توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار مسألة: 51 [في مراتب الجرح]
"مراتب التجريح هي خمس مراتب وجعلها إن أبى حاتم أربعاوتبعمه
ابن الصلاح" وسوقها المنصف كالزين في التدلي إلى الأدنى معأن
العكس كما فعله ابن أبي حاتم وابن الصلاح كان أنسب لتكون مراتب
القسمين منخرطة في سلك واحد بحيث يكون أولها الأعلى من التعديل
وآخرها الأعلى من التجريح.
"الأولى" من المراتب الأربع "وهي أسوؤها أن يقال فلان كذاب أو
يكذب أو يضع الحديث أو وضاع الحديث أو وضع حديثا أو دجال" وذكر
السخاوي1 عن شيخه الحافظ ابن حجر أنه جعل المرتبة الأولى مادل
على المبالغة كأكذب الناس وإليه المنتهى في الوضع وهو ركن
الكذب قال فهذه المرتبة الأولى ثم يليها كذاب إلى آخر ما سرده
المصنف.
قلت: والذي في مقدمة التقريب أنه جعل المرتبة الثانية عشر من
أطلق عليه اسم الكذب ولاوضع هذا لفظه وهي أول المراتب هنا وفي
النخبة وشرحها2 الطعن يكون بعشرة أشياء إلى أن قال وهذا
ترتيبها على الأشد فالأشد في موجب الرد لأن الطعن إما يكذب
الراوي ثم قال وهو الموضع فجعل الوصف بالكذب أول المراتب بأي
عبارة كان.
"وأدخل ابن أبي حاتم والخطيب بعض ألفاظ المرتية الثانية وفي
هذه المرتبة قال ابن أبي حاتم إذا قالوا متروك أو ذاهب الحديث
أو كذب فهو ساقط لا يكتب حديثه وقال الخطيب أدون العبارات أن
يقال كذاب ساقط الحديث قال الزين" بعد نقله لهذا الكلام "وقد
فرقت بين هذه الألفاظ تبعا لصاحب الميزان يعني الحافظ الذهبي
فإنه جعلها
__________
1 فتح المغيث 2/120.
2 ص 43.
(2/166)
من الثانية".
"المرتبة الثانية" وألفاظها "فلان متهم بالكذب أو الوضع فلان
ساقط وفلان هالك وفلان ذاهب أو ذاهب الحديث أو متروك أو متروك
الحديث أو تركوه أول يعتبر به أو بحديثه أوليس بالثقة أو غير
ثقة ولا مأمون أو نحو ذلك وفيه نظر وسكتوا عنه" قال الزين1
وهاتان العبارتان للبخاري فيمن تركوا حديثه.
"المرتبة الثالثة فلان رد حديثه أو ردوا حديثه أو مردود الحديث
أو ضعيف جدا أو واه بمرة" قال الحافظ ابن حجر: أي قولا واحدا
لا تردد فيه "أو طرحوا حديثه أو مطروح الحديث وارم به وفلان
ليس بشيء أو لا شيء أو لا يساوي شيئا أو نحو ذلك" قال زين
الدين بعد سرده لهذه الألفاظ "وكل من قيل فيه ذلك من" أهل "هذه
المراتب الثلاث لا يحتج به ولا يعتبر ولا يستشهد به" انتهى.
قال المصنف "ونلحق بذلك فائدة و" هي أن الحافظ ابن حجر ذكر في
مقدمة شرح البخاري في ترجمة عبد العزيز بن المختار البصري "أنه
ذكر ابن القطان" الفاسي بالفاء نسبة إلى فاس "أن مراد ابن معين
بقوله في بعض الرواة ليس بشيء يعني أن أحاديثه قليلة جدا" فلا
يكون إطلاق ذلك اللفظ جرحا.
"المرتبة الرابعة فلان ضعيف أو منكر الحديث أوواه أو ضعفوه أو
لا يحتج به وضقال الحافظ ابن حجر: في ترجمة يزيد بن عبد الله
بن خصيفة" ضبطه الحافظ في التقريب بمعجمة ثم مهملة وقال إنه
ثقة "الكندي إن أحمد بن حنبل يطلق على من يغرب" أي يأتي
بالغرائب "على أقرانه في الحديث أنه منكر الحديث قال عرف ذلك
بالإستقراء من حاله قال وابن خصيفة احتج به مالك والأئمة كلهم
مع قول أحمد ذلك فيه" فاصطلاح أحمد غير اصطلاح غيره فينبغي أنه
يتنبه له.
"وكذا قال" الحافظ "إن مذهب البرذنجي" تقدم لنا ضبطه "أن
المنكر هو الفرد وإن تفرد به ثقة فلا يكون قوله في الراوي إنه
منكر الحديث جرحا ذكره في ترجمة يونس بن القاسم الحنفي
اليماني".
"المرتبة الخامسة فلان يقال فيه أو ضعف أو فيه ضعف أو في حديثه
ضعف أو فلان تعرف وتنكر أو ليس بذلك أو ليس بذاك القوى أو ليس
بالقوي أو ليس بالمتين
__________
1 فتح المغيث 2/39.
(2/167)
أو ليس بحجة أو ليس بعمدة أو بالمرضي أو
للضعف ما هو" هي مثل قوله إلى الصدق ما هو واللام بمعنى إلى
"أو فيه خلاف أو طعنوا فيه أو مطعون فيه أو سيء الحفظ أو لين
أو لين الحديث أو فيه لين أو تكلموا فيه ونحو ذلك" قال ابن
المديني بعد سرده لما ذكر.
"وكل" مبتدأ مضاف إلى "من ذكر في المرتبة الرابعة أو الخامسة
فإنه" خبر كل وأدخلت الفاء كما عرف في النحو "يخرج حديثه
للاعتبار" وتقدم بيانه.
"قال ابن أبي حاتم إذا أجابوا في رجل أنه لين الحديث فهو ممن
يكتب حديثه وينتظر في اعتبارا" وهو من أهل المرتبة الخامسة كما
عرفت "وإذا قالوا ليس بقوي" فهو من أهل المرتبة الرابعة "فهو
بمنزلته" لين الحديث في كتابه حديثه إلا أنه دونه "وإذا قالوا
ضعيف فهو دون الثاني" أي دون قولهم ليس بقوي لا يطرح حديثه بل
يعتبر فيه.
"قال" زين الدين "وقد تقدم في كلام ابن معين ما قد يخالف هذا
من أن من قال فيه ضعف فليس بثقة لا يكتب حديثه وتقدم أن ابن
الصلاح أجاب عنه بأنه لم يحكه عن غيره من أهل الحديث" كما سلف
"وسأل حمزه السهمي الدرا قطني أيش تريد" أصله أي شيء فخفف ووصل
"إذا قلت: فلان لين قال لا يكون ساقطا متروك الحديث ولكن
مجروحا بشيء لا يسقط عن العدالة".
قال الزين "وأما تمييز ما زدته من ألفاظ الجرح على ابن الصلاح
فهي فلان يضع ووضاع ودجال ومتهم بالكذب وهالك وفيه نظر وسكتوا
عنه ولا يعتبر به وليس بالثقة ورد حديثه وضعيف جدا رواه بمرة
وطرحوا حديه وارمبه ومطرح ولا يساوي شيئا ومنكر الحديث رواه
وضعفوه وفيه مقال أو ضعف ويعرف وينكر أي يأتي مرة بالمناكير
ومرة بالمشاهير فينبغي أن ينظر حديثه ولا يؤخذ ما رواه مسلما
وهو قريب من قولهم في التوثيق محلقه الصدق وما معها من ألفاظ
المرتبة الرابعة وليس بالمتين وليس بحجة وليس بعمدة وليس
بالمرضي وللضعف ما هو وفيه خلاف وطعنوا فيه وسيئ الحفظ وتكلموا
فيه فهذه لم يذكرها ابن أبي حاتم ولا ابن الصلاح وهي موجودة في
كلام أئمة هذا الشأن" انتهى كلام زين الدين.
ثم ذكر المصنف فوائد لم يذكرها الزين وهي خلاصة ما ساقه فقال
"ويلحق به فوائد":
"الأولى: أن أهل المرتبتين الرابعة والخامسة من أهل الديانة
والصدق والعدالة وإنما
(2/168)
تكلم عليهم لشيء في حفظهم" فعلى هذا كل تلك
العبارات مراد بها خفة الضبط لا غير "ولهذا لا يكذبون كأهل
المرتبة الأولى ولا يتهمون بذلك ولا يترك حديثهم ولا يقال في
واحد منهم ليس بثقة" فكل هؤلاء هم أهل المرتبة الثانية من
مراتب التعديل لكن لا يخفى أن أهل المرتبة الثانية من قيل فيه
متقن ثبت حافظ ضابط حجة ثقة وهذه الألفاظ تنافي عبارات أهل
الرابعة والخامسة إذ هي ضعيف منكر الحديث ضعفوه ونحوها وكأنه
أشار بقوله "فتأمل" إلى هذا فإن أهل المرتبة الرابعة والخامسة
أرفع من أن يقال في أحدهم ليس بثقة كمن ذكرنا من أهل المرتبة
الثانية من مراتب التجريح.
"الفائدة الثانية: أن أهل المرتبة الثالثة من مراتب التجريح
أرفع من أن يقال لأحدهم ليس بثقة ولا يتهمون بالكذب مع أن
حديثهم مردود ومطروح لقولهم فيها فلان ردوا حديثه أو مردود
الحديث أو ضعيف جدا فبهذا تعرف أن أهل المرتبة الثالثة أيضا
ممن لا يكذب ولايتهم بذلك" الكذب ولا ينزل إلى من يوصف بأنه
غير ثقة لترفعه عن تعمد ذلك ولكنهم أهل وهم كثير حكم برد
حديثهم لأجل ذلك فقط فعلى هذا قولهم فلان ليس بشيء أو لاشيء أو
لا يساوي شيئا يعني كثير الوهم وإنما قلت: ذلك لأن التهمة
والحكم بقي الثقة هو حكم أهل المرتبة الثانية حيث قالوا فيهم
فلان منهم فلان ليس بثقة وكل ما حكم به على أهل مرتبة لم يحكم
به على من هو أرفع منها وإلا لتداخلت المراتب وضاع التقسيم.
"الفائدة الثالثة: أنك لا تصف أهل مرتبة بصفة من فوقهم ولا"
تصفهم بصفة "من دونهم" وذلك لأن لأهل كل مرتبة أحكاما وأوصافا
تختص بها "ولا تقول في الكذاب" أي فيمن وصفوه بذلك "أنه متهم
بالكذب لأن الأولى تفيد أنه معروف به والثانية تيفد نفي ذلك"
وإنما عنده مجرد تهمة "ولا تقول في الكذاب متروك الحديث وإلا
أن تشك في أنه كذاب وتحقق أنه متروك" لأنه من أهل المرتبة
الثالثة على غير قول ابن أبي حاتم وكذاب من أهل الأولى على
قوله.
"فإن قلت: أليس الكذاب متروك الحديث قلنا بلى" أي متروك الحديث
"ولكن قد صار ترك الحديث عبارة عمن لم يعرف بأنه كذاب" فقد فرق
العرف بينهما وإن تصادفا في الحكم وهو ترك حديث كل منهما "كما
أن الكذاب ضعيف غير قوي ولا يقال فيه ذلك" أي أنه متهم بالكذب
"لأنه يفيد أنه عدل صدوق ولكنه يهم في حديثه" كما يفيده إطلاق
متهم عليه "فإن أحببت أن تقول كذا ب متروك الحديث فلا بأس لأن
الإيهام قد
(2/169)
ارتفع" بالجمع بين الوصفين.
"فإن قلت: أي فرق بين متروك الحديث ومردود الحديث حتى توصف أهل
المرتبة الثانية بالمتروك وأهل الثالثة بالمردود قلت: لا فرق
بينهما في اللغة ولكن أهل العرف من المحدثين جعلوا بينهما
فرقا" فالفرق عرفي لا لغوي "فالمتروك يطلق على من ترك لجرح
دينه أو تهمة بالكذب والمردود يطلق على من لم يعتمد ذلك ولا
يتهم به ولكن كثر خطؤه حتى لم يقبل ولا يكتب حديثه ولا يعتبر
به" كما في حقيقته فمرتبة المردود أجنى من مرتبة المتروك.
"الفائدة الرابعة أن أهل المرتبة الرابعة والخامسة من
المجروحين" ممن قيل فيه ضعيف أو منكر الحديث أو واه أو فيه
مقال أو ضعف "هم أهل المرتبةالرابعة من المعدلين" وهو من قيل
فيه محلح الصدق أو رووا عنه أو نحوه "لما تقدم في كل واحد منهم
أنه يكتب حديثه للاعتبار" كما تقدم عن ابن أبي حاتم أنه قال كل
من كان من أهل المرتبة الرابعة والخامسة فإنه يكتب حديثه
للاعتبار.
"ولكنهم حين يقصدون رفعهم عمن لا يعتبر به ولا يكتب حديثه
يوردون الأدنى من ألفاظ التعديل" نحو محله الصدق "وحين يريدون
حطهم عمن يحتج به في الصحيح يوردون الأعلى من عبارات التجريح"
فيقولون ضيعف أو منكر الحديث "فهم أهل صدق وديانة ولكنهم ضعفاء
بالنظر إلى من فوقهم في الإتقان من الحفاظ وهم لأجل صدقهم
وتوسط حطتهم بين الكثرة المردودة والندرة التي لا حكم لها
صالحون لا بأس بهم إذا وجد لهم متابع أو شاهد بالنظر إلى من
دونهم من الكذابين والمتروكين و" بالنسبة إلى "من كثر خطؤه فرد
حديثه" هذا على قواعد المحدثين وقد تقدم هذا للمصنف في بحث
الحسن وتقدم ما فيه فتذكر "وأما على قواعد كثير من الفقهاء
وأهل الأصول فيجب قبولهم من غير اعتبار متابع ولا شاهد" لما
تقدم من قبولهم من كثر صوابه على خطئه.
"الفائدة الخامسة لم يذكر زين الدين المجهول في مراتب التجريح
وإن كان قد ذكره فيمن يرد حديثه ولا بد من ذكره فيها" أي في
مراتب التجريح إذ قد رد حديثه وحيث لا بد من ذكره "فإما أن
يجعل مرتبة منفردة أو يلحق بأهل الثالثة لأنه عند أهل الحديث
ممن لا يقبل حديثه وإن كان بعض من سماه مجهولا يوجب قبوله كما
تقدم" تحقيق ذلك في بحث الحسن.
(2/170)
"الفائدة السادسة إن أكثر هذه العبارات في
التجريح غير مبينة السبب" فهي من باب الجرح المطلق "فتكون غير
مفيدة للجرح" الموجب لإطراح الرواية "ولكن" تكون "موجبة للريبة
والوقف" في قبول من قيلت فيه ورده "في غير المشاهير بالعدالة
والأمانة فلا تؤثر فيهم".
ولما ورد على هذا ما تقرر في الأصول من أن الجرح مقدم على
التعديل قال في جوابها "ولا يغتر مغتر بأن الجرح مقدم على
التعديل" فإنهم وإن أطلقوا العبارة في ذلك "فذاك الجرح المبين
السبب" لأن مالم يبين سببه فلا يتحقق أنه خرج يوجب الرد.
"على أن المختار فيه" أي في مبين السبب "هو مامر من التفصيل"
يرد قوله وأما أن بين السبب نظرنا في ذلك السبب وفي العدل الذي
ادعى عليه ونظرنا أي الجوائز أقرب إلى آخر كلامه "فإذا لم يكن"
الجرح "مبين السبب فهو مقبول" فيمن اشتهر بالعدالة أصلا أو غير
مقبول في الرد جزما بل يوجب توقفنا "على الصحيح فضلا عن أن
يقدم على التوثيق المقبول وأقل الأحوال أن يكون موضع ترجيح
لأنه يحتمل" مع إطلاقه "أن الجارح جرح الراوي بما لو ظهر لنا
لم نجرح به كما يحتمل أن الراوي جرح بما لم يعلم به من عدل"
وهذا الاحتمال هو الذي أوجب الوقف لا الرد مطلقا ولا القبول.
"فإن قلت: فأي هذه الألفاظ جرح مبين السبب قلت: ليس فيها صريح
في ذلك ولكن أقربها إلى ذلك قولهم وضاع ويضع الحديث فإنها
مستعملة فيمن عرف بتعمد الكذب إما بإقراره أو ما يقوم مقامه
ويليهما في الدلالة على التعمد منهم بالوضع" وتقدم أنه من
الرتبة الثانية من رتب الجرح وكذاب من الأولى.
ولما كان كذلك قال "وأما كذاب فقد اختلف عرفهم فيها اختلافا لا
يحصل معه طمأنينة أن من قبلت فيه متعمد الكذب لأن كثيرا منهم
يقولون ذلك في حق صالحين كثر خطؤهم في الحديث" ليسوا ممن يتعمد
الكذب "وهذا موضع صعب فإن خطأ الموجب لعدم القبول مختلف فيه
صعب المأخذ كما تقدم" تحقيق مراد المصنف.
"وقواعد الأصوليين تقتضي أنه يجب قبوله لأنه مسلم عدل حتى يظهر
ما يوجب جرحه والذي يوجب جرحه عند جماهير النظار هو استواء
حفظه ووهمه أو ترجيح وهمه على حفظه وتحقيق ذلك أو ظنه مدرك حفى
والله أعلم" بل لا يكذا يقف عليه إلا علام الغيوب.
(2/171)
"الفائدة السابعة أن هذه الألفاظ الجارحة"
إسناد مجازي أي الجارح قائلها "إذا صدرت مع اختلاف الاعتقاد"
بين الجارح والمجروح كفر يقي الأشعرية "و" المعتزلة أو صدرت
"من الأقران" جمع قرن بكسر القاف وهو المثل "المتنافسين"
المتحاسدين "أو" صدرت "عند الغضب" من الجارح على من يجرحه "أو
نحو ذلك من الأسباب" فإن كان ذلك الجرح صاجرا عمن ذكر "فينبغي
أن تكون دلالتها" أي الألفاظ الجارحة "على الجرح أضعف" من
دلالتها عليه عند صدورها من غير من ذكر "فإن ذلك" أي الأختلاف
ونحوه "من أسباب الجرح المجرد عند كثير منهم" أي من الجارحين
"فإذا انضم إليه" أي إلى ما ذكر "أقل شيء مما ينجبر" به فلا
يوجب قدحا "لولا مخالفة العقيدة انتهض" أي أقل شيء مما ينجبر
لو اتفقت العقيدة "سببا للذم" من الجارحين "ومثيرا للوصم"
بالصاد المهملة العيب.
"وقد يستحل بعضهم ذم الرجل لأجل بدعته" أي يجعل ذمه حلالا كأنه
ليحذر الناس عن اتباعه على بدعته "غير قاصد بذمه لتضعيف حديثه"
إلا أنه لا يعزب عنك أنه قد أخذ في رسم العدلة أن لايكون معها
بدعة فالمبتدع حديثه مردود فكيف يقال لا يقصد تضعيف حديثه بذكر
بدعته "فتؤخذ ألفاظ التجريح في ذلك الذم فيرد حديثه لأجلها"
لأجل ألفاظ التجريح.
واستدل لما ذكر بقوله "ولقد تركوا حديث داود بن علي الأصيهاني
الظاهري" قال الخطيب في تاريخه كان ورعا ناسكا زاهدا وفي كتبه
حديث كثير لكن الرواية عنه عزيزة جدا وقال أبو إسحاق مولده سنة
إثنين ومائتين وأخذ العلم عن إسحاق وأبي ثور وكان زاهدا متقللا
وكتب ثمانبة عشر ألف ورقة وقال أبو إسحاق كان في مجلسه
أربعمائة صاحب طيلسان أخضر وإنما تركوا الرواية عنه "لأجل قوله
بأن القرآن محدث" قال الذهبي أراد داود الدخول على الإمام أحمد
فمنعه وقال كتب إلى محمد بن يحيى الذهلي في أمره أنه زعم أن
القرآن محدث فلا يقربنى فقيل يا أبا عبد الله إنه ينتقي من هذا
وينكره فقال محمد ابن يحيى أصدق منه "وتطابقوا على تركه حتى
عزت الرواية عنه مع ما في كتبه من الحديث الكثير وعبروا عنه
بأنه متروك" لم أجد هذا التعبير عنه في الميزان وكأنه في غيره.
قلت: وإذ قد عرفت أنهم شرطوا في العدالة عدم البدعة وقد عرفت
أن الحق أن القول بأن القرآن قديم أو محدث بدعة فردهم حديث
داود جار على ما قعدوه في
(2/172)
العدالة لكن يلزمهم رد من قال قديم كما
قررناه في محل آخر.
"وهذا" أى قولهم في داودإنه متروك "يفيد أنه من أهل المرتبة
الثانية" من مراتب التجريح "أو هو أرفع من ذلك" لاأعرف
لزيادتها وجها إلا عند من يرد المأول المستحق للرد والمختار
للمصنف وغيره من المحققين عدم رده كما عرفت "والظاهر أنه" أي
داود "لم يذهب إلى التحسيم ولا غيره من الكبائر" أي المعدودة
كبيرة في الإعتقاد وغن لن تكن من كبائر الذنوب "لأنهم لم
ينقموا عليه إلا كلامه في القرآن أما شنع" جمع شيعة "مسائله
الفرعية فليست مما يجرح به" وإن كان الصحيح أنه أخطأفي بعضها
قطعا فذلك الخطأ لاينهض فسقا لأنها مسائل ظنية ولاتقسيق إلا
بقاطع فقد علم أنهم لم يتركوه إلالقوله القرآن محدث.
"وأكبر" بالباء الموحدة "من هذا قول بعضهم في عمرو بن عبيد
عابد شيوخ الاعتزال الذي ليس في زهده وورعه مقال والذي تضرب
بعبادته الأمثال إنه كذاب" هو مقول قول البعض قال الذهبي في
الميزان1 في ترجمة عمرو بن عبيد قال أيوب ويونس يكذب وقال حميد
كان يكذب على الحسن وقال ابن حبان كان من أهل الورع والعبادة
إلا أن أحدث ما أحدث فاعتزل مجلس الحسن هو وجماعة قسموا
المعتزلة قال وكان يشتم الصحابة ويكذب في الحديث وهما لا تعمدا
قال الفلاس عمرو متروك صاحب بدعة وحدت عنه الثوري أحاديث قال
سمعت عبد الله بن سلمة الحضرمي يثول سمعت عمرو بن عبيد يقول لو
شهد عندي علي عليه السلام وطلحة والزبير وعثمان رضي الله عنهم
على شراك نعل ما أجزت شهادتهم انتهى.
"وما كان عمرو ممن يطرح عليه مثل هذا وإن كان يهم في الحديث
كثيرا أو قليلا" فقد وهم والوهم لا يوجب الرمي بالكذب إلا أن
ابن حبان قد قيد ذلك بقوله وهما لا تعمدا "فقد وهم فيه" أي
الحديث "أبو حنيفة وضعفه كثيرون" لم يترجم لأبي حنيقة في
الميزان وترجم له النووي في التهذيب وأطال في ترجمته ولم يذكره
بتضعيف "وحملوا ألفاظ تضعيفه" أي أبي حنيفة كأنهم لم يأتوا
بعبارات خاصة كما أتوابها في عمرو بن عبيد "وما أظن عمرو" بن
عبيد "كان في دون مرتبة أبي حنيفة في الحفظ والأتقان والله
أعلم" وإذا كان كذلك فما الحامل على القدح في عمرو إلا
__________
1 3/274/6404.
(2/173)
المخالفة في العقيدة.
"قال الذهبي1 في ترجمة أحمد بن عبد الله بن أبي نعيم الأصبهاني
ما لفظة كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به" في القاموس ما
أعبأ فلان ما أبالي به "ولا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو
لمذهب أو لحسد لا ينجو منه إلا من عصم الله وما علمت أن عصرا
من الأعصار يسلم أهله من ذلك إلا الأنبياء عليهم السلام
والصديقين فلو شئت لسردت من ذلك كراريس انتهى وأنت إذا رمت
النظر في كتب الرجال وتأملت ما ذكرت لك عرفت أنه الحق إن شاء
الله تعالى".
قلت: قد عيب علي الذهبي ما عابه في غيره قال ابن السبكي في
الطبقات نقلا عن الحافظ صلاح الدين العلائي2 ما لفظه الشيخ شمس
الدين الذهبي لا أشك في دينه وورعه وتحريه فيما يقول ولكنه غلب
عليه منافرة التأويل والغفلة عن التنزيه حتى أثر ذلك في طبعه
انحرافا شديدا عن أهل التنزيه وميلا قويا إلى أهل الإثبات فإذا
ترجم أحدا منهم أطنب في محاسنه وتغافل عن غلطاته وإذا ذكر أحدا
من الطرف الىخر كالغزالي وإمامه الجويني لا يبالغ في وصفه
ويكثر من قول من طعن فيه وإذا ظفر لأحد منهم بلغطة ذكرها وكذا
يفعل في أهل عصرنا وإذا لم يقدر على التصريح يقول في ترجمته
والله يصلحه ونحو ذلك وسببه المخالفة في العقيدة انتهى.
قال ابن السبكي وقد وصل يريد الذهبي من التعصب وهو شيخنا إلى
حد يسخر منه وأنا أخشى عليه يوم القيامة من غالب علماء
المسلمين والذي أفتى به أنه لا يجوز الاعتماد على شيخنا الذهبي
في ذم أشعري ولا مدح حنبلي.
قلت: لا يخفى أن الصلاح العلائي وابن السبكي شافعيان حادان
أشعريان وأن الذهبي إمام كبير الشأن حنبلي الاعتقاد شافعي
الفروع وبين هاتين الطائفتين الحنابلة والأشعرية في العقائد في
الصفات وغيرها تنافر كلي فلا يقبلان عليه بعين ما قالاه فيه.
__________
1 الميزان 1/111/438.
2صلاح الدين العلائي هو: أبو سعيد صلاح الدين بن كيكلدي
الشافعي قال الحسيني: كان إماما في الفقه والأصول والنحو علامة
في المتون والأسانيد مات سنة761. له ترجمة في: شذرات الذهب
6/190, والنجوم الزهراء 10/337. وطبقات الشافعية للسبكي 6/104.
(2/174)
وقال ابن السبكي قد عقد ابن عبد البر بابا
في حكم قول العلماء بعضهم في بعض1 بدأ فيه بحديث الزبير "دب
فيكم داء الأمم فبلكم الحسد والبغضاء" 2 وقال ابن السبكي
وقدعيب على ابن معين تكلمه في الشافعي وتكلمه في مالك وابن أبي
ذؤيب وغيره وأقول إذا كان الأمر كما سمعت فيكف حال الناظر في
كتب الجرح والتعديل وقد غلب التمذهب والمخالفة في العقائد على
كل طائفة حتى إن طائفة تصف رجلا بأنه حجة وطائفة أخرى تصفه
بأنه دجال باعتبار اختلاف الاعتقادات والأهواء.
فمن هنا كان أصعب شيء في علوم الحديث الجرح والتعديل فلم يبق
للبحاث طمأنينة إلى قول أحد بعد قول ابن السبكي إنه لا يقبل
الذهبي في مدح حنبلي ولا ذم أشعري وقدصار الناس عالة على
الذهبي وكتبه ولكن الحق أنه لا يقبل على الذهبي ابن السبكي لما
ذكره هو ولما ذكره الذهبي من أنه لا يقبل الأقران بعضهم على
بعض واعلم أن مرادهم بالأقران المتعاصرين في قرن واحد
والمتساوون في العلوم وعلى التقديرين فإنه مشكل لأنه لا يعرف
حال الرجل إلا ممن عاصره ولا يعرف حاله من بعده إلا من أخبار
من قارته إن أريد الأول وإن أريد الثاني فأهل العلم هم الذين
يعرفون أمثالهم ولا يعرف ذا الفصل إلا أولو الفضل.
فإذا عرفت هذا فالأولى إناطة ذلك بمن علم أن بينهما منافسية
وتحاسدا فيكون ذلك سببا لعدم قبلو بعضهم في بعض لا لكونه من
الأقران فإنه لا يعرف عدالته ولا جرحه إلا من أقرانه وأعلم ما
فرق بين الناس هذه العقائد والاختلاف فيها فقول المصنف فيما
نقله عن الذهبي ولا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو
لحسد هو الذي ينبغي أن يناط به القبول والرد وقوله وأنت إذا
رمت النظر في كتب الرجال الأحسن إذا نظرت وتأملت ما ذكرت لك
عرفت أنه الحق إن شاء الله تعالى وقد حققنا هذا البحث تحقيقا
شافيا في رسالتنا ثمرات النظر في علم الأثر والحمد لله.
"الفائدة الثامنة قد تقرر فيمن برد حديثه أن جمهور أهل الحديث
على رد المبتدع
__________
1 جامع بيان العلم 2/150.
2سبق تخريجه.
(2/175)
الداعي إلى بدعته" قال في النخبة وشرحها1
إن البدعة إما أن تكون بكفر2 أو بفسق فالأولى لا يقبل صاحبها
الجمهور والثاني يقبل مالم يكن داعية إلى بدعته لأن تزيين
مذهبه قد يحمله على تحريف الروايات وتسويتها على ما يقتضيه
مذهبه في الأصح والأكثر على قبول غير الداعية إلا أن يروي ما
يقوي بدعته فيرد.
"فعلى هذا يجوز أن يجعلوه من أهل المرتبة الثانية ويقولوا فيه
متروك وهالك أو نحو ذلك فلا يخفى عليك موضع ذلك من كتب الجرح
والتعديل فإنهم قد يطلقون ذلككعلى من يعتقدونه مبتدعا وليس
كذلك" أي ليس في نفس الأمر مبتدعا بل في اعتقادهم.
"وقد يطلقونه على من يوافقهم على بدعتهم ولكن لا يوافقهم على
أنها كبيرة وقد يطلقونه على من يوافقهم على تكفيره" إن كانت
بدعته تقتضي تكفيره "أو تفسيقه" إن كانت تقتضيه "ولكن" هذا وإن
وافقهم على تكفير من ذكر أو تفسيقه "لا يوافقهم على الفرق الذي
اصطلحوا عليه وهو رد الداعية من المبتدعة دون غيره" من
المبتدعة "مع اشتراكهم" أي الداعية وغيره "في القول بالبدعة"
وإنما افترقا في الدعاء إليها وعدمه "و" اشتركهما "في التدين
والتورع عن المحرمات وفي اعتقاد تحريم الكذب ولعلهم إنما تركوا
داود الظاهري لقوله بحدوث القرآن ودعايته إلى مذهبه ومناظرته
عليه والله أعلم" قد قدمنا رواية الذهبي في الميزان عن داود
أنه أنكر قبله بحدوث القرآن ولم يذكر مناظرته عليه.
"فإن قلت: ما الفرق بين الداعية وغيره" من المبتدعة "عندهم"
فإنهم فرقوا بينهما قبولا وردا "قلت: ما أعلم أنهم ذكروا فيه
شيئا" فقد قدمنا عن ابن حجر ذكر تعليل رده قريبا "ولكني نظرت
فلم أجد غير وجهين:
أحدهما: أن الداعية شديد الرغبة في استمالة قلوب الناس إلى ما
يدعوهم إليه فربما حمله عظيم الرغبة في ذلك على تدليس أو تأويل
كما زعموا أن عمرو بن عبيد أفتى بمسألة فقال هذه من رأي الحسن"
في الميزان في ترجمة عمرو قال الشافعي عن سفيان أن عمرو ابن
عبيد سئل عن مسألة فأجاب عنها وقال هذه من رأي الحسن يريد
__________
1 ص 51.
2 بكفر: هو كما المهذب المجسم ومنكر علم الجزئيات قيل: وقائل
خلق القرآن فقد نص عليه الشافعي واختاره البلقيني. تدريب
الراوي 1/324.
(2/176)
نفسه وليس هذه ما يفيده قوله "فسئل الحسن
عنها فانكرها فقيل لعمرو في ذلك فقال إنما قلت: من رأيي الحسن
يعني من رأي نفسه" وهذا مثال تدليس الداعية إلا أنه لا يعرف أن
فيها تقوية لمذهبه إلا لو ذكر المسألة "وأما" المبتدع "غير
الداعية فليس له من الحرص" على الرواية بتلك الصفة "ما يلجئه
إلى هذا" إذ لا حامل عليه.
"والوجه الثاني" من الوجهين اللذين وجدهما المصنف فرقا بين
الداعية وغيره "أن الرواية عن الداعية تشتمل على مفسدة وهي
إظهار أهليته للرواية وأنه من أهل الصدق والأمانة وذلك يغري"
بالغين المعجمة والراء "بمخالطته وفي مخالطة العامة لمن هو
كذلك مفسدة كبيرة" قلت: هذا الوجه ذكره أبو الفتح القشري فقال
إن ترك الرواية عنه إهانة وإطفاء لبدعته نقله عنه الحافظ ابن
حجر في مقدمة شرح البخاري.
"والجواب عن الاول أنها تهمه ضيفه لا تساوي الوازع الشرعي الذي
يمنع ذلك المبتدع المتدين من الفسوق في الدين وارتكاب دناءة
الكذب الذي تنزه عنه كثير من الفسقه المرتدين كيف الكاذب دناءة
الكذب الذي تنزه عنه كثير من الفسقة لا يخفى تزويره وعما قليل
ينكشف تبذيله وتغريره" من الغرر "ويتهمه النقاد وتتناوله ألسن
أهل الأحقاد وكفى بشر سماعه" إشارة إلى المثل يكفيك من شر
سماعه والمراد كفى الكاذب من الشر أن يسمع عنه "وأهل المناصب
الرفيعه يأنفون من ذلك" أى من الكذب "من غير ديانه فكيف إذا
كانوا من اهل الجمع بين الصيانه لأعراضهم والأمانه" لا يعزب
عنك أن أصل الدعوى في الوجه الثاني أنه قد تحمله الرغبه في
الدعاء إلى بدعته واستمالة القلوب إليه على التدليس أو التأويل
لا على تعمده لا رتكاب صريح الكذب والجواب إنما يوافق ذلك.
"وقد احتج أهل الحديث بمن هو على أصوالهم دعيه إلى البدعه لما
قويت عندهم عدالته وأمانته كقتادة" ابن دعامه الدوسى فانه كان
يدلس ورمى القدر قاله يحيى بن معين ومع هذا احتج به أهل الصحاح
ولا سيما إذا قال حدثنا انتهى بلفضه الميزان وأثنى عليه في
التذكرة "وغيره فإن قتادة كان يرى المعتزله ويدعو إليه قال
الذهبي في التذكرة كان يرى القدر ولم يكن يقنع حتى يصيح به
صياحا" قالت افضه في التذكرة وكان يرى القدر قال ضمرة بن شوذب
ما كان قتادة يرضى حتى يصيح به صياحا يعني القدر قال الذهبي
نقله عن غيره ثم قال قال ابن أبي عروبة والدستوائى قال قتادة ل
شيئ بقدر إلا المعاصي قلت: ومع هذا الاعنقاد الردئ ما تأخر أحد
عن الاحتجاج بحديثه انتهى من التذكرة.
(2/177)
"قلت: دعاة المبتدعة من الخوارج والجبرية
وغيرهم هم أبعدهم عن القائح وأصدقهم لهجة وتهمتهم مرجوحة إلا
الخطابية من الخوارج".
قلت: الخطابية من غلاة فرق الشيعة ينسبون إلى أبي الخطاب
الأسدي كان يقول بالحلول في جماعة من أهل البيت على التعاقب ثم
ادعى الألهية قاله السخاوي في شرح ألفيته العراقي وقال المناوي
في التعريفات أنهم يقولون الأئمة أنبياء وأبو الخطاب نبي وهم
يستحلون شهادة الزور لموافقيهم على مخالفيهم وقالوا الجنة نعيم
الدنيا.
"والكرامية من الجبرية" هم نسبة إلى محمد بن كرام وفي ضبط كرام
ثلاثة أقوال الأول بالفتح وتخفيف الراء ولاثاني بتثقيل الراء
قيده به السمعاني وابن ماكولا قال إبراهيم وهو الجاري على
الألسنة الثالث بكسر الكاف على لفظ جمع كريم قال الذهبي قال
ابن حبان إن ابن كرام خذل حتى إلتقط من المذاهب أرداها ومن
الأحاديث أوهاها قال الذهبي قد سقت أخبار ابن كرام في تاريخي
الكبير وله أتباع ومريدون وقد سجن بنيسابور لأجل بدعته ثماينة
أعوام ثم أخرج وسار إلى بيت المقدس ومات بالشام قال ابن حزم
قال ابن كرام الإيمان قول باللسان وإن اعتقد الكفر بقلبه هو
مؤمن قال الذهبي قلت: هذا منافق محض في الدرك الأسفل من النار
فأيش ينفع ابن كرام أن نسميه مؤمنا انتهى ولم يذكر الذهبي
تجويزه الكذب.
"وذلك" الوجه في أبعدينهم عما ذكر "لأن الداعي إلى المذهب من
أشد الناس رغبة إلى إشادته والعمل به ومن جملة ما ذهبوا إليه"
أي أي الخوارج والجبرية "تحريم الكذب إلا هاتين الفرقتين" وهم
الخطابية والكرامية فمن جملة بدعتهم تجويز الكذب.
"فدعاتهم" وكان الأظهر دعاتهما "أكذبهم وأسرعوا إلى ذلك بخلاف
غيرهم" فيتعين ردهم مطلقا دعاة كانوا أولا "ولو سلمنا تهمتهم"
أي دعاة المبتدعة "لما كانت إلا فيما يخصهم من المذاهب دون
سائر الأحكام" هذا هو رأي المحدثين في المبتدع غير الداهية أنه
يرد من حديثه ما يقوى بدعته كما صرح به الحافظ في النخبة
وشرحها "لأنها تهمة بتدليس أو نحوه من أمره يستجيزونه أما لو
اتهمناهم بتعمد الكذب بقرائن راجحة على قرينة صدقهم لأجل
الوازع الشرعي لم يكن في ردهم إشكال" لأجل التهمة بالكذب.
(2/178)
"وأما الوجه الثاني" وهم التعليل بعدم قبول
الداعية بالمفسدة في قبوله "فالجواب عليه أن نقول إما أن يقوم
الدليل الشرعي على قبولهم أو لا" يقوم "إن لم يدل" الدليل
الشرعي "على وجوب قبولهم لم نقبلهم" لعدم الدليل على القبول
"هل كانوا دعاة أو غير دعاة" أي سواء كانوا وإتيان هل لهذا
المعنى لا أعرفه "وإن دل" الدليل الشرعي "على وجوب القبول" كما
هو المفروض "لم يصلح ما أورده ما نعا من امتثال الأمر" بقبولهم
"ولا مسقطا بمعلوم الفرض" من قبولهم.
قلت: وهاهنا بحثان في قبول مطلق المبتدع داعية كان أو غيره
وذلك لأن أهل الأصول أخذوا عدم البدعة في رسم العدالة فالمبتدع
ليس بعدل فكيف يقبل حديثه فإنه قبله أهل الحديث كما سمعت ولم
يردوا إلا الداعية لا لأجل بدعته بل لأنه داعية إليها.
وفسر الحافظ ابن حجر العدالة بأنها ملكة تحمل على ملازمة
التقوى والمروة وفسر بالتقوى بأنها اجتناب الأعمال السيئة من
شرك وفسق أو بدعة فأفادة أن ترك البدعة من ماهية العدالة فطابق
كلام الأصوليين فالمبتدع لا يكون عدلا على رأي الفريقين ثم إنه
قسم البدعة إلى قسمين ما يكون ردا لأمر معلوم من الدين ضرورة
أو إثباتا لأمر معلوم بالضرورة أنه ليس منه انتهى.
قلت: ولا يخفى أن من كان بهذه الصفة فإنه كافر لرده ما علم
ثبوته أو إثباته لما علم نفيه وكلا الأمرين كفر لأنه تكذيب
للشارع وهذا ليس من محل النزاع إذ الكلام في المسلم المبتدع
وأما ما يكون ابتداعه بفسق فقد اختار لنفسه ونقل عن الجمهور
أنه يقبل ما لم يكن داعية وحينئذ فلا يرد إلا الداعية ورده لا
لأجل بدعته بل لكونه داعية وهذه مسألة قبول أهل التأويل.
والمصنف قد نقل في كتبه الأربعة العواصم ومختصره الروض الباسم
وهذا الكتاب ومختصره في أصول علم الحديث إجماع الصحابة على
قبول فساق التأويل ولا يخفى أن هذا ينافي القول بشرطية عدم
البدعة في الراوي ورسم العدالة منافاة ظاهرة وقد تقرر كون
البدعة من الكبائر عند أئمة العلم ودلت عليه عدة أحاديث قد
أودعناها رسالة حسن الإتباع وقبح الإبتداع وسقنا شطرا منها
صاحلحا في رسالتنا ثمرات النظر وأطلنا القول في هذا البحث
فيها.
وإذا عرفت هذا فلا يخلو قابل المبتدع إما أن يقول إنه عدل وإن
ابتداعه لا يخل
(2/179)
بعدالته فهذا رجوع عن رسم العدالة أو يقول
إنه لا يشترط عدم البدعة في العدل وإنه لا يطابق أحاديث الزجر
عن البدعة.
البحث الثاني أن تفسير العدالة بما ذكره الحافظ ابن حجر تطابقت
عليه كتب أئمة الأصول والحديث وإن حذف البعض قيد الأبتداع
فإنهم قد اتفقوا على أنها ملكة ولا يخفى أنه ليس هذا معناها
لغة ففي القاموس العدل ضدالجور وإن كان كلامه في هذه الألفاظ
قليل الإفادة لأنه يقول والجور نقيض العدل فيدور وفي النهاية
لابن الأثير العدل الذي لا يميل به الهوى وهو وإن كان تفسيرا
للعادل فقد أفاد المراد به وفي غيرهما العدل الإستقامة.
ولأئمة التفسير أقوال في تفسيرها قال الفخر الرازي في مفاتح
الغيب بعد سرده الأقوال إنه عبارة عن الأمر المتوسط بين طرفي
الإفراط ولاتفريط قلت: وهو قريب من تفسيره بالإستقامة فإنه
فسرها الصحابة وهم أهل اللسان العربي بعدم الرجوع إلى عبادة
الأوثان وأنكر أبو بكر الصديق على من فسرها بعد الإتيان بذنب
وقال حملتم الأمر على أشده وفسرها أمير المؤمنين علي عليه
السلام بالإتيان بالفرائض.
والحاصل أن تفسيرهم العدالة بالملكة ليس هو معناها لغة ولا أتى
عن الشارع في ذلك حرف واحد وتفسيرها بالملكة تشديد لا يتم
وجوده إلا في المعصومين وأفراد من خلص المؤمنين بل في الحديث
"إن كل بني آدم حطاؤون وخير الخطائين التوابون" 1 وفيه أنه "من
من نبي إلا عصى أوهم إلا يحيى بن زكريا" 2.
ولا يخفى أن حصول هذه الملكة لكل رواه من رواة الحديث معلوم
أنه لا يكاد يقع ومن طالع تراجم الرواة علم ذلك يقينا فالتحقيق
أن العدل هو من قارب وسدد وغلب خيره على شره وفي الحديث
"المؤمن واه راقع" 3 أي واه ما أذنب راقع بالتوبة وتمامه
"والسعيد من مات على رقعه" أخرجه البزار وإن كان فيه ضعف فإنه
يشهد له حديث "لو لو تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون
فيستغفرون فيغفر لهم" 4 وهو حديث صحيح وقد أطلنا البحث في هذا
في ثمرات النظر وفي هذا هنا كفاية.
__________
1 الترمذي 2499, وابن ماجة 4251, والدارمي 2/303. والحاكم
4/244.
2 أحمد 1/254, 292, 295.
3 المعجم الصغير 1/66, والمجمع 10/201.
4مسلم في التوبة ب 2: حديث 11, وأحمد 2/309.
(2/180)
ولما قرر المصنف في كلامه ما يفيد قبول
رواية المبتدع الداعية استشعر أنه قد يقال قد ثبت رد شهادة من
له غرض في الشهادة أو من يتهم بمحاباة أو عداوة أو نحو ذلك
أجاب عنه بقوله "وعلى العامة" أي العلماء "أن يفرقوا بين قبول
الرواية والشهادة" فإن لكل منهما شروطا معروفة "و" أن يفرقوا
"بين اعتقاد ماليس عليه دليل من البدعة" أي وبين ما قام دليل
عليه وقبول الداعية قد قام الدليل عليه كما قرره فابتداعه في
أمر لا يمنع عن قبوله في غيره "ومتى تعدوا" العامة "في ذلك" أي
بقبولهم له في بدعته "أتوا من قبل أنفسهم" في اتباعهم للداعية
في بدعته فإن الدليل لم يقم على ذلك.
"مثال ذلك أنا لو خشينا مثل ذلك من العامة إن سرنا في البغاة"
أي في معاملتهم "بغير السيرة في المشركني لم يلزمن أن نسير
فيهم مثل سيرتنا في المشركين" كما أن السيرة فيهم بغير السيرة
في المشركين متعين فيإنه لا يغنم من أموالهم شيئا إلا الكراع
والسلاح عند البعض ولا يسترقون ولا يذفف على جريحهم ولا يتبع
مدبرهم "لئلا يتوهم بذلك العوام أن البغاة محقون أو محترمون"
لم يلزمنا دفع وهم العامة بأن نسير في البغاة مثل سيرتنا في
المشركين لئلا يتوهم العامة أن البغاة محقون أو محترمون
"احتراما يوجب ترك قتالهم أو يشكك في جوازه" كذلك لا تترك
رواية المبتدع الداعية لئلا تغري العامة بقبول روايته على
مخالظته.
"على أن هذه المفسدة" وهي مخالظة العامة للمبتدع الداعية
"مأمونة الوقوع بالرواية لحديث منقد مات من دعاة المبتدعة
وتقادم عهده فتأمل ذلك والله أعلم" كأنه يريد أنه قد يقال إن
المفسدة في قبوله في حياته فإن بقبوله فيها يحصل التدليس بما
يقوي بدعته فيحصل قبول مادلسه بعد مماته.
* * *
(2/181)
مسألة: 52 [في بيان السن التي يصلح تحمل
الحديث فيها]
"متى يصلح تحمل الحديث" أي في أي سن يصلح تحمل الراوي عن غيره
الرواية "العبرة" في ذلك أي في سن التحمل أو زمنه "بالعقل" أي
بتعقل الراوي والتمييز لما يرويه لا بحين معين ووقت متحد بين
الرواة.
"وقد يخلف الناس في ذلك وتختلف الأمور التي تحفظ فالأمور
العظيمة" التي يعظم وقعها ويندر حصولها "ربما حفظت في حال
الصغر بخلاف الألفاظ" ولم أجد هذا في شرح الزين ولا في كلام
ابن الصلاح.
"وبالجملة متى ثبت العقل والبلوغ والعدالة" ذكر العقل والبلوغ
مع العدالة زيادة إيضاح وإلا فإن ذكرها يكفي لأنها لا يكون
منصفا بها إلا عاقل بالغ.
"وجزم" فعل ماض عطف على قوله ثبت "الثقة بأنه يحفظ من صغره
شيئا لم يكن لأحد تكذيبه".
قال زين الدين ومنع من ذلك قوم وهو خطأ مردود عليهم وقد مثل من
تحمل في صباه برواية الحسنين وعبد الله بن الزبير1 والنعمان بن
بشير2 وابن عباس والسائب بن يزيد والمسور ابن مخرمة ونحوهم
وقبل الناس روايتهم من غير فرق بين ما تحملوه قبل البلوغ
وبعده.
__________
1 عبد الله بن الزبير بن العوام القرشي الأسدي أمير المؤمنين
وهو أول مولود من المهاجرين بايعه النبي صلى الله عليه وسلم
وهو ابن سبع سنين. مات سنة 73. له ترجمة في الرياض المستطابة ص
201- 202.
2 النعمان بن بشير بن سعد الأنصاري الخزرجي كان أول مولود من
الأنصار بعد الهجرة سكن الشام ثم ولي الكوفة وحمص لمعاوية وكان
كريما جوادا شاعرا مات سنة 64. لله ترجمة في: الرياض المستطابة
ص 262.
(2/182)
وأما سن السماع فاختلفوا فيها على أقوال:
الأول: أن أقله خمس سنين حكاه القاضي عياض في الألماع1 عن أهل
الصنعة وقال ابن الصلاح: هو الذي استقر عليه عمل أهل الحديث
المتأخرين.
وحجتهم في ذلك ما رواه البخاري في صحيحه ولانسائي وابن ماجه2
من حديث محمود بن الربيع قال: عقلت من النبي صلى الله عليه
وسلم مجة مجها في وجهي من دلو وأنا ابن خمس سنين, بوب عليه
البخاري متى يصح سماع الصغير قال زين الدين3 وليس في حديث
محمود سنة متبعة إذ لا يلزم منه أن يميز الصغير تمييز محمود بل
قد ينقص عنه وقد يزيد ولا يلزم منه أن لا يعقل مثل ذلك سنه أقل
من ذلك ولا يلزم من عقل المجة أن يعقل غير ذلك مما سمعه انتهى.
قلت: على أنه أخبر عن نفسه ولم يكن منه صلى الله عليه وسلم قول
ولا تقرير ولا رواه في حياته صلى الله عليه وسلم وإنما فيه
دليل على جواز المجة في وجه الصبي مداعية له وتبريكا عليه
وكأنه يقول الدليل أنه رواه محمود وعين وقت تحمله وقبله
العلماء ولم يردوه فيكون إجماعا على ذلك ولئن سلم ففيه ما قاله
الزين.
ثم مما يدل على عدم اعتبار حد معين لسن التحمل أنه روى الخطيب4
بإسناده إلى القاضي أبي محمد عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن
الملبان الأصهاني قال سمعته يقول حفظت القرآن ولي خمس سنين
وأحضرت عند أبي بكر بن المقري ولي أربع سنين فأرادوا أن يسمعوا
لي ما حضرت قراءته فقال بعضهم إنه يصغر عن السماع فقال ابن
المقري اقرأ سورة الكافرون فقرأتها فقال أقرأ سوة التكوير
فقرأتها فقال لي غيره اقرأ سورة المرسلات فقرأتها ولم أغلط
فيها فقال ابن المقري اسمعوا له والعهدة على.
وفي شرح السخاوي5 أنه روى الخطيب من طريق أحمدبن نصر الهلالي
قال:
__________
1 ص 62.
2 البخاري في: العلم ب 18, وابن ماجة في: الطهارة: ب 136.
وأحمد 5/427.
3 فتح المغيث 2/45.
4 ص 64- 65.
5 2/146.
(2/183)
سمعت أبي يقول كنت في مجلس ابن عيينة فنظر
إلى صبي دخل المسجد فكأن أهل المجلس تهاونوا به فقال سفيان
كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم ثم قال لو رأيتني ولي عشر
سنين طولي خمسة أشبار ووجهي كالدينار وأنا كشعلة نار ثيابي
صغار وأكمامي قصار وذيلي بمقدار ونعلي كآذان فار أختلف إلى
علماء الأمصار مثل الحسن وعمرو بن دينار أجلس بينهم كالمسمار
محبرتي كالجوزة ومقلت: ي كالموزة وقلمي كاللوزة إذا دخلت
المسجد قالوا أوسعوا للشيخ الصغير قال النووي في ترجمة ابن
عيينة في التهذيب قال سفيان قرأت القرآن وأنا ابن أربع سنين
وكتبت وأنا ابن سبع سنين.
القول الثاني من الثلاثة أنه متى فهم الخطاب ورد الجواب كان
سماعه صحيحا وإن كان ابن أقل من خمس وإن لم يكن كذلك لم يصح
وإن زاد على الخمس قال زين الدين وهذا هو الصواب ولعل أهل
القول الأولى يشترطون فهمه الخطاب ورده الجواب.
القول الثالث: إنه إذا عقل وضبط وهو قول أحمد بن حنبل قلت: وهو
قريب من الثاني.
الرابع: قول موسى بن هرون الحمال يجوز سماع الصغير إذا فرق بين
البقرة والدابة وفي رواية بين البقرة والحمار1 قال الحافظ ابن
حجر: الذي يظهر أنه على سبيل المثال.
"إلا أن يكون" الخبر الذي تحمله الراوي حال صغره ورواه بعد
كبره "أمرا يعلم بطلانه بالضرورة أو الدلالة فإنه لا يقبل"
قلت: لإخفاء في أنه ما كان كذلك فإنه لا يقبل ممن تحمل بعد
تكليفه "ومثل هذا لم يقع فلا نطول بذكره وكذا تقبل رواية من
سمع وهو كافر وروى" ذلك "بعد الإسلام فالعبرة بحال الأداء" أي
حال تأديته ما سمعه.
قال زين الدين مثاله حديث جبير بن مطعم المتفق على صحته أنه
سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور وكان قدم
في فداء أسارى بدر قبل أن يسلم وفي رواية للبخاري وذلك أول ما
وقر الأسلام في قلبي2.
__________
1 علوم الحديث ص116.
2 البخاري في: المغازي: ب 12.
(2/184)
خاتمة: قال ابن الصلاح1: وينبغي بعد أن صار
الملحوظ بقاء سلسلة الإسناد أن يبكر بإسماع الصغار في أول زمان
يصح فيه سماعه وأما الإشتغال بكتب الحديث وتحصيله وضبطه
وتقييده فمن حين يتأهل لذلك ويستعد له وذلك يختلف باختلاف
الأشخاص وليس ينحصر في سن مخصوص انتهى.
ونقل زين الدين2 عن الزبير بن أحمد من الشافعية أنه قال يستحب
كتب الحديث في العشرين لأنها مجمع العقل قال وأحب أن يشتغل
دونها بحفظ القرآن والفرائض ضقال الحافظ ابن حجر: المراد ما
يجب على الشخص وجوب عين لا علم المواريث وقال موسى بن إسحاق
كان أهل الكوفة لا يخرجون أولادهم في طلب الحديث صغارا حتى
يستكملوا عشرين سنة3 وقال موسى بن هرون الحمال أهل البصة
يكتبون لعشر سنين وأهل الكوفة لعشرين وأهل الشام لثلاثين4
* * *
__________
1 علوم الحديث ص 115- 116.
2 فتح المغيث 2/44, وعلوم الحديث ص 115.
3 علوم الحديث ص 115.
4 المصدر السابق.
(2/185)
|