شرح (التبصرة والتذكرة = ألفية العراقي)

التَّدْلِيْسُ

153.... تَدلِيْسُ الاسْنَادِ كَمَنْ يُسْقِطُ مَنْ ... حَدَّثَهُ، وَيَرْتَقِي بـ (عَنْ) وَ (أَنْ)
154.... وَقَالَ: يُوْهِمُ اتِّصَالاً، وَاخْتُلِفْ ... فِي أَهْلِهِ، فَالرَّدُّ مُطْلَقَاً ثُقِفْ
155.... وَالأكْثَرُوْنَ قَبِلُوْا مَا صَرَّحَا ... ثِقَاتُهُمْ بِوَصْلِهِ وَصُحِّحَا
156.... وَفي الصَّحِيْحِ عِدَّةٌ (كَالاعْمَشِ) ... وَ (كَهُشَيْمٍ) بَعْدَهُ وَفَتِّشِ

التدليسُ على ثلاثةِ أقسامٍ، ذكرَ ابنُ الصلاحِ منها قسمينِ فقطْ:
القسمُ الأولُ: تدليسُ الإسنادِ: وهو أنْ يُسقطَ اسمَ شيخِهِ الذي سمعَ منه، ويرتَقي إلى شيخِ شيخِهِ، أو مَنْ فوقَهُ، فَيسندُ ذلك إليه بلفظٍ لا يقتضي الاتصالَ، بل بلفظٍ مُوهمٍ، كقولِهِ: عَنْ فلانٍ، أو أنَّ فلاناً، أو قالَ فلانٌ، مُوهِماً بذلك أنّهُ

(1/234)


سمعَ ممَّنْ رواه عنه، وإنّما يكونُ تدليساً إذا كانَ المدلِّسُ قد عاصرَ المرويَّ عنه أو لقيَهُ ولم يسمع منه، أو سمعَ منه ولم يسمعْ منه ذلكَ الحديثَ الذي دلَّسَهُ عنه. وقد فُهِمَ هذا الشرطُ مِنْ قولِهِ: (يُوْهِمُ اتصَّالاً) . وإنّما يقعُ الإيهامُ مع المعاصرةِ وقد حدَّهُ أبو الحسنِ ابنُ القطانِ في كتابِهِ " بيان الوهم والإيهام ": بأنْ يرويَ عمَّنْ قد سَمِعَ منه ما لم يسمعْ منهُ، من غيرِ أنْ يذكرَ أنّهُ سمعَهُ منه، قال: والفرقُ بينَهُ وبين الإرسالِ: هو أنَّ الإرسالَ روايتُهُ عمَّنْ لم يسمعْ منه، وقد سبقَ ابنَ القطانِ إلى حدِّهِ بذلك الحافظُ أبو بكرٍ أحمدُ بنُ عمرِو بنِ عبدِ الخالقِ البزَّارُ، ذكرَ ذلك في جزءٍ له " في معرفةِ مَنْ يُتركُ حديثُهُ، أو يقبلُ ". أما إذا روى عمَّنْ لم يدركْهُ بلفظٍ موهمٍ فإنَّ ذلك ليس بتدليسٍ على الصحيحِ المشهورِ. وحكى ابن عبد البرِّ في " التمهيد " عن قومٍ: أنَّهُ

(1/235)


تدليسٌ، فجعلوا التدليسَ أنْ يُحَدِّثَ الرجلُ عن الرجلِ بما لم يسمعْهُ منه بلفظٍ لا يقتضي تصريحاً بالسماعِ، وإلاَّ لكان كذباً. قالَ ابنُ عبد البرِّ: وعلى هذا فما سَلِمَ من التدليسِ أحدٌ لا مالكٌ ولا غيرُهُ.
فقولُهُ: في البيتِ الثاني: (وقال) ، معطوفٌ على قولِهِ: (بِـ: عَنْ وأنْ) ، أي: بهذهِ الألفاظِ الثلاثةِ ونحوِها، ومثله أنْ يُسْقِطَ أداةَ الروايةِ، ويسمّي الشيخَ فقط فيقولُ: فلانٌ، وهذا يفعلُهُ أهلُ الحديثِ كثيراً. قال عليُّ بنُ خَشْرَمٍ: كُنَّا عند ابنِ عُيينةَ، فقالَ: الزُّهْريُّ، فقيل له: حدّثَكُمُ الزهريُّ؟ فسكتَ. ثمَّ قالَ: الزهريُّ، فقيل له: سمعتَهُ من الزهريِّ؟ فقال: لا لم أسمعْهُ من الزهريِّ ولا ممَّنْ سمِعَهُ من الزهريِّ، حدّثني عبدُ الرزاقِ، عن مَعْمَرٍ، عن الزهريِّ. وقد مَثَّلَ ابنُ الصَّلاحِ للقسمِ الأولِ بهذا المثالِ. ثم حكى الخلافَ فيمَنْ عُرفَ بهذا، هل يُردُّ حديثُهُ مطلقاً، أو ما لم يُصرّحْ فيه بالاتصال؟! واعلمْ أنَّ ابنَ عبد البرِّ قد حكى عن أئمةِ الحديثِ أنَّهُم قالوا: يُقبلُ تدليسُ ابنِ عُيينةَ؛ لأنَّهُ إذا وقفَ أحالَ على ابنِ جُريجٍ ومعمرٍ ونظائرِهما. وهذا ما رجّحَهُ ابنُ حبّانَ، وقال: وهذا شيءٌ ليس في الدنيا إلاَّ لسفيانَ بنِ عيينةَ، فإنّهُ كان يدلِّسُ، ولا يدلِّسُ إلا عن ثقةٍ متقنٍ، ولا يكادُ يوجدُ لابنِ عيينةَ خبرٌ دلَّسَ فيهِ، إلاَّ

(1/236)


وقدْ بَيَّنَ سماعَهُ عن ثقةٍ مثل ثقتِهِ، ثم مَثَّلَ ذلك بمراسيلِ كبار الصحابةِ، فإنَّهُم لا يرسلونَ إلاّ عن صحابيٍّ. وقد سبقَ ابنَ عبدِ البرِّ إلى ذلك الحافظانِ: أبو بكر البزّارُ، وأبو الفتحِ الأزديُّ.
فقالَ البزّارُ في الجزءِ المذكورِ: إنَّ مَنْ كان يدلِّسُ عن الثقاتِ كانَ تدليسُهُ عند أهلِ العلمِ مقبولاً. ثم قال: فمَنْ كانت هذهِ صفتُهُ وَجبَ أنْ يكونَ حديثُهُ مقبولاً وإنْ كان مدلساً. وهكذا رأيتُهُ في كلامِ أبي بكرٍ الصَيْرفيِّ من الشافعية في كتابِ "الدلائلِ" فقالَ: كلُّ مَنْ ظهرَ تدليسُهُ عن غيرِ الثقاتِ لَمْ يُقبلْ خبرُهُ حَتَّى يقولَ: حدّثني، أو سمعتُ. انتهى. وقولُهُ: (واختلفَ في أهْلِه) أي: في أهلِ هَذَا القسمِ مِنَ التدليسِ، وهم المعروفونَ بهِ. فقيلَ: يُرَدُّ حديثُهم مطلقاً، سواءٌ بينوا السماعَ، أو لَمْ يبينوا، وأنَّ التدليسَ نفسَهُ جرحٌ، حكاهُ ابنُ الصلاحِ عن فريقٍ من أهلِ الحديثِ

(1/237)


والفقهاءِ، وَهُوَ المرادُ بقولِهِ: (فالردُّ مطلقاً ثُقِفْ) أي: وُجِدَ عن بعضِهم. والصحيحُ كما قالَ ابنُ الصلاحِ، التفصيلُ. فإنْ صَرَّحَ بالاتصالِ كقولِهِ: سمعتُ، وحدّثنا، وأخبرنا، فهو مقبولٌ محتجٌّ به. وإنْ أتى بلفظٍ محتملٍ فحكمُه حكمُ المرسلِ. وإلى هذا ذهبَ الأكثرونَ كما حكيتُهُ عنهمْ. ولمْ يذكرِ ابنُ الصلاحِ ذلكَ عنِ الأكثرينَ. وهذا من الزيادةِ عليه التي لم تُمَيَّزْ بـ: قلتُ. وممَّنْ حكاهُ عن جمهورِ أئمةِ الحديثِ والفقهِ والأصولِ شيخُنا أبو سعيدٍ العلائيُّ في كتابِ " المراسيل "، وهو قولُ الشافعيِّ، وعليِّ بنِ المدينيِّ، ويحيى بنِ معين، وغيرِهم.

(1/238)


وقد وجدتُ في كلامِ بعضِهم: أنَّ المدلّسَ إذا لم يُصَرِّحْ بالتحديثِ، لم يُقبلْ اتّفاقاً. وقد حكاهُ البيهقيُّ في " المدخلِ " عن الشافعيِّ، وسائرِ أهلِ العلمِ بالحديثِ. وحكايةُ الاتفاقِ هنا غلطٌ أو هو محمولٌ على اتفاقِ مَنْ لا يحتجُّ بالمرسلِ. أمّا الذين يحتجُّونَ بالمرسلِ فيحتجونَ بهِ كما اقتضاهُ كلامُ ابنِ الصلاحِ على أنَّ بعضَ مَنْ يحتجُّ بالمرسلِ لا يقبلُ عنعنةَ المدلسِ. فقد حكى الخطيبُ في " الكفايةِ ": أنَّ جُمهورَ مَنْ يحتجُّ بالمرسلِ يقبلُ خبرَ المدلِّسِ.
وقولُهُ: (وفي الصحيح ... ) إلى آخرهِ، أي: وفي الصَّحيحينِ وغيرِهما مِنَ الكتبِ الصحيحةِ عدّةُ رواةٍ من المدلّسينَ، كالأعمشِ، وهُشيمِ بنِ بَشِيرٍ، وغيرِهما.
وقولُهُ: (وفَتِّشْ) أي: وفتشْ، في الصحيحِ تجدْ جماعةً منهم، كقتادةَ والسفيانَيْنِ، وعبدِ الرزاقِ، والوليدِ بنِ مسلمٍ، وغيرِهِمْ. وقالَ النوويُّ: إنَّ ما في الصحيحينِ وغيرِهما من الكتبِ الصحيحةِ عن المدلسينَ بـ: عَنْ، محمولٌ عَلَى ثبوتِ سماعِهِ من جهةٍ أخرى. وَقَالَ الحافظُ أبو محمدٍ عبدُ الكريمِ الحلبيُّ في كتاب
" القِدْح المُعَلّى": قالَ أكثرُ العلماءِ: إنَّ الَّتِي في الصحيحينِ مُنَزَّلةٌ بمنزلةِ السماعِ.

(1/239)


157.... وَذَمَّهُ (شُعْبَةُ) ذُو الرُّسُوْخِ ... وَدُوْنَهُ التَّدْليْسُ لِلشِّيُوْخِ
158.... أنْ يَصِفَ الشَّيْخَ بِمَا لا يُعْرَفُ ... بِهِ، وَذَا بِمقْصِدٍ يَخْتَلِفُ
159.... فَشَرُّهُ للضَّعْفِ وَاسْتِصْغَارا ... وَكـ (الخَطِيْبِ) يُوْهِمُ اسْتِكْثَارَا
160.... و (الشَّافِعيْ) أثْبَتَهُ بِمَرَّه ... قُلْتُ: وَشَرُّهَا أخُو التَّسْويهْ
أي: وذمّهُ شعبةُ فبالغَ في ذمِّهِ، وإلاّ فَقَدْ ذمّهُ أكثرُ العلماءِ، وَهُوَ مكروهٌ جدّاً، فروَى الشافعيُّ عن شعبةَ قالَ: التدليسُ أخو الكذبِ، وَقَالَ: لأنْ أزني أحبُّ إليَّ مِنْ أن أدلسَ. قَالَ ابنُ الصلاحِ: ((وهذا من شعبةَ إفراطٌ محمولٌ عَلَى المبالغةِ في الزجرِ عَنْهُ والتنفيرِ)) . وقوله: (دُوْنَهُ التدليسُ للشيوخِ) أي: ودونَ القسمِ الأولِ. وهذا هو القسمُ الثاني من أقسامِ التدليسِ.
قالَ ابنُ الصلاحِ: أمرُه أخفُّ منه، و (أنْ) : في أولِ البيتِ الثاني مصدريةٌ. والجملةُ في موضع رفعٍ على أنّهُ بيانٌ للتدليسِ المذكورِ، أو خبرُ مبتدأ محذوفٍ

(1/240)


تقديره: وهو أنْ يصفَ المدلّسُ شيخَهُ الذي سمعَ ذلك الحديث منه بوصفٍ لا يُعْرَفُ به من اسمٍ، أو كنيةٍ، أو نسبةٍ إلى قبيلةٍ، أو بلدٍ، أو صنعةٍ أو نحوِ ذلك، كي يُوْعِّرِ الطريقَ إلى معرفةِ السامعِ له، كقول أبي بكرِ بن مجاهدٍ أحدِ أئمةِ القُرَّاْءِ: حدّثنا عبدُ اللهِ بنُ أبي عبدِ اللهِ، يريدُ به: عبدَ اللهِ بنَ أبي داود السجستانيَّ، ونحوَ ذلك. قال ابنُ الصلاحِ: وفيه تضييعٌ للمَرْوِيِّ عنه. قلتُ: وللمَرْوِيِّ أيضاً بأنْ لا يتنبهَ له فيصيرُ بعضُ رواتِهِ مجهولاً.
ويختلفُ الحالُ في كراهةِ هذا القسمِ باختلافِ المقْصَدِالحاملِ على ذلكَ. فشرُّ ذلكَ: إذا كانَ الحاملُ على ذلكَ كونَ المَرْوِيِّ عنهُ ضعيفاً، فيدلّسُهُ حتى لا تظهرَ روايتُهُ عن الضعفاءِ. وقد يكونُ الحاملُ على ذلكَ كونَ المَرْوِيِّ عنه صغيراً في السِّنِّ، أو تأخّرتْ وفاتُهُ، وشاركَهُ فيه مَنْ هو دونَهُ. وقد يكونُ الحاملُ على ذلك إيهامَ كثرةِ الشيوخِ بأنْ يرويَ عن الشيخِ الواحدِ في مواضعَ، يُعَرِّفُهُ في موضِعٍ بصفةٍ، وفي موضعٍ آخرَ بصفةٍ أخرى يُوهِمُ أنّهُ غيرُهُ. وممَّنْ يفعلُ ذلك كثيراً الخطيبُ، فقد كانَ لهِجَاً به في تصانيفهِ.
ولم يذكرِ ابنُ الصلاحِ حكمَ مَنْ عُرِفَ بهذا القسمِ الثاني من التدليسِ. وقد جزمَ ابنُ الصَّبَّاغُ في " العُدَّةِ " بأنَّ مَنْ فعلَ ذلكَ؛ لكونِ مَنْ روى عنهُ غيرَ ثقةٍ عندَ الناسِ،

(1/241)


وإنّما أرادَ أنْ يُغيِّرَ اسمَهُ ليقبلوا خبرَهُ، يجبُ أنْ لا يُقبلَ خَبرُهُ، وإنْ كانَ هو يعتقدُ منهُ الثقةَ فقدْ غَلَطَ في ذلكَ؛ لجوازِ أنْ يَعْرِفَ غيرُهُ مِنْ جِرْحهِ ما لا يَعرفُهُ هو، فإنْ كانَ لصِغَرِ سنِّهِ، فيكونُ ذلكَ روايةً عن مجهولٍ، لا يجبُ قبولُ خَبَرِهِ حتَّى يعرفَ مَنْ رَوَى عنهُ.
وقوله: (واستصغاراً) ، منصوبٌ بكانَ المحذوفةِ، أي: ويكونُ استصغاراً وإيهاماً للكثرةِ، وقوله: (وكالخطيبِ) أي: وكفعلِ الخطيبِ.
وقولُه: (والشافعيُّ أثبتَهُ) أي: أصلُ التدليسِ لا هذا القسمُ الثاني منه. قالَ ابنُ الصلاحِ: والحكمُ بأنَّهُ لا يُقبلُ من المدلِّسِ حتَّى يُبَيِّنَ، قد أجراهُ الشافعيُّ (، فيمَنْ عرفناهُ دلَّسَ مرّةً. وممَّنْ حكاهُ عن الشافعيِّ البيهقيُّ في " المدخلِ ".
وقولُهُ: (قلتُ: وشرُّها أخو التسوية) . هذا هو القسمُ الثالثُ من أقسامِ التدليسِ الذي لم يذكرْهُ ابنُ الصلاحِ - وهو تدليسُ التسويةِ - وصورتُه أنْ يرويَ حديثاً عن شيخٍ ثقةٍ، وذلكَ الثقةُ يرويه عنْ ضعيفٍ عن ثقةٍ، فيأتي المدلِّسُ الذي سمعَ الحديثَ من الثقةِ الأولِ، فيُسقطُ الذي في السندِ، ويجعلُ الحديثَ عن شيخِهِ الثقةِ عن الثقةِ الثاني، بلفظٍ محتملٍ، فيستوي الإسنادُ، كلُّهُ ثقاتٌ. وهذا شرُّ أقسامِ التدليسِ؛

(1/242)


لأنَّ الثقةَ الأولَ قدْ لا يكونُ معروفاً بالتدليسِ، ويجدُهُ الواقفُ على السندِ كذلكَ بعدَ التسويةِ قد رواهُ عن ثقةٍ آخرَ فيحْكَمُ له بالصحةِ، وفي هذا غرورٌ شديدٌ. وممَّنْ نُقِلَ عنه أنَّهُ كان يفعلُ ذلكَ: بقيّةُ بنُ الوليدِ، والوليدُ بنُ مسلمٍ. أما بقيةُ، فقال ابنُ أبي حاتمٍ في كتاب " العلل ": سمعتُ أبي، وذكرَ الحديثَ الذي رواهُ إسحاقُ بنُ راهويهِ، عنْ بقيةَ، حدّثني أبو وَهْبٍ الأسديُّ، عن نافعٍ، عنِ ابنِ عُمَرَ حديث: ((لا تحمدوا إسلامَ المرءِ حتى تعرفوا عقدةَ رأيِهِ)) . فقال أبي: هذا الحديثُ له أمرٌ قَلَّ مَنْ يفهمُهُ، رَوَى هذا الحديثَ عبيدُ الله بنُ عمرٍو، عن إسحاقَ بنِ أبي فروةَ، عن نافعٍ، عن ابنِ عمرَ، عن النبيِّ (. وعبيدُ الله بنُ عمرٍو كنيته أبو وَهْبٍ وهو أسديٌ. فكناهُ بقيةُ ونسبَهُ إلى بني أسدٍ لكي لا يُفطَنَ له. حتى إذا تُرِكَ إسحاقُ بنُ أبي فروةَ من الوسط لا يُهتدى له. - قال -: وكان بقيّةُ مِن أفعلِ الناسِ لهذا.
وأمَّا الوليدُ بنُ مسلمٍ فقال أبو مُسْهِرٍ: كانَ الوليدُ بنُ مسلمٍ يحدّثُ بأحاديثِ الأوزاعيِّ عن الكذابينَ، ثم يدلّسُها عنهم. وقال صالحٌ جَزَرَةُ: سمعتُ الهيثمَ بنَ

(1/243)


خارجةَ يقولُ: قلتُ للوليدِ بنِ مسلمٍ: قد أفسدتَ حديثَ الأوزاعيِّ. قال: كيف؟ قلتُ: تَروي عن الأوزاعيِّ، عن نافعٍ، وعن الأوزاعيِّ، عن الزهريِّ، وعن الأوزاعيِّ، عن يَحْيَى بنِ سعيدٍوغيرُكَ يُدْخلُ بَيْنَ الأوزاعيِّ وبينَ نافعٍ، عبدَ اللهِ بنَ عامرٍ الأسلميَّ وبينَهُ وبينَ الزهريِّ إبراهيمَ بنَ مُرَّةَ وقُرَّةَ، قَالَ: أُنَبِّلُ الأوزاعيَّ أنْ يروِيَ عن مثلِ هؤلاءِ. قلتُ: فإذا رَوَى عن هؤلاءِ - وهم ضُعفاءُ - أحاديثَ مناكيرَ فاسقطتَهُمْ أنتَ وصَّيرتَها من روايةِ الأوزاعيِّ عن الثِّقاتِ؛ ضُعِّفَ الأوزاعيُّ، فلم يلتفِتْ إلى قولي. وذَكَرَ الدارقطنيُّ عن الوليدِ أيضاً هذا النوعَ مِنَ التدليسِ. قال الخطيبُ:
وكانَ الأعمشُ، والثوريُّ، وبقيّةُ، يفعلونَ مثلَ هذَا. وقد سَمَّاهُ ابنُ

(1/244)


القطّانِ وغيرُ واحدٍ تدليسَ التسويةِ. قال العلائيُّ في " المراسيلِ ": ((وبالجملةِ فهذا النوعُ أفحشُ أنواعِ التدليسِ مطلقاً وشرُّها)) .

الشَّاذُّ
161.... وَذُو الشُّذُوذِ: مَا يُخَالِفُ الثِّقَهْ ... فِيهِ المَلاَ فَالشَّافِعيُّ حقَّقَهْ
162.... والحَاكِمُ الخِلاَفَ فِيهِ ما اشْتَرَطْ ... وَلِلْخَلِيليْ مُفْرَدُ الرَّاوي فَقَطْ
163.... وَرَدَّ مَا قَالاَ بِفَرْدِ الثِّقَةِ ... كالنَّهْي عَنْ بَيْعِ الوَلاَ وَالهِبَةِ
164.... وَقَوْلُ مُسْلِمٍ: رَوَى الزُّهْرِيُّ ... تِسْعِينَ فَرْدَاً كُلُّهَا قَوِيُّ
165.... واخْتَارَ فِيْمَا لَمْ يُخَالِفْ أنَّ مَنْ ... يَقْرُبُ مِنْ ضَبْطٍ فَفَرْدُهُ حَسَنْ
166.... أوْ بَلَغَ الضَّبْطَ فَصَحِّحْ أَوْ بَعُدْ ... عَنْهُ فَمِمَّا شَذَّ فَاطْرَحْهُ وَرُدْ

(1/245)


اختلفَ أهلُ العلمِ بالحديثِ في صفةِ الحديثِ الشاذِّ، فقالَ الشافِعيُّ: ليسَ الشاذُّ مِنَ الحديثِ أنْ يرويَ الثقةُ ما لا يروي غيرُهُ، وإنَّما أنْ يرويَ الثقةُ حديثاً يخالفُ ما روى الناسُ، وحكى أبو يعلى الخليليُّ عنْ جماعةٍ من أهلِ الحجازِ نحوَ هذا، وقالَ الحاكمُ: ((هوَ الحديثُ الذي ينفردُ بهِ ثقةٌ منَ الثقاتِ، وليسَ لهُ أصلٌ بمتابعٍ لذلكَ الثقةِ)) . فلمْ يشترطِ الحاكمُ فيهِ مخالفةَ الناسِ، وذَكَرَ أنَّهُ يغايرُ المعلَّلَ من حيثُ إِنَّ المعلَّلَ وُقِفَ على علَّتِهِ الدالةِ على جهةِ الوهمِ فيهِ، والشاذُّ لَمْ يُوقفْ فيهِ على علَّتِهِ كذلكَ.
وقالَ أبو يعلى الخليليُّ: الذي عليهِ حفَّاظُ الحديثِ: أنَّ الشاذَّ ما ليسَ لهُ إلاَّ إسنادٌ واحدٌ، يشذُّ بذلكَ شيخٌ، ثقةً كانَ أو غيرَ ثقةٍ، فما كانَ عنْ غيرِ ثقةٍ فمتروكٌ لا يقبلُ، وما كانَ عنْ ثقةٍ يُتَوقَفُ فيهِ ولا يحتجُّ بهِ فَلمْ يشترطِ الخليليُّ في الشاذِّ تفردَ الثقةِ، بلْ مطلقُ التفردِ. وقولُهُ: ورَدَّ، أي: ابنُ الصلاحِ ما قالَ الحاكمُ والخليليُّ بأفرادِ الثقاتِ الصحيحةِ، وبقولِ مسلمٍ الآتي ذكرُهُ، فقالَ ابنُ الصلاحِ: ((أمَّا ما

(1/246)


حكمَ الشافعيُّ عليهِ بالشذوذِ، فلا إشكالَ في أنَّهُ شاذٌّ غيرُ مقبولٍ، قالَ: وأمَّا ما حكيناهُ عنْ غيرِهِ فيشكِلُ بما ينفردُ بهِ العدلُ الحافظُ الضابطُ، كحديثِ: ((إنّما الأعمالُ بالنياتِ)) ثمَّ ذكرَ مواضعَ التفردِ منهُ، ثمَّ قالَ: وأوضحُ من ذلكَ في ذلكَ: حديثُ عبدِ اللهِ بنِ دينارٍ، عنْ ابن عمرَ أنَّ النبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((نهى عنْ بيعِ الولاءِ وهبتِهِ)) تفرّدَ بهِ عبدُ اللهِ بنُ دينارٍ. وحديثُ مالكٍ، عنِ الزُّهريِّ، عنْ أنسٍ أنَّ النبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((دخلَ مكَّةَ وعلى رأسِهِ المِغْفَرُ)) تفرّد بهِ مالكٌ عنِ الزهريِّ.
فكلُّ هذهِ مُخرجةٌ في

(1/247)


الصحيحينِ معَ أنَّها ليسَ لها إلاَّ إسنادٌ واحدٌ تفرَّدَ بهِ ثقةٌ، قالَ: وفي غرائبِ الصحيحِ أشباهٌ لذلكَ غيرُ قليلةٍ، قالَ: وقَدْ قالَ مسلمُ بنُ الحجّاجِ: ((للزُّهْريِّ نحوُ تسعينَ حرفاً يَرْوِيهِ عنِ النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لا يُشَارِكُهُ فيها أحدٌ بأسانيدَ جِيادٍ)) قالَ: فهذا الذي ذكرناهُ وغيرُهُ من مذاهبِ أئمةِ الحديثِ يبينُ لكَ أنَّهُ ليسَ الأمرُ في ذلكَ على الإطلاقِ الذي أتى بهِ الخليليُّ والحاكمُ، بلِ الأمرُ في ذلكَ على تفصيلٍ نُبَيِّنُهُ فنقولُ: إذا انفردَ الراوي بشيءٍ نُظِرَ فيهِ، فإنْ كانَ مخالفاً لما رواهُ مَنْ هوَ أولى منهُ بالحفظِ لذلكَ، وأضبطُ، كانَ ما انفردَ بهِ شاذّاً مردوداً، وإنْ لَمْ يكنْ فيهِ مخالفةٌ لما رواهُ غيرُهُ وإنّما هوَ أمرٌ رواهُ هوَ ولَمْ يَرْوِهِ غيرُهُ، فيُنْظَرُ في هذا الراوي المنفردِ، فإنْ كانَ عدلاً

(1/248)


حافظاً موثوقاً بإتقانهِ وضبطِهِ قُبِلَ ما انفردَ بهِ ولَمْ يقدحِ الانفرادُ فيهِ كما سبقَ منَ الأمثلةِ، وإنْ لَمْ يكنْ ممَّنْ يُوثَقُ بحفظهِ وإتقانِهِ لذلكَ الذي انفرد بهِ، كانَ انفرادُهُ بهِ خارِماً لهُ مُزَحزِحاً لهُ عنْ حيِّزِ الصحيحِ، ثمَّ هوَ بعدَ ذلكَ دائرٌ بينَ مراتبَ متفاوتةٍ بحسبِ الحالِ فيهِ، فإنْ كانَ المنفردُ بهِ غيرَ بعيدٍ من درجةِ الحافظِ الضابطِ المقبولِ تفرّده، استحسنا حديثَهُ ذلكَ، ولَمْ نحّطْهُ إلى قبيلِ الحديثِ الضعيفِ، وإنْ كانَ بعيداً من ذلكَ ردَدْنَا ما انفردَ بهِ، وكانَ من قبيلِ الشَّاذِّ المنكرِ. انتهى.

(1/249)


وهذا معنى قولِهِ: (واختارَ) ، أي: ابنُ الصلاحِ في الفردِ الذي لم يُخالِفْ.
وقولُهُ: (وَرُدْ) ، هو أمرٌ معطوفٌ على قولِهِ: (فاطْرَحْهُ) ، قالَ ابنُ الصَّلاحِ: فخرجَ من ذلكَ أنَّ الشاذَّ المردودَ قسمانِ:
أحدُهما: الحديثُ الفردُ المخالفُ.
والثاني: الفردُ الذي ليسَ في راويهِ منَ الثقةِ والضبطِ ما يقعُ جابراً لما يوجبُ التفردُ والشذوذُ من النكارةِ والضعفِ، واللهُ أعلمُ. وسيأتي مثالٌ لقسمي الشَّاذِّ في البابِ الذي بعدَهُ.

(1/250)


الْمُنْكَرُ

167.... وَالْمُنكَرُ: الفَرْدُ كَذَا البَرْدِيجِيْ ... أَطْلَقَ، وَالصَّوَابُ فِي التَّخْرِيْجِ
168.... إِجْرَاءُ تَفْصِيْلٍ لَدَى الشُّذُوْذِ مَرْ ... فَهْوَ بِمَعْناهُ كَذَا الشَّيْخُ ذَكَرْ
169.... نَحْوَ ((كُلُوا البَلَحَ بالتَّمْرِ)) الخَبَرْ ... وَمَالِكٍ سَمَّى ابْنَ عُثْمَانَ: عُمَرْ
170.... قُلْتُ: فَمَاذَا؟ بَلْ حَدِيْثُ ((نَزْعِهْ ... خَاتَمَهُ عِنْدَ الخَلاَ وَوَضْعِهْ))

قالَ الحافظُ أبو بكرٍ أحمدُ بنُ هارونَ البَرْديجيُّ: المنكرُ هوَ الحديثُ الذي ينفردُ بهِ الرجلُ، ولا يُعرفُ متُنُه من غيرِ روايتِهِ، لا من الوجهِ الذي رواهُ منهُ ولا من وجهٍ آخرَ. قالَ ابنُ الصلاحِ: فأطلقَ البرديجيُّ ذلكَ، ولمْ يفصِّلْ. قالَ: وإطلاقُ الحكمِ على التفرُّدِ بالرَّدِّ، أو النَّكارةِ، أو الشُّذوذِ، موجودٌ في كلامِ كثيرٍ من أهلِ الحديثِ. قالَ: والصوابُ فيهِ التّفصيلُ الذي بيناهُ آنفاً في شرحِ الشاذِّ، قالَ: وعندَ هذا نقولُ:

(1/251)


المنكرُ ينقسم قسمينِ على ما ذكرناهُ في الشاذِّ، فإنَّهُ بمعناهُ.
وقولُهُ: (نحو كُلوا ... ) إلى آخرِ البيتِ هما مثالانِ للمنكرِ الذي هوَ بمعنى الشاذِّ. فالأولُ مثالٌ للفردِ الذي ليسَ في راويهِ من الثقةِ والإتقانِ ما يحتملُ معهُ تفرُّدُهُ، وهوَ ما رواهُ النسائيُّ، وابنُ ماجه منْ روايةِ أبي زُكَيْرٍ يحيى بنِ محمّدِ بنِ قيسٍ عنْ هِشامِ بنِ عُروةَ عنْ أبيهِ عنْ عائشةَ؛ أنَّ رسولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ((كلوا البَلَحَ بالتَّمْرِ، فإنَّ ابنَ آدمَ إذا أكلَهُ غَضِبَ الشيطانُ، ... الحديثَ)) ، قالَ النسائيُّ هذا حديثٌ منكرٌ، قالَ ابنُ الصلاحِ تفرّدَ بهِ أبو زُكيرٍ، وهوَ شيخٌ صالحٌ أخرجَ عنه مسلمٌ في كتابِهِ غيرَ أنَّهُ لَمْ يبلغْ مبلغَ مَنْ يحتملُ تفرُّدُهُ انتهى.

(1/252)


وإنّما أخرجَ لهُ مسلمٌ في المتابعات.
والثاني: مثالٌ للفردِ المخالفِ لما رواهُ الثقاتُ، وهوَ ما رواهُ مالكٌ، عنِ الزهريِّ، عنْ عليِّ بنِ حسينٍ، عنْ عمرَ بنِ عثمانَ، عنْ أُسامةَ بنِ زيدٍ، عنْ رسولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ((لا يَرِثُ المسلمُ الكافرَ، ولا الكافرُ المسلمَ)) . فخالفَ مالكٌ غيرَهُ منَ الثقاتِ في

(1/253)


قولهِ: عُمرَ بنِ عُثمانَ، يعني: بضمِّ العينِ، وذكرَ مسلمٌ في " التمييز " أنَّ كلَّ مَنْ رواهُ منْ أصحابِ الزهريِّ قالَ فيهِ: عَمْرو بنِ عثمانَ، يعني: بفتح العينِ، وذكرَ أنَّ مالكاً كانَ يشيرُ بيدهِ إلى دارِ عُمَرَ بنِ عثمانَ، كأنَّهُ علمَ أنَّهم يخالفونَهُ، وعَمرٌو وعُمَرُ جميعاً ولدا عثمانَ غيرَ أنَّ هذا الحديثَ إنّما هوَ عن عَمرٍو - بفتحِ العينِ - وحكمَ مسلمٌ وغيرُهُ على مالكٍ بالوهمِ فيهِ، هكذا مثَّلَ ابنُ الصلاحِ بهذا المثالِ، وفيهِ نظرٌ، منْ حيثُ إنَّ هذا الحديثَ ليسَ بمنكرٍ، ولمْ يطلقْ عليهِ أحدٌ اسمَ النكارةِ فيما رأيت والمتن ليسَ بمنكرٍ، وغايتُهُ أنْ يكونَ السندُ منكراً، أو شاذاً لمخالفةِ الثقاتِ لمالكٍ في ذلكَ، ولا يلزمُ من

(1/254)


شذوذِ السندِ ونكارتِهِ وجودُ ذلكَ الوصفِ في المتنِ فقدْ ذكرَ ابنُ الصلاحِ في نوعِ المعللِ: أنَّ العلةَ الواقعةَ في السندِ قدْ تقدحُ في المتنِ، وقدْ لا تقدحُ ومثَّلَ ما لا تقدحُ بما رواهُ يعلى بنُ عُبيدٍ، عنِ الثَّوريِّ، عنْ عَمرِو بنِ دينارٍ، عنِ ابنِ عُمرَ، عنِ النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ((البَيِّعَانِ بالخِيَار)) قالَ: فهذا إسنادٌ معلَّلٌ غيرُ صحيحٍ، والمتنُ على كلِّ حالٍ صحيحٌ، قالَ: والعلّةُ في قولهِ عن عَمرِو بنِ دينارٍ، وإنّما هوَ عنْ عبدِ اللهِ بنِ دينارٍ. انتهى.
فحكمَ على المتنِ بالصحةِ معَ الحكمِ بوهمِ يعلى بنِ عُبيدٍ فيهِ وإلى هذا الإشارةُ بقولي: (قلتُ: فماذا) ، وإذا قالَ مالكٌ: عُمَرَ بنَ عثمانَ، فماذا؟ أي: فما يلزمُ منهُ من نكارةِ المتنِ.
ثمَّ أشرتُ إِلَى مثالٍ صحيحٍ لأحدِ قسمَيْ المنكرِ، بقولي: (بَلْ حَدِيْث نزعه ... ) إلى آخرهِ، أي: بل هذا الحديثُ مثالٌ لهذا القسمِ من المنكر، وهوَ ما رواهُ أصحابُ السننِ

(1/255)


الأربعةِ من روايةِ همّامِ بنِ يحيى عنِ ابنِ جريجٍ عن الزُّهريِّ عن أنسٍ، قالَ: كانَ النبيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ((إذا دَخَلَ الخلاءَ وَضَعَ خَاتَمَهُ)) ، قالَ أبو داودَ بعدَ تخريجهِ: هذا حديثٌ منكرٌ، قالَ: وإنّما يُعْرَفُ عنِ ابنِ جُرَيجٍ، عنْ زيادِ بنِ سعدٍ، عنِ الزهريِّ، عنْ أنسٍ أنَّ النبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((اتّخذَ خاتماً منْ وَرِقٍ، ثمَّ ألقاهُ)) ، قالَ: والوهمُ فيهِ من همّامٍ، ولمْ يروِهِ إلاَّ همّامٌ، وقالَ النسائيُّ بعدَ تخريجهِ: هذا حديثٌ غيرُ محفوظٍ انتهى. فهمّامُ بنُ يحيى ثقةٌ، احتجَّ بهِ أهلُ الصحيحِ، ولكنَّهُ خالفَ الناسَ، فروى عنِ ابنِ جريجٍ هذَا المتنَ بهذا السندِ وإنّما رَوَى الناسُ عنِ ابنِ جريجٍ الحديثَ الذي أشارَ إليهِ أبو داودَ، ولهذا حكمَ عليهِ أبو داودَ بالنكارةِ، وأما الترمذيُّ فقالَ فيه: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ.

(1/256)


الاعْتِبَارُ وَالمُتَابَعَاتُ وَالشَّوَاهِدُ
171.... الاعْتِبَارُ سَبْرُكَ الحَدِيْثَ هَلْ ... شَارَكَ رَاوٍ غَيْرَهُ فيْمَا حَمَلْ
172.... عَنْ شَيْخِهِ فَإنْ يَكُنْ شُوْرِكَ مِنْ ... مُعْتَبَرٍ بِهِ فَتَابِعٌ، وَإنْ
173.... شُورِكَ شَيْخُهُ فَفَوْقُ فَكَذَا ... وَقَدْ يُسَمَّى شَاهِدَاً ثُمَّ إذَا
174.... مَتْنٌ بِمَعْنَاهُ أتَى فَالشَّاهِدُ ... وَمَا خَلاَ عَنْ كُلِّ ذَا مَفَارِدُ
175.... مِثَالُهُ ((لَوْ أَخَذُوا إهَابَهَا)) ... فَلَفْظَةُ ((الدِّبَاغِ)) مَا أتَى بِهَا
176.... عَنْ عَمْرٍو الاَّ ابنُ عُيَيْنَةٍ وَقَدْ ... تُوبِعَ عَمْروٌ في الدِّبَاغِ فَاعْتُضِدْ
177.... ثُمَّ وَجَدْنَا ((أَيُّمَا إِهَابِ)) ... فَكَانَ فيهِ شَاهِدٌ في البابِ

(1/257)


هذهِ الألفاظُ يتداولها أهلُ الحديثِ بينَهم.
فالاعتبارُ: أنْ تأتيَ إلى حديثٍ لبعضِ الرواةِ، فتعتبرُه برواياتِ غيرِهِ منَ الرواةِ بسبرِ طُرُقِ الحديثِ ليُعرفَ هلْ شاركَهُ في ذلكَ الحديثِ راوٍ غيرُهُ فرواهُ عنْ شيخِهِ أمْ لا؟
فإنْ يَكنْ شاركَهُ أحدٌ ممَّنْ يُعتبرُ بحديثهِ، أيْ: يصلحُ أنْ يخرجَ حديثُه للاعتبارِ بهِ والاستشهادِ بهِ، فيسمَّى حديثُ هَذَا الَّذِي شاركَهُ تابعاً - وسيأتي بيانُ مَنْ يعتبرُ بحديثهِ في مراتبِ الجرحِ والتعديلِ - وإنْ لمْ تجدْ أحداً تابعَهُ عليهِ عنْ شيخهِ فانظرْ هلْ تابعَ أحدٌ شيخَ شيخِهِ فرواهُ متابعاً لهُ أمْ لاَ؟ إنْ وجدتَ أحداً تابعَ شيخَ شيخِهِ عليهِ، فرواهُ كما رواهُ فسمِّهِ أيضاً تابعاً. وقدْ يسمُّونَهُ شاهداً، وإنْ لمْ تجدْ فافعلْ ذلكَ فيمنْ فوقَهُ إلى آخرِ الإسنادِ حتَّى في الصحابيِّ، فكلُّ مَنْ وُجِدَ لهُ متابعٌ فسمِّهِ تابعاً. وقدْ يسمُّونَهُ شاهداً، كما تقدَّمَ، فإنْ لَمْ تَجدْ لأحدٍ ممَّنْ فَوقَهُ متابعاً عليهِ فانظرْ هلْ أتى بمعناهُ حديثٌ آخرُ في البابِ أمْ لا؟ فإنْ أتى بمعناهُ حديثٌ آخرُ فسمِّ ذلكَ الحديثَ شاهداً، وإنْ لَمْ تجدْ حديثاً آخرَ يؤدِّي معناهُ، فقد عُدِمَتِ المتابعاتُ والشواهدُ. فالحديثُ إذاً فردٌ. قالَ ابنُ حبَّانَ: وطريقُ الاعتبارِ في الأخبارِ، مثالُهُ أنْ يرويَ حمَّادُ بنُ سَلَمَةَ حديثاً لَمْ يُتابعْ عليهِ، عنْ أيُّوبَ، عنِ ابنِ سِيرينَ، عنْ أبي هريرةَ، عنِ النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيُنْظرَ: هلْ

(1/258)


روى ذلكَ ثقةٌ غيرُ أيوبَ، عنِ ابنِ سيرينَ؟ فإنْ وُجِدَ عُلِمَ أنَّ للخبرِ أصلاً يُرْجَعُ إليهِ، وإنْ لَمْ يُوجَدْ ذلكَ، فثِقَةٌ غيرُ ابنِ سيرينَ رواهُ عنْ أبي هريرةَ، وإلاَّ فصحابيٌّ غيرُ أبي هريرةَ، رواهُ عنِ النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فأيُّ ذلكَ وُجِدَ يُعْلَمُ بهِ أنَّ للحديثِ أصلاً يرجعُ إليهِ، وإلاَّ فَلاَ. انتهى.
قلتُ: فمثالُ مَا عُدِمَتْ فيهِ المتابعاتُ من هَذَا الوجهِ من وجهٍ يثبتُ ما رواهُ الترمذيُّ منْ روايةِ حمّادِ بنِ سَلَمَةَ، عنْ أيوبَ، عنِ ابنِ سيرينَ، عنْ أبي هريرةَ، أراهُ رَفَعَهُ: ((احببْ حبيبكَ هوناً مَا، ... الحديثَ)) . قالَ الترمذيُّ: حديثٌ غريبٌ لا نعرفُهُ بهذا الإسنادِ إلاَّ منْ هَذَا الوجهِ. قلتُ: أيْ من وجهٍ يثبتُ، وقدْ رواهُ الحسنُ بنُ دينارٍ، وهوَ متروكُ الحديثِ، عنِ ابنِ سيرينَ، عنْ أبي هريرةَ، قالَ ابنُ عَدِيٍّ في " الكاملِ ": ((ولا أعلمُ أحداً قالَ عنِ ابنِ سيرينَ، عنْ أبي هريرةَ إلاَّ الحسنَ بنَ دينارٍ. ومن حديثِ أيوبَ، عنِ ابنِ سيرينَ، عنْ أبي هريرةَ، رواهُ حمادُ بنُ سلمةَ، ويرويهِ الحسنُ بنُ أبي جعفرٍ، عنْ أيوبَ، عنِ ابنِ سيرينَ عنْ حُمَيدِ بنِ عبدِ الرحمنِ الحِمْيريِّ، عنْ عليٍّ مرفوعاً. انتهى.
والحسنُ بنُ أبي جعفرٍ منكرُ الحديثِ، قالَهُ البخاريُّ.

(1/259)


وقولُهُ: (مثالُه لو أخذوا إهابها) ، هذا مثالٌ لما وُجِدَ لهُ تابعٌ وشاهدٌ أيضاً. وهوَ مَا روى مسلمٌ والنسائيُّ من روايةِ سفيانَ بنِ عُيينةَ، عنْ عَمْرِو بنِ دينارٍ، عنْ عطاءٍ، عنِ ابنِ عبّاسٍ، أنَّ رسولَ اللهَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((مَرَّ بِشَاةٍ مَطْرُوحَةٍ أُعْطِيَتْهَا مَوْلاَةٌ لِمَيْمُونَةَ مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَلاَّ أَخَذُوا إِهَابَهَا فَدَبَغُوهُ فَانْتَفَعُوا بِهِ)) ، فلمْ يذكرْ فيهِ أحدٌ منْ أصحابِ عمرِو بنِ دينارٍ: فدبغوهُ، إلاَّ ابنُ عيينةَ. وقدْ رواهُ إبراهيمُ بنُ نافعٍ المكيُّ عن عمرٍو، فلمْ يذكرِ الدِّباغَ. وقولُ ابنِ الصلاحِ: ورواهُ ابنُ جريجٍ عن عمرٍو، عنْ عطاءٍ، ولَمْ يذكرْ فيهِ الدِّباغَ، يوهمُ موافقةَ روايةِ ابنِ جريجٍ لروايةِ ابنِ عيينةَ في السندِ وليسَ كذلكَ، فإنَّ ابنَ جريجٍ زادَ في السندِ ميمونةَ فجعلهُ من مسندها. وفي روايةِ ابنِ عيينةَ أنَّهُ من مسندِ ابنِ عبّاسٍ، فلهذا مَثَّلْتُ: بإبراهيمَ بنِ نافعٍ، واللهُ أعلمُ. فَنَظَرنَا هلْ نجدُ أحداً تابعَ شيخَهُ عمرَو بنَ دينارٍ على ذكرِ الدباغِ فيهِ، عنْ عطاءٍ أمْ لاَ؟ فوجدنا أسامةَ بنَ زيدٍ الليثيَّ تابعَ عَمْرَاً عليهِ. ورواهُ الدارقطنيُّ والبيهقيُّ من طريقِ ابنِ وَهْبٍ، عنْ أسامةَ، عنْ عطاءِ بنِ أبي رباحٍ، عنِ ابنِ عبّاسٍ: أنَّ النبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالَ لأهلِ شاةٍ ماتتْ: ((ألا نزعتُمْ إِهَابَهَا فدبَغْتُمُوهُ، فانتَفَعْتُمْ بهِ)) .

(1/260)


قالَ البيهقيُّ وهكذا رواهُ الليثُ بنُ سعدٍ، عنْ يزيدَ بنِ أبي حبيبٍ، عنْ عطاءٍ. وكذلكَ رواهُ يحيى بنُ سعيدٍ، عنِ ابنِ جريجٍ، عنْ عطاءٍ.
فكانتْ هذهِ متابعاتٍ لروايةِ ابنِ عيينةَ. ثمَّ نظرْنَا فوجَدْنَا لها شاهداً، وهوَ ما رواهُ مسلمٌ وأصحابُ السُّننِ من روايةِ عبدِ الرحمنِ بنِ وَعْلةَ المصريِّ، عنِ ابنِ عبّاسٍ، قالَ: قالَ رسولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فقدْ طَهُرَ)) .