
بن العربي في عارضته" أي في كتابه المسمى بعارضة الأحوذي شرح
الترمذي "والجمهور على خلافها والحجة مع الجمهور فإن راوي
الحسن ممن تشمله أدلة وجوب قبول الآحاد" لأنه من أخبار الآحاد
فيقبل خبره وإذا قيل عمل به "فإنه لا بد أن يكون راويه مظنون
العدالة مظنون الصدق" ومن
(1/164)
ظن عدالته وصدقه وجب قبول خبره ولما ذكر
أنه لا بد وأن يكون راوي الحسن مظنون العدالة والصدق أشكل عليه
اصطلاح الترمذي فأورده ودفعه بقوله.
"فإن قلت: إنما شرط الترمذي أن يكون الراوي غير متهم بالكذب
ولا منفرد بالحديث" فإنه معنى قول الترمذي في حقيقة الحسن ولا
يكون الحديث شاذا "وغير المتهم أعم من أن يكون ثقة مخبورا أو
مستورا أو مجهولا فإن كان مجهولا وتابعه مجهول مثله لم يكن في
الحديث حجة" فيلزم قبول المستور والمجهول وأن يكون حديثهما
حسنا إذا توبعا ولو بمثلهما.
قلت: ولا يخفى عليك أن المصنف قد قدم أن الترمذي يشترط في رواة
الحسن قوة الحفظ والإتقان وإنما يجعلها في رجال الصحيح أقوى
وحينئذ فلا يرد السؤال بعد ذلك التقرير وإن كان ما قدمه عنه
غير صحيح.
"قلت: الجواب أنه قد عرف من المحدثين أن مذهبهم رد المجهول
وليس في كلام الترمذي هذا ما يناقض ذلك" لا يقال قد قررت أنه
أفاد كلامه عموم قبول المجهول فقال "فهو من عموم المفهوم وفيه
خلاف" فكيف يعمل به مع ما علم من مذهب المحدثين "فلو كان" كلام
الترمذي "لفظا عاما" عموم المنطوق "وجب المصير إلى الخاص" وهو
ما عرف من عرفهم "فيكف بالمفهوم" وحينئذ فلا يفيد كلام الترمذي
قبول المجهول ولكنه يبقى عليه أنه يفيد قبول المستور فقال
المصنف "فأما المستور فإنه مظنون العدالة ولو لم يكن كذلك لم
يتميز منه المجهول".
قدمنا لك تفسير المستور من كلام ملا علي قاري في شرح شرح
النخبة وقال الحافظ ابن حجر في مراتب الرواة في خطبة التقريب
السابعة من روى عنه أكثر من واحد ولم يوثق وإليه الإشارة
بمستور أو مجهول الحال انتهى فظاهره أن المستور هو المجهول
حاله والمصنف قال هو مظنون العدالة "لكنه غير مخبور خبرة توجب
سكون النفس الذي يسميه كثير من المحدثين علما" وهو الظن القوي
"وقد ورد تسميته بالعلم كثيرا في مثل قوله تعالى" حكاية عن
أخوة يوسف حيث حكوا لأبيهم أن أخاهم سرق {وَمَا شَهِدْنَا
إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف: 81] فإنهم لم يعلموا سرقته
لصواع الملك قطعا بل ظنوه لما وجد في متاعه فسموه علما وهذا
كلام صحيح لكنه لا يناسبه قول الحافظ ابن حجر إن المستور من لم
يوثق فمن أين حصل لنا ظن عدالته حتى نطلقها عليه وتحصل له م
يطلق عليه لفظ العلم في كتاب ابن الصلاح قسمة المجهول إلى
(1/165)
مجهول العدالة ظاهرا وباطنا وروايته غير
مقبولة عند الجماهير ثم قال الثاني: المجهول الذي جهلت عدالته
الباطنة وهو عدل في الظاهر وهو المستور وقد قال بعض أئمتنا
المستور من يكون عدلا في الظاهر ولا تعرف عدالة باطنة فهذا
المجهول يحتج بروايته بعض من رد رواية الأول يريد بالأول
المجهول العدالة ظاهرا وباطنا وهو قول بعض الشافعية وبه قطع
الإمام سليمان بن أيوب الرازي قال لأن أمر الأخبار مبني على
حسن الظن بالراوي إلى آخر كلامه وكلام المصنف قاض بأن المستور
عدل يحصل بخبره ظن ضعيف بخلاف الظن الحاصل عن العدل المحققة
عدالته فإنه يحصل على خبرة ظن قوي يطلق عليه العلم وكلام
الحافظ ابن حجر أنه لم يوثق وكلام ابن الصلاح أنه العدل في
الظاهر.
قلت: ولا يخفي أن العدالة إنما تعرف ظاهرا بالمحافظة على
خصالها وأما الباطن فلا يعلمه إلا الله تعالى فهذا اضطراب في
تفسير المستور ينبغي تحقيقه.
واعلم أن الذي في كتب الأصول رسم العدالة باجتناب كبائر
المقبحات وما فيه خسة والإتيان بالواجبات ولم يذكروا باطنه ولا
ظاهره قالوا واختلف في رواية المجهول ويطلق عندهم على مجهول
العدالة أو الضبط أو النسب أو الاسم ونقلوا عن الحنفية وآخرين
قبوله واستدلوا على أن الأصل في دار الإسلام هو الإسلام والأصل
في المسلم هو القيام بالوظائف وهو معنى العدالة وهو قياس من
الشكل الأول ينتج أن الأصل هو القيام بالوظائف وهو معنى
العدالة وحينئذ فال مجهول بل كل مسلم عدل ورد يمنع الكبرى
مسندا بأن الأصل هو الغالب والفسق في المسلمين أغلب من الإيمان
لقوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24] {وَقَلِيلٌ مِنْ
عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ
وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103] وغير ذلك ولأنه
الشاهد في كل عصر والفرد المجهول يجب حمله على الأعم الأغلب
ولهذا يرد من غلب سهوه على حفظه اتفاقا ورجحوا المجاز على
الاشتراك لغلبته فغلبه الفسق مظنة للفسق وحكم المظنة حكم
المثنة بل ضبط الشارع الأحكام بالمظنة ويأتي بقية الكالم على
المسألة في محلها وإنما هذا تنبيه على أن الذي ذكره المصنف من
أن المستور هو العدل عدالة تفيد ظنا قويا وأن خبره احسن وأن
العدل في رواة الصحيح يشترط قوة عدالته بحيث يفيد ظنا قويا
يسمى علما شيء تفرد به لم يذكره أئمة الأصول كما انفرد ابن
الصلاح بقوله إن عدالة المستور ظاهرة وعدالة غيره ظاهرة وباطنة
وذكر الرافعي
(1/166)
في الصوم أن العدالة الباطنة هي التي يرجح
فيها إلى أقوال المزكين. 1هـ.
فعلى هذا كان يلزم أن يقال في رسم الصحيح ما رواه العدل ظاهرا
أو باطنا أو ما رواه قوي العدالة كما ألزمناهما أنه كان يتعين
أن يقال في رسم الصحيح بالنسبة إلى قيد الضبط تام الضبط كما
أتى به الحافظ في النخبة وتابعه المصنف في مختصره واحترزوا به
عمن خف ضبطه وهو راوي الحسن كما عرفناك وأما العدالة فإنهم
جعلوا عدالة راوي الحسن لذاته والصحيح شيئا واحدا وهنا خالفوا
ذلك فجعل المصنف المستور العدل الذي يفيد خبره ظنا غير قوي
وابن الصلاح جعله العدل ظاهرا لا باطنا نعم لأهل الحديث كلام
في المجهول كثير يأتي تحقيقه.
"وقد ورد" إطلاق "المستور في عبارات أصحابنا والمراد به العدل
كما استعمل ذلك أهل الحديث قال شيخ أحمد بن محمد الرصاص في
الجوهرة في شروط الراوي إنها أربعة أحدها أن يكون الراوي عدلا
مستورا هذا لفظه ولم أعلم أحدا اعترضه من أهل الشروح على
الجوهرة" لا يخفى أنه إذا كان مستورا بمعنى عدل عندهم يكون
قوله مستورا بعد قوله عدلا تكريرا ولا يخفى أيضا أن أهل الأصول
من قبل الشيخ أحمد ومن بعده لا يجعلون كون العدل مستورا شرطا
في الرواية بل الكتب الأصولية متطابقة على شرطية العدالة في
الراوي ورسموا العدالة بما عرفت وجعل المستور شرطا يلزم منه أن
كامل العدالة ليس من شروط الرواية ولعله يقول إنه يدخل بالأولى
"فالمستور في عرف المحدثين من قصر عن المتواترة عدالتهم أو
المشهور شهرة تقري من التواتر".
اعلم لفظ ابن الصلاح في المستور أنه المجهول الذي جهات عدالته
الباطنة وهو عدل في الظاهر وهو المستور هذا لفظه ثم قال وقد
قال بعض أئمتنا المستور من يكون عدلا في الظاهر ولا تعرف
عدالته باطنا وقرر الزين كلام ابن الصلاح وقال مراد ابن الصلاح
ببعض أئمتنا هو البغوي فهذا لفظه بحروفه في التهذيب وتبعه عليه
الرافعي انتهى كلام زين الدين.
والمصنف قال إن المستور في عرف المحدثين من قصر عن المتواترة
عدا التهم أو المشهور شهرة تقرب من التواتر فعلى كلامه لا بد
أن تكون عدالته أمرا بين الأمرين وهذا غير كلام ابن الصلاح ومن
تبعه ومن تقدمه في تفسير المستور وتقدم أن الحافظ ابن حجر قال
إن المستور من روى عنه أكثر من واحد ولم يوثق فلا أدري من أين
(1/167)
جاء هذا التفسير الذي آتى به المصنف
للمستور وزعم أنه اصطلاح المحدثين ثم هذه الرتبة التي ذكرها
رتبة مجهولة فهذا كلامه في عدالة المستور أي من حيث العدالة
وأما من حيث حفظه فقال "أو من قصر عن الحفاظ في مرتبة الإتقان
والضبط العظيم" يريد أن المستور إما مستور العدالة فهو الذي
فسره قريبا أو مستور الحفظ وهو الذي لا يبلغ ربة الإتقان
والضبط وهو الذي خف ضبطه المذكور في تعريف الحسن لذاته.
قلت: ولا خفاء أن هذا خلط لشرائط الحسن لذاته والحسن لغيره فإن
الحسن لذاته هو من خف ضبط رواته كما سلف والسحن ليغره قد يكون
راويه ضعيفا موضوعا لسوء الحفظ كرواية الترمذي عن عاصم بن عبيد
الله وقد ضعفه الجمهور ووصفوه بسوء الحفظ وحسن الترمذي حديثه
وروى عن مجالد وحسن حديثه وقد ضعفه جماعة ووصفوه بالغلط والخطأ
وروى عن عبيد بن معقب وهو ضعيف جدا اتفق أئمة النقل على تضعيفه
وقد قدمنا هذا وزيادة عليه فيما حققناه لك من أن الحسن عند
الترمذي شرطه أن لا يتهم راويه بالكذب ولا ينفرد بالحديث.
"ونحن" أيها الزيدية "نوافقهم" أي المحدثين "في الطرفين معا"
في قبول المستور وقبول لم يبلغ درجة المتقنين في الضبط "أما
الطرف الأول" وهو الموافقة من الزيديدة في قبول المستور "فقد
ثبت نص الجوهرة" حيث جعل من شروط قبول الراوي كونه عدلا مستورا
قل إلا أنه لا يعزب عنك أن صاحب الجوهرة جعل ذلك شرطا للراوي
مطلقا سواء كان من رواة الصحيح أو الحسن وأهل الحديث على رأي
المصنف جعلوه شرطا للحسن غلا أنه لا يضر هذا فقد حصلت الموافقة
في شرط الأعم "التي هي مدرس الزيدية" في عصر المصنف "على ذلك"
يتعلق بنص "مع أنه مما لا يختلف فيه الأصحاب" من الزيدية "فإن
كتبنا الأصولية مشحونة بقبول كل من رجح حفظه على سهوه" وهذا هو
المراد لمن لمي يبلغ مرتبة أهل الأنفان في الحفظ والضبط إلا أن
كلامه في عدالة المستور هذا من القسم الثاني: وهو عدم بلوغ
رتبة المتقنين في الضبط.
"واختلف أصحابنا إذا استويا فذهب المنصور بالله إلى أنه لا
يجوز طرح حديثه وأن طريق قبوله الاجتهاد ذكره" أي المنصور
بالله "في الصفوة وحكاه عنه في الجوهرة" تقدم الكلام على هذا
أول الكتاب كما تقدم على قوله "وذهب عبد الله بن زيد إلى قبوله
وهذا كله يدل على قبول من حديثه حسن والله أعلم" عند الفريقين
الزيدية والمحدثين قد عرفت ما كررناه وقررناه أن الحسن قسمان:
حسن لذاته وحسن لغيره
(1/168)
وأن الحسن عند الترمذي الذي يصف به أحاديث
كتابه أو غالبها من القسم الثاني.
وقال الحافظ ابن حجر إنه نقل ابن الصلاح وغر واحد الاتفاق على
أن الحديث الحسن يحتج به كما يحتج بالصحيح وإن كان دونه في
المرتبة وهو القسم الذي ذكره الخطابي وقد علمت أن القسم الذي
ذكره هو الحسن لذاته قال وأما الحسن الذي ذكره الترمذي بجميع
أنواعه فإنه يظهر له أن دعوى الاتفاق إنما تصح على الأول دون
الثاني: قال فإن الترمذي يطلق الحسن على الضعيف والمنقطع إذا
اعتضده قال فلا يتجه إطلاق الاحتجاج به جميعه ويؤيد هذا قول
الخطيب أجمع أهل العلم على أن الخبر لا يجب قبوله إلا من
العاقل الصدوق المأمون على ما يخبر به وقد صرح أبو الحسن
القطان أحد الحفاظ النقاد من أهل المغرب في كتابه بيان الوهم
والإيهام بأن هذا القسم لا يعمل به كله بل يعمل به في فضائل
الأعمال ويتوقف عن العمل به في الأحكام إلا إذا كثرت طرقه أو
عضده اتصال عمل أو موافقة شاهد صحيح أو ظاهر القرآن إلى آخر ما
قدمناه من كلامه قريبا هذا من كلام الحافظ على نكته على كتاب
ابن الصلاح ثم قال ويدل على أن الحديث إذا وصفه الترمذي بالحسن
لا يلزم أن يحتج به أنه أخرج حديثا من طريق خيثمة البصري عن
الحسن عن عمران بن الحصين وقال بعده هذا حديث حسن وليس إسناده
بذلك وقد قدمنا ذلك.
"وقد نص أهل الحديث في مراتب التعديل على أن صالح الحديث يكتب
حديثه للاعتبار به ونصوا أيضا في مراتب التجريح على أن الضعيف
بمرة والمردود والمتروك وغير ذلك من العبارات فبان لك أن
الضعيف يكتب حديثه للاعتبار به بخلاف الضعيف عندهم هو صالح
الحديث" أخذ المصنف من قول الأئمة إن صالح الحديث وضعيفه يكتب
حديثه أن صالح الحديث هو ضعيف الحديث لاشتراكهما بالحكم بكتب
حديثهما وفي كتاب ابن الصلاح الرابعة أي من مراتب التعديل إذ
قيل صالح الحديث فإنه يكتب حديثه للاعتبار فجعل هذه المرتبة
الرابعة للتعديل وقال مراتب التجريح أولهما إذ قالوا لين
الحديث قال ابن أبي حاتم إذا جاءوا بان لين الحديث فإنه يكتب
حديثه وينظر فيه اعتبارا الثانية قال ابن أبي حاتم إذا قولوا
ضعيف ليس بالقوي فهو بمنزلة الأولى في كتب حديثه إلا أنه دون
الثانية وإذا قالوا ضعيف الحدي فهو دون لاثاني لا يطرح حديثه
بل يعتبر به انتهى فعرفت من كلامه أن صالح الحديث من هو في
المرتبة الرابعة من مراتب التعديل وأن قولهم ضعيف ليس بقوي
(1/169)
هو ثاني مراتب التضعيف وقولهم ضعيف الحديث
هو ثالثها تكتب أحاديثهم للاعتبار وإن لم يصرح بكتب حديث من هو
في هذه المرتبة لكنه صرح بأنه لا يطرح حديثه وأنه يعتبر به
اعتبار بكتابته وبالجملة فقد جمع بين أهل المرتبة الرابعة من
مراتب التعديل وبين أهل المراتب الثلاث من مراتب التجريح
للاعتبار بأحاديثهم وعدم الإطراح لها لكنها وإن جمعها ما ذكر
فهي متفاوتة كما ذكره فقول المصنف إن الضعيف عندهم هو صالح
الحديث غير صحيح لأن صالح الحديث من المعدلين ومن أهل مراتب
التعديل بخلاف الضعيف على أقسامه الثلاثة إن جعلنا اللين منه
وأنه مجروح للتضعيف وكونه جمع بينه وبين صالح الحديث كتب حديث
كل منهما لا يلزم منه اتحادهما فقد قالوا في أهل المراتب
الثلاث من مراتب التجريح إنه يكتب حديثهم فإن كان الضعيف هو
صالح الحديث لكونه يكتب حديثه فالضعيف من أهل مراتب التعديل
كما قال المصنف "وأنه" أي الضعيف "في المرتبة الرابعة من مراتب
العدول كما سيأتي" فيلزم أنه ليس للتجريح إلا مرتبة واحدة وهي
مرتبة المتروك والكذاب ونحوهما وهو خلاف صريح كلامهم فيما يأتي
ثم المراتب مختلفة كما عرفت "فكيف برجال الحسن؟! " قد عرفت أن
رجال الحسن لذاته ليسوا بضعفاء بل هم خفيفوا الضبط فهم الذي
ينبغي أن يقال فيهم عند ذكر ضعفاء الرواة فكيف لا يقبل رجال
الحسن وأما رجال الحسن لغيره ففيهم الضعفاء وأهل سوء الحفظ فلا
يقال عند قبول ضعفاء الرواة فكيف برجال الحسن إذ هم من ضعفاء
الرواة ليسوا قسما من غيرهم.
قلت: ثم لا يخفى بعد هذا كله أن كتب الحديث للاعتبار ليس دليلا
على قبول رواته والعمل بروايتهم في السياق من العمل بالحسن.
وقال ابن حجر الهيثمي في كتابه الفهرسة في ترجمة الترمذي ما
لفظه اتفق الفقهاء كلهم على الاحتجاج بالحسن وعليه جمهور
المحدثين والاصوليين بل قال البغوي أكثر الأحكام إنما ثبتت
بالحسن ووافقه الخطابي وهو قسمان أحدهما حسن لذاته وهو أن
يشتهر رواته بالصدق لكنهم لم يصلوا في الحفظ والإتقان إلى رتبة
رواة الصحيح وثانيهما حسن لغيره وهو أن يكون في الإسناد مستور
لم تتحقق أهليته غير مغفل ولا كثير الخطأ في روايته ولا متهم
بتعمد الكذب ولا ينسب إلى مفسق آخر واعتضد بمنابع أو شاهد وقد
قال النووي إمام زمانه في هذه الصناعة في بعض
(1/170)
أحاديث ذكرها وهذه وإن كانت أسانيد
مفرداتها ضعيفة فمجموعها يقوي بعض بعضا ويصير الحديث حسنا
ويحتج به وسبقه إلى ذلك البيهقي وغيره ويحمل ذلك على ما ضعفه
ناشي عن سوء الحفظ أو اختلاط أو تدليس مع كون رواته من أهل
الصدق والديانة أما الضعف بنحو كذبه أو شذوذه فلا يجبره شيء
والحاصل أن ما حسنه لذاته يحتج به مطلقا وما حسنه لغيره إن
كثرت طرقه احتج به وإلا فلا وقد نقل النووي اتفاق الحفاظ على
ضعف حديث من حفظ على أمتي أربعين حديثا1 مع كثرة طرقه نعم كثرة
طرقه القاصرة عن جبر بعضها لبعض ترقيه عن درجة المنكر الذي لا
يعمل به في الفضائل ولا غيرها إلى رتبة الضعف الذي يجوز العمل
به في الفضائل إجماعا انتهى وهو كلام حسن.
واعلم أن ابن الصلاح رسم الضعيف من الحديث بقوله كل حديث لم
تجتمع في صفات الصحيح ولا صفات الحديث الحسن المذكورات فيما
تقدم فهو حديث ضعيف.
"وقد يرتقون" أي الضعفاء "إلى أرفع من مرتبة الضعف ولذا قالوا
في ترجمة سفيان الثوير المجمع على ثقته وأمانته ونصحه لله
ورسوله وللمسلمين إنه كان يدلس عن الضعفاء" في الميزان سيفان
بن سعيد الثوري الحجة الثبت متفق عليه مع أنه كان يدلس عن
الضعفاء ولكن له نقد وذوق ولا عبرة بقول من قال كان يدلس ويكتب
عن الكذابين انتهى.
"فهؤلاء هم الضعفاء في عرف المحدثين الذي حديثهم منجبر
بالشواهد ونحوها ويجب العمل به" قد عرفت أنهم جعلوا مراتب
الجرح أربعا فقالوا في ثلاث منها أنه يكتب حديث أهلها للاعتبار
وقالوا في الرابعة وهو من أطلقوا عليه متروك إنه لا يكتب حديثه
فعلى كلام المصنف أنه لا يترك إلا من قالوا فيه كذاب ونحوه على
أنه يأتي له في إطلاقهم كذاب ونحوه بحث فعلى تقريره الضعفاء
ليسوا بمجاريح ولذا قال "ولو كان سفيان يدلس عن المجروحين لكان
مجروحا ولما أصفق" بالصاد المهملة ففاء فقاف أي اجمع "الثقات
على الاحتجاج بحديثه" وقد قال الذهبي الحجة الثبت بالاتفاق
"وهم يعرفون ذلك" أي أنه لا يدلس عن المجروحين بل إنما يدلس عن
الضعفاء والضعفاء ليسوا بمجاريح هذا تقرير مراد المصنف.
__________
1 العلل المتناهية 1/114. وجامع بيان العلم 1/43. وابن عساكر
2/394. وشرف أصحاب الحديث 29.
(1/171)
قلت: ولا يعزب عنك أنه سيأتي لهم وقد أشرنا
إليه أن ألفاظ التجريح أربع ثانيها ضعيف ليس بقوي ثالثها ضعيف
الحديث فهاتان صيغتان في التجريح فكيف يقول هذا ضعيف وليس
بمجروح هل هذا إلا تناقض نعم هؤلاء مجاريح غير كذا بين كما قال
الذهبي إن سفيان كان يدلس عن الضعفاء ولا عبرة بقول من قال كان
يدلس ويكتب عن الكذابين فالقياس على ما تفيده هذه العبارات أن
يقال إن الضعفاء غير الكذابين يقلون ويقبل من يدلس عنهم وإن
كانوا مجاريح فهو جرح لا يخرجون به عن الاعتبار وحاصله أنا
نناقش المصنف في قوله إن سفيان لا يدلس عن المجروحين مع
تصريحهم أنه يدلس عن الضعفاء والضعفاء مجاريح ولذا أثبت الذهبي
تدليسه عن الضعفاء ونفي تدليسه عن الكذابين فهو يدلس عن ضعفاء
مجاريح غير كذابين.
"ولكن قليل المعرفة باصطلاحهم في عباراتهم لا يعرف ذلك" أي لا
يعرف أنهم يقبلون بعض الضعفاء بل يظن أن كل ضعيف فإن حديثه
مردود "ولهذا يتجه" بتوجه "على الراغب في علم الحديث أن يبدأ
بقراءة علوم الحديث ويمعن النظر فيها" لئلا يغلط عليهم إذا جهل
اصطلاحاتهم فإن علوم الحديث تعرفه بذلك "فتأمل ذلك فإنه مفيد
جدا" أي محقق مبالغ فيه كما في القاموس ووجه نفعه أنه إذا لم
يعرف علوم الحديث واصطلاحهم أئمته غلط عليهم فبمعرفته
لاصطلاحهم الذي أودعوه علوم الحديث لا يحصل له الغلط.
"وقد ذكر الشافعي مثل هذا في المراسيل فقال إذا جاء المرسل من
طريقين مختلفين فأكثر قبل" لتقويه "وإلا لم يقبل" لضعفه
بالانفراد "وأما المجهول فليس يقوي حديثه بمتابعة مثله" أي
بمتابعة مجهول مثله قال ابن الصلاح: إن المجهول عند أصحاب
الحديث كل من لم يعرفه العلماء ومن لم يعرف حديثه إلا من راو
واحد ثم مثل بجماعة.
"وقد ذكر ابن الصلاح نحو هذا الكلام فقال ليس كل ضعف في الحديث
يزول بمجيئه من وجوه بل ذلك يتفاوت فمنه ضعف يزيله ذلك" أي
مجيئه من وجوه.
قلت: قد مثل ذلك بحديث ابن عمر في سد الأبواب إلا باب علي كرم
الله وجهه وهو في مسند أحمد من رواية أحمد عن وكيع عن هشام بن
سعد عن عمرو ابن راشد عن ابن عمر وفيه ولقد أوتي ابن أبي طالب
ثلاث خصال لأن تكون لي واحدة أحب
(1/172)
إلي من حمر النعم زوجه رسول الله صلى الله
عليه وسلم ابنته وولدت له وسد الأبواب إلا بابه في المسجد
وأعطاه الراية يوم خيبر ورواته ثقات إلا أن هشام بن سعد قد ضعف
من قبل حفظه وأخرج له مسلم فحديثه في رتبة الحسن لا يما مع ما
له من الشواهد وله شاهد من حديث ابن عمر أيضا أورده النسائي في
الخصائص بسند صحصح عن ابن اسحق عن العلاء ابن عرار فذكره
والعلاء وثقة ابن معين ورواه ابن أبي عاصم من طريق عبيد الله
بن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة عن أبي اسحق سألت ابن عمر فذكره
وأخرجه أحمد من حديث سعد بن مالك.
قال الحافظ ابن حجر بإسناد حسن قال وأما ادعاه ابن الجوزي
أنهما من وضع الرافضة فدعوى عرية عن البرهان وقد أخرج النسائي
في الخصائص حديث سعد وفيه أيضا حديث زيد بن أرقم بإسناد صحيح
وأخرج أيضا حديث ابن عباس وقال وسد الأبواب غير باب علي رضي
الله عنه قال فيدخل المسجد جنبا وهو طريقه ليس له طريق غيره في
حديث طويل وأخرج أحمد في مسنده أيضا هذين الحديثين وأخرجهما
الترمذي لكنه قال في حديث ابن عباس بعد أن أخرجه عن محمد بن
حميد عن ابراهيم بن المختار عن شعبة عن أبى بلخ عن عمرو بن
ميمون عنه غريب لا نعرفه عن شعبة إلا من هذا الوجه.
وتعقبه الحافظ الضياء في المختارة بأن الحاكم والطبراني روياه
من طريق مسكن بن بكير عن شعبة وهي أصح من طريق الترمذي وأبو
بلخ وثقة يحيى بن معين وأبو حاتم وقال البخاري فيه نظر انتهى
ويشهد له حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي
رضي الله عنه: "لا يحل لأحد أن يطرق هذا المسجد جنبا غيري
وغيرك", رواه الترمذي1 وقد ادعى أن هذا الحديث يعارض حديث أبي
سعيد المخرج في الصحيحين2 "لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت
وإلا خوخة أبي بكر" ولكنها دعوى غير صحيحه لأن الجمع ممكن بأن
أحدهما فيما يتعلق بالأبواب وقد ورد بيان سببه في حديث مرسل
أخرجه إسماعيل القاضي في أحكام القرآن بسنده عن المطلب أن
النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يأذن لأحد أن يمر من المسجد
أو يجلس فيه وهو جنب إلا علي رضي الله عنه لأن بيته كان في
المسجد أي مع بيوت
__________
1 في: المناقب: ب 20.
2 البخاري 1/126. ومسلم في: فضائل الصحابة حديث 2. وأحمد
1/270.
(1/173)
النبي صلى الله عليه وسلم: فكان يحتاج إلى
استطراق المسجد وحديث أي بكر فيما يتعلق بالخوخ فلا تعارض ولا
وضع أفاد هذا الحافظ ابن حجر في نكته.
فهذا الحديث قد كان في رواته ضعف بسوء الحفظ فجاء من طرق كثيرة
أزال ذلك الضعف وبه تعرف ما في قول ابن حجر الهيثمي إنه استقر
الأمر على ضعف حديث يا علي لا يحل لأحد يجنب في هذا المسجد
غيري وغيرك1 فإنه قال إنه أستقر الأمر على أنه حديث ضعيف.
وقد يكون ضعف الرواة بما قاله ابن الصلاح ونقبله عفه المصنف
بقوله "بأن يكون ضعفه ناشئا من ضعف حفظ واريه مع كونه من أهل
الصدف والديانة فإذا رأينا ما رواه" أي الحديث الذي رواه "قد
جاء من وجه آخر عرفنا أنه مما قد حفظ ولم يختل فيه ضبطه له"
وقد حققناه بالمثال وهذا كلام حسن "وكذلك إذا كان ضعفه من حيث
الإرسال زال بنحو ذلك كما في المرسل الذي يرسله إمام حافظ إذ
فيه ضعف قليل يزول بروايته من وجه آخر قال" أي ابن الصلاح.
"ومن ذلك ضعف لا يزول بنحو ذلك" أن بمجيئه من طرق لقوة الضعف
في الراوي وتقاعد هذا الجابر عن جبره أي عن جبر ضعفه فتسميته
جابرا مجاز وإلا فإنه لم يجبر هذا الضعف "كالضعف الذي ينشأ من
كون الراوي متهما بالكذب" فإن الجابر لا يقوى على زوال تلك
التهمة ومثلوا ذلك بحديث من حفظ على أمتي أربعين حديثا من أمر
دينها بعثه الله يوم القيامة في زمرة الفقهاء والعلماء وفي لفظ
بعثه فقيها عالما2 قال النووي إنه اتفق الحفاظ على ضعفه وإن
كثرت طرقه بعد أن قال إنه روى عن علي وابن مسعود ومعاذ بن جبل
وأبي الدرداء وابن عمر وابن عباس وأنس بن مالك وأبي هريرة وأبي
سعيد الخدري رضي الله عنهم بطرق كثيرات بروايات متنوعات قاله
النووي في صدر الأربعينية التي جمعها وسماها دعائم الإسلام.
"أو كون الحديث شاذا" أي أن الجابر يتقاعد هن زلل الضعف عن
حديث نشأ ضعفه من اتهام رواته بالكذب أو من كونه حديثا شاذا
ويأتي بيان الشاذ "انتهى كلامه" أي ابن الصلاح "وسيأتي أنه ليس
يشترط في الشاذ الذي أشار إليه إلا أن لا يكون راويه في مرتبة
الثقات الإثبات من رجال الصحيح ولا في مرتبة من دونهم من رجال
الحسن كما
__________
1 سبق تخريجه.
2 سبق تخريجه.
(1/174)
سيأتي واضحا" ذكر ابن الصلاح كلام الأئمة
في الشاذ وتعقبه ثم قال فيقول إذا انفرد الراوي بشيء نظر فيه
فإن كان ما انفرد به مخالفا لما رواه من هو أولى منه بالحفظ
لذلك وأضبط كان ما انفرد به شاذا مردوعا وإن كان لم يكن فيه
مخالفة لما رواه غيره وإنما هذا أمر رواه هو ولم يروه غيره
فينظر في هذا الراوي المنفرد فإن كان عدلا حافظا موثوقا
بإتقانه وضبطه قبل ما انفرد به ولم يقدح الانفراد فيه انتهى
فمراده هنا بالشاذ الذي لا ينجبر هو الأول من القسمين "فهذا
بذلك على أن رجال الحسن مرتفعون عن مرتبة المجاهيل والضعفاء
بمرة انتهى" فكلام ابن الصلاح في الشاذ دل على أن رتبة رجال
الحسن ليسوا من المجاهيل ولا الضعفاء.
قلت: قد قدمنا لك أن الحسن لذاته ليس رجاله ضعفاء ولا مجاهيل
والحسن لغيره في رجاله الضعفاء وغيرهم كما حققناه لك بالأمثلة
والتنصيص على ذلك فالمصنف رحمه الله خلط اعتبارهم لصفات الحسن
لذاته بصفات الحسن لغيره كما نبهناك عليه مرارا "وقد نصوا على
ذلك في علوم الحديث فجعلوا الضعيف غير المجهول" قد قدمنا لك
كلام ابن الصلاح في المجهول وأنه قسمان قال والمجهول عند أصحاب
الحديث هو كل من لم يعرفه العلماء ومن لم يعرف حديثه إلا من
جهة راو واحد ذكر هذا عن الخطيب البغدادي إلا أنه قال ابن
الصلاح: إن في رجال البخاري أحاديث عن قوم ليس لهم إلا راو
واحد.
"وممن ذكره وين الدين في قسم الضعيف من التبصرة ولكن يلزم هذا
من قبول المنفرد من رجال الحسن" لأنهم إذا قالوا بأن الشاذ هو
من ينفرد وليس في مرتبة رجال الصحيح ولا الحسن وأنه يرد لزم
أنه إذا انفرد من هو من رجال الحسن أن يقبل "ولا يجب مراعاة
متابعة غيره" قلت: هذا ملتزم عندهم في الحسن لذاته فإنهم لم
يعتبروا في رسمه إلا خفة ضبط رواته كما عرفت فإنهم قالوا فإن
خف الضبط فالحسن لذاته وبكثرة طرق يصح فلم يجعلوا متابعة غيره
له إلا شرطا لصحته لا لحسنه وأما الحسن لغيره فقد عرفناك مرارا
أنه لا يصير حسنا إلا بمتابعة غيره "وهذا لازم على قواعد
الفقهاء والأصوليين ودفع هذا من المحدثين غير جيد والله أعلم".
قلت: قد عرفناك غير مرة أن المحدثين لا يدفعون هذا ولا أدري
كيف التبس على المصنف مع إمامته في كل فن.
"قال ابن الصلاح: وهذه الجملة تفاصيلها تدرك بالمباشرة والبحث
فاعلم ذلك فإنه
(1/175)
من النفائس العزيزة واعلم أن رجال الحسن
متى كانوا مشهورين بالصدق والعدالة وأتت له طرق أخرى فلك أن
تحكم بصحته" هذا ذكروه في الحسن لذاته هذا عندهم هو الصحيح
لغيره وقد حققه في النخبة وشرحها ولفظ ابن الصلاح1 إذا كان
الراوي متأخرا عن درجة أهل الحفظ والإتقان غير أنه من
المشهورين بالصدق والستر وروى مع ذلك حديثه من غير وجه فقد
اجتمعت له القوة من الجهتين وذلك يرقي حديثه من درجة الحسن إلى
درجة الصحة انتهى.
واعلم أنه لا بد من تقييد عبارة المصنف وابن الصلاح بخفة ضبط
من اشتهر بالصدق ليكون من قسم الحسن وإلا كان من الصحيح لذاته
فإن رجال الصحيح لذاته هم المشهورون بالصدق والعدالة "كحديث
محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا لولا أن أشق على
أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة2 قال ابن الصلاح" بعد سياقه
لما ساقه المصنف "محمد بن عمرو ابن علقمة من المشهورين بالصدق
والصيانة لكنه لم يكن من أهل الإتقان حتى ضعفه بعضهم بسوء
حفظه" في الميزان أن محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص المدني
الليثي شيخ مشهور حسن الحديث مكثر عن أبي سلمة بن عبد الرحمن
قد أخرج له الشيخان متابعة قال يحيى القطان أما محمد بن عمرو
فرجل صالح ليس بأحفظ الناس للحديث "ووثقه بعضهم لصدقه وجلالته"
قال أبن عدي روى عنه مالك في الموطأ وغيره وأرجو أنه لا بأس به
وقال أبو حاتم صالح الحديث وقال النسائي ليس به بأس ذكر ذلك
كله الذهبي في الميزان "فحديثه من هذه الجهة حسن" لأنه لم يتفق
على إتقانه في الحفظ فهو ممن خف ضبطه "فلما انضم ذلك كونه" أي
حديث السواك "مرويا من طرق أخرى" لفظ ابن الصلاح من أوجه أخر
مثلها عبارة الزين نقلا عنه "زال ذلك ما كنا نخشاه من جهة سوء
حفظ وانجبر به ذلك النقص اليسير فصح هذا الإسناد والتحقق بدرجة
الصحيح"
قلت: كأنه مجرد مثال وإلا فهذا الحديث أخرجه الشيخان بلفظه من
حديث أبي هريرة رواه البخاري من حديث مالك ومسلم من حديث ابن
عيينة وهذا لفظ عندهما من المتفق عليه وسينبه المصنف على ذلك.
__________
1 علوم الحديث ص 47.
2 البخاري 2/5. ومسلم في: الطهارة ب 15. حديث 42. وأبو داود
46, 47. وأحمد1/221.
(1/176)
"قال زين الدين: وقد أخذ ابن الصلاح كلامه
هذا" الذي سلف قريبا "من الترمذي فإنه قال بعد إخراجه" من هذا
الوجه "حديث أبي سلمة عن أبي هريرة عندي صحيح قال" الترمذي
"وحديث أبي سلمة إنما صح لأنه قد روى من غير وجه" لفظ الزين
وحديث أبي هريرة عوض أبي سلمة "قلت: قول إن الصلاح فصح هذا
الإسناد ولم يقل فصح هذا الحديث مشكل لأن متن الحديث صحيح متفق
عليه من طريق الأعرج عن أبي هريرة" كما قدمنا لك قريبا.
واعلم أن كلام المصنف هذا إشارة إلى فائدة مهمة ذكرها ابن حجر
في فهرسته فقال فائدة مهمة عزيزة النقل كثيرة الجدوى والنفع
وهي من المقرر عندهم أنه لا تلازم بين الإسناد والمتن إذ قد
يصح السند أو يحسن الاجتماع شروطه من الاتصال والعدالة والضبط
دون المتن لشذوذ أو علة وقد لا يصح السند ويصح المتن من طريق
أخرى فلا تنافي بين قولهم هذا حديث صحيح لأن مرادهم به اتصال
سنده مع سائر الأوصاف في الظاهر لا قطعا لعدم استلزام الصحة
لكل فرد فرد من أسانيد ذلك الحديث فعلم أن التقييد بصحة السند
ليس صريحا في صحة المتن ولا ضعفه بل هو على الاحتمال فهو دون
الحكم بالصحة أو الحسن للمتن إذ لا احتمال حينئذ وبهذا تعرف
قول المصنف رحمه الله "وإنما انفرد محمد بن عمرو برواية الحديث
من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة فلم يتابع على الإسناد فلم يصح
الإسناد وإنما توبع على الحديث فصح ولذا قال زين الدين: وليس
المراد بالمتابعة كونه رواه عن أبي سلمة عن أبي هريرة غير محمد
بن عمرو ولكن متابعة شيخه أبي سلمة عليه عن أبي هريرة فقد تابع
أبا سلمة عليه عن أبى هريرة عبد الرحمن بن هرمز الأعرج وسعيد
المقبري وأبوه أو سعيد وعطاء مولى أم حبيبة وحميد بن عبد
الرحمن وأبو زرعة بن عمرو بن جرير وهو متفق عليه من طريق
الأعرج" ولما كانت المتابعة نوعين أشار إليهما بقوله
"والمتابعة قد يراد بها متابعة الشيخ وقد يراد بها متابعة شيخ
الشيخ كما سيأتي لكلام عليه في فصل المتابعات والشواهد" إن شاء
الله تعالى.
* * *
(1/177)
مسألة 14 [في بيان شرط أبي داود]
"شرط أبي داود قال ابن الصالح من مظان الحسن سنن أبي داود"
المظان جمع مظنة بكسر الطاء وهو مفعلة من الظن وقال المطرزي
المظنة العلم من ظن بمعنى علم قال في المصباح وقد يستعمل الظن
بمعنى اليقين ومنه المظنة بكسر الظاء للعلم وهو حيث يعلم الشيء
قال النابغة:
فإن مظنة الجهل الشباب
"قال ابن الصلاح وروينا" في المصباح ما لفظه روى البعير الماء
يرويه من باب رمى حمله فهو راوية والهاء للمبالغة ثم أطلقت
الراوية على كل دابة يستقي عليها ومنه قيل رويت الحديث إذا
حملته ونقلت: هـ وتعدى بالتضعيف فيقال رويت زيدا الحديث انتهى.
"عن أبي داود أنه قال ما كان في كتابي هذا من حديث فيه وهن
شديد بينته وما لم أذكر فيه شيئا فهو صالح" قال الزين أي
للاحتجاج ويأتي عن الحافظ ابن حجر احتمال أنه صالح للأعم من
ذلك "وبعضها" أي بعض أحاديثه الدال عليه من حديث أصح من بعض
قال أي ابن الصلاح "ورينا عنه أنه قال ذكرت فيه الصحيح وما
يشبهه وما يقاربه وروينا عنه أنه يذكر ما عرفه في ذلك الباب
قلت: أجاز ابن الصلاح والنووي وغيرهما من الحفاظ العمل بما سكت
عنه أبو داود لأجل هذا الكلام المروي عنه وأمثاله مما روى
عنه".
قال الحافظ ابن حجر قول أبي داود وما فيه وهن شديد بينته يفهم
أن الذي يكون فيه وهن غير شديد أنه لا يبينه ومن هنا أن جميع
ما سكت عنه أبو داود لا يكون من قبيل الحسن إذا اعتضد وهذان
القسمان كثير في كتابه جدا ومنه ما هو ضعيف لكنه من رواية من
لم يجمع على تركه غالبا وكل من هذه الأقسام عنده تصلح للاحتجاج
بها كما نقل ابن مندة عنه أنه يخرج الحديث الضعيف إذا لم يجد
في الباب
(1/178)
غيره وأنه أقوى من رأي الرجال وكذلك قال
ابن عبد البر كل ما سكت عليه أبو داود فهو صحيح عنده لا سيما
إن كان لم يذكر في الباب غيره ونحو هذا ما روينا عن الإمام
أحمد فيما نقله ابن المنذر عنه أنه كان يحتج بعمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده إذا لم يكن في الباب غيره وأصرح من هذا ما روينا
عنه فيما حكاه أبو العز بن كادس أنه قال لابنه لو أردت أن
أقتصر على ما صح عندي لم أرو من هذا المسند إلا الشيء بعد
الشيء ولكنك يا بني تعرف طريقتي في الحديث إني أخالف ما يضعف
إلا إذا كان في الباب شيء يدفعه هذا ما روي من طريق عبد الله
بن أحمد بالإسناد الصحيح إليه قال سمعت أبي يقول لا تكاد ترى
أحدا ينظر في الرأي إلا وفي قلبه ذغل والحديث الضعيف أحب إلى
من الرأي فهذا نحو ما حكى عن أبي داود ولا عجب فإنه كان من
تلامذة الإمام أحمد فغير مستنكر أن يقول قوله بل حكة النجم
الطوقى عن العلامة تقي الدين بن تيمية أنه قال اعتبرت مسند
أحمد فوجدته موافقا لشرط أبي داود.
ومن هنا تظهر لك طريقة من يحتج بكل ما سكت عنه أبو داود فإنه
يخرج أحاديث جماعة من الضعفاء في الاحتجاج ويسكت عنه مثل ابن
لهيمة وصالح مولى التوأمة وعبد الله بن محمد بن عقيل وموسى بن
وردان وسلمة بن الفضل ودلهم بن صالح وغيرهم فلا ينبغي للناقد
أن يقلده في السكوت على أحاديثهم ويتابعه في الاحتجاج بهم بل
طريقه أن ينظر هل ذلك الحديث متابع يعتضد به أو هو غريب فيتوقف
فيه لا سيما إن كان مخالفا لرواية من هو أوثق منه فإنه ينحط
إلى قبيل المنكر وقد يخرج لمن هو أضعف من هؤلاء بكثير كالحارث
بن دحية وصدقة الدقيقي وعمرو بن واقد العمري ومحمد بن عبد
الرحمن البيلماني وأبي حيان الكلبي وسليمان بن أرقم وأسحق بن
عبد الله بن أبي قروة وأمثالهم في المتروكين وكذلك ما فيه من
الأسانيد المنقطعة وأحاديث المدلسين بالعنعنة والأسانيد التي
فيها ما أبهمت أسماؤهم فلا يتجه الحكم لأحاديث هؤلاء بالحسن من
أجل سكوت أبي داود لأن سكوته تارة يكون اكتفاء بما تقدم من
الكلام في ذلك الراوي في نفس كتابه وتارة يكون لذهول منه وتارة
يكون لظهور شدة ضعفه ذلك الراوي واتفاق الأئمة على طرح روايته
كأبي الحويرث ويحيى بن العلاء وغيرهما وتارة يكون من اختلاف
الرواة عنه وهو الأكثر فإن في رواية أبي الحسن بن العبد عنه من
كلام على جماعة من الرواة والأسانيد ما ليس
(1/179)
في رواية اللؤلؤي وإن كانت روايته عنه أشهر
ثم عد أمثلة من أحاديث السنن فيها ما يؤيد ما قاله.
ثم قال والصواب عدم الاعتماد على مجرد سكوته لما وصفنا من أنه
يحتج بالأحاديث الضعيفة ويقدمها على القياس إن ثبت ذلك عنه
والمعتمد على مجرد سكوته لا يروى ذلك فكيف يقلده فيه هذا جميعه
إن حملنا قوله وما لم أقل فيه بشيء فهو صالح على أن مراده صالح
للحجة وهو الظاهر وإن حملناه على ما هو اعم من ذلك وهو
الصلاحية للحجية وللاستشهاد أو المتابعة فلا يلزم منه أن يحتج
بالضعيف ويحتاج إلى تأمل تلك المواضع التي سكت عليها وهي ضعيفة
هل منها أفراد أولا عن وجد فيها أفراد تعين الحمل على الأول
إلا حمل على الثاني: وعلى كل تقدير فلا يصلح ما سكت عنه
للاحتجاج مطلقا انتهى.
"قال النووي إلا أن يظهر في تعضها أمر يقدح في الصحة والحسن
وجب ترك ذلك أو كما قال" لفظ الحافظ ابن حجر نقلا عن النووي
أنه قال في سنن أبي داود أحاديث ظاهرة الضعف لم يبينها مع أنه
متفق على ضعفها فلا بد من تأويل كلامه قال والحق أن ما وجدناه
في سننه مما لم ينبه ولم ينص على صحته أو حسنه أحد ممن يعتمد
فهو حسن وإن نص على ضعفه من يعتمد أو رأي العارف في مسنده ما
يقتضي الضعف ولا جابر له حكم يضعفه ولا يلتفت إلى سكوت أبي
داود قلت: وهذا هو التحقيق ولكنه خالف ذلك في مواضع كثيرة في
شرح المهذب وفي غيره من تصانيف فاحتج بأحاديث كثيرة من أجل
سكوت أبي داود عليها فلا تعثر بذلك انتهى.
"قال ابن الصلاح: ما معناه وعلى هذا ما وجدنا في كتابه مذكورا
مطلقا ولم نعلم صحته عرفناه أنه من الحسن عند أبي داود وقد
يكون فيه ما ليس بحسن عند غيره" ثم ذكر بعيد هذا مثل ما ذكره
الحافظ من أنه قد يخرج الإسناد الضعيف إذا لم يجد في الباب
غيره لأنه أقوى عنده من رأي الرجال.
"وقد اعترض ابن رشيد" هو أبو عبد الله محمد بن عمر بن محمد
الفهري "الأندلسي علي ابن الصلاح لأن ما سكت عنه يحتمل عند أبي
داود الصحة والحسن" لفظ الزين أنه قال ابن رشيد ليس يلزم من
كون الحديث لم ينص عليه أبو داود يضعف ولا نص عليه غيره بصحة
أن الحديث عند أبي داود حسن إذ قد يكون عنده صحيحا وإن لم يكن
عند غيره كذلك.
(1/180)
"وقال أبو الفتح" اليعمري "هذا تعقب حسن"
قلت: لا يعزب عنك بعد تحقيق ما سلف عن الحافظ ابن حجر ما في
كلام ابن الصلاح وفيما تعقب به.
"قال زين الدين" في شرح ألفيته "وقد يجاب عنه" أي عن تعقب ابن
رشيد "بأنه" أي ابن الصلاح "إنما ذكر ما لنا أن تعرف الحديث
به" الذي سكت أبو داود عنه "عنده" أي عند أبي داود "والقدر
المتحقق الحسن دون الصحة وإن جاز أن يبلغها عند أبي داود" لفظ
زين الدين إنما ذكر ابن الصلاح ما لنا أن نعرف به الحديث عنده
والاحتياط أن لا يرتفع به إلى درجة الصحة وإن جاز أن يبلغها
عند أبي داود قال "لأن عبارته" أي أبي داود "فهو" أي ما سكت
عنه "صالح وهي تحتمل فإن كان يرى الحسن رتبة بين الصحيح
والضعيف فالاحتياط ما قاله ابن الصلاح" لأن الذي سكت عنه لم
يحكم له بالصحة ولا بالضعف فيكون حسنا وهو مراده حينئذ بقوله
صالح "وإن كان رأيه" أي أبي داود "كالمتقدمين أنه" أي الحديث
من حيث هو "ينقسم إلى صحيح وضعيف" وأنه لا يقول بالحسن "فما
سكت عنه فهو صحيح عنده" وإن لم تجتمع فيه شرائط الصحة التي
سلفت في رسم الصحيح وذلك هو الصحيح الأخص.
قلت: ولا يخفى أن قول أبي داود صالح حمله ابن الصلاح على حسن
فألزمه بان رشيد أنه يحتمل الأمرين الصحة والحسن والمراد الصحة
بالمعنى الأخص لأنه قابل بها الحسن فالإلزام مبني على رأي من
يجعل الحديث ثلاثة أقسام لا على رأي من يجعل الصحة شاملة للحسن
كما لا يخفي فلا بم ما قاله الزين نعم إن صح أن رأى أبي داود
عدم الحسن كان ما سكت عنه صحيحا بالمعنى الأعم فيكون فيه
الصحيح بالمعنى الأخص والحسن لكن ابن الصلاح وابن رشيد مبني
على أنه يرى الأقسام ثلاثة:
قال زين الدين: "والاحتياط أن يقال صالح" لا صحيح ولا حسن "كما
عبر هو" أي أبو داود "عن نفسه" لكن لا يخفى أن قوله صالح يحتمل
أنه للاحتجاج به كما قال الزين ويحتمل أنه صالح لأعم من ذلك من
الاحتجاج والمتابعة والاستشهاد كما قاله الحافظ ابن حجر وقد
قدمنا كلامه فإن أريد الأول فالصلاحية للاحتجاج لازمة للصحيح
والحسن وإن أريد الثاني: فالصلاحية للمتابعة ليست لازمة
للاحتجاج فترددت عبارته بين كون ما سكت عنه صحيحا أو حسنا أو
ضعيفا فالتعبير بصالح لم يفد تعين الاحتجاج حتى يكون صحيحا على
رأي القدماء أو حسنا على رأي المتأخرين نعم كلامه قد أقاد أن
ما سكت عنه فليس فيه وهن شديد فخرج به قسم
(1/181)
من الضعيف لا يشمله صالح وتحقيق عبارته أن
الذي سكت عنه ليس فيه وهن شديد وهو يحتمل أن لا وهن فيه أصلا
فيكون صحيحا أو حسنا ويحتمل أن فيه وهنا لكنه غير شديد وحينئذ
فالصواب أنه يحتمل الثلاثة بالحسن والصحة والوهن غير الشديد لا
كما قاله ابن الصلاح ولا كما قاله ابن رشيد.
"وجود الذهبي الكلام في شرط أبي داود في ترجمته من النبلاء"
ويأتي كلامه في آخر هذا البحث "وقال الإمام أبو الفتح محمد بن
محمد بن محمد بن سيد الناس اليعمري في شرح الترمذي لم يرسم أبو
داود شيئا بالحسن وعمله في ذلك شبه عمل مسلم" زاد الزين الذي
لا ينبغي أن يحمل كلامه على غيره "فإنه اجتنب الضعيف الواهي"
كما قال أبو داود إنه يبينه وأما مسلم فلم يأت به "وأتى" أي
مسلم "بالقسمين: الأول" وهو الصحيح "والثاني" وهو الحسن "وحديث
من مثل" أي مسلم "به" سيأتي من مثل بهم قريبا "من القسمين
الأول والثاني موجود في كتابه" كتاب مسلم "دون القسم الثالث"
وهو الواهي بخلاف أبي داود فالثالث موجود في كتابه لكنه بينه.
"قال" أبو الفتح "فهلا ألزم الشيخ أبو عمرو بن الصلاح مسلما من
ذلك ما ألزم أبا داود فمعنى كلامهما واحد" وبين معنى كون
كلامهما واحد بقوله "وقول أبي داود إنه يخرج في كتابه الصحيح
وما يشبهه وما يقاربه يعنى يشبهه في الصحة أو يقاربا فيها قال"
أبو الفتح "وهو نحو قول مسلم ليس كل الصحيح نجده عند مالك
وشعبة وسفيان فاحتاج إلى أن ينزل إلى مثل حديث ليث بن أي سليم
وعطاء بن السائب وزياد بن أبي زياد لما شمل الكل من اسم
العدالة والصدق" ولفظ مسلم فإن اسم الستر والصدق وتعاطي العلم
يشملهم "وإن تفاوتوا في الحفظ والإتقان" أي وإن تفاوت مالك
وصاحباه وليث وصاحباه فإن الثلاثة الأولين أكمل في الحال
والمرتبة من الثلاثة الآخرين "ولا فرق بين الطريقين" طريق مسلم
وأبي داود "غير أن مسلما شرطه الصحيح فتحرج من حديث الطبقة
الثالثة" وهو من اشتد وهنه فإنهم خرجوا من كتابه ومراده أنه
بقي في مسلم طبقتان والرواة أهل الصحاح وأهل الحسان "وأن أبا
داود لم يشترطه" أي شرط الصحيح "فذكر ما يشتد وهنه عنده والتزم
البيان عنه قال" أبو الفتح "وفي قول أبي داود إن بعضها أصح من
بعض ما يشير إلى القدر المشترك بينهما في الصحة لما تقتضيه
صيغة أفعل في الأكثر" إذ قد يخرج عن ذلك نادرا كما عرف في
(1/182)
النحو وحينئذ فقد شرط أبو داود الصحة في
كتابه لأن قوله صالح بمعنى صحيح كما أرشد إليه وقوله بعضها أي
بعض الأحاديث التي سكت عنها وسماها صالحة أصح من بعض فدل أنه
أراد بصالح صحيح وأراد بالصحة المعنى الأعم الشامل للحسن كما
أن مسلما أراده في تسمية كتابه بالصحيح هذا تقرير مراد أبي
الفتح والتحقيق في البحث قدمناه قريبا وأبو الفتح سوى في هذا
الكلام بين مسلم وسنن أبي داود.
"قال: زين الدين" في شرح ألفيته بعد نقله لكلام أبي الفتح
"والجواب" أي عن أبي الفتح في إلزامه لابن الصلاح "أن مسلما
التزم الصحة في كتابه فليس لنا أن نحكم على حديث خرجه أنه حسن
عنده" أي عند مسلم قلت: لا يخفى أنه إنما ألزم ابن الصلاح أن
يسمي ما سكت عنه أبو داود صحيحا لا أن يسمى ما أخرجه مسلم
صحيحا فتأمل "لما تقدم من قصور الحسن عن الصحيح" فكيف يحكم على
حديث في كتابه بالحسن بعد تصريحه باشتراطه صحة ما يخرجه نعم
قول مسلم ليس كل الصحيح نجده عند مالك وقوله فاحتاج إلى أن
ينزل إلى مثل حديث ليث بن أبي سليم بعد التزامه الصحة يدل على
أن في كتابه الصحيح والأصح وإن كان قوله كل الصحيح يفهم أن بعض
الصحيح عند ليث مثلا وأن كلا من الفريقين من مالك ومن ذكر معه
وليث ومن ذكر معه أحاديثهم مستوية في الصحة لكن سياق كلامه
يأبى هذا المفهوم "وأبو داود قال إنما سكت عنه فهو صالح
والصالح قد يكون صحيحا وقد يكون حسنا" قلت: يعني إذا حمل كلامه
على أن مراده صالح للاحتجاج كما هو حمل زين الدين لا إذا حمل
على الأعم من ذلك كما عرفت "عند من يرى الحسن رتبة دون الصحيح"
قيد لقوله وقد يكون حسنا ولم ينقل لنا عن أبي داود هل يقول
بذلك أو يرى ما ليس بضعيف صحيحا ولا يثبت الحسن "فكان الاحتياط
أن لا يرتفع ما سكت عنه إلى الصحة حتى يعلم أن رأيه هو الثاني
ويحتاج إلى نقل" وهو أنه يرى ما ليس بضعيف صحيحا.
قال الحافظ ابن حجر بعد نقل جواب شيخه على أبي الفتح وقد أجاب
الحافظ صلاح الدين العلائي عن كلام أبي الفتح بجواب أمتن من
هذا فقال ما نصه هذا الذي قال ضعيف وقول ابن الصلاح أقوى لأن
درجات الصحيح إذا تفاوتت فلا نعني بالحسن إلا الدرجة الدنيا
منها والدرجة الدنيا لم يخرج مسلم منها شيئا في الأصول إنما
يخرجها في المتابعات والشواهد انتهى.
(1/183)
قلت: ابن الصلاح لم يقل في مسلم شيئا إنما
ألزمه أبو الفتح أن يجعل مسلما كأبي داود ولا وجه عندي لإلزام
أبي الفتح له أصلا وذلك أن مسلما شرط أن لا يخرج إلا الصحيح
وسمى كتابه به وقال ما أدخلت فيه إلا ما صح وأبو داود يقول ما
سكت عنه فهو صالح وهي عبارة ليست نصا في شرطيه الصحة في
المسكوت عنه بخلاف مسلم فعبارته صريحة غير محتملة فلأي شيء
يقول إن في حديثه ما يتحمل الحسن كما في حديث أبي داود وأما
قول العلائي إن درجات الصحيح متفاوتة وإنه لا يعني بالحسن إلا
الدرجة الدنيا منها وليس في مسلم منها شيء فهو مؤذن بأنه إذا
أطلق الصحيح فلا يشمل إلا درجاته التي ليس فيها درجة دنيا
ومسلم قد شرط الصحة في كتابه وسماه صحيحا وحينئذ فلا يدخل
الحسن في كتابه أصلا.
قال الحافظ ابن حجر ما معناه كلام العلائي صحيح وهو مبني على
أمر اختلف نظر الأئمة فيه وهو قول مسلم ما معناه إن الرواة
ثلاثة أقسام فالأول كمالك وشعبة ونظرائهما والثاني: مثل عطاء
بن السائب ويزيد بن أبي يزيد وأمثالهما وكل من القسمين مقبول
لما يشمل الكل من اسم الصدق والطبقة الثالثة أحاديث المتروكين
فقال القاضي عياض وتبعه النووي وغيره إن مسلما أخرج أحاديث
القسمين الأولين ولم يخرج شيئا من أحاديث القسم الثالث: وقال
الحاكم: والبيهقي وغيرهما لم يخرج مسلم إلا أحاديث القسم الأول
فقط فلما حدث واخترمته المنية قبل إخراج القسمين الآخرين ويؤيد
هذا ما رواه البيهقي بسند صحيح عن محمد بن ابراهيم بن محمد بن
سفيان صاحب مسلم قال صنف مسلم ثلاثة كتب أحدها هذا الذي قرأه
على الناس يعني الصحيح والثاني: يدخل فيه عكرمة وابن اسحق
وأمثالهما والثالث: يدخل فيه الضعفاء.
قلت: وإنما اشتبه الأمر على القاضي عياض ومن تبعه بأن الرواية
عن أهل القسم الثاني: مروية في صحيحه لكن حرف المسألة هل احتج
بهم كما احتج بأهل القسم الأول أم لا والحق أنه لم يخرج شيئا
مما تفرد به الواحد منهم وإنما يحتج بأهل القسم الأول سواء
انفردوا أم لا ويخرج من أحاديث أهل القسم الثاني: ما يرفع به
التفرد عن أحاديث أهل القسم الأول وكذلك إذا كان لحديث أهل
القسم الثاني: طرق كثيرة يعضد بعضها بعضا فإنه قد يخرج ذلك
وهذا ظاهر بين في كتابه ولو كان يخرج جميع أحاديث أهل القسم
الثاني: في الأصول بل وفي المتابعات لكان كتابه أضعاف ما هو
(1/184)
عليه إلا تراه يخرج لعطاء بن السائب في
المتابعات وهو من المكثرين ومع ذلك فما له عنده سوى مواضع
يسيرة وكذا محمد بن اسحق وهو من يحور الحديث وليس له عنده في
المتابعات إلا سنة أو سبعة ولم يخرج لليث بن أبي سليم ولا
ليزيد بن أبي زياد ولا لمجالد بن سعيد إلا مقرونا وهذا بخلاف
أبي داود فإنه يخرج أحاديث هؤلاء في الأصول محتجا بها ولأجل ذا
تخلف كتابه عن شرط الصحة وفي قول أبي داود ما كان فيه وهن شديد
بينته فأفهم أن الذي يكون فيه وهن غير شديد أنه لا يبينه ومن
هنا تبين أن ما سكت عليه أبو داود لا يكون من قبيل الحسن
الاصطلاحي بل هو على أقسام منه ما هو في الصحيحين أو على شرط
الصحة إلى آخر ما قدمناه في هذا البحث عن الحافظ ابن حجر.
وبهذا التحقيق يتضح لك ما في قول المصنف "قلت: الذي تلخص من
عبارة أبي الفتح اليعمري وزين الدين بن العراقي أن ما سكت عنه
أبو داود فهو في المعنى والصحة مثل حديث مسلم" لا أدري لم زاد
لفظ المعنى فإن المعاني في الحديثين قد تختلف وإن جمعهما وصف
الصحة "ولكن مسلم يسمي الحسن صحيحا كالحاكم والمتقدمين" هذا
مبني على وجود القسم الثالث: في كتابه وقد عرفت ما فيه "فيحكم"
أي مسلم "بأن كل ما في كتابه صحيح عنده على معنى أنه يجب العمل
به وعلى معنى أنه ليس فيه ضعيف وإن كان فيه ما هو حسن عند من
يجعل الحسن رتبة بين الصحيح والضعيف" لا يخفى أن هذا لا يتم
على تحقيق الحافظ الذي قدمناه وجزمه بأن مسلما لم يخرج إلا
لأهل القسم الأول وهم أعلى مراتب الصحيح وأخرج لأهل القسم
الثاني: ما يكون صحيحا لغيره فليس في كتابه إلا الصحيح لذاته
وهم أهل القسم الأول والصحيح لغيره وهم أهل القسم الثاني:
المتعاضدة أحاديثهم فليس في كتابه ما هو من قسم الحسن.
ولما كان مقتضى كلام المصنف أن يوصف أحاديث سنن أبي داود
بالصحة كما وصف أحاديث مسلم بها مع قوله بأنهما مستويان أجاب
عن هذا بقوله "وإنما لم يجعل" أحاديث "سنن أبي داود صحاحا
عنده" كما جعلنا أحاديث مسلم صحاحا عنده "لأنه" أي الشأن "لم
يعرف هل ذهب" أبو داود "مذهب الحاكم والمتقدمين في تسمية
الحسان صحاحا أم لا" أي بخلاف مسلم فقد عرفنا ما عنده من تسمية
الحسان صحاحا "هذا" تقرير الكلام "عند زين الدين أما أبو
الفتح" اليعمري "فجعل ما سكت عنه" أبو
(1/185)
داود "صحيحا كمسلم".
لا يعزب عنك أن أصل كلام أبي الفتح لابن الصلاح بأنه يلزمه أن
أحاديث أبي داود التي سكت عنها صحيحه كالقسم الثاني: من أحاديث
مسلم لكنه ساق من عبارته ما دل على أن ما ألزم به ابن الصلاح
يراه قويا فلذا قال المصنف إنه يسمى ما سكت عنه أبو داود صحيحا
"وساعده" أي أبا الفتح "الزين" في مساواة أحاديث أبي داود
لأحاديث مسلم "وإنما اعتذر" الزين "من إطلاق التسمية" على ما
سكت عنه أبو داود بأنه صحيح "مضافة" التسمية "إلى اعتقاد أبي
داود وهذا الاختلاف الذي وقع بينهما" أي بين الزين وأبي الفتح
"قليل الجدوى لم يقع إلا في تسمية ما سكت عنه عنده" عند أبي
داود "هل كان عنده يسمى صحيحا أم كان عنده" أي أبي داود
"منقسما في التسمية إلى حسن وصحيح كاصطلاح المتأخرين والأكثرين
فإنهم قصروا اسم الصحيح على أحد قسمي المقبول وخصوا ما دونه
باسم الحسن وهذا يقتضي المساواة بين حديث مسلم وبين ما سكت عنه
أبو داود من حديث السنن" كل هذا مبني على أن مسلما قد سمى
الحسن صحيحا وأنه لم يرد بتسمية كتابه الصحيح إلا بمعنى
المقبول وأنه لم يرد الصحة الاصطلاحية الخاصة أو أرادها وغلب
الحسن في التسمية ومبني على أن إطلاق صحيح على ما سكت عليه أبو
داود كإطلاق حسن عليه لا فرق بينهما في المعنى وإنما الخلاف
لفظي بين الشيخين أبي الفتح والزين ونعم بتم أنه لا فرق بينهما
حيث يراد بالصحيح في هذا الإطلاق معنى الحسن.
قلت: إلا أنه لا خفاء في أن ظاهر قول الزين في العذر عن عدم
إطلاق الصحيح على ما سكت عليه أبو داود لتحقق الحسن دون الصحة
وقوله فكان الاحتياط أن لا يرفع ما سكت عنه أبو داود إلى
الصحيح أن المراد بالصحيح هو الأخص وأن إطلاقه على ما سكت عليه
رفع له إلى رتبة هو منحط عنها وغير متحققة له وأبو الفتح قال
يطلق الصحيح على ما سكت عليه أبو داود بالمعنى الأعم فيشمل
الصحيح الأخص والحسن لأن قول أبي داود إن ما سكت عنه صالح
يحتمل الأمرين كما أن مسلما أطلق الصحيح على الأمرين معا
وشملهما كتابه فابن رشيد لا يريد بالصحيح في إلزامه ابن الصلاح
إلا معناه الأخص إذ معناه المرادف للحسن قد صرح ابن الصلاح
بأنه الذي يحتمله ما كست عنه أبو داود
(1/186)
والتحقيق أن إلزام ابن رشيد لابن الصلاح
مبني على أن قول أبي داود إن ما سكت عليه صالح يحتمل صلاحيته
للصحة بالمعنى الأخص وبالمعنى الأعم الشامل للحسن فلما قال ابن
الصلاح: إنه يحمل ما سكت عليه على الحسن قال أبو الفتح ابن
رشيد بل ويحتمل الصحة بالمعنى الأخص فحمله على أحد محتمليه
تحكم ثم قال بعد ذلك إنه يلزم ابن الصلاح حيث جعل الصالح بمعنى
السحن وحمل عليه أن يلزم مسلما بأن في حديثه الحسن لأنه أتى
بعبارة كعبارة أبي داود فإن لفظ الصحيح الذي سمى به كتابه
يحتمل على أنه أراد به الصحيح بمعناه الأخص ويحتمل أنه المراد
الأعم كاحتمال لفظ صالح عند أبي داود ثم إنه لما صرح في كتابه
أنه ينقسم بانقسام الرواة إلى صحيح وأنزل منه وأنه أتى بهما
فيه دل على أنه أراد به المعنى الأعم كما أن أبا داود قال إن
الصالح المسكوت عنه بعضه أصح من بعض دل كلام كل واحد منهما على
أنهما أتيا في كتابيهما بأحاديث تفاوت رتبها إلى صحيح وأصح
والأصح هو الصحيح بالمعنى الأخص والصحيح هو الحسن فقد أراد
مسلم بصحيح وصالح الصحيح بالمعنى الأعم الشامل للقسمين كما
أراد أبو داود بصالح.
وبعد هذا تعرف أن قول الزين إن صالح يحتمل الصحيح والحسن مراده
الصحيح بالمعنى الأخص ومارد اليعمري أنه لا احتمال فيه بل هو
ظاهر في المعنى الأعم كما دل له قول أبو داود إنه أتى في كتابه
بالصحيح وما يشابهه وما يقاربه أي يشابهه ويقاربه في الصحة
وقوله بعضها أصح من بعض وقد وجد في كتابه الحسن قطعا فمراده
بصالح صحيح بالمعنى الأعم كما أراد مسلم وأن قوله مسلما التزم
الصحة في كتابه يقول اليعمري نعم لكنه إلتزمها بمعناها الأعم
لما قرره من كلام مسلم واشترطها أبو داود بذلك المعنى لقوله
صالح وبعضها أصح من بعض.
إذا عرفت هذا عرفت أن جواب الزين عن اليعمري لم يوافق بحثه
ومراده أن اليعمري يقول إن الصالح بمعنى الصحيح بالمعنى الأعم
وإن أبا داود كغيره يقول بانقسام الحديث إلى الثلاثة الأقسام
لكنه عبر بلفظة صالح عن قسمين وبين الثالث: بقوله وما كان فيه
وهن شديد وقوله فكان الاحتياط أن لا يرتفع ما سكت عنه إلى
الصحيح يقال عليه قد عرفت أن مراد أبي داود بما سكت عنه أي عن
بيان وهنه الشديد لأنه لم يسكت على غيره إذ قد حكم بأن الذي لم
يبين وهنه صالح فالذي سكت عنه قد جعله صالحا وليس بمسكوت عنه
بل موصوف بالصالح وهو محتمل
(1/187)
الأمرين كما عرفت ومنه تعرف أن أبا داود
قائل برأي المتأخرين والأكثرين ويحتمل أن يريد زين الدين إن
حملنا صالحا في عبارة أبي داود على الصحيح بالمعنى الأعم رفع
له إلى فوق رتبة الحسن لأنه يشمل الصحيح بالمعنى الأخص الأحوط
وصفه بالتحقق وهو الحسن لكنه قال أبو الفتح إن أبا داود لم
يرسم شيئا بالحسن فكيف يثبت له شيئا لم يقله سيما وقد قال إنه
صالح وبعضه أصح من بعض.
وبهذا علم أن رأي أبي داود هو الثاني: أعني إدراج الحسن في
الصحيح هذا وقول المصنف إن الشيخين جعلا أحاديث مسلم وأبي داود
مستوية لا يخلو عن تأمل لأن الزين قال إن مسلما شرط الصحة فليس
لنا أن نحكم على حديث خرجه أنه حسن لما تقدم من قصور رتبة
الحسن ووصف أحاديث أبي داود المسكوت عنها بالحسن الذي رتبته
أنقص من رتبة الصحيح فهذا يشعر بأنه لم يسو بينهما وأما أبو
الفتح فظاهر عبارته التسوية "فإما أن يريدوا" أي أبو الفتح
والزين ومن تبعهما "المساواة بينهما" أي بين أحاديثهما "في أن
كل واحد منهما واجب القبول عند مخرجه فذلك قريب ولا يقتضي
المساواة المطلقة أو يريدوا أنهما سواء على الإطلاق فذلك غير
صحيح" لما ذكره من قوله "فإن من أنس بعلم الأثر وطالع كتب
الرجال" أي تراجم العلماء في كتب الرجال التي وضعت لبيان أحوال
الرواة وغيرهم "لم يشك أن مسلما كان أكثر احتياطا من أبي داود"
في الرواة "كما لا يشك أن البخاري كان اكثر احتياطا من مسلم
وإن كان مقصد الكل" من الثلاثة "حسنا فإن من تساهل منهم لم
يحمله على التساهل هوى وإنما حمله أنه رأى أن قبول ما رواه
واجب ورده حرام فاحتاط كل منهم للمسلمين فجزاهم الله أفضل
الجزاء".
ومن الأدلة أن مسلما وإن روى عن بعض الضعفاء فإنه يعتمده قوله
"وقد روى النووي في شرح مسلم أن مسلما ذكر أنه ربما أخرج
الحديث في الصحيح" أي في كتابه المسمى بالصحيح "بالإسناد
الضعيف لعلوه وله إسناد صحيح معروف عند أهل هذا الشأن فقد تركه
نزولا استغناء بشهرته وهذا يدل بالنص على أن مسلما وإن روى عن
بعض الضعفاء لم يدل على أنه اعتمدهم ولذا ضعف المحققون قول من
يقول صحيح على شرط مسلم لمجرد إسناده إلى رواة مسلم" فإنه ليس
كل من في صحيحه من الرواة غير ضعيف إذ قد صرح بأن فيهم الضعيف
لكن ليس فيه حديث ضعيف "وهذا جواب واضح على اليعمري وزين
الدين" عما زعماه من مساواة حديث مسلم
(1/188)
لحديث أبي داود.
"واعلم أن المقصود بهذا الكلام هو التعريف بأن حديث مسلم عند
التعارض أرجح من حديث أبي داود لمن لم يتمكن من البحث عن
إسنادهما والكشف عما قيل في رجالهما وجميع ما يتعلق بهما من
علوم الحديث وذلك" أي وجه ترجيح حديث مسلم عند التعارض "لما
تقدم من أن جماعة من الثقات قد ادعوا الإجماع على صحة كتاب
مسلم" يقال: كيف تتم هذه الدعوى مع أنه قد صرح أنه قد ينزل عن
الثقات وأهل الإتقان إلى من هو دونهم فلا بد من حمل الصحة
المتفق عليها على ما يشمل مراتب الصحة التي يدخل فيها الحسن
لكن ظاهر ما سلف للمصنف أن الإتقان على الصحة بالمعنى الأخص
وقد تقدم عن الحافظ ابن حجر ما نقلناه من تحقيق حال أحاديث
مسلم بما يرفع درجته عن أحاديث أبي داود.
"ولم يختلف في الترجيح لما تلقته الأمة بالقبول على غيره من
الصحيح المقبول" فإن ما تلقته الأمة بالقبول أرجح من غيره من
الصحيح الغير المتلقي والتلقي من الأمة وقع للصحيحين كما سلف
ولم يقع التلقي لسنن أبي داود فأحاديث مسلم أرجح إذا عارضها
صحيح غير البخاري فكيف إذا عارضها ما فيه الحسن ونحوه وتقدم
البحث عن دعوى التلقي.
"وإنما وقع الخلاف" بين الأمة "في أن المتلقي بالقبول هل يفيد
العلم الاستدلالي أم لا وقد مر ذلك" ومر ما فيه "فمن قال إنه
يفيد العلم قدم مسلما على الإطلاق" سواء كان من أهل البحث أو
من غيرهم "ومن قال إنه يفيد الظن فإن لم يكن من أهل الكشف" أي
البحث عن أسانيد "قدمه أيضا" لأنه يجب العمل بالظن عند عدم
أقوى منه "وإن كان من أهل الكشف بحث" عن أسانيد المتعارضين من
حديث مسلم وحديث أبي داود "فإن حصل له من البحث ظن أرجح" إما
بترجيح حديث مسلم أو ترجيح حديث أبي داود "من الظن الحاصل من
تلقي الأمة بالقبول صار إليه" إلى ما رجح له لأنه لا يعمل بظن
مرجوح عند وجود ظن راجح "وإن كان تلقي الأمة بالقبول أرجح في
ظنه عمل به وأهل الكشف هم المتمكنون من النظر في الأسانيد
والكشف عن أحوال الرواة".
"فإن قيل: قد نقل الحافظ ابن النحوي في البدر المنير والحافظ
زين الدين في التبصرة عن الحافظ أبي عبد الله بن منده أنه قال
عن أبي داود إنه يخرج الإسناد
(1/189)
الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره لأنه عنده
أقوى من رأي الرجال" وقدمنا هذا قريبا "وهذا يقتضي أن في ما
سكت عنه ضعيفا عنده لا يجوز العمل به" لأنه لا يعمل إلا بصحيح
أو حسن وهذا خارج عنهما لأنه ضعيف لم يعضده خبر آخر بل لم نجد
غيره "وذلك الضعيف" الذي صرح أبو داود بإخراجه في كتابه "غير
متميز عن غيره فوجب ترك الجميع" أي جميع ما سكت عنه لأنه وإن
كان فيه ما يصح به العمل لكنه لم يتميز عما لا يصح.
"ولم يحل الاحتجاج بشيء منها إلا بعد الكشف عن أحوال رجالها في
كتب الجرح والتعديل وهذا خلاف ما عليه العمل" من العلماء فإنهم
يحتجون بما سكت عنه أبو داود كما تقدم "وخلاف ما نص عليه
الحفاظ كابن الصلاح والنووي وزين الدين بن العراقي وسراج الدين
بن النحوي وغيرهم" فإنهم قالوا نحتج بما سكت عنه أبو داود إلا
أن يظهر في بعضها أمر يقدح في الصحة والحسن وجب ترك ذلك كما
نقله المصنف عن النووي قريبا وتقدم الكلام في أن ما سكت عنه
أنه يحتمل الصحة والحسن.
"قلت: الجواب أن ذلك لا يشكل إلا على من كان لا يعرف ما اصطلح
عليه القوم في باب مراتب الجرح والتعديل وغيره من أبواب علوم
الحديث وأنت إذا بلغت هذا الباب" من الجرح والتعديل "عرفت أنهم
يطلقون الضعيف على العدل في دينه المتوسط في مراتب الحفظ
والإتقان" لا يخفى أنهم إن أرادوا هذه فهذه صفة رواة الحسن
الذي خف ضبطهم "وقد نص زين الدين في مراتب التجريح الخمس على
أن الضعيف وهو في المرتبة الرابعة منها" أي من مراتب التجريح
"يكتب حديثه وحديث من في مرتبته" لا فائدة لزيادته "ومن في
المرتبة الخامسة للاعتبار بهم" وقد تقدم للمصنف هذا وتقدم ما
عليه "دون أهل المراتب المتقدمة من المجروحين" فإنه لا يكتب
حديثهم لذلك.
"وروى عن أبي حاتم في" أهل "مراتب التعديل الخمس أن أهل
المرتبة الرابعة منهم يكتب حديثهم للاعتبار بهم وهم" أي أهل
المرتبة من مراتب التعديل "من قيل فيه إنه صالح الحديث" قد
عرفت أنه قال أبو داود إن ما سكت عنه من الحديث فإنه صالح
وجعلوا هذه العبارة تحتمل الصحة والحسن "أو محله الصدق أو شيخ
أو وسط أو شيخ وسط أو مقارب الحديث أو نحو ذلك" بفتح الراء
وكسرها كما قال الزين واعلم أن ابن معين قال من قيل فيه إنه
ضعيف فليس بثقة ولا يكتب حديثه نقله عن زين الدين وذكر في ذلك
خلافا سيأتي بيانه "كما سيأتي إن شاء الله في موضعه".
(1/190)
"فعرفت بهذا أن الضعيف في رابعة مراتب
الجرح هو صالح الحديث في رابعة مراتب التعديل ولكنه يوصف
بالضعف بالنظر إلى من فوقه من الثقات الإثبات المتقنين ويوصف
بصلاح الحديث بالنظر إلى صدقه وترفعه عن مرتبة المغفلين
المكثرين من الخطأ وترفعه عن مرتبة المجروحين والمتهمين ويدل
على ما ذكرته ما ذكروه في أقسام الضعيف كما يأتي من أن الحديث
قد يسمى ضعيفا عندهم إذا كان من طريق رجال الحسن المستورين غير
أنه لم يرد له شاهد ولا متابع ويدل على ما ذكرته ما تقدم من
قول أبي الفتح بن سيد الناس إن شرط أبي داود كشرط مسلم" لكنه
لا يخفي أنه لم يرفضه المصنف فيما سلف ثم هذا كله يتم إن كان
مراد أبي داود بقوله إنه يخرج الإسناد الضعيف إذا لم يجد في
الباب غيره الإسناد الذي ليس فيه وهن شديد الذي التزم أنه
يبينه وهذا محل تتبع لما في سنن أبي داود "و" يدل له "ما رواه"
أبو الفتح "عن مسلم قوله لي كل الصحيح تجده عند مثل مالك وشعبة
وسفيان واحتاج أينزل إلى مثل ليث بن أبي سليم وعطاء بن السائب
لما يشمل الكل من اسم العدالة والصدق وإن تفاوتوا في الحفظ
والإتقان فدل هذا على أن رواة أبي هريرة الذي سكت عنهم من أهل
الصدق والعدالة عنده وأن تفاوتهم إنما هو في الحفظ والإتقان"
هذا مبني على أنه لا فرق بين رجال مسلم وأبي داود فإن المصنف
جعل عبارة مسلم في رواته دليلا على أن رواة أبي داود يتصفون
بصفة رواة مسلم وهذا ينقض ما سلف له قريبا ولا يتم على كل
تقدير لما علم بالخبرة أن في رجال أبي داود ممن يعتمدهم في
الأصول رجالا لا يرتضيهم مسلم إلا في التوابع والشواهد كما قد
سبقت أمثلة من ذلك فيما قدمناه ولا يتم قوله أيضا "والضعيف
منهم" أي من رواة أبي داود "إنما هو ضعيف الحفظ ضعفا متوسطا لا
يحطه إلى مرتبة من لا يكتب للاعتبار" لكنه لا يكون حجة يعمل
بحديثه.
"ولهذا جعلوا من قيل فيه أنه ضعيف بمرة في ثالثة مراتب الحرج
وجعلوه ممن لا يكتب حديثه للاعتبار ومعنى الاعتبار عندهم الطلب
التوابع والشواهد التي يعرف بها أن للحديث أصلا ويترقى حديث
الضعفاء إلى مرتبة الحسن وسوف يأتي تعريف معنى الشواهد
والتوابع والفرق بينهما في بابه إن شاء الله" ويأتي تحقيق ذلك
هنالك إن شاء الله تعالى إلا أنك قد عرفت أن أبا داود قال إنه
يذكر الحديث الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره فيبني عليه حكم
ولذا قال إنه أولى من الرأي والرأي إنما يحتاج
(1/191)
إليه عند رواة الحكم فهو لا يذكره للاعتبار
بل ليبني عليه أحكاما ثم إنه مبني على أنه لم يجد في الباب
غيره وأي شيء يعتبر هو به وإن أريد أن غير أبي داود من الأئمة
يعتبر به فلا يكون عذرا لأبي داود لأنه لم يأت به إلا للحكم
به.
"فالإسناد الضعيف على هذا واجب القبول عند كثير من الأصوليين
والفقهاء وإن لم يتابع راويه على روايته" ولا يكون حسنا لذاته
ولا لغيره "وأما المحدثون فيذهبون إلى قبوله متى جمع شرائط
الحديث الحسن" لذاته أو لغيره "إلا البخاري فلم يقبله كما تقدم
وبوضح ما ذكرته أن الإسناد الضعيف الذي ذكره ابن منده في السنن
مقبول عندهم هو ما قدمناه عن أبي داود من قوله إن ما لم يذكر
فيه شيئا فهو صالح وبعضها أصح من بعض" لا يعزب عنك أن نقل ابن
منده عن أبي داود أنه قال يخرج الحديث الضعيف إذا لم يجد في
الباب غيره وهذا نص منه أنه يخرج الضعيف وقال فيما سكت عنه إنه
صالح ثم قال وبعضها أي بعض الأحاديث التي سكت عنها أصح من بعض
فعبارته تشعر بأن الذي سكت عنه صحيح أو أصح والذي أخرجه عند
عدم وجود غير ورآه أولى من الرأي ضعيف فكيف يقول المصنف إن
الذي ذكره ابن منده هو الذي قدمه عن أبي داود فليتأمل "ولهذا
قال ابن منده" الأولى قال أبو داود لأن ابن منده راو للفظه
ومراده قال راويا "إنه" أي أبا داود "يورد الإسناد الضعيف ولم
يقل الحديث الضعيف لأن الحديث في نفسه قد يقوي متنه لاجتماع
الأسانيد الضعيفة إذا كان رواتها في مرتبة رجال الحسن ولم
يكونوا ضعفاء بمرة" لكنه غير خاف عليك أنه قال أبو داود إنه
يخرج الحديث الضعيف إذا لم يجد غره فأين اجتماع الأسانيد
الضعيفة التي ترقيه إلى الحسن إذ لو كان شيء يرقيه إلى مرتبة
الحسن لما قال إذا لم يجد غيره وإن أراد أن غير أبي داود وجد
له أسانيد عاضدة لحديثه الذي لم يجد غيره فلا ينفع ذلك بالنظر
إلى أبي داود إذ قد أتى بضعيف لم يعضده شيء عنده ورتب عليه
حكما ومنه تعرف ما في قوله.
"ومن نفائس هذا الفصل أن لا تظن" أيها المخاطب كما يرشد إليه
قوله واهما "الانفراد في أحاديث السنن إذا لم يورده" أي الحديث
الدال عليه الأحاديث "أبو داود إلا بإسناد من الأسانيد الضعيفة
واهما" من ظن الانفراد في أحاديث السنن "أنه" أي أبا داود
"إنما ترك الشواهد والمتابعات لعدمها" عند أبي داود فيظن
الانفراد "و" يظن الواهم "أن شرط الحديث الحسن وجودها" أي
الشواهد والمتابعات "فليس كذلك" أي ليس كما ظنه
(1/192)
من أن وجودها شرط "فنصه" أي أبي داود "على
أن ما سكت عنه فهو صالح يقتضي معرفته لمتابعات" وشواهد تقويه
فيه بحثان:
الأول: إن هذا الذي سكت عنه هو الذي أخبر عنه بأنه صالح
والصالح صحيح أو أصح عنده كما عرفت.
والثاني: أنه لم يسكت عما لم يجد في الباب غيره بل قال إنه
ضعيف.
نعم يشكل وجود حديث في السنن مسكوت عنه فإنه يحتمل أن سكوته
عنه لكونه صالحا أو أنه ضعيف فلا يعرف الفرق بينهما إلا بأن
نجد حديثا ليس في الباب غيره فيحكم بضعفه ثم إنه مبني على أنه
لا يأتي في باب من أبواب كتابه بما وهنه شديد وإن لم تجد إلا
هو وهذا كله يفتقر إلى تتبع كتاب أبي داود لأن ما سكت عنه قد
احتمل الضعف واحتمل أنه صالح "من باب معرفة اصطلاحهم ومن باب
الحمل على السلامة" هذا كلام حسن لكنه يقال عليه إنه قد صرح
أبو داود أنه يأتي بالضعيف إذا لم يجد في الباب غيره من تابع
أو شاهد فحمله على السلامة إنما هو بقبول خبره عن نفسه "فإن
مثل أبي داود مع جلالته ومعرفته وأمانته" يجب قبول خبره عن
نفسه كما يجب قبول ما أخبر به عن غيره وقد أخبر عن نفسه بما
عرفت.
وأما قوله: "لا يطلق ذلك" أي لفظ صالح فيها سكت عنه "على ما لا
يستحق اسم الصحيح أو الحسن في عرفهم الشائع" فقد عرفت أنه لم
يطلقه إلا على صحيح أو حسن "فكيف وقد روى الحافظ سراج الدين بن
النحوي في مقدمات كتابه البدر المنير عن أبي داود أنه يخرج في
الباب أصح الأسانيد ويترك بقيتها تخفيفا على طلبة هذا العلم
الشريف" هذا محمول على ما يخرجه في باب أحاديث الأحكام التي
يذكر فيها كثيرة وأما ما يخرجه في باب أو في حكم لا يجد فيه
إلا حديثا واحدا فإنه قد صرح بأنه ضعيف "وهذا يدل على أنه إنما
نص على صلاحية ما سكت عنه مما إسناده ضعيف لم عرف من شواهده"
قد عرفت أنه نص على صلاحية ما سكت عنه ونص على أنه يخرج الضعيف
الذي لا يجد غيره في الباب ونص على أنه يخرج ما اشتد وهنه مع
بيانه وإذا كان هذا نصه فليس لنا التحكم بأن ما سكت عنه فهو
صحيح أو حسن حتى يعلم أن في الباب غيره إذ هو الذي صرح بأنه
يخرجه مع ضعفه نعم الذي لا يجد في الباب غيره قليل بالنسبة إلى
مقابله فقد يقال الحكم للأعم الأغلب وهو الصلاحية للمسكوت عنه
إلا أن هذا لا يكفي في إثبات الأحكام.
(1/193)
"وأما الذهبي" كأنه قسيم إماما تقدم من
الأقاويل أي هذا ما قال أئمة هذا الشأن غير الحافظ الذهبي
"فقال في ترجمة أبي داود من كتابه النبلاء قال أبو داود ذكرت
في السنن الصحيح وما يقاربه فإن كان فيه وهن شديد بينته قال
الذهبي وقد وفى بذلك رحمه الله بحسب اجتهاده وبين ما ضعفه شديد
غير محتمل وكاسر" بالسين المهملة في القاموس كسر من طرفه غض أي
غض أبو داود "عما ضعفه خفيف محتمل" غير شديد.
"فلا يلزم من سكوته والحال" عنده "هذه عن الحديث أن يكون حسنا
عنده" لأنه قد سكت عما فيه ضعف محتمل وليس هذا بداخل في باب
الحسن "ولا سيما إذا حكمنا على حد الحسن باصطلاحنا المولد الذي
هو في عرف السلف يعود إلى قسم من أقسام الصحيح" وهو الحسن
لذاته فإنه إنما يعتبر فيه خفة الضبط كما عرفت فإنه "الذي يجب
العمل به عند جمهور العلماء أو الذي يرغب عنه البخاري" كان
الأولى الإتيان بكلمة الواو عوضا عن أو لأن الذي يرغب عنه
البخاري هو الحسن لذاته "ويمشيه مسلم وبالعكس" لا أدري ما يراد
به فينظر إذ المعروف أن البخاري لا يعمل بالحسن لذاته كما تقدم
ومسلم يدخله في قسم الصحيح وعكس هذا ما أدرى ما أراد به الذهبي
"فهو" أي المذكور بالحسن لذاته "داخل في أدنى مراتب الصحيح"
كما قد عرفته من كلام العلائي وغيره "فإنه" أي الحسن لذاته "لو
انحط عن ذلك" أي عن شرائطه بالاصطلاح المولد "لخرج الاحتجاج".
"وكتاب أبي داود أعلى ما فيه من الثابت ما أخرجه الشيخان وذلك
نحو من شطر الكتاب" وهذا كله تقرير لكون ما كاسر أبو داود عن
ضعفه المحتمل وسكت عنه لا يدخل تحت الحسن ولا يحتج به لأنه قد
انحط عن رتبته وهذا خلاف ما قاله المصنف في تقريره "ثم يليه ما
أخرجه أحد الشيخين" كأن المراد به مسلم "ورغب عنه الآخر"
البخاري "ثم يليه ما رغبا عنه وكان إسناده جيدا سالما من علة
وشذوذ ثم يليه ما كان إسناده صالحا وقبله العلماء لمجيئه من
وجهين لينين فصاعدا يعضد كل منهما الآخر ثم يليه ما ضعف إسناده
لنقص في حفظ راويه فمثل هذا يمشيه أبو داود ويسكت عنه غالبا ثم
يليه ما كان بين الضعف من جهة راويه فهذا لا يسكت عنه بل يوهنه
غالبا وقد يسكت عنه بحسب شهرته ونكارته والله أعلم انتهى
بلفظه".
واعلم أنه قد تحصل من كلام الذهبي هذا أن أحاديث أبي داود على
ستة أقسام:
(1/194)
على شرط الشيخين على شرط أحدهما ما كان
إسناده جيدا سالما عن شذوذ وعلة ما كان إسناده صالحا وعضده
غيره ما كان إسناده ضعيفا لضعف حفظ راويه ما كان بين الضعف.
وأنت إذا قابلت بين هذا وبين كلام المصنف وجدت بين الكلامين
اختلافا وكذا إذا قابلت بينه وبين ما نقل عن أبي داود وإنما
هذا إخبار من الذهبي عن حقيقة أحاديث السنن باعتبار ممارسته
لها لا باعتبار كلام مؤلفها وكأنه لهذا قال المصنف وأما الذهبي
"كما هو معروف من عوائد الحفاظ ولقد قال بعض حفاظ الحديث إن
الحديث إذا لم يكن عندي من مائة طريق فأنا فيه يتيم" اليتيم:
الفرد كما في القاموس وكأن هذا من قوله كما هو معروف إلى هنا
معلق بقوله وأما الذهبي وفيه نوع خفاء وتعلقه بقوله لما عرف من
شواهده أظهر وإن كان قد بعد بتوسيطه بنقل كلام الذهبي.
"فهذا الكلام الذي أوردته يعرف شرط أبي داود ومن أحب الكشف عما
سكت عنه فهو أولى وأقرب إلى التحقيق التام وهو طريقة أهل
الإتقان من طلبة هذا الشأن وأعون كتاب على ذلك" أي على الكشف
عن أحاديث أبي داود التي سكت عليها "كتاب الأطراف للحافظ
الكبير حمال الدين أبي الحجاج المزي" بضم الميم وكسرها كما في
القاموس وآخر زاي بلدة بدمشق "لمعرفة طرق الحديث وكتاب الميزان
للذهبي للكشف عن أحوال الرجال وأقرب منها مختصر الحافظ عبد
العظيم" أي المنذري "لسنن أبي داود فإنه تكلم على جميع ما فيها
مما يحتمل الكلام وبين ما فيها مما في الصحيحين وغيرهما وصححه
أو حسنه أبو عيسى الترمذي وجود الكلام على حديثهما غاية
التجويد وجاء كتابه مع كثرة فوائده صغير الحجم لم يزد على
مجلد".
ذكر الحافظ المذكور في خطبة مختصريه المذكور عن ابن داسه أنه
قال سمعت أبا داود يقول كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
خمسمائة ألف حديث انتخبت منها ما ضمنته هذا الكتاب يعني كتاب
السنن جمعت فيه أربعة آلاف وثمانمائة حديث ذكرت الصحيح وما
يشبهه وما يقاربه ويكفي الإنسان لدينه أربعة أحاديث قوله صلى
الله عليه وسلم: "الأعمال بالنيات" 1 والثاني: قوله: "من
__________
1 سبق تخريجه.
(1/195)
حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"
1والثالث: قوله: "لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يرضي لأخيه ما يرضي
لنفسه" 2 والرابع: "الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور
مشتبهات ... ", الحديث3.
ثم ذكر فيها أيضا أنه حكى أبو عبد الله محمد بن اسحق بن منده
الحافظ أن شرط أبي داود والنسائي إخراج أحاديث أقوام لم يجمع
على تركهم إذا صح الحديث باتصال السند من غير قطع ولا إرسال
وحكى عن أبي داود أنه قال ما ذكرت في كتابي حديثا اجتمع الناس
على تركه انتهى.
وأعلم أنه قد أطال المصنف رحمه الله الكلام على شرط أبي داود
ولم يسفر وجه إطالته عن شيء يعتمد عليه.
* * *
__________
1 الترمذي قي: الزهد: ب 11, وابن ماجة في: الفتن: ب 12, ومالك
في: حسن الخلق: حديث 3, وأحمد 1/201.
2 البخاري 1/10. ومسلم في: الإيمان ب 17. حديث 71. وأحمد
3/176.
3 البخاري 7/30. ومسلم في: المساقاة: حديث 108. وابن ماجة
3984.
(1/196)
|