شرح (التبصرة والتذكرة = ألفية العراقي)

مَعْرِفَةُ الصَّحابَةِ

... رَائي النَّبِيِّ مُسْلِماً ذُو صُحْبَةِ ... وقِيْلَ: إنْ طَالَتْ وَلَمْ يُثَبَّتِ
787.... وقِيلَ مَنْ أقَامَ عَاماً أو غَزَا ... مَعْهُ وذَا لابْنِ المُسَيِّبِ عَزَا
ألَّفَ العلماءُ في مَعْرِفَةِ الصحابةِ كتباً كثيرةً منها معرفةُ الصحابةِ لأبي حاتمِ بنِ حبَّانَ البُستيِّ، مختصرٌ في مجلدةٍ، ومنها كتابُ معرفةِ الصحابةِ لأبي عبدِ اللهِ بن مندَه، وهو كتابٌ كبيرٌ جليلٌ، وقد ذَيَّلَ عليهِ الحافظُ أبو موسى المدينيُّ بذيلٍ كبيرٍ، ومنها الصحابةُ لأبي نُعَيْمٍ الأصبهانيِّ كتابٌ جليلٌ، ومنها كتابُ الاستيعابِ لابنِ عبدِ البرِّ، وهو كثيرُ الفوائدِ وذَيَّلَ عليهِ ابنُ فتحونَ بذيلٍ في مجلدةٍ ومنها
معرفةُ الصحابةِ للعسكريِّ وهو على غيرِ ترتيبِ الحروفِ، وصنَّفَ معاجمَ الصحابةِ جماعةٌ منهم أبو القاسمِ البغويُّ، وابنُ قانعٍ، والطبرانيُّ، إلاَّ أنَّ مَنْ صنَّفَ المعاجمَ لا يوردُ غالباً إلاَّ مَنْ لهُ رِوايةٌ، وإنْ ذكروا مَنْ لا روايةَ لهُ أيضاً
وقد صنَّفَ أبو الحسنِ عليُّ بنُ محمدِ بنِ الأثيرِ الجَزَرِيُّ كتاباً كبيراً سمَّاهُ أُسْد الغابةِ جمَعَ فيهِ بينَ كتابِ ابنِ منده، وذيْلِ أبي موسى عليهِ، وكتاب أبي نُعَيْمٍ، والاستيعاب، وزادَ مِنْ غيرِها أسماءَ ولم يقعْ له ذيلُ ابنِ فتحونَ؛ لكنَّهُ يكررُ أسماءَ الصحابةِ باعتبارِ أسمائِهِم وكناهُم، وباعتبارِ الاختلافِ في أسمائهم، أو كناهُم واختصرهُ جماعةٌ منهم الحافظُ أبو عبدِ اللهِ الذهبيُّ، في مختصرٍ لطيفٍ وقد ذيَّلْتُ عليهِ بعدةِ أسماءٍ لم تقعْ لهُ وقد اخْتُلِفَ في حدِّ الصحابيِّ مَنْ هو؟ على أقوالٍ

(2/119)


أحدُها وهو المعروفُ المشهورُ بينَ أهلِ الحديثِ أنَّهُ مَنْ رأى النبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حالِ إسلامهِ هكذا أطلقهُ كثيرٌ من أهلِ الحديثِ ومرادُهُم بذلكَ مَعَ زوالِ المانعِ منَ الرؤيةِ، كالعمى، وإلاَّ فمَنْ صحبَهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يرَهُ لعارضٍ بنظرهِ كابن أُمِّ مكتومٍ ونحوهِ معدودٌ في الصحابةِ بلا خلافٍ قالَ أحمدُ بنُ حنبلٍ مَنْ صحبَهُ سنةً، أو شهراً، أو يوماً، أو ساعةً، أو رآهُ؛ فهو من الصحابةِ وقالَ البخاريُّ في صحيحهِ مَنْ صَحِبَ النبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو رآهُ من المسلمينَ فهوَ من أصحابهِ وفي دخولِ الأعمى الذي جاءَ إلى النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسلماً، ولم يصحبْهُ، ولم يجالسْهُ؛ في عبارةِ البخاريِّ نظَرٌ ولو قيلَ في النَّظْمِ لاقى النبيَّ كانَ أولى؛ ولكنْ تَبِعْتُ فيهِ عبارةَ ابنِ الصلاحِ فالعبارةُ السالمةُ مِنَ الاعتراضِ أنْ يقالَ الصحابيُّ مَنْ لقيَ النبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسلماً ثمَّ ماتَ على الإسلامِ؛ ليخرجَ مَنِ ارتدَّ وماتَ كافراً، كابنِ خَطَلٍ، وربيعةَ بنِ أميةَ، ومِقْيَسِ بنِ صُبَابَةَ، ونحوهم وفي دخولِ مَنْ لقيهُ مسلماً ثمَّ ارتدَّ ثمَّ أسلمَ بعدَ وفاةِ النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصحابة نظرٌ كبيرٌ، فإنَّ الرِّدَّةَ مُحبِطةٌ للعملِ عندَ أبي حنيفةَ، ونصَّ عليهِ الشافعيُّ في الأمِّ، وإنْ كانَ الرافعيُّ قدْ حكى عنهُ أنَّها إنَّما تُحْبَطُ بشرطِ اتصالها بالموتِ، وحينئذٍ فالظاهرُ أنَّها محبطةٌ للصُّحْبَةِ المتقدمةِ، كقُرَّةَ بنِ هُبَيْرةَ، وكالأشعثِ بنِ قيسٍ أما مَنْ رَجَعَ إلى الإسلامِ في حياتِهِ، كعبدِ اللهِ بنِ أبي سَرْحٍ، فلا مانعَ من دخولِهِ في الصُّحبةِ بدخولهِ الثاني في الإسلامِ، واللهُ أعلمُ

(2/120)


فقولي رائي، اسمُ فاعلٍ مِنْ رأى، والنبيُّ مضافٌ إليهِ ومسلماً حال مِنِ اسمِ الفاعلِ، وذو صحبةٍ خبرُ المبتدأ، والمرادُ برؤية النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، رؤيتُهُ في حالِ حياتِهِ، وإلاَّ فلو رآهُ بعدَ موتِهِ قبلَ الدفنِ، أو بعدهُ، فليسَ بصحابيٍّ على المشهورِ، بلْ إنْ كانَ عاصَرَهُ ففيهِ الخلافُ الآتي ذِكْرُهُ وإنْ كانَ وُلِدَ بعدَ موتِهِ فليستْ لهُ صحبةٌ بلا خلافٍ
واحترزتُ بقولي مسلماً عمَّا لو رآهُ وهوَ كافرٌ ثم أسلمَ بعدَ وفاتِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنهُ ليسَ بصحابيٍّ على المشهورِ، كرسولِ قيصرَ، وقدْ خَرَّجَهُ أحمدُ في المسندِ، وكعبدِ اللهِ بنِ صَيَّادٍ، إنْ لَمْ يكنْ هو الدَّجالُ وقد عدَّهُ في الصحابةِ، كذلكَ أبو بكرِ بنُ فتحونَ في ذيلِهِ على الاستيعابِ وحُكيَ أنَّ الطبريَّ، وغيرهُ ترجمَ بهِ هكذا
وقولهم مَنْ رأى النبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، هلْ المرادُ رآهُ في حالِ نبوَّتِهِ، أو أعمُّ مِنْ ذلكَ؟ حتَّى يدخلَ مَنْ رآهُ قبلَ النبوةِ، وماتَ قبلَ النبوةِ على دينِ الحنيفية كزيدِ بنِ عَمْرِو بنِ نُفَيْلٍ فقد قالَ النبيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّهُ يُبْعَثُ أمَّةً وحدَهُ وقد ذكرَهُ في الصحابةِ أبو

(2/121)


عبدِ اللهِ بنُ منده وكذلكَ لو رآهُ قبلَ النبوَّةِ ثمَّ غابَ عنهُ، وعاشَ إلى بعدِ زمنِ البعثةِ، وأسلمَ ثمَّ ماتَ، ولمْ يرهُ ولمْ أرَ مَنْ تَعرَّضَ لذلكَ، ويدلُّ على أنَّ المرادَ مَنْ رآهُ بَعْدَ نبوَّتِهِ أنَّهم ترجموا في الصحابةِ لمنْ وُلِدَ للنبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعدَ النبوةِ، كإبراهيمَ، وعبد اللهِ، ولم يترجموا لمنْ ولِدَ قبلَ النبوةِ وماتَ قبلها كالقاسمِ وكذلكَ أيضاً ما المرادُ بقولهم مَنْ رآهُ؟ هلِ المرادُ رؤيتُهُ لهُ معَ تمييزهِ، وعقلهِ؟ حتى لا يدخلَ الأطفالُ الذينَ حَنَّكَهُمْ ولمْ يروهُ بعدَ التمييزِ، ولا مَنْ رآهُ وهو لا يعقلُ، أو المرادُ أعمُّ مِنْ ذلكَ؟ ويدلُّ على اعتبارِ التمييزِ معَ الرؤيةِ ما قالَهُ شيخُنا الحافظُ أبو سعيدٍ بنُ العلائي في كتابِ المراسيل في ترجمةِ عبدِ اللهِ بنِ الحارثِ بنِ نوفلٍ حنَّكهُ النبيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ودعا لهُ ولا صحبةَ لهُ بلْ ولا رؤيةَ أيضاً، وحديثهُ مرسلٌ قطعاً وكذلكَ قالَ في ترجمةِ عبدِ اللهِ بنِ أبي طلحةَ الأنصاريِّ حنَّكهُ ودعا لهُ، ولا تُعرفُ لهُ رؤيةٌ، بلْ هوَ تابِعيُّ وحديثُهُ مرسلٌ
والقول الثاني أنَّهُ مَنْ طالتْ صحبتُهُ لهُ، وكثرتْ مجالستُهُ على طريقِ التَّبَعِ لهُ والأخذِ عنهُ حكاهُ أبو المُظَفَّرِ السَّمْعَانيُّ، عنِ الأصوليينَ، وقالَ إنَّ اسمَ الصحابيِّ يقعُ على ذلكَ مِنْ حيثُ اللغةُ والظاهرُ، قال وأصحابُ الحديثِ يطلِقونَ اسمَ الصحبةِ على كلِّ مَنْ روى عنهُ حديثاً، أو كلمةً، ويتوسَّعُونَ حتَّى يَعدُّونَ مَنْ رآهُ رؤيةً مِنَ

(2/122)


الصحابةِ، قال وهذا لِشَرَفِ منزلةِ النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَعطوا كلَّ مَنْ رآهُ حكمَ الصحبةِ هكذا حكاهُ أبو المُظَفَّرِ السَّمْعَانيُّ عن الأصوليينَ، وهوَ قولٌ لبعضهمْ، حكاهُ الآمديُّ وابنُ الحاجبِ، وغيرُهما وبه جزمَ ابنُ الصبَّاغِ في العدَّةِ فقالَ الصحابيُّ هوَ الذي لقِيَ النبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأقامَ عندَهُ، واتَّبَعَهُ، فأمَّا مَنْ وَفِدَ عليهِ وانصرفَ عنهُ منْ غيرِ مصاحبةٍ، ومتابعةٍ، فلا ينصرفُ إليهِ هذا الاسمُ وقالَ القاضي أبو بكرِ بنُ الطيبِ الباقلانيُّ لا خلافَ بينَ أهلِ اللغةِ أنَّ الصحابيَّ مشتقٌ منَ الصحبةِ، وأنَّهُ ليسَ بمشتقٍ مِن قدرٍ منها مخصوصٍ، بلْ هوَ جارٍ على كلِّ مَنْ صَحِبَ غيرَهُ قليلاً كانَ، أو كثيراً، يقالُ صحِبْتُ فلاناً حولاً ودهراً وسنةً وشهراً ويوماً وساعةً، قالَ وذلكَ يوجبُ في حكمِ اللغةِ إجراءها على مَنْ صحِبَ النبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ساعةً مِن نهارٍ هذا هوَ الأصلُ في اشتقاقِ الاسمِ ومعَ ذلكَ فقد تقررَ للأئمةِ عرفٌ في أنَّهُمْ لا يستعملونَ هذهِ التسميةَ إلاَّ فيمَنْ كَثُرَتْ صحبتُهُ، واتَّصَلَ لقاؤُهُ ولا يُجْرُونَ ذلكَ على مَنْ لقِيَ المرءَ ساعةً،
ومشى معهُ خُطًى وسمعَ منهُ حديثاً فوجبَ لذلكَ ألاَّ يجريَ هذا الاسمُ في عرفِ الاستعمالِ إلا على مَنْ هذهِ حالهُ وقالَ الآمديُّ الأشبهُ أنَّ الصحابيَّ مَنْ رآهُ

(2/123)


وحكاهُ عنْ أحمدَ بنِ حنبلٍ، وأكثرِ أصحابنا، واختارهُ ابنُ الحاجبِ أيضاً؛ لأنَّ الصحبةَ تعمُّ القليلَ والكثيرَ، نَعَم في كلامِ أبي زُرْعَةَ الرازيِّ، وأبي داودَ ما يقتضي أنَّ الصحبةَ أخصُّ منَ الرؤيةِ، فإنهما قالا في طارقِ بنِ شهابٍ لهُ رؤيةٌ، وليستْ لهُ صحبةٌ وكذلك ما رويناه عن عاصمٍ الأحولِ قال قدْ رأى عبدُ اللهِ بنُ سَرْجِسَ رسولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غيرَ أنَّهُ لم تكنْ لهُ صحبةٌ، ويدلُّ على ذلكَ أيضاً ما رواهُ محمدُ بنُ سعدٍ في الطبقاتِ عن عليِّ بنِ محمدٍ عن شعبةَ، عن موسى السيلانيِّ، قال أتيتُ أنسَ بنَ مالكٍ، فقلتُ أنتَ آخرُ مَنْ بقيَ من أصحابِ رسولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قالَ قدْ بقيَ قومٌ مِنَ الأعرابِ، فأمَّا مِنْ أصحابهِ فأنا آخرُ مَنْ بقيَ انتهى قال ابنُ الصلاحِ إسنادُهُ جيِّدٌ حدَّثَ بهِ مسلمٌ بحضرةِ أبي زُرْعَةَ والجوابُ عن ذلكَ أنَّهُ أرادَ إثباتَ صحبةٍ خاصةٍ ليستْ لتلكَ الأعرابِ، وكذا أرادَ أبو زُرْعَةَ وأبو داودَ نفيَ الصحبةِ الخاصةِ دونَ العامةِ
وقولي ولم يثبتْ أي وليسَ هو الثبتُ الذي عليهِ العملُ عندَ أهلِ الحديثِ والأصولِ

(2/124)


والقولُ الثالثُ وهوَ ما رويَ عن سعيدِ بنِ المسيِّبِ أنَّهُ كانَ لا يعدُّ الصحابيَّ إلاَّ مَنْ أقامَ مع رسولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سنةً أو سنتينِ، وغزا معهُ غَزْوةً أو غزوتينِ، قالَ ابنُ الصلاحِ وكأنَّ المرادَ بهذا إنْ صحَّ عنهُ راجعٌ إلى المحكيِّ عنِ الأصوليينَ؛ ولكنْ في عبارتِهِ ضيقٌ يوجبُ ألاَّ يُعَدَّ مِنَ الصحابةِ جريرُ بنُ عبدِ اللهِ البَجَليُّ ومَنْ شارَكَهُ في فَقْدِ ظاهرِ ما اشترَطَهُ فيهم، ممَّنْ لا نعلمُ خلافاً في عدِّهِ من الصحابةِ قلتُ ولا يصحُّ هذا عن ابن المسيِّبِ ففي الإسنادِ إليهِ محمدُ بنُ عمرَ الواقديُّ ضعيفٌ في الحديثِ
والقولُ الرابعُ أنَّهُ يُشترطُ مع طولِ الصحبةِ الأخذُ عنهُ حكاهُ الآمديُّ عن عمرِو بنِ يحيى، فقال ذهبَ إلى أنَّ هذا الاسم إنَّما يسمى بهِ مَنْ طالتْ صحبتُهُ للنبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأخذَ عنهُ العلمَ وحكاهُ ابنُ الحاجبِ أيضاً قولاً، ولم يعزهُ لعمرِو بنِ يحيى؛ ولكنْ أبدلَ الروايةَ بالأخذِ عنهُ، وبينهما فرقٌ وعمرٌو هذا الظاهِرُ أنَّهُ الجاحظُ، فقدْ ذكرَ الشيخُ أبو إسحاقَ في اللمع أنّ أباهُ اسمُهُ يحيى، وذلكَ وهمٌ، وإنَّما هو عمرُو بنُ بحرٍ أبو عثمانَ الجاحظُ من أئمةِ المعتزلةِ، قالَ فيهِ ثعلبٌ إنَّهُ غيرُ ثقةٍ، ولا مأمونٍ،

(2/125)


ولم أرَ هذا القولَ لغيرِ عمرٍو هذا وكأنَّ ابنَ الحاجبِ أخذَ هذا القولَ مِن كلامِ الآمديِّ، ولذلكَ أسقطتُهُ منَ الخلافِ في حدِّ الصحابيِّ تبعاً لابنِ الصلاحِ
والقولُ الخامسُ أنَّهُ مَنْ رآهُ مسلماً بالغاً عاقلاً حكاهُ الواقديُّ عن أهلِ العلمِ فقالَ رأيتُ أهلَ العلمِ يقولونَ كلُّ مَنْ رأى رسولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقدْ أدركَ الحلمَ، فأسلمَ، وعقلَ أمرَ الدينِ ورضيهُ فهوَ عندنا ممَّنْ صحبَ النبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولوْ ساعةً من نهارٍ، انتهى والتقييدُ بالبلوغِ شاذٌّ
والقول السادس أنَّه مَنْ أدركَ زمنَهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو مسلمٌ، وإنْ لم يرَهُ وهو
قولُ يحيى بنِ عثمانَ بنِ صالحٍ المصريِّ فإنَّهُ قال وممَّنْ دُفِنَ، أي بمصرَ من أصحابِ رسولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ممَّن أدركهُ ولمْ يسمعْ منهُ أبو تميمٍ الجيشانيُّ، واسمهُ عبدُ اللهِ بنُ مالكٍ انتهى وإنَّما هاجرَ أبو تميمٍ إلى المدينةِ في خلافَةِ عمرَ باتفاقِ أهلِ السِّيَرِ وممَّنْ حكى هذا القولَ منَ الأصوليينَ القرافيُّ في شرح التنقيح وكذلكَ إن كانَ صغيراً محكوماً بإسلامهِ تبعاً لأحدِ أبويهِ، وعلى هذا عملَ ابنُ عبدِ البرِّ في الاستيعاب وابنُ منده في
معرفةِ الصحابةِ، وقدْ بيَّنَ ابنُ عبدِ البرِّ في ترجمةِ الأحنفِ بنِ قيسٍ أنَّ ذلكَ شرطُهُ وقالَ ابنُ عبدِ البرِّ في مقدمةِ كتابهِ وبهذا كلِّهِ يستكملُ القَرْنُ الذي أشارَ إليهِ رسولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ما قالهُ عبدُ اللهِ بنُ أبي أوفى صاحبُ رسولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يريدُ بذلِكَ تفسيرَ القَرْنِ، قلتُ وإنَّما هوَ قولُ زُرَارةَ بنِ أوفى من التابعينَ القَرْنُ مائةٌ وعشرونَ سنةً، وهكذا رواهُ هوَ قبلَ ذلكَ بأربعِ ورقاتٍ، كلُّ ذلكَ في مقدمةِ الاستيعابِ

(2/126)


وقد اختلفَ أهلُ اللغةِ في مُدَّةِ القَرْنِ، فقالَ الجوهريُّ هوَ ثمانونَ سنةً، قالَ ويقالُ ثلاثونَ وحكى صاحبُ المحكمِ فيهِ ستةَ أقوالٍ قيلَ عشرُ سنينَ، وقيلَ عشرونَ، وقيلَ ثلاثونَ، وقيلَ ستونَ، وقيلَ سبعونَ، وقيلَ أربعونَ، قالَ وهوَ مقدارُ أهلِ التوسطِ في أعمارِ أهلِ الزمانِ، فالقرنُ في كلِّ قومٍ على مقدارِ أعمارهم
فعلى هذا يكونُ ما بينَ الستينَ والسبعينَ، كما رواهُ الترمذيُّ في الحديثِ المرفوعِ أعمارُ أمتي ما بينَ الستينَ والسبعينَ وأما ابتداءُ قرنِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فالظاهرُ أنَّهُ من حينِ البعثةِ، أو من حينِ فُشُوِّ الإسلامِ فعلى قولِ زرارةَ بنِ أوفى قد استوعبَ القرنُ جميعَ مَن رآهُ، وقد روى ابنُ مَنْدَهْ في الصحابةِ من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ بُسْرٍ مرفوعاً القرنُ مائةُ سنةٍ

... وَتُعْرَفُ الصُّحْبَةُ باشْتِهَارٍ أو ... تَوَاتُرٍ أو قَوْلِ صَاحِبٍ وَلَوْ
789.... قَدِ ادَّعَاهَا وَهْوَ عَدْلٌ قُبَلا ... وَهُمْ عُدُولٌ قِيلَ لا مَنْ دَخَلا
... في فِتْنَةٍ، والمُكْثِرُونَ سِتَّةُ ... أَنَسٌ، وابنُ عُمَرَ، والصِّدِّيقَةُ

(2/127)


791.... البَحْرُ، جَابِرٌ أَبُو هُرَيْرَةِ ... أَكْثَرُهُمْ وَالبَحْرُ في الحَقِيقَةِ
... أَكْثَرُ فَتْوَى وَهْوَ وابنُ عُمَرا ... وَابْنُ الزُّبَيرِ وَابْنُ عَمْرٍو قَدْ جَرَى
793.... عَلَيْهِمُ بِالشُّهْرَةِ العَبَادِلهْ ... لَيْسَ ابْنَ مَسْعُودٍ ولا مَنْ شَاكَلَهْ
... وَهْوَ وزَيْدٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ لَهُمْ ... في الفِقْهِ أَتْبَاعٌ يَرَوْنَ قَوْلَهُمْ

هذهِ الأبياتُ تجمعُ ستَّ مسائلَ:
الأولى: فيما تُعْرفُ بهِ الصحبةُ، وذلكَ إمَّا بالتواترِ، كأبي بكرٍ، وعمرَ، وبقيةِ العشرةِ في خَلْقٍ منهم، وإمَّا بالاستفاضةِ والشهرةِ القاصرةِ عنِ التواترِ، كعُكَاشَةَ بنِ مِحْصنٍ، وضِمَامِ بنِ ثعلبةَ، وغيرِهما. وإمَّا بإخبارِ بعضِ الصحابةِ عنهُ أَنَّهُ صحابيٌّ كحُمَمَةَ بنِ أبي حُمَمَةَ الدَّوسِيِّ، الذي ماتَ بأصبهانَ مبطوناً، فشهدَ لهُ أبو موسى الأشعريُّ أنَّهُ سمِعَ النبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حكمَ لهُ بالشهادةِ ذكرَ ذلكَ أبو نُعَيْمٍ في "تاريخِ أصبهان". وروينا قصتَهُ في مسندِ أبي داودَ الطيالسيِّ، ومعجمِ الطبرانيِّ. على أنَّهُ يجوزُ أنْ يكونَ أبو موسى إنَّما أرادَ بذلكَ شهادةَ النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَنْ قتلهُ بطنُهُ وفي عمومِهِم حممةٌ، لا أنَّهُ سمَّاهُ باسمِهِ، واللهُ أعلمُ.

(2/128)


وإمَّا بإخبارهِ عنْ نفسهِ أَنَّهُ صحابيٌّ بعدَ ثُبوتِ عدالتِهِ قبلَ إخبارهِ بذلكَ. هكذا أطلقَ ابنُ الصلاحِ تَبَعَاً للخطيبِ، فإنهُ قالَ في " الكفايةِ ": وقد يُحكمُ بأنَّهُ صحابيٌّ إذا كانَ ثقةً أميناً مقبولَ القولِ، إذا قالَ صحبتُ النبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكَثُرَ لقائي لهُ، فيحكم بأنَّهُ صحابيٌّ في الظاهرِ، لموضعِ عدالَتِهِ، وقبولِ خبرِهِ، وإنْ لمْ يقطعْ بذلكَ كمَا يعملُ بروايتِهِ. هكذا ذكرهُ في آخرِ كلامِ القاضي أبي بكرٍ، والظاهرُ أنَّ هذا كلامُ القاضي، قلت: ولا بدَّ من تقييدِ ما أطلِقَ منْ ذلكَ بأنْ يكونَ ادِّعاؤهُ لذلكَ يقتضيهِ الظاهرُ. أما لو ادَّعاهُ بعدَ مضيِّ مائةِ سنةٍ من حينِ وفاتهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنهُ لا يُقبلُ وإنْ كانتْ قدْ ثبَتَتْ عدالتُهُ قبلَ ذلكَ، لقولهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديثِ الصحيحِ: ((أرأيتُكم ليلتكم هذهِ، فإنَّهُ على رأسِ مائةِ سنةٍ لا يبقى أحدٌ ممّنْ على ظهرِ الأرضِ)) ، يريدُ انخرامَ ذلكَ القرنِ. قالَ: ذلكَ في سنةِ وفاتِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهذا واضحٌ جليٌّ. وقد اشترطَ الأصوليونَ في قبولِ ذلكَ منهُ أن يكونَ قدْ عُرِفَتْ معاصرَتُهُ للنبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ الآمديُّ: فلوْ قالَ مَنْ عاصرَهُ أنا صحابيٌّ معَ إسلامهِ، وعدالتِهِ، فالظاهرُ صدقُهُ، وحكاهما ابنُ الحاجبِ احتمالينِ من غيرِ ترجيحٍ، قالَ: ويحتملُ أن لا يُصَدَّقَ لكونهِ متَّهماً بدعوى رتبةٍ يثبتها لنفسِهِ.
الثانيةُ: الصحابةُ كلُّهم عدولٌ، لقولهِ تعالى: {وَكَذلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} وهذا خطابٌ مع الموجودينَ حينَئذٍ، ولقولهِ تعالى:

(2/129)


{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قيل: إنَّ المفسرينَ اتفقوا على أنَّهُ واردٌ في أصحابِ رسولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولقولهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديثِ المتفقِ على صحتهِ من حديثِ أبي سعيدٍ الخدريِّ: ((لا تسبُّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيدِهِ لو أنْفَقَ أحدُكمْ مِثلَ أُحُدٍ ذهباً ما أدركَ مُدَّ أحدِهِم، ولا نصيفَهُ)) ولقولهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديثِ المتفقِ على صحتِهِ أيضاً من حديثِ ابنِ مسعودٍ ((خيرُ الناسِ قرني)) ، وقدْ سبقَ تفسيرُ القرنِ في أولِ هذهِ الترجمةِ، ولغيرِ ذلكَ من الأحاديثِ الصحيحةِ، ولإجماعِ مَنْ يُعْتَدُّ بهِ في الإجماعِ من الأئمةِ على ذلكَ، ثمَّ إنَّ جميعَ الأمةِ مُجْمِعَةٌ على تعديلِ مَنْ لم يلابسِ الفتنَ منهم. وأما مَنْ لابسَ الفتنَ منهم - وذلك من حينِ مقتلِ عثمانَ - فأجمعَ مَنْ يُعتدُّ بهِ أيضاً في الإجماعِ على تعديلِهم إحساناً للظنِّ بهم، وحملاً لهم في ذلكَ على الاجتهاد.
هكذا حكى ابنُ الصلاحِ إجماعَ الأمةِ على تعديلِ مَنْ لَمْ يلابسِ الفتنَ منهم وفيهِ نَظَرٌ، فقدْ حكى الآمديُّ وابنُ الحاجبِ قولاً: أنَّهم كغيرهم في لزومِ البحثِ عنْ عدالتهمْ مطلقاً،

(2/130)


وقولاً أخرَ: أنهم عدولٌ إلى وقوعِ الفتنِ، فأمَّا بعدَ ذلكَ فلا بدَّ منَ البحثِ عمَّنْ ليسَ ظاهرَ العدالةِ، وذهبَتِ المعتزلةُ إلى فِسْقِ مَنْ قاتلَ عليَّاً منهم، وقيلَ: يُرَدُّ الداخلونَ في الفتنِ كلُّهم؛ لأنَّ أحدَ الفريقينِ فاسقٌ منْ غيرِ تعيينٍ، وقيلَ: يُقبلُ الداخلُ فيها، إذا انفردَ؛ لأنَّ الأصلَ العدالةُ وشككنا في فسقِهِ، ولا يقبلُ معَ مخالِفِهِ لتحققِ فسقِ أحدهما من غيرِ تعيينٍ.
والذي عليهِ الجمهورُ كما قالَ الآمديُّ وابنُ الحاجبِ: إنَّهم عدولٌ كلُّهم مطلقاً. وقالَ الآمديُّ: إنَّهُ المختارُ، وحكى ابنُ عبدِ البرِّ في " الاستيعابِ " إجماعَ أهلِ الحقِّ منَ المسلمينَ، وهمْ أهلُ السنَّةِ والجماعةِ على أنَّ الصحابةَ كلَّهم عدولٌ.
الثالثةُ: المكثرونَ منَ الصحابةِ عنِ النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ستةٌ: أنسُ بنُ مالكٍ، وعبدُ اللهِ بنُ عمرَ، وعائشةُ الصِّدِّيقَةُ بنتُ أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ، وعبدُ اللهِ بنُ عباسٍ - وهو البحر -، وجابرُ بنُ عبدِ اللهِ، وأبو هريرةَ، وأكثرُ السِّتَّةِ حديثاً أبو هريرةَ، قالَ ذلكَ أحمدُ بنُ حنبلٍ وغيرهُ، وأشرتُ إلى كونِ أبي هريرةَ أكثرهم حديثاً، بقولي: (أكثرُهم) ، ولم يتعرضِ ابنُ الصلاحِ لترتيبِ مَنْ بعدَ أبي هريرةَ في الأكثريةِ، وبعضهم مقاربٌ لبعضٍ. والذي يدلُّ عليهِ كلامُ بَقِيِّ بنِ مَخْلَدٍ: أنَّ أكثرهم أبو هريرةَ، روى خمسةَ آلافِ حديثٍ وثلاثمائةٍ وأربعةً وسبعينَ حديثاً، ثمَّ ابنُ عمرَ، روى ألفي حديثٍ وستمائةٍ وثلاثينَ، ثمَّ أنسٌ، روى ألفينِ ومائتينِ وستةً وثمانينَ، ثمَّ عائشةُ روتْ أَلْفَيْنِ ومائتينِ وعشرةَ، ثمَّ ابنُ عباسٍ، روى ألفاً وستمائةٍ وستينَ حديثاً، ثمَّ جابرٌ، روى ألفاً وخمسمائةٍ وأربعينَ

(2/131)


حديثاً. وليسَ في الصحابةِ مَنْ يزيدُ حديثهُ على ألفٍ إلاَّ هؤلاءِ، وأبو سعيدٍ الخدريُّ، فإنَّهُ روى ألفاً ومائةً وسبعينَ حديثاً.
الرابعةُ: أكثرُ الصحابةِ فتوى عبدُ اللهِ بنُ عباسٍ، قالَهُ أحمدُ بنُ حنبلٍ أيضاً.
الخامسةُ: في بيانِ العبادِلَةِ مِنَ الصحابةِ، وقيلَ لأحمدَ بنِ حنبلٍ: مَنْ العبادِلَةُ؟ فقالَ: عبدُ اللهِ بنُ عباسٍ، وعبدُ الله بنُ عمرَ، وعبدُ اللهِ بنُ الزبيرِ، وعبدُ اللهِ بنُ عمرٍو، قيلَ لهُ: فأينَ ابنُ مسعودٍ؟ قالَ: لا، ليسَ منَ العبادلةِ، قالَ البيهقيُّ: وهذا لأنَّهُ تقدَّمَ موتُهُ، وهؤلاءِ عاشوا حتَّى احتيجَ إلى علمِهِم فإذا اجتمعوا على شيءٍ قيلَ: هذا قولُ العبادلةِ.
وقولي: (وهوَ وابنُ عمرَ) ، الضميرُ عائدٌ على البحرِ، وهو ابنُ عباسٍ؛ لأنَّهُ أقربُ مذكورٍ، وما ذُكِرَ مِنْ أنَّ العبادلةَ همْ هؤلاءِ الأربعةُ، هُوَ المشهورُ بَيْنَ أهلِ الحديثِ وغيرِهِم. واقتصرَ صاحبُ " الصحاحِ " عَلَى ثلاثةٍ، وأسقطَ ابنَ الزبيرِ. وأما ما حكاهُ النوويُّ في " التهذيبِ ": أنَّ الجوهريَّ ذكرَ فيهم ابنَ مسعودٍ، وأسقطَ ابنَ العاصِ؛ فوهمٌ، نَعَمْ.. وقعَ في كلامِ الزمخشريِّ في " المفصلِ " أنَّ العبادلةَ: ابنَ مسعودٍ، وابنَ عمرَ، وابنَ عباسٍ وكذا قالَ الرافعيُّ في " الشرحِ الكبيرِ " في الدياتِ، وغلطا في ذلكَ منْ حيثُ الاصطلاحُ، قالَ ابنُ الصلاحِ: ويلتحقُ بابنِ مسعودٍ في

(2/132)


ذلكَ سائرُ العبادلةِ المسَمَّيْنَ بعبدِ اللهِ من الصحابةِ، وهمْ نحوُ مائتينِ وعشرينَ نفساً. أي: فلا يُسمَّونَ العبادلةَ اصطلاحاً، وإلى ذلكَ أشرتُ بقولي: (ولا مَنْ شاكَلَهُ) أي: ولا مَنْ أشبهَ ابنَ مسعودٍ في التسميةِ بعبدِ اللهِ.
وقولُ ابنِ الصلاحِ: أنَّهم نحوُ مائتينِ وعشرينَ كأنَّهُ أخذهُ منَ " الاستيعابِ " لابنِ عبدِ البرِّ، فإنَّهُ عدَّ ممَّنْ اسمُهُ عبدُ اللهِ مائتينِ وثلاثينَ، ومنهم مَنْ كرَّرَهُ للاختلافِ في اسمِ أبيهِ أو في اسمهِ هو، ومنهم مَنْ لم يصحِّحْ له صحبةً، ومنهم مَنْ لمْ يروِ وإنَّما ذكرهُ لمعاصرتِهِ على قاعِدَتِهِ؛ وذلكَ فوقَ العشرةِ فبقيَ نحوُ مائتينِ وعشرينَ، كما ذكرَ، ولكنْ قد ذكرَ الحافظُ أبو بكرِ بنُ فتحونَ فيما ذَيَّلَهُ على " الاستيعابِ " مائةً وأربعةً وستينَ رجلاً زيادةً على ذلكَ، وفيهم أيضاً مَنْ عاصرهُ ولمْ يرهُ، ومَنْ كررهُ للاختلافِ في اسمهِ أيضاً، واسمِ أبيهِ، ومَنْ لمْ تصحَّ صحبتُهُ، ولكنْ يجتمعُ من المجموعِ نحوُ ثلاثمائةِ رجلٍ.
السادسةُ: في بيانِ مَنْ كانَ لهُ من الصحابةِ أتباعٌ يقولونَ برأيهِ، قالَ ابنُ المدينيِّ: ((لم يكنْ منْ صحابِ النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحدٌ لهُ أصحابٌ يقومونَ بقولهِ في الفقهِ إلاَّ ثلاثةٌ: عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ، وزيدُ بنُ ثابتٍ، وابنُ عباسٍ، كانَ لكلِّ رجلٍ منهم أصحابٌ يقومونَ بقولهِ، ويُفْتونَ الناسَ)) . انتهى.
فقولي في البيتِ: (وهو) أي: ابنُ مسعودٍ.

(2/133)


795.... وَقَالَ مَسْرُوقُ انْتَهَى العِلْمُ إلى ... سِتَّةِ أَصْحَابٍ كِبَارٍ نُبُلاً
... زَيْدٍ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَعْ أُبَيِّ ... عُمَرَ، عَبْدِ اللهِ مَعْ عَليِّ
797.... ثُمَّ انْتَهَى لِذَيْنِ والبَعْضُ جَعَلْ ... الأَشْعَرِيَّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَا بَدَلْ

في هذهِ الأبياتِ بيانُ الذينَ انتهى إليهمُ العلمُ من أكابِرِ الصحابةِ، وقد ذكرَ ذلكَ مسروقٌ والشَّعبيُّ، فقال مسروقٌ وجدتُ علمَ أصحابِ رسولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انتهى إلى ستةٍ عمرَ وعليٍّ وأُبَيٍّ وزيدٍ وأبي الدرداءِ، وعبدِ اللهِ ابنِ مسعودٍ ثمَّ انتهى علمُ هؤلاءِ السِّتَّةِ إلى اثنينِ عليٍّ وعبدِ اللهِ
فقولي ثمَّ انتهى لِذَيْنِ أي للأَخيرينِ، وهما عليٌّ، وعبدُ اللهِ، وقد
روى مُطَرِّفٌ عنِ الشعبيِّ عنْ مسروقٍ نحوَهُ إلاَّ أنَّهُ ذكرَ أبا موسَى الأشعريَّ بدلَ أبي الدرداءِ، قلتُ زيدُ بنُ ثابتٍ، وأبو موسى الأشعريُّ، كلاهما تأخرتْ وفاتُهُ بعدَ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ، وبعدَ عليِّ بنِ أبي طالبٍ، بلا خلافٍ، فقول مسروقٍ إنَّ علمَ الستةِ انتهى لعبدِ اللهِ وعليٍّ، فيهِ نظرٌ من هذا الوجهِ، ولهذا عزوتُ هذهِ المقالةَ لمسروقٍ، ولم أطلقْها لتكونَ العُهْدَةُ عليهِ ويصحُّ أنْ يقالَ انتهى علمهم إليهما لكونهما ضمَّا علمَهم إلى علمِهما، وإنْ تأخرتْ وفاةُ زيدٍ، وأبي موسى عنْ عليٍّ، وابنِ مسعودٍ، واللهُ أعلمُ
وقالَ الشعبيُّ كانَ العلمُ يؤخذُ عنْ ستَّةٍ مِنْ أصحابِ رسولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكانَ عمرُ وعبدُ اللهِ وزيدٌ يُشْبِهُ عِلْمُ بعضِهم بعضاً، وكانَ يقتبسُ بعضُهُم من بعضٍ وكانَ عليٌّ والأشعريُّ وأُبَيٌّ يشبهُ علمُ بعضِهم بعضاً، وكانَ يقتبسُ بعضُهم من بعضٍ

(2/134)


.. وَالعَدُّ لاَ يَحْصُرُهُمْ فَقَدْ ظَهَرْ ... سَبْعُونَ أَلْفاً بِتَبُوكٍ وَحَضَرْ
799.... الحَجَّ أَرْبَعُونَ أَلْفاً وَقُبِضْ ... عَنْ ذَيْنِ مَعْ أَرْبَعِ آلاَفٍ تَنِضّْ
حصرُ الصحابةِ - رضي الله عنهم - بالعدِّ والإحصاءِ متعذرٌ لتفرقِهِم في البلدانِ والبوادي وقد روى البخاريُّ في صحيحهِ أنَّ كعبَ بنَ مالكٍ قالَ في قصةِ تخلفِهِ عن غزوةِ تبوكَ وأصحابُ رسولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كثيرٌ لا يجمعهم كتابٌ حافِظٌ، يعني الديوانَ؛ ولكنْ قدْ جاءَ ضبطُهم في بعضِ مشاهدهِ كتبوكَ، وحجَّةِ الوداعِ، وعدةُ منْ قبضِ عنهُ مِنَ الصحابةِ عن أبي زرعةَ الرازيِّ على ما فيهِ مِنْ نظرٍ، فروينا عنهُ أنَّهُ سُئِلَ عنْ عدةِ مَنْ روى عن النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالَ ومَنْ يَضْبِطُ هذا شهدَ معهُ حجةَ الوداعِ أربعونَ ألفاً، وشهدَ معهُ تبوكَ سبعونَ ألفاً وروينا عنهُ أيضاً أَنَّهُ قيلَ لهُ أليسَ يُقَالُ حديثُ النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعةُ آلافِ حديثٍ؟ قالَ ومَنْ قالَ ذا؟ قَلْقَلَ اللهُ أنيابهُ، هذا قولُ الزنادقةِ، ومَنْ يُحصي حديثَ رسولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قُبِضَ رسولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن مائةِ ألفٍ وأربعةَ عشرَ ألفاً منَ الصحابةِ ممَّنْ روى عنهُ وسمعَ منهُ، وفي روايةٍ ممَّنْ رآهُ وسمعَ منه، فقيلَ لهُ هؤلاءِ أينَ كانوا؟ وأينَ سمعوا منهُ؟ قالَ أهلُ المدينةِ، وأهلُ مكةَ ومَنْ بينهما والأعرابُ، ومَنْ شهِدَ معهُ حجةَ الوداعِ، كلٌّ رآهُ وسمعَ منهُ بعرفةَ

(2/135)


وقولي عنْ ذينِ أيْ عن مقدارِ هذينِ العددينِ المذكورينِ، وهما سبعونَ ألفاً، وأربعونَ ألفاً، مع زيادةِ أربعةِ آلافٍ، فذلكَ مائةُ ألفٍ وأربعةَ عشرَ ألفاً، كما تقدَّمَ بيانُهُ
وقولي تَنِضّ بكسرِ النونِ وتشديدِ الضادِ أيْ تتيسرُ، يقالُ خُذْ ما نضَّ لكَ من دَيْنٍ، أيْ تَيَسَّرَ حكاهُ الجوهريُّ، والنَّضُّ والنَّاضُّ، وإنْ كانَ إنَّما يطلقُ على الدنانيرِ، والدراهمِ، فقدِ استُعِيرَ للصحابةِ لرواجِهم في النقدِ وسلامتهم من الزيفِ لعدالةِ كلِّهم كما تقدَّمَ
وأسقطتُ الهاءَ من أربعَ آلافٍ؛ لضرورةِ الشعرِ، وإنْ كانَ الألفُ مذكراً

... وَهُمْ طِبَاقٌ إِنْ يُرَدْ تَعْدِيدُ ... قِيلَ: اثْنَتَا عَشْرَةَ أَوْ تَزِيدُ

الصحابةُ على طبقاتٍ باعتبارِ سبقِهِم إلى الإسلامِ أو الهجرةِ أو شهودِ المشاهدِ الفاضلةِ، وقدِ اختلفَ كلامُ مَنِ اعتنى بذكرِ طبقاتهم في عدِّها، فقسَّمَهمُ الحاكِمُ في " علومِ الحديثِ " إلى اثنتي عشرةَ طبقةً.
فالطبقةُ الأولى: قومٌ أسلموا بمكةَ، كالخلفاءِ الأربعةِ.
والثانيةُ: أصحابُ دارِ الندوةِ.
والثالثةُ: مُهَاجِرَةُ الحَبَشَةِ.
والرابعةُ: أصحابُ العَقَبةِ الأُولى.
والخامسةُ: أصحابُ العَقَبةِ الثانيةِ، وأكثرُهم مِنَ الأَنصارِ.

(2/136)


والسادسةُ: أولُ المهاجرينَ الذينَ وصلوا إليهِ بِقُبَاءَ قبلَ أنْ يدخلَ المدينةَ.
والسابعةُ: أهلُ بدرٍ.
والثامنةُ: الذينَ هاجروا بينَ بدرٍ والحُدَيْبِيَةِ.
والتاسعةُ: أهلُ بيعةِ الرِّضْوَانِ.
والعاشرةُ: مَنْ هاجرَ بينَ الحديبيةِ وفتحِ مكةَ، كخالدِ بن الوليدِ، وعمرِو بنِ العاصِ، وأبي هريرةَ. قلتُ: لا يصحُّ التمثيلُ بأبي هريرةَ، فإنَّهُ هاجرَ قبلَ الحديبيةِ عقبَ خَيْبَرَ، بل في أواخرِها.
والحاديةَ عشرةَ: مُسْلِمَةُ الفَتْحِ.
والثانيةَ عشرةَ: صِبْيَانٌ وأطفالٌ رأَوْا رسولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومَ الفتحِ، وفي حجةِ الوداعِ، وغيرهما كالسَّائبِ بنِ يزيدَ، وعبدِ اللهِ بنِ ثعلبةَ ابنِ أبي صُعَيْرٍ، وأبي الطُّفَيْلِ، وأبي جُحَيْفَةَ.
قالَ ابنُ الصلاحِ: ((ومنهمْ مَنْ زادَ على ذلكَ)) . انتهى، وأما ابنُ سعدٍ، فجعلهُمْ خمسَ طبقاتٍ فقطْ.

801.... وَالأَفْضَلُ الصِّدِّيقُ ثُمَّ عُمَرُ ... وَبَعْدَهُ عُثْمَانُ وَهْوَ الأَكْثَرُ
... أَوْ فَعَلِيٌّ قَبْلَهُ خُلْفٌ حُكِيْ ... قُلْتُ: وَقَوْلُ الوَقْفِ جَا عَنْ مَالِكِ
803.... فَالسِّتَّةُ البَاقُونَ، فالبَدْرِيَّهْ ... فَأُحُدٌ، فَالبَيْعَةُ المَرْضِيَّهْ

أجمعَ أهلُ السنةِ على أنَّ أفضلَ الصحابةِ بعدَ النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الإطلاقِ أبو بكرٍ، ثمَّ عمرُ، وممَّنْ حكى إجماعَهم على ذلِكَ أبو العباسِ القُرْطُبيُّ، فقالَ ولمْ يختلفْ في ذلكَ

(2/137)


أحدٌ منْ أئمةِ السَّلَفِ ولا الخَلَفِ، قال ولا مبالاةَ بأقوالِ أهلِ التشيعِ، ولا أهلِ البِدَعِ انتهى
وقدْ حكى الشافعيُّ وغيرهُ إجماعَ الصحابةِ والتابعينَ على ذلكَ قالَ البيهقيُّ في كتابِ الاعتقادِ روينا عن أبي ثورٍ عنِ الشافعيِّ قالَ ما اختلفَ أحدٌ منَ الصحابةِ والتابعينَ في تفضيلِ أبي بكرٍ وعمرَ وتقديمهما على جميعِ الصحابةِ، وإنَّما اختلفَ مَنِ اختلفَ منهم في عليٍّ وعثمانَ انتهى وروينا عنْ جريرِ بنِ عبدِ الحميدِ، أنَّهُ سألَ يحيى بنَ سعيدٍ الأنصاريَّ عن ذلكَ قالَ مَنْ أدركتُ منَ الصحابةِ والتابعينَ لم يختلفوا في أبي بكرٍ وعمرَ وفضلهما إنَّما كانَ الاختلافُ في عليٍّ وعثمانَ وحكى المازريُّ عنْ أهلِ السنةِ تفضيلَ أبي بكرٍ، وعنْ الخَطَّابِيَّةِ تفضيلَ عمرَ بنِ الخطابِ، وعنِ الشيعةِ تفضيلَ عليٍّ، وعن الراونديةِ تفضيلَ العباسِ، وعنْ بعضهمُ الإمساكَ عنِ التفضيلِ وحكاهُ الخطَّابيُّ أيضاً في المعالمِ، وحكى أيضاً عن بعضِ مشايخهِ أنَّهُ كانَ يقولُ أبو بكرٍ خيرٌ وعليٌّ أفضلُ وهذا تهافتٌ منَ القولِ وحكى القاضي عياضٌ أنَّ ابنَ عبدِ البرِّ، وطائفةً ذهبوا إلى أنَّ مَنْ تُوفِّيَ منَ الصحابةِ في حياةِ رسولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفضلُ ممنْ بقي بعدَهُ لقولهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعضهم أنا شهيدٌ على هؤلاءِ، قالَ النوويُّ وهذا الإطلاقُ

(2/138)


غيرُ مرضيٍّ، ولا مقبولٍ انتهى وهو أيضاً مردودٌ بما تقدَّمَ من حكايةِ اجماعِ الصحابةِ والتابعينَ على أفضليةِ أبي بكرٍ وعمرَ على سائرِ الصحابةِ
واختَلَفَ أهلُ السنةِ في الأفضلِ بعدَ عمرَ، فذهبَ الأكثرونَ كما حكاهُ الخطابيُّ وغيرُهُ إلى تفضيلِ عثمانَ على عليٍّ وأنَّ ترتيبهم في الأفضليةِ كترتيبهم في الخلافةِ، وإليهِ ذهبَ الشافعيُّ وأحمدُ بنُ حنبلٍ، كما رواهُ البيهقيُّ في كتابِ الاعتقاد عنهما، وهو المشهورُ عندَ مالكٍ، وسفيانَ الثوريِّ وكافَّةِ أئمةِ الحديثِ والفقهاءِ، وكثيرٍ منَ المتكلمينَ كما قالَ القاضي عياضٌ، وإليهِ ذهبَ أبو الحسنِ الأشعريُّ والقاضي أبو بكرٍ الباقلانيُّ؛ ولكنهما اختلفا في أنَّ التفضيلَ بينَ الصحابةِ، هلْ هوَ على سبيلِ القطعِ، أوْ الظنِّ؟ فالذيْ مالَ إليهِ الأشعريُّ أنَّهُ قطعيٌّ، وعليهِ يدلُّ قولُ مالكٍ الآتي نَقْلُهُ مِنَ المدوَّنةِ، والذي مالَ إليهِ القاضي أبو بكرٍ، واختارهُ إمامُ الحرمينِ في الارشادِ أنَّهُ ظنيٌّ، وبهِ جزمَ صاحبُ المُفْهِمِ وذهبَ أهلُ الكوفةِ - كما قالَ الخطابيُّ - إلى تفضيلِ عليٍّ على عثمانَ، وروى بإسنادهِ إلى سفيانَ الثوريِّ أنَّهُ حكاهُ عن أهلِ السنَّةِ من أهلِ الكوفةِ وحكى عن أهلِ السنَّةِ من أهلِ البصرةِ أفضليةَ عثمانَ، فقيلَ فما تقولُ؟ فقالَ أنا رجلٌ كوفيٌّ، ثمَّ قالَ وقدْ ثَبتَ عنْ سفيانَ في آخرِ قوليهِ، تقديمُ عثمانَ

(2/139)


وممَّنْ ذهبَ إلى تقديمِ عليٍّ على عثمانَ أبو بكرٍ بنُ خزيمةَ، وقدْ جاءَ عنْ مالكٍ التوقفُ بينَ عثمانَ وعليٍّ، كما حكاهُ المازريُّ عن المدوَّنةِ أنَّ مالكاً سُئِلَ أيُّ الناسِ أفضلُ بعدَ نبيهم؟ فقالَ أبو بكرٍ، ثمَّ قالَ أَوَفي ذلكَ شكٌّ؟ قيلَ لهُ فعليٌّ وعثمانُ؟ قالَ ما أدركتُ أحداً ممَّن أقتدِي بهِ يفضلُ أحدَهما على صاحبِهِ، ونرَى الكفَّ عن ذلكَ، وفي روايةٍ في المدوَّنةِ حكاها القاضي عياضٌ أفضلهم أبو بكرٍ، ثمَّ عمرُ، وحكى القاضي عياضٌ قولاً أنَّ مالكاً رجعَ عن الوقفِ إلى القولِ الأولِ قالَ القرطبيُّ وهوَ الأصحُّ إنْ شاءَ اللهُ قالَ القاضي عياضٌ ويحتملُ أنْ يكونَ كفُّهُ وكفُّ من اقتدى بهِ لما كانَ شجرَ بينهم في ذلكَ منَ الاختلافِ والتعصبِ انتهى وقد مالَ إلى التوقفِ بينهما إمامُ الحرمينِ، فقالَ الغالبُ على الظنِّ أنَّ أبا بكرٍ أفضلُ، ثمَّ عمرَ وتتعارضُ الظنونُ في عثمانَ وعليٍّ انتهى
والذي استقرَّ عليهِ مذهبُ أهلِ السنَّةِ تقديمُ عثمانَ، لما روى البخاريُّ وأبو داودَ والترمذيُّ من حديثِ ابنِ عمرَ، قالَ كنا في زمنِ النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا نعدلُ بأبي بكرٍ أحداً، ثمَّ عمرَ، ثمَّ عثمانَ، ورواهُ الترمذيُّ بلفظِ كُنَّا نقولُ ورسولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيٌّ أبو بكرٍ وعمرُ وعثمانُ، قالَ هذا حديثٌ صحيحٌ غريبٌ ورواهُ

(2/140)


الطبرانيُّ بلفظٍ أصرح في التفضيلِ، وزادَ فيهِ اطلاعهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتقريرهُ لذلكَ ولفظُهُ كنَّا نقولُ ورسولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيٌّ أفضلُ هذهِ الأمةِ بعدَ نبيها أبو بكرٍ، وعمرُ وعثمانُ، فيسمعُ ذلكَ رسولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلا ينكرُهُ، فهذا حكمُ الخلفاءِ الأربعةِ
وأما ترتيبُ مَنْ بعدَهم في الأفضليةِ، فقالَ الإمامُ أبو منصورٍ عبدُ القاهرِ التميميُّ البغداديُّ أصحابنا مجمعونَ على أنَّ أفضلهم الخلفاءُ الأربعةُ، ثمَّ الستةُ الباقونَ إلى تمامِ العشرةِ، ثمَّ البدريونَ، ثمَّ أصحابُ أحدٍ، ثمَّ أهلُ بيعةِ الرضوانِ بالحديبيةِ
وقولي فأُحُدٌ فالبيعةُ المرضيهْ، هوَ على حذفِ المضافِ، أيْ فأهلُ أحدٍ فأهلُ البيعةِ

... قَالَ: وَفَضْلُ السَّابِقِينَ قَدْ وَرَدْ ... فَقِيلَ: هُمْ، وَقِيلَ: بَدْرِيٌّ وَقَدْ
805.... قِيلَ بَلْ اهْلُالقِبْلَتَيْنِ، واخْتَلَفْ ... أَيَّهُمُ أَسْلَمَ قَبْلُ؟ - مَنْ سَلَفْ
... قِيلَ: أبو بَكْرٍ، وقِيلَ: بلْ عَلِيْ ... وَمُدَّعِي إجمَاعَهُ لَمْ يُقْبَلِ
807.... وَقِيلَ زَيْدٌ وَادَّعى وِفَاقا ... بَعْضٌ عَلَى خَدِيجَةَ اتِّفَاقا

قالَ ابنُ الصلاحِ وفي نصِّ القرآنِ تفضيلُ السابقينَ الأولينَ منَ المهاجرينَ والأنصارِ، وهم الذينَ صلُّوا إلى القبلتينِ في قولِ سعيدِ بنِ المسيبِ وطائفةٍ، منهمْ

(2/141)


محمدُ بنُ الحنفيةِ، ومحمدُ بنُ سيرينَ، وقتادةُ، وفي قولِ الشعبيِّ همُ الذينَ شَهِدوا بيعةَ الرضوانِ وهذا معنى قولي فقِيْلَ هم وعن محمدِ بنِ كعبٍ القرظيِّ وعطاءِ بنِ يسار أهلُ بدرٍ، قالَ ابنُ الصلاحِ روى ذلكَ عنهما ابنُ عبدِ البرِّ فيما وجدناهُ عنهُ
قلتُ لمْ يوصلِ ابنُ عبدِ البرِّ إسنادَهُ بذلكَ، وإنَّما ذكرَ ذلكَ عنْ سُنيدٍ وساقَ سَنَدَ سُنيدٍ فقطْ عن شيخٍ لهُ لمْ يُسَمَّ، عن موسى بنِ عُبيدةَ، وضعَّفَهُ الجمهورُ وقدْ روى سُنيدٌ أيضاً قولَ ابنِ المسيِّبِ، وابنِ سيرينَ، والشعبيِّ بأسانيدَ صحيحةٍ، وكذلكَ روى ذلكَ عنهم عبدُ بنُ حُميدٍ في تفسيرهِ بأسانيدَ صحيحةٍ، وكذلكَ رواهُ عن قتادةَ عبدُ الرزاقِ في تفسيرهِ، ومن طريقِهِ عبدُ بنُ حُميدٍ
وفي المسألةِ قولٌ رابعٌ رواهُ سُنيدٌ أيضاً بإسنادٍ صحيحٍ إلى الحسنِ، قالَ فرقُ ما بينَهم فتحُ مكةَ
وأمَّا أوَّلُ الصحابةِ إسلاماً فقدْ اختلفَ فيهِ السلفُ على أقوالٍ

(2/142)


أحدُها أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ، وهوَ قولُ ابنِ عباسٍ، وحسَّانَ بنِ ثابتٍ والشعبيِّ والنخعيِّ في جماعةٍ آخرينَ، ويدلُّ لهُ ما رواهُ مسلمٌ في صحيحهِ من حديثِ عمرِو بنِ عبسةَ في قصةِ إسلامِهِ، وقولِهِ للنبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ معكَ على هذا؟ قالَ حرٌّ وعبدٌ ومعهُ يومئذٍ أبو بكرٍ، وبلالٌ ممَّنْ آمنَ بهِ، وروى الحاكمُ في المستدركِ منْ روايةِ مجالدِ بنِ سعيدٍ، قالَ سُئِلَ الشعبيُّ مَنْ أولُ مَنْ أسلمَ؟ فقالَ أَمَا سمعتَ قولَ حسانَ

إذَا تَذَكَّرْتَ شَجْوَاً مِنْ أَخِي ثِقَةٍ ... فاذْكُرْ أخَاكَ أَبَا بَكْرٍ بِمَا فَعَلاَ
خَيْرُ البَرِيَّةِ أتْقَاهَا وَأَعْدَلَهَا ... بَعْدَ النَّبيِّ وَأَوْفَاهَا بِمَا حَمَلاَ
وَالثَّانِيَ التَّالِيَ المَحْمُوْدَ مَشْهَدُهُ ... وَأَوَّلُ النَّاسِ مِنْهُمْ صَدَّقَ الرُّسُلاَ

والقولُ الثاني أولهم إسلاماً عليٌّ، روي ذلكَ عن زيدٍ بنِ أرقمَ، وأبي ذَرٍّ، والمقدادِ بنِ الأسودِ، وأبي أيوبَ، وأنسِ بنِ مالكٍ، ويعلى بنِ مُرَّةَ، وعفيفِ الكنديِّ، وخزيمةَ بنِ ثابتٍ، وسلمانَ الفارسيِّ، وخَبَّابِ بنِ الأَرَتِ، وجابرِ بنِ عبدِ اللهِ، وأبي سعيدٍ الخدريِّ وأنشدَ المَرْزُبَانيُّ لخزيمةَ بنِ ثابتٍ في عليٍّ رضي اللهُ عنهما

أَلَيْسَ أوَّلَ مَنْ صَلَّى لِقِبْلَتِهِم ... وأعْلَمَ النَّاسِ بالفَرقَانِ والسُّنَنِ؟

(2/143)


وروى الحاكمُ في المستدركِ من روايةِ مسلمٍ الملائيِّ، قالَ نُبِّئَ النبيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومَ الاثنينِ، وأسلمَ عليٌّ يومَ الثلاثاءِ وقالَ الحاكمُ في علومِ الحديثِ لا أعلمُ خلافاً بَيْنَ أصحابِ التواريخِ أنَّ علياً أوَّلُهم إسلاماً قالَ وإنَّما اختلفوا في بلوغهِ، قالَ ابنُ الصلاحِ واسْتُنْكِرَ هَذَا منَ الحاكمِ وإلى هَذَا أشرتُ بقولي ومُدَّعِي إجماعَهُ لَمْ يقبلْ أيْ الحاكمُ، ثمَّ قالَ الحاكمُ بعدَ حكايتِهِ لهذا الإجماعِ والصحيحُ عندَ الجماعةِ أنَّ أبا بكرٍ الصديقَ أولُ مَنْ أسلمَ منَ الرجالِ البالغينَ لحديثِ عمرِو بن عبسةَ
والقولُ الثالثُ أنَّ أولَهم إسلاماً زيدُ بنُ حارثةَ ذكرَهُ مَعْمَرٌ عنِ الزهريِّ
والقولُ الرابعُ أنَّ أوَّلَهُم إسلاماً أُمُّ المؤمنينَ خديجةُ بنتُ خويلدٍ، رُويَ ذلكَ عنِ ابنِ عباسٍ، والزهريِّ أيضاً، وهوَ قولُ قتادةَ ومحمدِ بنِ إسحاقَ في آخرينَ، وقالَ النوويُّ إنَّهُ الصوابُ عندَ جماعةٍ منَ المُحَقِّقِيْنَ وادَّعى الثعلبيُّ المفسِّرُ اتفاقَ العلماءِ على ذلكَ، وأنَّ اختلافهم إنَّما هو في أولِ مَنْ أسلمَ بعدها قالَ ابنُ عبدِ البرِّ اتفقوا على أنَّ خديجةَ أوَّلُ مَنْ آمَنَ، ثمَّ عليٌّ بعدَها
وجُمِعَ بينَ الاختلافِ في ذلكَ بالنسبةِ إلى أبي بكرٍ وعليٍّ، بأنَّ الصحيحَ أنَّ أبا بكرٍ أولُ مَنْ أظهرَ إسلامَهُ، ثمَّ رُوِيَ عن محمدِ بنِ كعبٍ القرظيِّ أنَّ عليّاً أخفى إسلامَهُ

(2/144)


من أبي طالبٍ، وأظهرَ أبو بكرٍ إسلامَهُ؛ ولذلكَ شُبِّهَ عَلَى الناسِ قالَ ابنُ الصلاحِ والأورعُ أنْ يقالَ أوَّلُ مَنْ أسلَمَ منَ الرجالِ الأحرارِ أبو بكرٍ، ومنَ الصِّبْيَانِ أوِ الأحداثِ عليٌّ، ومنَ النساءِ خديجةُ، ومنَ الموالي زيدٌ، ومنَ العبيدِ بلالٌ، واللهُ أعلمُ وقالَ ابنُ إسحاقَ أوَّلُ مَنْ آمنَ خديجةُ، ثمَّ عليُّ بنُ أبي طالبٍ، قالَ وكانَ أولُ ذَكَرٍ آمنَ برسولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهوَ ابنُ عشرِ سنينَ، ثمَّ زيدُ بنُ حارثةَ، فكانَ أولَ ذَكَرٍ أسلَمَ بعدَ عليٍّ ثمَّ أبو بكرٍ فأظهرَ إسلامَهُ ودعا إلى اللهِ فأسلمَ بدعائهِ عثمانُ بنُ عفانَ، والزبيرُ بنُ العوامِ، وعبدُ الرحمنِ بنُ عوفٍ، وسعدُ بنُ أبي وقاصٍ، وطلحةُ بنُ عبيدِ اللهِ، فكانَ هؤلاءِ النفرُ الثمانيةُ الذينَ سبقوا الناسَ بالإسلامِ وذكرَ عمرُ بنُ شَبَّةَ أن خالدَ بنَ سعيدِ بنِ العاصِ، أسلمَ قبلَ عليٍّ
وقولي مَنْ سَلف، هو فاعلُ اختلفَ، وقبلُ مبنيٌّ على الضمِّ

... وَمَاتَ آخِراً بِغَيْرِ مِرْيةِ ... أبُو الطُّفَيْلِ مَاتَ عَامَ مِائَةِ
809.... وقَبْلَهُ السَّائِبُ بالمَدِينَةِ ... أَوْ سَهْلٌ اوْ جَابِرٌ اوْ بِمَكَّةِ
... وقِيلَ: الاخِرُ بِهَا: ابنُ عُمَرَا ... إنْ لا أبُو الطُّفَيْلِ فِيهَا قُبِرَا
811.... وأَنَسُ بنُ مالِكٍ بالبَصْرَةِ ... وابنُ أبي أوْفَى قَضَى بالكُوْفَةِ

(2/145)


.. والشَّامِ فَابْنُ بُسْرٍ اوْ ذُو باهِلَهْ ... خُلْفٌ، وقِيلَ: بِدِمَشْقٍ وَاثِلَهْ
813.... وَأنَّ في حِمْصَ ابنُ بُسْرٍ قُبِضَا ... وأنَّ بِالجَزِيرَةِ العُرْسُ قَضَى
... وبِفِلَسْطِينَ أبُو أُبَيِّ ... ومِصْرَ فابنُ الحارِثِ بنِ جُزَيِ
815.... وقُبِضَ الهِرْمَاسُ باليَمَامَةِ ... وقَبْلَهُ رُوَيْفِعٌ ببَرْقةِ
... وقِيلَ: إفْرِيقِيَّةٍ وسَلَمَهْ ... بادِياً اوْ بِطِيبَةَ المُكَرَّمَهْ

......
في هذا الفصلِ بيانُ آخرِ مَنْ ماتَ من الصحابةِ مطلقاً ومقيَّداً بالبلدانِ والنواحي، فأمَّا آخرهم موتاً على الإطلاقِ: فأبو الطُّفيلِ عامرُ بنُ واثلةَ الليثيُّ ماتَ سنةَ مائةٍ منَ الهجرةِ، كذا جزمَ بهِ ابنُ الصلاحِ، وكذا رواهُ الحاكمُ في " المستدركِ " عن شَبَابٍ العُصْفُريِّ، وهوَ خليفةُ بنُ خياطٍ، وكذا رويناهُ في " صحيحِ مسلمٍ " من روايةِ إبراهيمَ بنِ سفيانَ قالَ: ((قالَ مسلمٌ: ماتَ أبو الطُّفيلِ سنةَ مائةٍ، وكانَ آخرَ مَنْ ماتَ مِنْ أصحابِ رسولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)) ، وكذا قالَ ابنُ عبدِ البرِّ: إنَّ وفاتَهُ سنةُ مِائةٍ. وقالَ خليفةُ بنُ خياطٍ في غيرِ روايةِ الحاكمِ: إنَّهُ تأخَّرَ بعدَ المائةِ، وقيلَ: توفّيَ سنةَ اثنتينِ

(2/146)


ومائةٍ، قالهُ مصعبُ بنُ عبدِ اللهِ الزبيريُّ، وجزمَ ابنُ حبانَ وابنُ قانعٍ، وأبو زكريا ابنُ منده: أنَّهُ توفيَ سنةَ سبعٍ ومائةٍ، وقدْ روى وهبُ بنُ جريرِ بنِ حازمٍ عن أبيهِ، قالَ: كنتُ بمكةَ سنةَ عشرٍ ومائةٍ، فرأيتُ جنازةً فسألتُ عنها، فقالوا: هذا أبو الطفيلِ، وهذا هو الذي صحَّحَهُ الذهبيُّ في الوفياتِ: أنَّهُ في سنةِ عشرٍ ومائةٍ.
وأمَّا كونُهُ آخرَ الصحابةِ موتاً فجزمَ بهِ مسلمٌ، ومصعبُ بنُ عبدِ اللهِ الزبيريُّ، وأبو زكريا بنُ منده، وأبو الحجاجِ المِزِّيُّ وغيرُهم، وروينا في "صحيحِ مسلمٍ" بإسنادِهِ إلى أبي الطفيلِ، قالَ: رأيتُ رسولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وما على وجهِ الأرضِ رجلٌ رآهُ غيري. فتبينَ أنَّهُ آخرهم موتاً على الإطلاقِ، وماتَ بمكةَ، فهو آخرُ مَنْ ماتَ بها منَ الصحابةِ كما جزمَ بهِ ابنُ حبانَ، وأبو زكريا بنُ منده، وكذا ذكرَ عليُّ بنُ المدينيِّ: أنَّهُ ماتَ بمكةَ، وأمَّا ما حكاهُ بعضُ المتأخرينَ عنِ ابنِ دريدٍ، مِنْ أنَّ عِكْرَاشَ ابنَ ذُؤَيْبٍ، تأخرَ بعدَ ذلكَ، وأنَّهُ عاشَ بعدَ الجَمَلِ مائةَ سنةٍ، فهذا باطلٌ لا أصلَ لهُ، والذي أوقعَ ابنَ دُرَيْدٍ في ذلكَ ابنُ قتيبةَ، فقدْ سبقهُ إلى ذلكَ، وقالهُ في كتابِ "

(2/147)


المعارفِ "، وهو إمَّا باطلٌ أو مؤوَّلٌ بأنَّهُ استكملَ بعدَ الجملِ مائةَ سنةٍ لا أنَّهُ بقيَ بعدَها مائةَ سنةٍ، والله أعلمُ.
وأما آخرُ مَنْ ماتَ مقيَّداً بالنواحي، فاختلفوا في آخرِ مَنْ ماتَ بالمدينةِ الشريفةِ على أقوالٍ:
فقيلَ: السائبُ بنُ يزيدَ، قاله أبو بكرٍ بنُ أبي داودَ واختُلِفَ في سنةِ وفاتِهِ، فقيلَ: سنةُ ثمانينَ، وقيلَ: ستٍّ وثمانينَ، وقيلَ: ثمانٍ وثمانينَ، وقيلَ: إحدى وتسعينَ، قاله الجعدُ بنُ عبدِ الرحمنِ، والفلاَّسُ، وبه جزمَ ابنُ حبَّانَ، واخْتُلِفَ أيضاً في مولدهِ، فقيلَ: في السنةِ الثانيةِ منَ الهجرةِ، وقيلَ: في الثالثةِ.
والقولِ الثاني:: أنَّ آخرَهم موتاً بالمدينةِ: سَهْلُ بنُ سعدٍ الأنصاريُّ، قاله عليُّ بنُ المدينيِّ، والواقديُّ، وإبراهيمُ بنُ المنذرِ الحِزَاميُّ، ومحمدُ بنُ سعدٍ، وابنُ حبَّانَ، وابنُ قانعٍ، وأبو زكريا بنُ منده، وادَّعى ابنُ سعدٍ نفيَ الخلافِ فيهِ، فقالَ: ليسَ بيننا في ذلكَ اختلافٌ، وقدْ أطلقَ أبو حازمٍ أنَّهُ آخرُ الصحابةِ موتاً، وكأنَّهُ أخذهُ مِنْ قولِ سهلٍ، حيثُ سَمِعَهُ يقول: لو متُّ لم تسمعوا أحداً يقولُ: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والظاهرُ أنَّهُ أرادَ أهلَ المدينةِ إذ لم يكنْ بقيَ بالمدينةِ غيرهُ. وقدِ اختُلِفَ في سنةِ وفاتهِ أيضاً،

(2/148)


فقيلَ: سنةُ ثمانٍ وثمانينَ، قالهُ أبو نُعَيمٍ والبخاريُّ والترمذيُّ، وقيلَ: سنةُ إحدى وتسعينَ قالهُ الواقديُّ، والمدائنيُّ، ويحيى بنُ بُكيرٍ، وابنُ نميرٍ، وإبراهيمُ بنُ المنذرِ الحِزَاميُّ ورجَّحهُ ابنُ زَبْرٍ، وابنُ حبَّانَ. وقدِ اختُلِفَ في وفاتهِ أيضاً بالمدينةِ فالجمهورُ على أنَّهُ ماتَ بها، وقالَ قتادةُ: بمصرَ، وقالَ أبو بكرِ ابنُ أبي داودَ: بالإسكندريةِ، ولهذا جُعِلَ السائبُ آخرَ مَنْ ماتَ بالمدينةِ كما تقدَّم.
والقولُ الثالثُ: إنَّ آخرهم موتاً بها جابرُ بنُ عبدِ اللهِ، رواهُ أحمدُ بنُ حنبلٍ عن قتادةَ، وبهِ صدَّر ابنُ الصلاحِ كلامَهُ، فاقتضى ترجيحهُ عندهُ، وكذا قالهُ أبو نعيمٍ وهو قولٌ ضعيفٌ؛ لأنَّ السائبَ ماتَ بالمدينةِ عندهُ بلا خلافٍ، وقدْ تأخَّرَ بعدهُ، وقدِ اختُلِفَ أيضاً في مكانِ وفاةِ جابرٍ، فالجمهورُ عَلَى أنَّهُ ماتَ بالمدينةِ، وقيلَ: بقُبَاءَ. وقيلَ: بمكةَ، قالهُ أبو بكرِ ابنُ أبي داودَ، وإليهِ أشرتُ بقولي: (او بِمكةَ) .
واخْتُلِفَ في سنةِ وفاتِهِ، فقيلَ: سنةُ اثنتينِ وسبعينَ، وقيلَ: ثلاثٌ، وقيلَ: أربعٌ، وقيلَ: سبعٌ، وقيلَ: ثمانٍ، وهو المشهورُ، وقيلَ: سنةُ تسعٍ وسبعينَ. قلتُ: هكذا اقتصر ابنُ الصلاحِ على ثلاثةِ أقوالٍ في آخرِ مَنْ ماتَ بالمدينةِ، وقد تأخرَ بعدَ الثلاثةِ

(2/149)


المذكورين بالمدينةِ محمودُ بنُ الربيعِ الذي عَقَلَ مجَّةَ النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في وجههِ، وهوَ ابنُ خمسِ سنينَ، وتوفيَ سنةَ تسعٍ وتسعينَ، بتقديم التاءِ فيهما، فهوَ إذاً آخرُ الصحابةِ موتاً بالمدينةِ. وتأخرَ أيضاً بعدَ الثلاثةِ محمودُ بنُ لبيدٍ الأشهليُّ، ماتَ بالمدينةِ سنةَ ستٍّ وتسعينَ أو خمسٍ وتسعينَ، وقدْ قالَ البخاريُّ: إنَّ لهُ صحبةً.
وكذا قالَ ابنُ حبَّانَ وإنْ كانَ مسلمٌ وجماعةٌ عدَّوهُ في التابعينَ.
وأمَّا آخرُ مَنْ ماتَ بمكةَ منهم، فقيلَ: جابرُ بنُ عبدِ اللهِ، قالهُ ابنُ أبي داودَ. والمشهور وفاتهُ بالمدينةِ كما تقدَّمَ، وقيلَ: آخرهم موتاً بها عبدُ اللهِ بنُ عمر بن الخطابِ، قاله قتادةُ وأبو الشيخِ ابنُ حيَّانَ في " تاريخهِ "، وبهِ صدَّرَ ابنُ الصلاحِ كلامَهُ. وقدِ

(2/150)


اختُلِفَ في سنةِ وفاتِهِ، فقيلَ: سنةُ ثلاثٍ وسبعينَ، وقيلَ: أربعٌ، ورجَّحهُ ابنُ زَبْرٍ. وممَّن جزمَ أنَّهُ ماتَ بمكةَ، ودُفِنَ بفخٍّ، ابنهُ سالمُ بنُ عبدِ اللهِ، وابنُ حبَّانَ، وابنُ زَبْرٍ، وغيرُ واحدٍ، وكذلكَ مصعبُ بنُ عبدِ اللهِ الزبيريُّ؛ ولكنهُ قالَ دُفِنَ بذِي طَوًى، وإنَّما يكونُ جابرٌ أو ابنُ عمرَ آخرَ مَنْ ماتَ بمكةَ إنْ لمْ يكنْ أبو الطفيلِ ماتَ بِهَا، كَمَا قدْ قيلَ، والصحيحُ: أنَّ أبا الطفيلِ ماتَ بمكةَ، كَمَا قالَهُ عليُّ بنُ المدينيِّ وابنُ حبَّانَ وغيرُهما، وإلى هَذَا أشرتُ بقولي: (إنْ لا أبو الطفيلِ فِيْهَا قبرا) .
وآخرُ مَنْ ماتَ منهم بالبصرةِ: أنسُ بنُ مالكٍ، قالهُ قتادةُ، وأبو هلالٍ، والفلاَّسُ، وابنُ المدينيِّ وابنُ سعدٍ، وأبو زكريا بنُ منده، وغيرهم،

(2/151)


واختلفَ في وقتِ وفاتهِ، فقيلَ: سنةُ ثلاثٍ وتسعينَ، وقيلَ: سنةُ اثنتينِ، وقيلَ: إحدى، وقيلَ: سنةُ تسعينَ، قالَ ابنُ عبدِ البرِّ: وما أعلَمُ أحداً ماتَ بعدَهُ ممَّنْ رأى رسولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلاَّ أبا الطفيلِ.
قلتُ: قدْ ماتَ بعدَهُ محمودُ بنُ الربيعِ بلا خلافٍ في سنةِ تسعٍ وتسعينَ، كما تقدَّمَ، وقدْ رآهُ وعقلَ عنهُ وحدَّثَ عنهُ، كما في "صحيح البخاريِّ"، واللهُ أعلمُ.
وكذا تأخرَ بعدَهُ عبدُ اللهِ بنُ بُسْرٍ المازنيُّ في قولِ عبدِ الصمدِ بنِ سعيدٍ، كما سيأتي.
وآخرُ مَنْ ماتَ منهم بالكوفةِ: عبدُ اللهِ بنُ أبي أوفى، قالهُ قتادةُ والفلاَّسُ وابنُ حبانَ وابنُ زَبْرٍ وابنُ عبدِ البرِّ، وأبو زكريا بنُ

(2/152)


منده. وذكر ابنُ المدينيِّ: أنَّ آخرَهُم موتاً بالكوفةِ: أبو جُحَيفةَ، والأولُ أصحُّ، فإنَّ أبا جُحَيْفةَ توفيَ سنةَ ثلاثٍ وثمانينَ، وقيلَ: أربعٍ وسبعينَ، وبقيَ ابنُ أبي أوفى بعدَهُ إلى سنةِ ستٍّ وثمانينَ، وقيلَ: سبعٍ، وقيلَ: ثمانٍ، نعم.. بقي النظرُ في ابنِ أبي أوفى، وعمرِو بنِ حُريثٍ، فإنَّهُ أيضاً ماتَ بالكوفةِ، فإنْ كانَ عمرُو بنُ حريثٍ توفيَ في سنةِ خمسٍ وثمانينَ، فقد تأخَّرَ ابنُ أبي أوفى بعدَهُ، وإنْ كانَ توفيَ سنةَ ثمانٍ وتسعينَ، كما رواهُ الخطيبُ في " المتفقِ والمفترقِ "، عن محمدِ بنِ الحسنِ الزعفرانيِّ؛ فيكونُ عمرُو بنُ حريثٍ آخرَهم موتاً بها، واللهُ أعلمُ. وابنُ أبي أوفى آخرُ مَنْ بقيَ ممَّنْ شَهِدَ بيعةَ الرضوانِ.

(2/153)


وآخرُ مَنْ ماتَ منهم بالشامِ: عبدُ اللهِ بنُ بُسْرٍ المازنيُّ، قالهُ الأحوصُ بنُ حكيمٍ، وابنُ المدينيِّ، وابنُ حبَّانَ، وابنُ قانعٍ، وابنُ عبدِ البرِّ، والمزيُّ، والذهبيُّ. واختُلِفَ في وفاتهِ، فقيلَ: سنةُ ثمانٍ وثمانينَ وهو المشهورُ، وقيلَ: سنةُ ستٍّ وتسعينَ، قالهُ عبدُ الصمدِ بنُ سعيدٍ، وبهِ جزمَ أبو عبدِ اللهِ بنُ منده، وأبو زكريا بنُ منده، وقالَ: إنَّهُ صلَّى للقبلتينِ.
فعلى هذا هوَ آخرُ مَنْ بقيَ ممَّنْ صلَّى للقبلتينِ.
وقيلَ: إنَّ آخرَ مَنْ ماتَ بالشامِ منهم: أبو أُمامَةَ صُدَيُّ بنُ عَجْلانَ الباهليُّ، رويَ ذلكَ عنِ الحسنِ البصريِّ وابنِ عيينةَ، وبهِ جزمَ أبو عبدِ اللهِ ابنُ منده، وأشرتُ إلى الخلافِ بقولي: (أو ذو باهِلَهْ) ، والصحيحُ الأولُ، فقدْ قالَ البخاريُّ في "

(2/154)


التاريخِ الكبيرِ " قالَ عليٌّ: سمعتُ سفيانَ، قلتُ لأحوصَ: كانَ أبو أمامةَ آخرَ مَنْ ماتَ عندكم منْ أصحابِ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قالَ: كانَ بعدَهُ عبدُ اللهِ بنُ بُسْرٍ، قدْ رأيتُهُ.
واخْتُلِفَ في سنةِ وفاةِ أبي أمامةَ، فقيل: سنةُ ستٍّ وثمانينَ، وقيلَ: إحدى وثمانينَ.
وقولي: (بدمشقَ واثلهْ) ، إشارة إلى طريقَةٍ أخرى سلكها بعضُهم في آخرِ مَنْ بقيَ في نواحٍ منَ الشامِ بالنسبةِ إلى دمشقَ، وحِمْصَ، وفلسطينَ، وهوَ أبو زكريا بنُ منده، فقالَ في جزءٍ جَمَعَهُ في آخرِ مَنْ ماتَ منَ الصحابة فيما رويناهُ عنهُ:
آخرُ مَنْ ماتَ بدمشقَ منهم: واثلةُ بنُ الأسقعِ الليثيُّ، وكذا قاله قتادةُ؛ ولكنْ قدِ اخْتُلِفَ في مكانِ وفاتهِ، فقالَ قتادةُ ودُحَيْمٌ، وأبو زكريا بنُ منده: ماتَ بدمشقَ، وقالَ أبو حاتمٍ الرازيُّ: ماتَ ببيتِ المقدسِ. وقالَ ابنُ قانعٍ: بحمصَ. واخْتُلِفَ أيضاً في سنةِ وفاتِهِ، فقيلَ: سنةُ خمسٍ وثمانينَ. وقيلَ: ثلاثٍ. وقيلَ: سنةُ ستٍّ وثمانينَ.
وآخرُ مَنْ ماتَ بحمصَ منهم: عبدُ اللهِ بنُ بسرٍ المازنيُّ، قالهُ قتادةُ، وأبو زكريا بنُ منده.

(2/155)


وآخرُ مَنْ ماتَ منهم بالجزيرةِ: العُرْسُ بنُ عَميرةَ الكِندِيُّ، قالهُ أبو زكرياْ بنُ منده.
وآخرُ مَنْ ماتَ منهم بفلسطينَ: أبو أُبيٍّ عبدُ اللهِ بنُ أمِّ حَرَامٍ، قالهُ أبو زكريا بنُ منده، وهو ابنُ امرأةِ عبادةَ بنِ الصامتِ. واختُلِفَ في اسمهِ، فقالَ ابنُ سعدٍ، وخليفةُ، وابنُ عبدِ البرِّ: هوَ عبدُ اللهِ بنُ عمرِو بنِ قيسٍ وقيلَ: عبدُ اللهِ بنُ أُبيٍّ، وقيلَ: بنُ كعبٍ، وقدِ اختلِفَ أيضاً في مكانِ وفاتهِ. فقيلَ: إنَّهُ ماتَ بدمشقَ. وذكرَ ابنُ سُميعٍ: أنَّهُ توفيَ ببيتِ المقدسِ، قلتُ: فإنْ كانَ توفيَ بدمشقَ، فآخرُ مَنْ ماتَ بفلسطينَ قيسُ بنُ سعدِ بنِ عبادةَ، فقد ذكرَ أبو الشيخِ في " تاريخهِ " عن بعضِ ولدِ سعدٍ: أنَّ قيسَ بنَ سعدٍ توفيَ بفلسطينَ سنةَ خمسٍ وثمانينَ في ولايةِ عبدِ الملكِ؛ لكنَّ المشهورَ أنَّهُ توفيَ في المدينةِ في آخرِ خلافةِ معاويةَ، قاله الهيثمُ بنُ عديٍّ، والواقديُّ، وخليفةُ ابنُ خياطٍ، وغيرهم.
وآخرُ مَنْ ماتَ منهم بمصرَ: عبدُ اللهِ بنُ الحارثِ بنُ جَزْءٍ الزُّبَيْدِيُّ، قاله سفيانُ بنُ عيينةَ، وعليُّ بنُ المدينيِّ، وأبو زكريا بنُ منده. واختُلِفَ في سنةِ وفاتِهِ، فالمشهورُ: سنةُ ستٍّ وثمانينَ، وقيلَ: سنةُ خمسٍ، وقيلَ: سبعٍ، وقيلَ: ثمانٍ، وقيل: تسعٍ. وذكرَ الطحاويُّ أنَّهُ ماتَ بسَفْطِ القدورِ، وهي التي تُعرفُ اليومَ بسفطِ أبي

(2/156)


ترابٍ، وقدْ قيلَ: إنَّهُ ماتَ باليمامةِ، حكاهُ أبو عبدِ اللهِ بنُ منده، وقالَ أيضاً: إنَّهُ شهدَ بدراً، فعلى هذا هوَ آخرُ البدريينَ موتاً، ولا يصحُّ شهودُهُ بدراً، واللهُ أعلمُ.
وقولي: (جزي) ، هو بإبدالِ الهمزةِ ياءً لموافقةِ القافيةِ.
وآخرُ مَنْ ماتَ منهم باليمامةِ: الهِرْمَاسُ بنُ زيادٍ الباهليُّ، قالهُ أبو زكريا ابنُ منده، وذُكِرَ عن عِكْرِمَةَ بنِ عمارٍ، قالَ: لقيتُ الهرماسَ بنَ زيادٍ سنةَ اثنتينِ ومائةٍ.
وآخرُهم موتاً بِبَرْقَةَ: رُوَيفعُ بنُ ثابتٍ الأنصاريُّ، وقالَ أبو زكريا ابنُ منده: إنَّهُ توفيَ بإفريقيةَ، وإنَّهُ آخرُ مَنْ ماتَ بها منَ الصحابةِ، وقالَ أحمدُ بنُ البَرْقيِّ: توفيَ بِبَرْقةَ، وصحَّحهُ المِزِّيُّ، وقالَ ابنُ الصلاحِ: ((إنَّهُ لا يصحُّ وفاتُهُ بإفريقيةَ)) ، وكذا ذكرَ ابنُ يونسَ: أنَّهُ توفيَ ببرقةَ، وهوَ أميرٌ عليها لِمَسْلَمةَ بنِ مُخَلَّدٍ سنةَ ثلاثٍ وخمسينَ، فإنَّ قبْرَهُ معروفٌ ببرقةَ إلى اليومِ، ووقعَ في " تهذيبِ الكمالِ " نقلاً عنِ ابنِ يونسَ: أنَّ وفاتهُ في سنةِ ستٍّ وخمسينَ. وفي مكانِ وفاتِهِ قولٌ آخرُ لمْ يحكهِ ابنُ منده، ولا ابنُ الصلاحِ، وهوَ أنَّهُ ماتَ بِأَنْطَابُلُسَ، قالهُ الليثُ بنُ سعدٍ. وقيلَ: إنَّهُ ماتَ بالشامِ.
وآخرُ مَنْ ماتَ منهم بالباديةِ: سَلَمَةُ بنُ الأكوعِ، قالهُ أبو زكريا بنُ منده، والصحيحُ أنَهُ ماتَ بالمدينةِ، قالهُ ابنُهُ إياسُ بنُ سلمةَ، ويحيى بنُ بكيرٍ، وأبو عبدِ اللهِ بنُ منده. ورجَّحهُ ابنُ الصلاحِ. وأشرتُ إلى الخلافِ بقولي: (او بطيبةَ المكرمهْ) .

(2/157)


واخْتُلِفَ أيضاً في سنةِ وفاتِهِ، فالصحيحُ: أنَّهُ توفيَ سنةَ أربعٍ وسبعينَ، وقيلَ: سنةُ أربعٍ وستينَ.
وهذا آخرُ ما ذكرهُ ابنُ الصلاحِ من أواخرِ مَنْ ماتَ منَ الصحابةِ مقيَّداً بالأماكنِ، وبقيَ عليهِ مما ذكرهُ أبو زكريا بنُ منده أنَّ آخرَ مَنْ ماتَ بِخُرَاسانَ منهم: بُرَيْدَةُ بنُ الحُصَيْبِ، وأنَّ آخرَ مَنْ ماتَ منهمْ بالرُّخَّجِ منهم: العدَّاءُ بنُ خالدِ بنُ هَوْذَةَ، والرُّخَّجُ: من أعمالِ سجستانَ.
وممَّا لمْ يذكرْهُ ابنُ الصلاحِ، ولا ابنُ منده أيضاً: أنَّ آخرَ مَنْ ماتَ منهم بأصبهانَ: النابغةُ الجعديُّ، وقد ذكرَ وفاتَهُ بأصبهانَ أبو الشيخِ في " طبقاتِ الأصبهانيينَ "، وأبو نُعَيمٍ في " تاريخِ أصبهانَ ".
وآخرُ منْ ماتَ منهم بالطائفِ: عبدُ اللهِ بنُ عباسٍ.

مَعْرِفَةُ التَّابِعِينَ

817.... والتَّابعُ اللاَّقِي لِمَنْ قَدْ صَحِبَا ... وَلِلْخَطِيبِ حَدُّهُ أنْ يَصْحَبَا

(2/158)


اخْتُلِفَ في حدِّ التابعيِّ، فقالَ الحاكمُ وغيرهُ إنَّ التابعيَّ مَنْ لقيَ واحداً منَ الصحابةِ فأكثرَ، وسيأتي نقلُ كلامِ الحاكمِ في البيتِ الذي يلي هذا، وعليهِ عملُ الأكثرينَ
وقدْ ذكرَ مسلمٌ وابنُ حِبَّانَ سليمانَ بنَ مِهْرَانَ الأعمشَ في طبقة التابعينَ وقالَ ابنُ حبانَ أخرجناهُ في هذهِ الطبقةِ؛ لأنَّ لهُ لقياً وحفظاً رأى أنسَ بنَ مالكٍ، وإنْ لَمْ يصحَّ لهُ سماعُ المسندِ عن أنسٍ انتهى وقالَ عليُّ بنُ المدينيِّ لمْ يسمعْ من أنسٍ، وإنما رآهُ رؤيةً بمكةَ يصلِّي وليسَ لهُ روايةٌ في شيءٍ من الكتبِ الستةِ عن أحدٍ منَ الصحابةِ إلاَّ عن عبدِ اللهِ ابنِ أبي أوفى في سننِ ابنِ ماجه فقطْ وقالَ أبو حاتمٍ الرازيُّ إنَّه لمْ يسمعْ منهُ وقالَ الترمذيُّ إنَّهُ لمْ يسمعْ من أحدٍ منَ الصحابةِ، وعدَّهُ أيضاً في التابعينَ عبدُ الغنيِّ بنُ سعيدٍ وعدَّ فيهم يحيى بنَ أبي كثيرٍ؛ لكونهِ لَقِيَ أنساً وعدَّ فيهم موسى بنَ أبي عائشةَ؛ لكونِهِ لقيَ عَمْرَو بنَ حُريثٍ وعدَّ فيهم جريرَ بنَ حازمٍ لكونهِ رأى أنساً، وهذا مصيرٌ منهم إلى أنَّ التابعيَّ مَنْ رأى الصحابيَّ ولكنَّ ابنَ حبَّانَ يشترطُ أن يكونَ رآهُ في سنِّ مَنْ يحفظُ عنهُ، فإنْ كانَ صغيراً

(2/159)


لمْ يحفظْ عنهُ فلا عبرةَ برؤيتِهِ، كخلفِ بنِ خليفةَ، فإنَّهُ عدَّهُ في أتباعِ التابعينَ، وإنْ كانَ رأى عمرَو بنَ حريثٍ؛ لكونهِ كانَ صغيراً وقالَ الخطيبُ التابعيُّ مَنْ صَحِبَ الصحابيَّ، والأولُ أصحُّ، ورجَّحهُ ابنُ الصلاحِ فقالَ والاكتفاءُ في هَذَا بمجردِ اللقاءِ والرؤيةِ أقربُ منهُ في الصحابةِ نظراً إِلَى مقتضى اللفظينِ فيهما وقالَ النوويُّ في التقريبِ والتيسيرِ إنَّهُ الأظهرُ انتهى وَقَدْ عدَّ الخطيبُ منصورَ بنَ المعتمرِ منَ التابعينَ، ولمْ يسمعْ من أحدٍ منَ الصحابةِ وقولُ الخطيبِ لهُ منَ الصحابةِ ابنُ أبي أوفى، يريد في الرؤيةِ لا في السماعِ والصحبةِ وَلَمْ أرَ مَنْ ذكرهُ في طبقةِ التابعينَ وقالَ النوويُّ في شرحِ مُسْلِم
إنَّهُ ليسَ بتابعيٍّ؛ ولكنَّهُ من أتباعِ التابعينَ، وقدْ أشارَ النبيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الصحابةِ والتابعينَ بقولهِ طُوبى لمنْ رآني وآمَنَ بي، وطوبى لمَنْ رأى مَنْ رآني ... الحديث، فاكتفى فيهما بمجردِ الرؤيةِ

... وَهُمْ طِبَاقٌ قِيلَ: خَمْسَ عَشَرَهْ ... أَوَّلُهُمْ: رُوَاةُ كلِّ العَشَرَهْ
819.... وَقَيْسٌ الفَرْدُ بِهَذا الوَصْفِ ... وَقِيلَ لَمْ يَسْمَعْ مِنِ ابْنِ عَوْفِ
... وَقَوْلُ مَنْ عدَّ سَعِيداً فَغَلَطْ ... بَلْ قِيلَ: لَمْ يَسْمَعْ سِوَى سَعْدٍ فَقَطْ
821.... لَكِنَّهُ الأَفْضَلُ عِنْدَ أَحْمَدَا ... وعَنْهُ قَيْسٌ وَسِوَاهُ وَرَدَا
... وَفَضَّلَ الحَسَنَ أَهْلُ البَصْرَةِ ... والقَرَنِيْ أُوَيْساً اهْلُ الكُوفَةِ

(2/160)


ثمَّ إنَّ التابعينَ طِباقٌ، فجعلهم مسلمٌ في كتابِ " الطبقاتِ " ثلاثَ طبقاتٍ. وكذا فعلَ ابنُ سعدٍ في " الطبقاتِ "، وربَّما بلغَ بهم أربعَ طبقاتٍ. وقالَ الحاكمُ في
" علومِ الحديثِ ": هم خمسَ عشرةَ طبقةً، آخرهم مَنْ لقيَ أنسَ بنَ مالكٍ من أهلِ البصرةِ، ومَنْ لقيَ عبدَ اللهِ ابنَ أبي أوفى من أهلِ الكوفةِ ومَنْ لقيَ السائبَ بنَ يزيدَ من أهلِ المدينةِ)) وعدَّ الحاكمُ منهم ثلاثَ طبقاتٍ فقطْ. وسيأتي نقلُ كلامهِ.
فالطبقةُ الأولى منَ التابعينَ مَنْ روى عنِ العشرةِ بالسماعِ منهم، وليسَ في التابعينَ أحدٌ سمعَ منهم إلاَّ قيسَ بنَ أبي حازمٍ. ذكرهُ عبدُ الرحمنِ بنُ يوسفَ ابنُ خِرَاشٍ. وقالَ أبو عُبيدٍ الآجُريُّ عن أبي داودَ: روى عن تسعةٍ منَ العشرةِ، ولمْ يروِ عن عبدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ)) . وأمَّا قولُ الحاكمِ في النوعِ السابعِ من " علومِ الحديثِ ": وقدْ أدركَ سعيدُ بنُ المسيبِ أبا بكرٍ، وعمرَ، وعثمانَ، وعليَّاً، وطلحةَ، والزبيرَ إلى آخرِ العشرةِ. قالَ: ((وليسَ في جماعةِ التابعينَ مَنْ أدركهم وسمعَ منهم غيرُ سعيدٍ، وقيسِ بنِ أبي حازمٍ)) . انتهى، فهو غلطٌ صريحٌ، وكذا قولهُ في النوعِ الرابعَ عشر: ((فمنَ الطبقةِ الأولى قومٌ لحقوا العشرةَ منهم سعيدُ بنُ المسيِّبِ، وقيسُ بنُ أبي حازمٍ، وأبو عثمانَ النَّهْديُّ، وقيسُ بنُ عُبَادٍ، وأبو سَاسَانَ حُضَيْنُ بنُ المنذرِ، وأبو وائلٍ،

(2/161)


وأبو رَجَاءٍ العُطَارِديُّ)) . انتهى. وقد أُنكِرَ ذلكَ على الحاكمِ؛ لأنَّ سعيدَ بنَ المسيبِ إنما وُلِدَ في خلافةِ عمرَ، بلا خلافٍ، فكيفَ يسمعُ مِنْ أبي بكرٍ؟ والصحيحُ أيضاً: أنَّهُ لَمْ يسمعْ منْ عمرَ، قالهُ يحيى بنُ سعيدٍ القطانُ ويحيى بنُ معينٍ وأبو حاتمٍ الرازيُّ، نَعَمْ ... ، أثبتَ أحمدُ بنُ حنبلٍ سماعهُ منهُ. وبالجملةِ فلمْ يسمعْ من أكثرِ العشرةِ، بلْ قالَ بعضُهُمْ فيما حكاهُ ابنُ الصلاحِ: أنَّهُ لا يصحُّ له روايةٌ عن أحدٍ منَ العشرةِ إلاَّ سعدَ بنَ أبي وقاصٍ.
المسألةُ الثالثةُ: اختلفوا في أفضلِ التابعينَ، فقالَ عثمانُ الحارثيُّ: سمعتُ أحمدَ بنَ حنبلٍ يقولُ: أفضلُ التابعينَ سعيدُ بنُ المسيبِ، فقيلَ لهُ: فعلقمةُ والأسودُ، فقالَ: سعيدُ وعلقمةُ والأسودُ)) ، وهوَ المرادُ بقولي: (لكنَّهُ الأفضلُ) ، فالضميرُ لسعيدٍ، وقالَ عليُّ ابنُ المدينيِّ: هوَ عندي أجلُّ التابعينَ، وقالَ أبو حاتمٍ الرازيُّ: ((ليسَ في التابعينَ أنبلُ من ابنِ المسيِّبِ)) . وقالَ ابنُ حبَّانَ: ((هو سيِّدُ التابعينَ)) ووردَ عنْ أحمدَ أيضاً أنَّهُ قالَ: أفضلُ التابعينَ قيسُ بنُ أبي حازمٍ وأبو عثمانَ النَّهْديُّ، ومسروقٌ، هؤلاءِ كانوا فاضلينَ ومِنْ عِلْيةِ التابعينَ. وعنهُ أيضاً قالَ: لا أعلمُ في التابعينَ مثلَ أبي عثمانَ وقيسٍ.

(2/162)


وقالَ الإمامُ أبو عبدِ اللهِ محمدُ بنُ خَفِيْفٍ الشيرازيُّ: اختَلَفَ الناسُ في أفضلِ التابعينَ، فأهلُ المدينةِ يقولونَ: سعيدُ بنُ المسيِّبِ، وأهلُ البصرةِ يقولونَ: الحسنُ البصريُّ، وأهلُ الكوفةِ يقولونَ: أويسٌ القرنيُّ. واستحسنهُ ابنُ الصلاحِ.
قلتُ: الصحيحُ، بلِ الصوابُ ما ذهبَ إليهِ أهلُ الكوفةِ، لما روى مسلمٌ في
" صحيحهِ " من حديثِ عمرَ بنِ الخطابِ، قالَ: سمعتُ رسولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقولُ: ((إنَّ خيرَ التابعينَ رجلٌ يقالُ لهُ: أُويسٌ ... )) الحديث. فهذا الحديثُ قاطعٌ للنِزاعِ. وأمَّا تفضيلُ أحمدَ لابنِ المسيِّبِ وغيرِهِ فلعلَّهُ لمْ يبلغْهُ هذا الحديثُ، أوْ لَمْ يصحَّ عنهُ، أو أرادَ بالأفضليةِ: الأفضليةَ في العلمِ لا الخيريةِ، وقدْ تقدَّمَ في " معرفةِ الصحابةِ " أنَّ الخطابيَّ نقلَ عن بعضِ شيوخهِ أنَّهُ: كانَ يُفرِّقُ بينَ الأفضليةِ والخيريةِ، واللهُ أعلمُ.

823.... وفي نِسَاءِ التَّابِعِينَ الأَبْدَا ... حَفْصَةُ مَعْ عَمْرَةَ أُمِّ الدَّرْدَا
هذا بيانٌ لأفضلِ التابعياتِ، فقولي الأبدا أي أبداهُنَّ، بمعنى أولهنَّ في الفضلِ وقدْ روى أبو بكرِ بنُ أبي داودَ بإسنادِهِ إلى إيَّاسِ بنِ معاويةَ قالَ ما أدركتُ أحداً أُفَضِّلُهُ على حفصةَ، يعني بنتَ سيرينَ، فقيلَ لهُ الحسنُ وابنُ سيرينَ، فقالَ أما أنا فلا أفضِّلُ عليها أحداً وقالَ أبو بكرِ ابنُ أبي داودَ سيدتا التابعينَ من النساءِ

(2/163)


حَفْصَةُ بنتُ سيرينَ، وعَمْرَةُ بنتُ عبدِ الرحمنِ، وثالثتُهما وليستْ كهما أُمُّ الدرداءِ، يريدُ الصُّغرى، واسمها هُجَيْمَةُ، ويقالُ جُهَيْمَةُ فأمَّا أُمُّ الدرداءِ الكُبْرى، فهيَ صحابيةٌ واسمها خَيْرَةٌ

... وَفِي الكِبَارِ الفُقَهَاءِ السَّبْعَهْ ... خَارِجَةُ القَاسِمُ ثُمَّ عُرْوَهْ
825.... ثُمَّ سُلَيْمَانُ عُبَيْدُ اللهِ ... سَعِيدُ والسَّابِعُ ذُو اشْتِبَاهِ
... إمَّا أَبُو سَلَمَةٍ أَوْ سَالِمُ ... أَوْ فَأَبو بَكْرٍ خِلاَفٌ قَائِمُ

منَ المعدودينَ في أكابرِ التابعينَ، الفقهاءُ السبْعَةُ مِنْ أهلِ المدينةِ، وهمْ: خارجةُ بنُ زيدِ بنِ ثابتٍ، والقاسمُ بنُ محمدِ بنِ أبي بكرٍ، وعروةُ بنُ الزبيرِ، وسليمانُ بنُ يسارٍ، وعبيدُ اللهِ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عتبةَ، وسعيدُ بنُ المسيِّبِ وأبو سلمةَ بنُ عبدِ الرحمنِ، فهؤلاءِ همُ الفقهاءُ السبعةُ عندَ أكثر علماءِ الحجازِ كما قالَ الحاكمُ، وجعلَ ابنُ المباركِ: سالمَ بنَ عبدِ اللهِ بنِ عمرَ مكانَ أبي سلمةَ بنِ عبدِ الرحمنِ، فقالَ: كانَ فقهاءُ أهلِ المدينةِ الذينَ يصدرونَ عن آرائهم سبعةً، فذكرهمْ. وذكرَهمْ أبو الزِّنادِ، فجعلَ أبا بكرِ بنَ عبدِ الرحمنِ بنِ الحارثِ مكانَ أبي سلمةَ، أو سالِمٍ، فروى ابنهُ عبدُ الرحمنِ عنهُ، قالَ: أدركتُ منْ فقهائنا الذينَ يُنْتَهى إلى قولِهم فذكرَهمْ، وقالَ: همْ أهلُ فقهٍ وصلاحٍ وفضلٍ.

(2/164)


وقدْ بلغَ بهم يحيى بنُ سعيدٍ: اثني عشرَ فنقصَ وزادَ، فروى عليُّ بنُ المدينيِّ عنهُ، قالَ: فقهاءُ أهلِ المدينةِ اثنا عشرَ: سعيدُ بنُ المسيبِ، وأبو سلمةَ والقاسمُ بنُ محمدٍ، وسالمٌ وحمزةُ وزيدٌ وعبيدُ اللهِ وبلالٌ بنو عبدِ اللهِ بنِ عمرَ، وأبانُ بنُ عثمانَ بنِ عفَّانَ، وقَبِيْصةُ بنُ ذُؤَيبٍ وخارجةُ وإسماعيلُ ابنا زيدِ بنِ ثابتٍ.

827.... والمُدْرِكُونَ جَاهِلِيَّةً فَسَمْ ... مُخَضْرَمِينَ كَسُوَيْدٍ في أُمَمْ

المخضرَمونَ منَ التابعينَ بفتحِ الراءِ وهمُ الذينَ أدركوا الجاهليةَ وحياةَ
رسولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وليستْ لهم صُحبةٌ، ولَمْ يشترطْ بعضُ أهلِ اللغةِ نفيَ الصُّحبةِ قالَ صاحبُ المحكم رَجُلٌ مُخَضْرَمٌ إذَا كَانَ نِصْفُ عُمُرِهِ في الجَاهِلِيَّةِ، ونِصْفُهُ في الإسلامِ فمقتضى هذا أنَّ حكيمَ بنَ حزامٍ، ونحوَهُ مخضرمٌ، وليسَ كذلكَ منْ حيثُ الاصطلاحُ؛ وذلكَ لأنَّهُ مترَدِّدٌ بينَ طبقتينِ لا يُدْرى مِنْ أيتهما هوَ، فهذا هوَ مدلولُ الخَضْرَمَةِ، قالَ صاحبا المحكمِ والصحاحِ لحمٌ مخضرمٌ، لا يُدْرَى مِنْ ذَكَرٍ هوَ أو من أنثى انتهى، فكذلكَ المخضرمونَ مترددونَ بينَ الصحابةِ للمعاصرةِ وبينَ التابعينَ، لعدمِ الرؤيةِ، وفي كلامِ ابنِ حبَّانَ في صحيحهِ موافقةٌ لكلامِ صاحبِ المحكمِ، فإنَّهُ قالَ والرجلُ إذا كانَ في الكفرِ لهُ ستونَ سنةً، وفي الإسلامِ ستونَ سنةً يدعى مخضرماً؛ لكنَّهُ ذكرَ ذلكَ عندَ ذكرِ أبي عمرٍو الشيبانيِّ، وإنَّهُ
كانَ منَ المخضرمينَ فكأنَّهُ أرادَ ممَّنْ ليستْ لهُ صحبةٌ

(2/165)


وحكى الحاكمُ عنْ بعضِ مشايخهِ أنَّ اشتقاقَ ذلكَ من أنَّ أهلَ الجاهليةِ كانوا يُخضرِمونَ آذانَ الإبلِ، أيْ يقطعونها؛ لتكونَ علامةً لإسلامهم إنْ أُغِيْرَ عليها أو حُورِبوا انتهى فعلى هذا يحتملُ أنْ يكونَ المخضرِمُ - بكسر الراءِ -كما حكاهُ فيهِ بعضُ أهلِ اللغةِ؛ لأنَّهم خضرموا آذانَ الإبلِ، ويحتملُ أنْ يكونَ بالفتحِ وأنَّهُ اقْتُطِعَ عنِ الصحابةِ وإنْ عاصرَ لعدمِ الرؤيةِ، واللهُ أعلمُ
وذكرَ أبو موسى المدينيُّ في الصحابةِ نحوَ ما حكاهُ الحاكمُ عن بعضِ شيوخهِ، فقالَ فيهِ فسُمُّوا مخضرمينَ، قالَ وأهلُ الحديثِ يفتحونَ الراءَ، وأَغْرَبَ ابنُ خَلِّكانَ، فقالَ قدْ سُمِعَ محضرِمٌ بالحاء المهملة وكسرِ الراءِ أيضاً
وقولي كَسُوَيْدٍ أيْ ابنَ غَفَلَةَ، في أممٍ أيْ في جماعاتٍ، وقدْ عدَّهم مسلمُ بنُ الحجاجِ فبلغَ بهم عشرينَ، وهم أبو عَمْرٍو سعدُ بنُ إياسٍ الشيبانيُّ، وسُوَيْدُ بنُ غَفَلَةَ، وشُرَيْحُ بنُ هانئ، ويُسَيْرُ بنُ عمرِو بنِ جابرٍ، وعمرُو بنُ ميمونٍ الأوديُّ، والأسودُ بنُ يزيدَ النخعيُّ، والأسودُ بنُ هلالٍ المُحَاربيُّ، والمعرورُ بنُ سُوَيدٍ، وعَبْدُ خَيْرِ بنُ يزيدَ الخَيْوَانيُّ، وشُبَيْلُ بنُ عوفٍ الأحمسيُّ، ومسعودُ بنُ

(2/166)


خِرَاشٍ أخو رِبْعِي، ومالكُ بنُ عُميرٍ، وأبو عثمانَ النهديُّ، وأبو رجاءٍ العُطَارِديُّ، وغُنَيْمُ بنُ قَيْسٍ، وأبو رافعٍ الصائغُ، وأبو الحَلالِ العتكيُّ واسمهُ ربيعةُ بنُ زُرَارةَ، وخالدُ بنُ عُمَيْرٍ العَدَويُّ، وثُمَامَةُ بنُ حَزْنٍ القُشَيْرِيُّ، وجُبَيْرُ بنُ نُفَيرٍ الحَضْرَميُّ، وممَّنْ لمْ يذكرْهُ مسلمٌ أبو مسلمٍ الخَوْلانيُّ، والأحنفُ بنُ قيسٍ، وعبدُ اللهِ بنُ عُكَيْمٍ، وعمرُو بنُ عبدِ اللهِ بنِ الأصمِّ، وأبو أميةَ الشَّعْبَانيُّ
... وَقَدْ يُعَدُّ في الطِّبَاقِ التَّابِعُ ... في تابِعِيهِمْ إذْ يَكُونُ الشَّائِعُ
829.... الحَمْلَ عَنْهُمْ كأَبِي الزِّنَادِ ... والعَكْسُ جَاءَ وَهْوَ ذُوْ فَسَادِ

أيْ قدْ يَعدُّ مَنْ صنَّفَ في الطبقاتِ بعضَ التابعينَ في أتباعِ التابعينَ؛ لكونِ الغالبِ عليهِ والشائعِ عنهُ روايتهُ عنِ التابعينَ، وحملهُ عنهم كأبي الزّنادِ عبد اللهِ بنِ ذَكْوانَ
قالَ خليفةُ بنُ خيَّاطٍ طبقةٌ عدَدُهم عندَ الناسِ في أتباع التابعينَ، وقد لقوا الصحابةَ، منهم أبو الزِّنادِ، وقد لقيَ عبدَ اللهِ بنَ عمرَ، وأنسَ بنَ مالكٍ، وأبا أُمامةَ بنَ سَهْلِ بنِ حُنَيْفِ، وقالَ الحاكمُ نحوَهُ، وزادَ أنَّهُ أُدخِلَ على جابرِ بنِ عبدِ اللهِ أيضاً وقالَ العِجْليُّ تابعيٌّ ثقةٌ سَمِعَ من أنسِ بنِ مالكٍ، وذكرهُ مسلمٌ في الطبقةِ الثالثةِ منَ التابعينَ، وكذا ذكرهُ ابنُ حبَّانَ في طبقةِ التابعينَ

(2/167)


ومثَّلَ الحاكمُ أيضاً بموسى بنِ عقبةَ، فقالَ وقدْ أدركَ أنسَ بنَ مالكٍ، وأمَّ خالدِ بنتَ خالدِ بنِ سعيدِ بنِ العاصِ وقالَ ابنُ حبَّانَ إنَّهُ أدركَ عبدَ اللهِ بنَ عمرَ، وسهلَ بنَ سعدٍ
وقولي والعكسُ جاءَ أيْ وقدْ عدَّ بعضُهم في التابعينَ مَنْ هوَ منْ أتباعِ التابعينَ، وذلكَ صنيعٌ فاسدٌ وخطأٌ ممَّنْ صنعَهُ قالَ الحاكمُ طبقةٌ تُعَدُّ في التابعينَ، ولَمْ يصحَّ سماعُ أحدٍ منهم منَ الصحابةِ، منهم إبراهيمُ بنُ سويدٍ النَّخَعِيُّ، ولَمْ يدركْ أحداً منَ الصحابةِ، قالَ وليسَ هذا بإبراهيمَ بنِ يزيدَ النَّخَعِيِّ الفقيهِ، وبُكَيرُ بنُ أبي السَّمِيطِ، لَمْ يصحَّ لهُ عن أنسٍ روايةٌ، إنما أسقطَ قتادةَ من الوسطِ، قلتُ هوَ بفتحِ السينِ وكسرِ الميمِ كذا ضبطهُ ابنُ ماكولا وغيرهُ قالَ الحاكمُ وبُكَيْرُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ الأشجِّ لَمْ يثبتْ سماعُهُ منِ عبدِ اللهِ بنِ الحارثِ بنِ جَزْءٍ، وإنما رواياتُهُ عنِ التابعينَ وثابتُ ابنُ عَجْلاَنَ الأنصاريُّ، لَمْ يصحَّ سماعُهُ منِ ابنِ عباسٍ، إنما يروي عن عطاءٍ وسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عبَّاسٍ، وسعيدُ بنُ عبدِ الرحمنِ الرقاشيُّ، وأخوهُ واصلٌ أبو حُرَّةَ، لم يثبتْ سماعُ واحدٍ منهما من أنسٍ انتهى كلامُ الحاكمِ وفيهِ نظرٌ منْ وجوهٍ

(2/168)


الأولُ قولُهُ في بكيرِ بنِ الأشجِّ إنما رواياتُهُ عنِ التابعينَ، قلتُ قَدْ روى عنِ السائبِ بنِ يزيدَ، وأبي أُمامةَ أسعدَ بنِ سهلِ بنِ حُنَيْفٍ، ومحمودِ بنِ لبيدٍ، كما ذكرهُ المزيُّ وغيرهُ، وهم معدودونَ في الصحابةِ؛ ولكنْ ذكرهُ ابنُ حبانَ في أتباعِ التابعينَ
الثاني ثابتُ بنُ عَجْلاَنَ، روى عن أبي أمامةَ الباهليِّ، وأنسِ بنِ مالكٍ فيما ذكرهُ المِزِّيُّ وغيرُهُ؛ ولكنْ قالَ ابنُ حبَّانَ ما أرى سماعهُ من أنسٍ بصحيحٍ وذكرهُ في طبقةِ أتباعِ التابعينَ أيضاً
الثالثُ قولهُ سعيدُ بنُ عبدِ الرحمنِ الرَّقَاشيُّ وأخوهُ واصلٌ أبو حُرَّةَ، وَهِمَ الحاكمُ في نسبةِ سعيدٍ أنَّهُ الرقاشيُّ، وأنَّهُ أخو أبي حُرَّةَ الرقاشيِّ، وليسَ واحدٌ منهما رقاشياً، وأبو حُرَّةَ الرقاشيُّ اسمهُ حنيفةُ وأما واصلٌ فليسَ بأبي حُرَّةَ الرقاشيِّ، وقدْ وَهِمَ فيهِ أيضاً عبدُ الغنيِّ المقدسيُّ في الكمالِ فنسبَ واصلاً أبا حُرَّةَ
الرقاشيَّ، وغلَّطَهُ المزيُّ وقدْ ذكرَ ابنُ حبانَ في أتباعِ التابعينَ سعيدَ بنَ

(2/169)


عبدِ الرحمنِ البصريَّ، وأخاهُ واصلاً أبا حُرَّةَ البصريَّ، وقالَ أمهُما بَرَّةُ مولاةٌ لبني سُلَيمٍ

... وَقَدْ يُعَدُّ تَابِعِيَّاً صَاحِبُ ... كَابْنَي مُقَرِّنٍ ومَنْ يُقَارِبُ

قدْ يُعدُّ بعضُ الصحابةِ في طبقةِ التابعينَ، إمَّا لغلطٍ من بعضِ المصنفينَ، كما عدَّ الحاكمُ في الأخوةِ من التابعينَ النُّعْمَانَ وسُوَيْداً ابنَيْ مُقَرِّنٍ المزنيِّ، وهما صحابيانِ معروفانِ من جملةِ المهاجرينَ، كما سيأتي في نوعِ الأخوةِ والأخواتِ. وإما لكونِ ذلكَ الصحابيِّ من صغارِ الصحابةِ، يقاربُ التابعينَ في كونِ روايتِهِ أو غَالِبِهَا عنِ الصحابةِ، كما عدَّ مسلمٌ في " الطبقاتِ " يوسفَ بنَ عبدِ اللهِ بنِ سَلاَمٍ، ومحمودَ بنَ لبيدٍ في التابعينَ، وإلى هذا الإشارة بقولي: وَمَنْ يقاربُ، أيْ: ومنْ يقاربُ التابعينَ في طبقتهم، واللهُ أعلمُ.
وقدْ يُعدُّ بعضُ التابعينَ في الصحابةِ وكثيراً ما يقعُ ذلكَ فيمنْ يرسلُ منَ التابعينَ، كما عدَّ محمدُ بنُ الربيعِ الجيزيُّ عبدَ الرحمنِ بنَ غَنْمٍ الأشعريَّ فيمَنْ دخلَ مصرَ من الصحابةِ، وهوَ وَهَمٌ منهُ على أنَّ الإمامَ أحمدَ قدْ أخرجَ حديثهُ في المسندِ، وذكرَ ابنُ

(2/170)


يونسَ أيضاً: أنَّ لهُ صحبةً. وكذا حكى ابنُ منده عنْ يحيى بنِ بُكَيْرٍ، والليثِ، وابنِ لَهِيْعَةَ.
رِوَايةُ الأَكَابِرِ عَنِ الأَصاغِرِ

831.... وَقَدْ رَوَى الكَبِيرُ عَنْ ذِي الصُّغْرِ ... طَبَقَةً وَسِنّاً اوْ في القَدْرِ
... أَوْ فيهِمَا وَمِنْهُ أَخْذُ الصَّحْبِ ... عنْ تابعٍ كَعِدَّةٍ عَنْ كَعْبِ

الأصلُ في هذا البابِ روايةُ النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن تميمٍ الداريِّ حديث الجَسَّاسَةِ، وهوَ عندَ مسلمٍ. ثمَّ إنَّ روايةَ الأكابرِ عنِ الأصاغرِ على أضربٍ منها:
أنْ يكونَ الراوي أقدمَ طبقةً وأكبرَ سنّاً منَ المرويِّ عنهُ، كروايةِ الزُّهْرِيِّ، ويحيى بنِ سعيدٍ الأنصاريِّ، عنْ مالكِ بنِ أنسٍ.

(2/171)


ومنها: أنْ يكونَ الراوي أكبرَ قدراً منَ المرويِّ عنهُ لعلمهِ وحفظهِ، كروايةِ مالكٍ، وابنِ أبي ذِئْبٍ عن عبدِ اللهِ بنِ دينارٍ، وأشباهِهِ، وروايةِ أحمدَ، وإسحاقَ عن عُبيدِ اللهِ بنِ موسى العبسيِّ.
ومنها: أنْ يكونَ الراوي أكبرَ منَ الوجهينِ معاً، كروايةِ عبدِ الغنيِّ بنِ سعيدٍ، عن محمدِ بنِ عليٍّ الصُّوَرِيِّ، وكروايةِ أبي بكرٍ الخطيبِ، عنْ أبي نصرِ ابنِ ماكولا، ونحوِ ذلكَ.
وقولي: (ومنهُ أخذُ الصَّحْبِ) أيْ: ومنْ هذا النوعِ، وهوَ روايةُ الأكابرِ عنِ الأصاغرِ، روايةُ الصحابةِ عنِ التابعينَ، كروايةِ العبادلةِ الأربعةِ، وأبي هريرةَ، ومعاويةَ بنَ أبي سفيانَ وأنسِ بنِ مالكٍ، عنْ كعبِ الأحبارِ، وكروايةِ التابعينَ عن أتباعِ التابعينَ، كما تقدَّمَ من روايةِ الزهريِّ، ويحيى بنِ سعيدٍ عنْ مالكٍ، ومثَّلَ ابنُ الصلاحِ أيضاً بعَمْرِو ابنِ شُعَيْبٍ، فقالَ: ((لمْ يكنْ منَ التابعينَ، وروى عنهُ أكثرُ من عشرينَ نفساً منَ التابعينَ)) . هكذا قالَ: إنَّهُ ليسَ منَ التابعينَ، وتبعَ في ذلكَ أبا بكرٍ النقاشَ، فإنَّهُ
قالَ: لَمْ يكنْ منَ التابعينَ، وقدْ روى عنهُ عشرونَ رجلاً منَ التابعينَ، وحكاهُ عبدُ الغنيِّ ابنُ سعيدٍ، وأقرَّهُ على كونهِ ليسَ منَ التابعينَ، ثمَّ قالَ: جمعتُهم ووجدتُ زيادةً على العشرينَ، ثمَّ عدَّهم فبلغَ بهم تسعةً وثلاثينَ رجلاً.
قلتُ: وعمرُو بنُ شعيبٍ - وإنْ عدَّهُ غيرُ واحدٍ في أتباعِ التابعينَ - فهوَ منَ التابعينَ، فقدْ سَمِعَ مِنْ زينبَ بنتِ أبي سلمةَ، والرُّبَيِّعِ بنتِ مُعَوِّذِ بنِ عَفْراءَ ولهما صحبةٌ، وقدْ حكى المِزِّيُّ كلامَ عبدِ الغنيِّ، فجعلهُ عنِ الدارقطنيِّ، قالَ: وكانَ الدارقطنيُّ قدْ

(2/172)


وافقَهُ على أنَّهُ ليسَ منَ التابعينَ، وليسَ كذلكَ. انتهى. وقولُ ابنِ الصلاحِ: ((روى عنهُ أكثرُ من عشرينَ منَ التابعينَ جمعَهم عبدُ الغنيِّ)) ، ليسَ بجيدٍ، فإنَّهُ قدْ بلغَ بهمْ تسعةً وثلاثينَ رجلاً، كما تقدَّمَ. قلتُ: وقدْ جمعتُهم في جزءٍ فبلغتُ بهمْ فوقَ الخمسينَ، قالَ ابنُ الصلاحِ: وقرأتُ بخطِّ الحافظِ أبي محمدٍ الطَّبَسيِّ: أنَّه روى عنهُ نيفٌ وسبعونَ رجلاً منَ التابعينَ، واللهُ أعلمُ. ومنْ فائدةِ معرفةِ روايةِ الأكابرِ عنِ الأصاغرِ تَنْزَيلُ أهلِ العلمِ منازلهم، وقدْ روى أبو داودَ من حديثِ عائشةَ قالتْ: قالَ رسولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
((أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ)) .