شرح (التبصرة والتذكرة = ألفية العراقي)

زِيَادَاتُ الثِّقَاتِ
178.... وَاقْبَلْ زِيَادَاتِ الثِّقَاتِ مِنْهُمُ ... وَمَنْ سِوَاهُمْ فَعَلَيْهِ المُعْظَمُ
179.... وَقِيْلَ: لاَ، وَقِيْلَ: لاَ مِنْهُمْ وَقَدْ ... قَسَّمَهُ الشَّيْخُ، فَقَالَ: مَا انْفَرَدْ
180.... دُوْنَ الثِّقَاتِ ثِقَةٌ خَالَفَهُمْ ... فِيْهِ صَرِيْحاً فَهْوَ رَدٌّ عِنْدَهُمْ
181.... أَوْ لَمْ يُخَالِفْ، فَاقْبَلَنْهُ وَادَّعَى ... فِيْهِ الخَطِيْبُ الاتِّفَاقَ مُجْمَعَا
182.... أَوْ خَالَفَ الاطْلاَقَ نَحْوُ ((جُعِلَتْ ... تُرْبَةُ الارْضِ)) فَهْيَ فَرْدٌ نُقِلَتْ

(1/261)


183.... فَالْشَّافِعِيْ وَأَحْمَدُ احْتَجَّا بِذَا ... وَالوَصْلُ والارْسَالُ مِنْ ذَا أُخِذَا
184.... لَكِنَّ في الإرْسَالِ جَرْحاً فَاقْتَضَى ... تَقْدِيْمَهُ وَرُدَّ أنَّ مُقْتَضَى
185.... هَذَا قَبُولُ الوَصْلِ إذْ فِيْهِ وَفِيْ ... الجَرْحِ عِلْمٌ زَائِدٌ لِلْمُقْتَفِيْ

مَعْرِفةُ زياداتِ الثِّقاتِ فنٌّ لطيفٌ، يُسْتَحسَنُ العِنايةُ بهِ. وَقدْ كانَ الفقيهُ أبو بكرٍ عبدُ اللهِ بنُ محمدِ بنِ زيادٍ النَّيْسابوريُّ مشهوراً بمعرفةِ ذلكَ. قالَ الحاكمُ: كانَ يعرفُ زياداتِ الألفاظِ في المتونِ، وكذلكَ أبو الوليدِ حسّانُ بنُ محمدٍ القرشيُّ النيسابوريُّ. تلميذُ ابنِ سُرَيْجٍ وغيرُ واحدٍ منَ الأئمةِ.
واخْتُلِفَ في زيادةِ الثقةِ على أقوالٍ:
فذهبَ الجمهورُ منَ الفقهاءِ وأصحابِ الحديثِ، كما حكاهُ الخطيبُ عنهم، إلى قبولها سواءٌ تعلقَ بها حكمٌ شرعيٌّ أمْ لا. وسواءٌ غَيَّرَتِ الحكمَ الثابتَ، أمْ لاَ، وسواءٌ أوْجبتْ نقصاً منَ أحكامٍ ثبتتْ بخبرٍ ليستْ فِيْهِ تلكَ الزيادةُ أم لا. وسواءٌ كانَ ذلكَ من

(1/262)


شخصٍ واحدٍ بأنْ رواهُ مرّةً ناقصاً، ومرةً بتلكَ الزيادةِ، أو كانتْ الزيادةُ منْ غيرِ مَنْ رواهُ ناقصاً. وهذا معنى قولي: (وَمَنْ سواهُمْ) أيْ: وَمَنْ سوَى منْ زادَها بشرطِ كونِهِ ثقةً؛ لأنَّ الفصلَ معقودٌ لزيادةِ الثقةِ، لا أنَّ المرادَ: ومَنْ سوى الثقاتِ. وقدِ ادَّعى ابنُ طاهرٍ الاتفاقَ على هذا القولِ عندَ أهلِ الحديثِ، فقالَ في "مسألةِ الانتصارِ": لا خلافَ تجدُهُ بينَ أهلِ الصنعةِ أنَّ الزيادةَ منَ الثقةِ مقبولةٌ انتهى. وشَرَطَ أبو بكرٍ الصَّيْرفيُّ منَ الشافعيَّةِ وكذلك الخطيبُ في قبولِ الزيادةِ كونَ مَنْ رواها حافظاً. وشَرَطَ ابنُ الصَّبَّاغِ في " العُدَّةِ " منهم، ألاَّ يكونَ مَنْ نقلَ الزيادةَ واحداً، ومَنْ رواهُ ناقصاً جماعةٌ لا يجوزُ عليهمُ الوهمُ، فإنْ كانَ كذلكَ سقطتِ الزيادةُ وقالَ ذلكَ فيما إذا روياهُ عنْ مجلسٍ واحدٍ، فإنْ روياهُ عنْ مجلسينِ كانا خبرينِ وعُمِلَ بهِمَا.
والقولُ الثاني: أنَّها لا تقبلُ مطلقاً لا ممَّنْ رواهُ ناقصاً ولاَ مِنْ غيرِهِ حُكيَ ذلكَ عن قومٍ منْ أصحابِ الحديثِ فيما ذَكَرَهُ الخطيبُ في "الكفايةِ" وابنُ الصبّاغِ في "العُدَّة".
والقولُ الثالثُ: أنّها لا تقبلُ ممَّنْ رواهُ ناقصاً، وتقبلُ مِنْ غيْرِهِ منَ الثقاتِ، حكاهُ الخطيبُ عن فرقةٍ منَ الشافعيةِ.

(1/263)


وهوَ المرادُ بقولي: (وقيل: لا منهم) أي: لا يقبلُ ممَّنْ رواهُ ناقصاً، ثمَّ رواهُ بتلكَ الزيادةِ، أو رواهُ بالزيادةِ، ثمَّ رواهُ ناقصاً. وذكرَ ابنُ الصبّاغِ في " العدّةِ " فيما إذا روى الواحدُ خبراً، ثمَّ رواهُ بعدَ ذلكَ بزيادةٍ، فإنْ ذكرَ أنَّهُ سمعَ كلَّ واحدٍ منَ الخبرينِ في مجلسينِ، قُبلَتِ الزيادةُ، وإنْ عزى ذلكَ إلى مجلسٍ واحدٍ وتكررتْ روايتُهُ بغيرِ زيادةٍ ثمَّ روى الزيادةَ. فإنْ قالَ: كنتُ أُنسيتُ هذهِ الزيادةَ قُبِلَ منهُ، وإنْ لَمْ يقلْ ذلكَ وجبَ التوقّفُ في الزيادةِ.
وفي المسألةِ قولٌ رابعٌ: أنَّهُ إنْ كانتِ الزيادةُ مغيرةً للإعرابِ، كانَ الخبرانِ متعارضينِ، وإنْ لَمْ تُغَيِّرِ الإعرابَ قُبِلتْ. حكاهُ ابنُ الصبّاغُ عنْ بَعضِ المتكلمينَ.
وفيها قولٌ خامسٌ: أنَّها لا تقبلُ إلاَّ إذا أفادتْ حكماً.
وفيها قولٌ سادسٌ: أنَّها تقبلُ في اللفظِ دونَ المعنى، حكاهما الخطيبُ.
وقولُهُ: (وقد قسَّمهُ الشيخُ) أي: ابنُ الصلاحِ، فقالَ: قدْ رأيتُ تقسيمَ ما ينفردُ بهِ الثقةُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ:
أحدُها: ما يقعُ مخالفاً منافياً لما رواهُ سائرُ الثقاتِ، فهذا حكمهُ الردُّ، كما سبقَ في نوعِ الشاذِّ.
الثاني: أنْ لا يكونَ فيهِ منافاةٌ ومخالفةٌ أصلاً لما رواهُ غيرُهُ، كالحديثِ الذي تفرّدَ بروايةِ جملتِهِ ثقةٌ، ولاَ تعرض فيهِ لما رواهُ الغيرُ بمخالفةِ أصلٍ.
فهذا مقبول، وقدِ ادَّعى الخطيبُ فيهِ اتفاقَ العلماءِ عليهِ، وسبقَ مثالهُ في نوعِ الشاذِّ.

(1/264)


الثالثُ: ما يقعُ بينَ هاتينِ المرتبتينِ، مثلُ زيادةِ لفظةٍ في حديثٍ لَمْ يذكرْهَا سائرُ مَنْ روى ذلكَ الحديثَ، مثالُهُ ما رواهُ مالكٌ عنْ نافِعٍ، عنِ ابنِ عمرَ: أنَّ رسولَ اللهَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((فرضَ زكاةَ الفطرِ من رمضانَ على كلِّ حرِّ، أو عبدٍ، ذكرٍ، أو أنثى منَ المسلمينَ)) ، فذكرَ أبو عيسى الترمذيُّ: أنَّ مالكاً انفردَ من بينِ الثقاتِ بزيادةِ قولِهِ: ((منَ المسلمينَ)) . وروى عبيدُ اللهِ بنُ عمرَ، وأيوبُ، وغيرُهما هذا الحديثَ عنْ نافعٍ عنْ ابنِ عمرَ دونَ هذهِ الزيادةِ، فأخذَ بها غيرُ واحدٍ منَ الأئمةَ، واحتجوا بها منهم:

(1/265)


الشافعيُّ وأحمدُ رضي اللهُ عنهما. قالَ: ومنْ أمثلةِ ذلكَ: ((جُعلَتْ لنا الأرضُ مسجداً وَجُعِلَتْ تربتها لنا طهوراً)) . فهذهِ الزيادةُ تفرَّدَ بها أبو مالكٍ سعدُ بنُ طارقٍ الأشجعيُّ، وسائرُ الرواياتِ لفظها: ((وجُعلتْ لنا الأرضُ مسجداً وطهوراً)) . قالَ: فهذا وما أشبهَهُ يشبهُ القسمَ الأولَ من حيثُ إنَّ ما رواهُ الجماعةُ عامٌّ، وما رواهُ المنفردُ بالزيادةِ مخصوصٌ، وفي ذلكَ مغايرةٌ في الصفةِ، ونوعٌ منَ المخالفةِ يختلفُ بهِ الحكمُ. ويشبهُ أيضاً القسمَ الثانيَ من حيثُ إنَّهُ لا منافاةَ بينهما انتهى كلامُ ابنِ الصلاحِ، واقتصرَ على المثالِ الثاني؛ لأنَّهُ صحيحٌ، كما ذكرَ: تفرّدَ بالزيادةِ سعدُ بنُ طارقٍ أبو مالكٍ الأشجعيُّ، والحديثُ رواهُ مسلمٌ والنسائيُّ من روايةِ الأشجعيِّ عنْ رِبْعي، عن حذيفةَ. وأما المثالُ الأولُ فلاَ يصحُّ؛ لأنَّ مالكاً لم ينفردْ بالزيادةِ، بلْ تابعهُ عليها عمرُ بنُ نافعٍ،

(1/266)


والضحاكُ بنُ عثمانَ، ويونسُ بنُ يزيدَ، وعبدُ اللهِ بنُ عمرَ، والمُعَلَّى بنُ إسماعيلَ، وكثيرُ بنُ فَرْقدٍ. واختُلِفَ في زيادتها على عُبيدِ اللهِ بنِ عمرَ، وأيوبَ.
وقدْ بينتُ هذهِ الطرقَ في " النكتِ " التي جمعتُها على كتابِ ابنِ الصَّلاحِ.
وقولُهُ: (والوصل والإرسال من ذا أخذ) أي: إنَّ تعارضَ الوصلِ والإرسال نوعٌ من زيادةِ الثقةِ؛ لأنَّ الوصلَ زيادةُ ثقةٍ، وقدْ تقدّمَ أنَّ الخطيبَ حَكَى عن أكثرِ أهلِ الحديثِ أنَّ الحكمَ لِمَنْ أرسلَ. وقالَابنُ الصلاحِ: إنَّ بينَ الوصلِ والإرسال مِنَ المخالفةِ نحوَ ما ذكرناهُ، أي: في القسمِ الثالثِ. قالَ: ويزدادُ ذلكَ بأن الإرسالَ نوعُ قدحٍ في الحديثِ، فترجيحُهُ، وتقديمُهُ من قبيلِ تقديمِ الجرحِ على التعديلِ. قالَ: ويجابُ عنهُ بأنَّ الجرحَ قُدِّمَ لما فيهِ من زيادةِ العلمِ. والزيادةُ هاهنا معَ مَنْ وصلَ، واللهُ أعلمُ.

(1/267)


الأفْرَاْدُ

... الفَرْدُ قِسْمَانِ، فَفَرْدٌ مُطْلَقا ... وَحُكْمُهُ عِنْدَ الشُّذُوْذِ سَبَقا
187.... وَالفَرْدُ بِالنِّسْبَةِ مَا قَيَّدْتَهُ ... بِثِقَةٍ، أوْ بَلَدٍ ذَكَرْتَهُ
... أوْ عَنْ فُلانٍ نَحْوُ قَوْلِ القَائِلْ ... لَمْ يَرْوِهِ عَنْ (بَكْرٍ) الاَّ (وَائِلْ)
189.... لَمْ يَرْوِهِ ثِقَةٌ الاّ ضَمْرَهْ ... لَمْ يَرْوِ هَذَا غيرُ أهْلِ البَصْرَهْ
... فَإنْ يُرِيْدُوا وَاحِداً مِنْ أهْلِهَا ... تَجَوُّزاً، فاجْعَلْهُ مِنْ أوَّلهِا
191.... وَلَيْسَ في أفْرَادِهِ النِّسْبِيَّهْ ... ضَعْفٌ لَهَا مِنْ هَذِهِ الحَيْثِيَّهْ
... لَكِنْ إذَا قَيَّدَ ذَاكَ بِالثِّقَهْ ... فَحُكْمُهُ يَقْرُبُ مِمَّا أطْلَقَهْ
الأفرادُ منقسمةٌ إلى: ما هو فردٌ مطلقاً، وهو ما ينفردُ به واحدٌ عن كُلِّ أحدٍ. وقد سبقَ حكمُهُ ومثالُهُ في قسمِ الشاذِّ. وإلى ما هو فردٌ بالنسبةِ إلى جهةٍ خاصّةٍ. كتقييدِ الفرديةِ بثقةٍ، أو بلدٍ معيَّنٍ، كمكَّةَ والبصرةِ، والكوفةِ، أو بكونهِ لم يروِهِ من أهلِ البصرةِ، أو الكوفةِ - مثلاً - إلاّ فلانٌ، أو لم يروِهِ عن فلانٍ إلاّ فلانٌ. ونحوِ ذلك. فمثالُ تقييدِ الانفرادِ بكونهِ لم يروِهِ عن فلانٍ إلاّ فلانٌ: حديثٌ رواهُ أصحابُ السُّنن

(1/268)


الأربعةِ منِ طريق سفيانَ بنِ عُيينةَ، عن وائلِ بنِ داودَ، عن ابنِهِ بكرِ بنِ وائلٍ، عن الزهريِّ، عن أنسٍ أنَّ النبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أوْلَمَ على صَفِيَّةَ بِسَوِيقٍ، وتَمْرٍ)) . قالَ الترمذيُّ: حديثٌ غريبٌ. وقالَ ابنُ طاهرٍ في أطرافِ الغرائبِ: غريبٌ من حديثِ بكرِ بنِ وائلٍ عنه. تفرّدَ به وائلُ بنُ داودَ، ولم يروِهِ عنه غيرُ سفيانَ بنِ عيينةَ. انتهى. فلا يلزمُ من تفرّدِ وائلٍ به عن ابنهِ بكرٍ تفرّدُهُ به مطلقاً. فقد ذكرَ الدارقطنيُّ في " العللِ " أنهُ رواهُ محمّدُ بن الصَّلْتِ التَّوَّزيُّ، عن ابنِ عُيينةَ، عن زيادِ بنِ سعدٍ، عن الزهريِّ، قال: ولم يتابعْ عليهِ. والمحفوظُ عن ابنِ عُيينةَ، عن وائلٍ، عن ابنِهِ. ورواهُ جماعةٌ عن ابنِ عيينةَ، عن الزهريِّ بغيرِ واسطةٍ.
ومثالُ تقييدِ الانفرادِ بالثقةِ: حديثُ أنَّ النبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأُ في الأضحى،
والفطرِ: بِقَافْ، واقتربتِ الساعةُ. رواه مسلمُ وأصحابُ السنَنِ من روايةِ ضَمْرةَ بنِ

(1/269)


سعيدٍ المازنيِّ، عن عُبيدِ اللهِ بنِ عبدِ اللهِ، عن أبي واقدٍ اللَّيثيِّ، عن النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهذا الحديثُ لم يروِهِ أحدٌ من الثقاتِ إلا ضَمْرَةَ.
قالَ شيخُنا علاءُ الدينِ ابنُ التركمانيِّ في " الدرِّ النقي ": مدارُهُ على ضَمْرةَ - يريدُ حديثَ أبي واقدٍ -. وإنّما قيّدتُ هذا الحديثَ بقولي: أحدٌ من الثقاتِ؛ لأنَّ الدارقطنيَّ رواهُ من روايةِ ابنِ لَهِيعَةَ، عن خالدِ بنِ يزيدٍ، عن الزهريِّ، عن عروةَ، عن عائشةَ، عن النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وابنُ لَهِيعَةَ ضَعَّفَهُ الجمهورُ.
ومثالُ ما انفردَ به أهلُ بلدةٍ: ما رواهُ أبو داودَ عن أبي الوليدِ الطيالسيِّ، عن همَّامٍ، عن قَتَادةَ، عن أبي نَضْرةَ، عن أبي سعيدٍ، قال: ((أمرَنا رسولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنْ نقرأَ بفاتحةِ الكتابِ، وما تَيَسَّرَ)) . قالَ الحاكمُ: تفرّدَ بذكرِ الأمرِ فيهِ أهلُ البصرةِ من أولِ الإسنادِ إلى آخرِه. ولم يشركْهم في هذا اللفظِ سِواهم. ونحوُ حديثِ عبدِ اللهِ بنِ زيدٍ في صِفةِ وُضوءِ رسولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((وَمَسحَ رأسَهُ بماءٍ غَيْرِ فَضْلِ يَدِهِ)) رواهُ

(1/270)


مسلمٌ وأبو داودَ والترمذيُّ. قالَ الحاكمُ: هذهِ سنةٌ غريبةٌ تفرّدَ بها أهلُ مصرَ ولم يشاركهُم فيها أحدٌ.
وقولُهُ: (فإنْ يُريدوا واحداً من أهلِها) أي: فإن يريدوا بقولهم: انفردَ بهِ أهلُ البصرةِ، أو هو من أفرادِ البصريين، ونحوَ ذلك واحداً من أهلِ البصرةِ انفردَ به متجوّزينَ بذلك كما يضافُ فعلُ واحدٍ من قبيلةٍ إليها مجازاً فاجعلْه من القسمِ الأولِ، وهو الفردُ المطلقُ. مثالُهُ ما تقدّمَ عند ذكرِ المنكرِ من روايةِ أبي زُكَيْرٍ، عن هِشامِ بنِ عروةَ، عن أبيهِ، عن عائشة مرفوعاً: كُلوا البلحَ بالتمرِ ... الحديثَ. قالَ الحاكمُ: هو من أفرادِ البصريينَ عن المدنيينَ تفرّدَ به أبو زُكيرٍ، عن هشامِ بنِ عُروة. انتهى. فجعلَهُ من أفرادِ البصريينَ، وأرادَ به واحداً منهم.
وليس في أقسامِ الفردِ المقيّدِ بنسبةٍ إلى جهةٍ خاصّةٍ ما يقتضي الحكمَ بِضَعْفِها من حيثُ كونُها أفراداً، لكن إذا كانَ القيدُ بالنسبةِ لروايةِ الثقةِ كقولِهِم: لم يروِهِ ثقةٌ إلاّ فلانٌ، فإنَّ حكمَهُ قريبٌ من حكمِ الفردِ المطلقِ؛ لأنَّ روايةَ غيرِ الثقةِ كَلا روايةٍ، إلا أنْ يكونَ قَدْ بلغَ رتبةَ مَنْ يُعتبرُ بحديثه. فلهذا قِيْلَ: (يقربُ) . ولم يُجعَلْ حكمُه حكمَ الفردِ المطلقِ من كُلِّ وجهٍ.

(1/271)


المُعَلَّلُ

193.... وَسَمِّ مَا بِعِلَّةٍ مَشْمُوْلُ ... مُعَلَّلاً، وَلاَ تَقُلْ: مَعْلُوْلُ
194.... وَهْيَ عِبَارَةٌ عَنَ اسْبَابٍ طَرَتْ ... فِيْهَا غُمُوْضٌ وَخَفَاءٌ أثَّرَتْ
195.... تُدْرَكُ بِالخِلاَفِ وَالتَّفَرُّدِ ... مَعَ قَرَائِنَ تُضَمُّ، يَهْتَدِيْ
196.... جِهْبِذُهَا إلى اطِّلاَعِهِ عَلَى ... تَصْويْبِ إرْسَالٍ لِمَا قَدْ وُصِلاَ
197.... أوْ وَقْفِ مَا يُرْفَعُ، أوْ مَتْنٍ دَخَلْ ... في غَيْرِهِ، أوْ وَهْمِ وَاهِمٍ حَصَلْ
198.... ظَنَّ فَأمْضَى، أوْ وَقَفْ فأحْجَمَا ... مَعْ كَوْنِهِ ظَاهِرَهُ أنْ سَلِمَا
أي: وسمِّ الحديثَ الذي شملتْهُ علّةٌ من عللِ الحديثِ معلَّلاً. ولا تسمِّهِ معلولاً. وقد وقعَ في عبارةِ كثيرٍ من أهلِ الحديثِ تسمّيتُهُ بالمعلولِ. وذلك موجودٌ في كلامِ الترمذيِّ، وابنِ عَدِيٍّ، والدارقطنيِّ، وأبي يعلى الخليليِّ، والحاكمِ وغيرِهم. قالَ ابنُ الصلاحِ: ((وذلك منهم، ومن الفقهاءِ في قولهم في باب القياس: العلّةُ والمعلولُ

(1/272)


مرذولٌ عند أهلِ العربية واللغة)) . وقال النوويُّ: ((إنّهُ لَحْنٌ)) . قلتُ: والأجودُ في تسميتِهِ: المُعَلُّ. وكذلك هو في عبارةِ بعضِهم. وأكثرُ عباراتِهم في الفعلِ منه، أنَّهم يقولون: أعَلَّهُ فلانٌ بكذا. وقياسُهُ: مُعَلٌّ. وهو المعروفُ في اللغةِ. قالَ الجوهريُّ: لا أعلَّكَ اللهُ، أي: لا أصابَكَ بعِلَّةٍ. وقالَ صاحبُ المحكمِ: واستعملَ أبو إسحاقَ لفظةَ المَعْلولِ في المُتَقارِبِ من ((العَروضِ)) . ثم قال: والمتكلِّمونَ يستعمِلونَ لفظةَ المعلولِ في مثلِ هذا كثيراً. قال: وبالجملةِ فَلَسْتُ منه على ثِقَةٍ ولا ثَلَجٍ؛ لأنَّ

(1/273)


المعروفَ إنّما هو أعلَّهُ اللهُ، فهو مُعَلٌّ. اللهمَّ إلاَّ أنْ يكونَ على ما ذهبَ إليه سيبويهِ، من قولِهم: مَجْنُونٌ، ومَسلولٌ من أنّهما جاءا على جَنَنْتُه وسَللْتُه؛ وإنْ لم يُستَعملا في الكلام استُغنيَ عنهما بـ: أفعلْتُ، قالوا: وإذا قالوا: جُنَّ وَسُلَّ. فإنّما يقولونَ جُعِلَ فيه الجُنونُ والسِّلُّ. كما قالوا: حُرِقَ وفُسِلَ. انتهى.
وأمّا عَلَّلَهُ، فإنّما يستعملُها أهلُ اللغةِ بمعنى: ألهاهُ بالشيءِ وشغلَهُ به. من تعليلِ الصبيِّ بالطعامِ.
والعلّةُ عبارةٌ عن أسبابٍ خفيةٍ غامضةٍ، طرأتْ على الحديثِ، فأثّرتْ فيه، أي: قدحتْ في صحتِهِ. وحذفتْ همزةُ طرأت في النَّظْمِ تخفيفاً، وأنشدَ الأخفشُ:

إذَا قَلَّ مَاْلُ المَرْءِ قَلَّ صَدِيْقُهُ ... واوْمَتْ إليهِ بِالعُيُوْبِ الأصَاْبعُ
حكاهُ صاحبُ المحكمِ في مادةِ: روى، مثالاً لحرف الروي.

(1/274)


وتدركُ العلةُ بتفردِ الراوي، وبمخالفةِ غيرِهِ له، مع قرائنَ تنضمُّ إلى ذلك يهتدي الجهبذُ، أي: الناقدُ بذلك إلى اطلاعِهِ على إرسالِ في الموصول، أو وقفٍ في المرفوعِ، أو دخولِ حديثٍ في حديثٍ، أو وهمِ واهمٍ بغيرِ ذلكَ، بحيثُ غلبَ على ظنِّهِ ذلك، فأمضاهُ، وحكمَ بهِ، أو تردَّدَ في ذلك فوقف وأحْجَمَ عن الحكمِ بصحةِ الحديثِ. وإنْ لم يغلبْ على ظنهِ صحةُ التعليلِ بذلك مع كونِ الحديثِ المعلِّ ظاهرهُ السلامةُ من العلّةِ.
وإنْ، في قولي: (إنْ سلما) ، مصدريةٌ. قالَ الخطيبُ: السبيلُ إلى معرفةِ علةِ الحديثِ أنْ تجمعَ بين طرقِهِ، وتنظرَ في اختلافِ رواتِهِ، وتعتبرَ بمكانهِم من الحفظِ، ومنزلتِهِم في الإتقانِ والضبطِ. وقالَ ابنُ المدينيِّ: ((البابُ إذا لم تجمعْ طرقُه، لم يتبين خطؤهُ)) .
ومثالُ العلّةِ في الحديثِ، حديثٌ رواهُ الترمذيُّ وحسَّنَهُ، أو صحَّحَهُ وابنُ حبّانَ، والحاكمُ وصحَّحهُ من روايةِ ابن جُرَيجٍ، عن موسى بن عُقبةَ، عن

(1/275)


سُهَيل بنِ أبي صالحٍ، عن أبيهِ، عن أبي هريرةَ مرفوعاً: ((مَنْ جَلَسَ في مجلسٍ فَكثُرَ فيه لَغَطُهُ، ... الحديثَ)) . قال الحاكمُ في " علوم الحديث ": هذا حديثٌ مَنْ تأمَّلَهُ لم يشكَّ أنّه مِنْ شرطِ الصحيحِ، وله علّةٌ فاحشةٌ. ثم روى أنَّ مسلماً جاء إلى البخاريِّ فسألهُ عن علتهِ، فقال محمدُ بنُ إسماعيلَ: هذا حديثٌ مليحٌ، ولا أعلمُ في الدنيا في هذا البابِ غيرَ هذا الحديثِ الواحدِ، إلا أنَّهُ معلولٌ. حدّثنا به موسى بنُ إسماعيلَ، قال: حدّثنا وُهَيبُ، قال: حدّثنا سُهيلٌ، عن عَوْنِ بنِ عبدِ اللهِ، قولُه. قالَ البخاريُّ: هذا أولى فإنّهُ لا يُذكَرُ لموسى بنِ عُقبةَ سماعٌ من سهيلٍ. هكذا أعلَّ الحاكمُ في علومِهِ هذا الحديثَ بهذه الحكايةِ. وغالبُ ظنِّي أنَّ هذهِ الحكايةَ ليست بصحيحةٍ، وأنا أتهمُ بها أحمدَ بنَ حمدونَ القَصَّارَ راويَها عن مسلمٍ.
وقدْ بينتُ ذلكَ في النكتِ التي على كتابِ ابنِ الصلاحِ.

(1/276)


199.... وَهْيَ تَجِيءُ غَالِباً في السَّنَدِ ... تَقْدَحُ في المتْنِ بِقَطْعِ مُسْنَدِ
200.... أوْ وَقْفِ مَرْفُوْعٍ وَقَدْ لاَ يَقْدَحُ ... (كَالبَيِّعَانِ بالخِيَار) صَرَّحُوا
201.... بِوَهْمِ (يَعْلَى بْنِ عُبَيدٍ) : أبْدَلا ... (عَمْراً) بـ (عَبْدِ اللهِ) حِيْنَ نَقَلا
202.... وَعِلَّةِ المتْنِ كَنَفْي البَسْمَلَهْ ... إذْ ظَنَّ رَاوٍ نَفْيَها فَنَقَلَهْ
203.... وَصَحَّ أنَّ أَنَساً يَقُوْلُ: (لا ... أحْفَظُ شَيْئاً فِيهِ) حِيْنَ سُئِلاَ

العلّةُ تكونُ في الإسنادِ - وهو الأغلبُ الأكثرُ - وتكونُ في المتنِ.

(1/277)


ثُمَّ العلةُ في الإسنادِ قدْ تقدحُ في صحةِ المتنِ أيضاً، وقد لا تقدحُ. فأما علّةُ الإسنادِ التي تقدحُ في صحةِ المتنِ، فكالتعليلِ بالإرسالِ، والوقفِ. وأما علّةُ الإسنادِ التي لا تقدحُ في صحةِ المتنِ، فكحديثٍ رواه يَعْلَى بنُ عُبيدِ الطَّنَافسيُّ أحدُ رجالِ الصحيحِ، عن سفيانَ الثَّوريِّ، عن عَمْرِو بنِ دينارٍ، عن ابنِ عمرَ، عن النبيِّ (، قالَ: ((البَيِّعَان بالخِيَارِ)) ، الحديثَ. فوَهِمَ يَعْلَى بنُ عُبيدٍ على سفيانَ في قولِهِ: عمرِو بنِ دينارٍ. وإنّما المعروفُ من حديثِ سفيانَ، عن عبدِ اللهِ بنِ دينارٍ، عن ابنِ عُمَرَ. هكذا رواهُ الأئمّةُ من أصحابِ سفيانَ أبو نُعيمٍ الفَضْلُ بن دُكَين، وعُبيدُ الله بنُ موسى العَبْسيُّ،

(1/279)


ومحمّدُ بنُ يوسفَ الفِرْيابيُّ، ومَخْلَدُ بنُ يزيدَ، وغيرُهم. وهكذا رواهُ عن عبدِ اللهِ بنِ دينارٍ شعبةُ، وسفيانُ بنُ عُيينةَ ويزيدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ الهادِ، ومالكُ بنُ أنسٍ من روايةِ ابنِ وَهْبٍ عنه. والحديثُ مشهورٌ لمالكٍ، وغيرِهِ، عن نافعٍ، عن ابنِ عمرَ. وأما روايةُ عمرِو بنِ دينارٍ له فوهمٌ من يَعْلَى بنِ عُبيدٍ، وقال عثمانُ بنُ سعيدٍ، عن يحيى بنِ معينٍ: يعلى بنُ عُبيدٍ ضعيفٌ في الثوريِّ، ثقةٌ في غيرِهِ.
وقولي: (أبدلَ عمراً بعبدِ اللهِ) أي: تركَ عبدَ الله بنَ دينارٍ، وأتى بعمرِو بنِ دينارٍ، لأنَّ الباءَ تدخلُ على المتروكِ.
وأمّا علّةُ المتنِ، فمثالُهُ ما تفرّدَ به مسلمٌ في صحيحهِ من روايةِ الوليدِ بنِ مسلمٍ، حدّثنا الأوزاعيُّ، عن قتادةَ، أنّه كتبَ إليه يخبرُهُ عن أنسِ بنِ مالكٍ أنّهُ حَدَّثَهُ قال:

(1/280)


صليتُ خلفَ النبيِّ (، وأبي بكرٍ، وعمرَ، وعثمانَ؛ فكانوا يستفتحونَ بـ: الحمدُ للهِ رَبِّ العالمين، لا يذكرون بسم اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، في أولِ قراءةٍ، ولا في آخرِها.
ثم رواهُ من رواية الوليدِ، عن الأوزاعيِّ: أخبرني إسحاقُ بنُ عبدِ اللهِ ابنِ أبي طلحةَ أنهُ سمعَ أنسَ بنَ مالكٍ يذكرُ ذلك. وروى مالكٌ في " الموطّأ " عن حُميدٍ، عن أنسٍ، قال: صليتُ وراءَ أبي بكرٍ، وعمرَ، وعثمانَ، فكلُّهُم كانَ لا يقرأُ بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ. وزادَ فيه الوليدُ بنُ مسلمٍ، عن مالكٍ به: صليتُ خلفَ رسولِ اللهِ (، قال ابنُ عبد البرِّ: ((وهو عندهُم خطأٌ)) . وحديثُ أنسٍ قد أعلَّهُ الشافعيُّ (، فيما ذكرَهُ البيهقيُّ في " المعرفةِ " عنه أنّه قال في " سُننِ حَرْمَلةَ " جواباً لسؤالٍ أوردَهُ: فإنْ قالَ قائلٌ قد روى مالكٌ، فذكرَهُ. قال الشافعيُّ: قيل له خالَفَهُ سفيانُ بنُ عيينةَ والفَزَارِيُّ، والثَقفيُّ، وعددٌ لقيتُهم سبعةٌ أو ثمانيةٌ، مُؤتَفِقين مخالفينَ له.

(1/281)


قال: والعددُ الكثيرُ أولى بالحفظِ من واحدٍ. ثم رجّحَ روايتَهُم بما رواه عن سفيانَ، عن أيوبَ، عن قتادةَ، عن أنسٍ، قال: كان النبيُّ (، وأبو بكرٍ، وعمرَ يفتتحون القراءةَ بـ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ. قال الشافعيُّ: يعني يبدؤون بقراءةِ أمِّ القرآنِ، قبلَ ما يُقرأُ بعدَها. ولا يعني أنَّهم يتركونَ: بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ. وحكى الترمذيُّ عن الشافعيِّ في معنى الحديثِ مثلَ هذا. قالَ الدارقطنيُّ: ((هذا هو المحفوظُ عن قتادةَ وغيرِهِ، عن أنسٍ)) . قالَ البيهقيُّ: وكذلك رواهُ أكثرُ أصحابِ قَتادةَ، عن قتادةَ قال: وهكذا رواهُ إسحاقُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ أبي طلحةَ، وثابتٌ البُنانيُّ عن أنسٍ. انتهى. وممَّنْ رواه عن قتادةَ هكذا أيوبُ السَّخْتِيانيُّ، وشُعبةُ، وهِشامٌ الدَّسْتَوائيُّ،

(1/282)


وشَيْبانُ بنُ عبدِ الرحمنِ، وسعيدُ بنُ أبي عَرُوبةَ، وأبو عوانة وغيرهم.
قالَ ابنُ عبدِ البَّرِ: ((فهؤلاءِ حُفّاظُ أصحاب قتادةَ ليسَ في روايتهم لهذا الحديثِ ما يوجبُ سقوطَ: بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ من أولِ فاتحةِ الكتابِ. انتهى)) . وهذا هو اللفظُ المتفقُ عليه في الصحيحينِ وهو روايةُ الأكثرينَ. وما أوَّلهُ عليه الشافعيُّ مصرّحٌ به في روايةِ الدارقطنيِّ فكانوا يستفتحون بأمِّ القرآنِ فيما يجهرُ به. قال الدارقطنيُّ: هذا صحيحٌ. وأيضاً فلو قالَ قائلٌ إنَّ روايةَ حميدٍ منقطعةٌ بينه وبين أنسٍ؛ لم يكن بعيداً. فقد رواها ابنُ عديٍّ عن حميدٍ، عن قتادةَ، عن أنسٍ قال ابنُ عبدِ البَرِّ: ويقولون: إنَّ أكثرَ روايةِ حميدٍ، عن أنسٍ، إنّما سمعَها من قتادةَ، وثابتٍ عن أنسٍ. وقال ابنُ عبدِ البرِّ في " الاستذكارِ ": اختُلِفَ عليهم في لفظِهِ اختلافاً كثيراً مضطرباً متدافعاً. منهم مَنْ يقولُ فيه: صليتُ خلفَ رسولِ اللهِ (وأبي بكرٍ وعمرَ، ومنهم مَنْ يذكرُ عثمانَ، ومنهم مَنْ لا يذكرُ: فكانوا لا يقرؤونَ: بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ. ومنهم مَنْ قال: فكانوا لا يجهرونَ بـ: بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ. وقال كثيرٌ منهم: فكانوا يفتتحونَ

(1/283)


القراءةَ بـ: الحمدُ لله رَبِّ العالمينَ. وقال بعضُهم: فكانوا يجهرونَ بـ: بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ. وقال بعضُهم: كانوا يقرؤون: بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ. قال: وهذا اضطرابٌ لا تقومُ معَهُ حجةٌ لأحدٍ من الفقهاءِ الذين يقرؤون بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، والذين لا يقرؤونها.
وقولي: (إذ ظنَّ راوٍ نفيها، فنقله) أي: إذ ظنَّ بعضُ الرواةِ فَهْماً منه أنَّ معنى قولِ أنسٍ: يستفتحون بـ: الحمدُ للهِ، أنَّهم لا يُبَسْمِلونَ، فرواهُ على فَهْمِهِ بالمعنى، وهو مخطئٌ في فَهْمِهِ. وممَّا يدلُّ على أنَّ أنساً لم يُرِدْ بذلك نفيَ البسملةِ، ما صحَّ عنه مِنْ روايةِ أبي مسلمةَ سعيدِ بنِ يَزِيْدَ، قال: سألتُ أنسَ بنَ مالكٍ أكانَ رسولُ اللهِ (يستفتح بـ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمين أو بـ: بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيم؟ فقالَ: إنّك لتسألني عن شيءٍ ما أحفظُهُ، وما سألني عنه أحدٌ قبلَكَ. رواه أحمدُ في مسندِهِ، وابنُ خزيمة في " صحيحهِ "، والدارقطنيُّ وقال: هذا إسنادٌ صحيحٌ. قال البيهقيُّ في " المعرفة ": في هذا دلالةٌ على أنَّ مقصودَ أنسٍ ما ذكرَهُ الشافعيُّ. وقد اعترضَ ابنُ

(1/284)


عبد البرِّ على هذا الحديثِ بأنْ قال: ((مَنْ حفظَهُ عنه حجّةٌ على مَنْ سألَهُ في حالِ نسيانِهِ)) . وأجابَ أبو شَامةَ بأنّهما مسألتانِ. فسؤالُ أبي مسلمة عن البسملةِ وتركِها، وسؤالُ قتادةَ عن الاستفتاح بأيِّ سورةٍ. وفي صحيحِ مسلم: أنَّ قتادةَ قال: نحنُ سألناهُ عنه، فاتضح أنَّ سؤالَ قتادةَ كان غيرَ سؤالِ أبي مسلمة. وأما قولُ ابنِ الجوزيِّ في " التحقيق ": ((حديثُ أبي مسلمة ليسَ في الصحاحِ، فلا يُعارِضُ ما في الصحاح. وإنَّ الأئمةَ اتفقوا على صحةِ حديثِ أنسٍ)) ففيه نظرٌ. فهذا الشافعيُّ، والدارقطنيُّ، والبيهقيُّ لا يقولون بصحةِ حديث أنسٍ الذي فيه نفيُ البسملة. فلا يصحُّ نقلُ اتفاقِ الأئمةِ عليه، ولا يُردُّ حديثُ أبي مسلمةِ، بكونهِ ليس في الصحاحِ. فقد صحّحهُ ابنُ خزيمةَ والدارقطنيُّ. وأيضاً فقد وصفَ أنسٌ قراءةَ النبيِّ (بـ: بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ.
فروى البخاريُّ في صحيحِهِ من روايةِ قتادةَ، قال: سُئلَ

(1/285)


أنسُ بنُ مالكٍ، كيف كانت قراءةُ رسولِ اللهِ (؟ قال: كانت مدّاً. ثمَّ قرأَ: بِسْمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، يمدُّ بسمِ اللهِ. ويمدُّ الرحمنَ، ويمدُّ الرحيمَ. قال الدارقطنيُّ: هذا حديثٌ صحيحٌ. وكلُّهم ثقاتٌ. وقال الحازميُّ: هذا حديثٌ صحيحٌ لا يُعرفُ له علّةٌ. وفيه دلالةٌ على الجهرِ مطلقاً، وإنْ لم يُقَيَّدْ بحالةِ الصلاةِ. فيتناولُ الصلاةَ وغيرَ الصلاةِ. قال أبو شامةَ: وتقريرُ هذا أنْ يُقالَ: لو كانتْ قراءةُ رسولِ اللهِ (في أمرِ الجهرِ والإسرارِ تختلفُ في الصلاةِ وخارجِ الصلاةِ، لقال أنس لمَنْ سألَهُ عن أيِّ قراءتَيْهِ تسألُ؟ عن التي في الصلاةِ أم عن التي خارجَ الصلاةِ؟ فلما أجابَ مطلقاً عُلم أنَّ الحالَ لم يختلفْ في ذلكَ. وحيثُ أجابَ بالبسملةِ دونَ غيرِها من آياتِ القرآنِ، دلَّ على أنَّ النبيَّ (كان يجهرُ بالبسملةِ في قراءتهِ. ولولا ذلك لكان أنسٌ أجابَ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، أو غيرها من الآياتِ. قال: وهذا واضحٌ. قال: ولنا أنْ نقولَ: الظاهرُ أنَّ السؤالَ لم يكن إلاّ عن قراءتِهِ في الصلاةِ، فإنَّ الراوي قتادةُ، وهو راوي حديثِ أنسٍ ذاك. وقال فيه: نحنُ سألناهُ عنه. انتهى. فهذا ترجيحٌ لقراءةِ البسملةِ. وقد قالَ الحازميُّ: إنّهُ لا يُعرَفُ له علّةٌ. ولم يختلفْ على قتادةَ فيهِ. وأما حديثُ أنسٍ ذاكَ، فلهُ علّلٌ اختُلفَ على قتادةَ فيه. وأعلَّهُ الشافعيُّ بخطأِ الراوي في فَهْمِهِ، وأعلَّهُ ابنُ عبدِ البرِّ بالاضطرابِ. ومِنْ عِلَلِهِ أنهُ ليسَ متّصلاً بالسماعِ، فإنَّ قتادةَ كتبَ إلى الأوزاعيِّ به. والخلافُ في الكتابةِ معروفٌ، كما سيأتي.
وأما روايةُ مسلمٍ الثانيةُ فإنَّ مسلماً لم يسقْ لفظَها، وقد ساقَهُ ابنُ عبدِ البرِّ، كروايةِ الأكثرينَ، كانوا يفتتحونَ القراءةَ بـ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وليس فيها نفيُ

(1/286)


البسملةِ. رواها من روايةِ محمدِ بنِ كثيرٍ قال: حدّثنا الأوزاعيُّ وهذهِ أولى من روايةِ مسلمٍ؛ لأنَّ تلك من روايةِ الوليدِ بنِ مسلمٍ عن الأوزاعيِّ بالعنعنةِ، والوليدُ مدلّسٌ، كما تقدّم. وأيضاً فقد تقدمَ قولُ البيهقيِّ أنَّ روايةَ إسحاقَ، وثابتٍ هكذا، وهو خلافُ ما يوهمُهُ عملُ مسلمٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى.

204.... وَكَثُرَ التَّعْلِيْلُ بِالإرْسَالِ ... لِلوَصْلِ إنْ يَقْوَ عَلَى اتِّصَالِ
205.... وَقَدْ يُعِلُّوْنَ بِكُلِّ قَدْحِ ... فِسْقٍ، وَغَفْلَةٍ، وَنَوْعِ جَرْحِ
206.... وَمِنْهُمُ مَنْ يُطْلِقُ اسْمَ العِلَّةِ ... لِغَيْرِ قادحٍ كَوَصْلِ ثِقَةِ
207.... يَقُوْلُ: مَعْلُوْلٌ صَحِيْحٌ كَالذّيْ ... يَقُوْلُ: صَحَّ مَعْ شُذُوْذٍ احْتُذِيْ

لمَّا تقدّمَ أنَّ العلّةَ تكونُ غامضةً خفيةً في الحديثِ، ذكر أنّهم يُعِلُّونَ أيضاً بأمورٍ ليست خفيةً. كالإرسالِ، وفِسْقِ الراوي، وضَعْفِهِ، وبما لا يقدحُ أيضاً. قالَ ابنُ الصَّلاح: وكثيراً ما يُعللون الموصولَ بالمُرسلِ، مثلُ أنْ يجيءَ الحديثُ بإسنادٍ موصولٍ، ويجيءَ أيضاً بإسنادٍ منقطع أقوى من إسناد الموصولِ. قالَ: ولهذا اشتملتْ كتبُ عللِ الحديثِ على جمع طرقِهِ.

(1/287)


وقولي: (إنْ يَقْوَ) أي: إنْ يَقْوَ الإرسالُ على الاتّصالِ. وقد يُعِلُّوَنَ الحديثَ بأنواعِ الجرحِ، من الكذبِ، والغَفْلةِ، وسوءِ الحفظِ، وفسقِ الراوي وذلك موجودٌ في كتبِ عِلَلِ الحديثِ.
وبعضُهم يطلقُ اسمَ العلةِ على ما ليس بقادحٍ من وجوهِ الخلاف، كالحديثِ الذي وَصَلَهُ الثقةُ الضابطُ، وأرسلَهُ غيرُه، حتى قالَ: مِنْ أقسامِ الصحيحِ ما هو صحيحٌ معلولٌ. هكذا نقلَهُ ابنُ الصلاحِ عن بعضِهِم، ولم يسمِّه. وقائلُ ذلك هو أبو يعلى الخليليُّ.

(1/288)


قاله في كتابهِ " الإرشادِ " أنَّ الأحاديثَ على أقسامٍ كثيرةٍ. صحيحٍ متفقٍ عليه، وصحيحٍ معلولٍ، وصحيحٍ مختلفٍ فيه. ثم مَثَّلَ الصحيحَ المُعَلَّ بحديثٍ رواه إبراهيمُ بنُ طَهْمانَ، والنُّعمانُ بنُ عبدِ السلامِ، عن مالكٍ، عن محمّدِ بنِ عَجْلانَ، عن أبيهِ، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((للمملوكِ طعامُهُ وشرابُهُ)) . وقد رواه أصحابُ مالكٍ كلُّهم في " الموطّأ " عن مالكٍ، قال: بلغنا عن أبي هريرةَ. قال الخليليُّ: فقد صارَ الحديثُ بتبيُّنِ الإسنادِ صحيحاً يُعتَمَدُ عليه. قال: وهذا مِنَ الصحيحِ المبيَّن بحجّةٍ ظهَرتْ. قال: وكانَ مالكٌ يرسِلُ أحاديثَ لا يُبيِّنُ إسنادَها. وإذا استقصى عليه مَنْ يتجاسَرُ أنْ يسألَهُ ربّما أجابه إلى الإسنادِ، وأتيتُ بلفظٍ معلولٍ. وكذلك ابنُ الصلاحِ تَبَعاً لمَنْ حكى كلامَهُ في ذلك، وهو الخليليُّ.
وقولي: (كالذي يقولُ ... ) إلى آخره، أي: كما قالَ بعضُهم من الصحيحِ ما هو صحيحٌ شاذٌّ.

208.... وَالنَّسْخَ سَمَّى التِّرْمِذِيُّ عِلَّهْ ... فَإنْ يُرِدْ في عَمَلٍ فَاجْنَحْ لَهْ

أي وسمَّى الترمذيُّ النسخَ علةً من عللِ الحديثِ

(1/289)


وقولي فإنْ يرد، هوَ مِنَ الزوائدِ على ابنِ الصلاحِ، أي فإنْ أرادَ الترمذيُّ أنّهُ علّةٌ في العملِ بالحديثِ، فهو كلامٌ صحيحٌ فاجنح له، أي مِلْ إلى كلامِهِ وإنْ يُرد أنّهُ علةٌ في صحةِ نقلِهِ، فلا؛ لأنَّ في الصحيحِ أحاديثَ كثيرةً منسوخةً، وسيأتي الكلامُ على النسخِ في فصلِ الناسخِ والمنسوخِ