شرح (التبصرة والتذكرة = ألفية العراقي)

المَوْقُوْفُ
101.... وَسَمّ بالمَوْقُوْفِ مَا قَصَرْتَهُ ... بِصَاحِبٍ وَصَلْتَ أوْ قَطَعْتَهُ
... وَبَعضُ أهْلِ الفِقْهِ سَمَّاهُ الأثَرْ ... وَإنْ تَقِفْ بِغَيرِهِ قَيِّدْ تَبَرّْ

أي: والموقوفُ ما قصرْتَهُ بواحدٍ من الصحابةِ قولاً له، أو فعلاً، أو نحوَهُما. ولم تتجاوز به إلى النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سواءٌ اتصلَ إسنادهُ إليه، أولم يتصلْ. وقال أبو القاسمِ الفُوْرانيُّ من الخُراسانيينَ: ((الفُقهاءُ يقولون: الأثرُ ما يُروى عن الصَّحابةِ)) .

(1/184)


وقولُهُ: (وإن تَقِفْ بغيره قيّدْ تبرِ) ، أي: وإنِ استعملتَ الموقوفَ فيما جاءَ عن التابعينَ فمَنْ بعدَهُم، فقيِّدْهُ بهم. فَقُلْ: موقوفٌ على عطاءٍ، أو على طاوُسٍ، أو وقفهُ فلانٌ على مجاهدٍ، ونحوَ ذلكَ. وفي كلامِ ابنِ الصلاحِ أنَّ التقييدَ لا يتقيدُ بالتابعيِّ، فإنَّهُ قال: وقد يستعملُ مقيّداً في غير الصحابيِّ. فعلى هذا يُقالُ موقوفٌ على مالكٍ، على الثوريِّ، على الأوزاعيِّ، على الشافعيِّ، ونحو ذلك.

المَقْطُوْعُ
103.... وَسَمِّ بِالمَقْطُوْعِ قَوْلَ التَّابِعي ... وَفِعْلَهُ، وَقَدْ رَأى للشَّافِعِي
... تَعْبِيرَهُ بِهِ عَنِ المُنقطِعِ ... قُلْتُ: وَعَكسُهُ اصطِلاحُ (البَردَعِي)

(1/185)


قَالَ الخَطيبُ في كتابِ " الجامعِ بين آدابِ الراوي والسامعِ ": من الحديثِ: المقطوعُ. - وقال أيضاً -: المقاطعُ، هي الموقوفاتُ على التابعينَ. قال ابنُ الصلاحِ: ويقالُ في جمعِهِ المقاطيعُ، والمقاطعُ. وقولُهُ: (وقد رَأى) أي: ابنُ الصلاحِ، فقالَ: وقد وجَدْتُ التعبيرَ بالمقطوعِ عن المنقطعِ في كلامِ الإمامِ الشافعيِّ، وأبي القاسمِ الطبرانيِّ، وغيرِهما. انتهى. ووجدْتُهُ أيضاً في كلامِ أبي بكرٍ الحميديِّ، وأبي الحَسَنِ الدارقطنيِّ. وقولُهُ: (وعكسُهُ اصطلاحُ البرذعي) ، وهو أنَّ الحافظَ أبا بكرٍ أحمدَ بنَ هارونَ البَرْدِيجيَّ البَرْذعيَّ، جعلَ المنقطعَ هو قولُ التابعيِّ. قال ذلك في جزءٍ له لطيفٍ. وقد ذكرَ ابنُ الصلاحِ هذا القولَ في آخرِ كلامهِ على المنقطعِ أنَّ الخطيبَ حكاهُ عن بعضِ أهلِ العلمِ، واستبعدَهُ ابنُ الصلاح. وأتيتُ هنا بـ (‍قلتُ) : لأنَّ تعيينَ

(1/186)


القائلِ لها من الزوائدِ على ابنِ الصلاحِ، وإن كانت المسألةُ في مَوضِعٍ آخرَ من كتابِهِ غيرَ معزوةٍ إلى قائِلِها.

فُرُوْعٌ
105.... قَوْلُ الصَّحَابيِّ (مِنَ السُّنَّةِ) أوْ ... نَحْوُ أُمِرْنَا حُكْمُهُ الرَّفْعُ، وَلَوْ
... بَعدَ النَّبِيِّ قالَهُ بِأَعْصُرِ ... عَلى الصَّحِيْحِ، وَهْوَ قَوْلُ الأكْثَرِ
قولُ الصحابيِّ: ((من السنةِ كذا)) ، كقولِ عليٍّ - رضي الله عنه -: ((من السُّنَّةِ وَضْعُ الكفِّ على الكفِّ في الصلاةِ، تحتَ السُّرَّةِ)) . رواهُ أبو داودَ في روايةِ ابنِ داسةَ، وابنِ الاعرابيِّ. قالَ ابنُ الصَلاحِ: فالأصحُّ أنَّهُ مسندٌ مرفوعٌ؛ لأنَّ الظاهرَ أنّهُ لا يريدُ بهِ

(1/187)


إلا سُنَّةَ رسولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وما يجبُ اتباعُهُ. قالَ ابنُ الصَّبَّاغ في " العُدَّة ": وحُكِيَ عن أبي بكرٍ الصَّيْرفيِّ، وأبي الحَسَنِ الكَرْخيِّ وغيرهِما أنّهم قالوا: يحتملُ أنْ يُريدَ به سنةَ غير النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلا يحملُ على سنتهِ. انتهى.
وقولُ الصحابيِّ: أُمِرْنا بكذا، أو نُهينا عن كذا، كقولِ أُمِّ عَطيّةَ: أمِرنا أن نُخِرجَ في العِيدَيْنِ العَوَاتِقَ، وذَوَاتِ الخُدُورِ، وأُمِرَ الحُيَّضُ أنْ يعتزِلْنَ مُصَلَّى المُسلِمِينَ.

(1/188)


وكقولها أيضاً: نُهِينا عن اتِّباعِ الجنائزِ، ولم يُعْزَمْ علينا وكلاهما في الصحيح، هو من نوعِ المرفوعِ والمسندِ عند أصحابِ الحديثِ، وهو الصحيحُ، وقولُ أكثرِ أهلِ العلمِ، قاله ابنُ الصلاح. قال: لأنَّ مطلقَ ذلك ينصرفُ بظاهرِهِ إلى من إليهِ الأمرُ والنهي وهو رسول اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. - قال -: وخالفَ في ذلك فريقٌ، منهم: أبو بكرٍ الإسماعيليُّ. قلتُ: وجزَم بهِ أبو بكرٍ الصَّيْرفيُّ في " الدلائل ". قال ابنُ الصلاحِ: وكذلك قولُ أنسٍ: أُمِرَ بلالٌ أنْ يَشْفعَ الأَذانَ ويُوترَ الإقامةَ. قال: ولا فَرْقَ بينَ أنْ يقولَ ذلك في زمنِ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو بعدَهُ. انتهى. أما إذا صَرَّحَ الصحابيُّ بالآمر، كقوله: أمَرَنا رسولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلا أعلمُ فيه خلافاً، إلا ما حكاهُ ابنُ الصَّبَّاغِ في " العُدَّة " عن داودَ وبعضِ المتكلّمينَ أنّهُ لا يكونُ ذلك حُجَّةً، حتى يُنقلَ لنا لفظُهُ. وهذا ضعيفٌ مردودٌ،

(1/189)


إلا أنْ يريدوا بكونِهِ لا يكونُ حجةً، أي في الوجوب. ويدلُّ على ذلك تعليلُهُ للقائلينَ بذلكَ، بأنَّ مِنَ الناسِ مَنْ يقولُ: المندوبُ مأمورٌ به. ومنهم مَنْ يقولُ: المباحُ مأمورٌ به أيضاً. وإذا كانَ ذلكَ مرادَهم، كان له وجهٌ، والله أعلم.

107.... وَقَوْلُهُ (كُنَّا نَرَى) إنْ كانَ مَعْ ... عَصْرِ النَّبِيِّ مِنْ قَبِيْلِ مَا رَفَعْ
... وَقِيْلَ: لا، أوْ لا فَلا، كَذاكَ لَه ... و (لِلخَطِيْبِ) قُلْتُ: لكِنْ جَعَلَهْ
109.... مَرفُوعاً الحَاكِمُ والرَّازِيُّ ... إبنُ الخَطِيْبِ، وَهُوَ القَوِيُّ

(1/190)


أي وقولُ الصحابيِّ كُنَّا نَرَى كذا، أو نفعلُ كذا، أو نقولُ كذا، ونحو ذلك إنْ كان مع تَقْييدِهِ بعصر النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كقولِ جابرٍ كُنَّا نعزِلُ على عَهدِ رسولِ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - متفقٌ عليه وكقولِهِ كُنَّا نأكلُ لحمَ الخيلِ على عهد النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رواهُ النسائيُّ، وابنُ ماجه فالذي قَطَعَ به الحاكمُ وغيرُهُ من أهلِ الحديثِ وغيرهم، أنَّ ذلك من قبيلِ المرفوعِ وصَحَّحَهُ الأصوليون الإمامُ فخرُ الدين، والسيفُ الآمديُّ وأتباعهما قالَ ابنُ الصلاحِ وهو الذي عليه الاعتمادُ؛ لأنَّ ظاهرَ ذَلِكَ مشعرٌ بأنَّ رَسُوْل اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اطّلعَ عَلَى ذلكَ وقرَّرَهُم عَلَيْهِ وتقريرُهُ أحدُ وُجوهِ السُّنن المرفوعةِ، فإنَّها أقوالُهُ، وأفعالُهُ، وتَقرِيرُهُ، وسكوتُهُ عن الإنكارِ بَعْدَ اطلاعِهِ - قَالَ وبلغني عن البَرْقانيِّ أنهُ سألَ الإسماعيليَّ عن ذلكَ فأنكَرَ كونَهُ من المرفوعِ قُلْتُ أمَّا إذا كانَ في القِصَّةِ اطلاعُهُ فحكمُهُ الرفعُ اجماعاً، كقولِ ابنِ عمرَ كُنَّا نقولُ ورسولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيٌّ

(1/191)


أفضلُ هَذِهِ الأمةِ بَعْدَ نَبيِّها، أبو بكرٍ، وعمرُ، وعثمانُ، ويسمَعُ ذَلِكَ رَسُوْل الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلاَ يُنكرُهُ رواهُ الطبرانيُّ في المعجمِ الكبيرِ والحديثُ في الصحيحِ لكنْ لَيْسَ فِيْهِ اطّلاعُ النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ذَلِكَ بالتصريح وقولُهُ أو لا فَلاَ أي وإنْ لَمْ يكنْ مقيّداً بعصرِ النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فليس مِنْ قَبِيْلِ المرفوعِ وقولُهُ كذاك لَهُ أي هذا لابنِ الصلاحِ تَبَعاً للخطيبِ فجزما بأنَّه من قبيلِ الموقوفِ
وقولُهُ قُلتُ إلى آخر البيتِ الثالثِ من هذهِ الأبياتِ، هو من الزوائدِ على ابنِ الصلاحِ، وهو أنَّ الحاكمَ، والإمامَ فخرَ الدين الرازيَّ جَعلاهُ من قبيلِ المرفوعِ، ولولم يقيِّدْهُ بعهدِ النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال ابنُ الصَّبَّاغِ في العُدَّةِ إنَّهُ الظاهرُ، ومَثَّلَهُ بقولِ عائشةَ رضيَ اللهُ عنها كانتِ اليدُ لا تُقْطعُ في الشيء التافِهِ ومقتضى كلامِ

(1/192)


البيضاويِّ موافقٌ لما قالَهُ ابنُ الصلاحِ، ولكنَّ الإمامَ، والسيفَ الآمديَّ لم يُقييدا ذلك بعهدِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال به أيضاً كثيرٌ من الفقهاءِ، كما قالَهُ النوويُّ في شرح المُهَذَّبِ، قال وهو قويٌّ من حيثُ المعنى

... لكنْ حَدِيْثُ (كانَ بَابُ المُصْطَفَى ... يُقْرَعُ بالأَظْفَارِ) مِمَّا وُقِفَا
111.... حُكْماً لَدَى الحَاكِمِ والخَطِيْبِ ... وَالرَّفْعُ عِنْدَ الشَّيخِ ذُوْ تَصْوِيْبِ

أي لكنَّ هذا الحديثَ حكمُهُ حكمُ الموقوفِ عندَ الحاكمِ والخطيبِ، وإنْ كان الحاكمُ قد تقدّمَ عنه ما يقتضي في نظيرِهِ أنَّهُ مرفوعٌ وهذا الحديثُ رواهُ المغيرةُ ابنُ شعبةَ، قال كان أصحابُ رسول اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرعونَ بابَهُ بالأظافيرِ قالَ الحاكمُ هذا يتوهمُهُ مَنْ ليس من أهلِ الصنعةِ مسنداً لذكرِ رسولِ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه، قال

(1/193)


وليس بمسنَدٍ بل هو موقوفٌ وذكرَ الخطيبُ في الجامع نحوَ ذلك أيضاً قال ابنُ الصلاحِ بل هو مرفوعٌ كما سبق ذِكْرُهُ، وهو بأنْ يكونَ مرفوعاً أحرى؛ لكونِهِ أحرَى باطلاعِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليه قالَ والحاكمُ معترفٌ بكونِ ذلك من قبيلِ المرفوعِ، وقد كُنَّا عددْنَا هذه فيما أخذناه عليهِ ثم تأولناهُ له على أنَّهُ أراد أنَّهُ ليس بمسنَدٍ لفظاً، وإنَّما جعلْنَاهُ مرفوعاً من حيثُ المعنى
... وَعَدُّ مَا فَسَّرَهُ الصَّحَابِيْ ... رَفْعاً فَمَحْمُوْلٌ عَلَى الأسْبَابِ

قولُهُ: (رفعاً) ، أي: مرفوعاً فأتى بالمصدرِ موضعَ المفعولِ، أي: وعَدُّ تفسيرِ الصحابةِ مرفوعاً محمولٌ على تفسيرٍ فيه أسبابُ النزولِ. ولم يعيّن ابنُ الصلاحِ القائلَ بأنَّ مطلقَ تفسيرِ الصحابيِّ مرفوعٌ، وهو الحاكمُ وعزاهُ للشيخينِ فقال في " المستدركِ ": ليعلمَ طالبُ العلمِ أنَّ تفسيرَ الصحابيِّ الذي شَهِدَ الوحيَ والتنزيلَ عندَ الشيخينِ حديثٌ مسندٌ. قال ابنُ الصلاحِ إنَّما ذلك في تفسيرٍ يتعلقُ بسببِ نزولِ آيةٍ يخبرُ بها الصحابيُّ أو نحوِ ذلك، كقولِ جابرٍ: ((كانتِ اليهودُ تقولُ: مَنْ أتَى امرأتَهُ مِن دُبرِها في قُبُلِها جاءَ الولدُ أحولَ، فأنزلَ اللهُ تعالى: {نِسَاْؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} الآية)) . قال:

(1/194)


فأمّا سائرُ تفاسيرِ الصحابةِ التي لا تشتمِلُ على إضافةِ شيءٍ إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمعدودةٌ في الموقوفاتِ.

113.... وَقَوْلُهُمْ يَرْفَعُهُ يَبْلُغُ بِهْ ... رِوَايَةً يَنْمِيْهِ رَفْعٌ فَانْتِبَهْ
114.... وَإنْ يَقُلْ (عَنْ تَابعٍ) فَمُرْسَلُ ... قُلْتُ: (مِنَ السُّنَّةِ) عَنْهُ نَقَلُوْا
115.... تَصْحِيْحَ وَقْفِهِ وَذُو احْتِمَالِ ... نَحْوُ أُمِرْنَا مِنْهُ للغَزَالِيْ
أي وقولُهم عن الصحابيِّ يرفعُ الحديثَ، أو يَبْلُغُ بِهِ، أو يَنْمِيهِ، أو رِوايةُ رفعٍ، أي مرفوعٍ قال ابنُ الصلاحِ وحكمُ ذلك عند أهلِ العلمِ حكمُ المرفوعِ صريحاً وذلك كقولِ ابنِ عبّاسٍ - رضي الله عنه - الشفاءُ في ثلاثٍ شَرْبةِ عَسَلٍ، وشَرْطةِ مِحْجمٍ، وكَيَّةِ نارٍ وأَنْهَى أُمتي عن الكيِّ رَفَعَ الحديثَ رواهُ البخاريُّ من روايةِ سعيدِ بنِ جُبيرٍ عنه ورواهُ مسلمٌ من روايةِ أبي الزِّنَادِ، عن الأعْرَجِ، عن أبي هريرةَ

(1/195)


يَبْلُغُ به قال الناسُ تَبَعٌ لقريشٍ وفي الصحيحينِ بهذا السندِ عن أبي هريرةَ روايةً تقاتِلُون قوماً صِغارَ الأعيُنِ ... الحديثَ وروى مالكٌ في الموطأ عن أبي حازمٍ، عن سَهْلِ بنِ سَعْدٍ، قال كانَ الناسُ يُؤمرونَ أنْ يضعَ الرجلُ يدَهُ اليُمنى على ذِراعِهِ اليُسْرى في الصلاة، قال أبو حازمٍ لا أعلمُ إلاَّ أنَّهُ يَنْمِى ذلكَ قال مالكٌ يرفعُ ذلك هذا لفظُ روايةِ عبدِ اللهِ بنِ يوسفَ، وقد رواهُ البخاريُّ من طريقِ القعنبيِّ عن مالكٍ، فقال يَنْمِي ذلك إلى النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَصَرَّحَ برفْعِهِ

(1/196)


وقولُهُ وإنْ يَقُلْ، أي وإن يقل ذلك، أي هذه الألفاظَ عن تابعيٍّ فهو مرسلٌ، وقولُهُ قلتُ من السُنَّةِ إلى آخر الباب هو من الزوائدِ على ابنِ الصلاحِ وقولُهُ عنه، أي عن التابعيِّ وكذا قولُهُ - بعدَهُ منه فإذا قالَ التابعيُّ من السنةِ كذا فهل هو موقوفٌ متصلٌ، أو مرفوعٌ مرسلٌ كالذي قبلَهُ؟ فِيْهِ وجهانِ لأصحابِ الشافعيِّ مثالُهُ ما رَوَاهُ البيهقيُّ من قولِ عُبيدِ الله بن عبدِ اللهِ بنِ عُتبةَ السنَّةُ تكبيرُ الإمامِ يومَ الفطرِ ويومَ الأضحى حِيْنَ يجلسُ عَلَى المنبرِ قَبْلَ الخطبةِ؛ تسعَ تكبيراتٍ
وحكى الداوديُّ في شرحِ مختصر المُزَني أنَّ الشافعيَّ كان يَرَى في القديمِ أنَّ ذلك مرفوعٌ إذا صَدَرَ من الصحابيِّ، أو التابعيِّ ثم رَجَعَ عنه لأنَّهُم قد يُطلِقونَه ويُريدونَ سُنَّةَ البلدِ انتهى والأصحُ في مسألة التابعيِّ كما قالَ النوويُّ في شرح المهذبِ أنَّهُ موقوفٌ
وعلى هذا فما الفرقُ بينَهُ وبينَ المسألةِ التي قبلَهُ؟ يمكنُ أنْ يُجابَ عَنْهُ بأنَّ قولَهُ يرفعُ الْحَدِيْث تصريحٌ بالرفعِ، وقريبٌ مِنْهُ الألفاظُ المذكورةُ مَعَهُ وأما قولُهُ من السُّنَّةِ، فكثيراً ما يعبَّرُ بِهِ عَنْ سُنَّةِ الخلفاءِ الراشدينَ ويترجحُ ذَلِكَ إذا قالَهُ التابعيُّ بخلافِ

(1/197)


ما إذا قالَهُ الصحابيُّ، فإنَّ الظاهرَ أنَّ مرادَهُ سنةُ النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإذا قالَ التابعيُّ أُمِرْنا بكذا، ونحوه، فهل يكونُ موقوفاً، أو مرفوعاً مرسلاً؟ فيه احتمالان لأبي حامدٍ الغزاليِّ في المستصفى ولم يُرَجِّح واحداً مِنَ الاحتمالينِ وجَزَمَ ابنُ الصَّبَّاغِ في العُدَّة بأنَّهُ مرسلٌ وحكى فيما إذا قالَ ذلك سعيدُ بنُ المسيِّبُ، هل يكونُ حجةً؟ وجهين، والله أعلم

116.... وَمَا أَتَى عَنْ صَاحِبٍ بحَيْثُ لا ... يُقَالُ رَأيَاً حُكْمُهُ الرَّفْعُ عَلَى
117.... مَا قَالَ في المَحْصُوْلِ نَحْوُ مَنْ أتَى ... فَالحَاكِمُ الرَّفْعَ لِهَذَا أثْبَتَا

أي وما جاءَ عن صحابيٍّ موقوفاً عليهِ، ومثلُه لا يُقالُ مِنْ قبلِ الرأي حكْمُهُ حكمُ المرفوعِ كما قالَ الإمامُ فخرُ الدينِ في المحصولِ فقال إذا قالَ الصحابيُّ قولاً، ليس للاجتهادِ فيه مجالٌ فهو محمولٌ على السماعِ تحسيناً للظنِّ به

(1/198)


وقولُهُ نحو مَنْ أتى، أي كقولِ ابن مسعودٍ مَنْ أتى ساحراً، أو عرّافاً، فقد كفرَ بما أُنزلَ على محمّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ترجمَ عليه الحاكمُ في علومِ الحديثِ معرفةُ المسانيدِ التي لا يذكرُ سندُها عن رسولِ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ومثالُ ذلك، فذكرَ ثلاثةَ أحاديثَ، هذا أحدُها وما قالَهُ في المحصولِ موجودٌ في كلامِ غيرِ واحدٍ من الأئمةِ، كأبي عمرَ بنِ عبدِ البرِّ، وغيرِهِ وقد أدخلَ ابنُ عبدِ البرِّ في كتابِهِ التقصي عِدَّةَ أحاديثَ، ذكرَها مالكٌ في الموطّأ موقوفةً مع أنَّ موضوع الكتابِ لما في الموطّأ من الأحاديثِ المرفوعةِ، منها حديثُ سهلِ بنِ أبي حَثَمةَ في صلاةِ الخوفِ وقالَ في التمهيد هذا الحديثُ موقوفٌ على سَهْلٍ في الموطّأ عند جماعةِ الرواةِ عن

(1/199)


مالكٍ - قال - ومثلُه لا يقالُ من جهةِ الرأي، وكثيراً ما شنّع ابنُ حزم في المحلى على القائلين بهذا، فيقولُ عهدناهم يقولون لا يُقالُ مثلُ هذا من قبل الرأي ولإنكارِهِ وجهٌ؛ فإنَّهُ وإنْ كان لا يقالُ مثلُهُ من جهةِ الرأي، فلعلَّ بعضَ ذلك سمعَهُ ذلك الصحابيُّ من أهل الكتابِ وقد سمعَ جماعةٌ من الصحابةِ من كعب الأحبارِ، ورَوَوا عنه كما سيأتي، منهم العبادلةُ، وقد قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حدّثوا عن بني إسرائيلَ، ولا حرجَ

118.... وَمَا رَوَاهُ عَنْ (أبِي هُرَيْرَةِ) ... (مُحَمَّدٌ) وَعَنْهُ أهْلُ البَصْرَةِ
119.... كَرَّرَ قَالَ بَعْدُ، فَالخَطِيْبُ ... رَوَى بِهِ الرَّفْعَ وَذَا عَجِيْبُ
أي وما رواهُ أهلُ البصرةِ عن محمّدِ بنِ سيرينَ، عن أبي هريرةَ قَالَ قَالَ، فذكرَ حديثاً، وَلَمْ يذكرْ فِيْهِ النبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإنّما كرّرَ لفظَ قَالَ بعدَ ذكرِ أبي هريرةَ فإنَّ

(1/200)


الخطيبَ رَوَى في الكفاية من طريقِ موسى بنِ هارونَ الحمّالِ بسندِهِ، إِلَى حمّادِ بنِ زيدٍ، عن أيوبَ، عن محمدٍ، عن أبي هريرةَ، قَالَ قَالَ الملائكةُ تصلّي عَلَى أحدِكم ما دامَ في مُصَلاَّهُ قَالَ موسى بنُ هارونَ إذا قَالَ حمّادُ بنُ زيدٍ والبصريون قالَ قالَ، فَهُوَ مرفوعٌ قَالَ الخطيبُ قلتُ للبَرْقانيِّ أحسبُ أنَّ موسى عَنيَ بهذا القولِ أحاديثَ ابنِ سيرينَ خاصّةً، فَقَالَ كَذَا يجبُ قال الخطيبُ ويحقّقُ قولَ موسى ما قال محمدُ بنُ سيرين كلَّ شيءٍ حدَّثتُ عن أبي هريرةَ، فهو مرفوعٌ قلتُ ووقعَ في الصحيحِ من ذلكَ ما رواهُ البخاريُّ في المناقبِ، حدّثنا سليمانُ بنُ حربٍ، حدَّثنا حمّادٌ، عن أيوبَ، عن محمدٍ، عن أبي هريرةَ، قال قال أسلمُ وغِفَارُ وشَيءٌ مِنْ مُزَيْنةَ، ... الحديث والحديثُ عند مسلمٍ من

(1/201)


روايةِ ابنِ عُلَيَّةَ، عن أيوبَ مصرحٌ فيه بالرفعِ وأما الحديثُ الذي رواهُ الخطيبُ فهو عند النسائيِّ في سننِه الكبرى من روايةِ ابن عُلَيَّةَ، عن أيوبَ، عن ابنِ سيرينَ ومن روايةِ ابنِ عونٍ، عن ابنِ سيرينَ أيضاً كذلك

المُرْسَلُ
... مَرْفُوعُ تَابعٍ عَلى المَشهُوْرِ ... مُرْسَلٌ اوْ قَيّدْهُ بِالكَبِيْرِ
... أوْ سَقْطُ رَاوٍ مِنْهُ ذُوْ أقْوَالِ ... وَالأوَّلُ الأكْثَرُ في استِعْمَالِ

(1/202)


اختلفَ في حدِّ الحديثِ المرسلِ فالمشهورُ أنَّهُ مَا رَفَعهُ التابعيُّ إلى النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، سواءٌ كانَ مِنْ كبارِ التابعينَ، كعُبيدِ اللهِ بنِ عَدِيِّ بنِ الخِيَارِ وقيسِ بن أبي حازمٍ، وسعيدِ بنِ المسِّيبِ، وأمثالِهم أو من صغارِ التابعينَ، كالزهريِّ وأبي حازمٍ، ويحيى ابنِ سعيدٍ الأنصاريِّ، وأشباهِهِم
والقولُ الثاني أنّهُ ما رفَعهُ التابعيُّ الكبيرُ إلى النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهذا معنى قولِهِ او قيّدهُ بالكبيرِ، أي بالكبيرِ من التابعينَ، فهذه الصورةُ لا خلافَ فيها، كما قالَ ابنُ الصلاحِ أما مراسيلُ صغارِ التابعينَ، فإنّها لا تسمّى مرسلةً على هذا القولِ، بل هي

(1/203)


منقطعةٌ هكذا حكاهُ ابنُ عبد البرِّ عن قومٍ من أهلِ الحديثِ؛ لأنَّ أكثرَ رواياتِهِم عن التابعينَ ولم يلقَوا من الصحابةِ إلا الواحدَ والاثنين قلتُ هكذا مَثَّلَ ابنُ الصلاحِ صغارَ التابعينَ بالزهريِّ ومَنْ ذَكَرَ، وذكرَ في التعليلِ أنَّهم لم يلقَوا من الصحابةِ إلا الواحدَ والاثنينِ، وليس ذلك بصحيحٍ بالنسبةِ إلى الزهريِّ، فقد لقي من الصحابةِ اثني عشرَ فأكثرَ، وهم عبدُ اللهِ بنُ عمرَ، وأنسُ بن مالكٍ، وسهلُ بنُ سعدٍ، وربيعةُ بنُ عِبادٍ، وعبدُ اللهِ بنُ جعفرٍ، والسائبُ بنُ يزيدَ، وسُنَيْن أبو جَميلةَ، وعبدُ الله بنُ عامرٍ بنِ ربيعةَ، وأبو الطُّفيلِ، ومحمودُ بنُ الربيعِ، والمِسورُ بنُ مَخْرمة، وعبد الرحمن بنُ أزهر ولم يسمع من عبدِ الله بنِ جعفر، بل رآه رؤيةً وقيل إنّه سمعَ من جابرٍ وقد سمعَ من محمودِ بنِ لبيدٍ، وعبدِ الله بنِ الحارثِ بنِ نوفلٍ، وثعلبةَ بنِ مالكٍ القرظيِّ وهم مختلفٌ في صحبتِهم وأنكرَ أحمدُ ويحيى سماعَهُ من ابنِ عمرَ، وأثبتَهُ عليُّ بنُ المدينيِّ

(1/204)


القولُ الثالثُ إنهُ ما سقطَ راوٍ من إسنادِهِ، فأكثرُ، من أيِّ موضعٍ كان، فعلى هذا المرسلُ والمنقطعُ واحدٌ قالَ ابنُ الصلاحِ والمعروفُ في الفقهِ وأصولِهِ أنَّ ذلك يُسمّى مرسلاً وبهِ قطعَ الخطيبُ، قال الخطيبُ إلا أنَّ أكثرَ ما يوصفُ بالإرسالِ من حيثُ الاستعمالُ ما رواهُ التابعيُّ عن النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقطعَ الحاكم وغيرُهُ من أهلِ الحديثِ أنَّ الإرسالَ مخصوصٌ بالتابعينَ وسيجيءُ في فصلِ التدليسِ أنَّ ابنَ القطّانِ قال إنَّ الإرسالَ روايتُهُ عمَّنْ لم يسمع منه
فعلى هذا مَنْ رَوَى عمَّنْ سمعَ منه ما لم يسمعْهُ منه، بل بينَه وبينَه فيه واسطةٌ، ليس بإرسالٍ، بل هو تدليسٌ، وعلى هذا فيكونُ هذا قولاً رابعاً في حَدِّ المرسلِ

... وَاحتَجَّ (مَاِلِكٌ) كَذا (النُّعْمَانُ) ... وَتَابِعُوْهُمَا بِهِ وَدَانُوْا
123.... وَرَدَّهُ جَمَاهِرُ النُّقَّادِ؛ ... لِلجَهْلِ بِالسَّاقِطِ في الإسْنَادِ
... وَصَاحِبُ التَّمهيدِ عَنهُمْ نَقَلَهْ ... وَ (مُسْلِمٌ) صَدْرَ الكِتَابِ أصَّلَهْ

اختلفَ العلماءُ في الاحتجاجِ بالمرسلِ، فذهبَ مالكُ بنُ أنسٍ وأبو حنيفةَ

(1/205)


النعمانُ بنُ ثابتٍ وأتباعُهُما في طائفةٍ إلى الاحتجاج به.
فقولُهُ: (وتابعُوهما) أي: التابعونَ لهما. (ودانوا) أي: جعلَوهُ دِيناً يدينونَ به، وذهب أكثرُ أهلِ الحديثِ إلى أنَّ المرسلَ ضعيفٌ لا يحتجُّ به. وحكاه ابنُ عبد البرِّ في مقدّمة " التمهيد " عن جماعةٍ من أصحابِ الحديثِ. وقال مسلمٌ في صَدْرِ كتابهِ " الصحيحِ ": ((المرسلُ في أصلِ قولِنا، وقولِ أهل العلمِ بالأخبارِ ليس بحُجَّةٍ)) . هكذا أطلقَ ابنُ الصلاحِ نَقْلَهُ عن مسلمٍ. ومسلمٌ إنّما ذكرَهُ في أثناءِ كلامِ خَصْمِهِ الذي رَدَّ عليهِ اشتراطَ ثبوتِ اللقاءِ، فقال: ((فإنْ قال: قُلْتُهُ لأنِّي وَجَدْتُ رواةَ الأخبارِ قديماً وحديثاً يَروي أحدُهُم عن الآخر الحديثَ، ولمّا يُعاينْهُ، وما سَمِعَ منه شيئاً قَطُّ،

(1/206)


فلمّا رأيتُهُم استجازُوا روايةَ الحديثِ بَينهُم هكذا على الإرسالِ مِنْ غَيْرِ سماعٍ - والمرسلُ من الرواياتِ في أصلِ قولِنا، وقولِ أهلِ العلمِ بالأخبارِ، ليس بحجّةٍ - احتجتُ لما وصفْتُ من العلّةِ إلى البحث عن سماعِ راوي كُلِّ خبرٍ عن راويه، إلى آخر كلامهِ)) . فهذا كما تراهُ حكاهُ على لسانِ خَصْمِهِ، ولكنَّهُ لمّا لم يرد هذا القدرَ منه حين رَدَّ كلامَهُ، كان كأنَّهُ قائلٌ به، فلهذا نسبَهُ ابنُ الصلاحِ إليه.
وقولُهُ: (للجهلِ بالساقطِ) ، هو تعليلٌ لردِّ المرسلِ، وذلك أنهُ تقدّمَ أنَّ مِن شرطِ الحديثِ الصحيحِ ثقةَ رجالِهِ. والمرسلُ سقطَ منه رجلٌ لا نعلَمُ حالَه. فعدمُ معرفةِ عدالةِ بعض رواتِهِ، وإنِ اتفقَ أنَّ الذي أرسلَهُ كان لا يَروي إلا عن ثقةٍ، فالتوثيقُ في الرجلِ المبهمِ غيرُ كافٍ، كما سيأتي إن شاءَ اللهُ تعالى.

125.... لَكِنْ إذا صَحَّ لَنَا مَخْرَجُهُ ... بمُسْنَدٍ أو مُرْسَلٍ يُخْرِجُهُ
... مَنْ لَيْسَ يَرْوِي عَنْ رِجَالِ الأوَّلِ ... نَقْبَلْهُ، قُلْتُ: الشَّيْخُ لَمْ يُفَصِّلِ
127.... والشَّافِعِيُّ بِالكِبَارِ قَيَّدَا ... وَمَنْ رَوَى عَنِ الثِّقاتِ أبَدَا
... وَمَنْ إذا شَارَكَ أهْلَ الحِفْظِ ... وَافَقَهُمْ إلاّ بِنَقْصِ لَفْظِ

(1/207)


هذا استدراكٌ؛ لكونِ المرسلِ يُحتجُّ به إذا أُسندَ من وجهٍ آخرَ، أو أرسلَهُ مَنْ أخذَ العلمَ عن غيرِ رجالِ المُرسِلِ الأولِ.
وقولُهُ: (نقبلْهُ) ، هو مجزومٌ جوابٌ للشرطِ على مذهبِ الكوفيينَ والأخفشِ كقولِ الشاعرِ:

وإذَا تُصِبْكَ مُصِيْبَةٌ فاصبرْ لَهَاْ ... وإذا تُصِبْكَ خَصَاصَةٌ فتجَمَّلِ

وقولُهُ قلتُ الشيخُ، إلى آخر الأبياتِ الأربعةِ، من الزوائدِ على ابنِ الصلاحِ، وهو اعتراضٌ عليهِ في حكايتِهِ لكلامِ الشافعيِّ - رضي الله عنه - قالَ ابنُ الصَّلاحِ اعلم أنَّ حكمَ المرسَلِ حكمُ الحديثِ الضعيفِ، إلاّ أنْ يصحَّ مخرجُهُ بمجيِئهِ من وجهٍ آخرَ، كما سبق بيانُهُ في نوعِ الحسن، والذي ذكرَ أنَّهُ سبقَ أنّه حكى هناكَ نصَّ الشافعيِّ في مراسيلِ التابعينَ أنّهُ يُقْبَلُ منها المرسلُ الذي جاءَ نحوَهُ مسنداً، وكذلك لو وافقَهُ مرسلٌ آخرُ أرسلَهُ مَنْ أخذَ العلمَ عن غيرِ رجالِ التابعيِّ الأولِ في كلامٍ لهُ ذكرَ فيه وجوهاً من الاستدلالِ على صحةِ مخرجِ المرسلِ بمجيئِهِ من وجهِ آخرَ انتهى كلامُ ابنِ الصلاحِ

(1/208)


ووجهُ الاعتراضِ عليه أنَّهُ أطلقَ القولَ عن الشافعيِّ بأنَّهُ يقبلُ مطلقَ المرسلِ إذا تأكَّدَ بما ذكرَهُ الشافعيُّ والشافعيُّ إنّما يقبلُ مراسيلَ كِبارِ التابعينَ، إذا تأكدتْ مع وجودِ الشرطينِ المذكورينِ في كَلامي، كما نصَّ عليه في كتابِ الرسالة وممَّنْ روى كلامَ الشافعيِّ كذلك أبو بكرٍ الخطيبُ في الكفاية، وأبو بكرِ البيهقيُّ في المدخلِ بإسنادَيهما الصحيحينِ إليه، أنّهُ قالَ والمنقطعُ مختلِفٌ فمَنْ شاهدَ أصحابَ رسولِ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِن التابعينَ فحدَّثَ حديثاً منقطعاً عن النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتُبِرَ عليه بأمُورٍ، منها أنْ يُنظرَ إلى ما أرسلَ من الحديثِ فإنْ شَرِكَهُ فيه الحفّاظُ المأمونونَ فأسندوهُ إلى رسولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بمثلِ معنى ما روي؛ كانت هذهِ دلالةً على صحةِ ما قَبِلَ عنه وحفْظَهُ وإنِ انفردَ بإرسالِ حديثٍ لم يَشْرَكْهُ فيه مَنْ يُسنِدُهُ قُبِلَ ما يَنفردُ به من ذلك ويُعتبرُ عليه بأنْ يُنظرَ هل يوافقُهُ مُرْسِلٌ غيرُهُ ممَّنْ قَبِلَ العلم من غيرِ رجالِهِ الذينَ
قَبلَ عنهم؟ فإنْ وُجِدَ ذلك كانت دلالةً تُقَوِّي له مرسله، وهي أضعفُ من

(1/209)


الأُولى، وإنْ لم يُوجدْ ذلك نظَرَ إلى بعضِ ما يروى عن بعضِ أصحابِ النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قولاً له، فإنْ وجدَ ما يوافقُ ما روى عن رسولِ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانتْ في هذا دلالةٌ على أنَّهُ لم يأخذْ مرسلَهُ إلا عن أصلٍ يصحُّ إن شاء اللهُ تعالى، وكذلك إنْ وُجدَ عوامُّ مِنْ أهلِ العلمِ يُفْتُونَ بمثلِ معنى ما روي عن رسول اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم يُعتبرُ عليهِ بأنْ يكونَ إذا سَمَّى مَنْ رَوَى عنهُ لم يُسَمِّ مجهولاً، ولا مرغوباً عن الروايةِ عنه، فيُستدلُّ بذلك على صحتِهِ فيما رَوَى عنه ويكونُ إذا شَرِكَ أحداً من الحفّاظِ في حديثِهِ لم يخالفْهُ، فإن خالفَهُ بأنْ وُجدَ حديثُهُ أنقصَ، كانت في هذهِ دلائلُ على صحةِ مَخْرَجِ حديثِهِ ومتى خالفَ ما وصفتُ أضَرَّ بحديثِهِ، حتى لا يَسَعَ أحداً قبولُ مُرسَلِهِ قال وإذا وُجدتِ الدلائلُ بصحةِ حديثهِ بما وصفتُ أحببنا أنْ نقبلَ مرسلَهُ ثم قال فأمّا مَنْ بعدَ كبارِ التابعينَ، فلا أعلمُ واحداً يُقْبَلُ مرسَلُهُ لأمورٍ أحدُها أنَّهُم أشدُّ تَجَوُّزاً فيمَنْ يَروُوْنَ عنه والآخَرُ أنّهمُ وجدَ عليهم الدلائلُ فيما أرسلوا لضَعْفِ مَخْرَجِهِ والآخَرُ كثرةُ الإحالةِ في الأخبارِ وإذا كثرتِ الإحالةُ كانَ أمْكَنَ للوهمِ وضَعْفِ مَن يُقبلُ عنه قال البيهقيُّ وقولُ الشافعيِّ أحببنَا أن نقبلَ مرسلَهُ أرادَ به اخترنا انتهى

(1/210)


فقولي وَمَنْ رَوى عَن الثقاتِ أبداً أي إذا أرسلَ وسمَّى مَنْ أرسَلَ عنه لم يسمِّ إلا ثقةً، فيكونُ المرادُ ومَنْ رَوَى ما أرْسَلَهُ عنِ الثقاتِ ويحتملُ ومَنْ رَوَى مطلقاً عن الثقاتِ المراسيلَ وغيرَها وعبارة الشافعيِّ محتمِلَةٌ للأمْرَيْنِ فليحملِ النَّظْمُ على أرجحِ محملَيْ كلامِ الشافعيِّ - رضي الله عنه -

(1/211)


.. فَإنْ يُقَلْ: فَالمُسْنَدُ المُعْتَمَدُ ... فَقُلْ: دَلِيْلانِ بِهِ يَعْتَضِدُ

أي: فإنْ قيلَ: قولُكم يُقبلُ المرسلُ إذا جاءَ مسنداً مِنْ وجهٍ آخرَ، لا حاجةَ حينئذٍ إلى المرسلِ، بلِ الاعتمادُ حينئذٍ على الحديثِ المُسنَدِ. والجوابُ أنَّهُ بالمسنَدِ تبيَّنَا صحةَ المرسلِ، وصارا دليلينِ يُرَجَّحُ بهما عندَ معارضةِ دليلِ واحد.
فقولُهُ: به، أي: بالمُسنَدِ يعتضدُ المرسلُ.

130.... وَرَسَمُوا مُنْقَطِعَاً (عَنْ رَجُلِ) ... وَفي الأصُوْلِ نَعْتُهُ بِالمُرْسَلِ

أي إذا قيلَ في إسنادٍ عن رجلٍ، أو عن شيخٍ، ونحو ذلك فقالَ الحاكمُ لا يُسَمَّى مرسلاً، بل منقطعاً وكذا قالَ ابنُ القطّانِ في كتابِ " بيانِ الوهمِ والإيهامِ ": إنَّهُ منقطعٌ. وفي " البرهان " لإمامِ الحرمينِ قَالَ: وقولُ الرَّاوِي: أَخْبَرَنِي رجلٌ، أو عدلٌ موثوقٌ بِهِ، من المرسلِ أيضاً. قَالَ: وَكَذَلِكَ كُتُبُ

(1/212)


رَسُوْل الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التي لم يُسَمَّ حاملُها. وفي "المحصول": أنَّ الراوي إذا سمّى الأصلَ باسمٍ لا يُعرفُ به، فهو كالمرسلِ. قلتُ: وفي كلامِ غيرِ واحدٍ من أهلِ الحديثِ، أنَّهُ متّصلٌ في إسنادِهِ مجهولٌ. وحكاهُ الرشيدُ العَطَّارُ في " الغُررِ المجموعةِ " عن الأكثرينَ، واختارَهُ شيخُنا الحافظُ أبو سعيدٍ العلائيُّ في كتابِ " جامعِ التحصيلِ ".

... أمَّا الَّذِي أرْسَلَهُ الصَّحَابِيْ ... فَحُكمُهُ الوَصْلُ عَلى الصَّوَابِ
أي: أمّا مراسيلُ الصحابةِ فحكمُها حكمُ الموصولِ. قالَ ابنُ الصلاحِ: ثم إنا لم نعدَّ في أنواعِ المرسلِ، ونحوِه، ما يسمَّى في أُصولِ الفِقهِ: مرسلُ الصحابيِّ. مثلُ ما يرويه ابنُ عبّاسٍ، وغيرُهُ من أحداث الصحابةِ عن رسولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يسمعُوْهُ منه، لأنَّ ذلك في حُكمِ الموصولِ المسنَدِ؛ لأنَّ روايتَهُم عن الصحابةِ، والجهالةُ بالصحابيِّ غيرُ قادحةٍ؛ لأنَّ الصحابةَ كلَّهُم عدولٌ. قلتُ: قولُهُ: لأنَّ روايَتَهم عن الصحابةِ، فيه نظرٌ. والصوابُ أنْ يُقَالَ: لأنَّ غالبَ روايتِهِم، إذ قد سمعَ جماعةٌ من الصحابةِ من بعض

(1/213)


التابعينَ. وسيأتي في كلامِ ابنِ الصلاحِ في روايةِ الأكابرِ عن الأصاغر، أنَّ ابنَ عباسٍ، وبقيّةَ العبادلةِ رَوَوْا عن كعبِ الأحبار، وهو من التابعينَ، وروى كعبٌ أيضاً عن التابعينَ، ولم يذكرِ ابنُ الصلاحِ خلافاً في مُرْسَلِ الصحابيِّ، وفي بعضِ كُتُبِ الأصولِ للحنفيَّةِ أنَّهُ لا خلافَ في الاحتجاجِ به، وليسَ بجيِّدٍ.
فقد قال الأستاذُ أبو إسحاق الاسفراينيُّ: إنَّهُ لا يحتجُّ به، والصوابُ
ما تقدّم.

(1/214)