توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار مسألة: 19 [في الكلام على الأطراف]
"قد مر الكلام في ذكر الأطراف وهي من جملة ما اصطلح على تسميته
أهل الحديث" وجعله نوعا من التأليف له صفة يمتاز بها عن غيره
"فيحسن ذكرها" إذ قد صارت من جملة علوم الحديث "وإن لم يتعرض
لها ابن الصلاح وزين الدين" في كتابيهما.
"وشرط أهل كتب الأطراف أن يذكروا حديث الصحابي مفردا كأهل
المسانيد إلا أنهم لا يذكرون من الحديث إلا طرفا" لا كأهل
المسانيد يذكرون الحديث كله "يعرف به ثم يذكرون جميع طرق
الشيخين وأهل السنن الأربع وما اشتركوا فيه من الطرق وما اختص
به كل واحد منهم" أي ما اختص به أحد مؤلفي الكتب الستة من طرق
ذلك الحديث.
"وإذا اشترك أهل الكتب الستة في رواية حديث أو بعضهم أو انفرد
بعضهم ذكروا" أي أهل الأطراف "أين ذكر كل واحد منهم ذلك الحديث
في كتابه" فيعرف موضعه ليقرب البحث عنه "وإن ذكره" أي الواحد
من أهل الكتب الستة "مفرقا في موضوعين أو أكثر ذكروا" أي أهل
الأطراف "كل واحد من الموضوعين فيسهل بذلك معرفة طرق الحديث
والبحث عن أسانيده" وهذا أعظم فوائد تأليف الأطراف فإنه "يكتفي
الباحث بمطالعة كتاب منها" أي من الأطراف "عن مطالعة جميع هذه
الكتب الستة" إذا كان مقصوده معرفة طرق الحديث لأنها قد جمعت
الأطراف لا إذا كان مقصوده معرفة ألفاظ المتون فإنها لا تكفي
فيها لعدم اشتمالها على جميع ألفاظها "ويتمكن بالنظر فيها من
معرفة موضوع الحديث منها" بنص صاحب الأطراف على محلها.
"وقد صنف فيها غير واحد من الحفاظ وأجل ما صنف فيه" أي في هذا
الفن "كتاب
(1/208)
الحافظ أبي الحجاج المزي" تقد ضبطه وهو
إمام كبير ختم الحافظ الذهبي تذكرة الحفاظ بترجمته فقال شيخنا
العالم الحبر الحافظ الأوحد محدث الشام ثم ذكر قراءته ورحلته
إلى أن قال وكان ثقة حجة كثير العلم حسن الأخلاق كثير السكوت
قليل الكلام جدا صادق اللهجة لم تعرف له صبوة كان متواضع حليما
صبورا مقتصدا في ملبسه ومأكله كثير المشي في مصالحه ترافق هو
وابن تيمية كثيرا في سماع الحديث وفي النظر وكان ذا سماحة
ومروءة باذلا لكتبه وفوائده ونفسه كثير المجلس توفي في صفر سنة
اثنين وأربعين وسبعمائة.
"قال الشيخ مجد الدين الشيرازي" هو مؤلف قاموس أبو الطاهر
الفيروز باذي كان يدعي أنه من ولد الشيخ أبي اسحق صاحب المهذب
ولد سنة تسع وعشرين وسبعمائة وأقبل على الطلب في فنون العلم
وأقبل على اللغة وعظم شأنه وألف كتبا نفيسة منها القاموس وشرح
البخاري ولم يتم خرج في آخر أمره إلى اليمن وتزوج الملك الأشرف
ببنته وولاه قضاء اليمن وتوفي بها في مدينة زبيد وقبره معروف
ووفاته في شوال سنة سبع عشرة وثمانمائة "وأما تحفة الأشراف
لمعرفة الأطراف للحافظ الكبير الشيخ جمال الدين فإنه كتاب
معدوم النظير مفعم الغدير" بضم الميم فيعن مهملة بزنه مكرم أي
مملوء من أفعم الإناء إذا ملأه "يشهد لمؤلفه على إطلاع كثير
وحفظ بتير" بموحدة فمثناة فوقية فمثناة تحتية فراء في القاموس
البتير القليل والكثير.
"والعلماء يقولون محدث ما له أطراف كإنسان ما له أطراف وقد
قصد" أي أبو الحجاج المزي "بوضعه" أي وضع كتاب الأطراف "تحصيل
الكتب المعتبرة التي هي دواوين الإسلام المشتهرة" وهي الأمهات
الست "بأسانيدها في مختصر وليس قصده ذكر تمام متون الأحاديث
وسردها وإنما يذكر الراوي أولا وطرفا من الحديث إلى أن يتميز
عن غيره من الأحاديث ثم يقول رواه فلان بسند كذا وفلان بسند
كذا إلى أن يفرغ من ذكر من رواه من آهل الكتب فإذا نظره المحدث
عرف من أول نظرة بدا بدا" كذا في النسخ ولعله تصحيف بادئ بدء
أو بادي بدا ومعناه أول شيء كما في القاموس وفيه لغات أخر
"علوه" مفعول عرف والمارد علو سنده "ونزوله بالنسبة إلى كل
مصنف" من الأئمة الستة.
"وقد سبقه إلى ذلك الحافظ أبو مسعود الدمشقي وأطرافه أيضا كتاب
نفيس مفيد
(1/209)
وله فضل التقدم وكتاب الشيخ جمال الدين
المزي اجمع وانفع واجل قدرا وارفع وسئلت عنهما" أي عن أطراف
أبي مسعود وأطراف المزي "في وقت فقلت: بينهما بون" بفتح
الموحدة وتضم مسافة ما بين الشيئين "كثير بلا مراء" بلا ممارة
ولا جدال "وأشبه شرج" بالشين المعجمة مفتوحة فراء ساكنة فجيم
"شرجا لو أن أسيمرا" بالسين المهملة قال الزمخشري في مستقصى
الأمثال شرج اسم موضع والأسمير تصغير الأسمر جمع سمرة قاله
لقيم بن لقمان المادي حين أوقد له أبوه هذا الشجر في أخدود
حفره على طريقه أراد سقوطه فيه وهلاكه حسدا له ففطن له لما لم
ير السمر في مكانه يضرب في تشابه الشيئين وبينها أدى تخالف
"وتكافأت" المكافأة المساواة "الغواني" بالغين المعجمة جمع
غانية في القاموس الغنية المرأة التي تطلب ولا تطلب والغنية
بحسنها عن الزينة أو التي غنيت ببيت أبوها ولم يقع عليها سباء
أو الشابة العفيفة ذات زوج أو لا "لو أصبى" وفيه أصبته وتصبته
شاقته إلى الصبا فحن إليها "غيره عزه" بفتح المهملة وتشديد
الزاي وهي لغة بنت الظبية والمراد هنا المرأة التي أصبت
"كثيرا" وشبب بها في أشعاره وقصته معروفة وهو بصيغة تصغير
كثير.
* * *
(1/210)
مسألة: 20 [في بيان المراد بصحة الإسناد
وحسنه]
"المراد بصحة الإسناد وحسنه" وضعفه اعلم أن "من أساليب أهل
الحديث أن يحكوا بالصحة والحسن والضعف على الإسناد دون متن
الحديث فيقولون إسناد صحيح دون حديث صحيح ونحو ذلك" أي حسن أو
ضعيف "لأنه قد يصح الإسناد لثقة رجاله ولا يصح الحديث لشذوذ أو
علة كما سيأتي في الشاذ والمعلل وهذا كثير ما يقع في كلام
الدارقطني والحاكم" والحاصل أنه لا تلازم بين الإسناد والمتن
إذ قد يصح السند أو يحسن لاستجماع شرائطهما ولا يصح المتن
لشذوذ أو علة وقد لا يصح السند ويصح المتن من طريق أخرى.
"قال ابن الصلاح: غير أن المصنف المعتمد" أي الذي هو عمدة
وقدوة "منهم" أي من أهل الحديث "إذا اقتصر على قوله إنه صحيح
الإسناد ولم يذكر له علة ولم يقدح فيه فالظاهر منه الحكم له
بأنه" أي متن الحديث "صحيح في نفسه لأن عدم العلة هو الأصل
والظاهر" قال عليه الحافظ ابن حجر قلت: لا نسلم أن عدم العلة
هو الأصل إذ لو كان هو الأصل ما اشترط عدمه في شرط الصحيح ماذا
كان قولهم صحيح الإسناد يحتمل آن يكون مع وجود علة لم يتحقق
عدم العلة فكيف تحكم له بالصحة وقوله عن المصنف المعتمد إذا
اقتصر إلى آخره يوهم أن التفرقة التي فرقها أولا تختص بغير
المعتمد وهو كلام ينبو عن السمع لان المعتمد هو قول المعتمد
وغير المعتمد لا يعتمد.
والذي يظهر لي أن الصواب هو التفرقة بين من يفرق في وصف الحديث
بالصحة بين التقييد والإطلاق وبين من لا يفرق فمن عرف من حاله
بالاستقراء التفرقة يحكم له بمقتضى ذلك ويحمل إطلاقه على
الإسناد والمتن معا وقييده على الإسناد فقط ومن عرف من حاله
انه لا يصف الحديث دائما أو غالبا إلا بالتقييد فيحتمل أن يقال
في
(1/211)
حقه ما قاله المصنف آخرا والله أعلم ومراده
بالإطلاق عدم ذكر السلامة بعد وصفه بالصحة وبالتقييد ذكرها وهو
كلام متجه.
"قال زين الدين: وكذلك إذا اقتصر على قوله انه حسن الإسناد ولم
يتعقبه بضعف قلت: هذا الكلام" من الشيخين "متجه لأن الحفاظ قد
يذكرون ذلك لعدم العلم ببراءة الحديث من العلة لا لعلمهم بوجود
علة" غذ لو علموا بوجودها ما جاز السكوت عن الإعلال "ويصرحون
لهذا كثيرا فيقول أحدهم هذا حديث صحيح الإسناد ولا أعلم له" أي
للمتن الدال عليه ذكر الإسناد ولا يصح جعل الضمير للإسناد "علة
على أن الأصوليين والفقهاء وكثيرا منهم" أي من المحدثين
"يقبلون الحديث المعل كما سيأتي" قد عرفت مما سبق أنه لا بد في
الصحيح من عدم العلة أو الشذوذ كما ذكر في رسمه عند المحدثين
وأنه لا يشترط فقد العلة عند الفقهاء إلا إذا كانت قادحة فراجع
ما قدمناه ثم القبول له لا يلزم منه أنه صحيح فإنهم يقبلون
الحسن كما قال زين الدين: في ألفيته:
والفقهاء كلهم تستعمله ... والعلماء الجل منهم يقبله
أي: الحسن.
* *
(1/212)
|