شرح (التبصرة والتذكرة = ألفية العراقي) الْعَالِي وَالنَّازِلُ
737.... وَطَلَبُ الْعُلُوِّ سُنَّةٌ وَقَدْ ... فَضَّلَ
بَعْضٌ النُّزُوْلَ وَهْوَ رَدّْ
738.... وَقَسَّمُوْهُ خَمْسَةً فَالأَوَّلُ ... قُرْبٌ مِنَ
الرَّسُوْلِ وَهْوَ الأَفْضَلُ
739.... إِنْ صَحَّ الاسْنَادُوَقِسْمُ القُرْبِ ... إلى
إِمَامٍ وَعُلُوٍّ نِسْبِي
740.... بِنِسْبَةٍ لِلْكُتُبِ السِّتَّةِ إِذْ ... يَنْزِلُ
مَتْنٌ مِنْ طَرِيْقِهَا أُخِذْ
روينا عن أحمدَ بنِ حنبلٍ، قالَ: طلبُ الإسنادِ العالي سُنَّةٌ
عمَّنْ سلفَ. وروينا عن محمدِ بنِ أسلمَ الطوسيِّ، قالَ:
قُرْبُ الإسنادِ قُرْبٌ، أو قُرْبَةٌ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ.
وقالَ الحاكمُ: ((وفي طلبِ الإسناد العالي سُنَّةٌ صحيحةٌ،
فذكرَ حديثَ أنسٍ في مجيءِ الأعْرَابيِّ، وقولهِ: يا محمدُ،
أَتَانا رَسُولُكَ فَزَعَمَ كذا، ... الحديثَ. قالَ: ولو كانَ
طلبُ العُلُوِّ في الإسنادِ غيرَ مستحَبٍّ لأنكرَ عليهِ
سؤالَهُ عمَّا أخبرَهُ رسولُهُ عنهُ، ولأَمَرَهُ بالاقتصارِ
على ما أخبرَهُ الرسولُ عنهُ)) . ولم يحكِ الحاكمُ خلافاً في
تفضيلِ العُلُوِّ،
(2/59)
وحكاهُ ابنُ خَلاَّدٍ، ثُمَّ الخطيبُ،
فحكيا عن بعضِ أهلِ النَّظَرِ: أنَّ التَّنَزُّلَ في الإسنادِ
أفضلُ؛ لأنَّهُ يجبُ عَلَى الرَّاوِي أَنْ يجتهدَ في مَتْنِ
الحديثِ، وتأويلهِ، وفي الناقلِ وتَعديلهِ، وكلَّما زادَ
الاجتهادُ زادَ صاحبُهُ ثواباً. قالَ ابنُ خَلاَّدٍ: ((وهذا
مذهبُ مَنْ يزعُمُ أَنَّ الخبرَ أقوى مِنَ القياسِ)) . قالَ
ابنُ الصلاحِ: ((وهذا مذهبٌ ضعيفُ
الحجَّةِ)) . قالَ ابنُ دقيقِ العيدِ: لأنَّ كثرةَ المشقةِ
ليستْ مطلوبةً لنفسِها، قالَ: ((ومراعاةُ المعنى المقصودِ من
الروايةِ، وَهُوَ الصحةُ أوْلَى)) . قلتُ: وهذا بمثابةِ مَنْ
يَقْصِدُ المسجدَ لصلاةِ الجماعةِ، فيسلُكُ طريقةً بعيدةً
لتكثير الخُطَا، وإنْ أدَّاهُ سلوكُها إلى فواتِ الجماعةِ التي
هي المقصودُ. وذلكَ أنَّ المقصودَ من الحديثِ التَّوَصُّلُ إلى
صحَّتِهِ وبُعْدُ الوَهَمِ. وكلَّما كثُرَ رجالُ الإسنادِ
تطرَّقَ إليهِ احتمالُ الخطأ والخلَلِ، وكلَّما قَصُرَ السندُ
كانَ أسلمَ. اللَّهُمَّ إلاَّ أنْ يكونَ رجالُ السندِ النازلِ،
أوثقَ، أو أحفظَ، أو أفقهَ، ونحوَ ذلكَ، على ما سيأتي في آخرِ
هذا الفصلِ.
ثمَّ العلوُّ في الإسنادِ على خمسةِ أقسامٍ، كما قَسَّمَهُ أبو
الفضلِ محمدُ بنُ طاهرٍ في جزءٍ لَهُ، أفردَهُ لذلكَ، وتبعَهُ
ابنُ الصَّلاحِ على كونِها خمسةَ أقسامٍ، وإنِ اختلفَ
كلامُهُمَا في مَاهِيَّةِ بعضِ الأقسامِ، كما سيأتي.
(2/60)
القسمُ الأولُ: القربُ من رسولِ اللهِ -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مِنْ حيثُ العددُ بإسنادٍ
نظيفٍ غيرِ ضعيفٍ. وإليهِ الإشارةُ بقولي: (إنْ صَحَّ
الاسنادُ) ، فأمَّا إذا كانَ قربُ الإسنادِ مع ضعفِ بعضِ
الرواةِ، فلا التفاتَ إلى هذا العلوِّ، لا سِيَّمَا إنْ كانَ
فيهِ بعضُ الكذَّابينَ المتأخِّرِينَ ممَّنْ ادَّعَى سماعاً من
الصحابةِ، كإبراهيمَ بنِ هُدْبَةَ، ودينارِ بنِ عبدِ اللهِ،
وخراشٍ، ونُعَيمِ بنِ سالمٍ، ويَعْلَى بنِ الأشْدَقِ وأبي
الدنيا الأشجِّ، ونحوِهم. قالَ الحافظُ أبو عبدِ اللهِ
الذهبيُّ في " الميزانِ ": ((متى رأيتَ المحدِّثَ يفرحُ بعوالي
أبي هُدْبَةَ، ويَعْلَى بنِ الأشْدَقِ، وموسى الطويلِ، وأبي
الدنيا، وهذا الضربِ، فاعلمْ أنَّهُ عَامِيٌّ بعدُ)) . وهذا
القسمُ الأوَّلُ هوَ أفضلُ أنواعِ العُلُوِّ، وأجلُّها،
وأعْلَى ما يقعُ للشيوخِ في هذا الزمانِ من الأحاديثَ
الصِّحَاحِ المتصلةِ بالسَّمَاعِ؛ ما هُوَ تُساعيُّ الإسنادِ،
ولا يقعُ ذلكَ في هذهِ الأزمانِ إلاَّ مِنَ " الغَيْلانياتِ "،
و" جُزْءِ الأنصاريِّ "، و" جُزْءِ الغِطْريفِ " فقطْ. أو ما
هوَ مأخوذٌ مِنْهَا. ولا يقعُ لأَمثالنِا من الصحيحِ المتصلِ
بالسماعِ، إلاَّ عُشاريُّ الإسنادِ، وَقَدْ يقعُ لنا التساعيُّ
الصحيحُ، وَلَكِنْ بإجازةٍ في الطريقِ،
واللهُ أعلمُ.
وقولُ الذهبيِّ في " تأريخ الإسلامِ " في ترجمةِ ابنِ
البخاريِّ: وهو آخرُ مَنْ كانَ في الدنيا بينَهُ وبينَ رسولِ
اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثمانيةُ رجالٍ
ثقاتٍ، فإنَّهُ يريدُ معَ اتصالِ السماعِ. أمَّا مَعَ الإجازةِ
فقدْ تأخّرَ بعدَهُ جماعةٌ، واللهُ أعلمُ.
(2/61)
والقسمُ الثاني من أقسامِ العلوِّ: القربُ
إلى إمامٍ من أئِمَّةِ الحديثِ، كالأعمشِ وهشيمٍ، وابنِ جريجٍ،
والأوزاعيِّ، ومالكٍ، وسفيانَ، وشعبةَ، وزُهيرٍ، وحمَّادَ بنِ
زيدٍ، وإسماعيلَ بنِ عُلَيَّةَ، وغيرِهمِ من أئِمَّةِ الحديثِ.
وكلامُ الحاكمِ يشيرُ إلى ترجيحِ هذا القسمِ على غيرِهِ،
وأنَّهُ المقصودُ من العلُوِّ، وإنما يوصفُ بالعلوِّ إذا صحَّ
الإسنادُ إلى ذلكَ الإمامِ بالعددِ اليسيرِ، كما صرَّحَ بهِ
الحاكمُ، وهو كذلكَ، كما مَرَّ في القسمِ الأوَّلِ. وأعلى ما
يقعُ اليومَ للشيوخِ بيَنهمُ وبينَ هؤلاءِ الأئِمَّةِ مِنْ
حيثُ العددُ معَ صحةِ السَّنَدِ، واتِّصَالِهِ بالسَّماعِ
أَنَّ بينَهمُ وبينَ الأعمشِ وهشيمٍ، وابنِ جُرَيْجٍ،
والأوزاعيِّ، ثمانيةً. وبينَهمُ وبينَ مالكٍ والثوريِّ،
وشعبةَ، وزهيرٍ، وحمَّادِ بنِ سلمةَ، سبعةٌ، وبينَهم وبينَ
ابنِ عُلَيَّةَ ستةٌ. وقدْ سَاوينا الشُّيُوخَ بالنسبةِ إلى
هشيمٍ، فبيننا وبينَهُ سبعةٌ بالسَّمَاعِ الصَّحيحِ المتصلِ.
والقسمُ الثالثُ: العلوُّ المقيَّدُ بالنسبةِ إلى روايةِ
الصحيحينِ، وبقيةِ الكتبِ السِّتَّةِ. وسَمَّاهُ ابنُ دقيقِ
العيدِ: علوَّ التنزيلِ، ولم يذكرِ ابنُ طاهرٍ هذا القسمَ،
وجعلَ القسمَ الثالثَ: علوَّ تَقدُّمِ السَّمَاعِ، وجمعَ
بينَهُ وبينَ قسمِ تقدُّمِ الوفاةِ، فجعلهُمَا قسماً واحداً،
كما سيأتي ولكنَّ هذا القسمَ يؤخذُ من كلامِ ابنِ طاهرٍ في
آخرِ الجزءِ المذكورِ، وإنْ لم يذكرْهُ في الأقسامِ. وليسَ هذا
علوّاً مطلقاً في جميعِ هذا القسمِ، وإنّما هو بالنسبةِ لهذهِ
الكتبِ، إذ الراوي لَوْ رَوَى الحديثَ من طريقِ كتابٍ مِنَ
السِّتَّةِ يقعُ أنزلَ مِمَّا لو رواهُ من غيرِ طريقِهَا، وقد
يكونُ عالياً مطلقاً أيضاً، مثالُهُ: حديثٌ رواهُ الترمذيُّ
لابنِ مسعودٍ مرفوعاً: يومَ كلَّمَ اللهُ موسى كانتْ عليهِ
جُبَّةُ صُوْفٍ ... الحديثَ.
(2/62)
رواهُ الترمذيُّ عن عليٍّ بنِ حُجْرٍ عن
خَلَفِ بنِ خَليفةَ. فلو رويناهُ من طريقِ الترمذيِّ وقعَ
بينَنَا وبينَ خَلَفٍ تسعةٌ، فإذا رويناهُ من " جزءِ ابنِ
عرفَةَ "، وقعَ بيننا وبينَه سبعةٌ بعلوِّ درجتينِ. فهذا معَ
كونهِ علواً بالنسبةِ، فهو أيضاً علوٌّ مطلقٌ، ولا يقعُ اليومَ
لأحدٍ هذا الحديثُ أعلى من هذا، وكلُّ واحدٍ منْ شَيْخِنا فَمن
بَعْدَهُ إلى خَلَفٍ هو آخرُ مَنْ رواه عن شيخِهِ بالسَّماعِ
من الجزءِ المذكورِ، وقولُ ابنِ الصلاحِ: ((إنَّ هذا النوعَ من
العلوِّ، عُلوٌّ تابعٌ لنزولٍ)) محمولٌ عَلَى الغالبِ، وإلاَّ
فهذا الحديثُ المذكورُ عالٍ للترمذيِّ، وعالٍ لنا، وليسَ هُوَ
عالياً بالنسبةِ فقطْ. وهذا النوعُ هُوَ الَّذِي يقعُ فِيْهِ
الموافقاتُ، والإبدالُ، والمساواةُ، والمصافحاتُ، عَلَى ما
سيأتي بيانُها.
741.... فَإِنْ يَكُنْ فِي شَيْخِهِ قَدْ وَافَقَهْ ... مَعَ
عُلُوٍّ فَهُوَ الْمُوَافَقَهْ
742.... أَوْ شَيْخِ شَيْخِهِ كَذَاكَ فَالْبَدَلْ ... وَإِنْ
يَكُنْ سَاوَاهُ عَدَّاً قَدْ حَصَلْ
743.... فَهْوَ الْمُسَاوَاةُ وَحَيْثُرَاجَحَهْ ... الأَصْلُ
باِلْوَاحِدِ فَالْمُصَاَفَحَهْ
هذا إشارةٌ إلى بيانِ الموافقةِ، وما ذُكِرَ معها. فالموافقةُ:
أنْ يرويَ الراوي حديثاً في أحدِ الكُتبِ السِّتَّةِ بإسنادٍ
لنفسِهِ، مِنْ غيرِ طرِيقِهَا، بحيثُ يجتمعُ مع أحدِ الستةِ في
شيخِهِ معَ علوِّ هذا الطريقِ الذي رواهُ منه على ما لو رواهُ
من طريقِ أحدِ الكتبِ الستةِ. مثالهُ: حديثٌ رواهُ البخاريُّ
عن محمدِ بنِ عبدِ اللهِ الأنصاريِّ، عن حُمَيْدٍ، عن أنسٍ
مرفوعاً:
(2/63)
((كتابُ اللهِ القِصَاصُ)) فإذا رويناهُ
من" جزءِ الأنصاريِّ " يقعُ موافقةً للبخاريِّ في شيخِهِ مع
علوِّ درجةٍ.
وأمَّا البَدَلُ: فهو أنْ يوافِقَهُ في شيخِ شيخِهِ مع العلوِّ
أيضاً. وإلى ذلكَ أشرتُ بقولي: (كذاكَ) . مثالُهُ: حديثُ ابنِ
مسعودٍ الذي رواهُ الترمذيُّ، وتقدَّمَ في شرحِ الأبياتِ التي
قبلَ هذهِ فهذا يطلقونَ عليهِ: البَدَلَ، وقدْ يُسمُّونَهُ
موافقةً مقيَّدةً، فيقالُ: هو موافقةٌ في شيخِ شيخِ الترمذيِّ
مثلاً. ويؤخذُ ذلكَ من قولي: (أو شيخِ شيخِهِ) أي: وإنْ يكنْ
قدْ وافَقَهُ في شيخِ شيخهِ فسَمَّاهُ موافقةً في شيخِ الشيخِ،
وأمَّا تقييدُ الموافقةِ والبدلِ بصورةِ العلوِّ فكذا ذكرَهُ
ابنُ الصَّلاحِ، أنَّهُ لا يطلقُ عليهِ ذلكَ إلاَّ مَعَ
العلوِّ، فإنَّهُ قالَ: ولوْ لَمْ يكنْ ذلكَ عالياً فهوَ أيضاً
موافقةٌ وبدلٌ، لكنْ لا يُطلقُ عليهِ اسمُ الموافقةِ والبدلِ،
لعدمِ الالتفاتِ إليهِ. قلتُ: وفي كلامِ غيرِهِ من
المخَرِّجِيْنَ إطلاقُ اسمِ الموافقةِ والبدلِ؛ مع عدمِ
العلوِّ، فإنْ علا قالَوا: موافقةً عاليةً، أوْ بدلاً عالياً،
كذا رأيتُهُ في كلامِ الشيخِ جمالِ الدينِ الظاهريِّ، وغيرِهِ،
ورأيتُ في كلامِ الظاهريِّ، والذهبيِّ: فوافقناهُ بنزولٍ.
فسمَّياهُ معَ النُّزُولِ موافقةً، ولكنْ مقيَّدةً
بالنُّزُولِ، كما قَيَّدَهَا غيُرهُما بالعلوِّ.
وأمَّا المُسَاوَاةُ: فهو أنْ يكونَ بينَ الراوي وبينَ
الصحابيِّ، أوْ مَنْ قَبْلَ الصحابيِّ إلى شيخِ أحدِ
السِّتَّةِ كما بَيْنَ أحدِ الأئمةِ السِّتَّةِ وبينَ ذلكَ
الصَّحابيِّ أو مَنْ قَبْلَهُ على ما ذكرَ. أو يكونُ بينَهُ
وبينَ النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما بينَ
أحدِ الأئمةِ الستةِ وَبيْنَ النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - من العددِ. وهذا كُلُّهُ كانَ يوجدُ قديماً،
وأمَّا اليومُ فلا توجدُ المساواةُ إلاَّ بأنْ يكونَ عَدُّ ما
بينَ الراوي الآنَ، وبينَ النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، كَعَدِّ ما بينَ أحدِ الأئِمَّةِ السِّتَّةِ،
وبينَ النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومثالُ
المساواةِ لشيوخِنَا، حديثُ النهي عن نكاحِ الْمُتْعَةِ،
أخبرنا به محمدُ بنُ إسماعيلَ بنِ عبدِ العزيزِ، قالَ: أخبرنا
عبدُ العزيزِ بنُ عبدِ المنعمِ الحرَّانيُّ، قالَ: أنبأنا
أسعدُ بنُ سعيدٍ بنِ رَوْحٍ، وعَفِيفةُ بنتُ
(2/64)
أحمدَ الفَارفانيةُ، واللَّفظُ لها، قالاَ:
أخبَرَتْنَا فاطمةُ بنتُ عبدِ اللهِ الْجُوْزدانيِّةُ، قالَتْ:
أخبرنا أبو بكرِ بنُ رِيْذَةَ، قالَ: أخبرنا سُليمانُ بنُ
أحمدَ الطبرانيُّ، قالَ: حدَّثَنا أبو الزِّنْبَاعِ رَوْحُ بنُ
الفَرَجِ، قالَ: حَدَّثَنا يحيى بنُ بُكيرٍ، قالَ: حَدَّثَني
اللَّيثُ ح قالَ الطبرانيُّ: وحَدَّثَنا يوسفُ القاضي، قالَ:
حَدَّثَنا أبو الوليدِ الطيالسيُّ، قالَ: حَدَّثَنا ليثُ بنُ
سعدٍ، قالَ: حَدَّثَني الرَّبيعُ بنُ سَبْرَةَ الْجُهنيُّ، عن
أبيهِ - سَبْرَةَ - أنَّهُ قالَ: أذنَ لنا رسولُ الله - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالْمُتْعَةِ، ... الحديثَ، وفيهِ:
ثُمَّ إنَّ رسولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
قالَ: مَنْ كانَ عندَهُ شيءٌ منْ هذهِ
(2/65)
النِّساءِ اللاَّتي يُتَمَتَّعُ بِهنَّ
فَلْيُخَلِّ سَبيلَها، واللَّفظُ لحديثِ يحيىبنِ بُكَيرٍ.
هذا حديثٌ صحيحٌ أخرجه مسلمٌ والنسائيُّ، عن قُتيبةَ، عن
اللَّيثِ. فوقعَ بدلاً لهما عالياً. ووَرَدَ حديثُ النَّهْي عن
نكاحِ الْمُتْعَةِ من حديثِ جماعةٍ من الصحابةِ منهم: عليُّ
بنُ أبي طالبٍ وهو مُتَّفَقٌ عليهِ من حديثهِ من طريقِ مالكٍ.
وقد رواهُ النسائيُّ في جمعهِ "لحديثِ مالكٍ" عن زكريا بنِ
يحيى خيَّاطِ السُّنَّةِ، عنِ إبراهيمَ بنِ عبدِ اللهِ
الهرويِّ، عن سعيدِ بنِ محبوبٍ، عن عَبْثَرَ بنِ القاسمِ، عن
سفيانَ الثوريِّ، عن مالكٍ، عن ابنِ شهابٍ، عن عبدِ اللهِ،
والحسنِ ابنَي محمّدِ ابنِ عليٍّ، عن أبيهِمَا، عن عليٍّ.
فباعتبارِ هذا العددِ كأنَّ شيخَنا سَاوَى فيهِ النسائيَّ،
وكأَنِّي لَقيْتُ النسائيَّ وصافحْتُهُ بهِ، وللهِ الحمدُ.
وأمَّا المصافحةُ: فهوَ أنْ يعلوَ طريقَ أحدِ الكتبِ الستةِ عن
المساواةِ بدرجةٍ، فيكونُ الراوي كأنَّهُ سمعَ الحديثَ من
البخاريِّ، أو مسلمٍ مثلاً. وهو المرادُ بقولي:
(وَحَيْثُ راجَحَهُ الأصْلُ) أي: وحيثُ رجَّحَ أحدٌ من
الأئِمَّةِ السِّتَّةِ براوٍ واحدٍ على الراوي الذي وقعَ لهُ
ذلكَ الحديثُ، سَمَّوْهُ مصافحةً، بمعنى: أنَّ الراوي كأَنَّهُ
لقيَ أحدَ الأئِمَّةِ السِّتَّةِ، وصافحَهُ بذلكَ الحديثِ.
ومثَّلْتُ بالكتبِ السِّتَّةِ؛ لأنَّ الغالبَ عَلَى
(2/66)
المخرِّجينَ استعمالُ ذلكَ بالنسبةِ إليهم
فقطْ. وقدِ استعملَهُ الظاهريُّ وغيرُهُ بالنسبةِ إِلَى مسندِ
أحمدَ، ولا مُشَاحَّةَ في ذلكَ. وَقَدْ وقعَ لنا غيرُ ما حديثٍ
مصافحةً، فمِنْ ذَلِكَ: الحديثُ المتقدِّمُ مثالاً للمساواةِ،
فإنَّهُ مساواةٌ لشيوخِنا، مصافحةً لنا، كَمَا تقدَّمَ، واللهُ
أعلمُ.
744.... ثُمَّ عُلُوُّ قِدَمِ الْوَفَاةِ ... أَمَّا
الْعُلُوُّ لاَ مَعَ الْتِفَاتِ
745.... لآخَرٍ فَقِيْلَ لِلْخَمْسِيْنَا ... أَو
الثَّلاَثِيْنَ مَضَتْ سِنِيْنَا
هذا القسمُ الرابعُ من أقسامِ العُلوِّ، وهو تَقدُّمُ وفاةِ
الراوي عَنْ شيخٍ، على وفاةِ راوٍ آخَرَ عنْ ذلكَ الشيخِ،
مثالُهُ: مَنْ سمعَ " سننَ أبي داودَ " على الزكيِّ عبدِ
العظيمِ، أعلى مِمَّنْ سمعَهُ على النجيبِ الحرَّانيِّ.
ومَنْ سمعَهُ على النجيبِ، أعلى ممَّنْ سمعَهُ على ابنِ خطيبِ
المزَّةِ، والفخرِ بنِ البخاريِّ؛ وإِنِ اشتركَ الأَربعَةُ في
روايةِ الكتابِ عن شيخٍ واحدٍ، وهو: ابنُ طَبَرْزَذ؛
لتَقَدُّمِ وفاةِ الزكيِّ على النجيبِ، وتَقَدُّمِ وفاةِ
النجيبِ على مَنْ بَعْدَهُ.
(2/67)
روينا عن أبي يعلى الخليليِّ، قالَ: ((قد
يكونُ الإسنادُ يعلُو على غيرِهِ بتقدُّمِ مَوْتِ راويهِ، وإنْ
كانا متساوِيَيْنِ في العدَدِ)) . وهذا كُلُّهُ بنسبةِ شيخٍ
إلى شيخٍ. أمَّا علوُّ الإسنادِ بتقدُّمِ موتِ الشيخِ، لا معَ
التفاتِ لأمْرٍ آخرَ، أو شيخٍ آخرَ، فمَتى يُوصفُ بالعلوِّ؟
روينا عَنْ ابنِ جَوْصَا، قالَ: إسنادُ خمسينَ سنةً من موتِ
الشيخِ؛ إسنادُ عُلُوٍّ. وروينا عَنْ أبي عبدِ اللهِ بنِ
مَنْدَه، قالَ: إذا مرَّ عَلَى الإسنادِ ثلاثونَ سنةً، فَهُوَ
عالٍ. وقولي: (سنيناً) ، تمييزٌ. والتقييدُ بالخمسينَ أُرِيدَ:
منْ موتِ الشيخِ، لا من وقْتِ السماعِ عليهِ، كما صرَّحَ به
ابنُ جَوْصَا. وأَمَّا كلامُ ابنِ مَنْدَه، فيحتملُ أنَّهُ
أرادَ من حينِ السماعِ، وهو بعيدٌ؛ لأنَّهُ يجوزُ أنْ يكونَ
َشيخُهُ إلى الآن حيّاً، والظاهرُ أنَّهُ أرادَ إذا مضى على
إسنادِ كتابٍ، أو حديثٍ، ثلاثونَ سنةً، وهوَ في تِلْكَ
المدَّةِ لا يقعُ أعلى من ذلكَ، كسماعِ كتابِ البخاريِّ في
سنةِ ستينَ وسبعمائةٍ مثلاً على أصحابِ أصحابِ ابنِ
الزَّبيديِّ، فإنَّهُ مضتْ عليهِ ثلاثونَ سنةً مِنْ موتِ مَنْ
كانَ آخرَ مَنْ يرويه عالياً، وهو الحجَّارُ.
(2/68)
746 ... ثُمَّ عُلُوُّ قِدَمِ السَّمَاعِ
... وَضِدُّهُ النُّزُوْلُ كَالأَنْوَاعِ
747 ... وَحَيْثُ ذُمَّ فَهْوَ مَا لَمْ يُجْبَرِ ...
وَالصِّحَّةُ الْعُلُوُّ عِنْدَ النَّظَرِ
هذا القسمُ الخامسُ من أقسامِ العلوِّ، وهو تقدُّمُ السماعِ من
الشيخِ، فمَنْ تقدَّمَ سماعُهُ من شيخٍ كانَ أعلى ممَّنْ سمعَ
من ذلكَ الشيخِ نفسِهِ بعدَهُ. روينا عن محمدِ بنِ طاهرٍ،
قالَ: من العُلُوِّ تقدُّمُ السَّماعِ. ولكنْ جعلَ ابنُ طاهرٍ،
وتبعهُ ابنُ دقيقِ العيدِ، هذا القسمَ، والذي قبلَهُ، قسماً
واحداً، وقالَ ابنُ الصلاحِ: ((إنَّ كثيراً من هذا يدخلُ في
النوعِ المذكورِ قبلَهُ، وفيهِ ما لا يدخلُ مثلُ أنْ يسمعَ
شخصانِ مِن شيخٍ واحدٍ، وسماعُ أحدِهما من ستينَ سنةً مثلاً،
وسماعُ الآخرِ من أربعينَ سنةً)) ، قلتُ: وأهلُ الحديثِ
مُجْمِعُوْنَ على أفضليةِ المتَقَدِّمِ في حَقِّ مَنِ اختلَطَ
شيخُهُ، أو خَرِفَ لِهَرَمٍ، أو مَرَضٍ، وهو واضحٌ. أمَّا مَنْ
لَمْ يحصلْ لهُ ذلكَ فربَّما كانَ السماعُ المتأخِّرُ أرجحَ،
بأنْ يكونَ تحديثُهُ الأولُ قبلَ أنْ يبلغَ درجةَ الإتقانِ،
والضبطِ، ثُمَّ كانَ الشيخُ متصفاً بذلكَ في حالةِ سماعِ
الراوي المتأخِّرِ السماعِ، فلهذا مزيةٌ، وفضلٌ على السماعِ
المتقدِّمِ، وهو أرفعُ وأعلى، لكنَّهُ علوٌّ معنويٌّ على ما
سيأتي.
فهذهِ أقسامُ العلوِّ ولَمَّا جمعَ ابنُ طاهرٍ، وابنُ دقيقِ
العيدِ، بين قسمي تقدُّمِ السماعِ، وتقدُّمِ الوفاةِ، وجعلاهما
قسماً واحداً، زادا بدلَ الساقطِ: العلوَّ إلى صاحِبَي
الصحيحينِ ومصنِّفي الكُتبِ المشهورةِ. وجعلَ ابنُ طاهرٍ هذا
قسمينِ: أحدُهُما: العلوُّ إلى البخاريِّ ومسلمٍ، وأبي داودَ
وأبي حاتِمٍ، وأبي زرعةَ. والآخرُ: العلوُّ إلى كتبٍ مصنَّفَةٍ
لأقْوَامٍ، كابنِ أبي الدنيا، والخطَّابيِّ، وأشباهِهِما،
قالَ: ابنُ طاهرٍ: واعلمْ أنَّ كلَّ حديثٍ عَزَّ على
المحدِّثِ، ولَمْ يجدْهُ عالياً ولابُدَّ لهُ مِنْ إيرادِهِ في
تصنيفٍ، أو احتجاجٍ بِهِ؛ فمنْ أيِّ وجهٍ أوردَهُ، فهو عالٍ
لعزَّتِهِ، ثُمَّ مَثَّلَ ذلكَ بأَنَّ البخاريَّ روى عن أماثلِ
أصحابِ مالكٍ، ثُمَّ روَىَ حديثاً لأبي إسحاقَ الفَزَاريِّ عن
مالكٍ، لمعنى فيه فكانَ فيهِ بينَهُ وبينَ مالكٍ ثلاثةُ رجالٍ،
واللهُ أعلمُ.
(2/69)
وأمّا أقسامُ النزولِ، فهي خمسةٌ أيضاً.
فإنَّ كُلَّ قسمٍ من أقسامِ العلوِّ ضدَّهُ قسمٌ مِن أقسامِ
النزولِ، كما قالَ ابنُ الصلاحِ. وقالَ الحاكمُ في " علومِ
الحديثِ ": ((لَعَلَّ قائلاً يقولُ: النزولُ ضدُّ العلوِّ،
فمَنْ عَرَفَ العلوَّ، فقدْ عَرَفَ ضِدَّهُ. قالَ الحاكمُ:
وليسَ كذلكَ، فإنَّ للنزولِ مراتبَ لا يعرفُها إلاَّ أهلُ
الصنعةِ)) ، قالَ ابنُ الصلاحِ: ((هذا ليسَ نفياً لكونِ
النزولِ ضدَّ العلوِّ عَلَى الوجهِ الَّذِي ذكرتُهُ، بَلْ
نفياً لكونهِ يُعرفُ بمعرفةِ العلوِّ. قالَ: وذلكَ يليقُ بِمَا
ذكرَهُ هُوَ في معرفةِ العلوِّ، فإنَّهُ قَصَّرَ في بيانِهِ
وتفصيلِهِ، وليسَ كذلكَ ما ذكرناهُ فإنَّهُ مفصَّلٌ تفصيلاً
مبيّناً مُفْهِماً لمراتبِ النزولِ)) . ثُمَّ إنَّ النزولَ
حيثُ ذَمَّهُ مَنْ ذَمَّهُ، كقولِ عليِّ بنِ المدينيِّ، وأبي
عمرٍو المستمليِّ، فيما رويناهُ عنهما: النزولُ شُؤْمٌ. وكقولِ
ابنِ معينٍ فيما رويناهُ عنهُ: إلاسنادُ النازلُ قُرْحَةٌ في
الوجهِ، فهو محمولٌ على ما إذا لم يكنْ مع النزولِ ما يجبرُهُ،
كزيادَةِ الثقةِ في رجالِهِ على العالي، أو كونِهِم أحفظَ، أو
أفقهَ، أو كونِهِ متَّصِلاً بالسماعِ وفي العالي حضورٌ، أو
إجازةٌ، أو مناولةٌ، أو تساهلُ بعضِ رواتهِ في الحملِ، ونحوُ
ذلكَ؛ فإنَّ العدولَ حينئذٍ إلى النزولِ ليسَ بمذمومٍ، ولا
مفضولٍ. وقد روينا عن وكيعٍ قالَ: الأعمشُ أحبُّ اليكم عنْ أبي
وائلٍ عَنْ عبدِ اللهِ؟ أو سفيانُ، عن منصورٍ عن إبراهيمَ، عن
علقمةَ، عن عبدِ اللهِ؟ فقلنا: الأعمشُ عن أبي وائلٍ أقربُ.
فقالَ:
(2/70)
الأعمشُ شيخٌ، وأبو وائلٍ شيخٌ، وسفيانُ،
عن منصورٍ، عن إبراهيمَ، عنْ علقمةَ فقيهٌ، عن فقيهٍ، عن
فقيهٍ، عن فقيهٍ. وروينا عن ابنِ المباركِ قالَ: ليسَ جَوْدةُ
الحديثِ قربَ الإسنادِ بلْ جَوْدةُ الحديثِ صحةُ الرجالِ.
وروينا عن السِّلفيِّ قالَ: الأصلُ الأخذُ عن العلماءِ
فنزولُهُم أَوْلَى من العُلُوِّ عن الجهلةِ على مذهبِ
المحقِّقِينَ من النَقَلَةِ، والنازلُ حينئذٍ هو العالي في
المعنى عندَ النظرِ والتحقيقِ، كما روينا عَنْ نِظامِ
الْمُلْكِ قالَ: عندي أنَّ الحديثَ العالي: ما صحَّ عن رسولِ
اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإنْ بلغَتْ
رواتُهُ مائةً. وكما روينا عن السِّلَفيِّ من نظمهِ:
لَيْسَ حُسْنُ الْحَدِيْثِ قُرْبَ رِجَالٍ ... عِنْدَ أرْبَابِ
عِلْمِهِ النُّقَّادِ
بلْ عُلُوُّ الْحَدِيْثِ بينَ أُولي الحِـ ... ـفْظِ
والإتقانِصِحَّةُ الإسْنَادِ
وإذا ما تَجَمَّعَا في حَدِيْثٍ ... فاغْتَنِمْهُ فَذَاكَ
أقْصَى الْمُرَادِ
قالَ ابنُ الصلاحِ: ((هذا ليسَ منْ قَبيلِ العلوِّ المتعارفِ
إطلاقُهُ بينَ أهلِ الحديثِ، وإنَّما هو عُلُوٌّ مِنْ حيثُ
المعنى فحسبُ)) .
(2/71)
الغَرِيْبُ، وَالْعَزِيْزُ،
وَالْمَشْهُوْرُ
748.... وَمَا بِهِ مُطْلَقاً الرَّاوِي انْفَرَدْ ... فَهْوَ
الْغَرِيْبُ وَابْنُ مَنْدَةَ فَحَدْ
749.... بِالانْفِرَادِ عَنْ إِمَامٍ يُجْمَعُ ... حَدِيْثُهُ
فَإِنْ عَلَيْهِ يُتْبَعُ
750.... مِنْ وَاحِدٍ وَاثْنَيْنِ فَالْعَزِيْزُ أَوْ ...
فَوْقُ فَمَشْهُوْرٌ وَكُلٌّ قَدْ رَأَوْا
751.... مِنْهُ الصَّحِيْحَ وَالضَّعِيْفَ ثُمَّ قَدْ ...
يَغْرُبُ مُطْلَقاً أَوِ اسْنَاداً فَقَدْ
ج
قالَ ابنُ الصلاحِ: ((الحديثُ الذي ينفردُ به بعضُ الرواةِ،
يوصَفُ بالغريبِ، قالَ: وكذلكَ الحديثُ الذي ينفردُ فيهِ بعضهم
بأمرٍ لا يذكرُهُ فيهِ غيرُهُ، إمَّا في متنِهِ، وإمَّا
(2/72)
في إسنادِهِ)) . وروينا عَنْ أبي عبدِ
اللهِ بنِ مَنْدَه قالَ: الغريبُ من الحديثِ كحديثِ الزهريِّ
وقتادةَ وأشباهِهِمَا مِنَ الأَئِمَّةِ ممَّنْ يُجْمَعُ
حديثُهُم إذا انفردَ الرجلُ عنهم بالحديثِ يُسمَّى غريباً،
فإذا روى عنهم رجلانِ، أو ثلاثةٌ، واشتركوا يُسمَّى عزيزاً،
فإذا روى الجماعةُ عنهم حديثاً، يُسَمِّي مشهوراً، وهكذا قالَ
محمدُ بنُ طاهرٍ المقدسيُّ، وكأنَّهُ أخذَهُ من كلامِ ابنِ
مَنْدَه.
وقولي: (وَكُلٌّ قَدْ رَأَوْا، مِنْهُ الصَّحِيْحَ
وَالضَّعِيْفَ) أي: إنْ وُصِفَ الحديثُ بكونِهِ مشهوراً، أو
عزيزاً، أو غريباً، لايُنافي الصِّحَّةَ، ولا الضعفَ، بل قد
يكونُ مشهوراً صحيحاً، أو مشهوراً ضعيفاً، أو غريباً صحيحاً،
أو غريباً ضعيفاً، أو عزيزاً صحيحاً، أو عزيزاً ضعيفاً. ولم
يذكرِ ابنُ الصلاحِ كونَ العزيزِ يكونُ منهُ الصحيحُ والضعيفُ،
بل ذَكَرَ ذلكَ في المشهورِ والغريبِ فقطْ. ومَثَّلَ المشهورَ
الصحيحَ بحديثِ: ((الأعمالُ بالنِّيَّاتِ)) وتبعَ في ذلكَ
الحاكمَ، وفيهِ نظرٌ، فإنَّ الشهرةَ إنَّما طَرَأَتْ لهُ مِنْ
عندِ يحيى بنِ سعيدٍ، وأوَّلُ الإسنادِ فردٌ، كما تقدَّمَ. وقد
نَبَّهَ على ذلكَ ابنُ الصلاحِ في آخرِ النوعِ الحادي
والثلاثينَ، وهو الذي يلي نوعَ المشهورِ، وكانَ ينبغي لهُ أنْ
يُمثِّلَ بغيرِهِ مما مَثَّلَ بهِ الحاكمُ أيضاً، كحديثِ:
((إنَّ اللهَ لا يقبضُ العلمَ
(2/73)
انْتِزَاعاً، ... )) وحديثِ: ((مَنْ أتَى
الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ، ... )) ، وحديثِ رفعِ اليدينِ في
الصلاةِ، وغيرِ ذلكَ. وَمَثَّلَ ابنُ الصلاحِ المشهورَ الذي
ليسَ بصحيحٍ، بحديثِ: ((طلبُ العلمِ فريضةٌ على كُلِّ مُسلمٍ))
، وتبعَ في ذلكَ أيضاً الحاكمَ، وقد صَحَّحَ
(2/74)
بعضُ الأئِمَّةِ بعضَ طرقِ الحديثِ، كما
بَيَّنْتُهُ في تخريجِ أحاديثِ " الإحياءِ ". ومَثَّلَهُ
الحاكمُ أيضاً، بحديثِ: ((الأُذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ)) .
وبأمثلةٍ كثيرةٍ بعضُها صحيحٌ، وإنْ لم تُخَرَّجْ في واحدٍ من
الصحيحينِ.
وذكرَ ابنُ الصلاحِفي أمثلتهِ ما بلغَهُ عن أحمدَ بنِ حنبلٍ،
قالَ: أربعةُ أحاديثَ تَدُورُ عن رسولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الأسواقِ، ليس لها أصلٌ: ((مَنْ
بَشَّرَنِي بِخُرُوجِ آذارَ بَشَّرْتُهُ بالجنَّةِ)) ، ((ومَنْ
آذى ذمِّيَّاً، فَأَنَا خَصْمُهُ يومَ القيامةِ)) ، ((ويومُ
نَحْرِكُم يومُ صَوْمِكُم)) ، ((وللسَّائلِ حقٌّ، وإنْ جاءَ
على فَرَسٍ)) ، قلتُ:
(2/75)
وهذا لا يصحُّ عن أحمدَ، وقد أخرجَ أحمدُ
في " مُسْنَدِهِ " هذا الحديثَ الرابعَ عن وكيعٍ، وعبدِ الرحمن
بنِ مهديٍّ، كلاهما عن سفيانَ، عن مصعبِ بنِ محمدٍ، عن يعلى
ابنِ أبي يحيى، عن فاطمةَ بنتِ الحُسَينِ عن أبيهَا حسينِ بنِ
عليٍّ، عن النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو
إسنادٌ جَيِّدٌ. ويَعْلَى وإنْ جَهَّلَهُ أبو حاتِمٍ، فقد
وَثَّقَهُ أبو حاتمِ بنِ حبَّانَ. وأمَّا مصعبٌ، فوثَّقَهُ
يحيى بنُ مَعِيْنٍ، وغيرُهُ. وأخرجه أبو داودَ في " سُنَنِهِ "
وسكتَ عنهُ، فهو عندَهُ صالحٌ. وأخرجهُ أيضاً من حديثِ عليٍّ،
وفي إسنادِهِ مَنْ لم يُسَمَّ. ورويناهُ أيضاً من حديثِ ابنِ
عباسٍ، ومن حديثِ الهِرْمَاسِ بنِ زيادٍ.
وأمّا حديثُ: ((مَنْ آذى ذِمِّيّاً)) فقد رواهُ بنحوِهِ أبو
داودَ أيضاً، وسكتَ عليهِ، من روايةِ صَفْوانَ بنِ سُليمٍ، عن
عدةٍ مِنْ أبناءِ أصحابِ رسولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - عن آبائِهِم دِنْيَةً عَنْ
(2/76)
رسولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، قالَ: ((أَلاَ مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِداً أو
انْتَقَصَهُ، أو كَلَّفَهُ فوقَ طاقتِهِ، أو أخذَ منهُ شيئاً
من غيرِ طِيْبِ نَفْسٍ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يومَ القيامةِ)) .
وهذا إسنادٌ جَيِّدٌ، وإنْ كانَ فيهِ مَنْ لم يُسَمَّ،
فإنَّهُم عِدَّةٌ مِنْ أبناءِ الصحابَةِ يبلغونَ حَدَّ
التواترِ الذي لا يُشتَرطُ فيهِ العدالةُ. فقد روينا في سننِ
البيهقيِّ، وفيهِ: ((عن ثلاثينَ مِن أبناءِ أصحابِ رسولِ اللهِ
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)) .
وأمَّا الحديثانِ الآخرانِ فلا أَصْلَ لهما كما ذَكَرَ. وأمَّا
مثالُ الغريبِ الصحيحِ، فكأفرادِ الصحيحِ، وهي كثيرةٌ، منها
حديثُ مالكٍ عن سُمَيٍّ، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرةَ،
مرفوعاً: ((السَّفَرُ قِطْعَةٌ من العذابِ)) . وأمَّا الغريبُ
الذي ليسَ بصحيحٍ فهو الغالبُ على الغرائبِ. وقد روينا عن
أحمدَ بنِ حنبلٍ، قالَ: ((لا تكتبوا هذهِ الأحاديثَ الغرائبَ،
فإِنَّها مَنَاكِيرُ، وعامَّتُها عنِ الضُّعَفَاءِ)) . وروينا
عن مالكٍ قالَ: شرُّ العلمِ الغريبُ، وخَيْرُ العلمِ الظاهرُ
الذي قد رواهُ الناسُ. وروينا عن عبدِ الرزاقِ قالَ: كُنَّا
نَرَى أَنَّ غريبَ الحديثِ خيرٌ، فإذا هو شرٌ. وَقَسَّمَ
الحاكمُ الغريبَ إلى ثلاثةِ أنواعٍ: غرائبُ الصحيحِ، وغَرَائبُ
الشُّيُوخِ، وغَرَائبُ المتونِ. وقَسَّمَهُ ابنُ طاهرٍ إلى
خمسةِ أنواعٍ. وقالَ ابنُ الصلاحِ: إِنَّ مِنَ الغريبِ ما هو
(2/77)
غريبٌ متناً، وإسناداً، وهو الحديثُ الذي
تفرَّدَ بروايةِ مَتْنِهِ راوٍ واحدٌ. ومنهُ ما هو غريبٌ
إسناداً لا متناً، كالحديثِ الذي متنُهُ معروفٌ، مرويٌّ عن
جماعةٍ من الصحابةِ، إذا تفرَّدَ بعضُهُم بروايتِهِ عن صحابيٍّ
آخرَ، كانَ غريباً مِنْ ذلكَ الوجهِ. قالَ ومِنْ ذلكَ: غرائبُ
الشيوخِ في أسانيدِ المتونِ الصحيحةِ، قالَ: وهذا الذي يقولُ
فيه الترمذيُّ: غريبٌ من هذا الوجهِ، قلتُ: وأشرتُ إلى القسمِ
الأولِ بقولي: (ثُمَّ قَدْ يَغْرُبُ مُطْلَقَاً) ، وإلى الثاني
بقولي: (أو اسْنَاداً فَقَدْ) أي: فقطْ.
قالَ ابنُ الصلاحِ: ولا أرى هذا النوعَ ينعكسُ، فلا يوجدُ إذاً
ما هو غريبٌ متناً، وليسَ غريباً إسناداً، وإلاَّ إذا اشتهَرَ
الحديثُ الفردُ عَمَّنْ تفرَّدَ بهِ، فرواهُ عنهُ عددٌ
كثيرونَ، فإنَّ إسنادَهُ متصفٌ بالغرابةِ في طرفِهِ الأوَّلِ،
متصفٌ بالشهرةِ في طرفِهِ الآخِرِ، كحديثِ: ((إنَّما الأعمالُ
بالنِّيَّاتِ)) ، وكسائرِ الغرائبِ التي اشْتَمَلَتْ عليها
التصانيفُ المشتهرةُ، هكذا قالَ ابنُ الصلاحِ: إنَّهُ لا يوجدُ
ما هو غريبٌ متناً لا سنداً، إلاَّ بالتأويلِ الذي ذكرَهُ. وقد
أطلقَ أبو الفتحِ اليَعْمريُّ ذِكْرَ هذا النوعِ في جملةِ
أنواعِ الغريبِ من غيرِ تقيّدٍ بآخِرِ السندِ، فقالَ في " شرح
الترمذيِّ ": ((الغريبُ على أقسامٍ: غريبٌ سنداً ومتناً،
ومتناً لا سنداً، وسنداً لا متناً، وغريبٌ بعضَ السندِ فقطْ،
وغريبٌ بعضَ المتنِ فقطْ)) . فالقسمُ الأوَّلُ واضحٌ، والقسمُ
الثاني هو الذي أطلقَهُ أبو الفتحِ، ولم يذكرْ لهُ مِثالاً،
والقسمُ الثالثُ مثالُهُ حديثٌ رواهُ عبدُ المجيدِ بنُ عبدِ
العزيزبنِ أبي روَّادٍ، عن مالكٍ، عن زيدِ بنِ أسلمَ، عن عطاءِ
بنِ يسارٍ، عن أبي سعيدٍ الخدريِّ، عن النَّبيِّ - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ((الأعْمَالُ بالنِّيَّةِ))
. قالَ الخليليُّ في
(2/78)
" الإرشادِ ": ((أخطأَ فيهِ عبدُ المجيدِ،
وهو غيرُ محفوظٍ من حديثِ زيدِ بنِ أسلمَ بوجهٍ، قالَ: فهذا
مِمَّا أخطأَ فيهِ الثِّقةُ عَنِ الثِّقةِ)) . وقالَ أبو
الفتحِ اليعمريُّ: ((هذا إسنادٌ غريبٌ كُلُّهُ، والمتنُ
صحيحٌ)) ، والقسمُ الرابعُ مثالُهُ حديثٌ رواه الطبرانيُّ في "
المعجمِ الكبيرِ " من روايةِ عبدِ العزيزِ بنِ محمدٍ
الدَّراوَرْدِيِّ، ومن روايةِ عبَّادِ بنِ منصورٍ، فرَّقهُمَا
كلاهُما عن هِشامِ بنِ عُرْوةَ، عن أبيهِ، عن عائشةَ بحديثِ
أمِّ زَرْعٍ.
والمحفوظُ ما رواه عيسى بنُ يونُسَ عن هِشامِ بنِ عُرْوةَ عن
أخيهِ عبدِ اللهِ بنِ عُروةَ، عن عُروةَ عن عائشةَ. هكذا اتفقَ
عليهِ الشيخانِ. وكذا راوهُ مسلمٌ من روايةِ سعيدِ بنِ سلمَةَ
بنِ أبي الْحُسَامِ، عن هِشامٍ. قالَ أبو الفتحِ: ((فهذهِ
غَرَابةٌ تخصُّ موضعاً من السندِ، والحديث صحيحٌ)) قلتُ:
ويصلحُ ما ذكرناهُ من عندِ الطبرانيِّ مثالاً للقسمِ
الخامسِ؛ لأنَّ عبدَ العزيزِ وعبَّاداً جعلا جميعَ الحديثِ
مرفوعاً، وإنَّما المرفوعُ مِنْهُ
قولُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((كنتُ لكِ كأبي
زَرْعٍ لأُمِّ زَرْعٍ)) ، فَهَذَا غَرَاْبَةُ بعضِ المتنِ،
أيضاً.
واللهُ اعلمُ.
(2/79)
752.... كَذَلِكَ الْمَشْهُوْرُ أَيْضاً
قَسَّمُوْا ... لِشُهْرِةٍ مُطْلَقَةٍ كَـ ((الْمُسْلِمُ
753.... مَنْ سَلِمَ الْحَدِيْثَ)) وَالْمَقْصُوْرِ ... عَلَى
الْمُحَدِّثِيْنَ مِنْ مَشْهُوْرِ
754.... ((قُنُوتُهُ بَعْدَ الرُّكُوْعِ شَهْرَا)) ...
وَمِنْهُ ذُوْ تَوَاتُرٍ مُسْتَقْرَا
755.... فِي طَبَقَاتِهِ كَمَتْنِ ((مَنْ كَذَبْ)) ...
فَفَوْقَ سِتِّيْنَ رَوَوْهُ وَالْعَجَبْ
756.... بِأَنَّ مِنْ رُوَاتِهِ لَلْعَشَرَهْ ... وَخُصَّ
بِالأَمْرَيْنِ فِيْمَا ذَكَرَهْ
757.... الشَّيْخُ عَنْ بَعْضِهِمْ، قُلْتُ: بَلَى ...
((مَسْحُ الخِفَافِ)) وَابْنُ مَنْدَةَإلى
758.... عَشْرَتِهِمْ ((رَفْعِ اليَدَيْنِ)) نَسَبَا ...
وَنَيَّفُوْا عَنْ مِائَةٍ ((مَنْ كَذَبَا))
أي: كما أَنَّ المشهورَ ينقسمُ إلى صحيحٍ وضعيفٍ، كذلكَ ينقسمُ
من وجهٍ آخرَ إلى ما هوَ مشهورٌ شُهرةً مطلقةً بينَ أهلِ
الحديثِ، وغيرِهمِ، كحديثِ: ((المسلمُ مَنْ سَلِمَ المسلمونَ
من لسانِهِ ويدِهِ)) ، وما أشبهَ ذلكَ في الشهرةِ المطلقةِ،
وإلى ما هو مشهورٌ بينَ أهلِ الحديثِ خاصّةً، كحديثِ أنسٍ
((أنَّ رسولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قَنَتَ شَهْراً بعدَ الركوعِ، يَدْعُو على رِعْلٍ؛
وذَكْوَاْنَ)) فهذا حديثٌ اتفقَ عليهِ الشيخانِ من روايةِ
سُليمانَ التَّيْمِيِّ، عن أبي مِجْلَزٍ واسمُهُ: لاحقُ بنُ
حُميدٍ، عن أنسٍ، وَقَدْ رواهُ عن أنسٍ غيرُ أبي مجلزٍ
(2/80)
، وعن أبي مجلزٍ غيرُ سليمانَ التيميِّ،
وعن سليمانَ التيميِّ جماعةٌ، وهو مشهورٌ بينَ أهلِ الحديثِ،
وقد يستغربُهُ غيرُهم؛ لأَنَّ الغالبَ على روايةِ التَّيْميِّ،
عن أنسٍ، كونُها بغيرِ واسطةٍ، وهذا الحديثُ بواسطةِ أبي
مجلزٍ.
ثُمَّ إنَّ المشهورَ أيضاً ينقسمُ باعتبارٍ آخرَ إلى ما هو
متواترٌ، وإلى ما هو مشهورٌ غيرُ متواترٍ. وقد ذكرَ المتواترَ
الفقهاءُ والأصوليونَ وبعضُ أهلِ الحديثِ. قالَ ابنُ الصلاحِ:
((وأهلُ الحديثِ لا يذكرونَهُ باسمهِ الخاصِّ المشعرِ بمعناهُ
الخاصِّ، وإنْ كانَ الخطيبُ قد ذكرَهُ في كتابهِ " الكفايةِ "
ففي كلامهِ ما يُشْعِرُ بأنَّهُ اتَّبَعَ فيهِ غيرَ أهلِ
الحديثِ)) . قلتُ: قد ذكرَهُ الحاكمُ، وابنُ حَزْمٍ وابنُ عبدِ
البَرِّ. وهو الخبرُ الذي ينقلُهُ عددٌ يَحْصُلُ العِلْمُ
بصدْقِهِمْ ضَرُوْرَةً. وعبَّرَ عنه غيرُ واحدٍ بقولِهِ: عددٌ
يستحيلُ تواطؤُهم على الكذبِ. ولا بُدَّ مِنْ وجودِ ذلكَ في
رواتِهِ منْ أَوَّلِهِ إلى منتهاهُ، وإلى ذلكَ أشرتُ بقولي:
(في طبقاتِهِ) . قالَ ابنُ الصلاحِ: ومَنْ سُئِلَ عن إبرازِ
مثالٍ لذلكَ أعياهُ تَطَلُّبُهُ. ثُمَّ قالَ: نعمْ.. حديثُ:
((منْ كَذَبَ عليَّ متعمِّداً فليتَبَوَّأْ مقعدَهُ من
النارِ)) ، نراهُ مثالاً لذلكَ فإنَّهُ نقلَهُ من الصحابةِ -
رضي الله عنهم - العددُ الجمُّ، وهو في " الصحيحينِ " مرويٌّ
عن جماعةٍ منهم. قالَ: وذكرَ أبو بكرٍ البزَّارُ في " مسندِهِ
": أنَّهُ رواهُ نحوٌ من أربعينَ رجلاً منَ الصحابةِ. قالَ:
وذكرَ بعضُ الحفَّاظِ: أنَّهُ رواهُ اثنانِ وستونَ نفساً من
الصحابةِ، وفيهم العشرةُ المشهودُ لهم بالجنَّةِ. قالَ: وليسَ
في الدنيا حديثٌ اجتمعَ على روايتِهِ العشرةُ غيرَهُ
(2/81)
ولا يُعْرَفُ حديثٌ يُروَى عن أكثرِ من
ستينَ نفساً من الصحابةِ عن رسولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إلاَّ هذا الحديثُ الواحدُ قالَ: وبلغَ
بهمبعضُ أهلِ الحديثِ أكثرَ من هذا العددِ، وفي بعضِ ذلكَ عددُ
التواترِ! انتهى.
وما حكاهُ ابنُ الصلاحِ عن بعضِ الحفَّاظِ، وأبهمَهُ، هو في
كلامِ ابنِ الجوزيِّ، فإنَّهُ ذكرَ في مقدّمةِ "الموضوعاتِ"،
أنَّهُ رواهُ من الصحابةِ أحدٌ وستون نفساً، ثُمَّ رَوَى بعدَ
ذلكَ بأَورَاقٍ عن أبي بكرٍ محمدِ بنِ أحمدَ بنِ عبدِ الوهابِ
الإسفرايينيِّ، أنَّهُ ليسَ في الدنيا حديثٌ اجتمعَ عليهِ
العشرةُ غيرَهُ. ثُمَّ قالَ ابنُ الجوزيِّ قلتُ: ما وقَعَتْ
إليَّ روايةُ عبدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ إلى الآنَ. قالَ: ولا
عرفتُ حديثاً رواهُ عَنْ رسولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أحدٌ وستونَ نفساً، وعلى قولِ هذا الحافظِ اثنانِ
وستونَ نفساً، إلاَّ هذا الحديثَ)) . هذا كلامُهُ في النسخةِ
الأُولى من الموضوعاتِ، ومن خَطِّ الحافظِ أبي محمدٍ المنذريِّ
نقلتُ. وأمَّا كلامُهُ المحكيُّ عن الكتابِ المذكورِ في آخرِ
الفصلِ، فهو في النسخةِ الأخيرةِ، فاعلمْ ذلكَ. قلتُ: وما
ذكرَهُ ابنُ الصلاحِ عن بعضِ الحفَّاظِ، من تخصيصِ هذا الحديثِ
بهذا العددِ، وبكونِهِ من روايةِ العشرةِ منقوضٌ
بحديثِ المَسْحِ على الْخُفَّيْنِ، فقدْ رواهُ أكثرُ من ستينَ
من الصحابةِ، ومنهم العشرةُ، ذكرَ ذلكَ أبو القاسمِ عبدُ
الرحمنِ بنُ محمدِ بنِ إسحاقَ بنِ مَنْدَه في كتابٍ لهُ
سَمَّاهُ " المستخرَج من كتبِ الناسِ ". وذكرَ صاحبُ " الإمامِ
" عن ابنِ
(2/82)
الْمُنْذِرِ قالَ: روينا عن الحسنِ أنَّهُ
قالَ: حَدَّثَني سبعونَ مِنْ أصحابِ رسولِ اللهِ - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّ رسولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسحَ لى الْخُفَّينِ. انتهى. وجعلَهُ
ابنُ عبدِ البرِّ متواتراً، فقالَ: رَوَى عن رسولِ اللهِ -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسحَ على الْخُفَّينِ،
نحوُ أربعينَ من الصحابةِ، واستفاضَ، وتواترَ. قلتُ: فهذا
مثالٌ آخرُ للمتواترِ، صرَّحَ بوصفِهِ بذلكَ. وإلى ذلكَ أشرتُ
بقولي: (قُلْتُ: بَلَى مَسْحُ الخِفَافِ) .
وأيضاً فحديثُ رَفْعِ اليدينِ قد عزاهُ غيرُ واحدٍ من الأئمة
إلى رواية العشرَةِ أيضاً، منهم ابنُ مَنْدَه المذكورُ في
كتابِ " المستخرج "، والحاكمُ أبو عبدِ اللهِ، وجعلَ ذلكَ مما
اختصَّ بهِ حديثُ رَفْعِ اليدينِ، قالَ البيهقيُّ: سمعتُهُ
يقولُ: لا نعلمُ سُنَّةً اتَّفَقَ على روايتِها عن رسولِ اللهِ
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الخلفاءُ الأربعةُ، ثُمَّ
العشرةُ الذين شَهِدَ لهم رسولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بالجنَّةِ، فمَنْ بعدَهُم مِنْ أَكابرِ الصحابةِ،
على تفرُّقِهِم في البلادِ الشاسِعَةِ؛ غيرَ هذهِ السُّنَّةِ.
قالَ البيهقيُّ: وهو كما قالَ أستاذُنا أبو عبدِ اللهِ - رضي
الله عنه -. فقد روى هذهِ السُّنَّةَ عن العشرَةِ وغيرِهِم،
وأَمَّا عِدَّةُ مَنْ رواهُ من الصحابةِ، فقالَ ابنُ عبدِ
البرِّ في " التمهيدِ ": رواهُ ثلاثةَ عَشَرَ رجلاً مِن
الصحابةِ. وقالَ السِّلَفِيُّ: رواهُ سبعةَ عشرَ. قلتُ: وقدْ
جمعتُ رواتَهُ فبلغوا نحوَ الخمسينَ، وللهِ الحمدُ.
وقولي: (وَنَيَّفُوا عَنْ مِائَةٍ) أي: وَرَوَوْا حديثَ ((مَنْ
كَذَبَ عَليَّ متعمِّداً)) عن مائةٍ ونَيِّفٍ من الصحابةِ.
وقالَ ابنُ الجوزيِّ في مقدمةِ " الموضوعات ": رواهُ من
الصحابةِ
(2/83)
ثَمَانيةٌ وتسعونَ نفساً. انتهى. هكذا نقلتُهُ مِنْ خَطِّ
عليٍّ، وَلَدِ المصنِّفِ، وهي النسخةُ الأخيرةُ منِ الكتابِ
المذكورِ وفيها زوائدُ ليستْ في النسخةِ الأولى التي كُتِبَتْ
عنه. وقد جَمَعَ الحافظُ أبو الحجَّاجِ يوسفُ بنُ خليلٍ
الدِّمشقيُّ طُرُقَهُ في جزأينِ، فبلغَ بهم مائةً واثنينِ،
وأخبرني بعضُ الحفَّاظِ: أنَّهُ رَأى في كلامِ بعضِ الحفَّاظِ:
أنَّهُ رواهُ مائتانِ من الصحابةِ، وأنا أستبعدُ وقوعَ ذلكَ،
واللهُ أعلمُ. |