شرح (التبصرة والتذكرة = ألفية العراقي)

غَرْيِبُ أَلْفَاْظِ الأَحَاْدِيْثِ
759.... وَالنَّضْرُ أَوْ مَعْمَرُ خُلْفٌ أَوَّلُ ... مَنْ صنَّفَ الْغَرِيْبَ فِيْمَا نَقَلُوْا
760.... ثُمَّ تَلا أبو عُبَيْدٍ وَاقْتَفَى ... القُتَبِيُّ ثُمَّ حَمْدٌ صنَّفَا
761.... فَاعْنِ بِهِ وَلاَ تَخُضْ بالظَّنِّ ... وَلاَ تُقَلِّدْ غَيْرَ أَهْلِ الْفَنِّ
762.... وَخَيْرُ مَا فَسَّرْتَهُ بِالْوَارِدِ ... كَالدُّخِّ بِالدُّخَانِ لاِبْنِ صَائِدِ
763.... كَذَاكَ عِنْدَ التِّرْمِذِيْ، وَالْحَاكِمُ ... فَسَّرَهُ الْجِمَاعَ وَهْوَ وَاهِمُ
غريبُ الحديثِ، هو ما يقعُ فيهِ من الألفاظِ الغامضةِ البعيدةِ عن الفَهْمِ. وقد صنَّفَ فيه جماعةٌ من الأئِمَّةِ، واختلفوا في أوَّلِ مَنْ صنَّفَ فيهِ. فقالَ الحاكمُ في" علومِ الحديثِ ": ((أوَّلُ مَنْ صنَّفَ الغريبَ في الإسلامِ النَّضْرُ بنُ شُمَيلٍ. ثُمَّ صنَّفَ فيهِ أبو

(2/84)


عُبَيْدٍ القاسمُ بنُ سلاَّمٍ كتابَهُ الكبيرَ)) قالَ ابنُ الصلاحِ: ((ومنهم مَنْ خالَفَهُ فقالَ: أوَّلُ مَنْ صنَّفَ فيهِ أبو عُبَيدةَ مَعْمَرُ بنُ الْمُثَنَّى)) . وقالَ الحافظُ محبُّ الدينِ الطبريُّ في كتابِ " تقريبِ المرامِ ": وقد قيلَ: إنَّ أوَّلَ مَنْ جَمَعَ في هذا الفنِّ شيئاً، وألَّفَهُ أبو عُبَيدةَ معمرُ بنُ الْمُثَنَّى، ثُمَّ النَّضْرُ بنُ شُمَيلٍ، ثُمَّ عبدُ الملكِ بنُ قُرَيبٍ الأصمعيُّ، وكانَ في عصرِ أبي عُبيدةَ، وتأخّرَ، وكذلكَ قُطْرُبٌ، وغيرُهُ مِنْ أئِمَّة الفِقْهِ، واللُّغَةِ، جمعوا أحاديثَ تَكَلَّمُوا على لغتِها، ومعناها، في أوراقٍ ذواتِ عَدَدٍ، ولَمْ يكن أحدٌ منهم ينفردُ عن غيرِهِ بكثيرِ حديثٍ لم يذكرْهُ الآخرُ. واستمرتِ الحالُ إلى زمنِ أبي عُبيدٍ القاسمِ بنِ سلاَّمِ، وذلكَ بعدَ المائتينِ، فجمعَ كتابَهُ المشهورَ في غريبِ الحديثِ والآثارِ. انتهى. ثُمَّ بعدَ ذلكَ صنَّفَ أبو محمدٍ عبدُ اللهِ بنُ مسلمِ بنِ قُتيبةَ الدِّيْنَوَرِيُّ القُتبيُّ كتابَهُ المشهورَ فزادَ على أبي عُبيدٍ مواضعَ وتَتَبَّعَهُ في مواضعَ. ثُمَّ صنَّفَ بعدَهُ أبو سليمانَ حَمْدُ بنُ محمدِ بنِ إبراهيمَ الخطَّابيُّ كتابَهُ في ذلك، فزادَ على القُتبيِّ، وَنَبَّهَ على أغالِيْطَ لهُ.
وصنَّفَ فيهِ جماعةٌ منهم: قاسمُ بنُ ثابتِ بنِ حزمٍ السَّرَقُسْطِيُّ، وعبدُ الغافِرِ الفارسيُّ كتاباً سماهُ: " مَجْمَعُ الغرائبِ "، وصنَّفَ الزمخشريُّ كتابَهُ " الفائقَ "، وبعدهُ أبو الفرجِ ابنُ الجوزيِّ. وكانَ جمعَ بينَ الغريبينِ: غريْبَي القرآنِ والحديثِ أبو عُبيدٍ أحمدُ

(2/85)


بنُ محمدٍ الْهَرَويُّ، صاحبُ أبي منصورٍ الأزْهَرِيِّ، وَذَيَّلَ عليهِ الحافظُ أبو موسى المدينيُّ ذيلاً حَسَناً. ثُمَّ جمعَ بينهُما مقتصراً على غريبِ الحديثِ فقط أبو السعاداتِ المباركُ بنُ محمدِ بنِ الأثيرِ الْجَزَرِيُّ، وزادَ عليهِما زياداتٍ كثيرةً، وذلكَ في كتابهِ " النهايةِ ". وبلغني أنَّ الإمامَ صفيَّ الدينِ محمودَ بنَ محمدِ بنِ حامدٍ الأُرْمويَّ، ذَيَّلَ عليهِ ذيلاً لم أَرَهُ، وبَلَغَني أنَّهُ كَتبَهُ حواشٍ على أصلِ النهايةِ فقطْ، وإنَّ الناسَ أفردوهُ. وقد كنتُ كتبتُ على نسخةٍ - كانتْ عندي من النهايةِ - حواشيَ كثيرةً، وأرجو أنْ أجمَعَهَا، وأُذيِّلَ عليهِ بذيلٍ كبيِرٍ، إنْ شاءَ اللهُ تعالى.
وقولي: (فاعْنِ بهِ) أي بعلمِ الغريبِ، أي: اجعلَهُ من عنايتِكَ، واحفظْهُ، واشتغِلْ بهِ. فإنْ قيلَ: إنَّمَا تستعملُ هذه اللفظةُ مبينةً لما لم يُسَمَّ فاعلُه، يقالَ: عُنِيْتُ بالأمرِ عِنَايةً، كما جزمَ به صاحبا " الصحاحِ " و" المحكمِ "، وعلى هذا فلا يؤمرُ منهُ بصيغةٍ على صيغةِ افْعَلْ. قالَ الجوهريُّ وإذا أَمَرْتَ منهُ قلتَ: لِتُعْنَ بِحَاجَتي قلتُ فيهِ لغتانِ: عُنِيَ، وَعَنِيَ. وممَّنْ حكاهما صاحبُ الغريبينِ، والْمُطَرِّزيُّ: وفي الحديثِ: أنَّهُ قالَ لرجلٍ: لقدْ عَنِيَ اللهُ بِكَ. قالَ ابنُ الأَعْرَابيِّ: أي: حَفِظَ دينَكَ. قالَ الهرويُّ: يُقالَ عُنِيْتُ بأمْرِكَ، فأنا مَعْنِيٌّ بكَ، وعَنِيْتُ بأمْرِكَ أيضاً، فأَنا عانٍ.
ولا ينبغي لمَنْ تَكَلَّمَ في غريبِ الحديثِ أنْ يخوضَ فيه رجماً بالظنِّ، فقدْ روينا عن أحمدَ بنِ حنبلٍ أَنَّهُ سُئِلَ عن حرفٍ منهُ، فقالَ: سَلُوا أصحابَ الغريبِ، فإنيِّ أكرَهُ أن

(2/86)


أتَكَلَّمَ في قولِ رسولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالظَّنِّ. وسُئِلَ الأصمعيُّ عن حديثِ: ((الجارُ أحقُّ بِسَقَبِهِ)) ، فقالَ: أنا لا أفَسِّرُ حديثَ رسولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولكنَّ العربَ تزعمُ أنَّ السَّقَبَ: اللَّزيقُ.
ولا ينبغي أنْ يقلِّدَ من الكتبِ المصنَّفَةِ في الغريبِ، إلاَّ ما كانَ مصنِّفُوها أئِمَّةً جِلَّةً في هذا الشأْنِ. فمَنْ لم يكنْ مِنْ أهلِهِ، تَصَرَّفَ فيهِ فأخْطَأَ. وقدْ كانَ بعضُ العَجَمِ يقرأُ عليَّ مِنْ مُدَّةِ سنينَ في " المصابيحِ " للبغويِّ، فقرأَ حديثَ: ((إذا سَافرتُمْ في الخِصْبِ، فأَعْطُوا الإبلَ حَقَّها، وإذا سافرتُمْ في الجَدْبِ، فبادِرُوا بها نِقْيَها)) ، فَقَرَأَها نَقْبَها - بفتحِ النونِ وبالباءِ الموحدةِ بعدَ القافِ - فقلتُ لهُ: إنَّمَا هيَ نِقْيَهَا - بالكسرِ والياءِ آخرَ الحروفِ - فقالَ: هكذا ضبطَهُ بعضُ الشُّرَّاحِ في طُرَّةِ الكتابِ. فأخذْتُ منهُ الكتابَ، وإذا على الحاشيةِ كما ذكرَ. وقالَ النَّقْبُ: الطَّرِيْقُ الضَّيِّقُ بينَ جبَلَينِ. فقلتُ: هذا خطأٌ وتصحيفٌ فاحشٌ، وإنَّما هو النِّقْيُ، أي: الْمُخُّ الذي في العَظْمِ. ومنهُ قولُهُ في حديثِ أُمِّ زَرْعٍ: ((لا سَمِينَ فَيُنْتَقى)) ، وفي حديثِ

(2/87)


الأُضْحيَّةِ: ((والعَجْفاءِ التي لا تُنْقِي)) . فليحذرِ طالبُ العلمِ ضبطَ ذلكَ من الحواشي، إلاَّ إذا كانتْ بخطِّ مَنْ يُعْرَفُ خطُّهُ من الأئِمَّةِ.
وأحسنُ ما يفسَّرُ به الغريبُ ما جاءَ مُفَسَّراً بهِ في بعضِ طرقِ الحديثِ، كقولِ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديثِ الصحيحِ المتفقِ عليهِ لابنِ صائدٍ: ((قد خَبَأْتُ لكَ خَبِيئاً فما هُوَ؟ قالَ: الدُّخُّ)) . فالدُّخُّ هنا: هُوَ الدُّخَانُ، وَهُوَ لغةٌ فيهِ. حكاها ابنُ دُرَيْدٍ، وابنُ السِّيْدِ، والجوهريُّ، وغيرُهم. وحكى ابنُ السِّيْدِ فيهِ أيضاً: فَتْحَ الدالِ. وَقَدْ رَوَى أبو داودَ والترمذيُّ من روايةِ الزهريِّ، عن سالِمٍ، عن ابنِ عُمرَ في هَذَا الحديثِ، أنَّ النبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالَ لهُ: ((إنِّي قدْ خَبَأْتُ لكَ خَبِيْئَةً)) -وقالَ الترمذيُّ: ((خَبِيْئاً)) - وخَبَأَ لهُ {يَوْمَ تَأَتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِيْنٍ} قالَ الترمذيُّ: هَذَا حديثٌ صحيحٌ،

(2/88)


والحديثُ مُتَّفَقٌ عليهِ دون ذِكْرِ الآيةِ. وذكرَ أبو موسى المدينيُّ: أنَّ السِّرَّ في كونِهِ خَبَأَ لَهُ الدُّخانَ، أنَّ عيسى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْتُلُهُ بِجَبَلِ الدُّخَانِ فهذا هو الصوابُ في تفسيرِ الدُّخِّ هنا. وقد فسَّرَهُ غيرُ واحدٍ على غيرِ ذلكَ فأخطأَ، ومنهم الحاكمُ في " علوم الحديث "، قالَ: سألتُ الأدباءَ عن تفسيرِ الدُّخِّ، قالَ: يَدُخُّها، ويَزُخُّها، بمعنى واحدٍ، الدُّخُّ والزَّخُّ، قالَ: والمعنى الذي أشارَ إليه ابنُ صَيَّادٍ - خَذَلَهُ اللهُ - فيهِ مفهومٌ، ثُمَّ أنشدَ لعليِّ ابنِ أبي طالبٍ - رضي الله عنه -:

طُوْبَى لِمَنْ كَانَتْ لَهُ مَزَخَّهْ ... يَزُخُّهَا ثُمَّ يَنَامُ الفَخَّهْ
فالْمَزَخَّةُ - بالفتحِ -: هي المرأةُ. قالَهُ الجوهريُّ. ومعنى يَزُخُّها: يجامِعُها. والفَخَّةُ: أنْ ينامَ فينفخَ في نومِهِ. هذا الذي فَسَّرَ الحاكمُ بهِ الحديثَ من كونِهِ

(2/89)


الجماعَ، تخليطٌ فاحشٌ، كما قالَ ابنُ الصلاحِ، ثُمَّ إنِّي لم أرَ في كلامِ أهلِ اللغةِ أَنَّ الدُّخَّ -بالدال-: هو الجماعُ. وإنما ذكروهُ بالزاي فقطْ. ومِمَّنْ فسَّرَهُ على غيرِ الصوابِ أيضاً أبو سليمانَ الخطَّابيُّ فرجَّحَ أَنَّ الدُّخَّ: نَبْتٌ موجودٌ بينَ النخيلِ، وقالَ: لا معنى للدُّخَانِ هاهنا، إِذ ليسَ ممَّا يُخَبَّأُ، إلاَّ أنْ يُريدَ بـ: خَبَأْتُ أضْمَرْتُ وما قالَهُ الخطابيُّ أيضاً غيرُ مَرْضِيٍّ. وقولي: (والحاكمُ) ، هُوَ ابتداءُ كلامٍ مرفوعٍ، (وَفَسَّرَهُ) : في موضعِ الخبرِ.

الْمُسَلْسَلُ

764.... مُسَلْسَلُ الْحَدِيْثِ مَا تَوَارَدَا ... فِيْهِ الرُّوَاةُ وَاحِداً فَوَاحِدَا
765.... حَالاً لَهُمْأوْ وَصْفاً اوْوَصْفَسَنَدْ ... كَقَوْلِ كُلِّهِمْ: سَمِعْتُ فَاتَّحَدْ
766.... وَقَسْمُهُ إلى ثَمَانٍ مُثُلُ ... وَقَلَّمَا يَسْلَمُ ضَعْفاً يَحْصُلُ
767.... وَمِنْهُ ذُوْ نَقْصٍ بِقَطْعِ السِّلْسِلَهْ ... كَأوَّلِيَّةٍ وَبَعْضٌ وَصَلَهْ
التسلسلُ من صفاتِ الأسانيدِ، فالحديثُ المُسَلْسَلُ: هو ما تواردَ رجالُ إسنادِهِ واحداً فواحداً على حالةٍ واحدةٍ أوْ صفةٍ واحدةٍ سواءٌ كانتِ الصفةُ للرواةِ، أو للإسنادِ. وسواءٌ كانَ ما وقعَ منهُ في الإسنادِ في صيغِ الأداءِ، أو متَعَلّقاً بزمنِ الروايةِ، أو

(2/90)


بالمكانِ. وسواءٌ أكانتْ أحوالُ الرواةِ، أو صفاتُهم أقوالاً، أمْ أفعالاً؟ مثالُ التسلسلِ بأحوالِ الرواةِ القوليَّةِ، حديثُ مُعاذِ بنِ جَبَلٍ، أنَّ النبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالَ لهُ: ((يا معاذُ، إنِّي أُحبُّكَ، فَقُلْ في دُبُرِ كُلِّ صلاةٍ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي على ذِكْرِكَ، وشُكْرِكَ، وحُسْنِ عِبَادَتِكَ)) ، فَقَدْ تَسَلْسَلَ لنا بقولِ كُلٍّ من رواتهِ: وأنا أحبُّكَ فقلْ.
ومثالُ التسلسلِ بأحوالِ الرواةِ الفعليَّةِ، حديثُ أبي هريرةَ قالَ: شَبَّكَ بيدي أبو القاسمِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقالَ: خَلَقَ اللهُ الأرضَ يومَ السَّبْتِ، ... الحديثَ. فقدْ تسلسلَ لنا تشبيكُ كُلِّ واحدٍ من رواتِهِ بيدِ مَنْ رواهُ عنهُ. وقدْ يجتمعُ تسلسلُ الأقوالِ والأفعالِ في حديثٍ واحدٍ كالحديثِ الذي أخبرنا بهِ محمدُ بنُ إسماعيلَ بنِ إبراهيمَ الأنصاريُّ سماعاً عليهِ بدمشقَ في الرحلةِ الأولى، قالَ: أخبرنا والدِي، ويحيى بنُ عليِّ بنِ محمدٍ القلانسيُّ قالاَ: أخبرنا عليُّ بنُ محمدِ ابنِ أبي الحسنِ، قالَ: حَدَّثَنَا يحيى بنُ محمودٍ الثقفيُّ، قالَ: حَدَّثَنَا إسماعيلُ بنُ محمدِ بنِ الفضلِ، قالَ: حَدَّثَنَا أحمدُ بنُ عليِّ بنِ خَلَفٍ، قالَ: حَدَّثَنَا محمدُ بنُ عبدِ اللهِ الحاكمُ، قالَ: حَدَّثَنَا الزبيرُ بنُ عبدِ الواحدِ، قالَ: حَدَّثَنَا يوسفُ

(2/91)


ابنُ عبدِ الأحدِ الشافعيُّ، قالَ: حَدَّثَنَا سليمانُ بنُ شعيبٍ الكَيْسانيُّ، قالَ: حَدَّثَنَا سعيدٌ الأَدَمُ، قالَ: حَدَّثَنَا شِهابُ بنُ خِرَاشٍ، قالَ: سمعتُ يزيدَ الرَّقَاشِيَّ يُحَدِّثُ عن أنسِ بنِ مالكٍ، قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لا يَجِدُ العبدُ حلاوةَ الإيمانِ حَتَّى يُؤْمِنَ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ، حُلْوِهِ ومُرِّهِ)) قالَ: وقبضَ رسولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على لحيتِهِ، وقالَ: آمنتُ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ، حُلْوِهِ ومُرِّهِ، قالَ: وقَبَضَ أنسٌ على لحيتِهِ، وقالَ: آمنتُ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ، حُلْوِهِ ومُرِّهِ، قالَ: وأخذَ يزيدُ بلحيتِهِ، وقالَ: آمنتُ بالقدرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ، حُلْوِهِ ومُرِّهِ، قالَ: وأخذَ شهابٌ بلحيتِهِ، فقالَ: آمنتُ بالقدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ، حُلْوِهِ ومُرِّهِ، قالَ: وأخذَ سعيدٌ بلحيتِهِ، وقالَ: آمنتُ
بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ، حُلْوِهِ ومُرِّهِ، قالَ: وأخذَ سليمانُ بلحيتِهِ، وقالَ: آمنتُ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ، حُلْوِهِ ومُرِّهِ، قالَ: وأخذَ يوسفُ بلحيتِهِ، وقالَ: آمنتُ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ، حُلْوِهِ ومُرِّهِ، قالَ الحاكمُ: وأخذَ الزبيرُ بلحيتِهِ، وقالَ: آمنتُ بالقدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ، حُلْوِهِ ومُرِّهِ، قالَ: وأخذَ الحاكمُ بلحيتِهِ، وقالَ: آمنتُ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ، حُلْوِهِ ومُرِّهِ، قالَ: وأخذَ ابنُ خَلَفٍ بلحيتِهِ،

(2/92)


وقالَ: آمنتُ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ، حُلْوِهِ ومُرِّهِ، قالَ: وأخذَ إسماعيلُ بلحيتِهِ، وقالَ: آمنتُ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ، حُلْوِهِ ومُرِّهِ، قالَ: وأخذَ يحيى الثقفيُّ بلحيتِهِ، وقالَ: آمنتُ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ، حُلْوِهِ ومُرِّهِ، قالَ: وأخذَ عليُّ بنُ محمدٍ بلحيتِهِ وقالَ: آمنتُ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ، حُلْوِهِ ومُرِّهِ، قالَ: وأخذَ كُلٌّ مِنْ يحيى بنِ القلانسيِّ وإسماعيلَ بنِ إبراهيمَ بلحيتِهِ، وقالَ: آمنتُ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ، حُلْوِهِ ومُرِّهِ، وأخذَ شيخُنا أبو عبدِ اللهِ محمدُ بنُ إسماعيلَ بلحيتِهِ، وقالَ: آمنتُ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ، حُلْوِهِ ومُرِّهِ.
ومثالُ التسلسلِ بصفاتِ الرواةِ القوليةِ، كالحديثِ المُسلسلِ بقراءةِ سورةِ الصفِّ ونحوِهِ. وأحوالُ الرواةِ القوليَّةُ، وصفاتهُم القوليةُ، متقاربةٌ بل متماثلةٌ. ومثالُ التسلسلِ بصفاتِ الرواةِ الفعليَّةِ، كالحديثِ المسلسلِ بالفقهاءِ، وهو حديثُ ابنِ عمرَ مرفوعاً: ((البَيِّعَانِ بالخِيَارِ)) فقد تسلسلَ لنا بروايةِ الفقهاءِ. وكالحديثِ المسلسلِ بروايةِ الحفَّاظِ، ونحوِ ذلكَ. ومثالُ التسلسلِ بصفاتِ الإسنادِ والروايةِ، كقولِ كُلٍّ من رواتِهِ:

(2/93)


سمعتُ فلاناً، وإليهِ الإشارةُ بقولي: (كقولِ كُلِّهم: سمعتُ فاتَّحِدْ) ، لفظُ الأَدَاءِ في جميعِ الرواة فصارَ مسلسلاً بذلكَ، وكذلكَ قولُ جميعِهِمُ حدَّثَنا، أو قولُهَم: أخبرنا، وقولهُمُ: شهدتُ على فلانٍ، قالَ: شهدتُ على فلانٍ، ونحوُ ذلكَ. وجعلَ الحاكمُ من أنواعِهِ أنْ تكونَ ألفاظُ الأداءِ في جميعِ الرواةِ دالةٌ على الاتصالِ، وإنِ اختلفَتْ، فقالَ بعضُهم: سمعتُ، وبعضُهم: أخبرنا، وبعضُهم: حَدَّثَنَا، ولَم يُدْخِلِ الأكثرونَ في المسلسلاتِ إلاَّ ما اتفقتْ فيهِ صيغُ الأداءِ بلفظٍ واحدٍ، ومثالُ التسلسلِ في وقتِ الروايةِ حديثُ ابنِ عباسٍ، قالَ: شهدتُ رسولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في يومِ عيدِ فِطْرٍ، أَوْ أَضْحَى، ... الحديث. فقد تسلسلَ لنا بروايةِ كُلِّ واحدٍ من الرواةِ له في يومِ عيدٍ وكحديثِ تسلسُلِ قَصِّ الأظفارِ بيومِ الخميسِ، ونحوِ ذلكَ. ومثالُ التسلسلِ بالمكانِ، كالحديثِ المسلسلِ بإجابةِ الدعاءِ في الْمُلْتَزمِ. وأنواعُ التسلسلِ كثيرةٌ. وقد ذكرَهُ الحاكمُ في علومِهِ ثَمَانيةَ أنواعٍ، قالَ ابنُ الصلاحِ: والذي ذكرَهُ فيها إنَّمَا هو صُوَرٌ، وأمثلةٌ ثَمَانيةٌ، ولا انحصارَ لذلكَ في ثَمَانيةٍ.
قلتُ: لم يقل الحاكمُ إنَّهُ يَنْحَصِرُ في ثَمَانيةِ أنواعٍ، كما فهمَهُ ابنُ الصلاحِ، وإنَّمَا قالَ بعدَ ذِكْرِهِ الثَّمَانيةَ: ((فهذه أنواعُ المسلسَلِ من الأسانيدِ المتصلةِ التي لا يشوبُهَا تدليسٌ وآثارُ السماعِ بينَ الراويينِ ظاهرةٌ)) . انتهى.

(2/94)


فالحاكمُ إِنَّمَا ذَكَرَ من أنواعِ المُسَلْسَلِ ما يدلُّ على الاتصالِ. فالأولُ: المسلسلُ بـ: سَمِعْتُ. والثاني: المسلسلُ بقولِهِم: قُمْ فصبَّ عليَّ حتى أريَك وضوءَ فلانٍ. والثالثُ: المسلسلُ بمطلقِ ما يدلُّ على الاتصالِ من ((سمعتُ)) أو ((أخبرَنا)) أو ((حَدَّثَنَا)) ، وإنِ اختلفَتْ ألفاظُ الرواةِ. والرابعُ: المسلسلُ بقولِهِم: فإنْ قيلَ لفلانٍ: مَنْ أَمَرَكَ بهذا؟ قالَ: يقولُ: أمرني فلانٌ. والخامسُ: المسلسلُ بالأخذِ باللحيةِ، وقولِهِم: آمنتُ بالقَدَرِ، الحديث، وقد تقدَّمَ. والسادسُ: المسلسلُ بقولِهِم: وعدَّهُنَّ في يدي. والسابعُ: المسلسلُ بقولِهِم: شهدْتُ على فلانٍ. والثامنُ: المسلسلُ بالتشبيكِ باليدِ مع أَنَّ من أمثلتِهِ ما يدلُّ على الاتصالِ، ولم يذكرْهُ، كالمسلسلِ بقولِهِم: أطعَمَنا وسقانا. والمسلسلِ بقولِهِم: أضافَنَا بالأسودَيْنِ، التمرِ والماءِ. والمسلسلِ بقولِهِم: أخذَ فلانٌ بيدي. والمسلسلِ بالمصافَحةِ. والمسلسلِ بقصِّ الأظفارِ يومَ الخميسِ، ونحوِ ذلكَ. قالَ ابنُ الصلاحِ: ((وخيرُها ما كانَ فيه دلالةٌ على اتِّصَالِ السَّماعِ وعدمِ التدليسِ، قالَ: ومن فضيلةِ التسلسلِ اشتمالُه على مزيدِ الضَّبْطِ من الرواةِ. قالَ: وقلَّما تَسْلَمُ المسلسلاتُ من ضَعْفٍ، أعني: في وصفِ التسلسُلِ لا في أصلِ المتنِ)) .
ومن المسلسلِ ما هو ناقصُ التسلسُلِ بقطعِ السِلسِلةِ في وَسَطِهِ، أو أوَّلِهِ، أو آخرِهِ، كحديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو المسلسلِ بالأَوَّلِيَّةِ، فإِنَّهُ إنَّمَا يصحُّ التسلسلُ فيهِ إلى سفيانَ بنِ عُيينةَ، وانقطعَ التسلسلُ بالأَوَّلِيَّةِ في سماعِ سفيانَ من عمرٍو، وفي سماعِ عمرٍو من أبي قَابُوسَ، وفي سماعِ أبي قابوسَ من عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو، وفي سماعِ عبدِ اللهِ من النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقد وقعَ لنا - بإسنادٍ متصلٍ - التسلسلُ إلى آخرِهِ، ولا يصحُّ ذلكَ، واللهُ أعلمُ.

(2/95)