شرح (التبصرة والتذكرة = ألفية العراقي)

أَقْسَامُ الحَدِيْثِ

11.... وَأَهْلُ هَذَا الشَّأْنِ قَسَّمُوا السُّنَنْ ... إلى صَحِيْحٍ وَضَعِيْفٍ وَحَسَنْ
12.... فَالأَوَّلُ الْمُتَّصِلُ الإسْنَادِ ... بِنَقْلِ عَدْلٍ ضَابِطِ الْفُؤَادِ
13.... عَنْ مِثْلِهِ مِنْ غَيْرِ مَا شُذُوْذِ ... وَعِلَّةٍ قَادِحَةٍ فَتُوْذِي
أي: وأهلُ الحديثِ. قال الخطَّابيُّ في " معالمِ السُّنَنِ ": ((اعلموا أَنَّ الحديثَ عندَ أهلِهِ على ثلاثةِ أقسامٍ: حديثٌ صحيحٌ، وحديثٌ حسنٌ وحديثٌ سَقيْمٌ؛ فالصحيحُ عندَهُم: ما اتّصلَ سندُهُ وعُدِّلَتْ نَقَلَتُهُ)) . فلمْ يشترطِ الخطَّابيُّ في الحدِّ ضَبْطَ الراوي، ولا سلامَةَ الحديثِ من الشذوذِ والعلّةِ. ولا شكَ أَنَّ ضَبْطَ الراوي لابُدَّ منِ اشتراطِه؛ لأنَّ مَنْ كَثُرَ الخطأُ في حديثِهِ، وفَحُشَ؛ استحقَ التْركَ، وإنْ كانَ عدلاً.
وأما السلامةُ من الشذوذِ والعلةِ، فقالَ الشيخُ تقيُّ الدينِ ابنُ دَقيقِ العيدِ في " الاقتراح ": ((إِنَّ أصحابَ الحديثِ زادوا ذلكَ في حدِّ الصحيحِ. قال: وفي هذينِ الشرطينِ نظرٌ على مقتضى نَظَرِ الفقهاءِ، فإنَّ كثيراً من العِلَلِ التي يُعَلِّلُ بها المحدِّثونَ لا تجرِي على أُصولِ الفقهاءِ)) .

(1/103)


قلتُ: قد احترزْتُ بقولي: (قادحةً) ، عن العلةِ التي لا تقدحُ في صحّةِ الحديثِ. فقولي: (المتّصلُ الإسنادِ) ، احترازٌ عمّا لم يتصلْ وهو المنقطعُ، والمرسلُ، والمعضلُ، وسيأتي إيضاحُها. وقولي: (بنقلِ عدلٍ) ، احترازٌ عما في سندِهِ مَنْ لم تُعْرَفْ عدالتُهُ، إما بأنْ يكونَ عُرِفَ بالضعفِ أو جُهِلَ عيناً، أو حالاً، كما سيأتي في بيانِ المجهولِ. وقولي: (ضابطٌ) ، احترازٌ عمّا في سندِهِ راوٍ مغفّلٌ، كثيرُ الخطأ، وإِنْ عُرِفَ بالصدقِ والعدالةِ. وقولي: و (غيرُ ما شذوذٍ وعلةٍ قادحةٍ) ، احترازٌ عن الحديثِ الشاذِّ والمعللِ، بعلةٍ قادحةٍ. وما: هنا مُقْحَمَةٌ. ولم يذكُرِ ابنُ الصلاحِ في نفسِ الحدِّ قادحةً ولكنه ذكرَهُ بعد سَطْرٍ فيما احْتَرَزَ عنه، فقال: ((وما فيهِ علةٌ قادحةٌ)) . قالَ ابنُ الصلاحِ:
((فهذا هو الحديثُ الذي يُحْكَمُ له بالصحةِ بلا خلافٍ بين أهلِ الحديث)) . وإنّما قَيَّدَ نفيَ الخلافِ بأهلِ الحديثِ؛ لأنَّ بعضَ متأخّري المعتزلةِ يشترطُ العددَ في الروايةِ كالشهادةِ، حكاهُ الحازميُّ في شروط الأئمة. قال ابنُ دقيقِ العيد: ((لو قِيْلَ: في هذا: الحديثُ الصحيحُ المجمعُ على صحتِهِ، هو كذا وكذا إلى آخرِه لكانَ حسناً؛ لأَنَّ مَنْ لا يشترطُ مثلَ هذهِ الشروطِ، لا يحصُرُ الصحيحَ في هذه الأوصافِ. قال: ومِنْ شرطِ الحدِّ أَنْ يكونَ جامعاً مانعاً)) .

(1/104)


14.... وَبالصَّحِيْحِ وَالضَّعِيفِ قَصَدُوا ... في ظَاهِرٍ لاَ الْقَطْعَ، وَالْمُعْتَمَدُ
15.... إمْسَاكُنَا عَنْ حُكْمِنَا عَلى سَنَدْ ... بِأَنَّهُ أَصَحُّ مُطْلَقاً، وَقَدْ
16.... خَاضَ بهِ قَوْمٌ فَقِيْلَ مَالِكُ ... عَنْ نَافِعٍ بِمَا رَوَاهُ النَّاسِكُ
17.... مَوْلاَهُ وَاخْتَرْ حَيْثُ عَنْهُ يُسْنِدُ ... الشَّافِعِيْ قُلْتُ: وعَنْهُ أَحْمَدُ

أي: حيثُ قال أهلُ الحديثِ: هذا حديثٌ صحيحٌ، فمرادُهُم فيما ظهرَ لنا عملاً بظاهر الإسنادِ، لا أَنَّهُ مقطوعٌ بصحتِهِ في نفسِ الأمرِ، لجوازِ الخطأ والنسيانِ على الثقةِ، هذا هو الصحيحُ الذي عليه أكثرُ أهلِ العلمِ، خلافاً لِمَنْ قالَ: إنَّ خبرَ الواحدِ يوجبُ العلمَ الظاهرَ، كحسين بن علي الكرابيسيِّ وغيرِهِ. وحكاه ابنُ الصباغِ في " العُدَّةِ " عن قومٍ مِنْ أصحابِ الحديثِ. قال القاضِي أبو بكرٍ الباقلانيّ: ((إنّهُ قولُ مَنْ لم يُحَصِّلْ علمَ هذا الباب)) ، انتهى. نعم ... إنْ أخرجَهُ الشيخانِ أو

(1/105)


أحدُهُما فاختارَ ابنُ الصلاحِ القطعَ بصحتِه، وخالفَهُ المحقّقونَ -كما سيأتي - وكذا قولُهم: هذا حديثٌ ضعيفٌ فمرادُهم أنه لم يظهَرْ لنا فيه شروطُ الصحةِ، لا أنَّهُ كَذِبٌ في نفسِ الأمرِ، لجوازِ صِدْقِ الكاذبِ، وإصابةِ مَنْ هو كثيرُ الخطأ.
وقولُهُ: (والمعتمدُ إمساكُنا عن حُكْمِنا) إلى آخره. أي: القولُ المُعْتَمَدُ عليهِ، المختارُ: أنَّهُ لا يُطْلَقُ على إسنادٍ معينٍ بأنَّهُ أصَحُّ الأسانيدِ مُطْلَقاً؛ لأنَّ تَفَاوُتَ مراتبِ الصحةِ مترتبٌ عَلَى تَمَكُّنِ الإسنادِ مِن شروطِ الصحةِ، ويعِزُّ وجودُ أعلى درجات القبولِ في كلِ فردٍ فردٍ من ترجمةٍ واحدةٍ بالنسبةِ لجميعِ الرواةِ. قالَ الحاكمُ في عُلومِ الحديثِ: ((لا يمكنُ أنْ يُقْطَعَ الحكمُ في أصحِّ الأسانيدِ لصحابيٍّ واحدٍ)) . وسنذكرُ تتمةَ كلامِهِ في آخرِ هذهِ الترجمةِ. قالَ ابنُ الصلاحِ: ((عَلَى أَنَّ جماعةً مِنْ أئمةِ الحديثِ خاضُوا غَمْرةَ ذلكَ فاضطربَتْ أقوالهُمْ)) . وقوله: (فقِيلَ: مالكٌ) ، أي: فقيلَ: أصحُّ الأسانيدِ ما رواهُ مالكٌ عَنْ نافعٍ عن ابن عمر، وَهُوَ المرادُ بقولِهِ:

(1/106)


(مولاهُ) أي: سَيِّدُهُ. وهذا هُوَ قولُ البخاريِّ. وقولُه: (واختَرْ حيثُ عَنْهُ) أيْ: عن مالكٍ، (يُسْنِدُ الشَّافعيُّ) ، أي: فعلى هذا إذا زدْتَ في الترجمةِ واحداً فأصحُّ الأسانيدِ ما أسندهُ الشافعيُّ عن مالكٍ بها، فقال الأستاذُ أبو منصورٍ عبدُ القاهرِ بن طاهرٍ التَّميميُّ: إنَّهُ أَجَلُّ الأسانيدِ، لإجماعِ أصحابِ الحديثِ أنه لم يكنْ في الرواةِ عن مالكٍ أجلُّ مِنَ الشافعيِّ.
وقولُه: (قلتُ وعنهُ) ، أي: وعنِ الشافعيِّ أحمدُ بنُ حنبلٍ، يريدُ وإنْ زِدْتَ في الترجمةِ آخرَ، فأصحُّ الأسانيدِ ما رواه أحمدُ عنِ الشافعيِّ عنْ مالكٍ بها، لاتفاقِ أهلِ الحديثِ على أَنَّ أجلَّ مَنْ أخذَ عن الشافعيِّ مِنْ أهلِ الحديثِ الإمامُ أحمدُ، ووقعَ لنا بهذهِ الترجمةِ حديثٌ واحدٌ، أخبرني به أبو عبدِ الله محمدُ بنُ إسماعيلَ ابنُ الخبّازِ،

(1/107)


بقراءتي عليه بدمشقَ، قال: أخبرنا المسلمُ بنُ مكيٍّ ح وأخبرني عليُّ بنُ أحمدَ العرضيُّ، بقراءتي عليه بالقاهرة، قال: أخبرتنا زينبُ بنتُ مكيٍّ، قالا: أخبرنا حنبلٌ، قال: أخبرنا هبةُ اللهِ بنُ محمدٍ، قال: أخبرنا الحسنُ بنُ عليٍّ التميميُّ، قال: أخبرنا أحمدُ بنُ جعفرِ بن حمدانَ، قال: حدثنا عبدُ اللهِ بنُ أحمدَ، قال: حدثني أبي رحمهُ اللهُ، قال: حدثنا محمدُ بنُ إدريسَ الشافعيُّ، قال: أخبرنا مالكٌ، عَنْ نافعٍ عَنِ ابنِ عُمَرَ رحمةُ اللهِ عليهِ، أنَّ رسولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالَ: ((لا يبِيعْ بعضُكُم على بَيعِ بعضٍ)) ، ونهى عنِ النَّجَشِ، ونهى عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الحبَلَةِ، ونهى عن المُزَابَنَةِ، والمزابنةُ: بيعُ الثمرِ بالتمرِ

(1/108)


كيلاً، وبيعُ الكَرْمِ بالزَّبيبِ كيلاً. أخرجَهُ البخاريُّ مُفرَّقاً مِنْ حديثِ مالكٍ.

18.... وَجَزَم ابْنُ حَنْبَلٍ بالزُّهْرِي ... عَنْ سَالِمٍ أَيْ: عَنْ أَبِيْهِ البَرِّ

أي: وذهبَ أحمدُ بنُ حنبلٍ، وكذلك إسحاقُ بنُ راهويه إلى أَنَّ أصحَّ الأسانيدِ ما رواهُ أبو بكرٍ محمدُ بنُ مسلمِ بنِ عُبيدِ اللهِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ شهابٍ الزهريُّ عنْ سالمِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ عن أبيهِ.

(1/109)


19.... وَقِيْلَ: زَيْنُ العَابِدِيْنَ عَنْ أَبِهْ ... عَنْ جَدِّهِ وَابْنُ شِهَابٍ عَنْهُ بِهْ
أي: وقيل: أصحُّ الأسانيدِ ما رواهُ ابنُ شهابٍ المذكورُ عن زَيْنِ العابدينَ وهو عليُّ ابنُ الحسينِ، عن أبيهِ الحُسينِ، عَنْ جَدِّهِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ، وهو قولُ عبدِ الرزاقِ، ورُوِيَ أيضاً عَنْ أبي بكرِ بنِ أبي شيبةَ.
فقوله: (وابنُ شهابٍ عنهُ بهِ) ، أي: عَنْ زينِ العابدينَ بالحديثِ. وابنُ: مرفوعٌ على الابتداءِ، والواوُ: للحالِ، أي: في حالِ كونِ ابنِ شهابٍ راوياً للحديثِ عنهُ.

20.... أَوْ فَابْنُ سِيْريْنَ عَنِ السَّلْمَاني ... عَنْهُ أوِ الأعْمَشُ عَنْ ذي الشَّانِ
21.... النَّخَعِيْ عَنِ ابْنِ قَيْسٍ عَلْقَمَهْ ... عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ وَلُمْ مَنْ عَمَّمَهْ

أَوْ: هنا في الموضعينِ ليستْ للتخييرِ، ولا للشكِّ؛ ولكنها لتنويعِ الخلافِ، والضميرُ في (عنهُ) عائدٌ إلى قولِهِ في البيتِ الذي قبلَهُ (جَدِّهِ) ، يريدُ عليَّ بنَ أبي طالبٍ، أي: وقيلَ: أصحُّ الأسانيدِ ما رواهُ محمدُ بنُ سيرينَ، عَنْ عَبيدَةَ السَّلْمانيِّ، عن عَليٍّ، وهو قولُ عَمْرِو بنِ عليٍّ الفلاّسِ، وعليِّ بنِ المدينيِّ وسليمانَ بنِ حربٍ إلا أَنَّ ابنَ المديني قال: ((أجودُها: عبدُ اللهِ بنُ عَوْنٍ، عن ابنِ سيرينَ، عن عَبيدَةَ عَنْ عليٍّ)) .

(1/110)


وقالَ سليمانُ بنُ حربٍ: ((أصحُّهَا: أيوبُ عَنِ ابنِ سيرينَ عَنْ عَبيدةَ عنْ عليٍّ)) وقيل: أصحُّ الأسانيدِ ما رواهُ سليمانُ بنُ مِهْرانَ الأعمشُ، عن إبراهيمَ بنِ يزيدَ النَّخَعيِّ، عَنْ علقمةَ بنِ قيسٍ، عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ، وهو قولُ يحيى بنِ مَعينٍ. وهذهِ جملةُ الأقوالِ التي حكاها ابنُ الصلاحِ. وفي المسألةِ أقوالٌ أُخَرُ ذكرتُها في " الشرحِ الكبيرِ "، وفيه فوائدُ مهمةٌ لا يستغني عنها طالبُ الحديثِ.
وقولُهُ: (وَلُمْ مَنْ عَمَّمَه) . أي: وَلُم مَنْ عَمَّمَ الحكمَ في أصحِّ الأسانيدِ في ترجمةٍ لصحابيٍّ واحدٍ، بلْ ينبغي أنْ تُقَيَّدَ كلُّ ترجمةٍ منها بِصحابيها. قالَ الحاكمُ: ((لا يمكنُ أنْ يُقْطَعَ الحكمُ في أصحِّ الأسانيدِ لصحابيٍّ واحدٍ فنقولُ وباللهِ التوفيقُ: إِنَّ أصحَّ أسانيدِ أهلِ البيتِ: جعفرُ بنُ محمدٍ عن أبيهِ عن جَدِّه، عَنْ عَليٍّ، إذا كانَ الراوي

(1/111)


عن جعفرٍ ثِقَةً. وأصحُّ أسانيدِ الصِّدِّيقِ: إسماعيلُ بنُ أبي خالدٍ، عن قَيْسِ بنِ أبي حازمٍ، عنْ أبي بكرٍ. وأصحُّ أسانيدِ عُمَرَ: الزهريُّ، عن سالمٍ، عن أبيهِ عن جَدِّهِ. وأصحُّ أسانيدِ أبي هُريرةَ: الزهريُّ، عَنْ سعيدِ بنِ المُسَيِّبِ، عَنْ أبي هُريرةَ. وأصحُّ أسانيدِ ابنِ عُمَرَ: مالكٌ، عن نافعٍ، عن ابنِ عُمَرَ. وأصحُّ أسانيدِ عائشةَ: عُبَيْدُ اللهِ ابنُ عُمَرَ عَنِ القاسمِ، عَنْ عائشةَ. وقالَ يحيى بنُ معينٍ: هذهِ تَرْجَمةٌ مشبّكةٌ بالذَّهبِ. وأصحُّ أسانيدِ ابنِ مسعودٍ: سفيانُ الثوريُّ، عَنْ منصورٍ، عَنْ إبراهيمَ، عَنْ علقمةَ، عَنِ ابنِ مسعودٍ. وأصحُّ أسانيدِ أنسٍ: مالكٌ، عن الزهريِّ، عَنْ أَنَسٍ. وأصحُّ أسانيدِ المكيِّيْنَ: سفيانُ بنُ عُيينةَ، عَنْ عَمْرِو بنِ دينارٍ، عَنْ جابرٍ. وأصحُّ أسانيدِ اليمانيِّين: مَعْمَرٌ، عن هَمّامٍ، عَنْ أبي هُريرةَ. وأثبتُ أسانيدِ المِصْرِّيْينَ: اللّيْثُ عن يزيدَ بنِ أبي حَبيبٍ، عَنْ أبي الخيرِ، عنْ عُقْبَةَ بنِ عامرٍ. وأثبتُ أسانيدِ الشاميِّينَ: الأوزاعيُّ، عنْ حَسّانَ بنِ عَطيَّةَ، عن الصَّحابةِ.

(1/112)


وأثبتُ أسانيدِ الخُراسانِيِّيْنَ: الحسينُ بنُ واقدٍ، عَنْ عبدِ اللهِ بنِ
بُريدَةَ، عَنْ أبيهِ.

أصحُّ كُتُبِ الحديثِ

22.... أَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ في الصَّحِيْحِ ... مُحَمَّدٌ وَخُصَّ بِالتّرْجِيْحِ
23.... وَمُسْلِمٌ بَعْدُ، وَبَعْضُ الغَرْبِ مَعْ ... أَبِي عَلِيٍّ فَضَّلُوا ذَا لَوْ نَفَعْ

أي: أَوَّلُ مَنْ صنّفَ في جمعِ الصحيحِ: محمدُ بنُ إسماعيلَ البخاريُّ وكتابُه أصحُّ مِنْ كتابِ مسلمٍ عند الجمهورِ، وهو الصحيحُ. وقالَ النوويُّ: ((إنَّهُ الصوابُ)) . والمرادُ ما أسندَهُ دون التعليقِ والتراجمِ.

(1/113)


وقولُه: (ومسلمٌ بعدُ) ، أي: بعدَ البخاريِّ في الوجودِ والصحةِ. وقوله:
(بعضُ الغربِ) ، أي: بعضُ أهلِ الغَرْبِ على حذفِ المضافِ، أي: وذهبَ بعضُ المغاربةِ، والحافظُ أبو عليٍّ الحسينُ بنُ عليٍّ النيسابوريُّ شيخُ الحاكمِ إلى تَفْضيلِ مسلمٍ على البخاريِّ، فقالَ أبو عليٍّ: ((ما تحتَ أديمِ السماءِ أصحُّ مِنْ كتابِ مسلمٍ في علمِ الحديثِ)) . وحكى القاضي عياضٌ عَنْ أبي مروانَ الطُّبْنيِّ، قال: ((كانَ مِنْ شيوخِيْ مَنْ يُفَضِّلُ كتابَ مسلمٍ عَنْ كتابِ البخاريِّ)) . قالَ ابنُ الصَّلاحِ:
((فهذا إنْ كان المرادُ بِهِ: أَنَّ كتابَ مُسلمٍ يترجحُ بأَنّهُ لَم يُمازِجْهُ غيرُ الصحيحِ، فهذا لا بأس به، وإنْ كانَ المرادُ به: أنَّ كتابَ مُسلمٍ أصحُّ صحيحاً، فهذا مردودٌ على مَنْ
يقولُه)) . انتهى. وعلى كلِّ حالٍ فكتاباهُمَا أصحُّ كُتُبِ الحديثِ.

(1/114)


وأمَّا قولُ الشافعيِّ: ((ما على وَجْهِ الأرضِ بعدَ كتابِ اللهِ أصحُّ مِنْ كِتابِ
مالكٍ)) ، فذاكَ قَبْلَ وجودِ الكتابَيْنِ.
وقولُهُ: (لو نَفَع) : يريدُ لو نَفَعَ قولُ من فَضَّلَ مسلماً على البخاريِّ، فإنه لم يُقْبَلْ مِنْ قائِلِهِ. وقولُهُ: (في الصحيحِ) ، متعلقٌ بِصَنَّفَ. وأما أولُ مَنْ صَنَّفَ مطلقاً لا بقيدِ جَمْعِ الصحيحِ، فقدْ بينتُهُ في " الشرحِ الكبيرِ ".

24.... وَلَمْ يَعُمَّاهُ ولكن قَلَّمَا ... عِنْدَ ابْنِ الاخْرَمْ مِنْهُ قَدْ فَاتَهُمَا
25.... وَرُدَّ لكن قَالَ يَحيَى البَرُّ ... لَمْ يَفُتِ الخَمسَةَ إلاَّ النَّزْرُ
أي: لَمْ يَعُمَّ البخاريُّ ومسلمٌ كلَّ الصحيحَ، يريدُ: لَمْ يستوعباهُ في كتابَيْهِمَا، ولم يلتزما ذلك. وإلزامُ الدارقطنيِّ، وغيرهِ إياهُما بأحاديثَ ليس بلازمٍ. قال الحاكمُ في خُطْبَةِ المستدركِ: ((ولم يَحْكُمَا ولا واحدٌ منهُما أنَّهُ لم يَصِحَّ منَ الحديثِ غيرُ ما خرَّجَه)) . انتهى.

(1/115)


قالَ البخاريُّ: ((ما أدخلْتُ في كتابي الجامعِ إلا ما صحَّ، وتركتُ من الصِّحَاح لحالِ الطولِ)) . وقالَ مسلمٌ: ((ليسَ كُلُّ صحيح وضعتُهُ هنا إنّما وضعتُ هنا ما أجمعُوا عليه)) . يريدُ: ما وَجَدَ عندَهُ فيها شرائطَ الصحيحِ المُجمَعِ عليهِ وإنْ لم يظهرِ اجتماعُها في بعضِها عند بعضِهم. قاله ابنُ الصلاحِ.
وقولُهُ: (ولكن قَلَّمَا عندَ ابنِ الاخرمْ منه) ، أي: من الصحيحِ. يريدُ أَنَّ الحافظَ أبا عبدِ الله محمدَ بنَ يعقوبَ بنِ الأخرمِ شيخَ الحاكمِ ذكرَ كلاماً معناه: قلَّمَا يفوتُ البخاريَّ ومسلماً مما يَثْبت مِنَ الحديثِ. قالَ ابنُ الصلاحِ: ((يعني: في كتابَيْهِمَا)) . ويحيى هو الشيخُ محيي الدينِ النوويُّ، فقالَ في " التقريبِ والتيسيرِ ": ((والصوابُ أَنَّهُ لم يَفُتِ الأُصولَ الخمسةَ إلاَّ اليسيرُ، أعني الصَّحيحينِ وسنَنَ أبي داودَ والترمذيَّ والنسائيَّ)) .

(1/116)


26.... وَفيهِ مَا فِيْهِ لِقَوْلِ الجُعْفِي ... أَحْفَظُ مِنْهُ عُشْرَ أَلفِ أَلْفِ
27.... وَعَلَّهُ أَرَادَ بِالتَّكرَارِ ... لَهَا وَمَوْقُوْفٍ وفي البُخَارِي
28.... أَرْبَعَةُ الآلافِ والمُكَرَّرُ ... فَوْقَ ثَلاثَةٍ أُلُوْفاً ذَكَرُوا
أي: وفي كلامِ النوويِّ ما فيهِ لقولِ الجُعْفِي - وهو البخاريُّ -: أحفظُ مائةَ ألفِ حديثٍ صحيحٍ. فقوله: (منه) ، أي: مِنَ الصحيحِ. وقولُهُ: (وعَلَّهُ) أي: ولعلَّ البخاريَّ أرادَ - بالأحاديثِ - المكرَّرَةَ الأَسانيدِ والموقوفاتِ. فقولُهُ: (وموقوفٍ) معطوفٌ على قولِه: (بالتكرارِ) . قال ابن الصلاحِ بَعْدَ حكايةِ كلامِ البخاريِّ: ((إلا أَنَّ هذه العبارةَ قَدْ يندرجُ تحتَها عندَهُم آثَارُ الصحابةِ والتابعينَ.
- قال -: وَربُّما عُدَّ الحديثُ الواحدُ المرويُّ بإسنادَيْنِ حديثَيْنِ)) .
وقولُهُ: (وفي البخاريِّ ... ) إلى آخره، فيه بيانُ عددِ أحاديثِ صحيحِ البخاريِّ، وهي - بإسقاطِ المُكَرَّرِ - أَربعةُ آلافِ حديثٍ على ما قيلَ. وبالمكررِ سبعةُ آلافٍ ومائتانِ وخمسةٌ وسبعونَ حديثاً. كذا جزمَ به ابنُ الصلاحِ، وهو مُسَلَّمٌ في روايةِ الفِرَبْرِيّ.

(1/117)


وأما روايةُ حمّادِ بنِ شاكرٍ فهي دونَها بمائتي حديثٍ. ودون هذهِ بمائةِ حديثٍ روايةُ إبراهيمَ بنِ مَعْقلٍ. ولم يذكرِ ابنُ الصلاحِ عدةَ أحاديثِ مُسْلِمٍ قالَ النوويُّ: ((إِنَّهُ نحوُ أربعةِ آلافٍ بإسقاطِ المكرَّرِ)) .

الصَحيحُ الزَائدُ على الصَحيحَينِ
29.... وَخُذْ زِيَادَةَ الصَّحِيْحِ إذْ تُنَصّْ ... صِحَّتُهُ أوْ مِنْ مُصَنِّفٍ يُخَصّْ
30.... بِجَمْعِهِ نَحوَ (ابْنِ حِبَّانَ) الزَّكِيْ ... (وَابنِ خُزَيْمَةَ) وَكَالمُسْتَدْرَكِ
لَمَّا تقدَّمَ أَنَّ البخاريَّ ومسلماً لم يستوعبا إخراجَ الصحيحِ، فكأنَّهُ قيل: فمِنْ أينَ يُعرفُ الصحيحُ الزائدُ على ما فيهِما؟ فقالَ: خُذْهُ إذ تُنَصُّ صحتُهُ أي: حيثُ يَنُصُّ على صحتِهِ إمامٌ معتمدٌ كأبي داودَ، والترمذيِّ، والنسائيِّ والدارقطنيِّ، والخطّابيِّ، والبيهقيِّ في مصنفاتِهِم المعتمدةِ. كذا قَيَّدَهُ ابنُ الصلاحِ بِمصنفاتِهِم، ولم أقيّدْهُ بها، بل إذا صحَّ الطريقُ إليهم أنَّهم صحّحُوهُ ولو في غيرِ مصنفاتِهم، أو صحّحَهُ مَنْ لم

(1/118)


يشتهرْ له تصنيفٌ من الأئمةِ كيحيى بنِ سعيدٍ القطّانِ، وابنِ معينٍ، ونحوِهما، فالحكمُ كذلك على الصوابِ. وإنّما قيّدهُ ابنُ الصلاحِ بالمصنفاتِ؛ لأنَّهُ ذهبَ إلى أنهُ ليس لأَحدٍ في هذهِ الأعصارِ، أنْ يصححَ الأحاديثَ، فلهذا لم يعتمدْ على صحةِ السند إلى من صحّحهُ في غيرِ تصنيفٍ مشهورٍ، وسيأتي كلامُهُ في ذلك.
ويؤخذُ الصحيحُ أيضاً من المصنفاتِ المختصَّةِ بجمْعِ الصحيحِ فقط، كصحيحِ أبي بكرٍ محمدِ بنِ إسحاقَ بنِ خزيمةَ، وصحيحِ أبي حاتِمٍ محمدِ بن حبّان البُستيِّ، المسمَّى بالتقاسيمِ والأنواعِ، وكتابِ المستدرَكِ على الصحيحينِ لأبي عبدِ اللهِ الحاكمِ. وكذلك ما يوجدُ في المستخرجاتِ على الصحيحينِ من زيادةٍ أو تَتِمَّةٍ لمحذوفٍ، فهو محكومٌ بصحتِهِ، كما سيأتي في بابِهِ.

(1/119)


31.... عَلى تَسَاهُلٍ - وَقَالَ: مَا انْفَرَدْ ... بِهِ فَذَاكَ حَسَنٌ مَا لَمْ يُرَدّْ
32.... بِعِلَّةٍ، وَالحقُّ أنْ يُحْكَمْ بِمَا ... يَليْقُ، والبُسْتِيْ يُدَانِي الحَاكِما
أي: على تساهُلٍ في المستدركِ، وإنّما قَيَّدَ تعلقَ الجارِ والمجرورِ بالمعطوفِ الأخيرِ، لتكرارِ أداةِ التشبيهِ فيه. وقوله: (وقال) ، أي: وقالَ ابنُ الصلاحِ: ما انفردَ الحاكمُ بتصحيحهِ لا بتخريجِهِ فقط، إنْ لم يكن من قبيلِ الصحيحِ فهو من قبيلِ الحسنِ، يُحتجُّ به، ويعملُ بهِ، إلاَّ أنْ تظهرَ فيه علّةٌ توجِبُ ضعفَهُ.
وقولُهُ: (والحقُ أنْ يُحْكَمْ بِما يليقُ) ، هذا من الزوائدِ على ابنِ الصلاحِ وهو متميزٌ بنفسِهِ؛ لكونِهِ اعتراضاً على كلامهِ. وتقريرُهُ: أنَّ الحكمَ عليه بالحسنِ فقط تَحَكُّمٌ، فالحقُّ أنَّ ما انفردَ بتصحيحِهِ يُتَتَبَّعُ بالكشفِ عنه ويُحْكَمُ عليه بما يليقُ بحالِهِ من الصحَّةِ، أو الحُسْنِ، أوِ الضَّعْفِ.
ولكنَّ ابنَ الصلاحِ رأيهُ أنَّهُ ليسَ لأَحدٍ أنْ يصحّحَ في هذهِ الأعصارِ، فلهذا قطعَ النظرَ عن الكشفِ عليهِ.

(1/120)


وقولُه: (والبستيّ يدانِي الحاكما) ، أي: وابنُ حبانَ البستيُّ يُقارِبُ الحاكمَ في التساهُلِ، فالحاكمُ أشدُّ تساهُلاً. قالَ الحازميُّ: ((ابنُ حبانَ أمْكَنُ في الحديثِ من الحاكمِ)) .

الْمُسْتَخْرَجاتُ
33.... وَاسْتَخْرَجُوا عَلى الصَّحِيْحِ (كَأَبي ... عَوَانَةٍ) وَنَحْوِهِ، وَاجْتَنِبِ
34.... عَزْوَكَ ألفَاظَ المُتُونِ لَهُمَا ... إذْ خَالَفتْ لَفْظاً وَمَعْنَىً رُبَّمَا
المستَخْرَجُ: مَوْضُوعُهُ أنْ يأتيَ المصنِّفُ إلى كتابِ البخاريِّ، أو مسلمٍ فيخَرِّجَ أحاديثَهُ بأسانيدَ لنفسِهِ من غيرِ طريقِ البخاريِّ، أو مسلمٍ، فيجتمعُ إسنادُ المصنِّفِ مع إسنادِ البخاريِّ، أو مسلمٍ في شيخِهِ، أو مَنْ فوقَهُ، كالمستخرَجِ على صحيحِ البخاريِّ لأبي بكرٍ الإسماعيليِّ، ولأبي بكرٍ البرقانيِّ ولأبي نُعيمٍ

(1/121)


الأصبهانيِّ، وكالمستخرَجِ عَلَى صحيحِ مسلمٍ لأبي عوانةَ، ولأبي نُعيم أيضاً. والمستخرجونَ لم يلتزموا لفظَ واحدٍ من الصحيحينِ، بَلْ رَوَوْهُ بالألفاظِ التي وَقعتْ لهم عن شيوخِهِم مع المخالفةِ لألفاظِ الصحيحينِ. وربّما وقعتِ المخالفة أيضاً في المعنى فلهذا قالَ: (واجتنبْ عزوَكَ ألفاظَ المتونِ لهما) ، أي: لا تَعْزُ ألفاظَ متونِ المستخرجاتِ للصحيحينِ، فلا تقلْ: أخرجَهُ البخاريُّ أو مسلمٌ بهذا اللفظِ، إلا إنْ علمتَ أنَّهُ في المستخرَجِ بلفظِ الصحيحِ، بمقابلتِهِ عليه، فلكَ ذلك. فقولُهُ: (رُبَّما) متعلّقٌ بمخالفةِ المعنى فقط؛ لأنَّ مخالفةَ الألفاظِ كثيرةٌ، كما تقدّم.

35.... وَمَا تَزِيْدُ فاحْكُمَنْ بِصِحَّتِهْ ... فَهْوَ مَعَ العُلُوِّ مِنْ فَائِدَتِهْ
36.... وَالأَصْلَ يَعْني البَيْهَقيْ وَمَنْ عَزَا ... وَلَيْتَ إذْ زَادَ الحُمَيدِيْ مَيَّزَا

أي: وما تزيدُ المستخرجاتُ، أو ما يزيدُ المستخْرِجُ على الصحيحِ من ألفاظٍ زائدةٍ عليهِ من تتمةٍ لمحذوفٍ، أو زيادةِ شرحٍ في حديثٍ، أو نحوِ ذلكَ، فاحكُمْ بصحتِهِ؛ لأنَّها خارجةٌ من مخرجِ الصحيحِ.

(1/122)


وقولُهُ: (فَهُوَ مَعَ العلوِّ من فائدتِهِ) ، هَذَا بيانٌ لفائدةِ المستخرَجِ. فمنها: زيادةُ الألفاظِ المذكورةِ؛ لأنّها رُبَّما دلتْ على زيادةِ حُكمٍ. ومنها: علوُّ الإسنادِ؛ لأنَّ مصنِّفَ المستخرَجِ لو رَوَى حديثاً مثلاً من طريقِ مسلمٍ، لَوَقعَ أنزلَ من الطريقِ الذي رواهُ بهِ في المستخرَجِ. مثالُهُ: حديثٌ في مسندِ أبي داودَ الطيالسيِّ، فلو رواهُ أبو نُعيم مثلاً من طريق مسلمٍ، لكانَ بينَهُ وبينَ أبي داودَ أربعةُ رجالٍ، شيخانِ بينه وبين مسلمٍ، ومسلمٌ وشيخُهُ. وإذا رواهُ من غيرِ طريقِ مسلمٍ، كان بين أبي نُعيمٍ، وبين أبي داودَ رجلانِ فقط. فإنَّ أبا نُعيم سمعَ مُسْنَدَ أبي داود على ابنِ فارسٍ بسماعِهِ من يونُسَ بنِ حبيبٍ بسماعِهِ منه، ولم يذكرِ ابنُ الصلاحِ للمستخرَجِ، إلا هاتينِ الفائدتينِ. وأشرتُ إلى غيرهما بقولي: (مِنْ فائِدَتِه) . فمِنْ فوائدِهِ أيضاً: القوةُ بكثرةِ الطرقِ للترجيحِ عندَ المعارضةِ.
وقولُهُ: (والأصلُ يعني البيهقيْ وَمن عَزا) ، كأنَّهُ قيل: فهذا البيهقيُّ في
" السننِ الكبرى "، " والمعرفةِ "، وغيرِهِما. والبغويُّ في " شرح السنةِ "، وغيرُ واحدٍ يروون الحديثَ بأسانيدِهم، ثم يعزونَهُ إلى البخاريِّ، أو مسلمٍ، مع اختلافِ الألفاظِ، أو المعاني؟ والجوابُ: إنَّ البيهقيَّ وغيَرهُ ممَّنْ عزا الحديثَ لواحدٍ من

(1/123)


الصحيحينِ، إنّما يريدون أصلَ الحديثِ، لا عزوَ ألفاظِهِ، (فالأصلَ) : مفعولٌ مقدمٌ.
وقولُهُ: (وليتَ إذ زادَ الحميديْ مَيَّزَا) ، أي: إنَّ أبا عبدِ اللهِ الحميديَّ زادَ في كتابِ " الجمعِ بين الصحيحين " ألفاظاً، وتتماتٍ ليستْ في واحدٍ منهُما من غيرِ تمييزٍ. قال ابنُ الصلاحِ: ((وذاكَ موجودٌ فيهِ كثيراً، فربَّما نقلَ من لا يميزُ بعضَ ما يجدُهُ فيه عن الصحيحِ، وهو مخطئٌ؛ لكونِهِ زيادةً ليست في الصحيح)) . انتهى.
فهذا مما أُنكرَ على الحميديِّ؛ لأنَّهُ جمعَ بين كتابينِ، فمِنْ أين تأتي
الزيادةُ؟

(1/124)


وأما " الجمعُ بين الصحيحينِ " لعبدِ الحقِّ، وكذلك مختصراتُ البخاريِّ ومسلمٍ، فلك أنْ تنقلَ منها، وتعزوَ ذاك للصحيحِ ولو باللفظِ؛ لأنَّهم أتوا بألفاظِ الصحيحِ.
واعلمْ أنَّ الزيادات التي تقعُ في كتاب الحُميديِّ ليسَ لها حكمُ الصحيحِ، خلافُ ما اقتضاهُ كلامُ ابنِ الصلاحِ؛ لأنَّهُ ما رواها بسندِهِ كالمستخرَجِ، ولا ذكرَ أنَّهُ يزيدُ ألفاظاً، واشترطَ فيها الصحةَ حتى يُقَلَّدَ في ذلك، فهذا هو الصوابُ.

مَرَاتِبُ الصَّحِيْحِ
37.... وَأَرْفَعُ الصَّحِيْحِ مَرْويُّهُمَا ... ثُمَّ البُخَارِيُّ، فَمُسْلِمٌ، فَمَا
38.... شَرْطَهُمَا حَوَى، فَشَرْطُ الجُعْفِي ... فَمُسْلِمٌ، فَشَرْطُ غَيْرٍ يَكْفِي

اعلمْ أنَّ درجاتِ الصحيحِ تتفاوتُ بِحَسَبِ تَمَكُّنِ الحديثِ من شروطِ الصحةِ، وعدمِ تَمَكُّنِهِ. وإنَّ أصحَّ كُتبِ الحديثِ: البخاريُّ ثم مسلمٌ، كما تقدمَ أنَّهُ الصحيحُ.
وعلى هذا: فالصحيحُ ينقسمُ إلى سبعةِ أقسامٍ:
أحدُها: -وهو أصحُّها- ما أخرجَه البخاريُّ ومسلمٌ، وهو الذي يُعبِّرُ عنه أهلُ الحديثِ بقولهم: ((متفقٌ عليهِ)) .
والثاني: ما انفردَ به البخاريُّ.
والثالثُ: ما انفردَ به مسلمٌ.
والرابعُ: ما هو على شَرْطِهِما ولم يخرِّجْهُ واحدٌ منهُما.
والخامسُ: ما هو على شرطِ البخاريِّ وَحْدَهُ.
والسادسُ: ما هو على شرطِ مسلمٍ وَحْدَهُ.

(1/125)


والسابعُ: ما هو صحيحٌ عند غيرِهما من الأئمةِ المعتمدينَ، وليسَ على شرطِ واحدٍ منهُما.
فقوله: (ثم البخارِيُّ) ، أي: ثمَّ مروِيُّ البخاريِّ وَحْدَهُ. (وشرطَهُمَا) : مفعولٌ مقدمٌ لِـ (‍حَوَى) .
وقولُهُ: (فمسلمٌ) ، أي: فما حَوَى شرطُ مسلمٍ. وقولُه: (فشرطُ غيرٍ) أي: فشرطُ غيرِهما منَ الأئمةِ. واستعمالُ - غيرٍ - غيرَ مضافةٍ قليلٌ. ثم ما المرادُ بقولهِم: على شرطِ البخاريِّ، أو على شرطِ مسلمٍ؟ فقالَ محمدُ بنُ طاهرٍ في كتابه في " شروطِ الأئمة ": ((شرطُ البخاريِّ، ومسلمٍ، أن يُخَرِّجَا الحديثَ المجمعَ على ثِقَةِ نَقَلَتِهِ إلى الصحابيِّ المشهورِ)) ، وليس ما قالَهُ بجيّدٍ؛ لأنَّ النَّسائيَّ ضَعَّفَ جماعةً أخرجَ لهم الشيخانِ، أو أحدُهُما.

(1/126)


وقالَ الحازميُّ في " شروط الأئمةِ " ما حاصلُهُ: إنَّ شَرْطَ البخاريِّ أنْ يُخَرِّجَ ما اتّصلَ إسنادُه بالثقاتِ المتقنينَ الملازمينَ لمن أَخَذُوا عنه، ملازمةً طويلةً، وإنَّهُ قد يُخَرِّجُ أحياناً عن أعيانِ الطبقةِ التي تلي هذهِ في الإتقانِ والملازمةِ، لمَنْ رَوَوا عنه، فلم يَلْزَمُوهُ إلا ملازمةً يسيرةً. وإنَّ شرطَ مسلمٍ أن يُخَرِّجَ حديثَ هذهِ الطبقةِ الثانيةِ، وقد يُخَرِّجُ حديثَ مَنْ لم يَسْلَمْ مِنْ غوائلِ الجرحِ، إذا كانَ طويلَ الملازمةِ لمَنْ أخذَ عنه، كحمّادِ بنِ سلمةَ في ثابتٍ البُنانيِّ، وأيوبَ. هذا حاصلُ كلامِهِ.

(1/127)


وقالَ النوويُّ: ((إنَّ المرادَ بقولهم: على شرطِهِما أنْ يكونَ رجالُ إسنادِهِ في كتابيهما؛ لأنَّهُ ليس لهما شرطٌ في كتابَيْهما، ولا في غيرهِما)) . وقد أخذَ هذا من ابنِ الصَّلاحِ، فإنَّهُ لما ذكرَ كتابَ " المستدرَكِ للحاكمِ "، قالَ: ((إنَّهُ أودَعَهُ ما رآهُ على شرطِ الشيخينِ، وقد أخرجَا عن رواتِهِ في كتابيهِمَا)) إلى آخرِ كلامِهِ. وعلى هذا عملُ ابنِ دقيقِ العيدِ، فإنَّهُ ينقلُ عن الحاكمِ تصحيحَهُ لحديث على شرطِ البخاريِّ مثلاً، ثم يعترضُ عليه بأنَّ فيه فلاناً، ولم يُخَرِّجْ له البخاريُّ. وكذلك فَعَلَ الذهبيُّ في " مختصرِ المستدْرَكِ ". وليسَ ذلكَ مِنْهم بجيّدٍ، فإنَّ الحاكمَ صَرَّحَ في

(1/128)


خُطبةِ كتابِهِ " المستدركِ " بخلافِ ما فهموهُ عنه، فقال: ((وأَنا أَستعينُ اللهَ تعالى على إخراجِ أحاديثَ رواتُها ثقاتٌ، قد احتجَّ بمثلِها الشيخانِ، أو أحدُهما)) .
فقولُهُ: بمثلِهَا، أي: بمثلِ رواتِها، لا بِهِمْ انْفُسِهِم. ويحتملُ أنْ يُرَادَ: بمثلِ تلك الأحاديثِ. وإنّما يكونُ بمثلِها إذا كانَتْ بنفسِ رواتِهَا. وفيه نظرٌ. وقد بينتُ المثليةَ في " الشرحِ الكبيرِ ".

39.... وَعِنْدَهُ التَّصْحِيْحُ لَيْسَ يُمْكِنُ ... فِي عَصْرِنَا، وَقَالَ يَحْيَى: مُمْكِنُ

أي: وعندَ ابنِ الصلاحِ: أنَّهُ تَعَذَّرَ في هذهِ الأَعصارِ الاستقلالُ بإدراكِ الصحيح بِمجردِ اعتبارِ الأسانيدِ؛ لأنَّهُ ما مِنْ إسنادٍ إلا وفيهِ مَنْ اعتمدَ على ما في كتابِهِ عَرِيًّا عن الضَّبْطِ، والإتقانِ. قال: فإذا وَجَدنا فيما يُروى من أجزاءِ الحديثِ وغيرِها؛ حديثاً

(1/129)


صحيحَ الإسنادِ، ولم نجدْهُ في أحدِ الصحيحينِ، ولا منصوصاً على صحتهِ في شيءٍ من مصنّفاتِ أئمةِ الحديثِ المعتمَدةِ المشهورةِ، فإنَّا لا نتجاسرُ على جزمِ الحكمِ بصحتِهِ.
وقولُهُ: (وقال يحيى) : أي: النوويُّ: ((الأظهرُ عندِي جوازُهُ لِمَنْ تمكَّنَ، وقَوِيَتْ معرفَتُهُ)) . انتهى. وهذا هو الذي عليهِ عملُ أهلِ الحديثِ، فقد صَحَّحَ غيرُ واحدٍ من المعاصرينَ لابنِ الصلاحِ، وبعدَهُ أحاديثَ لم نجدْ لِمنْ تقدمَهُم فيها تصحيحاً، كأبي الحسنِ بنِ القطّانِ، والضِّياءِ المقدسيِّ، والزّكيِّ عبدِ العظيمِ، ومَنْ بَعْدَهُم.

(1/130)


حُكْمُ الصَّحِيْحَيْنِ، وَالتَّعْلِيْقِ

40.... وَاقْطَعْ بِصِحَّةٍ لِمَا قَدْ أَسْنَدَا ... كَذَا لَهُ، وَقِيْلَ ظَنّاً وَلَدَى
... مُحَقِّقِيْهِمْ قَدْ عَزَاهُ (النَّوَوِيْ) ... وَفي الصَّحِيْحِ بَعْضُ شَيءٍ قَدْ رُوِيْ
42.... مُضَعَّفاً وَلَهُمَا بِلا سَنَدْ ... أَشْيَا فَإنْ يَجْزِمْ فَصَحِّحْ، أو وَرَدْ
... مُمَرَّضاً فَلا، وَلكِنْ يُشْعِرُ ... بِصِحَّةِ الأصْلِ لَهُ كَـ (يُذْكَرُ)

أَي: ما أَسندَهُ البخاريُّ ومسلمٌ، يريدُ رَوَيَاهُ بإسنادِهِمَا المتّصلِ، فهو مقطوعٌ بصحتِهِ، كذا قالَ ابنُ الصلاحِ، قال: ((والعلمُ اليقينيُّ النظريُّ واقعٌ به، خلافاً لقولِ مَنْ نَفَى ذلكَ مُحتَجَّاً بأنَّهُ لا يفيدُ في أصْلِهِ إلا الظنَّ وإنَّما تلقَتْهُ الأمةُ بالقبولِ؛ لأنَّهُ يجبُ عليهم العملُ بالظنِّ، والظنُّ قد يُخطِئُ قال: وقد كنتُ أمِيْلُ إلى هذا، وأحسَبُهُ

(1/134)


قويّاً، ثم بانَ لي أنَّ المذهبَ الذي اخترناهُ أوّلاً هو الصحيحُ؛ لأنَّ ظَنَّ مَنْ هو معصومٌ من الخطأ لا يُخْطِئُ، والأمةُ بإجماعها معصومةٌ مِنَ الخطأ)) ... إلى آخرِ كلامِهِ. وقد سبقَهُ إلى نحوِ ذلك محمدُ بنُ طاهرٍ المقدسيُّ، وأبو نصرٍ عبدُ الرحيمِ بنُ عبدِ الخالقِ بنِ يوسفَ. قال النوويُّ: ((وخالفَ ابنَ الصلاحِ المحقّقونَ والأكثرون، فقالوا: يفيدُ الظنَّ ما لم يتواترْ)) .
وقولُهُ: (ظناً) منصوبٌ بفعلٍ محذوف، أي: يفيدُ ظناً. وقولُهُ: (بعضُ شيءٍ) ، إشارةٌ إلى تقليلِ ما ضُعِّفَ من أحاديثِ الصحيحينِ.
ولمّا ذكرَ ابنُ الصلاحِ: أنَّ ما أسنداهُ مقطوعٌ بصحتِهِ. قال: سوى أحرُفٍ يسيرةٍ، تكلّمَ عليها بعضُ أهلِ النقدِ، كالدارقطنيِّ وغيرِهِ، وهي معروفةٌ عندَ أهلِ الشأنِ. انتهى. وروينا عن محمدِ بنِ طاهرٍ المقدسيِّ، ومن خَطِّهِ نَقلْتُ قال: سمعتُ أبا عبدِ اللهِ محمدَ بنَ أبي نصرٍ الحميديَّ ببغدادَ يقول: قال لنا أبو محمدٍ بنُ حزمٍ: وما وجدنا للبخاريِّ ومسلمٍ في كتابيهما شيئاً لا يحتمل مخرجاً إلا حديثين. لكلِّ واحدٍ منهُما حديثٌ، تَمَّ عليهِ في تخريجِهِ الوَهْمُ معَ إتقانِهِمَا وحفظِهِمَا وصحةِ معرفتِهِما.

(1/135)


فذكر من عند البخاريِّ حديثَ شَرِيكٍ، عن أنسٍ في الإسراءِ، أنَّهُ قبلَ أنْ يُوحَى إليهِ، وفيهِ شَقُّ صَدْرِهِ. قال ابنُ حزمٍ: والآفةُ من شريكٍ. والحديثُ الثاني عندَ مسلمٍ، حديثُ عِكْرمةَ بنِ عمّارٍ، عن أبي زُمَيْلٍ، عن ابنِ عبّاسٍ، قال: كانَ المسلمون لا ينظرونَ إلى أبي سُفيانَ، ولا يقاعِدُوْنَهُ، فقال للنبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ثلاثٌ أعْطِينِهنَّ. قال: نعم. قال: عندي أحسنُ العربِ وأجملُهُ أمُّ حبيبةَ بنتُ أبي سفيانَ، أُزوِّجُكَهَا. قال: نعم ... الحديث. قالَ ابنُ حزمٍ: هذا حديثٌ موضوعٌ لاشكَّ في وضْعِهِ، والآفةُ فيهِ منْ عِكْرمةَ بنِ عمّارٍ. وقد ذكرتُ في "الشرحِ الكبيرِ" أحاديثَ غيرَ هذينِ.

(1/136)


وقد أفردتُ كتاباً لما ضُعِّفَ من أحاديثِ الصحيحينِ مع الجواب عنها. فمَنْ أرادَ الزيادةَ في ذلك فليقِفْ عليه، ففيه فوائدُ مهمّاتٌ.
وقولُهُ: (ولَهُما بلا سَنَدْ أشيا) . أي: وللبخاريِّ ومسلمٍ في الصحيحِ مواضعُ لم يَصِلاها بإسنادِهِما، بل قطعا أوَّلَ أسانيدِهما مما يليهِما. وذكرَ ابنُ الصلاحِ أنَّ ذلك وقعَ في الصحيحينِ. قالَ: ((وأغلبُ ما وقع ذلك في كتاب البخاريِّ، وهو في كتابِ مسلمٍ قليلٌ جداً)) . قلتُ: في كتابِ مسلمٍ من ذلك موضعٌ واحدٌ في التيمُّمِ. وهو حديثُ أبي الْجُهَيم بنِ الحارثِ بنِ الصِّمَّةِ. أقبلَ رسولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ نحوِ بئرِ جمل، ... الحديث. قال فيه مسلم: وروى الليثُ بنُ سعدٍ. ولم يوصلْ مسلمٌ إسنادَهُ إلى الليثِ. وقد أسندَهُ البخاريُّ عن يحيى بنِ بكيرٍ عن الليثِ. ولا أعلمُ في كتاب مسلمٍ بعد مقدمةِ الكتابِ حديثاً لم يذكرْهُ إلا تعليقاً غيرَ هذا الحديثِ. وفيه مواضعُ أخرُ يسيرةٌ رواها بإسنادِهِ المتصلِ، ثم قال: ورواهُ فلانٌ، وهذا ليس من باب التعليقِ، إنّما أرادَ ذِكْرَ مَنْ تابعَ رواية الذي أسندَهُ من طريقِهِ عليه، أو أرادَ بيانَ اختلافٍ في السندِ، كما يَفْعَلُ أهلُ الحديثِ. ويدلُّ على أنَّهُ ليسَ مقصودُهُ بهذا ادخالَهُ في كتابِهِ؛ أنَّهُ يقعُ في بعضِ

(1/137)


أسانيدِ ذلك مَنْ ليس هو من شرْطِ مسلم، كعبدِ الرحمنِ بنِ خالدِ بنِ مُسافرٍ. وقد بَيَّنتُ بقيةَ المواضعِ في " الشرحِ الكبيرِ ".
وقولُهُ: (فإنْ يجزم فصحِّحْ) ، أي: إنْ أتى به بصيغةِ الجزمِ، كقولِهِ: قال فلانٌ، أو رَوَى فلانٌ أو نحوَ ذلكَ؛ فاحكمْ بصحتِهِ عمَّنْ عَلَّقَهُ عنه، لأنَّهُ لا يستجيزُ أنْ يجزمَ بذلكَ عنه إلا وقد صحَّ عندَهُ عنه. ثمَّ الحكمُ بصحةِ الحديثِ مطلقاً يتوقفُ على ثقةِ رجالِهِ، واتصالِهِ من مَوْضِعِ التعليقِ. فإنْ كان فيمَنْ أبرزَهُ مَنْ لا يحتجُّ به، فليسَ فيهِ إلا الحكمُ بصحتهِ عمَّن أسندَ إليه كقولِ البخاريِّ: وقال بَهْزٌ، عن أبيهِ، عن جَدِّهِ، عن النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((اللهُ أحقُّ أنْ يُسْتَحيَى منه)) . قالَ ابنُ الصلاحِ: ((فهذا ليس من شرطِهِ قطعاً. ولذلكَ لم يوردْهُ الحميديُّ في جَمْعِهِ بين الصحيحينِ)) .
(وإنْ وردَ مُمَرَّضاً) ، أي: أُتِي به بصيغةِ التمريضِ، كقولِهِ: ويُذْكَرُ، ويُرْوَى، ويُقَاْلُ، ونُقِلَ، ورُوِيَ، ونحوِها. فلا تحكمنَّ بصحتِهِ. كقولِهِ: ويُرْوَى عن ابنِ عباسٍ

(1/138)


وجَرْهَدٍ ومحمّدِ بنِ جَحْشٍ، عن النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((الفَخِذُ عورةٌ)) ؛ لأنَّ هذهِ الألفاظَ استعمالُها في الضعيف أكثرُ، وإن استعملتْ في الصحيحِ. وكذا قولُهُ: وفي البابِ تستعملُ في الأمرينِ معاً. قالَ ابنُ الصلاحِ: ومَعَ ذلك فإيرادُهُ له في أثناءِ الصحيحِ مُشعرٌ بصحةِ أصْلِهِ إشعاراً يؤنسُ به ويركنُ إليه. وحملَ ابنُ الصلاحِ قولَ البخاريِّ: ما أدخلتُ في كتابي " الجامع "، إلا ما صحَّ. وقول الأئمة في الحكم بصحتِهِ على أنَّ المرادَ مقاصدُ الكتابِ وموضوعُهُ ومتون الأبوابِ دون التراجمِ ونحوها.

(1/139)


44.... وَإنْ يَكُنْ أوَّلُ الاسْنَادِ حُذِفْ ... مَعْ صِيغَةِ الجَزْم فَتَعليْقَاً عُرِفْ
... وَلَوْ إلى آخِرِهِ، أمَّا الَّذِي ... لِشَيْخِهِ عَزَا بـ (قالَ) فَكَذِي
46.... عَنْعَنَةٍ كخَبَرِ المْعَازِفِ ... لا تُصْغِ لاِبْنِ حَزْمٍ المُخَالِفِ
هذا بيانٌ لحقيقةِ التعليقِ، والتعبيرُ به موجودٌ في كلامِ الدارقطنيِّ والحميديِّ في
الجمعِ بين الصحيحينِ وهو أنْ يُسْقِطَ مِنْ أوَّلِ إسنادِ البخاريِّ أو مسلمٍ من جهتِهِ راوٍ فأكثرَ، ويعزِيَ الحديثَ إلى مَنْ فوقَ المحذوفِ من رواتِهِ بصيغةِ الجزمِ، كقولِ البخاريِّ في الصومِ وقالَ يحيى بنُ كثيرٍ، عن عمرِ بنِ الحكم بنِ ثوبانَ، عن أبي هريرةَ

(1/141)


قال إذا قاءَ فلا يفطرُ وكقولِ مسلمٍ في التيمُّمِ ورَوَى الليثُ بنُ سعدٍ، فذكرَ حديثَ أقبلَ من نحوِ بئرِ جملٍ ... الحديث، وقد تقدم
قالَ ابنُ الصلاحِ وكأنَّ التعليقَ مأخوذٌ من تعليقِ الجدارِ، وتعليقِ الطلاقِ ونحوه، لما يشتركُ الجميعُ فيه من قَطْعِ الاتصالِ قال ولم أجدْ لفظَ التعليقِ مستعمَلاً فيما سقطَ منه بعضُ رجالِ الإسنادِ مِنْ وَسَطِه أوْ من آخرِهِ، ولا فيما ليسَ فيه جزْمٌ، كيُرْوَى ويُذْكَرُ قلت استعملَ غيرُ واحدٍ من المتأخّرينَ التعليقَ في غيرِ المجزومِ به، منهم الحافظُ أبو الحجاجِ المزيُّ كقولِ البخاريِّ في بابِ مَسِّ الحريرِ من غيرِ لُبْسٍ ويُروَى فيهِ عن الزُّبيديِّ، عن الزهريِّ، عن أنسٍ، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكره في الأطرافِ، وعَلَّمَ عليهِ علامةَ التعليقِ للبخاريِّ

(1/142)


وقوله ولو إلى آخِرِهِ، أي ولو حذفَ الإسنادَ إلى آخرِهِ واقتصرَ على ذِكْرِ النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديثِ المرفوعِ، أو على الصحابيِّ في الموقوفِ، كقولِهِ في العِلْمِ وقالَ عمرُ تفقهُوا قبل أنْ تسودوا أي فإنّهُ يُسمَّى تعليقاً هكذا حكاهُ ابنُ الصلاحِ عن بعضِهم، ولم يحكِ غَيْرَهُ فقالَ إنَّ لفظَ التعليقِ وجدتُهُ مستعملاً فيما حُذِفَ من مبتدأ إسنادِهِ واحدٌ فأكثرُ حتى إنَّ بعضَهم استعملَهُ في حذفِ كُلِّ الإسنادِ انتهى ولم يذكر المزيُّ هذا في الاطرافِ في التعليقِ، بلْ ولا ما اقتصرَ فيهِ على ذِكْرِ الصَّحابيِّ غالباً، وإنْ كان مرفوعاً
وقولُهُ أمَّا الذي لشيخِهِ عزا بقالَ فكذي عنعنة، أي أمَّا ما عزاهُ البخاريُّ إلى بعضِ شيوخِهِ بصيغةِ الجزمِ، كقولِهِ قالَ فلانٌ، وزادَ فلانٌ، ونحوَ ذلكَ فليسَ حكمُهُ حكمَ التعليقِ عن شيوخِ شيوخِهِ، ومَنْ فوقَهُم، بل حكمُهُ حكمُ الإسنادِ المعَنْعَن، وحكمُهُ كما سيأتي في موضعِهِ الاتصالُ بشرطِ ثبوتِ اللقاءِ، والسلامةِ من التدليسِ واللقاءُ في شيوخِهِ معروفٌ، والبخاريُّ سالمٌ من التدليسِ، فَلَهُ حكمُ الاتصالِ هكذا جزمَ بهِ ابنُ الصلاحِ في الرابعِ من التفريعاتِ التي تلي النوعَ الحادي عشرَ ثم قال وبلغني عَن بعض المتأخّرينَ منْ أهلِ المغربِ أنَّهُ جعلَهُ قسماً من التعليقِ ثانياً،

(1/143)


وأضافَ إليه قولَ البخاريِّ في غيرِ موضعٍ من كتابِهِ وقالَ لي فلانٌ، وزادنا فلانٌ فَوَسَمَ كُلَّ ذلك بالتعليقِ المتّصلِ مِن حيثُ الظاهرُ، المنفصلِ من حيثُ المعنى، ... ، وسيأتي حكمُ قولِهِ قال لنا فلان، عند ذكرِ أقسامِ التحمُّلِ وما ذكرَهُ ابنُ الصلاحِ هنا هو الصوابُ وقد خالَفَ ذلك في مثالٍ مَثَّلَ به في السادسةِ من الفوائدِ في النوعِ الأولِ، فقالَ وأمَّا الذي حُذِفَ من مبتدأ إسنادِهِ واحدٌ أو أكثرُ ثمَّ قالَ مِثالُهُ قالَ رسولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كذا، قال ابن عبّاس كذا، قال مجاهدٌ كذا، قال عفّانُ كذا، قال القَعْنَبيُّ كذا إلى آخركلامه
فقولُهُ قالَ عفانُ كذا قال القعنبيُّ كذا في أمثلةِ ما سقطَ من أولِ إسنادِهِ واحدٌ مخالفٌ لكلامِهِ الذي قدّمْنَاهُ عنه؛ لأنَّ عفانَ والقعنبيَّ كلاهما شيخُ البخاريِّ حَدَّثَ عنه في مواضعَ من صحيحِهِ متصلاً بالتصريحِ فيكونُ قولُهُ قال عفانُ، قال القعنبيُّ، محمولاً على الاتّصال، كالحديث المعنعنِ وعلى هذا عملُ غيرِ واحدٍ من

(1/144)


المتأخّرينَ، كابنِ دقيقِ العيدِ، والمزّيِّ فجعلا حديثَ أبي مالكٍ الأشعَرِيِّ - الآتي ذِكْرُهُ - مثالاً لهذهِ المسألةِ تعليقاً وفي كلامِ أبي عبدِ الله بنِ منده أيضاً ما يقتضي ذلكَ، فقالَ في جزءٍ له في اختلافِ الأئمةِ في القراءة، والسماعِ، والمناولةِ، والإجازةِ أخرجَ البخاريُّ في كتبهِ الصحيحةِ وغيرِها، قال لنا فلانٌ، وهي إجازةٌ وقال فلانٌ، وهو تدليسٌ قال وكذلك مسلمٌ أخرجَهُ على هذا انتهى كلام ابنِ منده ولم يوافق عليهِ
وقولُهُ كخبرِ المعازِفِ، هو مثالٌ لما ذَكَرَهُ البخاريُّ عن بعضِ شيوخِهِ من غيرِ تصريحٍ بالتحديثِ، أو الإخبارِ، أو ما يقومُ مقامَهُ كقولهِ قال هشامُ بنُ عمّار حدّثنا صَدَقةُ بنُ خالدٍ، حدثنا عبدُ الرحمنِ بنُ يزيدَ بنِ جابرٍ، حدثنا عطيّةُ بنُ قيسٍ، قال حدّثني عبدُ الرحمنِ بنُ غَنْمٍ، قال حدثني أبو عامرٍ، أو أبو مالكٍ الأشعريُّ، أنَّهُ سمعَ رسولَ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يقول ليكونَنَّ في أمتي أقوامٌ يستحلونَ الحِرَّ والحريرَ والمعازفَ، الحديث فإنَّ هذا الحديثَ حكمُهُ الاتصالُ؛ لأنَّ هشامَ بنَ عَمّارٍ من شيوخِ البخاريِّ حدَّثَ عنه بأحاديثَ، وخالفَ ابنُ حزمٍ في ذلك، فقال في المحلى هذا حديثٌ منقطعٌ لم يتصل ما بين البخاريِّ، وصدقةَ بنِ خالدٍ

(1/145)


قال ولا يصحُّ في هذا البابِ شيءٌ أبداً - قال - وكلُّ ما فيه فموضوعٌ قال ابن الصلاحِ ولا التفاتَ إليهِ في رَدِّهِ ذلك - قال - وأخطأَ في ذلك من وُجوهٍ - قال - والحديثُ صحيحٌ معروفُ الاتصالِ بشرطِ الصحيحِ قالَ والبخاريُّ قد يفعلُ ذلك لكونِ الحديثِ معروفاً من جهةِ الثقاتِ عن الشخصِ الذي عَلَّقَهُ عنه، أو لكونِهِ ذكرَهُ في موضعٍ آخرَ من كتابهِ متصلاً، أو لغيرِ ذلكَ من الأسبابِ التي لا يصحبُها خللُ الانقطاعِ انتهى والحديثُ مُتَّصِلٌ مِن طُرُقٍ من طريقِ هشامٍ وغيرهِ قالَ الإسماعيليُّ في المستخرَج حدّثنا الحسنُ، وهو ابنُ سفيان النّسوَيُّ الإمامُ قال حدّثنا هشامُ بنُ عمّارٍ فذكرَهُ وقال الطبرانيُّ في مسندِ الشاميِّينَ حدّثنا محمدُ بنُ يزيدَ بنِ عبدِ الصمدِ، قال حدّثنا هشامُ بنُ عمّارٍ

نَقْلُ الحَديثِ مِنَ الكُتبِ المُعتَمَدةِ
... وَأخْذُ مَتْنٍ مِنْ كِتَابٍ لِعَمَلْ ... أوِ احْتِجَاجٍ حَيْثُ سَاغَ قَدْ جَعَلْ
... عَرْضاً لَهُ عَلى أُصُوْلٍ يُشْتَرَطْ ... وَقَالَ يَحْيَى النَّوَوِيْ أصْلٍ فَقَطْ

أي وأخذُ الحديثِ من كتابٍ من الكتبِ المعتمدةِ، لعملٍ به، أوِ احتجاجٍ
به، إنْ كانَ ممَّنْ يسوغُ له العملُ بالحديثِ، أو الاحتجاج بهِ، جعلَ ابنُ الصلاحِ

(1/146)


شرطَهُ أنْ يكون ذلك الكتابُ مقابلاً بمقابلةِ ثقةٍ على أصولٍ صحيحةٍ متعددةٍ مرويةٍ برواياتٍ متنوعةٍ قال النوويُّ فإن قابلَهَا بأصلٍ معتمدٍ محققٍ أجزأَهُ وقال ابنُ الصلاحِ في قسمِ الحَسَنِ حين ذَكَرَ أنَّ نسخَ الترمذيِّ تختلفُ في قولهِ حسنٌ، أو حسنٌ صحيحٌ، ونحو ذلك فينبغي أن تصحِّحَ أصلَكَ بجماعةِ أصولٍ، وتعتمدَ على ما اتفقتْ عليه فَقَوْلُهُ هُنَا يَنْبَغِي، قَدْ يُشيرُ إلى عدمِ اشتراطِ ذلكَ، وإنَّما هوَ مستحبٌّ، وهوَ كذلكَ
... قُلْتُ: (وَلابْنِ خَيْرٍ) امْتِنَاعُ ... جَزْمٍ سِوَى مَرْوِيِّهِ إجْمَاعُ

لما ذكرَ ابنُ الصلاحِ أنَّ من أرادَ أخذَ حديثٍ من كتابٍ من الكتبِ المعتمدةِ، أخذَهُ من كتابٍ مقابَلٍ. أحببتُ أنْ أذكرَ أنَّ بعضَ الأئمةِ حكى الإجماعَ على أنَّهُ لا يحلُّ الجزمُ بنقلِ الحديثِ، إلا لِمَنْ له به روايةٌ، وهو الحافظُ أبو بكرٍ محمدُ بنُ خيرِ بنِ عمرَ الأمويُّ - بفتحِ الهمزةِ - الإشبيليُّ وهو خالُ أبي القاسمِ السُّهيليِّ. فقال

(1/147)


في بَرْنامَجِهِ المشهورِ: وقد اتفقَ العلماءُ رحمهمُ اللهُ على أنّه لا يصحُّ لمسلمٍ أنْ يقولَ: قالَ رسولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كذا حتَّى يكونَ عندَهُ ذلك القولُ مروياً، ولو على أقلِّ وجوهِ الرواياتِ لقول رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((مَنْ كَذَبَ عليَّ متعمِّداً فليتبوأ مَقْعَدَهُ من النَّارِ))

(1/148)


وفي بعضِ الرواياتِ: ((مَنْ كَذَبَ عَليَّ)) مطلقاً دونَ تقييدٍ.
فقولي: (امتناعُ جزمٍ) ، مبتدأٌ ومضافٌ إليه، وإجماعُ: خَبَرُهُ.