توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار

مسألة: 43 [في بيان حقيقة المدرج وأنواعه وحكمه]
من علوم الحديث "المدرج" اسم مفعول من أدرجه بمهملتين وجيم "أقسام" أربعة كما يعدها المصنف قسم في المتن وثلاثة في الإسناد هكذا قسمه ابن الصلاح وتبعه الزين ضقال الحافظ ابن حجر: قد قسمه الخطيب الذي صنف فيه إلى سبعة أقسام وسيأتي ما ذكره الحافظ في تلخيصه لكلام الخطيب إن شاء الله تعالى.
"الأول: ما أدرج في آخر الحديث من قول بعض بعض رواته إما الصاحبي أو من بعده موصولا بالحديث من غير فصل" تأكيد لم قبله "فيلتبس على من لا يعلم الحال" أي الكلام النبوي من غيره "فيحسب الجميع موصولا".
وذلك "كحديث ابن مسعود وقوله بعد التشهد فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك" تمامه إن شئت أن تقوم فقم وإن شئت أن تقعد فاقعد أخرجه أبو داود1 هذا من قوله فإذا فعلت إلى آخره "موقوف على الصحيح" من كلام ابن مسعود "وقد أدرجه بعضهم في الحديث" وهو زهير بن معاوية أبوخيثمة فأنه وصله بالمرفوع في رواية أبي داود هذه قال الحاكم2 قوله إذا فعلت هذا مدرج في الحديث من كلام عبد الله بن مسعود وكذا قال البيهقي في المعرفة وكذا قال الخطيب في كتابه الذي جمعه في المدرج إنها مدرجة وقال النووي في الخلاصة اتفق الحفاظ على أنها مدرجة3. انتهى.
ويدل لادراجها رواية شبابة بن سوار عنه ففصله وبين أنه من قول ابن مسعود.
__________
1 البخاري في: الاستئذان ب 27, 28. ومسلم في: الصلاة حديث 59: 61. وأحمد 1/292.
2 علوم الحديث ص 40: ذكر النوع الثالث عشر.
3 تدريب الراوي 1/268.

(2/39)


قال: قال عبد الله: فإذا فعلت ذلك فقد قضيت ما عليك من الصلاة فإن شئت أن تقوم فقم وإن شئت أن تقعد فاقعد رواه الدارقطني وقال شبابه ثقة وقد فصل آخر الحديث جعله من قول ابن مسعود وهو أصح من رواية من أدرج آخره ورواه غير شبابه وفصله وبين أنه من قول ابن مسعود.
"فاحتجت به الحنفية على أن السلام لا يجب" بناء منهم على عدم إدراج هذه الزيادة وهو خلاف ما قاله الأئمة الحفاظ كما عرفت.
قلت: واستدل لهم الطحاوي على ماذهبوا إليه من عدم وجوب السلام في كتابه معاني الآثار بما أخرجه بسنده إلى عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رفع المصلى رأسه من آخر صلاته وقضى تشهده ثم أحدث فقد تمت صلاته" وبحديث أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر خمسا فلما سلم أخبر بصنيعه فثنى رجله وسجد سجدتين أخرجه الطحاوي أيضا بسنده من حديث ابن مسعود قال ففي هذا الحديث أنه أدخل في الصلاة ركعة من غيرها قبل السلام ولم ير ذلك مفسدا الصلاة ولو رآه مفسدا لما إذا لأعادها فلما لم يعدها وقد خرج منها إلى الخامسة لا بتسليم دل ذلك أن التسليم ليس من صلبها ألا ترى أنه لو كان جاء بالخامسة وقد بقي عليه مما قبلها جدة كان ذلك مفسدا للأربع لأنه خلطهن بما لييس منهن فلو كان السلام واجبا كوجوب سجود الصلاة لكان حكمه أيضا كذلك ولكنه بخلافه فهو سنة.
ثم قال وقد روى أيضا في حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صلى أحدكم فلم يدر أثلاثا صلى أو أربعا فليبن على اليقين ويدع الشك فإن كانت صلاته نقصت فقد أتمها وكانت السجدتان يرغمان الشيطان وإن كانت صلاته تامة كل ما زاد والسجدتان له نافلة" 1 فقد جعل صلى الله عليه وسلم الخامسة الزائدة والسجدتين اللتين للسهو تطوعا ولم يجعل ما تقدم من الصلاة بذلك فاسدا وإن كان المصلى قد خرج منها فثبت بذلك أن الصلاة تتم بغير تسليم وأن التسليم من سنتها لا من صلبها انتهى كلامه وإنما سقناه لتعلم أن الحنفية لهم أدلة غير هذه الزيادة المدرجة وإن كانت هذه الأدلة التي أتى بها الطحاوي مما يدخله التأويل على تكلف وهذا المثال في الأدراج في آخر الحديث.
__________
1 أبو داود 1029. والترمذي 396. وابن ماجة 1204. والدارقطنيي 1/374-375.

(2/40)


"و" قد "يكون الكلام المدرج في أوله" أي الحديث ضقال الحافظ ابن حجر: وهو نادر جدا "مثل أن يتكلم الصحابي بأمر يذهب إليه ثم يحتج عليه بلفظ حديث ثم يقول هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعنى ما احتج به لا ما احتج عليه فيتوهم السامع أن الجميع مرفوع وقد يقع ذلك" الأدراج في الأول مع فصل الصحابي لكلامه على جهة الوهم من السامع.
مثل حديث أبي هريرة أسبغوا الوضوء ويل للأعقاب من النار رواه الخطيب1 من رواية أبي قطن وشبابة فرقهما عن شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أسبغوا الوضوء ويل للأعقاب من النار فقوله أسبغوا الوضوء من قول أبي هريرة وصل الحديث في أوله "فإن البخاري رواه عنه" أي عن أبي هريرة في صحيحه2 عن آدم بن أبي إياس عن شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة قال أسبغوا الوضوء فإن أبا القاسم صلى الله عليه وسلم قال ويل للأعقاب من النار قال الخطيب وهم أبو القطن عمرو بن الهثيم وشبابة بن سوار في روايتهما هذا الحديث عن شعبة على ما سقناه وذلك أن قوله أسبغوا الوضوء كلام أبي هريرة وقوله ويل للأعقاب من النار كلام النبي صلى الله عليه وسلم وذكر جماعة من الحفاظ رووه عن شعبة وجعلوا الكلام الأول كلام أبي هريرة ولاكلام الثاني مرفوعا وقد عرفت مراده بقوله "والراوي لهما جميعا عنه محمد بن زياد" فإنه روى المدرجة الموصولة ولكن ليس الوهم من محمد بن زياد بل من أبي قطن وشبابة كما عرفت علىأن قوله أسبغوا الوضوء قد ثبت من كلام النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عمرو في الصحيح قال الحافظ وفتشت ما جمعه الخطيب في المدرج ومقدار ما زدت عليه فلم أجد له مثالا آخر إلا ما جاء في بعض طرق حديث بسرة الآتي من رواية محمد بن دينار عن هشام بن حسان.
"وقد يقع ذلك" أي الأدراج "في وسط الكلام مثل أن يروي حديث ومذهب فيسمعهما سامع فيحسبها حديثين فيرويهما على هذه الصورة وهي" أي صورة الإدراج "متقاربة وأكثرها وقوعا هو الأول" وهو الإدراج في آخره.
"ومثال هذا الأخير" وهو وقوع الأدراج في الوسط "ما رواه الدارقطني في سننه3 من
__________
1 6/4.
2 1/23, 35, 52, 53.
3 1/147, 148.

(2/41)


رواية عبد الحميد بن جعفر" أي ابن عبد الله بن الحكم الأنصاري المدني قال النسائي يس به بأس وكذا قال أحمد وقال ابن معين ثقة "عن هشام بن عروة" بن الزبير وهشام إمام معروف كبير القدر ثقة "عن أبيه" عروة "عن بسرة" بضم الموحدة وسكون السين المهملة "بنت صفوان" وهي صحابية جليلة "مرفوعا من مس ذكره أو أنثييه أو رفغيه" تثنية رفض بضم الراء وتفتح وسكن الفاء فغين معجمة وهو واحد الأرفاغ وهو أصول المغابن كالأبط والحوالب وغيرهما من مطاوي الأعضاء وما يجتمع فيه الوسخ والعرق قاله في النهاية1 "فليتوضأ".
"قال الدارقطني كذا رواه عبد الحميد عن هشام ووهم في ذكر الأنثيين والرفغ فجعلهما من المرفوع والمحفوظ أن ذلك من قول عروة وكذلك" أي كونه من قول عروة "رواه الثقات عن هشام منهم أيوب السختياني وحماد بن زيد وغيرهما ثم رواه" أي الدارقطني "من طريق أيوب" السختياني "بلفظ من مس ذكره فليتوضأ قال" أي أيوب "وكان عروة يقول إذا مس رفغية أو أنثيية أو ذكره فليتوضأ" فبين أن ذلك من قول عروة لا أنه من المرفوع وقد ثبت أن أيوب أثبت من عبد الحميد وقد وافقه غيره فكان روايتهم دليلا على إدراج عبد الحميد لتلك الزيادة "وكذا قال الخطيب إن عبد الحميد تفرد بذلك" فحكم بأدراج ما تفرد به تقديما لرواية غيره عليه ممن هو أثبت منه.
"وأما زين الدين فخالف" كلام الدارقطني والخطيب "وقال إنه" أي عبد الحميد "لم ينفرد بذلك فقد رواه الطبراني في المعجم الكبير من رواية أبي كامل الجحدري عن يزيد بن زريع" تصغير زرع قال في الميزان شيخ رملي لا يكاد يعرف يروي عن عطاء الخرساني ضعفه ابن معين ضقال الحافظ ابن حجر: على كلام شيخ الزين هو كما قال إلا أنه مدرج أيضا والذي أدرجه أبو كامل الجحدري رواية عن يزيد وقد خالفه عبيد الله بن عمر القواريري وأبو الأشعث أحمد بن المقدام وأحمد بن المقدام وأحمد بن عبيد الله العنبري وغير واحد فرووه عن يزيد بن زريع موصولا انتهى "عن أيوب عن هشام عن أبيه عن بسرة مرفوعا بلفظ الحديث المعروف أولا سوى" أي الذي فيه رفع الزيادة لكنه قال الحافظ أنه بين الدارقطني أنه مدرج "قال زين الدين واختلف فيه على يزيد بن زريع" عبارته وعلى هذا فقد اختلف فيه.
__________
1 2/244.

(2/42)


"ورواه الدارقطني 1 أيضا من رواية ابن جريج عن هشام عن أبيه عن مروان" بن الحمم بن أبي العاص يأتي بيان حاله "عن بسرة بلفظ: "إذا مس أحدكم ذكره أو أنثييه" ولم يذكر الرفع وزاد في السند مروان بن الحكم قلت: أما طريق ابن زريع فلا تنهض دليلا على صحة الحديث" وأنه لا إدراج فيها "لما وقع فيها من الاختلاف على يريد" ولأنه أي يزيد كما قال الذهبي لا يكاد أن يعرف "ولما له من العلة بمخالفة أيوب وحماد وغيرهما من الثقات من سائر من روى حديث بسرة".
قال الحافظ ابن حجر: إنه رواه عشرون من الحفاظ مقتصين على المرفوع منه فقط "بل سائر من روى حديث من مس الذكر من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم" فإنه رواه منهم جابر وأبو هريرة وعبد الله ابن عمر وزيد بن خالد وسعد بن أبي وقاص وأم حبيبة وعائشة وأم سلمة وابن عمرو علي بن طلق والنعمان بن بشير وأنس وأبي بن كعب ومعاوية بن حيدة وقبيصة وأروى بنت أنس سردهم الحافظ ابن حجر في التلخيص ثم خرج رواياتهم.
"وأما طريق ابن جريج فهي مردودة بمروان بن الحكم فهو مجروح عند أهل البيت وعند غيرهم بل لا يعلم في ذلك خلاف" فإنه نقل المصنف في العواصم أنه قال ابن حبان في مقدمة صحيحه عائذا بالله أن نحتج بمروان وذويه في شيء من كتبنا وقال ابن قدامة الحنبلي في كتابه الكافي على مذهب الإمام أحمد بن حنبل في باب صفة الأئمة في إمامة الفاسق بالأفعال روايتين إحداهما تصح لقوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: "كيف بك إذا كان عليك أمراء يميتون الصلاة" الحديث2 إلى قوله في الاحتجاج وكان الحسن والحسين عليهما السلام يصليان وراء مروان انتهى فيه بيان مقدار معرفتهم بمقدار أهل البيت وبموضع أعدائهم من الفسق انتهى "وإنما روى عنه المحدثون أحاديث يسيرة لما رواها معه غيره من الثقات كما بينت ذلك في العواصم" قال فيه فإن قلت: فما الوجه في روايته عنهم؟.
فالجواب من وجهين:
الأول: أن الرواية لا تدل على التعديل كما ذكره الإمام يحيى وابن الصلاح وقد روى زين العابدين وعروة بن الزبير عن مروان ولم يدل ذلك على عدالته عندهما.
__________
1 1/146, 147, 148, والنسائي 1/100, وابن ماجة 479. وأحمد 6/407.
2 مسلم في: الصلاة: ب 41. حديث 238. والبيهقي 3/124.

(2/43)


فكذلك رواية المحدثين عنهم ثم ذكر ما قدمنااه من قول النووي في شرح مسلم إنه قد روى سلم في الصحيح عن جماعة من الضعفاء إلى آخر ما قدمناه.
قال المصنف فدل على أنهم قد يروون عمن ليس بثقة عندهم فإن قلت: فما عذرهم في ذلك قلت: لهم عذران فيه.
أحدهما: الرغبة في علو الإسناد لما فيه من التسهيل على طلبة هذا الشأن مع كون الحديث معروفا عندهم بإسناد نازل من طريق الثقات.
وثانيهما: وهو كثير الوقوع أن يكون الحديث مرويا من طرق كثيرة في كل منها ضعف لكن بعضها يجبر بعضا ويقويه ويشهد له مع كون بعض الرواة عدلا في دينه صدوقا في قوله كثير الوهم فلم يعتمد عليه وحده في التصحيح لولا ما جبر ضعفه في الشواهد والمتابعات التي يحصل من مجموعها قوة كبيرة توجب الحكم بصحة الحديث أو حسنه فيذكرون بعض طرقه الضعيفة ويتركون بعض الطرق للإختصار والتقريب على طلبة العلم.
ثم إنه سرد الأحاديث المروية عن مروان وهي لا تبلغ عشرة أحاديث وذكر من رواها غيره من الثقات ثم قال وبالجملة فلم يرو مروان إلا عن علي عليه السلام وعثمان وزيد بن ثابت وأبي هريرة وبسرة وعبد الرحمن بن الأسود وقد ذكرت جميع ما روى عنهم.
الوجه الثاني: أن رواية المحدثين عنه مع تصريحهم بماله من الأفعال القبيحة تدل على ما ذكره الحافظ ابن حجر في مقدمة شرح البخاري أن روايتهم عنه كانت قبل أحداثه أيام كان عندهم في المدينة واليا من جهة الخلفاء قبل أن يتولى الخلافة انتهى.
قلت: أما هذا العذر الذي ذكره المصنف عن الحافظ ابن حجر عذر باطل وإن أقره المصنف فإن أعظم ما قدحوا به على مروان قتله لطلحة أحد العشرة وقتله له كان يوم الجمل اتفاقا قال الذهبي وحضر الوقعة يوم الجمل وقتل طلحة ونجا فليته ما نجا وكذلك ذكره في النبلاء ومعلوم أنه لم يتول المدينة في عصر أحد من الخلفاء إنما ولاه إياها معاوية فلم يلها إلا بعد قتله لطلحة قال الذهبي في النبلاء إن مروان قتل طلحة ثم قال قاتل طلحة في الوزر بمنزلة قاتل علي. انتهى.
وإذا عرفت هذا فالعذر للمحدثين في الرواية من مروان هو الأول.
"وقد تكلم عليه ابن عبد البر في الاستيعاب" قال المصنف في العواصم وممن

(2/44)


ذكر مروان أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب ولم يذكره بتقوى ولا وصفه بديانة بل روى عن علي عليه السلام أنه نظر إليه يوما فقال ويلك وويل أمة محمد منك ومن بنيك إذا شابت ذراعاك وكان يقال له خيط باطل وفيه يقول أخوه عبد الرحمن بن الحكم لما بويع له بالخلافة:
لحا الله قوما ملكوا خيط باطل ... على الناس يعطي من يشاء ويمنع
"والذهبي في النبلاء وقال" أي ابن عبد البر أو الذهبي لكن اللفظ المذكور رأيناه لابن عبد البر "في ترجمة طلحة" من الاستيعاب "إنه الذي قتله رماه بسهم على جهة للغدر وهو من جملة أصحابه" فإن مروان خرج من أهل الجمل في حرب علي عليه السلام "وقال" أي الذهبي "في الميزان في ذكر مروان قتل طلحة ونجا فليته ما نجا" قال المصنف في العواصم فلو كان عنده من أهل الصحاح ما تمنى له الهلاك وكره له النجاة وقد نص في الميزان على أن له أعمالا موبقة قال المصنف وهذا تصريح بفسقه.
"وذكر" أبو محمد "ابن حزم أنه كان فاسقا غير متأول أو كما قال" ولفظه عنه في العواصم وقال ابن حزم في أسماء الخلفاء والأئمة وقد ذكر بعض مساوي مروان وهو أول من شق عصا المسلمين بلا شبيه ولا تأويل وقتل النعمان بن بشير أول مولود في الإسلام في الأنصار صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر أنه خرج على ابن الزبير بعد أن بايعه على الطاعة.
"وذكر البخاري والذهبي أنه" أي مروان "ليس بصحابي قلت: بل كان عدوا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يعرف ذلك من عرف أخباره وأكثر ما قيل فيه" أي في تنزيهه "أنه لم يكن منهما في الحديث وهذا لا ينفع إلا مع التأويل والتدين وهو منهما براء" كما تقدم عن ابن حزم.
"مع أن الحديث" أي حديث مس الذكر "مروي عنه من غير هذه الطريق بغير هذه الزيادة" تقدم تعداد رواته من الصحابة من طرق عديدة.
"قال الشيخ تقي الدين في الإقتراح إذا تقدم ذكر الأنثيين على الذكر ضعف الإدراج" لفظه في شرح ألفية الزين1 وقد ضعف ابن دقيق العيد الطريق إلى الحكم
__________
1 فتح المغيث 1/120.

(2/45)


بالإدراج في مثل هذا فقال في الاقتراح ومما يضعف فيه أن يكون مدرجا في أثناء لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم لا سيما إن كان مقدما على اللفظ المروي أو معطوفا عليه بواو العطف كما لو قال من مس أنثيية وذكره فليتوضأ بتقديم الأنثيين على الذكر فها هنا يضعف الإدراج لما فيه من اتصال هذه اللفظة بالعامل الذي هو من لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم انتهى ثم "قال زين الدين لم يرد مقدما" في شيء من طرق الحديث قال البقاعي ليس كذلك فقد وقع في كتاب الثواب لابن شاهين من رواية محمد بن دينار عن هشام عن عروة من مس أنثييه وذكره فقد الأنثيين "وإنما ذكره الشيخ مثالا فليعلم ذلك".
واعلم أن أمثلة الأدراج في وسط الحديث كثيرة.
منها حديث عروة عن عائشة في حديث بدء الوحي في قولها: "وكان يخلو بغار حراء يتحدث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد"1 فقوله وهو التعبد مدرج من كلام الزهري في وسط الحديث كما بينه في فتح الباري.
ومنها حديث مالك2 عن الزهري عن أنس بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل يوم الفتح مكة وعلى رأسه المغفر وهو غير محرم فقيل له إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال: "اقتلوه" 3 فإن قوله: وهو غير محرم من كلام الزهري أدرجه الراوي عنه وقد رواه أصحاب الموطأ بدون هذه الزيادة وبين بعضهم أنها من كلام الزهري.
ومنها حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطيرة 4 شرك وما منا إلا ولكن الله تعالى يذهبه بالتوكل" رواه الترمذي5 وقال هذا حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث سلمة يريد ابن كهيل قال وسمعت محمدا يقول في هذا وما منا إلا عندي من قول ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ضقال الحافظ ابن حجر: قد رواه
__________
1 البخاري في: بدء الوحي ب 3, ومسلم في: الإيمان: حديث 252. وأحمد 6/233.
2 سبق تخريجه.
3 البخاري في: الجهاد ب 169. ومسلم في: الحج: حديث 450. وأحمد 3/164.
4 الطيرة: بكسر الطاء وفتح الياء وقد تسكن هي: التشاؤم بالشيء وهي مصدر تطير يقال: تطير طيرة.
وإنما جعل الطيرة من الشرك لأنهم كانوا يعتقدون أن التطير يجلب لهم نفعا أو يدفع عنهم ضرا إذا عملوا بموجبه فكأنهم أشركوه مع الله في ذلك. النهاية 3/152.
5 1614, وأبو داود 3910. وابن ماجة 3538. وأحمد 1/389, 440.

(2/46)


علي بن الجعد وغندر وحجاج بن محمد ووهب بن جرير والنضرين إسماعيل وجماعة عن شعبة فلم يذكروا فيه وما منا إلا وهكذا رواه اسحق بن راهويه عن أبي نعيم عن سفيان الثوري.
ومنها قوله في حديث عكرمة عن أبي هريرة في صفة نزول الوحي: "تنزل الملائكة من العنان - والعنان السحاب" الحديث1 قال قوله: "والعنان السحاب" مدرج.
واعلم أن الطريق إلى معرفة المدرج من وجوه:
الأول: أن يستحيل إضافة ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذلك مثل حديث ابن المبارك عن يونس عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للمملوك أجران" - والذي نفسي بيده لولا الجهاد في سبيل الله والحج وبرأمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك", رواه البخاري2 فهذا الفصل الذي في آخر الحديث لا يجوز أن يكون من قول النبي صلى الله عليه وسلم إذ يمتنع أن يتمنى أن يصير مملوكا وأيضا فلم يكن له أم يبرها بل هذا من قول أبي هريرة أدرجه في المتن وقد بينه حبان بن موسى عن ابن المبارك فساق الحديث إلى قوله: "أجران" ثم قال: والذي نفس أبي هريرة بيده إلى آخره وكذا هو في رواية بن وهب عن يونس عند مسلم وهذا من فوائد المستخرجات كما تقدم.
وكذلك ما في حديث ابن مسعود من قوله: "الطيرة شرك" - "وما منا إلا" فإنه مدرج فإنه لا يصح أن يضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم لاستحالة أن يضاف إليه شيء من الشرك.
الثاني من الوجوه أن يصرح الصحابي بأنه لم يسمع تلك الجملة من النبي صلى الله عليه وسلم.
كحديث ابن مسعود عنه صلى الله عليه وسلم: "من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار" 3 هكذا رواه أحمد بن عبد الجبار العطاردي عن أبي بكر بن عياش بإسناده ورواه غيره عن أبي بكر بن عياش بلفظ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كلمة: "من جعل الله ندا دخل النار" 4 وأخرى أقولها ولم أسمع منه صلى الله عليه وسلم: من مات لا يجعل لله ندا دخل الجنة والحديث في صحيح مسلم عن ابن مسعود بلفظ قال
__________
1 البخاري في: بدء الخلق: ب 6.
2 البخاري في: العتق: ب 16. ومسلم في: الأيمان: حديث 44. وأحمد 2/330.
3 مسلم في: الإيمان: حديث 151. وأحمد 1/382.
4 أحمد 1/402, 407.

(2/47)


رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة وقلت: أخرى فذكره فهذا يجزم بكونه مدرجا لكن لا يجزم بتعيين الجملة المدرجة هل هي دخول الجنة لمن لم يجعل لله ندا أو دخول النار فيمن جعل لله ندا لاختلاف الرواية.
الثالث: أن يصرح بعض الرواة بتفصيل المدرج فيه عن المتن المرفوع بإضافته إلى قائله.
ومثاله حديث ابن مسعود فإذا قلت: هذا فقد قضيت صلاتك تقدم وله أمثلة كثيرة.
قال الحافظ ابن حجر: والحكم على هذا القسم الثالث بالأدراج يكون بحسب غلبة ظن المحدث الحافظ الناقد ول يوجب القطع بذلك بخلاف القسمين الأولين وأكثر هذا القسم الثالث يقع تفسيرا لبعض الألفاظ الواقعة في الحديث كما في أحاديث الشغار1 والمحاقلة2 والمزاينة3 ونحوها والأمر في ذلك سهل لأنه إن أثبت رفعه فذاك وإلا فالراوي أعرف بتفسير ما روى من غيره.
وفي الجملة إذا قام الدليل على إدراج جملة معينة بحيث يغلب على الظن ذلك فسواء كان في الأول أو الوسط أو الآخر فإن سبب ذلك الاختصار من بعض الرواة بحذف أداة التفسير أو التفصيل فيجيء من بعده فيرويه مدمجا من غير تفصيل فيقع ذلك.
ثم ذكر بسنده إلى أبي حاتم بن حبان أنه قال أحمد بن حنبل كان وكيع يقول في الحديث يعني كذا وكذلك كان الزهري يفسر الأحاديث كثيرا وربما أسقط أداة التفسير وكان بعض أقرانه يقول له أفصل كلامك من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ذكره الحافظ ابن حجر ثم قال وقد ذكرت كثيرا من هذه الحكايات وكثيرا من أمثلة ذلك في كتاب
__________
1 الشغار: نكاح معروف في الجاهلية كان يقول الرجل للرجل: شاغرني أي زوجني أختك أو ابنتك أو من تلي امرها حتى أزوجك أختي أو بنتي أو من ألي أمرها ولا يكون بينهما مهر ويكون بضع كل واحدة منهما في مقابلة بضع الاخرى. النهاية 2/482.
2 المحاقلة: مختلف فيها قيل هي اكتراء الأرض بالحنطة وهو الذي يسميه المزارعون: المحارثة. وقيل: هي المزارعة على نصيب معلوم كالثلث والربع ونحوهما وقيل غير ذلك. أنظر النهاية 1/416.
3 المزابنة: هي بيع الرطب في رؤس النخل بالتمر واصله من الزبن وهو الدفع كأن كل واحد من المتبايعين يزبن صاحبه عن حقه بما يزداد منه. النهاية 2/294.

(2/48)


اسمه تقريب المنهج لترتيب المدرج أعان الله على تكميله وتبييضه إنه على كل شيء قدير.
"القسم الثاني" من أقسام المدرج "أن يكون الحديث عند راويه بإسناد إلا طرقا منه فإنه عنده إسناد آخر فيجمع الراوي عنه" أي عن الراوي المذكور "طرفي الحديث بإسناد الطرف الأول" تاركا لإسناده للطرف الآخر.
"مثاله حديث رواه أو داود من رواية زائدة" اسم فاعل من الزيادة وهو ابن نشيط بفتح النون وكسر المعجمة مقبولة "وشريك فرقهما" في الرواية ورواه النسائي م حديث "سفيان بن عيينة كلهم" أي زائدة وشريك وسفيان رووه "عن عاصم" بن كليب كما في شرح الألفية "عن أبيه عن وائل بن حجر" بضم الحاء المهملة وسكون الجيم صحابي جليل كان من ملوك اليمن "في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال فيه ثم جئتهم بعد ذلك في زمان فيه برد شديد فرأيت الناس عليهم جل الثياب1" وفي لفظ لأبي داود عن شريط عن عاصم ثم أتيتهم فرأيتهم يرفعون أيديهم إلى صدورهم في افتتاح الصلاة وعليهم أكسية وبرانس2 "تحرك أيديهم تحت الثياب" أي لأجل رفعها عند التكبيرة الأولى.
"قال موسى بن هرون" الحمال "وذلك عندنا وهم فقوله ثم جئت ليس هو بهذا الإسناد وإنما أدرج عليه وهو من رواية عاصم عن عبد الجبار بن وائل عن بعض أهله عن وائل وهكذا راه مبينا وهير بن معاوية وأبو بدر شجاع ابن الوليد" فيما أثبت له ممن روى رفع الأيدي من تحت الثياب عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل "فهذه رواية مضبوطة اتفق عليها زهير وشجاع وقال ابن الصلاح: إنه الصواب".
"القسم الثالث" من أقسام المدرج "أن يدرج بعض حديث في حديث آخر مخالف له في السند".
"مثاله حديث سعيد بن أبي مريم" هو سعيد بن الحكم ابن محمد ابن سالم أبي مريم الجمحي بالولاء أبو محمد البصري ثقة ثبت فقيه "عن مالك عن الزهري عن
__________
1 أبو داود في: الصلاة: ب 115, والدارمي في: الصلاة: ب 92.
2 برانس: جمع برنس وهو كل ثوب رأسه منه ملتزق به من دراعة أو جبة أو ممطر أو غير ذلك. وقال الجوهري: هو قلنسوة طويلة كان النساك يلبسونها في صدر الإسلام وهو من البرنس بكسر الباء القطن والنون زائدة وقيل إنه غير عربي النهاية 1/122.

(2/49)


أنس مرفوعا: "لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا" 1 في النهاية2 "لا يعطي كل منكم أخاه دبره وفقاه فيعرض عنه ويهجره" انتهى "ولا تنافسوا" هو من الشيء النفيس وهو ما يرغب فيه ويبخل به لعزته وهو مضارع فلان وفلان مثل تقاتلا وهكذا بقية ألفاظ الحديث كلها أفعال مضارعة حذف منها حرف المضارعة تخفيفا ومعنى تنافسوا تقاسموا النفاسة بأن يعد كل منهمالشيء نفيسا فيتجاذبونه فيؤدي ذلك إلى فساد عريض.
"فقوله ولا تنافسوا مدرجه في هذا الحديث أدرجها ابن أبي مريم فيه من حديث آخر لمالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعا: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تجسسوا" 3 بالجيم التفحص من الجاسوس صاحب سر الشر قال في القاموس أي خذوا ما ظهر ودعوا ما ستر الله ولا تفحصوا عن بواطن الأمور ولا تبحثوا عن العورات والتحسس بالحاء قال فيه إنه الاستماع لحديث القوم وطلب خبرهم في الخبر "ولا تنافسوا ولا تحاسدوا وكلا الحديثين مخرج في الصحيحين متفق عليه من طريق مالك وليس فيه ولا تنافسوا وهي في الثاني هكذا الحديثان عند رواة الموطأ".
"القسم الرابع" من أقسام المدرج "أن يروى بعض الرواة حديثا عن جماعة وبينهم في إسناده أو متنه اختلاف فيجمع الكل على إسناد واحد مما اختلفوا فيه" ويدرج رواية من خالفهم معهم على الاتفاق ومثاله حديث رواه الترمذي وساقه الزين في شرح الألفية فمن أراده فليراجعه فلم أجد نسخة منه أثق بالنقل منها.
"قال زين الدين ولهذا لا ينبغي لمن يروي حديثا بسند في جماعة في طبقة واحدة مجتمعين في الرواية عن شيخ واحد أن يحذف بعضهم لاحتمال أن يكون اللفظ في السند والمتن لأحدهم وحمل رواية الباقين عليه قربما كان من حذفه هو صاحب ذلك اللفظ".
"قال ابن الصلاح: واعلم أنه لا يجوز تعمد شيء من الإدراج" فيه بحث وهو أنه
__________
1 البخاري 8/23, 25. ومسلم في: البر والصلة: ب 7. حديث 23. وأحمد 1/5.
2 2/97.
3 البخاري 4/5. ومسلم في: البر والصلة: حديث 28. والترمذي 1988. ومالك 908, وأحمد 312.

(2/50)


قد ثبت إدراج أئمة كبار تفاسير ألفاظ الحديث كما تقدم في التحنث ونحوه وتقدم أن الأمر في ذلك سهل لأنه إن ثبت مرفوعا فذاك وإلا فالراوي أعرف بتفسير ما روى فالقياس أن يقال إدراج ما هو من تفاسير الألفاظ لا يحرم وإدراج ما هو من غيرها مما فيه حكم شرعي وإيهام أنه مرفوع هو الذي لا يجوز.
"قلت: فقول زين الدين لا ينبغي لمن يروى حديثا بسند فيه جماعة إلى آخره محمول على الاستحباب كما تشعر به لفظة لا ينبغي" ولأنه إنما علله بالاحتمال "لأن الظاهر عدم الإدراج" فلا يحكم به إلا بدليل وقد قدمنا الوجوه التي يستدل بها عليه "و" لأن "عادة الحفاظ في ذلك إذا سكتوا فذلك منهم إشعار بأن الإسناد والمتن للجميع وإن لم يكن كذلك" أي لم يكن الإسناد والمتن للجميع "قالوا واللفظ لفلان" "قال الزين وهذا النوع" يريد نوع الأدراج بأقسامه "قد صنف فيه" أبو بكر الخطيب البغدادي وقسمه إلى سبعة أقسام "فشفى وكفى" تقدم أنه ضقال الحافظ ابن حجر: وقد لخصته أي كتاب الخطيب ورتبته على الأبواب والمسانيد وزدت على ما ذكره الخطيب أكثر من القدر الذي ذكره وهذا هو الكتاب الذي سماه الحافظ تقريب المنهج بترتيب المدرج وذكر أنه سأل الله تعالى الإعانة على تمامه وتبييضه1.
واعلم أنه زاد الحافظ في مدرج الإسناد قسمين على هذه الثلاثة:
الأول: منهما وهو الرابع أن يكون المتن عند الراوي إلا طرفا منه فإنه لم يسمعه من شيخه فيه وإنما سمعه من واسطة بينه وبين شيخه فيدرجه بعض الرواة عنه بلا تفصيل وهذا مما يشترك فيه الإدراج والتدليس مثال ذلك حديث إسماعيل بن جعفر عن حميد عن أنس في قصة العرنيين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: "لو خرجتم إلى إبلنا فشربتم من ألبانها وأبوالها" 2 ولفظه: "وأبولها" إنما سمعه حميد من قتادة عن أنس بينه يزيد بن هرون ومحمد بن أبي عدي ومروان بن معاوية وآخرون كلهم يقول فيه: "فشربتم من ألبانها" قال حميد قال قتادة عن أنس: "وأبوالها" فرواية إسماعيل فيها إدراج وتسوية.
وثانيهما: وهو الخامس أن لا يذكر المحدث متن الحديث بل يسوق إسناده فقط ثم
__________
1 تدريب الراوي 1/274.
2 البخاري في: الجهاد: ب 152, ومسلم في: القسامة: حديث 9-11, وأحمد 3/107.

(2/51)


يقطعه قاطع فيذكر كلاما فيظن بعض من سمعه أن ذلك الكلام هو متن ذلك الإسناد مثاله في قصة ثابت بن موسى الزاهد مع شريك القاضي كما مثل به ابن الصلاح لشبه الوضع1 وجزم ابن حبان أنه من المدرج فهذه أقسام مدرج الإسناد.
قال الحافظ والطريق إلى معرفة كونه مدرجا أن تأتي رواية مفصلة للرواية المدرجة وتتقوى الرواية المفصلة بأن يرويه بعض الرواة مقتصرا على إحدى الجملتين.
* * *
__________
1 علوم الحديث ص 132.

(2/52)


مسألة (44) : في الموضوع وحكمه
...
مسأل:44 [في الموضوع وحكمه]
من أنواع علوم الحديث "الموضوع" قال ابن دحية إنه في اللغة الملصق يقال وضع فلان على فلان كذا أي ألصق به وهو أيضا الحط والإسقاط قال الحافظ والأول اليق بهذه الحيثية "هو شر الأحاديث الضعيفة" هذه العبارة لابن الصلاح1 وسبقه إليها الخطابي واستنكرت لأن الموضوع ليس من الحديث النبوي إذ أفعل لاتفضيل إنما يضاف إلى بعضه وقد يجاب بأنه لم يرد بالأحاديث الأحاديث النبوية بل أعم وهو ما يتحدث به.
"وهو المكذوب ويقال له المختلق2" إذ الاختلاف الكذب ومنه قوله تعالى: {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [ص: 7] "و" يقاله له أيضا "المصنوع" بصاد مهملة من الصنعة "أي واضعه اختلقه وصنعه قال زين الدين ومطلق وجود كذاب في السند لا يلزم منه أن يكون الحديث مكذوبا لجواز أنه ثابت منغيرر طريقه إلا أن يعترف بأنه وضع ذلك الحديث بعينه أو ما يقوم مقام اعترافه على ما ستقف عليه" ويأتي ما فيه من الإشكال وجوابه.
"وحكم الموضوع أنه لا يجوز لمن عرفه" أي عرف أنه موضوع "أن يرويه من غير بيان لوضعه سواء كان في الحلال أو الحرام أو الترغيب أوالترهيب أو غير ذلك" يدل لذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه3 من حديث سمرة بن جندب أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين" انتهى ضبط يرى
__________
1 علوم الحديث ص 130.
2 المختلق: بفتح اللام بعدها قاف أي المبتكر الذي لاينسب إليه صلى الله عليه وسلم أصلا حاشية الأجهوري ص 81.
3 في: المقدمة: ب 1. والترمذي 2662. وابن ماجة 39, 41.

(2/53)


بضم الياء أي يظن وفي الكذابين روايتان بصيغة التثنية وبصيغة الجمع وكفى بهذا الوعيد في حق من روى حديث يظن أنه كذب فضلا عن أن يروى ما يعلم كذبه ولا ييينه لأنه صلى الله عليه وسلم جعل المحدث بذلك مشاركا للكاذب في وصفه.
قال زين الدين بعد هذا الذي ذكره المصنف من حكم الموضوع ما لفظه بخلاف غيره من الضعيف المحتمل للصدق حيث جوز روايته في الترغيب والترهيب انتهى لكن بقي هل يشترط في هذا الاحتمال أن يكون قربا بحيث يفوق احتمال كذبه أو يساويه أولا يشترط هذا محل نظر ولاذي يظهر من كلام مسلم وربما دل عليه الحديث المتقدم بأنه إذا كان احتمال الصدق احتمالا ضعيفا أنه لا يعتد به.
وقال الترمذي سألت أبا محمد يعني عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي عن هذا الحديث يعني حديث سمرة المذكور فقلت: له من روى حديثا وهو يعلم أن إسناده خطأ أيخاف أن يكون دخل في هذا الحديث أو إذا روى الناس حديثا مرسلا فأسنده بعضهم أو قلب إسناده فقال لا إنما معنى هذا الحديث إذا روى الرجل حديثا ولا يعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم لذلك الحديث أصلا فأخاف أن يكون دخل في هذا الحديث.
"قال ابن الصلاح1: ولقد أكثر الذي جمع في هذا العصر الموضوعات في نحو مجلدين فأودع فيها كثيرا مما لا دليل على وضعه وإنما حقه أن يذكر في الأحاديث الضعيفة قال زين الدين وأراد ابن الصلاح أبا الفرج بن الجوزي".
قال زين الدين في شرح ألفيته قال العلائي دخلت على ابن الجوزي الآفة من التوسع في الحكم بالوضع لأن مستنده في غالب ذلك ضعف رواته.
قال الحافظ ابن حجر: وقد يعتمد على غيره من الأئمة في الحكم على بعض الأحاديث بتفرد بعض الرواة الساقطين بها ويكون كلامهم محمولا على قيد أن تفرده إنما هو من ذلك الوجه ويكون المتن قد روى من أوجه أخر لم يطلع هو عليها أو لم يستحضره حال التضعيف فدخل عليه الدخيل من هذه الجهة وغيرها فذكر في كتابه الحديث المنكر والضعيف الذي يحتمل في باب الترغيب والترهيب قليل من الأحاديث الحسان كحديث صلاة التسبيح وحديث قراءة آية الكرسي عقيب الصلاة فإنه رواه النسائي وصححه ابن حبان وليس في كتاب ابن الجوزي من هذا الضرب
__________
1 علوم الحديث ص 131.

(2/54)


سوى أحاديث قليلة جدا فأما مطلق الضعيف ففيه كثير من الأحاديث نعم أكثر الكتاب موضوع وقد أفردت لذلك تصنيفا أشير على مقاصده انتهى.
"والواضعون للحديث على أصناف بحسب الأمر الحامل لهم على ذلك فضرب من الزنادقة" في القاموس الزنديق من الثنوية أو القائل بالنور والظلمة أو من لا يؤمن بالآخرة وبالربوبية أو من يبطن الكفر ويظهر الإيمان أو هو معرب زن دين أي دين المرأة "يفعلون ذلك ليضلوا به الناس كعبد الكريم ابن أبي العوجاء خال معن" بفتح الميم وسكون العين المهملة "ابن زائدة" أي الشيباني الأمير المعروف "الذي أمر بضرب عنقه محمد بن سليمان بن علي أمير مكة" قال الذهبي في الميزان أمير البصرة وقال في ترجمة عبد الكريم زنديق مبين قال أحمد بن عدي لما أخذ ليضرب عنقه قال لقد وضعت فيكم أربعة آلاف حديث أحرم فيها الحلال وأحل فيها الحرام.
"ومثل بيان" بفتح الموحدة فمثناة تحتية فألف فنون قال الذهبي هو ابن سمعان النهدي من بني تميم ظهر بالعراق بعد المائة وقال بالهيية علي رضي الله عنه وأن فيه جزءا إلهيا متحدا بناسوتيته ثم بعده في ابنه محمد بن الحنفية ثم في ابنه أبي هاشم ثم في بيان هذا وكتب إلى أبي جعفر الباقر يدعوه إلى نفسه وأنه نبي انتهى "الذي قتله خالد القسري" بالقاف وسين مهملة فراء فياء نسبه "وحرقه بالنار" وقال ابن نمير: قتله خالد بن عبد الله القسري وحرقه بالنار.
"وقد روى العقيلي بسنده إلى حماد بن زيد قال وضعت الزنادقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة عشر ألف حديث" قلت: ومعرفة قدر عددها دليل على تتبع الحفاظ من الأئمة لها ومعرفتهم إياها.
"وضرب يفعلونه انتصارا لمذاهبهم كالخطابية" بالخاء المعجمة وهم قوم من الرافضة ينسبون إلى أبي الخطاب كان يأمرهم بشهادة الزور على مخاليفهم كما في القاموس فقوله "وبعض الروافض" من عطف العام على الخاص وهم فرقة من الشيعة بايعوا زيد بن علي عليه السلام ثم قالوا له تبرأ من الشيخين فأبى وقال أنا مع وزيري جدي فتركوه ورفضوه وأرفضوا عنه قاله في القاموس "وبعض السالمية قلت: ورواه" أي وضع الأحاديث لنصرة المذهب "المنصور بالله عبد الله بن حمزة عن المطرفية" نسبة إلى مطرف بن شهاب وهم فرقة من الزيدية لهم أقوال ردية ومذاهب غير مرضية قاتلهم المنصور بالله وخرب ديارهم ومساجدهم وأخبارهم معروفة وله أشعار فيهم وفي

(2/55)


حربهم في ديوانه وقد ألف عبد الله بن زيد العنسي العلامة كتابا في أخبارهم وبين فيه حقائق أحوال المطرفية "وذكر" أي المنصور "أنهم صرحوا له بذلك في مناظراتهم نقلته من بعض رسائله" وجادة "من غير سماع" عنه "والظاهر بل المقطوع أن المصرح له بذلك بعضهم" إذ من المعلوم يقينا أنهم لا يجمعون كلهم عند المناظرة "فلا ينسب إلى الجميع منهم والله أعلم".
"قال زين الدين 1 وضرب يتقربون به إلى الأمراء والخلفاء بوضع ما يوافق فعلهم كما فعله غياث" بكسر الغين المعجمة فمثناة تحتية آخره مثلثة "ابن ابراهيم" النخعي "حيث وضع للمهدي" وهو محمد بن عبد الله المنصور العباسي والدهرون الرشيد وقد دخل عليه فوجده يلعب بالحمام فساق في الحال إسنادا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "في حديث: "لا سبق" بفتح المهملة وسكون الموحدة مصدر سبقت أسبق وبفتح الموحدة ما يجعل من المال رهنا على المسابقة والمعنى لا يحل أخذ المال على المسابقة "إلا في نصل" بفتح النون وسكون الصاد المهملة حديدة السهم " أو خف" وهو الأبل "أو حافر" وهو للخيل رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة2 مقتصرين على هذا اللفظ "فزاد فيه" غياث ابن ابراهيم "أو جناح" بفتح الجيم وهو للطائر "وكان المهدي إذ ذاك يلعب بالحمام فتركها وأمر بذبحها وقال" المهدي "أنا حملته على ذلك" أي على الزيادة المكذوبة وقال السخاوي فأمر له ببدرة يعني عشرة آلاف فلما فقى قال أشهد علي قفاك أنه قفا كذاب.
"وضرب" من الوضاعين "كانوا يتكسبون بذلك ويرتزقون به في قصصهم كأبي سعيد المدايني" وكما ذكر الطيبي في خلاصته قال جعفر بن محمد الطيالسي صلى أحمد بن حنبل ويحيى بن معين في مسجد الرصافة فقام بين أيديهما قاص فقال حدثنا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين قالا حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قال لا إله إلا الله يخلق من كل كلمة منها طائر منقاره من ذهب وريشه من مرجان وأخذ في قصة من نحو عشرين ورقة فجعل أحمد ينظر إلى يحيى ويحيى ينظر إلى أحمد فقال أنت حدثته بهذا؟
__________
1 فتح المغيث 1/128.
2 أحمد 2/256, 358, وأبو داود 2574. والترمذي 22. والنسائي 6/227, وابن ماجة 44, 2878.

(2/56)


فقال: لا والله ما سمعت به إلا هذه الساعة قال: فسكتا جميعا حتى فرغ فقال: أي أشار يحيى بيده إليه أن تعال فجاءهما متوهما لنوال الخير فقال يحيى: من حدثك بهذا؟ قال: أحمد بن حنبل ويحيى بن معين, فقال: أنا ابن معين وهذا أحمد بن حنبل ما سمعنا بهذا قط في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإن كان ولا بد من الكذب فعلى غيرنا فقال: أنت ابن معين؟ قال: نعم, قال: لم أزل أسمع أن ابن معين أحمق وما علمته إلا هذه الساعة, قال يحيى: وكيف علمت أني أحمق؟ فقال: كأنه ليس في الدنيا يحيى بن معين وأحمد بن حنبل غيركما, كتبت عن سبعة عشرة أحمد بن حنبل غير هذا, قال: فوضع أحمد بن حنبل كفه على وجهه وقال: دعه فقام كالمستهزئ بهما1 انتهى من شرح شرح النخبة لعلى قاري.
"وضرب امتحنوا بأولادهم أو وراقين" كتاب "لهم فوضعوا" لهم "أحاديث ودسوها عليهم فحدثوا بها من غير أن يشعروا كعبد الله بن محمد بن ربيعة بن قدامة القدامي" هكذا في شرح ألفية زين الدين وفي الميزان عبد الله بن محمد بن ربيعة بن قدامة القدامي المصيصي أحد الضعفاء له عن مالك مصائب وساق منها ويذكر أنه ابتلى بأولاد وورافين وضعوا عليه وليس في الميزان من يقال له القدامى سوى هذا.
"وضرب يلجؤون إلى إقامة دليل على ما أفتوا به بأرائهم فيضعون كما نقل عن أبي الخطاب ابن دحية إن ثبت عنه" كذا في شرح الزين وابن دحية هو عمر بن الحسن بن علي المديني الأندلسي قال في لسان الميزان متهم في نقله مع أنه كان من أوعية العلم دخل فيما لا يعنيه قال الحافظ الضياء لم يعجبني حاله كان كثير الوقيعة في الأئمة قال ابن نقطه كان موصوفا بالمعرفة والفصل إلا أنه كان يدعى أشياء لا حقيقة لها وقال ابن النجار رأيت الناس مجمعين على كذبه وضعفه وادعائه بسماع مالم يسمعه ولقاء من لم يلقه.
"وضرب يقلبون سند الحديث ليستغرب" أي من يسمع منهم "ويرغب في سماعه منهم وسيأتي هذا في المقلوب".
"وضرب يتدينون بذلك الترغيبب الناس في الخير يزعمهم وهم منسوبون إلى الزهد يحتسبون بذلك" أي الأجر والمثوبة "ويرونه قربة وهم أعظم الناس" ممن يضع الحديث.
__________
1 تذكرة الموضوعات 54.

(2/57)


"ضررا لثقة الناس بهم لزهدهم وقبوله منهم ولذا قال يحيى بن سعيد القطان ما رأيت الصالحين أكذب منهم في الحديث" ويحيى إمام شهير متفق على إمامته ومراده أنه لم يرأ كذب من الصالحين وإن رأى غيرهم كذابين ولما كان الكذب في الحديث النبوي ينافي الصلاح فضلا على الأكذبية قال زين الدين "يريد" يحيى بن سعيد "بذلك والله أعلم" أي بقوله الصالحين "المنسوبين إلى الصلاح بغير علم يفرقون به بين ما يجوز لهم من الرواية وما لا يجوز".
وعبارة زين الدين يفرقون به بين ما يجوز لهم ويمتنع عليهم فهو صلاح بغير علم وفي الحقيقة إنه ليس بصلاح فإنه لا صلاح إلا عن علم وإنما مراده أنه يعدهم الناس صالحين لما يرونه من تقشفهم وزهدهم مع أنهم من أهل الغباوة والجهل وهكذا العامة يعدون أهل الصلاح أهل هذا القسم ولذا قيل:
من عذيري من معشر هجروا العقـ ... ـل وحادوا عن الطريق القويمة
لا يرون الإنسان قد نال حظا ... من صلاح حتى يكون بهيمه
"ويدل على ذلك" أي على تأويل كلام يحيى بن سعيد "ما رواه ابن عدي والعقيلي بسندهما الصحيح إليه أنه قال" أي يحيى بن سعيد "ما رأيت الكذب في أحد أكثر منه فيمن ينسب إلى الخير قلت: فهذا صرح بإضافة ذلك" أي الأكثر منه "إلى من ينسب إلى الخير يعني وليس من أهله" فعليه تحمل العبارة المطلقة.
"قال زين الدين" بيانا منه لاحتمال آخر تحتمله عبارة يحيى بن سعيد "أو يريد أن الصالحين" حقيقة لا من لهم مجرد النسبة إلى الصلاح "عندهم حسن ظن وسلامة صدر فيحملون ما سمعوه على الصدق" فيكون نسبة الكذب أو الأكذبية إليهم مجازا أنهم يروون ما هو كذب في نفس الأمر وإن لم يكونوا كاذبين قلت: ولكن هذا التأويل يخرجهم عن أهل الضرب الذي هو بصدده إذ ليسوا بوضاعين.
"قال" أي زين الدين "ولكن الوضاعين ممن ينسب إلى الصلاح" بناء على عدم صحة التأويل الآخر وتقييد العبارة الأولى "وإن خفى حالهم على كثير من الناس" فقبلوا عنهم ما رووه "فإنه لم يخف على جهابذة الحديث" جمع جهبذ بكسر الجيم وهو النقاد الخبير كما في القاموس فعطف "ونقاده" من عطف التفسير "فقاموا بأعباء" جمع عبء بالكسر الحمل الثقيل من أي شيء "ما حملوا فتحملوه" من الكشف عن صحيح الأحاديث "فكشفوا عوارها" بتثليث العين المهملة العيب "ومحوا عارها" هو

(2/58)


أيضا العيب.
"حتى لقد روينا عن سفيان أنه قال ما ستر الله أحدا ليكذب في الحديث وروينا عن القاسم بن محمد أنه قال إن الله أعاننا على الكذابين بالنسيان" وبنسيانهم يعرف كذبهم وروينا عن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال لو أن رجلاهم أن يكذب في الحديث لأسقطه الله أي أظهر سقوط روايته.
"وروينا عن عبد الرحمن بن مهدي أنه قيل له هذه الأحاديث المصنوعة قال يعيش لها الجهابذة: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] فجعل الأحاديث النبوية داخلة تحت لفظ الذكر وأيده المصنف بقوله.
"قلت: قد احتج بعض أهل الحديث النبوي بأن الحديث النبوي داخل فيما ضمن عز وجل يحفظه من الذكر" الدال عليه {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وفي شرح شرح النخبة لعلي قاري أراد أن من جملة حفظ لفظ القرآن حفظ معناه ومن جملة معانيه الأحاديث النبوية الدالة على توضيح معانيه كما قال تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} فقي الحقيقة تكفل الله تعالى بحفظ الكتاب والسنة بأن يوجد من عباده من يجدد لهم أمر دينهم في كل أوان انتهى "بقوله تعالى في وصف رسوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] وإن كان قد يناقش في الاستدلال بأن الآية في وحي خاص هو القرآن كما يشعر به: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} إلى قوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} .
"وقد أحسن القاسم بن محمد في قوله أن شاء الله تعلى أعاننا على الكذابين بالنسيان فإنهم يخلطون ويناقضون ويظهر عليهم بسبب النسيان ما يحمل على تأمل أحوالهم حتى يتبين أمرهم" فهذا معنى إعانة الله عليهم بالنسيان.
"قلت: و" أعاننا الله عليهم "بسبب النسيان أيضا من تصريح" الكذاب "بالسماع في حتق راويين لا يمكن أنهما اجتمعا" فينسب إليهما السماع فيعلم بإتيانه بما لا يمكن أنه كاذب "أو نسبة حديث إلى وقت يعلم أنه لم يكن فيه أو طرح كذب معلوم على ثقة لا يحتمله أو سبق لسان" الكذاب "إلى إقرار بما يدل على التهمة".
وأما حكم الرواة والتعبد في العمل بروايتهم فقد أبانه المصنف بقوله "على أنا غير متعبدين" بالباطن أي مما في نفس الأمر مما لا نفعله من أحوال بواطن العباد "ومتى صلح الظاهر حكمنا به ولا جرح ولله الحمد" قلت: إلا أن هذا ينبني على أن إالأصل

(2/59)


العدالة أو على أن المراد أن العدل بعد ثبوت عدالته لا يبحث عن حاله "ولنا صفوه" أى الحديث "وثوابه وعلى الكاذب كيده" للإسلام بالكذب في أشرف علومه "وعقابه".
ثم إستدل على التعبد بما في الباطن بقوله "وقد فعل نحو هذا سيد المرسلين وقال: "إن أحدكم يكون ألحن بججته" 1 في النهاية2 المراد أن أحدكم يكون أعرف بالحجة وأفطن لها من غيره "وإنما أقضى بنحو ما أسمع فمن حكمت له بشىء من مال أخيه فانما أقطع له قطعة من نار" فإنه صريح في أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن مكلفا إلا بالظاهر وأدلته كثير كحديث: "إننى لم أومر أن أفتش على قلوب الناس" 3 وحديث: "حتى يقولون لا إله إلا الله" 4 "فهذا والوحى ينزل عليه وجبريل يهبط إليه وكذلك فعل أمير المؤمنين على عليه السلام من بعده وقد أمر بقطعيد السارق ثم بأن له لم يسرق" فدل أنه حكم يخلاف ما في نفس الأمر وهذا مبني على أن فعل على عليه السلام حجة "وقد كان يحلف من أتهمه في الرواية ثم يقبله والله أعلم" مع أنه يحلفه لا ترتفع إلا التهمه ولا يعلم به ما في نفس الأمر.
"قال زين الدين فمن أولئك الذين كانوا يكذون حسبة وتقربا إلى الله أبو عصمة نوح بن أبي مريم المروزى قاضي مرو" وعالمها قال الذهبي يقال له الجامع لأنه أخذ الفقه عن أبي حنيفة وإبن أبي ليلى والحديث عن ولى قضاء مرو في خلافة النصور وامتدت حياته سءل عنه 'بن المبارك فقال هو يفول لا إله إلا الله وقال أحمد يكن بذلك في الحديث وقال مسلم وغيره متروك الحديث.
"وروى الحاكم بسنده إلى أبي عمار المروزى أنه قيل لأبي عصمة من أين لك عن عكرمة عنإبن عباس في فضائل القرآن سورة سورة وليس عند أصحاب عكرمة هذا فقال إني رأيت الناس قد أغرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازى ابن إسحاق فوضعت هذا الحديث حسبة" فيه أن أنفراد الراوى مظنة تهمة فلذا سألوه وهذا مثال تصريح الواضح بالوضع.
__________
1 البخاري 9/32, 86. وأبو داود 3583. والموطأ 719, والبيهقي 10/149.
2 4/241.
3 البخاري في: المغازي: ب 61, ومسلم في: الزكاة: حديث 144, وأحمد 3/4.
4 البخاري 1/13, ومسلم في: الإيمان: حديث 34. وأحمد 2/345.

(2/60)


"وكان يقال لأبي عصمة هذا نوح الجامع" لجمعه الكمالات كما عرفت مما سقناه "فقال أبو حاتم جمع كل شيء إلا الصدق" قال البخاري منكر الحديث وقال إبن عدى عامة ماروى عنه لايتابع عليه قال الذهبى ومع ضعفه فهو ممن يكتب حديه ذكر ذلك في الميزان.
"وقال الحاكم وضع حديث فضائل القرآن وروى إبن حبان في مقدمة كتاب تاريخ الضعفاء عن إبن مهدى قال قلت: لمسيرة من عبد ربه" ومسيرة بفتح الميم ومثناة تحتيه ساكنهة هو الفارسي وهو ميسرة بن عبد ربه البصرى الأ كال كان يأكل كثيرا روى عن ليث إبن أبي سليم وإبن جريح وموسى بن عبيده والأرزاعى وعنه جماعة "من أين جئت بهذه الأحاديث من قرأ كذا فله كذا قال وضعتها أرغب الناس بها" وفي الميزان أنه قال لميسرة محمد بن عيسى بن الطباع بهذا الكلام في السؤال والجواب بلفظه إلا أنه قال وضعته لا يبعد أن كل واحد من ابن مهدي ومحمد بن عيسى سأله قال وكان ميسرة ممن يروي الموضوعات من الأثبات وقال أبو داود أقر بوضع الحديث وقال الدارقطني متروك وقال أبو حاتم كان يفتعل الحديث روى من فضائل قزوين أربعين حديثا وكان يقول إني أحتسب في ذلك قال البخاري ميسرة بن عبد ربه رمى بالكذب.
"وهكذا حديث أبي" ابن كعب "الطويل في فضائل القرآن سورة سورة" أي موضع "فروينا عن المؤمل" بزنة اسم المفعول أو الفاعل وهو أبو عبد الرحمن البصري مولى آل عمر بن الخطاب حافظ عالم يخطيء وثقة ابن معين وقال أبو حاتم صدوق شديد في السنة كثير الخطأ وقال البخاري منكر الحديث قاله في الميزان "ابن إسماعيل أنه قال حدثني به شيخ فقلت: للشيخ من حدثك فقال حدثني ردل بالمدائن وهو حي فصرت إليه فقلت: من حدثك فقال حدثني شيخ بالبصرة فصرت إليه فقال حدثني شيخ بعبادان" هي جزيرة أحاط بها شعبنا دجلة ساكبتين في بحر فارس "فصرت أليه فأخذ بيدي فأدخلني بيتا فإذا فيه قوة من المتصوفة ومعهم شيخ فقال هذا الشيخ حدثني فقلت: ياشيخ من حدثك قال لم يحدثني أحد ولكنا رأينا الناس قد رغبوا عن القرآن فوضعنا لهم هذا الحديث ليصرفوا قلوبهم إلى القرآن" هكذا ساق الققصة زين الدين في شرحه وساقها الحافظ ابن حجر في نكته بزيادة فزاد بعد قوله حدثني رجل بالمدائن وهو حي فصرت إليه فقلت: من حدثك فقال حدثني

(2/61)


شيخ بواسط فصرت أليه إلى أن قال حدثني شيخ بالبصرة1.
"قال" أي زين الدين "وكل من أودع حديث أبي المذكور في تفسيره كالواحدي2 والثعلبي والزمخشري" قلت: والبيضاوي وأبي سعيد "مخطئ في ذلك" لأنه روى ما هو كذب بإقرار واضعه "لكن من أبرز إسناده منهم فهو أبسط لعذره إذ قد أحال ناظره على الكشف عن سنده" تمام كلام زين الدين وأما من لم يذكر سنده فأورده بصيغة الجزم فخطاؤه أشد كالزمخشري.
قال الحافظ ابن حجر: والإكتفاء عن الحوالة على الإكتفاء بالنظر في السند طريقة معروفة لكثير من المحدثين وعليها يحمل ما صدر عن كثير منهم من إيراد الأحاديث الساقطة معرضين عن بيانها تصريحا وقد وقع هذا لجماعة من كبار الأئمة وكان ذكر الإسناد عندهم من جملة البيان انتهى.
قلت: ولا يتوهم الناظر أنه لم يثبت حديث في فضائل سور من القرآن فقد ثبتت أحاديث في سور معينة كالصمد وغيرها منها ما هو صحيح ومنها ما هو حسن وقد أودعها الجلال السيوطي في كتابه الدر المنشور.
"قلت: بل من لم يعتقد وضعه أعذر عن ذلك إذ كل ناظر إلى الإسناد لا يعرف أنه أسنده لهذه العلة بل ولايتهم ذلك ويقل في أهل المعارف من يتمكن من البحث في الإسناد فكيف بغيرهم" لا يخفى قوة كلام المصنف هذا على منصف.
"قال زين الدين وذكر الإمام أبو بكر محمد بن منصور السمعاني أن بعض الكرامية" بتشديد الراء نسبة إلى أبي عبد الله محمد بن كرام السجستاني وكان عابدا زاهدا إلا أنه خذل كما قال ابن حبان فالتقط من المذاهب أردأها من الأحاديث أوهاها وأطال الذهبي في الميزان وفي ترجمته وبيان فساد أحواله وقيل كرام بالتخفيف وأنشد عليه ابن الوكيل قول الشاعر:
الفقه فقه أبي حنيفة وحده ... والدين دين محمد بن كرام
__________
1 فتح المغيث 1/131, والنكت 2/637. والكفاية ص 401. والموضوعات 1/41, 2/242.
2 الواحدي هو: علي بن أحمد بن محمد أبو الحسن النيسابوري كان أوحد عصره في التفسير لازم الثعلبي صنف التفاسير الثلاثة البسيط والوسيط والوجيز مات سنة 468. له ترجمة في: البداية والنهاية 12/114. وشذرات الذهب 3/330, والعبر 3/267.

(2/62)


وقبله:
إن الذين لجهلهم لم يقتدوا ... في الدين بابن كرام غير كرام
وهما لأبي الفتح البستي.
"ذهب إلى جواز وضع الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما لا يتعلق به حكم من الثواب والعقاب ترغيبا للناس في الطاعة وزجرا لهو عن المعصية" يقال: هذا أيضا يتعلق به ثواب وعقاب.
"واستدلوا" لما أجاروه بأدلة:
أحدهما: قوله: "بما روى في بعض طريق الحديث: "من كذب علي متعمدا ليضل به الناس فليتبوأ مقعده من النار" أخرجه الطبراني عن عمرو بن حريث وأبو نعيم في الحلية1 عن ابن مسعود قالوا فتحل الروايات المطلقة على الروايات المقيدة كما بتعين حمل الروايات المطلقة عن التعمد على المقيدة به.
وأجيب بأن قوله ليضل به الناس مما اتفق الحفاظ على أنها زيادة ضعيفة وأقوى طرقها ما رواه الحاكم وضعفه من طريقق يونس بن بكر عن الأعمش عن طلحة بن مصرف عن عمرو بن شرحبيل عن ابن مسعود قال الحاكم وهم يونس في موضعين أحدهما أنه أسقط بين طلحة وعمرو رجلا وهو أبو عمار.
الثاني: أنه وصله بذكر ابن مسعود وإنما هو مرسل وعلى تقدير قبول هذه الزيادة فلا تعلق لهم بها لأن لها وجهين صحيحين:
أحدهما: أن اللام في قوله ليضل لام العاقبة من باب: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8] قلت: فيه تأمل لأن معنى لام العاقبة هنا ليكون عاقبة كذبه إضلال الناس وهم لا يضلون بكذبه لأن كذب الكاذب عليه صلى الله عليه وسلم إما أن يعلمه الناس أو يجهلونه إن علموا أنه كذب فضلا لهم من حيث إنهم عملوا بالحديث الكاذب ولو كان من غير تعمد لإضلالهم وإن عملوا به مع جهلهم كونه كذبا فلا ضلال بل هم مأجورون لما عرفت قريبا من أنهم غير مخاطبين بما في نفس الأمر على أن حمل اللام على ذلك لا يجدي نفعا لأن مراد المستدل بمفهوم ليضل الناس أنه إن وضع ما لا إضلال فيه للناس فإنه غير داخل في الوعيد فكيف يصح عليه بأنها تحمل اللام
__________
1 الموضوعات 1/97, وابن عدي 1/20. والمجمع 1/144, 146.

(2/63)


للعاقبة وكأنه يقول من حملها على ذلك إنه لا مفهوم لها ولا نسلم فإنه باطل بالوجه الأول فتأمل.
وثانيهما: أنها للتأكيد ولا مفهوم لها من باب: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ} الآية لأن الافتراء على الله محرم سواء قصد به إضلال الناس أولا.
"وحمل بعضهم حديث: "من كذب علي متعمدا" على من قال أنه ساحر أو مجنون" واستدلوا لذلك بحديث أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده بين عيني جهنم" قالوا: يا رسول الله تحدث عنك بالحديث فتزيد وتنقص؟ قال: "ليس ذلك أعنيكم إنما أعنى الذي كذب علي متحدثا بطلب به شين الإسلام" الحديث أخرجه الطبراني في الكبير وابن مردويه1 وجوابه ما قاله الحاكم إنه حديث باطل فيه محمد بن الفضل بن عطية العوفي اتفقوا على تكذيبه وقال صالح جزره كان يضع الحديث.
"وقال بعض المخذولين" ممن أجاز الكذب عليه صلى الله عليه وسلم ترغيبا وترهيبا "إنما قال من كذب علي ونحن نكذب له ونقوي شرعه" وجوابه أن هذا جهل منهم باللغة لأنه كذب عليه في وضع الأحكام فإن المندوب قسم منها ولأنه يتضمن الأخبار عن الله في الوعد على ذلك العمل بالاثابة والاخبار بالعقوبة المعينة ولأنه تعالى قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] الآية فلا يحتاج إلى زيادة لنقويته كما قالوه "نسأل الله السلامة من الخذلان وروى العقيلي باسناده إلى محمد بن سعيد كأنه المصلوب" كذا في شرح الزين لألفيته بالأتيان بكلمهة الشك وفي الميزان في ترجمة محمد بن سعيد المصلوب قال أبو زرعة الدمشقي حديثا محمود بن خالد عن أبيه سمعت محمد بن سعيد يقول "لا بأس إذا كان كلاما حسنا أن يضع له إسنادا" قال الذهبي إتهم بالزندقة فصلب وفي نكت البقاعي قال عن عبد الله إبن أحمد أبيه أنه قتله أبو جعفر على الزندقة حديثه حديث موضوع.
"قلت: مثل هذا لايخفي جوابه فإن الكذب على الله وعلى رسوله بالجملة معلوم تحريمه من الدين ضرورة" فإن القرآن مملوء بذلك ففي حقه تعالى والسنة في حق رسوله
__________
1 الموضوعات 1/95, وابن كثير 1/211. والقرطبي 13/7. والدر 5/64.

(2/64)


صلى الله عليه وسلم ولأن الافتراء على الرسل إفتراء على الله هذا بالنسبة إلى الجملة.
"وبالنسبة إغلى الترغيب والترهيب معلوم تحريمه بالاستدلال بمجموع الكتاب والسنة والاجماع المعلوم قبل حدوث هؤلاء" الزاعمين جوازه "فإن تكرر تلك العمومات" القرآنية مثل: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} [الأنعام: 21] ونحو من كذب على متعمدا "والظواهر" عطف عام على خاص أو تفسيرى "من غير التفات" من أحد من العلماء "إلى تخصيص على طول الأزمان يؤثر في نفس المتأمل القطع على عدم هذا التخصيص ومستند القطع بعد النظر التام والتأمل ضرورى حاصل من مجموع تلك الأمور مع القرائن وقد ذكر" الامام فخر الدين "الرازى1" المعروف بابن الخطيب صاحب مفاتيح الغيب وغيره "في المحصول" كتابه الذي ألفه في أصول الفقه "أن العلم بمقصود المتكلم" من ألفاظه "إنما يحصل بالقرائن" التي تحفه "وذلك لأن أصرح الألفاظ النص وهو محتمل" إن ورد "في أمور التحريم للنسخ" وإن كان إحتمالا مرجوجا "وفيها" أى ألفاظ النص محتمل "وفي غيرها لأمور كثيرة من التجوز والأشتراك والإضمار والتخصيص وغير ذلك" حتى إن الأسم العلم الذي هو أبلغ نص في مسماه يحتمل التجوز فإنك إذا قلت: جاء زيد إحتمل أنك تريد غلام. زيد.
"وغاية ما يقول المستدل" بالنصوص "أن هذه الأمور" المذكورة بالإحتمال "منتفية عن النص لكن دليله على ذلك" الإنتقاء "عدم الوجدان وهو ظنى" وحينئذ فلا يحصل علم ضرورى عن النصوص "فأجاب عن هذا" الإيراد بالتزامه وأن النص من حيث هو نص لا يفيد إلا الظن ولكن قد يحصل العلم منه "بأنا قد نعلم بعض المقاصد" من الألفا ظ "بالضروة الصادرة عن القرائن التى لا ترفع بالشك" فيتم حينئذ ما ادعاه الصنف من أنه قد يحصل القطع من تلك الأمور مع القرائن.
"قلت: وما نزل عن مرتبة العلم" من المطالب "فليس علينا تكليف في رفعه إليها" إلى مرتبة العلم "بل نقف حيث وقف الدليل" من إفادة علم أو ظن "ومثال ذلك" أي مثال ما يحتمل غير المراد وتبين المراد فيه القرائن وتصيره قطعيا "قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} فإنا نعلم" مع احتماله للإباحة "بالقرآئن أن هذا تمهيد لا إباحة وإن كان لفظه يحتمل الإباحة".
__________
1 الإمام فخر الدين الرازي توفي سنة 606. له ترجمة في: شذرات الذهب 5/21.

(2/65)


"ثم" أخذ في الرد على بعض الكرامية ورد دليلهم بقله "نقول للكرامية لو جاز لنا أن نكذب في الترغيب والترهيب نصرة للدين" كما قلتم "لجاز للنبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك وتجويز مثل ذلك عليه كفر بالإجماع القطعي" قلت: لعله يقال أما على رأي من يجيز التفويض إليه صلى الله عليه وسلم فلا يتصور الكذب في حقه فلا يتم الإيراد "فما أدى فهو كفر باطل قطعا وقد أدى إليه مذهبهم وذلك يؤدي إلى الشك في الجنة والنار أيضا" لجواز الكذب في الأخبار بهما وإنما ذكرهما ترغيبا وترهيبا إلا أنه قد يقال فد ثبت الأخبار بهما بالنصوص القرآنية والكلام في الأخبار النبوية إذ لا نزاع أن القرآن كلام الله سبحانه وتعالى إلا أنه يقال تجويز الكذب عليه صلى الله عليه وسلم يلزم منه جواز أن القرآن من كلامه وهذا خروج عن الإسلام "وليس هذا موضع بسط للرد عليهم لكن هذه فائدة على قدر هذا المختصر".
"قال زين الدين وحكى القرطبي" بضم القاف نسبة إلى قرطبة مدينة بالأندلس في المفهم بزنة اسم الفاعل شرح على مسلم "عن بعض أهل الرأي" هم عند الإطلاق مراد بهم الحنفية "إن ما وافق القياس الجلي جاز أن يعزي" ينسب "إلى النبي صلى الله عليه وسلم وروى ابن حبان في مقدمة تاريخ الضعفاء بإسناده إلى عبد الله بن يزيد المقري أن رجلا من أهل البدع رجع عن بدعته وتاب عنها فجعل يقول انظروا إلى هذا الحديث عمن تأخذونه فإناكنا إذا رأينا رأيا جعلنا له حديثا قلت: لعل من جملة بدعة هذا الرجل يقول بجواز الكذب في نصرة ما اعتقده حقا إذ ليس كل صاحب بدعة كذلك" أي يقول بجواز الكذب لنصرة مذهبه.
"وأما الكذب فيشترك في ارتكابه المبتدع ولامحق وكذلك الصدق" مشترك في وقوعه منهما "فكم من صحيح العقيدة فاسق كذاب" إذ لا ملازمة بين صحة العقيدة وعدم الفسق والكذب "ومن مبتدع ناسك أواب" لعدم التلازم أيضا بين الأمرين "نسأل الله التوفيق للسلامة من كلاهاتين المعصيتين".
فائدة: في حكم تعمد الكذب عليه صلى الله عليه وسلم "والجمهور على أن تعمد الكذب على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كبيرة" لأنه قد صدق عليها رسم الكبيرة بأنه ما توعد عليه بالعقاب "وقال الجويني إنها" أي هذه الكبيرة "كفر ويدل على قوله قول الله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} [الأنعام: 21] فسوى" في الآية "بين الكذب على الله وتكذيبه" ولا شك أتكذيبه كفر وأن الكذب على الرسول

(2/66)


صلى الله عليه وسلم كالكذب على الله تعالى "واستنكر" الرب تعالى حيث أتى بالاستفهام الأنكاري "أن يكون ذنب" أي ظلم "أعظم من ذلك قال" الجويني "ولأنه قد يكذب" من يكذب على الله أو رسوله "ما يرفع" الحكم "الضروري" وذلك "على الصحيح" من القولين "في نسخ المتواتر" الذي أفاد الضرورة "بالآحاد" الذي فرض وضع الراوي له "ورفع الضروري كفر" لأنه تكذيب للشارع وهو كفر و "لأن الكذب في الشريعة يدل على الإستهانة بها" ضرورة "والله أعلم" وهذا من المصنف تقوية لكلام الجويني.
"قال زين الدين ومن أقسام الموضوع ما لم يقصده وضعه وإنما وهم فيه بعض الرواة" فسماه موضوعا "قال ابن الصلاح: إنه شبه الوضع" من حيث إنه ليس بحديث في إرادة قائله ولا واضعه.
"مثل حديث من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار رواه ابن ماجه1 من حديث" إسماعيل بن محمد الطلحي كما في شرح الزين عن "ثابت بن موسى الزاهد عن شريك عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر مرفوعا قال الحاكم" أبو عبد الله محمد بن عبد الله "دخل ثابت على شريك والمستملي بين يديه" بين يدي شريك "وشريك يقول حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكر" شريك "المتن" أي متن السنذ الذي ساقه "فلما نظر" شريك "إلى ثابت بن موسى" عند دخوله عليه وفراغه من إملاء السند "قال" شريك يخاطب ثابتا "من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار وإنما أراد" شريك بقوله من كثرت صلاته ألخ "ثابتا لزهده وورعه" فأعرض عن ذكر متن ما ساق سنده إلى وصف ثابت بكثرة صلاته بالليل وحسن وجهه بالنهار "فظن ثابت أنه" أي شريكا "روى هذا الحديث" إلى آخر الكلام "مرفوعا بهذا الإسناد" ولا عجب من ظن ثابت لأن شبهته في ظنه قوية فإن شريك عقب قوله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله من كثرت صلاته إلخ "فكان ثابت يحدث عن شريك عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر" قال ابن حبان وهذا قول شريك قاله عقب حديث الأعمش عن أبي سفيان عن جابر يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم فأدرجه ثابت في الخبر ثم سرقه منه جماعة ضعفاء فحدثوا به عن شريك فعلى هذا هو من أقسام المدرج قاله زين الدين.
__________
1 رقم 1333, والخطيب 1/341. وتنزيه الشريعة 2/106.

(2/67)


"ونحو هذه القصة ما قاله محمد بن عبد الله بن نمير" لفظ الزين قال أبو حاتم الرازي كتبته عن ثابت فذكرته لابن نمير فقال الشيخ يعنى ثابتا لا بأس به والحديث منكر قال ابن عدي بلغنا عن محمد ابن عبد الله بن نمير أنه ذكر له هذا الحديث عن ثابت فقال باطل شبه على ثابت وذكر أن شريكا كان مزاحا وكان ثابت رجلا صالحا فيشبه أن يكون ثابت دخل على شريك وكان شريك يقول حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم فالتفت فرأي ثابتا فقال يمازحه من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار فظن ثابت لغفلته أن هذا الكلام حديث ذكر هذا الذهبي في الميزان.
"وقال ابن عدي إنه" أي من كثرت صلاته إلخ "حديث منكر لا يعرف إلا بثابت وسرقه منه من الضعفاء عبد الحميد بن بحر" في الميزان أنه بصري روى عن مالك قال ابن حبان كان يسرق الحديث وكذا قال ابن عدي.
"وعبد الله بن شبرمة الشريكي" وليس هوابن شبرمة الفقيه فقد غلط من اعترض وقال ابن شبرمة ثقة فقيه وقال البقاعي لم أر له ذكرا أي لعبد الله بن شبرمة مع الفحص عنه وأظنه عبد الله بن شبيب الربعي تصحف على النقلة وكنيته أبو سعيد وهو أخباري علامة قال شيخنا في لسان الميزان يروى عن أصحاب مالك وآخر من حدث عنه المحاملي وأبو روق الهزاهزي لكنه واه بمرة.
"واسحق بن بشر الكاهلي" في الميزان إنه كذبه على بن المديني وقال ابن حبان لا يحل كتب حديثه إلا للتعجب.
"وموسى بن محمد أبو الطاهر المقدسي" في لسان الميزان إنه ابن عطاء الدمياطي البلقاوي الرملي المقدسي أبو طاهر روى عن مالك وشريك قال ابن حبان لا تحل الرواية عنه كان يضع الحديث.
"قال" أي ابن عدي: "وحدثنا به بعض الضعفاء عن رحمويه" بالراء والحاء المهملتين في نسخ التنقيح وفي شرح الزين حمويه بدون راء ولم أجده في الميزان وإنما وجدنا فيه حمويه بن حسين وفي نكت البقاعي أن رحمويه اسمه زكرياء بن صبيح بالفتح الواسطي أحد الثقات ورحمويه لقب "وكذب" أي بعض الضعفاء "فإن رحمويه ثقة" لا يحدث بمثل ذلك.
"وقال العقيلي إنه حديث باطل ليس له أصل ولا يتابعه" أي ثابتا "عليه ثقة وقال

(2/68)


عبد الغني بن سعيد كل من حدث به عن شريك فهو غير ثقة وقال ابن معين في ثابت إنه كذاب" وقال أبو حاتم وغيره ضعيف وقال أبو حاتم لا يجوز الاحتجاج بأخباره.
"قلت: وبمثل هذا حذرتك فيما مضى من اعتقاد تعمد الكذب فيمن أطلق عليه بعض المحدثين أنه كذاب فهذا يحيى بن معين على جلالته يطلق ذلك على ثابت الورع الزاهد ولم يتعمد ثابت شيئا من ذلك" أي من الكذب "بل ولم يظهر منه كثرة الخطأ".
قلت: أخرج له النسائي لا غيره قال في الميزان عن ابن عدي إنه تفرد ثابت عن شريك بخبرين منكرين ثم ذكرهما أحدهما هذا الحديث الذي نحن بصدده ثم ذكر الثاني ثم قال ولثابت ثلاثة أحاديث معروفة وساقها في الميزان فهذا مراد المصنف من عدم كثرة الخطأة "ولذلك وثقة مطين" بضم الميم فطاء مهملة فمثناة تحتية فنون هو الحافظ الكبير أبو جعفر محمد بن عبد الله بن سليمان الخضرمي الكوفي قال الذهبي في التذكرة كان من أوعية العلم وذكر له مؤلفات وقال الدارقطني ثقة جبل انتهى قلت: لكن إذا تعارض كلامه وكلام يحيى بن معين فيرجح كلام يحيى لأنه أفقه بمعرفة الرجال باتفاق الحافظ ولمرجح آخر هو تقديم الجرح.
"والصورة التي حكاها الحاكم محمد بن عبد الله بن نمير مما يوضح أن ثابتا رحمه الله معذور في الوهم فإنه سمع شريكا يسند حتى انتهى إلى جابر فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم الحديث" تمامه: "إذا نام ثلاث عقد يضرب على كل عقدة عليك ليل طويل فارقد فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة فإن توضأ انحلت عقدة فإن صلى انحلت عقده كلها فأصبح نشطا طيب النفس إلا أصبح خبيث النفس كسلان" رواه مالك والشيخان وأبو داود وابن ماجه1 وقوله قافية رأس أحدكم المراد مؤخره ومنه سمي آخر بيت الشعر قافية.
واعلم أن الحاكم جزم بأنه دخل ثابت على شريك فسمعه يذكر السند إلى آخر ما تقدم وأما ابن نمير فلم يجزم بذلك بل قال كما نقله الذهبي في الميزان فيشبه أن يكون ثابت دخل على شريك إلى آخر ما قدمناه عنه.
"قال ابن حبان فمن أين لثابت أن أوله من قول شريك لا سيما وقوله: "بعده يقعد
__________
1 مالك 176, والبخاري 2/65, ومسلم في: صلاة المسافرين: حديث 209, وأبو داود 1306. وابن ماجة 1329.

(2/69)


الشيطان على قافية رأس أحدكم" ملائم لأول الحديث" أي الكلام الذي ظنه ثابت حديثا "فإنه يتعلق بتخذيل الشيطان للإنسان عن قيام الليل الذي ذكر ما فيه من الفضيلة في أول الحديث" وهي حسن وجه من كثرت صلاته بالليل.
"فعلى هذا" أي يتفرع على إطلاق يحيى على ثابت أنه كذاب مع ما عرف من حال ثابت "قول المحدثين فلان كذاب من قبيل الجرح المطلق الذي لم يفسر سببه" هو وصف كاشف للمطلق "فيتوقف" عند أطلاقه من إمام من أئمة الحديث "فيمن هذه حاله" أي حكال ثابت وزهده وورعه "حتى يعرف السبب" في إطلاق ذلك اللفظ عليه "إن كان" من أطلق عليه "ضعيفا" عمل بإطلاق ذلك اللفظ "ويوثق" من أطلق عليه الكذب "إن كان" من أطلق عليه "شهيرا بالعدالة" فإطلاق الكذب عليه لا يضره بل يوجب البحث عنه حتى يتبيل حاله.
"كعمرو بن عبيد" هو أبو عثمان المعتزلي البصري كان زاهدا ورعا متألها قال ابن معين لا يكتبت حديثه وقال النسائي متروك وقال أيوب ويونس يكذب وقال ابن حبان كان من أهل الورع والعبادة إلى أن أحدث ما أحدث فاعتزل مجلس الحسن هو وجماعة معه قسموا المعتزلة قال وكان يشئم الصحابة ويكذب في الحديث وهما لا تعمدا قاله الذهبي في الميزان وأطال في ترجمته.
"إن لم يصح أنه كان سيء الحفظ" استثناء منقطع فإن سوء الحفظ لا ينافي عدالته ولذا قال "وإن صح ذلك ضعف ولم يكذب" فإن الكذب ينافي العدالة ولا ينافيها الضعف "حتى لا يترك المعلوم من عدالته إلا بجرح مثلها في الصحة والظهور" حاصله أنها إذا ثبتت فلا يرفعها إلا جرح ثابت لا محتمل ووصفهم بالكذب للمشاهير بالعدالة لا يريدون به حقيقة بل مطلق التضعيف مجازا ولذا قال ابن حبان في عمرو يكذب في الحديث وهما لا تعمدا فإن الحقيقة في الكذب الذي يقدح ما كان عن عمد "أو" يخرج عن العدالة "أمر بين السبب متعذر التأويل وإن كان أخفى منها" من العدالة شهرة وظهورا.
"وإنما ذكرت هذا هنا" وإن كان محله ما سيأتي "حرصا على إظهار هذه الفائدة الجليلة" وهي أن رمي الرجل الشهير بالعدالة بالكذب لا يوجب القدح فيه بل يوجب توقفا في قبوله حتى يبين سبب ضعفه وإن كان القدح بالكذب فيمن لم تعرف عدالته كان جرحا مبين السبب بأنه الكذب كما يدل له قوله "فقد جرح بمثل هذا كثير من

(2/70)


الثقات وما على الجارح إثم لأنه عمل بالظاهر ولم يعلم الباطن" ولا على الغافل أيضا إثم لأنه قبل قول الثقة ولا يخفى أن هذا تخصيص للقاعدة المعروفة بأن الجارح أولى وقد صرحوا بتخصيصها ويأتي الكلام في هذا كله.
"وقد اعترض على صاحبي الصحيحين" البخاري ومسلم "بروايتهما عن جماعة الثقات الرفعاء لشيء خفيف صدر عنهم من هذا القبيل فتجاسر من لا يلتفت إلى كلامه فتكلم عليهم" على الرفعاء وعلى الشيخين في الإخراج عنهم وقد تقدم كلام أبي محمد بن حزم وغيره "والعدالة غير العصمة ولله الحمد" فلا ينافيها صدور شيء من المعاصي وفيه تأمل.
* * *

(2/71)