شرح (التبصرة والتذكرة = ألفية العراقي)

النَّاسِخُ، وَالْمَنْسُوْخُ

768.... وَاَلنَّسْخُ رَفْعُ الشَّارِعِ السَّابقَ مِنْ ... أَحْكَامِهِ بِلاَحِقٍ وَهْوَ قَمِنْ
769.... أَنْ يُعْتَنَى بِهِ وَكَانَ الشَّافِعِي ... ذَا عِلْمِهِ ثُمَّ بِنَصِّ الشَّارِعِ
770.... أَوْ صَاحِبٍ أَوْ عُرِفَ التَّارِيْخُ أَوْ ... أُجْمِعَ تَرْكَاً بَانَ نَسْخٌ وَرَأَوْا
771.... دَلاَلَةَ الإِجْمَاعِ لاَ النَّسْخَ بِهِ ... كَالْقَتْلِ فِي رَابِعَةٍ بِشُرْبِهِ

النسخُ يطلقُ لغةً: على الإزالةِ، وعلى التحويلِ. وأمَّا نسخُ الأحكامِ الشرعيَّةِ، وهو المحدودُ هنا، فهو عبارةٌ عن: ((رَفْعُ الشَّارعِ حُكْماً مِنَ أحكامِهِ سابقاً، بحكمٍ من أحكامِهِ لاحقٌ)) .
والمرادُ برفعِ الحكمِ: قطعُ تَعَلُّقِهِ بالمكلّفينَ، وإلاَّ فالحكمُ قديمٌ لا يرتفعُ. فقولنُا: (رفعُ) ، احترازٌ عن بيانِ مجملٍ، فإنَّهُ ليسَ برفعٍ.
وقولنا: (الشارعِ) ، احترازٌ عن إخبارِ بعضِ مَنْ شاهدَ النسخَ من الصحابةِ، فإنَّهُ لا يكونُ نسخاً، وإنْ كانَ التكليفُ إِنَّمَا حصلَ بإخبارِهِ لِمَنْ لم يكنْ بلغَهُ قَبْلَ ذلكَ.

(2/96)


وقولُنا: حكماً من أَحكامِهِ احترازٌ عن رفعِ الإباحةِ الأصليةِ، فإنَّهُ لا يُسَمَّى نسخاً.
وقولُنا: سابقاً، احترازٌ عن التخصيصِ المتصلِ بالتكليفِ، كالاستثناءِ، ونحوِهِ.
وقولُنا: بحكمٍ من أحكامِهِ، احترازٌ عن رَفْعِ الحكمِ لموتِ المكلفِ، أو زوالِ التكليفِ بجنونٍ، أو نحوِهِ.
وقولُنا لاحقٌ، احترازٌ عن انتهاءِ الحكمِ بانتهاءِ الوقتِ، كقولهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّكُمْ لاَقُوا العَدُوَّ غَداً، والفِطْرُ أَقْوَى لَكُم، فَأَفْطِرُوا فالصومُ - مثلاً بعدَ ذلكَ اليومِ ليسَ لنسخِ متَأخّرٍ، وإنَّمَا المأمورُ بهِ مُؤَقَّتٌ وقدْ انقضى وَقْتُهُ بعدَ ذلكَ اليومِ المأمورِ بإفطارِهِ
وقولي: (وهو قَمِنْ) - بفتحِ القافِ وكسرِ الميمِ - على إحدى اللُّغتينِ، بمعنى: حقيقٌ، أي: وعِلْمُ الناسخِ والمنسوخِ حقيقٌ أنْ يُعتَنَى بهِ.
وقولي ذا عِلْمِهِ، أي صاحبُ علمهِ وقد روينا عن أحمدَ بنِ حنبلٍ، أنَّهُ قالَ ما عَلِمْنَا الْمُجْمَلَ مِنَ الْمُفَسَّرِ، ولا ناسخَ حديثِ رسولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من منسوخِهِ حتى جالسْنَا الشافعيَّ
وقولي: (ثُمَّ بنَصِّ الشَّارِعِ ... ) إلى آخرِهِ. الجارُ والمجرورُ هنا متعلقٌ بقولي: بانَ نسخٌ أي يتبينُ النسخُ، ويعرفُ بنصِّ الشارعِ عليهِ، أو بنصِّ صاحبٍ من الصحابةِ عليهِ، أو بمعرفِةِ التاريخِ للواقعتينِ، أو بأنْ يُجمعَ على تركِ العملِ بحديثٍ

(2/97)


فالأولُ كقولِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُنْتُ نَهَيْتُكُم عن زيَارَةِ القُبُورِ، فَزُورُوْهَا وكُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عن لُحُومِ الأضَاحِي فوقَ ثلاثٍ فكُلُوا ما بَدَا لكُمْ وكُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنِ الظُّرُوْفِ، ... الحديثَ أخرجه مسلمٌ والترمذيُّ وصحَّحَهُ من حديثِ بُرَيْدَةَ بنِ الْحُصَيْبِ
والثاني كقولِ جابرٍ كانَ آخِرَ الأمْرَيْنِ من رسولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرْكُ الوُضُوءِ ممَّا مَسَّتِ النَّارُ رواهُ أبو داودَ والنسائيُّ وكقولِ أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ كانَ الماءُ من الماءِ رُخْصَةً في أوَّلِ الإسلامِ ثُمَّ أُمِرَ بالغُسْلِ. رواهُ أبو داودَ، والترمذيُّ وَصَحَّحَهُ، وابنُ ماجه. هكذا أطلقَ ابنُ الصلاحِ أنَّ مما يُعْرَفُ النسخُ به قولَ الصحابي، وهو واضحٌ. وخصَّصَ أهلُ الأصولِ ثبوتَ النسخِ بقولِهِ فيما إذا أخبرَ: بأنَّ هذا متأخّرٌ. فإنْ

(2/98)


قالَ: هذا ناسخٌ. لم يثبتْ بهِ النسخُ. قالَوا: لجوازِ أنْ يقولَهُ عن اجتهادِهِ، بناءً على أنَّ قولَهُ ليسَ بحجَّةٍ. وما قالَهُ أهلُ الحديثِ أوضحَ وأشهرَ. والنسخُ لا يُصارُ إليهِ بالاجتهادِ والرأي، وإنَّمَا يُصارُ إليهِ عندَ معرفةِ التأريخِ. والصحابةُ أورعُ من أنْ يحكمَ أحدٌ منهم على حُكمٍ شرعيٍّ بنسخٍ من غيرِ أنْ يعرفَ تأخُّرَ الناسخِ عنهُ. وفي كلامِ الشافعيِّ موافقةٌ لأهلِ الحديثِ، فقدْ قالَ فيما رواهُ البيهقيُّ في المدخلِ ولا يُسْتَدَلُّ على الناسخِ والمنسوخِ إلاَّ بخبرٍ عنْ رسولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو بوقتٍ يَدُلُّ على أَنَّ أحدَهُما بعدَ الآخَرِ، أو بقولِ مَنْ سَمِعَ الحديثَ، أو العامَّةِ.
فقولُهُ: أو بقولِ مَنْ سمعَ الحديثَ، أرادَ بهِ قولَ الصحابةِ مطلقاً، فذكرَ الوجوهَ الأربعةَ التي يُعْرَفُ بها النسخُ، واللهُ أعلمُ.
والثالثُ كحديثِ شَدَّادِ بنِ أَوْسٍ، أنَّ النبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالَ أَفْطَرَ الحاجِمُ والْمَحْجُومُ رواهُ أبو داودَ والنسائيُّ، وابنُ ماجه فذكرَ الشافعيُّ - رضي الله عنه - أنَّهُ منسوخٌ بحديثِ ابنِ عباسٍ، أنَّ النبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احتجمَ وهو مُحْرِمٌ صائمٌ أخرجَهُ مسلمٌ فإنَّ ابنَ عبَّاسٍ إنَّمَا صَحِبَهُ مُحْرِماً في حجَّةِ الوداعِ سنةَ عشرٍ. وفي بعضِ طرقِ حديثِ شَدَّادٍ: أنَّ ذلكَ كانَ زَمَنَ الفتحِ، وذلكَ في سنةِ ثمانٍ، واللهُ أعلمُ.

(2/99)


والرابعُ كحديثِ مُعاويةَ قالَ قالَ رسولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ شَرِبَ الخَمْرَ فاجْلِدُوهُ، فإنْ عادَ في الرابعةِ فَاقْتُلُوهُ رواهُ أصحابُ السنِنِ، أبو داود، والترمذيُّ، وابنُ ماجه، قالَ الترمذيُّ في آخرِ الجامعِ جميعُ ما في هذا الكتابِ معمولٌ بهِ، وقد أخذَ بهِ بعضُ أهلِ العِلْمِ ما خَلاَ حديثينِ حديثَ ابنِ عبَّاسٍ في الجمعِ بين الظهرِ والعصرِ بالمدينةِ، والمغربِ والعشاءِ من غيرِ خَوفٍ، ولا سفرٍ، وحديثُ، إذا شربَ الخمرَ فاجلدوهُ، فإنْ عادَ في الرابعةِ فاقْتُلُوهُ)) . قالَ النوويُّ في " شرحِ مسلمٍ ": ((وهذا في حديثِ شاربِ الخمرِ هو كما قالَهُ، فهو حديثٌ منسوخٌ دلَّ الإجماعُ على نَسْخِهِ. قالَ: وأمَّا حديثُ ابنِ عبَّاسٍ فلَمْ يُجْمِعُوا على تَرْكِ العَمَلِ بهِ)) . قلتُ: وقولُهُ عن حديثِ شاربِ الخمرِ: أنَّهُ كما قالَهُ، فيهِ نظرٌ من حيثُ إنَّ ابنَ حَزْمٍ خالفَ في ذلكَ.

(2/100)


اللَّهُمَّ إلاَّ أنْ يُقالَ: إنَّ خلافَ الظاهريَّةِ لا يقدحُ في الإجماعِ. وقد ذكرَ أبو الفتحِ اليعمريُّ في "شرحِ الترمذيِّ"، أنَّهُ روى ذلكَ أيضاً عن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو، واللهُ أعلمُ.
ومعَ الإجماعِ على خلافِ العملِ به فقد وردَ النَّسْخُ لذلكَ كما قالَ الترمذيُّ من روايةِ محمدِ بنِ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ الْمُنْكَدِرِ، عنْ جابرٍ، عنِ النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ إنْ شَرِبَ الخمرَ فاجْلِدُوهُ، فإنْ شَرِبَ في الرابعةِ فاقْتُلُوهُ قالَ ثُمَّ أُتِيَ النبيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعدَ ذلكَ برجلٍ قد شَرِبَ الخَمْرَ في الرابعةِ فضرَبهُ ولم يقتلْهُ، قالَ وكذلكَ روى الزهريُّ، عن قَبِيْصَةَ بنِ ذُؤَيْبٍ، عنِ النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، نحوَ هذا، قالَ فرُفِعَ القتلُ، وكانتْ رُخْصَةً ولم يجعلْ أبو بكرٍ الصَّيرفيُّ الإجماعَ دليلاً على تَعَيُّنِ المصيرِ للنسخِ، بل جعلَهُ متردداً بينَ النسخِ والغَلَطِ، فإنَّهُ قالَ في كتابهِ " الدلائلِ ": فإنْ أُجْمِعَ على إبطالِ حُكْمِ أحدِهما، فهو منسوخٌ، أوْ غلطٌ، والآخرُ ثابتٌ. وما قالَهُ محتَملٌ، واللهُ أعلمُ.
التَّصْحِيْفُ

772.... وَالْعَسْكَرِيْ وَالدَّارَقُطْنِيْ صَنَّفَا ... فِيْمَا لَهُ بَعْضُ الرُّوَاةِ صَحَّفَا
773.... فِي الْمَتْنِ كَالصُّوْلِيِّ ((سِتّاً)) غَيَّرْ ... ((شَيْئاً)) ، أوِ الإِسْنَادِ كَابْنِ النُّدَّرْ
774.... صَحَّفَ فِيْهِ الطَّبَرِيُّ قالاَ: ... ((بُذَّرُ)) بالبَاءِ وَنَقْطٍ ذَالاَ

(2/101)


معرفةُ التصحيف فَنٌّ مهمٌّ، وقد صنَّفَ فيهِ أبو الحسنِ الدَّارقطنيُّ، وصنَّفَ فيهِ أبو أحمدَ العسكريُّ كتابَهُ المشهورَ في ذلكَ، وذِكْرُ العسكريِّ من الزوائدِ على ابنِ الصلاحِ بغيرِ تمييزٍ.
ثُمَّ التصحيفُ ينقسمُ إلى تصحيفٍ في متنِ الحديثِ، وإلى تصحيفٍ في الإسنادِ. وينقسمُ أيضاً إلى تصحيفِ البصرِ -وهو الأكثرُ- وإلى تصحيفِ السَّمْعِ -كما سيأتي-. وينقسمُ أيضاً إلى تصحيفِ اللَّفْظِ - وهو الأكثرُ - وإلى تصحيفِ المعنى - كما سيأتي -. فمثالُ التصحيفِ في المتنِ ما ذكرَهُ الدارقطنيُّ: أَنَّ أبا بكرٍ الصُّوليَّ أَمْلَى في الجامعِ حديثَ أبي أيوبَ مرفوعاً: ((مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، وأَتْبَعَهُ سِتّاً من شَوَّالٍ، ... )) . فقالَ فيهِ: شيئاً - بالشينِ المعجمةِ، والياءِ آخرِ الحروفِ -. وكقولِ هِشامِ بنِ عُرْوةَ في حديثِ أبي ذَرٍّ: ((تُعِينُ ضَايعاً)) - بالضادِ المعجمة والياءِ آخرِ الحروفِ -. والصوابُ-

(2/102)


بالمهملةِ والنونِ -. وكقولِ وكيعٍ في حديثِ معاويةَ: ((لعنَ رسولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذينَ يُشَقِّقُوْنَ الحَطبَ)) بفتح الحاء المهملة - وإنَّمَا هو بضمِّ المعجمَةِ -. وحُكِيَ: أنَّ ابنَ شاهيَن صحَّفَهُ كذلكَ. وكقولِ أبي موسى محمدِ بنِ الْمُثَنَّى في حديثِ: ((أو شاةٍ تَنْعَرُ - بالنونِ - وإنَّمَا هو بالياءِ آخرِ الحروفِ. وكقولِ أبي بكرٍ الإسماعيليِّ في حديثِ عائشةَ: ((قَرَّ الزُّجَاجَةِ)) بالزاي، وإِنَّما هو بالدالِ المهملةِ المفتوحةِ.

(2/103)


ومثالُ التصحيفِ في الإسنادِ ما ذكرَهُ الدارقطنيُّ: أنَّ محمدَ بنَ جريرٍ الطبريَّ قالَ فيمَنْ روى عن رسولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ بني سُليمٍ، ومنهم: عُتبةُ بنُ البُذَّرِ، قالَهُ: بالموحّدةِ والذالِ المعجمةِ، وإنَّمَا هو بالنونِ المضمومةِ، وفتحِ الدالِ المهملةِ المشدَّدَةِ. وكقولِ يحيى بنِ مَعينٍ: العَوَّامُ بنُ مُزَاحِمٍ - بالزاي والحاء المهملة - وإنَّمَا هو بالراءِ والجيمِ.

775.... وَأَطْلَقُوْا التَّصْحِيْفَ فِيْمَا ظَهَرَا ... كَقَوْلِهِ: ((احْتَجَمْ)) مَكَانَ ((احْتَجَرا))
أي وقد أطلقَ مَنْ صنَّفَ في التصحيفِ، التصحيفَ على ما لا تشتبِهُ حروفُهُ بغيرِهِ، وإنَّمَا أخطأَ فيه راويهِ، أو سقطَ بعضُ حروفِهِ من غيرِ اشتباهٍ مثالُهُ ما ذكرهَ مسلمٌ في التمييزِ أنَّ ابنَ لهيعةَ صَحَّفَ في حديثِ زيدِ بنِ ثابتٍ أنَّ رسولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَرَ في المسجدِ، فقالَ احْتَجَمَ بالميمِ وكما رَوَى يحيى بنُ سَلاَّمٍ الْمُفَسِّرُ عن سعيدِ بن أبي عَرُوبةَ عن قَتَادةَ في قولِهِ تعالى {سأُرِيْكُمْ دَارَ الْفَاسِقِيْنَ} ، قالَ مِصْرُ، وقدِ استعظمَ أبو زُرْعَةَ الرازيُّ هذا واستقبحَهُ، وذكرَ أنَّهُ في تفسيرِ سعيدٍ عن قتادةَ مَصِيْرُهُم، فأطلقوا على مثلِ هذا اسمَ التصحيفِ، وإنْ لم يشتبهْ. ولكنَّهُ سقطَ الضميرُ والياءُ، فوقعَ هكذا.

(2/104)


776.... وَوَاصِلٌ بِعَاصِمٍ وَالأَحْدَبُ ... بِأَحْوَلٍ تَصْحِيْفَ سَمْعٍ لَقَّبُوا
777.... وَصَحَّفَ الْمَعْنَى إِمَامُ عَنَزَهْ ... ظَنَّ الْقَبِيْلَ بحَدِيْثِ ((الْعَنَزَهْ))
778.... وَبَعْضُهُمْ ظَنَّ سُكُوْنَ نَوْنِهْ ... فَقالَ: شَاَةٌ خَابَ فِي ظُنُوْنِهْ
هذا مثالٌ لتصحيفِ السمعِ، وتصحيفِ المعنى. فأمّا تصحيفُ السَّمْعِ فهو: أنْ يكونَ الاسمُ واللقبُ، أو الاسمُ واسمُ الأبِ على وزن اسمٍ آخرَ ولقبِهِ، أو اسمٍ آخرَ واسمِ أبيهِ؛ والحروفُ مختلفةٌ شكلاً ونطقاً، فيشتبِهُ ذلكَ على السَّمْعِ، كأنْ يكونَ الحديثُ لعاصمٍ الأحولِ فيجعلُهُ بعضُهم عن واصلٍ الأحدبِ. فذكرَ الدارقطنيُّ: أنَّهُ من تصحيفِ السمعِ. وكذا عكسُهُ، مثالُهُ ما ذكرَهُ النسائيُّ عن يزيدَ بنِ هارونَ، عن شعبةَ، عن عاصمٍ الأحولِ، عن أبي وائلٍ، عن ابنِ مسعودٍ بحديث: ((أيُّ الذنبِ أعظمُ؟ ... الحديث)) . وكذلكَ ذكرَهُ الخطيبُ في " المُدْرَجَاتِ " من طريقِ مهديِّ بنِ ميمونٍ، عن عاصمٍ الأحولِ، والصوابُ: واصلٌ الأحدبُ مكانَ عاصمٍ الأحولِ من طريقِ شعبةَ، ومهديٍّ، وغيرِهما. قالَ النسائيُّ: حديثُ يزيدَ خطأٌ، إنَّما هو عن واصلٍ. وقالَ الخطيبُ: إنَّ قولَ بعضِهِم: عن مهديِّ بنِ ميمونٍ، عن عاصمٍ الأحولِ؛ وَهْمٌ. قالَ: وقد رواهُ شعبةُ والثوريُّ ومالكُ بنُ مِغْولٍ، وسعيدُ بنُ مسروقٍ، عن واصلٍ

(2/105)


الأحدبِ. عن أبي وائلٍ. قالَ: وهذا أيضاً هو المشهورُ من روايةِ مهديٍّ. ومن ذلك ما رواهُ أبو داودَ والنسائيُّ من روايةِ شعبةَ عن مالكِ ِعُرْفُطَةَ، عن عبدِ خيرٍ، عن عليٍّ في صفةِ الوضوءِ والصوابُ: خالدُ بنُ عَلْقَمَةَ، مكانَ: مالكِ بنِ عُرْفُطةَ. قالَهُ النسائيُّ. وقد نسبَ شعبةَ فيهِ إلى الخطأ أبو داودَ والنسائيُّ وغيرُهما. وقد سمَّى أحمدُ بنُ حنبلٍ هذا تصحيفاً، فقالَ في حديثٍ رواهُ شُعبةُ عن مالك بنِ عُرْفُطةَ، عن عبدِ خَيرٍ، عن عائشةَ في النهي عنِ الدُّبَّاءِ، والْمُزَفَّتِ، صَحَّفَ فيه شُعبةُ، وإنَّمَا هو خالدُ بنُ عَلْقَمةَ.
وأما تصحيفُ المعنى، فمثالُهُ ما ذكرَهُ الدارقطنيُّ: أنَّ أبا موسى محمدَ بنَ الْمُثَنَّى العَنَزِيَّ الملقَّبَ بالزَّمِنِ، أحدَ شيوخِ الأئِمَّةِ السِّتَّةِ، وَهُوَ المرادُ في قولي: (إِمَامُ عَنَزَهْ) ، قالَ يوماً: نحنُ قومٌ لنا شَرَفٌ، نحنُ من عَنَزَةَ قَدْ صَلَّى النبيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلينا. يريدُ أَنَّ النبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى إلى عَنَزَةَ فَتَوَهَّمَ أنَّهُ صَلَّى إلى قبيلتِهِم. وإنَّمَا العَنَزَةُ هنا الحربةُ

(2/106)


تُنْصَبُ بينَ يديهِ. وأعجبُ مِن ذلكَ ما ذكرهُ الحاكمُ عن أعرابيٍّ: أنَّهُ زعمَ أنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ إذا صَلَّى نُصِبَتْ بينَ يديهِ شاةٌ فصحَّفَها عَنْزَة - بإسكان النون - ثُمَّ رواهُ بالمعنى على وهْمِهِ فاخطأَ في ذلكَ من وجهينِ، واللهُ أعلمُ. ومن أمثلةِ تصحيفِ المعنى، ما ذكرَهُ الخطَّابيُّ عن بعضِ شيوخِهِ في الحديثِ: أنّهُ لما روى حديثَ النهيِ عن التحليقِ يومَ الْجُمعةِ قبلَ الصلاةِ، قالَ: ما حَلَقْتُ رأسي قبلَ الصلاةِ منذُ أربعينَ سنةً. فهِمَ منهُ تحليقَ الرؤوسِ، وإنَّمَا المرادُ تحليقُ الناسِ حِلَقاً، واللهُ أعلمُ.

(2/107)