شرح (التبصرة والتذكرة = ألفية العراقي)

الفصل الثاني
دراسة عن مقدمة ابن الصلاح
المبحث الأول
آراء العلماء في الكتاب
لقد كتب الله سبحانه وتعالى لهذا الكتاب - أعني علوم الحديث لابن الصلاح - القبول لدى الناس، ولابد لمصنَّف ألّفه مثل هذا الإمام أن يصبح مَدْرَسَ أهل العلم وطلبته وفلكهم الذي لا يجاوزوه، ومنهلهم الذي لا يصدرون إلا عنه ولا يردون إلا منه، فهو الحَكَم لمشكلاتهم، والفصل لمعضلاتهم أبان لهم عن جوهر معانيه، واستزادهم فائدة عما فيه، فأقبل الناس عليه، وأصبح أحد دعائم مسلماتهم، وانتهى إليه المتعلِّمون، وبه استنار المستبصرون. وليس أدلّ على ما قدّمناه ممّا سطّرته أياديهم، إشادة بهذا المصنَّف والمصنِّف، فقد قال الإمام النووي (ت 676 هـ‍) : ((هو كتاب كثير الفوائد، عظيم العوائد، قد نبَّه المصنِّف - رحمه الله - في مواضع من الكتاب وغيره، على عظم شأنه، وزيادة حسنه وبيانه، وكفى بالمشاهدة دليلاً قاطعاً، وبرهاناً صادعاً)) .
وقال الخويي (ت 693 هـ‍) في منظومته:

وخير ما صنف فيها واشتهر ... كتاب شيخنا الإمام المعتبر
وهو الذي بابن الصلاح يعرف ... فليس من مثله مصنف

وقال ابن رشيد (ت 721 هـ‍) : ((الذي وقفت عليه وتحصل عندي من تصانيف هذا الإمام الأوحد أبي عمرو ابن الصلاح - رحمه الله - كتابه البارع في معرفة أنواع علم الحديث وإنّه كلّما كتبت عليه متمثلاً:

لكل أناس جوهر متنافس ... وأنت طراز الآنسات الملائح))

وقال ابن جماعة (ت733هـ‍) : ((واقتفى آثارهم الشيخ الإمام الحافظ تقي الدين أبو عمرو بن الصلاح بكتابه الذي أوعى فيه الفوائد وجمع، وأتقن في حسن تأليفه ما صنع)) .

(1/15)


وقال الزركشي (ت 794 هـ‍) : ((وجاء بعدهم الإمام أبو عمرو بن الصلاح فجمع مفرّقهم، وحقّق طرقهم، وأجلب بكتابه بدائع العجب، وأتى بالنكت والنخب، حتى استوجب أن يكتب بذوب الذهب)) .
وقال الأبناسي (ت 802 هـ‍) : ((وأحسن تصنيف فيه وأبدع، وأكثر فائدة
وأنفع: "علوم الحديث" للشيخ العلاّمة الحافظ تقي الدين أبي عمرو بن الصلاح فإنّه فتح مغلق كنوزه، وحلّ مشكل رموزه)) .
وقال ابن الملقن (ت 804 هـ‍) : ((ومن أجمعها: كتاب العلامة الحافظ تقي الدين أبي عمرو بن الصلاح - سقى الله ثراه، وجعل الجنة مأواه - فإنه جامع لعيونها ومستوعب لفنونها)) .
وقال العراقي (ت 806 هـ‍) : ((أحسن ما صنف أهل الحديث في معرفة الاصطلاح كتاب " علوم الحديث " لابن الصلاح، جمع فيه غرر الفوائد فأوعى، ودعا له زمر الشوارد فأجابت طوعاً)) .
وقال ابن حجر (ت 852 هـ‍) : ((فجمع شتات مقاصدها، وضمَّ إليها من غيرها نخب فوائدها، فاجتمع في كتابه ما تفرق في غيره، فلهذا عكف الناس عليه وساروا بسيره، فلا يحصى كم ناظم له ومختصر، ومستدرك عليه ومقتصر، ومعارض له ومنتصر)) .
وقال السيوطي (ت 911 هـ‍) : ((عكف الناس عليه، واتخذوه أصلاً يرجع إليه)) .
وبهذا نكاد أن ننقل إجماع الأئمة، منذ أن رأى كتاب " علوم الحديث " النور إلى يوم الناس هذا، دليلاً على مكانته، وغزارة علمه وفوائده شاهداً على علوِّ كعبه ونصرة حزبه، فرحم الله مؤلفه وجامعه، وأسبل عليه نعمه وفضائله، إنّه سميع مجيب.

(1/16)


المبحث الثاني
توظيف العلماء جهودهم خدمة لكتاب ابن الصلاح:
لعلّ كتاباً في مصطلح الحديث لم يخدم كما خدم كتاب ابن الصلاح؛ إذ كَانَ هُوَ المحرك الفعلي الَّذِي تولدت عَنْهُ عشرات، بل مئات المؤلفات التي أغنت المكتبة الإسلامية، وساهمت بمجموعها في إكمال حلقات هذا العلم المبارك.
وقد اختلفت اتجاهات المؤلفين في طبيعة بحوثهم لتطوير وتعزيز القيمة العلمية لهذا الكتاب فمنهم الناظم، ومنهم الشارح، ومنهم المختصر، ومنهم المنكت توضيحاً واستدراكاً فلهذا ارتأينا - خدمة لتقسيمات البحث العلمي المنظم - أن نوزعها على النحو الآتي، وبالله التوفيق.

أ. المختصرات:
لعلّ هذا الطابع من التصنيف الذي كان كتاب ابن الصلاح المحفِّز لها هو الأكثر نظراً إلى أن من ألّف في هذا اللون يبغي تقليص حجم الكتاب الأصلي؛ وذلك باختزال الألفاظ وتكثيف الفكر والمعاني، وحذف الأمثلة التي لا حاجة لها والابتعاد عن المناقشات غير الضرورية، وزيادة الفوائد والآراء، مع مخالفة ترتيب الأصل أحياناً، تسهيلاً لطلبة العلم وغيرهم.
ومن أبرز تلك المختصرات:
1- إرشاد طلاب الحقائق إلى معرفة سنن خير الخلائق، للإمام النووي (ت 676 هـ‍) .
2- التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير، للإمام النووي أيضاً وهو اختصار لكتابه السابق.
3- المنهج المبهج عند الاستماع لمن رغب في علوم الحديث على الاطلاع، لقطب الدين القسطلاني (ت 686 هـ‍) .

(1/17)


4- أصول علم الحديث، لعلي بن أبي الحزم القرشي الطبيب المشهور بابن النفيس
(ت 689 هـ‍) .
5- الاقتراح، للإمام ابن دقيق العيد (ت 702 هـ‍) .
6- الملخص، لرضي الدين الطبري (ت 722 هـ‍) .
7- رسوم التحديث، للجعبري (ت 732هـ‍) .
8- المنهل الروي، لبدر الدين بن جماعة (ت 733 هـ‍) .
9- مشكاة الأنوار، للبارزي (ت 738 هـ‍) .
10- الخلاصة في علوم الحديث، للطيبي (ت 743 هـ‍) .
11 - الكافي، لتاج الدين التبريزي (ت 746 هـ‍) .
12 - الموقظة، للإمام الذهبي (ت 748 هـ‍) .
13 - المختصر، لعلاء الدين المارديني المشهور بابن التركماني (ت 750 هـ‍) .
14 - مختصر، لشهاب الدين الأندرشي الأندلسي (ت 750 هـ‍) .
15 - مختصر، للحافظ العلائي (ت 761 هـ‍) .

(1/18)


16 - الإقناع، لعز الدين بن جماعة (ت 767 هـ‍) .
17 - اختصار علوم الحديث، للحافظ ابن كثير (ت 774 هـ‍) .
18 - التذكرة في علوم الحديث، لسراج الدين ابن الملقن (ت 804 هـ‍) .
19 - المقنع في علوم الحديث، لسراج الدين ابن الملقن أيضاً.
20 - نخبة الفكر، للحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ‍) .
21 - المختصر، للكافيجي (ت 879 هـ‍) .
22 - مختصر بهاء الدين الأندلسي ( ... ؟) .

ب. المنظومات:
ظهر منذ عهد مبكر نسبياً، تيّار في الشعر العربي، انتقل إلى علماء الفنون المختلفة يسمى: الشعر التعليمي، خصّص نطاق عمله في نظم الكتب المهمة في مجالات العلم تسهيلاً لطالبي العلوم في حفظها، ومن ثَمَّ الغوص في معانيها. وعلى أي حال فقد كان نصيب كتاب " علوم الحديث " لابن الصلاح عدداً من المنظومات التي لا يستهان بها، وسواء أكانت تلك المنظومات ذات جدة وحداثة أم لا؟ فإنّها مثّلت جانباً من جوانب اهتمام العلماء واعتنائهم بهذا السفر العظيم. والذي يهمنا هنا أن نسلِّط الضوء عليها كوَصَلاَتٍ في تاريخ هذا العلم المبارك، وليس من شرطنا أن تكون هذه المنظومة قد احتوت كل المادة العلمية لكتاب ابن الصلاح، بل يكفي أن يكون هذا الكتاب هو المرجع الأول بالنسبة لها، وعلى هذا نجد أن بعض هذه المنظومات مطوّلة، وبعضها مختصرة، وبعضها متوسطة، ولعلّ من أبرز من نظمه:
1. شمس الدين الخُوَيي (ت 693 هـ‍) ، وسمّى منظومته باسم " أقصى الأمل والسول في علوم حديث الرسول "، توجد منه عدة نسخ خطية.

(1/19)


2. أبو عثمان سعد بن أحمد بن ليون التجيبي (ت 750 هـ‍) .
3. زين الدين العراقي (ت 806 هـ‍) المسمّى: التبصرة والتذكرة.
4. محمد بن عبد الرحمن بن عبد الخالق المصري البرشنسي (ت 808 هـ‍) وسمّى منظومته: " المورد الأصفى في علم حديث المصطفى ".
5. شمس الدين محمد بن محمد بن محمد الدمشقي المعروف بابن الجزري (ت 833 هـ‍) وسمّى منظومته " الهداية في علم الرواية ".
6. جلال الدين عبد الرحمن ابن أبي بكر السيوطي (ت 911 هـ‍) ومنظومته مشهورة باسم " الألفية ".
7. رضي الدين محمد بن محمد الغزي (ت 935 هـ‍) ، وسمّى نظمه " سلك الدرر في مصطلح أهل الأثر ".
8. منصور سبط الناصر الطبلاوي (ت 1014 هـ‍) .

ج‍. الشروح:
قد كان للجانب الشمولي في كتاب ابن الصلاح أثره الواضح في أن أحداً لم يتصدَّ لشرح الكتاب نفسه، وإنما انعكس هذا الجانب على شرح مختصراته ومنظوماته، لذا سنتناول أبرزها على اعتبار أن أصلها الأصيل هو كتاب ابن الصلاح، ومن ذلك:
1- شروح ألفية العراقي.
2- نزهة النظر، للحافظ ابن حجر (ت 852 هـ‍) وما يتعلق بها.

(1/20)


3- تدريب الراوي للسيوطي (ت 911 هـ‍) .
4- البحر الذي زخر، للسيوطي (ت 911 هـ‍) شرح فيه ألفيته.

د. التنكيت:
النُّكَت: جمع نُكْتَةٍ، وهي مشتقة من الفعل الثلاثي الصحيح (نَكَت) ، وهو ذو اشتقاقات مختلفة، أجملها ابن فارس فقال: ((النون والكاف والتاء أصل واحد يدلّ على تأثير يسير في الشيء كالنكتة ونحوها، ونكت في الأرض بقضيبه ينكت: إذا أثر فيها))
أما في الاصطلاح فالنكتة: مسألة لطيفة أخرجت بدقة نظر وإمعان فكر، من نكت رمحه بأرض إذا أثر فيها، وسميت المسألة الدقيقة نكتةً؛ لتأثير الخواطر في استنباطها.
وقد كان نصيب ابن الصلاح من كتب النكت شيئاً دلّ على مدى تعمّق الدارسين في فهم معانيه ومدلولاته، حسب اللون العلمي الذي يغلب على ذلك المنكت، فنرى الأصولي يُغَلِّب المباحث الأصولية في طريق تقرير مسائل الكتاب المهمة، وهذا ما نلمسه جلياً في نكت الزركشي، والْمُحَدِّث يجعل همّه المباحثات الحديثية، وهو منهج واضح نراه في نكت العراقي وشيخه مغلطاي، وهكذا بالنسبة إلى الفقيه كما وقع للبلقيني وابن جماعة وغيرهم.
وعلّ الفطن من القرّاء عرف من العرض السابق أسماء بعض من كتب نكتاً على كتاب ابن الصلاح، ولكننا نودّ أن نجعل الأمر استقصائياً استقرائياً، فجمعنا مَن وقع في علمنا أنه ساهم في هذا الجانب، سواء عن طريق الكتابة والبحث المباشر على كتاب ابن الصلاح أو العمل غير المباشر عن طريق التعليق على فروع كتاب ابن الصلاح، وأهم هذه الكتب:
1. إصلاح كتاب ابن الصلاح، لشمس الدين محمد بن أحمد بن عبد المؤمن الأسعردي الدمشقي ثُمَّ المصري المشهور بابن اللبان (ت 749 هـ‍) .

(1/21)


2. إصلاح كتاب ابن الصلاح، للإمام العلاّمة علاء الدين أبي عبد الله مغلطاي بن قليج ابن عبد الله البكجري الحنفي (ت 762 هـ‍) .
3. النكت على مقدمة ابن الصلاح، للإمام بدر الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي (ت 794 هـ‍) .
4. الشذا الفياح من علوم ابن الصلاح، للشيخ برهان الدين إبراهيم بن موسى بن أيوب الأبناسي (ت 802 هـ‍) .
5. محاسن الاصطلاح وتضمين كتاب ابن الصَّلاَح، لسراج الدين أبي حفص عمر بن رسلان البلقيني (ت 805 هـ‍) .
6. التقييد والإيضاح لما أطلق وأغلق من كتاب ابن الصلاح، للحافظ زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي (ت 806 هـ‍) .
7. شرح علوم الحديث، لعز الدين محمد ابن أبي بكر بن عبد العزيز بن جماعة الحموي (819 هـ‍) .
8. النكت على كتاب ابن الصلاح، للحافظ أبي الفضل أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني (852 هـ‍) .

(1/22)