شرح (التبصرة والتذكرة = ألفية العراقي) مُخْتَلِفُ الْحَدِيْثِ
779.... وَالْمَتْنُ إِنْ نَافَاهُ مَتْنٌ آخَرُ ...
وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ فَلاَ تَنَافُرُ
780.... كَمَتْنِ ((لاَ يُوْرِدُ)) مَعْ ((لاَ عَدْوَى)) ...
فَالنَّفْيُ لِلطَّبْعِ وَفِرَّ عَدْوَا
781.... أَوْلاَ فَإِنْ نَسْخٌ بَدَا فَاعْمَلْ بِهِ ... أَوْ
لاَ فَرَجِّحْ وَاعْمَلَنْ بِالأَشْبَهِ
هذا فنٌّ تكلَّمَ فيهِ الأئِمَّةُ الجامعونَ بينَ الحديثِ
والفقهِ وأوَّلُ مَنْ تكلَّمَ فيهِ الإمامُ الشافعيُّ - رضي
الله عنه - في كتابهِ اختلافُ الحديثِ، ذكرَ فيهِ جُملةً من
ذلكَ يَتَنَبَّهُ بها على طريقِ الجمعِ، ولم يقصدِ استيفاءَ
ذلكَ، ولم يفردْهُ بالتأليفِ، إنَّما هو جزءٌ من كتابِ "
(2/108)
الأُمِّ ". ثُمَّ صنَّفَ في ذلكَ أبو محمدِ
بنُ قتيبةَ فأَتى بأشياءَ حسنةٍ، وقَصُرَ باعُهُ في أشياءَ
قَصَّرَ فيها. وصنَّفَ في ذلكَ محمدُ بنُ جريرٍ الطبريُّ، وأبو
جَعْفَرٍ الطحاويُّ كتابَهُ " مُشْكِلُ الآثارِ "، وهو من
أَجلِّ كُتُبِهِ وكانَ الإمامُ أبو بكرِ بنُ خُزيمةَ مِنْ
أَحسنِ الناسِ كلاماً في ذلكَ، حتى إنَّهُ قالَ: لا أعرفُ
حديثينِ صحيحينِ متضادَّينِ، فَمَنْ كانَ عندَهُ فليأتني بهِ
لأُؤَلِّفَ بينهُمَا.
وجملةُ الكلامِ في ذلك: إنَّا إذا وجدْنَا حديثينِ مختلفي
الظاهرِ، فلا يخلو إمّا أنْ يُمْكنَ الجمعُ بينهما بوجهٍ
يَنْفي الاختلافَ بينهما، أوْ لا؟ فإنْ أمْكَنَ ذلكَ بوجهٍ
صحيحٍ، تَعَيَّنَ الجمعُ، ولا يُصَارُ إلى التعارُضِ، أوِ
النَّسْخِ، معَ إمكانِ الجمعِ، مثالُهُ قولُهُ - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديثِ الصحيحِ لا يُورِدُ مُمْرِضٌ
على مُصِحٍّ وقولُهُ فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ فرارَكَ من
الأسدِ معَ قولِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في
الحديثِ الصحيحِ أيضاً لا عَدْوَى ولا طِيَرَةَ، فقد جعلَهَا
بعضُهم متعارضةً، وأدخلَهَا بعضُهم في الناسخِ والمنسوخِ، كأبي
حفصِ بنِ شاهينَ والصوابُ الجمعُ بَيْنَهُما، ووجهُهُ أَنَّ
قولَه لا عَدْوَى نفيٌ لما كانَ يعتقدُهُ أهلُ الجاهليةِ،
وبعضُ الحكماءِ، مِن أنَّ هذهِ الأمراضَ تُعْدِي بِطَبْعِهَا،
ولهذا قالَ: ((فَمَنْ أَعْدَى الأوَّلَ)) ، أي: إنَّ اللهَ هوَ
الخالقُ لذلكَ بسببٍ وغيرِ سببٍ، وإنَّ قولَه ((لا يُورِدُ
مُمْرِضٌ على مُصِحٍّ)) ، ((وفِرَّ منَ الْمَجْذُومِ)) ، بيانٌ
لما يخلقُهُ اللهُ منَ الأسبابِ عندَ المخالطَةِ للمريضِ، وقدْ
يتخلَّفُ ذلكَ عن سببِهِ، وهذا مذهبُ أهلِ السُّنَّةِ. كما
أَنَّ النارَ لا تُحْرِقُ بطَبْعِهَا، ولا الطعامُ يُشْبِعُ
بطبعِهِ، ولا الماءُ يُرْوِي بطبعِهِ، وإنَّما
(2/109)
هيَ أسبابٌ، والقَدَرُ وراءَ ذلك. وقد
وجدنا من خالطَ المصابَ بالأمراض التي اشتهرتْ بالإعْدَاءِ،
ولم يتأثَّرْ بذلكَ. ووجدْنَا من احترزَ عن ذلكَ، الاحترازَ
الممكنَ، وأُخِذَ بذلكَ المرضِ.
(وعَدْوا) في آخرِ البيتِ، مصدرُ قولِكِ عَدَا يَعْدُوْا
عَدْواً، إذا أسرعَ في مَشْيِهِ، إشارةٌ إلى قولِهِ: ((فِرَّ
منَ الْمَجْذُومِ فِراركَ من الأسدِ)) .
وإنْ لم يمكنِ الجمعُ بينَ الحديثينِ المختلفينِ، فإنْ عُرف
المتأخّرُ منهما فإنَّهُ يُصارُ حينئذٍ إلى النسخِ، ويعملُ
بالمتأخِّرِ منهما. وإنْ لم يدُلَّ دليلٌ على النسخِ، فقد
تعارضَا حينئذٍ فيُصَارُ إلى الترجيحِ، ويُعْمَلُ بالأرجحِ
منهما، كالترجيحِ بكثرةِ الرواةِ، أو بصفاتِهِم في خمسينَ
وَجْهاً من وُجوهِ الترجيحاتِ وأكثرَ. كذا ذكرَ ابنُ الصلاحِ:
أنَّ وجوهَ الترجيحاتِ خمسونَ، وأكثرُ. وتَبِعَ في ذلكَ
الحازميَّ، فإنَّهُ كذلكَ قالَ في كتابِ " الاعتبار " لهُ في
الناسخِ والمنسوخِ. وقد رأينا أنْ نسرُدَها مُختصَرةً:
الأولُ: كثرةُ الرواةِ.
الثاني: كونُ أحدِ الراوِيَيْنِ أتقنَ وأحفظَ.
الثالثُ: كونُهُ مُتَّفَقاً على عدالتِهِ.
الرابعُ: كونُهُ بالغاً حالةَ التحمُّلِ.
الخامسُ: كونُ سماعِهِ تحديثاً، والآخَرِ عَرْضاً.
السادسُ: كونُ أحدِهما سماعاً، أوْ عَرْضاً، والآخرِ كتابةً،
أو وِجادةً، أو مُناولةً.
السابعُ: كونُهُ مباشراً لما رواهُ.
الثامنُ: كونُهُ صاحبَ القِصَّةِ.
التاسعُ: كونُهُ أحسنَ سياقاً، واستقصاءً لحديثِهِ.
(2/110)
العاشرُ: كونُهُ أقربَ مكاناً.
الحادي عشرَ: كونُهُ أكثرَ ملازمةً لشيخِهِ.
الثاني عشرَ: كونُهُ سمِعَهُ من مشايخِ بلدِهِ.
الثالث عشرَ: كونُ أحدِ الحديثينِ له مخارجُ.
الرابعَ عشرَ: كونُ إسنادِهِ حِجازياً.
الخامسَ عشرَ: كونُ رواتِهِ من بلدٍ لا يرضونَ التدليسَ.
السادسَ عشرَ: دلالةُ ألفاظِهِ على الاتِّصالِ، كـ: سمعتُ، و:
حدَّثنا.
السابعَ عشرَ: كونُهُ مشافِهاً مُشاهداً لشيخِهِ عندَ الأَخذِ.
الثامنَ عشرَ: عدمُ الاختلافِ في الحديثِ.
التاسعَ عشرَ: كونُ راويهِ لم يضطربْ لفظُهُ، وهو قريبٌ من
الذي قبلَهُ.
العشرونَ: كونُ الحديثِ مُتَّفَقاً على رفْعِهِ.
الحادي والعشرونَ: كونُهُ مُتَّفَقاً على اتِّصالِهِ.
الثاني والعشرونَ: كونُ راويهِ لا يجيزُ الروايةَ بالمعنى.
الثالثُ والعشرونَ: كونُهُ فَقِيهاً.
الرابعُ والعشرونَ: كونُهُ صاحبَ كتابٍ يَرْجِعُ إليهِ.
الخامسُ والعشرونَ: كونُ أحدِ الحديثينِ نصاً وقولاً [والآخَرُ
نُسِبَ إليهِ استدلالاً واجتهاداً] .
السادسُ والعشرونَ: كونُ القولِ يقارنُهُ الفعلُ.
السابعُ والعشرونَ: كونُهُ مُوَافقاً لظاهرِ القرآنِ.
الثامنُ والعشرونَ: كونُهُ مُوَافقاً لِسُنَّةٍ أُخرى.
التاسعُ والعشرونَ: كونُهُ موافقاً للقياسِ.
الثلاثونَ: كونُهُ معه حديثٌ آخرُ مرسلٌ، أو منقطعٌ.
الحادي والثلاثونَ: كونُهُ عملَ به الخلفاءُ الراشدونَ.
الثاني والثلاثونَ: كونُهُ مع عَمَلِ الأُمَّةِ.
(2/111)
الثالثُ والثلاثونَ: كونُ ما تضمَّنَهُ من
الحكمِ منطوقاً.
الرابعُ والثلاثونَ: كونُهُ مُستقلاً لا يحتاجُ إلى إضمارِ.
الخامسُ والثلاثونَ: كونُ حكمِهِ مَقْرُوناً بصفةٍ، والآخرُ
بالاسمِ.
السادس والثلاثونَ: كونُهُ مقروناً بتفسيرِ الراوي.
السابعُ والثلاثونَ: كونُ أحدِهِما قولاً، والآخرُ فعلاً،
فيرجَّحُ القولُ.
الثامنُ والثلاثونَ: كونُهُ لم يدخلْهُ التخصيصُ.
التاسعُ والثلاثونَ: كونُهُ غيرَ مُشعرٍ بنوعِ قدحٍ في
الصحابةِ.
الأربعونَ: كونُهُ مُطلقاً، والآخرُ وردَ على سببٍ.
الحادي والأَربعونَ: دلالةُ الاشتقاقِ على أحدِ الحكمينِ.
الثاني والأربعونَ: كونُ أحدِ الخصمينِ قائلاً بالخبرينِ.
الثالثُ والأربعونَ: كونُ أحدِ الحديثينِ فيه زيادةٌ.
الرابعُ والأربعونَ: كونُهُ فيه احتياطٌ للفرضِ وبراءةُ
الذِّمَّةِ.
الخامسُ والأربعونَ: كونُ أحدِ الحديثينِ له نظيرٌ متفقٌ على
حُكمِهِ.
السادسُ والأربعونَ: كونُهُ يدُلُّ على الحظرِ، والآخرُ على
الإباحةِ.
السابعُ والأربعونَ: كونُهُ يثبتُ حُكماً موافقاً لحكمِ ما
قبلَ الشَّرْعِ، فقيلَ: هو أَوْلَى، وقيلَ: هما سواءٌ.
الثامنُ والأربعونَ: كونُ أحدِ الخبرينِ مُسقطاً للحدِّ،
فقيلَ: هو أَوْلَى، وقيلَ: لا ترجيحَ.
التاسعُ والأربعونَ: كونُهُ إثباتاً يتضمنُ النقلَ عن حُكمِ
العقلِ والآخرُ نفياً يتضمنُ الإقرارَ على حكمِ العقلِ.
الخمسونَ: أنْ يكونَ أحدُهما في الأقضيةِ، وراويه عليٌّ: أو في
الفرائضِ، وراويه زيدُ ابنُ ثابتٍ، أو في الحلالِ والحرامِ
وراويه مُعاذُ بنُ جَبَلٍ، وَهَلُمَّ جَرّاً.
(2/112)
فالصحيحُ الذي عليهِ الأكثرونَ، كما قالَ
الحازميُّ: الترجيحُ بهِ. وقدِ اقتصرَ الحازميُّ على ذكرِ هذهِ
الخمسينَ وجهاً، قالَ: وثَمَّ وجوهٌ كثيرةٌ أضْرَبْنَا عن
ذِكْرِها، كي لا يطولَ بهِ هذا الْمُخْتَصَرُ. قلتُ: وقدْ
خالفَهُ بعضُ الأصوليينَ في بعضِ ما ذكرَهُ من وُجوهِ
الترجيحاتِ، فرجَّحَ مقابلَهُ، أو نَفى التَّرجيحَ. وقد زادَ
الأصوليونَ كالإمامِ فخرِ الدينِ الرازيِّ، والسيفِ الآمديِّ،
وأتباعِهِما؛ وجوهاً أُخرى للترجيحِ، إذا انضمتْ إِلَى هذهِ،
زادتْ عَلَى المائةِ. وَقَدْ جمعتُها فِيْمَا جمعتُهُ عَلَى
كلامِ ابنِ الصَّلاحِ، فلتراجعْ من هناكَ، وقدِ اقتصرتُ هنا
عَلَى ما أودَعَهُ المحدِّثُونَ كُتُبَهُمْ، واللهُ أعلمُ.
خَفِيُّ الإِرْسَالِ، وَالْمَزِيْدُ فِي الإِسْنَادِ
782.... وَعَدَمُ السَّمَاعِ وَالِلِّقَاءِ ... يَبْدُو بِهِ
الإِرْسَالُ ذُوْ الْخَفَاءِ
783.... كَذَا زِيَادَةُ اسْمِ رَاوٍ فِي السَّنَدْ ... إِنْ
كَانَ حَذْفُهُ بِعَنْ فِيْهِ وَرَدْ
(2/113)
784.... وَإِنْ بِتَحْدِيْثٍ أَتَى
فَالْحُكْمُ لَهْ ... مَعَ احْتِمَالِ كَوْنِهِ قَدْ حمَلَهْ
785.... عَنْ كُلٍّ الاَّ حَيْثُ مَا زِيْدَ وَقَعْ ...
وَهْماً وَفِي ذَيْنِ الْخَطِيْبُ قَدْ جَمَعْ
ليسَ المرادُ هُنا بالإرسالِ ما سقطَ منهُ الصحابيُّ، كما هو
المشهورُ في حدِّ المرسلِ. وإنَّمَا المرادُ هُنا: مُطلقُ
الانقطاعِ.
ثُمَّ الإرسالُ على نوعينِ: ظاهرٌ، وخفيٌّ.
فالظاهرُ هو أَنْ يرويَ الرجلُ عَمَّنْ لم يعاصرْهُ بحيثُ لا
يشتبهُ إرسالُهُ باتصالِهِ على أهلِ الحديثِ، كأنْ يرويَ مالكٌ
مثلاً عن سعيدِ بنِ المسيِّبِ، وكحديثٍ رواهُ النسائيُّ من
روايةِ القاسمِ بنِ محمدٍ، عن ابنِ مسعودٍ، قالَ أصابَ النبيُّ
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعضَ نسائِهِ، ثُمَّ نامَ
حَتَّى أصبحَ، ... الحديثَ فإنَّ القاسمَ لَمْ يُدْرِكِ ابنَ
مسعودٍ.
والخفيُّ: هو أنْ يرويَ عمَّنْ سمعَ منهُ ما لم يسمعْهُ منهُ،
أوْ عمَّنْ لقيَهُ ولم يسمعْ منه، أوْ عمَّنْ عاصرَهُ ولم
يلقَهُ، فهذا قد يخفى على كثيرٍ من أهلِ الحديثِ، لكونِهِما قد
جمعَهُما عصرٌ واحدٌ. وهذا النوعُ أشبهُ برواياتِ
المدَلِّسِينَ. وقد أفردَهُ ابنُ الصلاحِ بالذِّكْرِ عن نوعِ
المرسلِ، فتبعتُهُ على ذلكَ.
(2/114)
ويعرفُ خفيُّ الإرسالِ بأمورٍ:
أحدُها أنْ يُعْرَفَ عدمُ اللقاءِ بينهما بنصِّ بعضِ الأئمةِ
على ذلك، أوْ يُعْرَفَ ذلكَ بوجهٍ صحيحٍ، كحديثٍ رواه ابنُ
ماجَه من روايةِ عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، عن عُقْبَةَ بنِ
عامرٍ، عن النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ
رَحِمَ اللهُ حَارِسَ الْحَرَسِ، فإنَّ عمرَ لم يلقَ عُقبةَ،
كما قالَ المِزِّيُّ في الأطرافِ
والثاني: بأنْ يُعْرَفَ عَدَمُ سماعِهِ منهُ مطلقاً بنصِّ
إمامٍ على ذلكَ، أوْ نحوِهِ، كأحاديثِ أبي عُبيدةَ بنِ عبدِ
اللهِ بنِ مسعودٍ عن أبيهِ، وهي في السُّنَنِ الأربعةِ. فقد
روى الترمذيُّ: أنَّ عَمْرَو بنَ مُرَّةَ قالَ لأبي عُبيدةَ:
هلْ تذكرُ مِنْ عبدِ اللهِ شيئاً؟ قالَ: لا.
والثالثُ: بأنْ يُعْرَفَ عدمُ سماعِهِ منهُ لذلكَ الحديثِ
فَقَطْ، وإنْ سَمِعَ منهُ غيرُهُ؛ إمَّا بنصِّ إمامٍ، أو
إخبارِهِ عن نفسِهِ بذلكَ في بعضِ طرقِ الحديثِ، أو نحوِ ذلكَ.
والرابعُ: بأنْ يَرِدَ في بعضِ طرقِ الحديثِ زيادةُ اسمِ راوٍ
بينهما، كحديثٍ رواهُ عبدُ الرزاقِ، عن سفيانَ الثوريِّ، عن
أبي إسحاقَ، عن زيدِ بنِ يُثَيْعٍ، عن حُذَيْفَةَ
(2/115)
مرفوعاً: ((إنْ وَلَّيتُمُوْهَا أبا بكرٍ،
فقويٌّ، أَمينٌ)) ، فهو منقطعٌ في موضعينِ؛ لأنَّهُ رُويَ عن
عبدِ الرزاقِ، قالَ: حدَّثَني النُّعمانُ بنُ أبي شيبةَ، عن
الثوريِّ، ورُوِي أيضاً عن الثوريِّ، عن شَرِيْكٍ، عن أبي
إسحاقَ.
وهذا القسمُ الرابعُ محلُّ نظرٍ لا يُدْرِكُهُ إلاَّ الحفَّاظُ
النقَّادُ، ويَشَتَبِهُ ذلكَ على كثيرٍ من أهلِ الحديثِ؛
لأنَّهُ ربَّمَا كانَ الحكمُ للزائدِ، وربَّما كانَ الحكمُ
للناقصِ والزائدُ وَهْمٌ فيكونُ من نوعِ المزيدِ في مُتَّصِلِ
الأسانيدِ؛ فلذلكَ جمعتُ بينَهُ وبينَ نوعِ خفيِّ الإرسالِ،
وإنْ كانَ ابنُ الصلاحِ جعلَهُمَا نوعينِ، وكذلكَ الخطيبُ
أفردَهُما بالتصنيفِ، فصنَّفَ في الأولِ كتاباً سمَّاهُ
التفصيل لمُبْهَمِ المراسيلِ، وصَنَّفَ في الثاني كتاباً
سمَّاهُ تمييز المزيدِ في مُتَّصِلِ الأسانيدِ، وفي كثيرٍ مما
ذكرَهُ فيهِ نظرٌ والصوابُ ما ذكرَهُ ابنُ الصلاحِ من التفصيلِ
واقتصرتُ عليهِ، وهوَ أَنَّ الإسنادَ الخالي عن الراوي
الزائدِ، إنْ كانَ بلفظةِ عن في ذلكَ - وكذلكَ ما لا يقتضي
الاتصالَ، كـ قالَ ونحوِها - فينبغي أنْ يُحْكَمَ بإرسالِهِ،
ويُجْعَلَ مُعَلَّلاً بالإسنادِ الَّذِي ذُكِرَ فيهِ الرَّاوِي
الزائدُ؛ لأَنَّ الزيادةَ من الثقةِ مقبولةٌ وإنْ كانَ بلفظٍ
يقتضي الاتصالَ، كـ حَدَّثَنا، وأخبرنا، وسمعتُ، فالحكمُ
للإسنادِ الخالي عن الرواي الزائدِ؛ لأنَّ معَهُ الزيادةَ،
وهيَ إثباتُ سماعِهِ منهُ ومثالُهُ حديثٌ رواهُ مسلمٌ
والترمذيُّ من طريق ابنِ المباركِ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ
(2/116)
يزيدَ بنِ جابرٍ، عن بُسْرِ بنِ عُبيدِ
اللهِ، قالَ سمعتُ أبا إدريسَ الْخَوْلاَنيَّ قالَ سمعتُ
واثلةَ يقولُ سمعتُ أبا مرثدٍ يقولُ سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى
الله عليه
وسلم - يقولُ لا تَجْلِسُوا على القُبُورِ ولا تُصَلُّوا إليها
فَذِكْرُ أبي إدريسَ في هذا الحديثِ وَهَمٌ من ابنِ المباركِ؛
لأنَّ جماعةً من الثقاتِ روَوْهُ عن ابنِ جابرٍ، عن بسرٍ، عن
واثلةَ بلفظِ الاتصالِ بينَ بُسْرٍ وواثلةَ رواهُ مسلمٌ
والترمذيُّ أيضاً، والنسائيُّ عن عليِّ بنِ حُجْرٍ، عن الوليدِ
بنِ مسلمٍ، عن ابنِ جابرٍ، عن بسرٍ، قالَ سمعتُ واثلةَ ورواهُ
أبو داودَ عن إبراهيمَ بنِ موسى، عن عيسى بنِ يونُسَ، عن ابنِ
جابرٍ كذلكَ وحكى الترمذيُّ عن البخاريِّ قالَ حديثُ ابنِ
المباركِ خطأٌ، إنَّما هُوَ عن بُسْرِ بنِ عُبيدِ اللهِ، عن
واثلةَ، هكذا رَوَى غيرُ واحدٍ عن ابنِ جابرٍ قالَ وبُسْرٌ
قَدْ سمعَ من واثلةَ وقالَ أبو حاتِمٍ الرازيُّ يرونَ أَنَّ
ابنَ المباركِ وَهِمَ في هَذَا قالَ وكثيراً ما يُحَدِّثُ
بُسْرٌ، عن أبي إدريسَ، فغلطَ ابنُ المباركِ، وظنَّ أنَّ هَذَا
ممَّا رُوِيَ عن أبي ادريسَ، عن واثلةَ قالَ وَقَدْ سمعَ هَذَا
بُسْرٌ من واثلةَ نفسِهِ وقالَ الدارقطنيُّ زادَ ابنُ المباركِ
في هَذَا أبا إدريسَ ولا أحسَبُهُ إلاَّ أَدخلَ حديثاً في
حديثٍ فَقَدْ حكمَ هؤلاءِ الأئمةُ عَلَى ابنِ المباركِ
بالوَهْمِ في هَذَا
(2/117)
وقولي: (مع احتمالِ كونِهِ قد حملَهْ عن
كُلٍّ الاَّ حيثُ ما زيدَ وَقَعْ وَهْماً) أي: معَ جوازِ أَنْ
يكونَ قد سمعَهُ من هذا، ومِنْ هذا، قالَ ابنُ الصلاحِ:
((فجائزٌ أَنْ يكونَ سمعَ ذلكَ من رَجُلٍ عنهُ، ثُمَّ سمعَهُ
منهُ نفسُهُ، قالَ: فيكونُ بسرٌ في هذا الحديثِ قد سمعَهُ من
أبي إدريسَ عن واثلةَ، ثمَّ لقيَ واثلةَ فسمعَهُ منهُ، كما
جاءَ مثلُهُ مُصَرَّحاً به في غيرِ هذا.
اللَّهُمَّ إلاَّ أنْ توجدَ قرينةٌ تدُلُّ على كونِهِ، أي:
الطريقُ الزائدُ - وَهَماً - كنحوِ ما ذكرهُ أبو حاتِمٍ
الرازيُّ في المثالِ المذكورِ، قالَ: وأيضاً، فالظاهرُ ممَنْ
وقعَ لهُ مثلُ هذا أَنْ يذكرَ السَّمَاعَيْنِ، فإذا لم يجئ
عنهُ ذِكْرُ ذلكَ حَمَلْنَاهُ على الزيادةِ المذكورةِ. وقد
وقعَ في هذا الحديثِ وَهَمٌ آخرُ لمَنْ دونَ ابنِ المُباركِ
بزيادةِ راوٍ آخرَ في السندِ، فقالَ فيهِ: عن ابنِ المباركِ،
قالَ: حَدَّثَنا سفيانُ عن ابنِ جابرٍ، حدَّثَني بُسْرٌ، قالَ:
سمعتُ أبا إدريسَ، قالَ: سمعتُ واثلةَ، فَذِكْرُ سفيانَ في هذا
وَهَمٌ ممَّنْ دونَ ابنِ المباركِ؛ لأَنَّ جماعةً ثقاتٍ
رَوَوْهُ عن ابنِ المباركِ، عن ابنِ جابرٍ، من غيرِ ذِكْرِ
سُفْيَانَ، منهم عبدُ الرحمنِ بنُ مهديٍّ، وحسنُ بنُ الربيعِ،
وهنَّادُ بنُ السريِّ وغيرُهم. وزادَ فيهِ بعضُهُم التصريحَ
بلفظِ الإِخبارِ بينهما.
وقولي: (وفي ذَيْنِ) أي: وفي هذينِ النوعينِ، وهما: الإرسالُ
الخفيُّ، والمزيدُ في مُتَّصِلِ الأسانيدِ، قد صنَّفَ الخطيبُ
كتابيهِ اللَّذَينِ سبقَ ذِكْرُهُمَا.
(2/118)
|