توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار مسألة: 41 [في بيان المعل, وأقسامه, وحكمه]
من أنواع علوم الحديث "المعل هو الذي يسمى عندهم المعلل
والمعلول" وهذا على خلاف قياس اللغة كما يأتي.
"قال زين الدين: ويسمى الحديث الذي شملته علة معللا ولا يسمى
معلولا" فإنه قال1:
وسم ما بعلة مشمول ... معللا ولا تقل معلول
"وقد وقع في عبارة كثير من أهل الحديث تسميته بالمعلول وذلك
موجود في كلام الترمذي وابن عدي2 والدارقطني وأبي يعلي الخليلي
والحاكم وغيرهم قال ابن الصلاح: وذلك منهم ومن الفقهاء في
قولهم في باب القياس العلة والمعلول مرذول عند أهل العربية
واللغة3 وقال النووي أنه لحن قال زين الدين والأجود في تسميته
المعل" قال وكذلك هو في عبارة بعضهم "وأكثر عباراتهم في الفعل
أنهم يقولون أعله فلان بكذا وقياسه معل وهو المعروف في اللغة
قال الجوهري لا أعلك الله أي لا أصابك بعلة" وفي القاموس العلة
المرض عل واعتل وأعله الله فهو معل وعليل ولا يقال معلول
والمتكلمون يستعملونها.
"وقال صاحب المحكم" وهو علي بن أحمد بن سيده اللغوي النحوي
الأندلسي أبو
__________
1 فتح المغيث 1/104/193.
2 ابن عدي هو: الإمام الحافظ الكبير أبة أحمد عبد الله بن عدي
بن محمد بن مبارك الجرجاني صاحب الكامل في الجرح والتعديل قال
الخليلي: كان عديم النظير حفظا وجلالة. مات سنة 365. له ترجمة
في: البداية والنهاية 11/283, وشذرات الذهب 3/51, والعبر
2/337.
3 علوم الحديث ص 115.
(2/20)
الحسن الضرير كان من أئمة اللغة عارفا
بالأشعار واللغة وأيام العرب وفاته سنة ثمان وخمسين وأربعمائة
"واستعمل أبو اسحق" لعله الزجاج "لفظة المعلول في المتقارب من
العروض قال والمتكلمون يستعملون لفظة المعلول في مثل هذا
كثيرا" هذا هو مقول صاحب المحكم ثم "قال وفي الجملة فلست منها
على ثقة ولا ثلج" بالمثلثة واللام مفتوحتين وبالجيم وقال في
القاموس ثلجت نفسي كنصر وفرح ثلوجا وثلجا اطمأنت انتهى "لأن
المعروف إنما هو أعله الله فهو معل اللهم إلا أن يكون على ما
ذهب إليه سيبويه من قولهم مجنون ومسلول من أنهما جاءا على جنته
ورسللته ولم يستعملا في الكلام واستفنى عنهما بأفعلت قال" أي
صاحب المحكم أو سيبويه "وإذا قالوا" أي العرب "جن وسل" بالبناء
للمفعول "فإنما يقولون" إذا أرادوا الأخبار عما وقع فيه "جعل
فيه الجنون والسل كما قالوا حزن" بالحاء المهملة والزاي من
الحزن هكذا رأيناه في التنقيح مضبوطا والذي في نكت البقاعي ما
يفيد أنه بالقاف آخره قال إنه قال ابن الصلاح: حرق الرجل كعنى
زال حق وركه وفي مختصر العين للزبيددي والحارقة عصبة متصلة بين
وابلة الفخذ والعضلة وإذا انقطعت الحارقة ولم تلتئم قيل رجل
محروق وقد حرق انتهى والوابلة بالموحدة طرف رأس العضلة والفخذ
أو طرف الكتف أو عظم في مفصل الركبة أو ما التف من عظم الفخذ
قاله في القاموس وفسل بالفاء المهملة من الفسالة يقال فسل ككرم
وعلم فسالة وفسولة والفسل الرذل الذي لا مروة له كالمفسول قاله
في القاموس.
إذا عرفت هذا عرفت أن هذا البناء إنما يكون من المتعدي ولا
تعدية هنا فجاء على خلاف القاعدة "انتهى".
وهذا من اضبط تخميني إذ اللفظ في نسخ التنقيح غير واضح ولا
متجه المعنى وهو منقول من شرح الأنفيه والزين نقله من المحكم
فينظر وفي القاموس جن بالضم جنا وجنونا واستجن بنيا للمفعول
وتجنن وتجانن وأجنه الله فهو مجنون انتهى.
وأما علله فيستعمله أهل اللغة بمعنى ألهاه عن الشيء وشغله من
تعليل الصبي بالطعام يعني فلا يقال علل الحديث بمعنى أعله فليس
بينهما مناسبة في اللغة وهو ظاهر إذ لا تلاقي بين المعنى
الاصطلاحي والمعنى اللغوي وهو المراد بالمناسبة.
"قال" أي زين الدين في تعريف العلة التي بحثنا فيها "والعلة"
في اصطلاح أئمة
(2/21)
الحديث "عبارة عن أسباب خفية غامضة طرأت"
بالهمزة "على الحديث فأثرت فيه أي قدحت في صحته" ولذا أخذوا في
رسم الصحيح أن لا يكون شاذا ولا معللا.
قلت: وكان هذا تعريف أغلبي للعلة وإلا فإنه سيأتي أنهم قد
يعلون بأشياء ظاهرة غير خفية ولا غامضة ويعلون بما لا يؤثر في
صحة الحديث ويأتي في آخر البحث تحقيق ذلك.
واعلم أن الرسم للعلة ذكره ابن الصلاح وتبعه الزين ونقله
المصنف وضقال الحافظ ابن حجر: على كلام ابن الصلاح.
قلت: هذا تحرير كلام الحاكم في علوم الحديث1 فإنه قال وإنما
يعلل الحديث من أوجه ليس للجرح فيها مدخل فإن حديث المجروح
ساقط واه وعلة الحديث تكثر في أحاديث الثقات أن يحدثوا بحديث
له علة فتخفى عليهم عملته والحجة فيه عندنا العلم والفهم
والمعرفة فعلى هذا لا يسمى الحديث المنقطع معلولا ولا الحديث
الذي في رواته مجهول أو مضعف معلولا وإنما يسمى معلولا إذا آل
أمره إلى شيء من ذلك وفي هذا رد على من زعم أن المعلول يشمل كل
مردود انتهى.
"وتدرك العلة بتفرد الراوي ومن التنبيه" بالمثناة من فوق من
نبه "على ذلك" على الإعلال بالتفرد والإشارة إليه "قوله تعالى:
{أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ}
[المؤمنون: 68] بعد قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا
الْقَوْلَ} [المؤمنون: 68] في الكشاف القول القرآن أفلم يدبروه
ليعلموا أنه الحق المبين فيصدقوا به وبمن جاء به بل أجاءهم ما
لم يأت آباءهم الأولين فلذلك أنكروه واستدعوه كقوله:
{لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ
غَافِلُونَ} [يس: 6] أو ليخافوا عند تدبر آياته وأقاصيصه مثل
ما نزل بمن قبلهم من المكذبين أم جاءهم من الأمن ما لم يأت
آباءهم حين خافوا الله فآمنوا به وبكتبه ورسله وآباؤهم إسماعيل
وأعقابه من عدنان وقحطان انتهى.
فالتنبيه بالآية على ما قاله المصنف يتم على أحد الاحتمالين
"ففيه" أي في قوله تعالي: {أَمْ جَاءَهُمْ} الآية- دليل "أن
الفطر مجبولة" مخلوقة "على الشك في الشاذ في المنكر وأن العذر"
لمن رده "بذلك شائع" وهذا في نكارة القول وشذوذه وغرابته وفي
الحديث حدثوا الناس بما تسعه عقولهم أتحبون أن يكذب الله
ورسوله2 وهو أيضا
__________
1 ص 112-113.
2 الكنز 8/293.
(2/22)
دليل على نفرة العقول عن الشاذ من الأقوال
المستغربة.
قلت: ولو أتى المصنف بالآية الثانية وهي قوله: {أَمْ لَمْ
يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} [المؤمنون:
69] بكان آتيا بما فيه الإشارة إلى نكارة المخبر والراوي وأن
عدم معرفته عذرا أيضا في عدم قبوله والتشكك في قوله وسيأتي أنه
يعل بفسق الراوي وضعفه ويصدق عليه أنه لم يعرف بالعدالة التي
هي مدار المقبول.
"ومن ذلك" أي من التنبيه والإشارة "حديث ذي اليدين" تقدم اسمه
وقصته "فإن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر ما قاله لتفرده به
حتى وافقه عليه الحاضرون" حين سألهم صلى الله عليه وسلم عن
حقيقة ما قاله ذو اليدين.
"ومخالفة غيره" غير الراوي "له" وهو عطف على قوله تفرد الراوي
وهو الثاني مما تدرك به العلة "مع قرائن تنضم إلى ذلك يهتدي
الناقد بها إلى اطلاعه على إرسال في الموصول أو وقف في المرفوع
أو دخول حديث في حديث أو وهم واهم بغير ذلك" مما ذكر "بحيث غلب
على ظنه ذلك فأمضاه" برده الحديث "وحكم به أو تردد في ذلك" فلم
يرده ولم يعلم به "فوقف وأحجم عن الحكم بصحة الحديث فإن لم
يغلب ظنه صحة الإعلال" أحسن المصنف بهذه العبارة وعدوله عن
عبارة غيره بالتعليل "بذلك فظاهر الحديث المعل السلامة من
العلة" أي من وجودها فيه "حيث تثبت من طريق مقبولة" تنتهض على
صحة الإعلال.
"قال الخطيب1 السبيل إلى معرفة علة الحديث أن تجمع بين طرقه
وتنظر في اختلاف رواته وتعتبر" أي الخطأ والصواب "بمكانهم من
الحفظ" وقد مثله ابن الصلاح والزين بحديث أنس ابن مالك في
البسملة وهو مثال العلة في المتن وبحديث كفارة المجلس في علة
الإسناد2 وقد أطال الكلام في ذلك الحافظ ابن حجر وأتى ببيان
طرق الحديثين بما فيه طول فمن أراد التوسع طالع ذلك.
"وقال ابن المديني الباب إذا لم تجتمع طرقه لم يتبين خطاؤه"
ضقال الحافظ ابن حجر: وهذا الفن يعني التعليل أغمض أنواع
الحديث وأدقها مسلكا ولا يقوم به إلا من منحه الله فهما عاليا
واطلاعا حاويا وإدراك المراتب الرواة ومعرفة شافية ولم يتكلم
فيه إلا إفراد أئمة هذا الشأن وحذاقهم وإليهم المرجع في ذلك
لما جعل الله عز وجل
__________
1 علوم الحديث ص 117.
2 المصدر السابق.
(2/23)
فيهم من معرفة ذلك والاطلاع على غوامضه دون
غيرهم ممن لم يمارس ذلك. انتهى.
ثم أخذ في تقسيم محلات العلة فقال "والعلة تكون في الإسناد"
كالوصل في المرسل والرفع في الموقوف "وهو الأغلب و" قد تكون
"في المتن" باختلاف ألفاظه "ثم العلة في الإسناد" تنقسم
باعتبار القدح فإنها "قد تقدح في المتن كالإعلال بالإرسال وقد
لا تقدح" فيه "كالإعلال بوهم الراوي في اسم أحد رجال الإسناد
مع ثبوت الإسناد عن الثقات على الصواب من غير رواية ذلك"
الراوي "الذي وهم" قال البقاعي الكلام الضابط أن يقال الحديث
لا يخلو إما أن يكون فردا أوله أكثر من إسناد فالأول يلزم من
القدح في سنده القدح في متنه وبالعكس والثاني لا يلزم من القدح
في أحدهما القدح في الآخر.
وقال الحافظ ابن حجر: قلت: إذا وقعت العلة في الإسناد فقد تقدح
وقد لا تقدح وإذا قدحت فقد تخصه وقد تستلزم القدح في المتن
وكذا القول في المتن سواء فالأقسام على هذا ستة.
فمثال ما وقعت العلة في الإسناد ولم تقدح مطلقا ما يوجد مثلا
مدلسا بالعنعنة فإن ذلك يوجب التوقف عن قبوله فإذا وجد من طريق
أخرى قد صرح فيها بالسماع تبين أن العلة غير قادحة وكذا إذا
اختلف في الإسناد على بعض رواته فإن ظاهر ذلك يوجب التوقف عنه
فإن أمكن الجمع بينهما على طرائق أهل الحديث بالقرائن التي تحف
الإسناد أن تلك غير قادحة.
ومثال ما وقعت العلة فيه في الإسناد ويقدح فيه دون المتن ما
مثل به المصنف يريد ابن الصلاح من إبدال روايته وهو بقسم مقلوب
المتن أليق فإن أبدل راو ضعيف براو ثقة وتبين الوهم فيه استلزم
القدح في المتن أيضا إن لم يكن له طريق أخرى صحيحة ومن أغمض
ذلك أن يكون الضعيف موافقا للثقة في اسمه ومثال ذلك ما وقع
لأبي أسامة حماد بن أسامة الكوفي أحد الثقات عن عبد الرحمن بن
يزيد بن جابر وهو من ثقات الشاميين قدم الكوفة فكتب عنه أهلها
ولم يسمع منه أبو أسامة ثم قدم بعد ذلك الكوفة عبد الرحمن بن
يزيد بن تيميم وهم من ضعفاء الشاميين فسمع منه أبو أسامه وسأله
عن اسمه فقال عبد الرحمن بن يزيد فظن أبو أسامة أنه ابن جابر
فصار يحدث عنه وينسبه من قبل نفسه فيقول حدثنا عبد الرحمن
(2/24)
بن يزيد بن جابر فوقعت المناكير في رواية
أبي أسامة عن ابن جابر وهما ثقتان فلم يفظن لذلك إلا أهل النقد
فميزوا ذلك ونصوا عليه كالبخاري وأبي حاتم وغير واحد ومثال ما
وقعت فيه العلة في المتن دون الإسناد ولا يقدح فيهما ما وقع من
اختلاف ألفاظ كثيرة من أحاديث الصحيحين إذا أمكن الجمع رد
الجميع إلى معنى واحد فإن القدح ينتفي عنهما وسنزيد ذلك أيضاحا
في النوع الرابع إن شاء الله تعالى.
ومثال ما وقعت فيه العلة في المتن واستلزمت القدح في الإسناد
ما يرويه راو بالمعنى الذي ظنه يكون خطأ والمراد بلفظ الحديث
غير ذلك فإن ذلك يستلزم القدح في الراوي فيعلل الإسناد.
ومثال ما وقعت العلة في المتن دون الإسناد ما ذكره المصنف من
أحد الألفاظ الواردة في حديث أنس وهي قوله لا يذكرون بسم الله
الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها فإن أصل الحديث في
الصحيحين بلفظ البخاري وكانوا يفتتحون بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ} ولفظ مسلم في رواية نفي الجهر وفي رواية
أخرى نفي القراءة ثم تكلم على تلك الروايات بما يطول
ذكره1.اهـ.
ولما ذكر زين الدين في منظومته ما أفاده قوله2:
وكثر التعليل بالأرسال ... للوصل لا يقوي على اتصال
وقد يعلون بنوع قدح ... فسق وغفلة ونوع جرح
قال مشيرا إلى ذلك "وقد يعلون" أي: أئمة الحديث "الحديث بأشياء
لست غامضة كالإرسال وفسق الراوي وضعفه وذلك موجود في كتب
العلل" وقد قدمنا لك أن التعريف للعلة أغلبي "ولهذا اشتملت كتب
علل الحديث على جمع طرقه" ليعرف الرواة الإرسال والوصل والوقف
والرفع.
"وبعضهم" أي بعض أئمة الحديث هكذا أجمله ابن الصلاح وبينه
الزين بأنه أبو يعلي الخليلي كما ذكره المصنف "يعل الحديث بما
لا يقدح في صحته كإسناد منقطع أقوى من إسناد موصول" قال الزين
كالحديث الذي وصله الثقةالضابط فأرسله غيره "حتى عد" ذلك البعض
"من أنواع المعل ما هو صحيح معل" فلا منافاة عنده بين الصحة
__________
1 البخاري في: الأذان: ب 89. وأبو داود في: الصلاة ب 122.
والترمذي في: المواقيت: ب 68, واحمد 3/101.
2 فتح المغيث 1/112- 205.
(2/25)
والإعلال فعلى هذا فإنه يحذف قيد ولا ولا
علة من رسم الصحيح "كما أن من الحديث ما هو صحيح شاذ" كأن
المراد عند ذلك البعض فيحذف أيضا قيد ولا شاذ من الرسم "وهو
مذهب أبي يعلي الخليلي في الأمرين" وعبارة الزين وقائل ذلك هو
أبو يعلي الخليلي قال في كتاب الإرشاد إن الأحاديث على أقسام
كثيرة صحيح متفق عليه وصحيح معلول وصحيح مختلف فيه ثم ذكر ما
مثل به الخليلي الصحيح المعل وأغرب ما ذكر من الإعلال جعل
النسخ علة كما فعله الترمذي وأشار إليه زين الدين بقوله1:
والنسخ سمى الترمذي علة ... فإن يرد في عمل فاجنح له
وقال غنه من زوائده على ابن الصلاح وقول الزين فإن يرد بضم حرف
المضارعة من الإرادة أي إن يرد الترمذي أن النسخ علة في العمل
فهو صحيح ولهذا قال فاجنح من الجنوح أي من إليه وإن أراد علة
في صحة نقله فلا لأن في الصحيح أحاديث منسوخة كثيرة انتهى.
* * *
__________
1 فتح المغيث 1/113/208.
(2/26)
مسألة: 42 [في حقيقة المضطرب وأنواعه
وحكمه]
من أنواع علوم الحديث المضطرب يحتمل أنه مأخوذ من اضطرب بمعنى
اختل أو من اضطرب القوم إذا اختلفت كلمتهم وحقيقته "هو ما
اختلف كلام راويه فيه" المراد جنس الراوي الواحد فلا يشمل
اختلاف الأكثر لأنه سيذكره المصنف وقال زين الدين1:
مضطرب الحديث ما قد رودا ... مختلفا من واحد فأزيدا
"فرواه مرة على وجه ومرة على وجه مخالف له وهكذا إذا اضطرب فيه
راويان فأكثر فرواه كل واحد على وجه مخالف للآخر".
قال الحافظ العلائي: ذا الفن أغمض أنواع الحديث وأدقها مسلكا
ولا يقوم به إلا من منحه الله فهما غامضا واطلاعا حاويا وإدراك
كالمراتب الرواة ومعرفة ثاقبة. انتهى.
قلت: هو كما قاله الحافظ في بحث الإعلال والبحثان متقاربان جدا
والاضطراب نوع من الإعلال.
ثم أشار إلى تقسيمه إلى قسمين فقال: "وقد يكون" الاضطراب "في
المتن" في ألفاظه "وفي السند" كذا قاله ابن الصلاح إلا أنه زاد
بعد هذا وقد يكون من راو واحد وقد يكون من رواة. انتهى.
ونقل الحافظ ابن حجر عن الحافظ العلائي أنه قال:
الاختلاف تارة يكون في المتن وتارة في السند فالذي في السند
يتنوع أنواعا:
أحدها: تعارض الوصل والإرسال.
__________
1 فتح المغيث 1/113/209.
(2/27)
ثانيها: تعارض الوقف والرفع.
ثالثها: تعارض الاتصال والانقطاع.
رابعها: أن يروي الحديث قوم مثلا عن رجل عن تابعي عن صحابي
ويرويه ذلك الرجل عن تابعي آخر عن الصحابي بعينه.
خامسها: زيادة رجل في أحد الإسنادين.
سادسها: الاختلاف في اسم الراوي ونسبه إذا كان مترددا بين ثقة
وضعيف.
فأما الثلاثة الأول: فقد تقدم القوم فيها وأن المختلفين إما أن
يكونا متماثلين في الحفظ والإتقان أم لا فالمتماثلون إما أن
يكون عددهم من الجانبين سواء أم لا فإن استوى مع استواء
أوصافهم وجب التوقف حتى يترجح أحد الفريقين بقرينة من القرائن
فمتى اعتضدت أحدى الطريقين بشيء من وجوه الترجيح حكم بها ووجوه
الترجيح كثيرة لا تنحصر ولا ضابط لها بالنسبة إلى جميع
الأحاديث بل كل حديث يقوم به مرجح خاص لا يخفي على الممارس
الفظن الذي أكثر من جمع الطرق ولهذا كان مجال النظر في هذا
أكثر من غيره وإن كان أحد المتماثلين أكثر عددا فالحكم لهم على
قول الأكثر وقد ذهب قوم إلى تعليله وإن كان من وصل أو رفع أكثر
والصحيح خلاف ذلك وأما غير المتماثلين فإما أن يتساووا في
الثقة أولا فإنتساووا في الثقة فإن كان من وصل أو رفع أحفظ
فالحكم له ولا يلتفت إلى تعليل من علله بذلك أيضا وإن كان
العكس فالحكم للمرسل والواقف وإن لم يتساووا في الثقة فالحكم
للثقة ولا يلتفت إلى تعليل م علله برواية غير الثقة إذا خالف.
هذا جملة تقسيم الاختلاف وبقي إذا كان رجال أحد الإسنادين أحفظ
والآخر أكثر فقد اختلف المتقدمون فيه فمنهم من يرى قول الأحفظ
أولى لإتقانه وضبطه ومنهم من يرى قول الأكثر أولى لبعدهم من
الوهم ولا شك أن الاحتمال من الجهتين منقدح قوي لكن ذلك إذا لم
ينته عدد الأكثر إلى درجة قوية جدا بحيث يبعد اجتماعهم على
الغلط أو يتعذر أو يمتنع عادة فإن نسبة الغلط إلى الواحد وإن
كان أرجح من أؤلئك في الحفظ والإتقان أقرب من نسبته إلى الجمع
الكثير.
ثم ذكر أمثلة من ذلك وقال:
وأما النوع الرابع: وهو الاختلاف في السند- فلا يخلو إما أن
يكون الرجلان ثقتين أم لا فإن كانا ثقتين فلا يضر الاختلاف عند
الأكثر لقيام الحجة بكل منهما فكيفما
(2/28)
دار الإسناد كان عن ثقة وربما احتمل أن
يكون الراوي سمعه منها جميعا وقد وجد ذلك في كثير من الحديث
لكن ذلك يقوى حيث يكون الراوي ممن له اعتناء بالطلب وتكثير
الطرق وأما ما ذهب إليه كثير من أهل الحديث من أن الاختلاف
دليل على عدم ضبطه في الجملة فيضر ذلك لو كانت رواته ثقات إلا
أن يقوم دليل أنه عند الراوي المختلف عليه عنهما جميعا أو
بالطريقين جميعا فهو رأي فيه ضعف لأنه كيفما دار عن ثقة وفي
الصحيحين من ذلك جملة أحاديث لكن لا بد في الحكم بصحة ذلك من
سلامته من أن يكون غلطا أو شاذا.
وأما إذا كان في أحد الروايتين المختلف فيهما ضعيفا لا يحتج به
فههنا مجال للنظر وتكون تلك الطريق التي سمى الضعيف فيها وحصل
الحديث عنه لا لوقف أو إرسال بالنسبة إلى الطريق الأخرى فكل ما
ذكرنا هناك من الترجيحات يجيء هنا.
ويمكن أن يقال في مثل هذا يحتمل أن يكون الراوي إذا كان مكثرا
قد سمعه منهما أيضا كما تقدم.
فإن قيل: إذا كان الحديث عنده عن الثقة فلم يرويه عن الضعيف.
فالجواب أنه يحتمل أنه لم يطلع على ضعف شيخه أو اطلع عليه لكن
ذكره اعتمادا علىصحة الحديث عنده من الجهة الأخرى.
وأما النوع الخامس وهو زيادة الرجل بين الرجلين في السند
فسيأتي تفصيله في النوع السابع والثلاثين إن شاء الله تعالى.
وأما النوع السادس وهو الاختلاف في اسم الراوي ونسبه فهو على
أقسام أربعة:
الأول: أن يبهم من طريق ويسمى من أخرى فالظاهر أن هذا لا تعارض
فيه لأنه يكون المبهم في إحدى الروايتين هو المعين في الأخرى
وعلى تقدير أن يكون غيره فلا تضر رواية من سماه وعرفه إذا كان
ثقة رواية من أبهمه.
القسم الثاني: أن يكون الاختلاف في العبارة فقط والمعنى بها في
الكل واحج فإن مثل هذه لا يعد اختلافا أيضا ولا يضر إذا كان
الراوي ثقة.
القسم الثالث: أنيقع التصريح باسم الراوي ونسبه لكن مع
الاختلاف في سياق ذلك ثم ذكر مثاله.
القسم الرابع: أن يقع التصريح به من غير اختلاف لكن يكون ذلك
من متفقين أحدهما ثقة والآخر ضعيف أو أحدهما يستلزم الاتصال
والآخر الإرسال كما قدمنا
(2/29)
ذلك ثم سرد المثال وأطال فيه المقال.
ثم قال فهذه الأنواع الستة التي يقع بها التعليل وقدمين كيفية
التصرف فيها وما عداها إن وجد لم يخف إلحاقه بها.
وأما الاختلاف الذي يقع في المتن فقد أعل به المحدثون والفقهاء
كثيرا من الأحاديث وأمثلة ذلك كثيرة وللتحقيق في ذلك مجال طويل
يستدعي تقسيما وبيان أمثلة لتصير ذلك قاعدة يرجع إليها.
فنقول: إذا اختلفت مخارج الحديث وتباعدت ألفاظه أو كان سياق
الحديث في واقعة يظهر تعددها فالذي يتعين القول به أن يجعلا
حديثين مستقلين.
مثال الأول: حديث أبي هريرة في السهو يوم ذي اليدين وأن النبي
صلى الله عليه وسلم قام وسلم من ركعتين ثم قام إلى خشية في
المسجد فاتكا عليها فذكره ذو اليدين بسهوه صلى الله عليه وآله
وسلم فسأل صلى الله عليه وسلم الصحابة فقالوا له نعم فصلى
الركعتين اللتين سها عنهما1 وحديث عمران بن حصين أن النبي صلى
الله عليه وآله سلم صلى العصر فسلم على ثلاث ثم دخل صلى الله
عليه وسلم منزله فجاء الخرباق وكان في يديه طول فناداه صلى
الله عليه وسلم فأخبره بصنعه فخرج صلى الله عليه وسلم وهو
غضبان فسأل الناس فأخبروه فأتم صلاته وحديث معاوية بن خديج أن
النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم المغرب فسلم من ركعتين ثم
انصرف فأدركه طلحة بن عبيد الله فأخبره بصنعه فرجع صلى الله
عليه وسلم فأتم صلاته فإن هذه الأحاديث الثلاثة ليس الواقعة
فيها واحدة بل سياقها يشعر بتعددها.
وقد غلط بعضهم فجعل حديث أبي هريرة وعمران ابن حصين قصة واحدة
ورام الجمع بينهما على نوع من التعسف الذي نستنكره وسببه
الاعتماد على قول من قال إن ذا اليدين اسمه الخرباق وعلى تقدير
ثبوت أنه هو فلا مانع أن يقع ذلك له في واقعتين ولا سيما أن في
حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم سلم من ركعتين وفي حديث
عمران سلم من ثلاث إلى غير ذلك من الاختلاف المشعر بكونهما
واقعتين وكذا حديث معاوية بن خديج ظاهر أنها قصة ثالثة لأنه
ذكر أنها المغرب وأن المنبه على
__________
1 البخاري في: الصلاة: ب 88, والسهو: ب 5. وأبو داود: ب 189,
والنسائي في: السهو: ب 22, وأحمد 2/234.
(2/30)
السهو طلحة بن عبيد الله.
ومثال الثاني حديث علي بن رباح قال سمعت فضالة بن عبيد يقول
أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر بقلادة وفيها خرز
وذهب وهي من المغنم تباع فأمر صلى الله عليه وسلم بالذهب الذي
في القلادة فنزع وحده ثم قال صلى الله عليه وسلم: "الذهب
بالذهب وزنا بوزن" 1 وحديث حنش الصنعاني عن فضالة قال اشتريت
يوم خيبر قلادة فيها ذهب باثني عشر دينارا فيها أكثر من اثني
عشر دينارا فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لا
تباع حتى تفصل وفي لفظه له كنا نبايع يوم خيبر اليهود الوقية
الذهب بالدينارين والثلاثة فقال صلى الله عليه وسلم: "لا
تبيعوا الذهب إلا وزنا بوزن" 2 وفي رواية أتى رسول الله صلى
الله عليه وسلم غام خيبر بقلادة فيها خرز وذهب ابتاعها رجل
بسبعة دنانير أو تسعة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا حتى
يميز بينه وبينها" الحديث وفي رواية لحنش كنا مع فضالة في غزوة
فصارت لي ولأصحابي قلادة بها ذهب وجوهر فأردت أن أشتريها فقال
لي فضالة انزع ذهبها واجعله في كفة واجعل ذهبك في كفة فأنى
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من كان يؤمن بالله
واليوم الآخر فلا يأخذن إلا مثلا بمثل" 3 وهذه الروايات كلها
في صحيح مسلم فقال البيهقي وغيره إن هذه محمولة على أنها كانت
بيوعا شهدها فضالة فأداها كلها وحنش أداها متفرقة.
قلت: بل هما حديثان لا أكثر رواهما جميعا حنش بألفاظ مختلفة
وروى علي بن رباح أحدهما وبيان ذلك أن حديث علي بن رباح شبيه
برواية حنش الثالثة وليست بينهما مخالفة إلا في تعيين وزنها في
رواية حنش دون رواية الآخر فهذا حديث واحد اتفقا فيه على ذكر
القلادة وأنها مشتملة على خرز وذهب وأن النبي صلى الله عليه
وسلم منع من بيعها حتى يميز الذهب من غيره وأما رواية حنش
الأولى فليس فيها إلا ذكر المفاضلة في كون القلادة كان فيها
أكثر من اثني عشر والمتن كان فيها اثني عشر فنهاهم عن ذلك
وروايته الثانية شبيهة بذلك إلا أنها عامة في النهي عن بيع
الذهب متفاضلا وتلك فيها بيان القصة فقط والآخرة شبيهة
بالثانية والقصة التي وقعت فيها
__________
1 مسلم في: المساقاة: ب 17. حديث 89. وأحمد 2/262, 6/19.
2 مسلم في: المساقاة: ب 17 حديث 91. وأبو داود 3353. والبيهقي
5/293.
3 مسلم في: المساقاة: ب 17 حديث 92.
(2/31)
إنما هي للتابعي لا للصحابي فوضح أنهما
حديثان لا أكثر والله أعلم.
ثم إن هذا كله لا ينافي المقصود من الحديث فإن الروايات كلها
متفقة على المنع من بيع الذهب بالذهب ومعه شيء غيره فلو لم
يمكن الجمع لما ضره الاختلاف والله أعلم.
فهذان مثالان واضحان فيما يمكن تعدد الواقعة فيه وفيما يبعد
الجمع فأما إذا تعذر الجمع بين الروايات بأن لا يكون المخرج
واحدا فلا ينبغي سلوك تلك الطريق والمالمتعسفة مثاله حديث أبي
هريرة أيضا في قصة ذي اليدين فإن في بعض طريقه أن ذلك كان في
صلاة الظهر وفي أخرى في صلاة العصر وفي أكثر الرويات قال في
إحدى صلاتي العشي إما الظهر أو العصر فمن زعم أن رواية أبي
هريرة لقصة ذي اليدين كانت متعددة وقعت مرة في الظهر ومرة في
العصر لأجل هذا الاختلاف ارتكب طريقا وعرا بل هي قصة واحدة
وأدل دليل على ذلك الرواية التي فيها التردد هل هي الظهر
أوالعصر فإنها مشعرة بأن الراوي كان يشك في أيهما ففي بعض
الأحيان كان يغلب على ظنه أحدهما فيجزم به فلذا وقع في بعض
طرقه ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للناس ما يقول ذو
اليدين قالو صدق وفي أخرى أكما يقول ذو اليدين قالوا نعم وفي
أخرى فأوموا أن نعم فالغالب أن هذا الاختلاف من الرواة في
التعبير عن صورة الجواب ولا يلزم ن ذلك تعدد الواقعة قال
العلائي وهذه الطريقة التي سلكها الشيخ محي الدين توصلا إلى
تصحيح كل من الروايات صونا للرواة الثقات أن يتوجه الغلط إلى
بعضهم.
ثم ذكر أمثلة من الأحاديث حملها الشيخ على تعدد الواقعة
والأقرب خلافه ثم قال ومما يمكن فيه احتمال تعدد الواقعة ويمكن
أيضا الجمع بين الروايات ولو اختلفت المخارج ما يكون الحمل فيه
على طريق من المجاز كما في حديث أن عمر نذر باعتكاف ليله في
الجاهلية فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فأمره النبي صلى الله
عليه وسلم أن يفي بنذره وفي رواية اعتكاف يوم وكلاهما في
الصحيح والتحقيق أنه نذر يوما بليلته وأمره صلى الله عليه وسلم
بالوفاء بنذره فعبر بعض الرواية عنه بيوم وأراد بليلته وبعضهم
بليلة وأراد بيومها والتعبير بكل واحد من هذين عن المجموع من
المجاز الشائع الكثير الاستعمال أو بتقييد في الأطلاق كما في
حديث يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه في
النهي عن مس الذكر باليمين فإن بعض الرواة عن يحيى أطلق وبعضهم
قيد بحالة البول
(2/32)
أو بتخصيص العام كما في حديث مالك عن نافع
عن ابن عمر في زكاة الفطر وقوله فيه من المسلمين1 أو بتفسير
المبهم وتبين المجمل كما في حديث وائل بن حجر في قصة صاحب
النسعة2 فإن في رواية أبي هريرة عند الترمذي إبهام كيفية القتل
وفي حديث وائل عند مسلم بيانها3.
وأما ما يتعذر فيه احتمال التعدد ويبعد فيه أيضا الجمع بين
الروايات فهو على قسمين أحدهما ولا تتضمن المخالفة بين
الروايات اختلاف حكم شرعي فلا يقدح ذلك في الحديث وتحمل تلك
المخالفات على خلل وقع لبعض الرواة إذا رووه بالمعنى متصرفين
بما يخرجه عن أصله.
مثاله: حديث جابر في وفاء دين أبيه فإنه مخرج في الصحيح عن عدة
طرق وفي سياقه تباين لا يتأنى الجمع فيهه إلا بتكلف شديد لأن
جميع الروايات عبارة عن دين كان على أبيه ليهودي فأوفاهم ممن
نخلة ذلك العام ففي رواية وهب بن كيسان أنه كان ثلاثين وسقا
وأن النبي صلى الله عليه وسلم كلمه في الصبر فابى فدخل النبي
صلى الله عليه وسلم النخل فمشى فيها ثم قال جابر حد له فحدله
بعد ما رجع النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي حديث عبد الله بن كعب عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم
سألهم أن يقبلوا تمر الحائط ويحللوه فأبوا وفي رواية الشعبي عن
جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "اذهب فبيدر كل تمر
على ناحية" وأنه صلى الله عليه وسلم طاف في أعظمها بيدرا ثم
جلس صلى الله عليه وسلم فقال: "ادع أصحابك", فما زال يكبل لهم
حق أدى الله أمانة والدي وفي آخره: "فسلم الله البيادر كلها" 4
ففي هذه الروايات اختلاف شديد كما ترى وفي حملها على التعدد
بعد وتكلف والأقرب ما أشرنا إليه وأن المقصود في جميعها البركة
في التمر بسبب النبي صلى الله عليه وسلم وأن الاختلاف في
ألفاظها وقع من بعض الرواة.
وكذا حديث جابر في قصة الجمل فإن الروايات اختلفت في قدو الثمن
وفي الاشتراط وعدمه وقد ذكره البخاري مبينا في موضوعين من
صحيحه وقال إن قول
__________
1 سبق تخريجه.
2 النسعة: بالكسر سير مضفور يجعل زماما للبعير وغيره وقد تنسج
عريضة تجعل على صدر البعير النهاية 5/48.
3 مسلم فب: القسامة: ب 10. حديث 32.
4 البخاري 4/17, 5/123. والنسائي 8/18. وشرح السنة 13/303.
(2/33)
الشعبي بوقية أرجح وأن الاشتراط أصح وهو
ذهاب منه إلى ترجيح بعض الروايات وأما دعوى التعدد فغير ممكن.
ومن ذلك حديث عائشة في ضياع العقد ونزول آية التيمم ففي رواية
القاسم أن المكان كان البيداء أو ذات الجيش وفيها انقطع عقد لي
وفيها أنهم باتوا على غير ماء وفيها فبعثنا البعير الذي كنت
عليه فوجدنا العقد تحته وفي رواية عروة أنها سقطت في الأبواء
وفي رواية في مكان يقال له الصلصل وفيه إن القلادة استعارتها
عائشة من أسماء وفيها انسلت القلادة من عنقها وفيه أن النبي
صلى الله عليه وسلم أرسل رجلين يلتمسانها فوجداها فحضرت الصلاة
فلم يدريا كيف يصنعان وفي رواية أرسل ناسا وعين منهم أسيد بن
حضير وفيها أن الذين أرسلوا حضرتهم الصلاة فصلوا على غير
وضوء1.
قال ابن عبد البر ليس اختلاف النقلة في العقد ولا في القلادة
ولا في الموضع الذي سقط فيه ذلك لعائشة ولا كونه لعائشة أو
لأسماء مما يقدح في الحديث ول يوهنه لأن المعنى المراد من
الحديث والمقصود هو نزول آية التيمم ولم يختلفوا في ذلك.
قلت: وكلامه يشعر بتعذر الجمع بين الروايتين وليس كذلك بل
الجمع بينهما ممكن بالتعبير بالقلادة عن العقد وبأن إضافتها
إلى أسماء إضافة ملك وإلى عائشة إضافة يد وبأن انسلالها كان
بسبب انقطاعها وبأن الإرسال في طلبها كان في ابتداء الحال
ووجدانها كان في آخره حين بعثوا البعير وأما قوله إن الذين
ذهبوا في طلبها هم الذين وجدوها فلا بعد فيه أيضا لاحتمال أن
يكون وجدانهم إياها بعد رجوعهم.
وإذا تقرر ذلك كانت القصة واحدة وليس فيها مخالفة إلا أن في
رواية عروة زيادة على ما في رواية القاسم من ذكر صلاة
المبعوثين في طلبها بغير وضوء ولا اختلاف ولا تعارض فيها.
ومن الأحاديث التي رواها بعض الرواة بالمعنى الذي وقع له وحصل
من ذلك الغلط لبعض الفقهاء بسببه ما رواه العلاء بن عبد الرحمن
عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي
__________
1 البخاري في: التيمم: ب 1. ومسلم في: التوبة: حديث 56. وأحمد
4/264.
(2/34)
صلى الله عليه وسلم قال: "كل صلاة لا يقرأ
فيها بأم القرآن فهي خداج" 1 الحديث2 ورواه عنه سفيان بن عيينه
وإسماعيل بن جعفر وروح ابن القاسم وعبد العزيز الدراوردي
وطائفة من أصحابه وهكذا رواه عنه شعبة في رواة حفاظ أصحابه
وانفرد وهب بن جرير عن شعبة بلفظ: "لا تجزى صلاة لا يقرأ فيه
بفاتحة الكتاب" 3 حتى زعم بعضهم أن هذه الرواية مفسرة للخداع
الذي في الحديث وأنه عدم الأجزاء وهذا لا يتأتى له إلا لو كان
مخرج الحديث مختلفا فأما والسند متحد فلا ريب أنه حديث واحد
اختلف لفظه فتكون رواية وهب بن جرير شاذة بالنسبة إلى ألفاظها
بقية الرواة لا تفاقهم دونه على اللفظ الأول لأنه يبعد كل
البعد أن يكون أبو هريرة سمعه باللفظين ثم نقل عنه ذلك.
ومن ذلك حديث الواهبة نفسها فإن مدارهه علىأبي حازم عن سهل بن
سعد واختلف الرواة على ابي حازم فقال مالك وجماعة معه "فقد
زوجتكما" وقال ابن عيينة "أنكحتكما" وقال ابن أبي حازم ويعقوب
بن عبد الرحمن "ملكتكها" وقال الثوري "أملكتكها" وقال أبو غسان
أمكنا كها أو أكثر هذه الروايات في الصحيحين فمن البعيد جدا أن
يكون سهل بن سعد شهد هذه القصة من أولها إلى آخرها مرارا عديدة
في كل مرة لفظ غير الذي سمعه في الأخرى بل ربما يعلم ذلك بطريق
القطع وأيضا فالمقطوع به أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل
هذه الألفاظ كلها في مرة واحدة تلك الساعة فلم يبق إلا أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال لفظا منها وعبر عنه بقية الرواة
بالمعنى والله أعلم.
ثم إن الاختلاف في الإسناد إذا كان بين ثقات متساوين وتعذر
الترجيح فهو في الحقيقة لا يضر في قبول الحديث والحكم بصحته
لأنه عن ثقة في الجملة ولكن يضر ذلك في الأصحية عند التعارض
مثلا فحديث لم يختلف فيه عن راويه أصلا أصح من حديث اختلف فيه
في الجملة وإن كان ذلك الاختلاف في نفسه يرجع إلى من لا يلتزم
القدح انتهى ما نقله الحافظ ابن حجر عن الحافظ العلائي مع
اختصار لبعض الأمثلة وهو وإن طال نافع جدا سما مع اختصار
المصنف للمقال وهو مفتقر إلى الإطالة.
__________
1 فهي خداج: الخداج النقصان يقال: خدجت الناقة إذا ألقت ولدها
قبل أوانه وإن كان تام الخلق. وأخدجته إذا ولدته ناقص الخلق
وإن كان لتمام الحمل. والخداج: مصدر على حذف المضااف: أي ذات
خداج النهاية 2/12.
2 ابن ماجة 840, 841. وأحمد 2/457.
3 ابن خزيمة 490, وابن عدي 3/991.
(2/35)
وذكرنا ما سردنا من الأمثلة فتكون طريقا
تسلك أمثالها في أمثاله.
ولما ذكر المصنف أنه ما اختلف فيه كلام راويه أو رواته أبان
أنه مقيد بقيد التساوي فقال "وإنما يسمي مضطربا إذا تساوت
الروايتان المختلفان في الصحة" ولا يخفى أنه كان ينبغي ذكر هذا
القيد في رسم المضطرب "وإن ترجحت إحداهما لم يطلق عليه اسم
الاضطراب على الراجح" إذ الذي عارضه كالعدم لمرجوحيته "والحكم
حينئذ له" أي للراجح وأما حكم الاضطراب فأشار إليه بقوله
"والاضطراب يوجب ضعف الحديث لإشعاره بعد ضبط رواته" فإن كان
واحدا فظاهر وإن كان أكثر من واحد فقد اشترك الكل في عدم الضبط
وإنما يزول عن البعض بالترجيح.
"ومن أمثلة مضطرب المتن حديث فاطمة بنت قيس المرفوع" قالت سألت
أو سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الزكاة فقال: "إن في المال
لحقا سوى الزكاة" رواه الترمذي 1 هكذا" بإثبات حق في المال غير
الزكاة "ورواه ابن ماجه2 عنها" عن فاطمة بن قيس بلفظ "ليس في
المال حتى سوى الزكاة وإسناده واحد عن شريك عن أبي حمزة عن
الشعبي عنها" قال الزين فهذا الاضطراب لا يحتمل التأويل وقول
البيهقي إنه لا يحفظ لهذا اللفظ الثاني إسناد معارض بما رواه
ابن ماجه. انتهى.
وقال البقاعي هذا لا يصح أن يكون مثالا لمضطرب المتن أما أولا
فلان أبا حمزة شيخ شريك ضيعف فهو مردود من قبل ضعف راويه لا من
قبل اضطرابه وأما ثانيا فإنه يمكن تأويله بأنها روت كلا
اللفظين عنه صلى الله عليه وسلم ويكون الحق المثبت في اللفظ
الأول المراد به الحق المستحب الذي لم يجب كصدقة النفل وإكرام
الضعيف ونحو ذلك كما يقال حقك واجب علي والحق المنفي في اللفظ
الثاني هو الفرض وقوله مردود من قبل الضعف وذلك أن الشرط في
المضطرب أن يكون علة رده هو الاضطراب لا غير ولولاه لكان
صحيحا.
"ومثال الاضطراب في الإسناد ما وقع في إسناده حديث أبي هريرة
مرفوعا في السترة" للمصلى "فإن لم يجد عصا فليحفظ حظا" فإنهم
اضطربوا في اسم بعض رواته اضطرابا كثيرا" وذلك أن الحديث رواه
أبو داود وابن ماجه3 من رواية إسماعيل بن أمية
__________
1 رقم 659, 660. والدارقطني 2/125, وابن عدي 4/1328.
2 رقم 1789, والإتحاف 4/105.
3 أبو داود 689. وابن ماجة 943. وأحمد 249.
(2/36)
عن أبي عمرو بن محمد بن حريث عن جده حريث
عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى أحدكم
فليجعل شيئا تلقاء وجهه الحديث وفيه فإن لم يجد عصا ينصبها بين
يديه فليخط خطا وقد اختلفوا فيه على إسماعيل اختلافا كثيرا
فرواه بشر بن المفضل وروح ابن القاسم عنه هكذا ورواه سفيان
الثوري عنه عن أبي عمرو بن حريث عن أبيه عن أبي هريرة ورواه
حميد بن الأسود عنه عن أبي عمرو بن محمد عن عمرو بن حريث ابن
سليم عن أبي هريرة ورواه وهيب بن خالد وعبد الوارث عنه عن أبي
عمرو ابن حريث عن جده حريث ورواه ابن جريج عنه عن حريث بن عمار
عن أبي هريرة ورواه داود عليه الحارثي عنه عن أبي عمرو بن محمد
عن جده حريث ابن سليمان قال أبو زرعة الدمشقي لا نعلم أحدا
أثبته ونسبه غير داود ورواه سفيان بن عيينه عنه فاختلفت فيه
على ابن عيينة.
قال ابن المديني: عن ابن عيينة عن إسماعيل عن أبي محمد عمرو بن
حريث عن أبيه عن جده حريث رجل من بني عذرة قال سفيان لم نجد
شيئا نشد به هذا الحديث ولم يجيء إلا من هذا الوجه قال ابن
المديني قلت: له إنهم يختلفون فيه فتفكر ساعة ثم قال ما أحفظه
إلا أبا محمد بن عمرو ورواه محمد بن سلام البيكندي عن ابن
عيينة مثل رواية شريك بن المفضل وروح ورواه مسدد عن ابن عيينة
عن إسماعيل عن عمرو بن حريث عن أبيه عن أبي هريرة ورواه عمار
بن خالد الواسطي عن ابن عيينة عن إسماعيل عن أبي عمرو محمد بن
عمرو بن حريث بن سليم وفيه من الاضطراب غير ما ذكرت انتهى من
شرح ألفية الزين.
وقال تلميذه الحافظ ابن حجر بقي أمر يجب التيقظ له وذلك أن
جميع من رواه عن إسماعيل بن أمية عن هذا الرجل إنما وقع بينهم
الاختلاف في اسمه أو كنيته وهل روايته عن أبيه أو جده أو عن
أبي هريرة بلا واسطة وإذا تحقق الأمر فيه لم يكن فيه حقيقة
الاضطراب لأن الاضطراب هو الاختلاف الذي يؤثر قدحا واختلاف
الرواة في اسم رجل لا يؤثر ذلك لأنه إن كان ذلك الرجل ثقة فلا
ضير وإن كان غير ثقة فضعف الحديث إنما هو من قبل ضعفه لا من
قبل اختلاف الثقات في اسمه فتأمل ذلك ومع هذا كله فالطريق التي
ذكرها ابن الصلاحثم شيخنا قابلة لترجيح بعضها على بعض والراجحة
منها يمكن التوفيق بينها فينتفي الاضطراب أصلا ورأسا.
(2/37)
ثم قال الحافظ: تنبيه:
قول ابن عيينة لم نجد شيئا نشد به هذا الحديث ولم يجيء إلا من
هذا الوجه فيه نظر فقد رواه الطبراني من طريق أبي موسى الأشعري
وفي إسناده أبو هرون العقدي وهو ضعيف ولكنه وارد على إطلاق ابن
عيينة للنفي.
قلت: يحتمل أنه يريد لم نجد شيئا صحيحا ولكنه لا يناسبه قوله
ولم يجيء إلا من هذا الوجه فإنه ظاهر في نفي مجيئه من غيره
مطلقا.
قال: ثم وجدت له شاهدا آخر وإن كان موقوفا أخرجه مسدد في مسنده
الكبير فقال حدثنا هشيم حدثنا خالد الحذاء عن أياس بن معاوية
عن سعيد بن جبير قال إذا كان الرجل يصلى في فضاء فليركز بين
يديه شيئا قإن لم يستطع أن يركزه فليعرضه فإن لم يكن معه شيء
فليخط خطا في الأرض رجاله ثقات وقول البيهقي إن الشافعي ضعفه
فيه نظر فإنه احتج به فيما وقفت عليه في المختصر الكبير للمزني
والله أعلم.
ولهذا صحح الحديث أبو حاتم بن حبان والحاكم وغيرهما وذلك مقتضى
ثبوت عدالته عند من صححه فما يضره بعد ذلك أن لا ينضبط اسمه
إذا عرفت ذاته انتهى.
* * *
(2/38)
|