شرح علل الترمذي الفصل الثاني في
التعريف بأصل كتاب شرح علل الترمذي ومنهج ابن رجب فيه وأشهر
مصادره في العلل
وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: في التعريف بأصل الكتاب وصاحبه.
المبحث الثاني: نظرة في مناهج كتب العلل المتقدمة.
المبحث الثالث: منهج ابن رجب في شرح علل الترمذي.
المبحث الرابع: دراسة لأشهر مصادر ابن رجب في العلل.
(1/39)
المبحث الأول
التعريف بأصل الكتاب وصاحبه
تمهيد
لما كان منطلق هذه الدراسة كتاب "شرح علل الترمذي" فإنه منطق
البحث يلزمنا أن نعرف بأصل الكتاب وصاحبه. وسيكون هذا - إن شاء
الله - على وجه الإجمال والاختصار، وذلك لأن الأصل الذي هو
"العلل الصغير" مبثوث في شرح ابن رجب، وقد تكلم عليه فأجاد
وأفاد. وأما صاحبه فهو الإمام الترمذي وهو غني عن التعريف
والبيان.
وقد جعلت هذا المبحث في مطلبين اثنين:
المطلب الأول التعريف بكتاب العلل
الصغير
صنف الإمام الترمذي كتابه المسمى بـ "الجامع" على الأبواب
المعللة، ثم ختم كتابه بكتاب صغير في العلل، بين فيه مقاصده،
ومصادره ورجاله ومصطلحاته.
ومع أن هذا الكتاب مسبوق بجهود متفرقة في علم الدراية، كما هو
مسبوق بمقدمة صحيح مسلم، التي حددت مقاصد مسلم ورجاله، وبعض
آرائه، رغم كل هذا فإن كتاب العلل الصغير للترمذي جاء أتم
وأكمل، وجاز لنا أن نعتبره أول مصنف في علوم الحديث، وموضوعاته
أشمل وأدق من موضوعات "المحدث الفاصل" للرامهرمزي الذي قيل
فيه: أنه أول مصنف في علوم الحديث.
(1/41)
ولما كنت سأكل الكلام عن هذا الكتاب لشارحه
فسأقتصر هنا على ذكر مقاصد الكتاب. وهي كما يلي:
1 - بين الترمذي أن الأحاديث المذكورة في كتابه معمول بها كلها
ما عدا اثنين ذكرهما.
2 - حدد الترمذي أسانيده إلى الفقهاء الذين ذكر مذاهبهم في
كتابه.
3 - بين الترمذي فيه مقصده العام من كتابه "الجامع"، وأنه كتاب
معلل.
4 - ساق فيه الترمذي أدلة كثيرة على جواز الكلام في الرجال
والعلل، بل على وجوبه.
5 - قسم الرواة فيه إلى أربعة أقسام:
(أ) قوم من الثقات الحفاظ الذين يندر الخطأ في حديثهم.
(ب) قوم من الثقات الذين يكثر الغلط والخطأ في حديثهم.
(ج) قوم من جلة أهل العلم غلب عليهم الخطأ والوهم فلا يحتج
بحديثهم إذا انفردوا.
(د) قوم من المهتمين وأصحاب الغفلة، وهؤلاء لا يحتج بهم.
وفي الكلام عن الرواة ركز الترمذي على تفاوت الحفاظ في الضبط،
وأثر ذلك على رواياتهم. وهذا لب علم العلل كما سنرى فيما بعد -
إن شاء الله -.
6 - تكلم الترمذي على الرواية بالمعنى واللفظ، ووضع شروطا
لجواز الرواية بالمعنى.
7 - فصل الكلام في أنواع التحمل.
8 - تكلم عن الاختلاف في توثيق الرواة وتضعيفهم. وفي هذه إشارة
منه إلى أن صاحب الكتاب قد يأخذ عن رجل ضعيف عند غيره، ولكنه
ثقة عنده.
(1/42)
9 - تكلم الترمذي عن المرسل وحكمه واختلاف
العلماء في قبول المراسيل.
10 - تكلم عن اصطلاح "الحسن" في كتابه وحدد مفهومه له، وكذلك
ما اشتق منه.
11 - تكلم عن الغريب وأنواعه، وتكلم عن زيادة الثقة في المتن
والإسناد.
هذه هي مقاصد الترمذي في كتابه العلل. وعند كل مقصد من هذه
المقاصد يذكر الترمذي جملة من الأخبار المسندة.
وهذه المقاصد تخدم حديث الثقات وتلقي ضوءا باهرا على كتاب
الترمذي المعلل، فكانت بهذا داخلة في علم العلل، وهي بلا شك
البواكير النظرية لهذا العلم.
المطلب الثاني التعريف بالإمام
الترمذي (209 - 279هـ)
هو الإمام محمد بن عيسى بن سورة بن موسى بن الضحاك، أبو عيسى
السلمي نسبة إلى بني سليم، الضرير، الترمذي، البوغي، نسبة إلى
بوغ، قرية من قرى ترمذ.
ولد هذا الإمام سنة تسع ومائتين على أرجح الأقوال وكان ذلك
بترمذ، وتلقى العلم في صباه على شيوخ بلدته والقادمين إليها
وإلى ما جاورها. وكان من أوائل شيوخه إسحاق بن راهويه. ثم رحل
إلى الآفاق يتلمس العلم رواية ودراية، فتتلمذ على مشاهير عصره،
كالإمام محمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم بن الحجاج، وأبي داود
السجستاني، وكان البخاري أكثر الشيوخ تأثيرا فيه، وعنه أخذ
الترمذي علم العلل.
(1/43)
أما تلاميذه: فقد روى عنه واستفاد منه كثير
من علماء عصره منهم مكحول بن الفضل، والهيثم بن كليب الشاشي،
وأبو العباس المحبوبي، والحسين بن يوسف الفربري وقد تلقى عنه
هؤلاء كتابه "الجامع" وكتاب "الشمائل" وكتاب "العلل الكبير"
وقد ذكر في العلل الصغير أن له كتابا آخر جعله للآثار
الموقوفة.
وقد امتاز الإمام الترمذي بحافظة قوية حتى كان يضرب المثل
بحفظه وضبطه. وكان مع هذا على جانب من الورع والاحتياط في
الدين والزهد في الدنيا، وأما علمه بالحديث رواية ودراية
فكتابه الجامع شاهد على طول باعه، وحسن تصنيفه، وبراعته في
العلل والرجال.
وثناء العلماء عليه كثير، حتى قال عنه الذهبي في ميزان
الاعتدال: "الحافظ العلم، أبو عيسى الترمذي صاحب الجامع ثقة
مجمع عليه. ولا التفات إلى قول أبي محمد بن حزم في الفرائض انه
مجهول فإنه ما عرف ولا درى بوجود الجامع ولا العلل التي له".
وقد توفي - رحمه الله - بعد ما كف بصره، وكانت وفاته في رجب
سنة تسع وسبعين ومائتين. ***
المبحث الثاني نظرة في مناهج كتب
العلل المتقدمة
تعرضنا في الفصل الأول من هذا الباب لمفهوم العلة والجهود التي
بذلها علماء العلل، وذكرنا أكثر الكتب التي صنفت في هذا
المضمار، كل ذلك على طريقة المسح الزمني. أما من حيث المناهج
التي سارت عليها هذه المصنفات فقد تنوعت إلى مناهج عدة:
أولاً: فمنها ما كان على طريقة المسائل المتفرقة، والمعارف غير
المبوبة، وذلك بأن يجيب إمام من أئمة هذه الصنعة على أسئلة
تلاميذه، ثم ينشط واحد من هؤلاء التلاميذ فيجمع هذه المسائل
المنثورة المتفرقة في كتاب. وذلك كما فعل عباس الدوري في أجوبه
يحيى بن معين وأقواله حيث جمعها في كتاب "التاريخ والعلل"
وكذلك فعل عثمان الدارمي، وابن الجنيد، وابن محرز، فكل واحد من
هؤلاء أسهم بجمع هذه المسائل المتفرقة.
وكما نقلت مسائل يحيى بن معين فقد نقلت مسائل أحمد وأقواله في
العلل، إذ قام عدد من تلاميذه يجمعون هذا النوع من المعارف
الحديثية، منهم عبد الله بن أحمد الذي جمع مسائل والده في
"العلل ومعرفة الرجال" وكذلك فعل صالح بن الإمام أحمد،
والميموني، وابن هانئ، والأثرم، كل واحد من هؤلاء له كتاب جمع
فيه مسائل في العلل عن الإمام أحمد.
ثانيا: ومنها ما كان على طريقة المسانيد المعللة، وذلك بان
يصنف إمام معتبر علل الحديث على مسانيد الصحابة، فيذكر حديث
الصحابي الواحد، ثم
(1/44)
يذكر علة كل حديث بعد الفراغ منه، وذلك كما
فعل يعقوب بن شيبة في "المسند المعلل" وأبو بكر البذار في
"المسند الكبير المعلل" والدارقطني في "العلل الواردة في
الأحاديث النبوية".
ثالثا: ومنها ما كان على "طريقة الأبواب المعللة" وذلك بأن
يصنف الحديث على الأبواب الفقهية، ثم تذكر علل كل باب بعد
الفراغ منه أو علة كل حديث بعده، وذلك كما فعل أبو عيسى
الترمذي في كتابه "الجامع" المشهور "بسنن الترمذي" وكما فعل
عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتابه "علل الحديث".
رابعا: ومنها ما كان على طريقة جمع الحديث المعلل لشيخ واحد،
وذلك كما فعل علي بن المديني عندما صنف في علل الحديث ابن
عيينة. وهذه الطريقة مفيدة في معرفة نسبة العلل في حديث هذا
الشيخ.
خامسا: ومنها ما كان على طريقة التراجم المعللة، وقد تكون هذه
التراجم إما على الطبقات أو على الترتيب الهجائي، وفيها يعمد
المصنف إلى الرواة فيذكرهم ويذكر بعض العلل التي عرف بها
المترجم. وذلك ككتاب العقيلي "الضعفاء" الذي احتوى على تراجم
مرتبة ترتيبا هجائيا، و"الكامل في ضعفاء المحدثين وعلل الحديث"
لابن عدي، كذلك.
سادسا: أما كتب مصطلح الحديث "كمعرفة علوم الحديث" للحاكم،
و"مقدمة ابن الصلاح" ومن تابعهما من المصنفين في المصطلح فقد
جعلوا الحديث المعلل نوعا من الأنواع التي تعرضوا لها، وذكروا
شيئا من تعريف العلة وأنواعها، ولكنه على غاية من الاختصار،
وهذا يناسب موضوع كتب المصطلح والهدف منها، وهو التعريف بعلوم
الحديث عامة.
وهذه هي الرمز المنهجية لكتب العلل، وأما كتاب ابن رجب ففي
المطلب الثاني تفصيل لمنهجه وبيان لمزاياه، ان شاء الله تعالى
(1/46)
المبحث الثالث منهج
ابن رجب في شرح علل الترمذي
تمهيد:
يتألف شرح علل الترمذي من قسمين رئيسين أطلقنا على كل قسم
اصطلاح "باب". ولاحظنا أن لكل قسم من هذين القسمين سمات منهجية
خاصة، كما أن للكتاب كله سمات منهجية عامة. وبهذا يكون مبحث
المنهج في ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: منهج ابن رجب في الباب الأول "شرح علل الترمذي".
المطلب الثاني: منهج ابن رجب في الباب الثاني "القواعد
والفوائد".
المطلب الثالث: ملاحظات عامة على منهج ابن رجب في الكتاب. ***
المطلب الأول "شرح علل الترمذي"
منهج ابن رجب في الباب الأول:
تناول ابن رجب كلام الترمذي في "العلل الصغير" بالشرح
والتوضيح، والاستدراك والنقد، والتكميل والتمثيل. وقد استقرأت
منهج ابن رجب في هذا القسم فوجدت ما يلي:
(1/47)
أولا - من حيث طريقة ابن رجب في عرض كلام
الترمذي:
امتاز عصر ابن رجب والعصور التي تلته بالاتجاه إلى شرح الكتب
السابقة أو اختصارها، وذلك في ميادين العلوم المختلفة وخاصة
علوم العقيدة، والتفسير، والحديث، والفقه، والأصول.
وكان لهذه الشروح طريقتها التقليدية التي تتلخص ببث كلام الأصل
بين عبارات الشرح، ثم يكون الشرح حلا لألفاظ الأصل وتراكيبه.
وأحيانا كثيرة تختلط عبارة الأصل بعبارة الشرح فيقع القارئ في
اللبس علاوة على ما في هذا المنهج من الاضطراب في الأسلوب،
وعدم الانسجام.
والجدير بالذكر أن هذا الانسجام المفقود هو من السمات البارزة
في هذه الشروح حتى ولو كان صاحب الأصل هو صاحب الشرح، فالعراقي
الذي يعتبر من مشاهير عصر ابن رجب صنف ألفيته المنظومة في
المصطلح، ثم فك كلماتها وعباراتها في شرح سماه "فتح المغيث"،
وبالرغم من أن المؤصل هو نفس الشارح، إلا أن تنافر الأسلوب
ملحوظ.
أما ابن رجب فقد شرح علل الترمذي بطريقة أخرى فانتهج ذكر كلام
الترمذي أولا في الموضوع الواحد، ثم يعقب على كلام الترمذي
بالشرح والإيضاح التمثيل، دون أن يلجأ إلى حل الألفاظ
والتراكيب، وإنما يكتفي بالإشارة إلى أصل الموضوع ومعناه عند
الترمذي، فيكون ابن رجب قد استقل استقلالا تاما في عبارته
وأسلوبه، فكانت ثمرة هذا المنهج سهولة العبارة وانسجام
التراكيب ووحدة الأسلوب. وفي ظل هذا المنهج يصبح كلام الترمذي
كأنه ترجمة للباب. أو رأس موضوع له. أو مدخل مناسب.
ثانيا - من حيث وقوف ابن رجب عند كلام الترمذي:
وابن رجب خير من يشرح كلام الترمذي، ويفصله، ويرفع عنه
الإبهام، إلا انه لا يقف عند هذا الحد، بل يتجاوزه إلى طرق
الموضوع من جميع جوانبه، ويضيف إلى قول الترمذي أقوال خلفه من
العلماء.
(1/48)
وسبب هذا التوسع، عند ابن رجب، إنما يرجع
إلى أن كتاب "العلل الصغير" يعتبر من أوائل كتب المصطلح في ذلك
الوقت المبكر، الذي لم يكن فيه التصنيف في هذا الفن قد بلغ
رشده بعد، ثم توالت التصانيف بعد الترمذي وجمعت أقوال العلماء
في هذا العلم، فكان على ابن رجب أن يضم اللاحق إلى السابق.
وكذلك فإن مكانة الترمذي وإمامته لم تمنع ابن رجب من أن يستدرك
عليه، وهي استدراكات قيمة تظهر علم ابن رجب وفضله، وسنرى في
الكلام عن "شرح الترمذي" استدراكات ابن رجب الهامة كأن يقول:
وفي الباب مما لم يخرجه الترمذي، أما في شرح العلل فإنه يكثر
من الاستدراكات، كما في المثال الآتي:
قال الترمذي:
"جميع ما في هذا الكتاب معمول به، وقد أخذ به بعض العلماء، ما
خلا حديثين: حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى
الله عليه وسلم - جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، في
المدينة، من غير خوف ولا سفر".
وحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا شرب الخمر فاجلدوه،
فإن عاد في الرابعة فاقتلوه".
وقال ابن رجب:
"وكان مراد الترمذي - رحمه الله - أحاديث الأحكام. وقد روى في
كتاب الحج حديث جابر في "التلبية عن النساء"، ثم ذكر أن
الإجماع أن لا يلبى عن النساء، فهذا ينبغي أن يكون حديثا ثالثا
مما لم يؤخذ به عند الترمذي".
(وقد وردت أحاديث أخر، ذكر بعضهم أنه لم يعمل بها أيضا، فمنها
ما أخرجه الترمذي، وأكثرها لم يخرجه. فمنها حديث: "من غسل ميتا
(1/49)
فيغتسل، ومن حمله فليتوضأ" وقد قال
الخطابي: لا أعلم أحدا من العلماء قال بوجوب ذلك ولكن القائل
باستحبابه يحمله على الندب، وذلك عمل به.
ومنها، حديث: "أنه - صلى الله عليه وسلم - توضأ ثلاثا، ويقال:
ومن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم". ومنها حديث: "التيمم
إلى المناكب والآباط"، ومنها حديث: "التيمم إلى نصف الذراعين"،
ومنها حديث: "الأكل في الصيام بعد الفجر" ومنها حديث أنس "في
أكل البرد للصائم") .
وهكذا فإن ابن رجب يستمر في استدراكه على الترمذي فيذكر أحاديث
صحت أسانيدها، ولكن العمل على خلافها.
ثالثا - الاعتراض على كلام الترمذي أحيانا:
وكما أن ابن رجب يشرح عبارة الترمذي، ويضيف إليها ويستدرك
عليها فإنه كذلك ينقد ويعترض حيث يجد مبررا لذلك.
وفيما يلي مثال لهذه الاعتراضات:
"قال الترمذي: وما ذكرنا في هذا الكتاب من اختيار الفقهاء، فما
كان من قول سفيان الثوري فأكثره ما حدثنا محمد بن عثمان
الكوفي، (ثنا) عبيد الله بن موسى، عن سفيان الثوري. ومنه ما
حدثنا مكتوم أبو الفضل بن العباس الترمذي، (ثنا) محمد بن يوسف
الفريابي، عن سفيان.
وما كان فيه من قول مالك بن أنس فأكثره ما حدثني به إسحاق بن
موسى الأنصاري، (ثنا) معن بن عيسى القزاز، عن مالك ... ".
وهكذا فإن الترمذي يذكر أسانيد أقوال الفقهاء، ولكن ابن رجب لم
يكتف بأسانيد الترمذي المجملة سيرا على قواعد المحدثين في قبول
الإسناد ولذلك فإنه سجل اعتراضه على هذا المنهج، فقال:
(1/50)
"أعلم أن أبا عيسى - رحمه الله - ذكر في
هذا الكتاب مذاهب كثير من فقهاء أهل الحديث المشهورين كسفيان،
وابن المبارك، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وذكر فيه كثيرا
من العلل والتواريخ والتراجم، ولم يذكر أسانيد أكثر من ذلك،
فذكر ههنا أسانيد مجملة، وإن كان لم يحصل بها الوقوف على حقيقة
أسانيده، حيث ذكر أن بعضه عن فلان، وبعضه عن فلان، ولم يبين
ذلك البعض".
رابعا - الكلام على منهج الترمذي في الجامع:
تكلم الترمذي في العلل الصغير عن منهجه في الجامع، وجاء ابن
رجب ففضل الكلام عن هذا المنهج. وأصبح من الضروري للباحث في
سنن الترمذي أن يطلع على شرح علل الترمذي، بل إن هذا الكتاب
احتوى على مقارنة ضافية بين مناهج عدد من كتب السنة كالسنن
الثلاثة، ومسند أحمد وصحيحي البخاري ومسلم. وأستطيع أن أقول:
إن كتاب شرح علل الترمذي لكتاب الترمذي - يشابه "هدى الساري"
الذي قدم به ابن حجر لفتح الباري، وتكلم فيه عن منهج البخاري
في صحيحه، وهذان الكتابان: شرح العلل، وهدى الساري يستحقان
اهتمام الباحثين في السنة، وفيها المقدمة الضرورية التي على
ضوئها تكون الفائدة المرجوة من كتب السنة كبيرة.
ولما كان موضوعنا هذا يتناول كلام ابن رجب عن منهج الترمذي في
الجامع فسنذكر بعض الأمثلة من شرح العلل على هذا، ولعل من أهم
هذه الأمثلة ما يكون منصبا على مقارنة منهج الترمذي بغيره،
ولنستمع لابن رجب يحدثنا عن مثل هذا:
قال ابن رجب - رحمه الله -: "والذين صنفوا منهم من أفراد
الصحيح كالبخاري ومسلم، ومن بعدهما كابن خزيمة وابن حبان، ولكن
كتابهما لا يبلغ مبلغ كتاب الشيخين. ومنهم من لم يشترط الصحة
وجمع الصحيح وما قاربه، وما فيه بعض العلل والضعف، وأكثرهم لم
يكتبوا ذلك ولم يتكلموا على الصحيح
(1/51)
والضعيف. وأول من علمناه بين ذلك أبو عيسى
الترمذي، وقد بين في كلامه هذا أنه لم يسبق إليه، وقد صنف ابن
المديني ويعقوب بن شيبة مسانيد معللة.
وأما الأبواب المعللة فلا نعلم أحدا سبق الترمذي إليها، وزاد
الترمذي ذكر كلام الفقهاء. وهذا كان قد سبق إليه مالك في
الموطأ، وسفيان في الجامع".
وفي مكان آخر يقول ابن رجب: وقد اعترض على الترمذي - رحمه الله
- بأنه في غالب الأبواب يبدأ في الأحاديث الغريبة الإسناد،
وليس ذلك بعيب فإنه - رحمه الله - يبين ما فيها من العلل ثم
يبين الصحيح من الإسناد. وكان مقصده - رحمه الله - ذكر العلل،
ولهذا نجد النسائي إذا استوعب طرق الحديث بدأ بما هو غلط ثم
يذكر بعد ذلك الصواب المخالف له.
وأما أبو داود - رحمه الله - فكان عنايته بالمتون، ولهذا يذكر
الطرق واختلاف ألفاظها، والزيادات المذكورة في بعضها دون بعض.
فكانت عنايته في الحديث أكثر من عنايته في الإسناد.
المطلب الثاني القواعد والفوائد
منهج ابن رجب في الباب الثاني من الكتاب:
يتألف الباب الثاني من الكتاب من مجموعة قواعد وفوائد في علم
العلل، وما يتصل به من أحوال الرواة. وكان غرض ابن رجب في هذا
النصف الأخير من الكتاب تقريب علم العلل على من ينظر فيه، وقد
بدأه بمقدمة، قال فيها:
"ولما انتهى الكلام على ما ذكره أبو عيسى الترمذي - رحمه الله
- في كتاب الجامع، وآخره كتاب العلل، أحببت أن أتبع كتاب العلل
بفوائد آخر مهمة
(1/52)
وقواعد كلية، تكون للكتاب تتمة، وأردت بذلك
تقريب علم العلل على من ينظر فيه، فإنه علم قد هجر في هذا
الزمان".
وفي هذا القسم يجد الباحث نفسه أمام منهج فريد في التصنيف لم
يشارك فيه ابن رجب أحد من السابقين، كما سيجد الباحث في هذه
القواعد متعة ما بعدها متعة، وتضعه أمام منهج تطبيقي حي.
وفيما يلي عرض للسمات الأساسية لمنهج ابن رجب في هذا الجزء من
الكتاب:
أولا - حسن التقسيم ودقته:
وهي سمة أساسية في هذا الجزء من الكتاب تحدد معالم مادته،
وتيسر فهمه وإدراكه، ورغم ما في علم العلل من الصعوبة والاتساع
إلا أن حسن التقسيم ودقته تجاوزت الصعوبة المعهودة إلى سهولة
غير معهودة في كتب العلل السابقة على ابن رجب.
وقد بدأ ابن رجب هذا التقسيم ببيان مكان علم العلل من علوم
الحديث، أو على الأخص، من علوم التصحيح والتضعيف، فقال:
"أعلم أن معرفة صحة الحديث وسقمه تحصل من وجهين:
أحدهما: معرفة رجالهم وثقتهم وضعفهم، ومعرفة هذا هين، لأن
الثقات الضعفاء قد دونوا في كثير من التصانيف، وقد اشتهرت بشرح
أحوالهم التواليف.
والوجه الثاني: معرفة مراتب الثقات وترجيح بعضهم على بعض عند
الاختلاف إما في الإسناد، وإما في الوصل والإرسال، وإما في
الوقف والرفع، ونحو ذلك، وهذا هو الذي يحصل من معرفته وإتقانه
وكثرة ممارسته الوقوف على علل الحديث".
(1/53)
وبعد أن حدد ابن رجب - رحمه الله - مكان
علم العلل من علم التصحيح والتضعيف دخل إلى علم العلل فقسمه
إلى قسمين رئيسيين:
"القسم الأول: في معرفة مراتب كثير من أعيان الثقات وتفاوتهم،
وحكم اختلافهم وقول من يرجع منهم عند الاختلاف.
والقسم الثاني: في معرفة قوم من الثقات لا يوجد ذكر كثير منهم
أو أكثرهم في كتب الجرح، قد ضعف حديثهم، إما في بعض الأماكن أو
في بعض الأزمان، أو بعض الشيوخ".
ثانيا - التقعيد:
عرف التصنيف على طريقة القواعد الكلية في علوم العقيدة،
والتفسير، والفقه، والأصول، منذ زمن بعيد قبل ابن رجب، الذي لم
يكن كتابه القواعد بدعا في هذا اللون من التصنيف رغم ما وصفه
به صاحب كشف الظنون فقال"وهو كتاب نافع من عجائب الدهر، حتى
أنه استكثر عليه، وزعم بعضهم أنه وجد قواعد مبددة لشيخ الإسلام
ابن تيمية، فجمعها، وليس الأمر كذلك، بل كان - رحمه الله - فوق
ذلك، كذا قيل".
وأما قواعد ابن رجب في العلل، والتي نحن بصدد التعليق عليها،
فهي ولا شك بدع في موضوعها، وأسلوب جديد في عرض علوم الحديث.
وهو وإن لم يأتي بجديد في هذه القواعد إلا أنه جمع قواعد
مبددة، ولم شعث فروع متشابهه فكان بهذا أول من علمناه صنف
كتابا أفرد فيه قواعد العلل في الحديث. ويكون بهذا قد لفت نظر
الباحثين إلى اتجاه جديد في دراسة علوم الحديث ينصب على
التقعيد، وممن سار على مثل هذا النهج العلامة ظفر أحمد
العثماني التهانوي في كتابه "قواعد في علوم الحديث" وعبد الحي
اللكنوي في كتابه
(1/54)
"الرفع والتكميل".
وفيما يلي أمثلة من القواعد التي أودعها ابن رجب كتابه هذا:
"قاعدة: الصالحون غير العلماء يغلب على حديثهم الوهم والغلط.
قاعدة: الفقهاء المعتنون بالرأي حتى يغلب عليهم الاشتغال به لا
يكادون يحفظون الحديث.
قاعدة: إذا روى الحفاظ الأثبات حديثا بإسناد واحد، وانفراد
واحد منهم بإسناد آخر، فإن كان المنفرد منهم ثقة حافظاً فحكمه
قريب من حكم زيادة الثقة في الأسانيد والمتون".
قاعدة: قتادة، عن الحسن، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه
السلسلة لم يثبت منها حديث أصلا من رواية الثقات".
قاعدة: "يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي
هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصح منها شيء
مسندا".
قاعدة: "كل شيء روى عبيدة السلماني، سوى رأيه فهو عن علي".
قاعدة: حذاق النقاد من الحفاظ لكثرة ممارستهم للحديث ومعرفتهم
بالرجال وأحاديث كل منهم لهم فهم خاص يفهمون به أن هذا الحديث
يشبه حديث فلان، ولا يشبه حديث فلان".
(1/55)
المطلب الثالث
ملاحظات عامة على منهج ابن رجب في الكتاب
سبق أن عرضنا بعض ملاحظاتنا الخاصة بكل قسم من أقسام الكتاب،
وفيما يلي عرض للملاحظات العامة على منهج ابن رجب في كتاب شرح
علل الترمذي كله:
أولا: منهج ابن رجب في شرح علل الترمذي منهج نظري تطبيقي،
ونقصد بالنظري أنه يذكر جوانب الموضوع الواحد المتكامل في بناء
نظري ضمن تقسيمات علمية دقيقة، ثم لا يترك هذا البناء بعيدا عن
التطبيق العملي بل يزوده بالأمثلة المتنوعة معتمدا في ذلك على
حشد هائل من مراجع السنة سواء الصحيح منها أو ما كتب في العلل،
ولا يترك ابن رجب - رحمه الله - قضية نظرية إلا ويؤيدها بشاهد
عملي، ففي موضوع مراتب الرواة جعلهم ابن رجب أربع مراتب:
1 - الثقات الحفاظ الذين يندر الغلط في حديثهم.
2 - الثقات الذين يكثر في حديثهم الوهم والغلط.
3 - الرواة الذين يغلب عليهم الوهم والغلط.
4 - المتهمون بالغفلة وكثرة الغلط أو الكذب.
ومع كل زمرة من هذه الزمر نماذج من الرواة وبيان شاف كاف
لأحوال ورواياتهم.
وهذا كله في القسم الأول، وكذلك الحال في القسم الثاني الذي هو
تعقيبات لابن رجب على الكتاب. ففي موضوع مراتب الثقات، ومعرفة
قول من منهم يقدم عند الاختلاف، يذكر مراتب هؤلاء، ثم يعرض
حشدا من الأسانيد التي وقع الخلاف بين العلماء في ترجيح بعضها
على بعض.
(1/56)
وكذلك إذا ذكر القاعدة النظرية فإنه يبتعها
بالعديد من الأمثلة التي تجلي هذه القاعدة وتوضحها.
وكل باحث في شرح الترمذي سيجد أن الفرق واسع بينه وبين كتب
المصطلح السابقة وذلك في حدود المواضيع التي تناولها، وسيلاحظ
أن الكتب السابقة تجنح إلى الجانب النظري أكثر من الجانب
العملي، وأما كتاب ابن رجب ففيه توازن بديع بين هذين الجانبين.
ثانيا: وبالرغم من ميل ابن رجب إلى الناحية التطبيقية إلا أنه
يورد الأحاديث والأسانيد على درجة بالغة في الاختصار والإيجاز،
فيوعر طريق الباحث ويجهده في الوصول إليها. وقل أن نجد حديثا
واضحا بإسناده ومتنه يمكنك من سرعة الوصول إليه، بل تجده يقول:
"ومنها حديث التيمم إلى نصف الذراعين"، أو يقول: ومنها حديث
أنس في أكل البرد للصائم، أو يقول: "حديث ابن عمر في الصلاة"
ولا يزيد على هذا. وقد بذلت جهدي لتخريج هذه الأحاديث
والأسانيد، فأكملت عمل ابن رجب في هذا الكتاب، ولله الحمد
والمنة.
ثالثا: وابن رجب يغترف مادته وأمثلته من مجموعة كبيرة من
المصادر الأصلية ولا يذكر شيئا من كتاب معاصريه أو سابقيه من
رجال قرنه. حتى ابن تيمية والذهبي والمزي وابن القيم، حتى
هؤلاء لا يوجد لهم ذكر في كتابه. وأكثر اعتماده على رجال
القرون الأربعة الأولى. وقد أخذ من كتب العلل السابقة بنصب
وافر، وأكثر اعتماده على مسائل الإمام أحمد.
وأما اعتماده على كتب التواريخ والرجال فكبير جدا. ومن مصادره
الأساسية تواريخ البخاري، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم،
والكامل لابن عدي، والضعفاء للعقيلي وأمثال هذه الكتب.
(1/57)
وقد لاحظت أثناء تخريج نقول ابن رجب من هذه
الكتب دقة الرجل في النقل وأمانته العلمية في نسبة كل قول إلى
قائله.
ولما كانت كتب العلل من أهم مصادر ابن رجب، ولأهميتها في هذه
الدراسة ولصلتها المباشرة بشرح علل الترمذي فقد أفردت الحديث
عنها مبحث مطول
(1/58)
المبحث الرابع دراسة
أشهر مصادر ابن رجب في العلل
تمهيد
تنوعت مصادر ابن رجب في شتى فنون الحديث حتى أصبح من المتعذر
دراسة هذه المصادر ومعرفة مأخذ ابن رجب من كل منها إلا في
رسالة مستقلة في مصادر الكتاب.
والجدير بالذكر أن المصادر التي استمد منها ابن رجب هي مصادر
أصلية ترجع في غالبها إلى ما قبل القرن الخامس.
ولما كانت هذه الدراسة مخصصة في معظمها للكشف عن العلل، فقد
رأيت أن أعقد هذا المبحث لدراسة أشهر كتب العلل التي اعتمد
عليها ابن رجب، ومن خلال هذه الدراسة تتبين لنا مناهج متنوعة
في العلل، كما سنتبين الفرق بين منهج ابن رجب ومنهج من سبقه من
المصنفين في العلل.
وقد جعلت هذا المبحث في ستة مطالب:
المطلب الأول: العلل، لعلي بن المديني.
المطلب الثاني: التاريخ والعلل، ليحيى بن معين.
المطلب الثالث: علل الإمام أحمد بن حنبل.
المطلب الرابع: علل الترمذي الكبير.
المطلب الخامس: علل الحديث، لعبد الرحمن بن أبي حاتم.
المطلب السادس: العلل الواردة في الأحاديث النبوية، للدارقطني.
(1/59)
المطلب الأول العلل،
لعلي بن المديني
لا نكاد نجد صفحة من صفحات "شرح علل الترمذي" إلا وفيها قول
لعلي بن المديني أو أكثر، وهذه الأقوال استمدها ابن رجب من كتب
العلل التي صنفها هذا الإمام الكبير. وقد ذكرت في الفصل الأول
من هذا الباب نبذة عن الرجل وما صنفه في العلل، وذكرت طائفة من
كتبه مثل:
- علل المسند في ثلاثين جزءا.
- العلل التي كتبها عنه إسماعيل القاضي، أربعة عشر جزءا.
- علل حديث ابن عيينة، ثلاثة عشر جزءا.
- الوهم والخطأ في خمسة أجزاء.
- اختلاف الحديث، خمسة أجزاء.
- العلل المتفرقة، ثلاثون جزءا.
ولم تذكر فهارس المخطوطات سوى كتاب بعنوان "علل الحديث ومعرفة
الرجال". ويبدو أن كتب ابن المديني الأخرى قد فقدت. أما هذا
الجزء المحفوظ فهو ورقات من كتاب في العلل، يغلب على ظني أنه
جزء من كتابه "العلل المتفرقة". وقد نشر هذا الجزء بتحقيق
الدكتور محمد مصطفى الأعظمي.
وهذا الكتاب يمثل صورة للزمرة المنهجية الأولى في العلل التي
ذكرناها في المبحث الثاني من هذا الفصل، فهو مسائل متفرقة
وأجوبة غير مرتبة تنتقل فجأة من موضوع إلى موضوع، ولكن الكتاب
بمجموعه يتناول العلل في أربعة أقسام.
القسم الأول:
تكلم فيه ابن المديني عن مقدمات عامة في العلل وعلم الرجال،
بين فيها
(1/60)
طبقات الرواة في مختلف الأمصار، مع ذكر أول
من صنف في الحديث. وفي هذه المقدمات ذكر للمكثرين من الرواة،
وإلقاء الضوء على من دار عليه الإسناد منهم من عهد الصحابة -
رضوان الله عليهم - إلى زمن ابن المديني. وفيما يلي نص من
كلامه:
"قال علي: لم يكن من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أحد
له أصحاب يفتون بقوله في الفقه إلا ثلاثة: عبد الله بن مسعود،
وزيد بن ثابت، وابن عباس، وكان لكل رجل منهم أصحاب يقولون
بقوله ويفتون الناس. وكان أصحاب عبد الله الذين يقرأون
بقراءته، ويفتون بقوله، ويذهبون مذهبه: علقمة بن قيس، والأسود
بن يزيد، ومسروق بن الأجدع، وعبيدة السلماني، وعمرو بن شرحبيل،
والحارث بن قيس، ستة هؤلاء عدهم إبراهيم النخعي، وكان أعلم أهل
الكوفة بأصحاب عبد الله وطريقتهم ومذاهبهم إبراهيم والشعبي،
إلا أن الشعبي كان يذهب مذهب مسروق، يأخذ من علي وأهل المدينة
وغيرهم، وكان إبراهيم يذهب مذهب أصحابه، أصحاب عبد الله هؤلاء.
وكان أبو إسحاق وسليمان الأعمش أعلم أهل الكوفة بمذهب عبد الله
وطريقته، والحكم بعد هذين، وكان سفيان بن سعيد أعلم الناس
بهذين وبحديثهم وطريقهم، ولا يقدم عليهم أحدا".
إنها كلمات معدودة يتابع من خلالها ابن المديني الحركة العلمية
- الحديث منها خاصة - خلال مئة وخمسين عاما، في الكوفة، بدأها
بابن مسعود - رضي الله عنهـ - وانتهى بسفيان الثوري.
وانتهج هذا الأسلوب في مدرسة المدينة بدءا بزيد بن ثابت، وفي
مدرسة مكة بدءا بابن عباس وانتهاء بابن جريح، كما تعرض للرواة
في الشام والبصرة وواسط.
وبهذا الأسلوب القائم على استقصاء طبقات الرواة يكون علي بن
المديني
(1/61)
قد أرسى أحد الأسس لعلم العلل خاصة وعلم
الرجال عامة، ومن خلال كلمات علي بن المديني يصل القارئ إلى
التصور الصادق لطرق الرواية وبيان خطوطها عبر الأجيال افتراقا
واتفاقا.
أما القسم الثاني:
ففيه عملية استقصاء للرواية عن بعض الرواة، وجاء هذا بعد أن
ذكر مسارات الرواية في البلدان. وفي هذا القسم يتابع الرواية
عن شخص واحد، فيذكر من سمع منه، ومن لم يسمع. وقد بدأ بالصحابي
الجليل زيد بن ثابت، فذكر من روى عنه من أهل المدينة، ثم من
روى عنه من أهل الكوفة، ثم من روى عنه ولم يثبت سماعه منه. ثم
ذكر بعض الأحاديث كنماذج تطبيقية.
وقد عقد في هذا القسم فصلا عن الحسن البصري، فجاء كلاما ضافيا
وافيا أظهر فيه قدرة علمية فائقة فكشف حركة الحديث عن الحسن
صحة وعلة. ولعل ابن المديني هو أول من نقل الحديث إلى ميدان
الدراسة التحليلية الشاملة المستقصية. ولا بأس أن ننتقل إلى
عبارته فلعلها تعطي القارئ مزيد إيضاح وبيان "قال علي: سمع
الحسن من عثمان بن عفان وهو غلام، ومن عثمان بن أبي العاص ومن
أبي بكر، ولم يسمع من عمران بن حصين شيئا، وليس بصحيح، لم يصح
عن الحسن عن عمران سماع من وجه صحيح ثابت.
قلت: سمع الحسن من جابر؟ قال: لا.
قلت: سمع الحسن من أبي سعيد الخدري؟ قال: لا.
كان بالمدينة أيام كان ابن عباس بالبصرة، استعمله عليها علي،
وخرج إلى صفين. وقال في حديث الحسن: خطبنا ابن عباس بالبصرة،
إنما
(1/62)
هو كقول ثابت، قدم علينا عمران بن حصين،
ومثل قول مجاهد: خرج علينا علي، وكقول الحسن: إن سراقة بن مالك
بن جعشم حدثهم، وكقوله: غزا بنا مجاشع".
ولا يفوتني أن أنبه وأنا أتناول هذا القسم بالعرض، إلى أن
الباحثين في الحديث قد يقعون في الوهم والخطأ إذا اعتمدوا على
كتب التراجم المشهورة وتركوا كتب العلل، فإن أشخاصا كثيرين
يذكر لهم السماع وحقيقة الأمر غير ذلك.
والمقارنة بين ما ذكره علي بن المديني هنا عن الحسن البصري،
وبين ما ذكره صاحب تهذيب التهذيب تبين للباحث دقة ابن المديني،
وتعميم غيره وتوسعه كأن يقول صاحب التهذيب:
"روي عن أبي بن كعب وسعد بن عبادة وعمر بن الخطاب، ولم يدركهم.
وعن ثوبان وعمار بن ياسر وأبي هريرة وعثمان بن أبي العاص ومعقل
بن سنان لم يسمع منهم، وعن عثمان وعلي وأبي موسى وعمران بن
حصين وجندب البجلي وابن عمرو وابن عباس وابن عمر ومعاوية ومعقل
بن يسار وجابر وخلق".
وفي هذه العبارة سمى قوما، وقال: لم يدركهم، وسمى آخرين، وقال:
ولم يسمع منهم. وسمى فئة ثالثة، ولم يذكر نفي الإدراك أو
السماع. بينما جاء النفي القاطع بعدم سماع الحسن من بعضهم
كعمران بن حصين، وابن عباس، وجابر.
القسم الثالث:
وهذا القسم ذكر فيه ابن المديني مجموعة من الأحاديث، وبين علة
كل واحد منها، وعرض طرقه عرضا مستفيضا سيرا على أسلوبه الذي
سبق وأن أشرت إليه، وفيما يلي مثال من هذا القسم: "قال علي:
وحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله".
قال: رواه صالح، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة.
ورواه عقيل، فخالفه صالح في إسناد، فرواه عن عبيد الله بن عبد
الله، عن أبي هريرة، عن عمر بن الخطاب.
ورواه ابن عيينة عن أبي هريرة مرسلا.
ورواه معمر عن الزهري عن عبيد الله مرسلا.
ورواه سفيان بن حسين عن الزهري عن عبيد الله عن أبي هريرة
ورواه عمران القطان فخالفهم جميعا فرواه عن معمر عن الزهري عن
أنس عن أبي بكر، والحديث حديث عبد الله".
القسم الرابع:
وفي هذا القسم تعرض لعدد من الرجال، من حيث العدالة والضعف،
وثبوت الرواية عنهم أو انقطاعها كما أن فيه البيان لكثير من
الوفيات والكنى:
قال علي: إسرائيل ضعيف.
قال علي: عنبسة البصري الذي يروي عن الحسن، روى عنه عبد الوهاب
الثقفي: ضعيف.
قال علي: غاضرة بن عروة الفقيمي شيخ مجهول، لم يرو عن غير عاصم
بن هلال.
وبعد هذه الجولة في كتاب العلل لابن المديني، أقول: إن هذه
المعرفة أساسية لرجل العلل، ومن يستوعبها ويتقنها فلا بد أن
يصبح من رجال هذا الفن. وكلام علي هذا مبثوث في الكتب التي
جاءت بعده، ككتاب الجرح والتعديل لابن أبي حاتم.
(1/63)
المطلب الثاني
التاريخ والعلل، ليحيى بن معين
أقول ابن معين التي اعتمد عليها ابن رجب كثيرة جدا، وهي من كتب
عديدة لتلاميذ يحيى الذين سجلوا أقواله وأجوبته على أسئلتهم.
وأكثر هذه الأقوال من كتاب "التاريخ والعلل" رواية العباس بن
محمد الدوري (المتوفى سنة 271هـ) وهو أكمل الكتب التي جمعت
أقوال يحيى، وقد وصل إلينا سليما من كل أذى، ولله الحمد.
ومادة هذا الكتاب مجموعة كبيرة من آراء يحيى وأجوبته في ميدان
الرجال والعلل. ويبدأ كل قول بكلام لعباس الدوري يقول فيه:
سألت يحيى، أو سمعت يحيى. وأما كلام عباس الدوري الخاص به
فقليل جدا، ويذكر أحيانا إذا لزم التعقيب على كلام الشيخ
لتصحيح رواية أو لتفسير غريب.
وكما رأينا في علل ابن المديني فإن كتاب يحيى هذا يسير على نفس
الطريقة، ومادته غير منظمة والموضوعات المختلفة متداخلة فيه،
فهو يتكلم عن الطبقات، والوفيات والجرح والتعديل، والكنى
المتشابهة، والأحاديث المسلسلة.
وفيما يلي نص من هذا الكتاب يكشف لنا منهجه: "سمعت يحيى يقول:
عمر بن محمد بن زيد صالح الحديث، وكان ينزل عسقلان مرابطا.
سألت يحيى عن حديث يحدث به ابن أبي ذئب عن ابن حسنة الجهني
فقال يحيى: هو كذا ابن أبي ذئب عن ابن حسنة عن أبي هريرة. سمعت
يحيى يقول: لم يسمع محمد بن إسحاق من طلحة بن نافع شيئا، ولم
يسمع حديث ابن عباس في البكر، هو حديث ليس له أصل. سمعت يحيى
يقول: حديث هشام بن عروة عن أبيه أن بلالا سمع أمية بن خلف يوم
بدر، وهو على بعير له وهو يقول: (يا حدراها) ، (ياحدراها) ،
قال يحيى: قال أبو عبيدة البصري: يريد: هل أحد رأى مثل هذا. هل
أحد رأى مثل هذا. سمعت يحيى يقول:
(1/65)
أبو مسلمة بن محمد ليس حديثة بشيء".
وقد دخلت مادة هذا الكتاب في جميع كتب الرجال التي جاءت من
بعده. إذ هو من المراجع الأصلية في موضوعه، ولكن هذه المادة
دخلت في الكتب الأخرى مبوبة منظمة، فما يتعلق بالضعفاء دخل في
كتب الضعفاء وما كان عن الثقات دخل في كتب الثقات.
والحصول على المراد من هذا الكتاب صعب وعسير إلا بقراءته كله،
والبحث عن نص واحد فيه يلزم منه قراءة مائة وسبع وستين لوحة،
وقد لا تجد ما تريد إذا كان النص من رواية غير العباس الدوري
كعثمان الدارمي أو ابن محرز، أو ابن الجنيد.
وكتاب التاريخ والعلل يقع في أحد عشر جزءا استغرقت مائة وسبعا
وستين ورقة، وبالرغم من اختلاط المادة فيه وعدم تبويبها إلا أن
الكتاب يقع في أربعة أقسام رئيسية:
1 - قسم عام: تناول فيه قضايا متفرقة لمختلف البلدان. ويهتم في
هذا القسم بالصحابة.
2 - أهل الكوفة: وقد أعطى يحيى بن معين أهل الكوفة النصيب
الوافر من اهتمامه فزادت اللوحات التي تناولت أهل الكوفة عن
مائة، وأخبارهم تعق بين لوحة 43/أ - 146/أوبهذا تكون الكوفة قد
أخذت ثلثي الكتاب، فهو بحق موسوعة كوفية، وهو عمدة لكل من يدرس
أسانيد الكوفة والحديث فيها.
3 - تسمية أهل واسط والسواد وأهل المدائن وبغداد من لوحة 46/أ
- 152/أ.
(1/66)
4 - تسمية الشاميين وأهل البصرة والجزيرة
إلى نهاية الكتاب لوحة 167.
وقد ذكر ابن معين رسالة الليث إلى مالك، ورسالة مالك إلى
الليث.
وإلى جانب ما ذكرناه عن مادة هذا الكتاب وأنها مسائل متنوعة في
مختلف علوم الحديث وعلله، فإنه يمتاز باحتوائه على مجموعة من
الآراء الفقهية المستمدة من السنة، ومن خلالها يظهر مذهب أهل
الكوفة الفقهي، وفيما يلي بعضها:
"قال يحيى: زكاة الفطر لا بأس أن تعطى فضة.
سمعت يحيى يقول: لا بأس بالصلاة على الجنازة بعدما يصلى عليها،
ولا بأس بالصلاة على القبر".
ومن ذلك: "سمعت يحيى يقول، وسألته عن هذه المسائل: قلت له: كم
يصلى بعد الجمعة؟ قال: أربع لا أفصل بينهن بسلام. سألت يحيى عن
القراءة خلف الإمام، قال: لا أقرأ خلفه إن جهر، ولا إن خافت.
وإن قرأ إنسان فليس به بأس".
قلت ليحيى: ما تقول في التكبير بالعيدين السبع والخمس؟ قال: لا
أرى أن أرفع يدي في كل تكبيرة".
ومع أن هذه هي مجموعة من الآراء الفقهية إلا أنها ذات ارتباط
وثيق بعلم العلل، لصدورها من رجل كيحيى بن معين، إذ أنه بمثابة
التصحيح والتضعيف لمجموعة من الأحاديث الواردة في هذه الأبواب.
علل أحاديث من التاريخ والعلل:
وقد اشتمل هذا الكتاب على عدد كبير من الأحاديث المعلة، وبعضها
علل في الإسناد والبعض الآخر علل في المتن، ونختار منها بعض
الأمثلة:
(1/67)
(أ) (سمعت يحيى يقول: حديث هشام عن أبيه عن
عائشة: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية"، إنما هو
عن هشام عن أبيه فقط) وبهذا يكون يحيى قد كشف علة الحديث. فهو
مرسل، وليس بمتصل، لأن التابعي وهو عروة بن الزبير، يقول: كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(ب) (سمعت يحيى يقول: كان محمد بن عبيد الطنافسي يصحف في هذا
الحديث، عن عبد الملك، عن عطاء: "من قرأ جزءا من القرآن" ...
وإنما يريد من قرأ حرفا من القرآن) .
(ج) "سمعت يحيى يقول: سعيد بن المسيب قد رأى عمر، وكان صغيرا،
قلت ليحيى: هو يقول: ولدت لسنتين مضتا من خلافة عمر. وقال
يحيى: ابن ثماني سنين يحفظ شيئا! ثم قال: ههنا قوم يقولون: إنه
أصلح بين علي وعثمان. وهذا باطل".
والكتاب مليء بالأسانيد المعلة التي يناقشها يحيى بأسلوب
الحوار مع تلميذه، أو جوابا على سؤاله، وفي كل مرة يكشف عن
الخطأ ويبين الصواب.
الجرح والتعديل في التاريخ والعلل:
يعتبر هذا الكتاب من المصادر الرئيسة في الجرح والتعديل، وقل
أن تجد رجلا لم يعط يحيى بن معين رأيا فيه وقد تنوعت في هذا
الكتاب أسباب الجرح وأنواعه وألقابه وكذلك التعديل. وقل مبتدع
لا تجد له ذكرا في هذا الكتاب. وقد ظهر رأي ابن معين جليا في
هذا النص: "قلت ليحيى: هكذا نقول في كل داعية يكتب حديثه إن
كان قدريا أو رافضيا، أو غير ذلك من أهل الأهواء، من هو داعية؟
قال: لا يكتب عنهم إلا أن يكونوا ممن يظن بهم ذاك، ولا يدعوا
(1/68)
إليه، كهشام الدستوائي وغيره ممن يرى
القدر، ولا يدعو إليه".
أما الألفاظ التي يستعملها في التعديل والتجريح فكثيرة منها
ثقة: "سألت يحيى عن مسلم بن خالد الزنجي، فقال: ثقة ثقة ولكن
ليس بحجة. محمد بن إسحاق ثقة، ولكنه ليس بحجة".
"ليس به بأس: وإنما كان فيه شيء، زعموا أنه كان طفيليا".
صدوق: "محمد بن أسباط الذي كان بالشام رجل صدوق".
وأما ألفاظ التجريح فمنها: ليس بثقة، ليس بشيء، ولا يسوى فلسا،
ولا يكتب عنه، لم يكن بثقة ولا مأمون، رجل سوء، بين يدي عدل.
اختلاف الأقوال في الجرح والتعديل
عند يحيى:
يلاحظ من يقرأ كتاب ابن معين أنه يعطي عدة أحكام على الرجل
الواحد، فقد جاء في هذا الكتاب قولان مختلفان في الحارث
الأعور:
"سمعت يحيى يقول: الحارث الأعور، هو الحارث بن عبد الله، ليس
به بأس"، فإننا نراه يقول في موضع آخر: حدثنا جرير عن حمزة
الزيات، قال: سمع قرة الهمذاني من الحارث الأعور شيئا، فقال
له: اقعد حتى أخرج إليك، فدخل مرة الهمذاني واشتمل على سيفه،
وأحس الحارث بالشر فذهب". كما ضعف يحيى أسامة بن زيد بن أسلم
أكثر من مرة، ثم قال عنه: ثقة.
(1/69)
ومع أن هذه الدراسة ليست موجهة للجرح
والتعديل، إلا أن الكلام عن منهج الكتاب لا يكتمل إلا بهذا،
بالإضافة إلى أن من العلل ما يرتبط بالجرح، كأن يروي الثقة عن
ضعيف أو مجهول وغير ذلك.
المطلب الثالث علل الإمام أحمد بن
حنبل
اعتمد ابن رجب اعتمادا كبيرا على أقوال الإمام أحمد في العلل،
وهذا أمر لا بد منه لأن الإمام أحمد يعتبر بحق أستاذ فن العلل،
وقد شاعت أقواله فيه وذاعت حتى استعصت على الإحاطة والحصر،
ومرجع ذلك علمه الوفير، وشخصيته الفذة يضاف إليه ما امتاز به
الإمام أحمد إذ أقبل عليه كثرة من التلاميذ الأوفياء الأذكياء
العلماء، فسألوا الكثير، وكتبوا عنه الكثير. وقد كان بعض هؤلاء
التلاميذ ممن يشار إليه بالفضل والفقه قبل التحاقه بصحبة
الإمام أحمد. وقد اشتهر من هؤلاء عدد تناقل الناس مسائلهم،
وجاء ذكرهم كثيرا في "شرح علل الترمذي" لابن رجب، منهم:
- مهنا بن يحيى الشامي، كتب عن أحمد بضعة عشر جزءا من المسائل،
ولزمه ثلاثا وأربعين سنة، وأول لقيه له في مجلس سفيان بن
عيينة.
- عبد الملك بن عبد الحميد الميموني، صحب الإمام أحمد من (سنة
202 - 227هـ) وكان في أحمد مثل ابن جريح في عطاء لكثرة مسائله.
- أحمد بن محمد بن الحجاج أبو بكر المروزي (ت 275هـ) .
- أحمد بن محمد بن هانئ الطائي الأثرم، نقل عن الإمام أحمد
مسائل وصنفها ورتبها أبوابا.
- أبو طالب، أحمد بن حميد، المتخصص بصحبة الإمام أحمد ومسائله
(ت 244هـ) .
(1/70)
- الحربي أبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق (ت
285هـ) .
- حنبل بن هاني (ت 265هـ) .
- إسماعيل بن سعيد الشالنجي، وله مسائل كثيرة عن أحمد.
- أحمد بن محمد أبو الحارث الصائغ، روى عن أحمد بضعة عشر جزءا
من المسائل.
- صالح بن الإمام أحمد بن حنبل، ومسائله كثيرة ومشهورة، (ت
266هـ) .
- عبد الله بن الإمام أحمد، ومسائله مشهورة، وأكثرها وصل إلينا
(ت 290هـ) .
- أبو داود، سليمان بن الأشعث السجستاني، (ت 265هـ) وهو الإمام
المشهور.
وأما ما وصلنا من هذه المسائل فقليل، وما وصل لم يسلم منه إلا
أجزاء يسيرة، فيما عدا كتاب العلل ومعرفة الرجال، وكتاب مسائل
الإمام أحمد فقد وصلا كاملين. وأما المسائل الأخرى فقد سلم
منها:
(أ) جزء من مسائل الميموني.
(ب) جزء من مسائل صالح بن الإمام أحمد.
(ج) جزء من مسائل المروزي، في العلل.
(د) جزء من مسائل الأثرم في العلل.
والجدير بالذكر أن هذه الكتب متشابهة في طريقة العرض، وهي غير
مرتبة ولا مبوبة بينما نجد المسائل الفقهية قد دخل عليها
التبويب والترتيب كمسائل
(1/71)
المروذي في الفقه والجزء الأول من مسائل
أحمد، لأبي داود السجستاني. ولمعرفة محتويات هذه الكتب وبيان
منهج الإمام أحمد فيها نختار منها كتابا كاملا هو "العلل
ومعرفة الرجال". وهو نموذج يمثل كل ما ورد عن الإمام أحمد في
العلل.
وهذا الكتاب يرويه عبد الله بن الإمام أحمد عن أبيه، وتوجد منه
نسخة كاملة في مكتبة أيا صوفيا تحت (رقم 3380) ، وهذه النسخة
يرويها أبو علي محمد بن أحمد بن الحسن بن الصواف (ت 359هـ) عن
عبد الله بن الإمام أحمد، وقد قام الدكتور طلعت فوج بيكيت
والدكتور إسماعيل جراح أوغلي بتحقيق الجزء الأول من هذا
الكتاب، وقد وجدت في خزانة المكتبة الظاهرية بدمشق الجزء
الثاني عشر من العلل ومعرفة الرجال، ولكنه من رواية أبي بكر
مكرم بن أحمد بن مكرم عن عبد الله، وعلى هذا الجزء سماع ابن
أبي يعلى الفراء.
وفي هذا الكتاب أسئلة وسماعات يقول فيها عبد الله: سألت أبي،
وسمعت أبي وحدثني أبي، ومادة الكتاب عرضت بلا ترتيب ولا تصنيف.
وحتى الخطوط الرئيسة والأقسام الكبيرة، التي رأيناها في علل
ابن معين وابن المديني، حتى هذه معدومة في كتاب "العلل ومعرفة
الرجال"، ولكن هذا ليس عيبا في الكتاب لأنه إجابات وأخبار عن
القضايا اليومية التي تعترض الإمام وتلاميذه، وغزارة المادة
والانشغال بالمتابعة والسماع يجعل مهمة التصنيف والترتيب
عسيرة.
وقد استفاد كل من جاء بعد الإمام أحمد من هذا الكتاب، وكل أخذ
منه
(1/72)
ما يدخل في اهتمامه، ومن أكثر الكتب
اعتمادا عليه: "كتاب الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم وكتاب
"الضعفاء" للعقيلي.
أما موضوعات الكتاب فإنها متنوعة، وأستطيع أن أجزم بأن مادته
اشتملت على كل أبواب علوم الحديث، ففيه الكلام عن الثقات
والرواة عنهم، والضعفاء، والمبتدعة، والمتروكين والمجاهيل،
وفيه أخبار المدلسين، والكلام عمن أرسل الحديث، وكثير من تراجم
رجال الأخبار فيذكر وفياتهم ومواطنهم، والقسم الأعظم والأكبر
هو الكلام عن الأسانيد والمتون المعلة. ولهذا حق لنا أن نقول:
إن كتب العلل هي الكتب الأولى لعلوم الحديث.
وكما سبق القول، فإن القسم الأعظم من هذا الكتاب يتعلق بروايات
الثقات، سواء بذكر علل حديثهم، أو بذكر مراتب الرواة عنهم، أو
ما يتعلق بتراجمهم مما له علاقة بحديثهم من رحلة أو اختلاط أو
تدليس أو إرسال. والجدير بالذكر أنه يسوق مجموعة كبيرة من
الأخبار محورها أحاديث شيخ واحد ويطيل في ذلك فهو يذكر علل
أحاديث هشيم بن بشير، شيخه، في قرابة العشرين صفحة من صفحات
الكتاب وفيها يلي بعض هذه الأحاديث التي ذكر علتها.
قال عبد الله:
"حدثني أبي قال: حدثنا هشيم، عن سيار عن أبي وائل، قال: "لا
يقرأ القرآن جنب ولا حائض".
قال أبي: لم يسمعه هشيم من سيار.
"سمعت أبي يقول: حدثنا هشيم قال: أخبرنا منصور، يعني ابن زاذان
عن نافع أن امرأة صبحت قوما في سفر.. سمعت أبي يقول: لم يسمع
منصور من نافع شيئا".
(1/73)
"حدثني أبي: قال، حدثنا هشيم عن مغيرة عن
سماك - يعني ابن سلمة - قال: "رأيت ابن عمرو وابن عباس يتربعان
في الصلاة" سمعت أبي يقول: لم يسمعه هشيم من مغيرة".
وهكذا فإن الإمام أحمد يستعرض الكثير من حديث هشيم ويكشف عن
انقطاع أو تدليس فيه، وقد يثبت السماع النادر له، كأن يقول:
هذان الحديثان سمعهما هشيم من جابر الجعفي، وكل شيء حدث عن
جابر مدلس إلا هذين: عن أبي جعفر عن ابن عباس "أن النبي صلى
الله عليه وسلم مر بقدر يغلي فأخذ منها عرقا أو كتفا فأكله، ثم
صلى ولم يتوضأ". وذكر حديثا آخر.
وفي موضع آخر نجد ذكرا مستفيضا لحصين بن عبد الرحمن المديني
ويميزه عن حصين بن عبد الرحمن الحارثي الكوفي. وفي موضع ثالث
نجده يستعرض حديث وكيع بن الجراح، من ذلك:
"حدثني أبي قال: حدثنا وكيع عن سفيان عن ابن أبي نجيح عن عبد
الله بن أبي كثير، عن أبي المنهال عن ابن عباس، قال أبي: كذا
قال وكيع، وهو خطأ: إنما هو عبد الله بن كثير".
ثم نجده يعود فيتكلم عن حديث وكيع، رواية ونقدا، في موضع آخر
ويفيض في ذلك.
ولو قدر لهذا الكتاب أن ترتب مادته، بحيث يجمع ما يتعلق بوكيع،
وما يتعلق بشعبة، وما يتعلق بهشيم وغيرهم، لو قدر له ذلك، لكان
على غاية من الفائدة لما يذكره من دقائق المعارف عن هؤلاء، وما
يعالجه من أحاديثهم رواية ونقدا. وهو ما لا يوجد في كتاب من
كتب التراجم المعروفة.
(1/74)
ومن القضايا المهمة في هذا الكتاب حصر
الرواة عن شيخ ما، كأن يقول:
"هذه تسمية من روى عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهـ - من أهل
مكة، روى عن عمر بن الخطاب من أهل مكة: يعلى بن أمية، وعبد
الله بن الزبير، وأبو الطفيل، وعبد الله بن صفوان، وعبيد بن
عمير. وأملى علي أبي: ومن أهل المدينة: عبد الله بن عباس وعبد
الله بن عمر ... " ويذكر عشرات الأسماء.
وخلال ذكره لهذه الأسماء يقف عند من اختلفت الأقوال في سماعه
عن عمر، فيقول مثلا: وحميد روى عن عمر فلا أدري سمع منه أم لا،
وقال ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن حميد: رأيت عمر.
ثم يواصل ذكر الرواة عن عمر - رضي الله عنهـ - من أهل البصرة،
ثم من روى عن علي - رضي الله عنهـ - من أهل البصرة، ثم من روى
عن عثمان من أهل المدينة، ثم من روى عن عمر من أهل الكوفة.
وهذا اللون من فنون الحديث نجده عند الإمام أحمد في علله يرتقي
إلى أسلوب يدل على معرفته الواسعة، فهو يقول:
"هؤلاء الرجال من روى عنهم مسعر من أهل الكوفة وغيرهم، لم يسمع
منهم شعبة: عمير بن سعد، وعبد الرحمن بن الأسود، وأبو بكر بن
عمرو بن عتبة ... " وهكذا.
وفي موضع آخر يقول:
"وهؤلاء من روى عنهم شعبة، ولم يسمع منهم سفيان: المنهال بن
عمرو، وطلحة بن مصرف، والحكم بن عتبة وأبو عمرو يحيى بن عبيد
... " وهكذا.
(1/75)
وفي موضع ثالث يقول:
حدثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو عن شعبة قال:
رأيت محمد بن المنتشر، وحبيب بن سالم والحسن بن أبي الحسن
البصري ... ويذكر ما يزيد على المائتين.
وفي موضع رابع يقول:
"هؤلاء من روى عنهم سفيان ولم يحدث عنه شعبة ... " ويذكر ما
يزيد على المائة.
وأما الجزء الثاني عشر الذي وجدته في الظاهرية بدمشق فهو من
رواية القاضي أبي بكر مكرم بن أحمد بن مكرم البزاز عن عبد الله
بن الإمام أحمد بن حنبل.
ومادة هذا الجزء تشبه مادة النسخة الأولى، فهي مسائل وسماعات
متفرقة غير منتظمة بترتيب معين. وتجمع بين التضعيف والتوثيق
وذكر العلل، والكنى.
وفيما يلي مثال من هذا الجزء يدور حول علة حديث:
قال أبي كنا عند سليمان بن حرب، فذكرنا المسح على الخفين،
فذكرنا أحاديث، فجعل سليمان يقول: ذا لا يحتمل، وذا ما أدري.
قلنا إيش عندك؟ قال: خالد عن أبي عثمان عن عمر، قال: "يمسح حتى
يأوي إلى فراشه". قلنا: قال بعض الناس خالد لم يسمع من أبي
عثمان شيئا، يقول ذلك بعض الناس، "ويروي عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه كان يوقت". ويقول: خالد عن أبي عثمان! كأنه لم
يرض منه بذلك".
ونلاحظ في هذا النص النقد الذي وجهه الإمام أحمد لرواية سليمان
بن حرب هذه، وسليمان بن حرب من الثقات الحفاظ.
(1/76)
المطلب الرابع علل
الترمذي الكبير
اشتهر الترمذي - رحمه الله - ونبغ في هذا الفن من فنون الحديث
حتى جاء كتابه الجامع كتابا معللا، فكانت ميزة خاصة له دون
سائر كتب السنة، وقد ربط الإمام الكبير ربطا محكما بين الحديث
وعلله فجعل لجامعه ملحقا سماه "العلل" وضمنه الكلام عن منهجه
في الرواية والدراية، سندا ومتنا، وقد رأيت في هذا الكتاب -
الصغير في حجمه، الكبير في أهدافه ومعارفه - فلسفة كاملة
"للجامع" أولا وللحديث ثانيا، وفيه كشف الترمذي أسانيده وخطته
ومصطلحاته ومذهبه في النقد والتعليل، وكما يصلح هذا الكتاب
لجامع الترمذي فإنه يصدق في أكثر جوانبه على كتب الحديث
الأخرى. وقد تكلمنا عن منهجه ومقاصده في المباحث السابقة.
على وجه الإجمال والاختصار، وذلك لأن "العلل الصغير" من خلال
شرح ابن رجب، هو موضوع رسالتي هذه، فسأترك الكلام عليه لمن هو
أهله، وكفى بابن رجب أهلا لذلك، وسنلتقي به - إن شاء الله - في
ستمائة صفحة بعد هذه الدراسة. وأما العلل الكبير، فصفته الكبير
تشير إلى أنه أكبر من سابقه وأشمل. وقد كان يظن إلى عهد قريب
أنه مفقود، وجاء ذلك في كتاب الدكتور نور الدين العتر "الترمذي
والموازنة بين جامعه وبين الصحيحين" والذي نال به درجة
الدكتوراه من كلية أصول الدين، جاء في هذا الكتاب قوله: "لكن
يد الحدثان
(1/77)
طوت عنا هذا الكتاب، حتى لا نجد منه إلا
النقول عنه، ولولا وفرة هذه النقول لما أمكن أن نكتب هذا
البحث".
ولقد قادت هذه النقول الأستاذ الفاضل إلى القول: "وهذا كتاب
صنفه أبو عيسى على الأبواب - فيما يبدو لنا".
وبحمد الله وجدت هذا الكتاب باسم:
"كتاب فيه علل الترمذي الكبير، رتبه على أبواب الجامع أبو طالب
القاضي" وهو من مخطوطات مكتبة أحمد الثالث بتركيا وتحت رقم
(530) .
وجاء في مقدمة هذا الكتاب: "قال الفقيه القاضي أبو طالب وفقه
الله:
هذا كتاب قصدت فيه ترتيب كتاب العلل لأبي عيسى الترمذي - رحمه
الله - على نسق كتاب الجامع له حتى يسهل فيه طلب الحديث، إذ
الأحاديث فيه مفرقة منثورة، فلا تضبطها أبواب. فنظرت فيها
فرددت أحاديث كتاب العلل إلى ما يليق بها من كتب الجامع، فجعلت
الطهارة في كتاب الطهارة، وهكذا إلى آخر الجامع. إلا أن يكون
كتاب لم يكن فيه في كتاب العلل حديث فأني أسقطه، وأدخلت أحاديث
هذه الكتب تحت أبوابها التي هي تبويب الترمذي على ما أذكره،
وذلك إما أن يكون الحديث المذكور في العلل مذكورا بعينه في ذلك
الباب من كتاب الجامع، وإما بأن ينبه عليه أبو عيسى بأن يقول:
في الباب عن فلان من الصحابة، ويكون الحديث في العلل مخرجا عن
ذلك الصحابي، وإما أن يكون مطابقا للحديث الذي تضمنه الباب،
وفي معناه فعلى هذا النحو جعلت الأحاديث تحت الأبواب وأسقطت من
تراجم الأبواب ما لم يكن في كتاب العلل فيه أحاديث.
(1/78)
وقد تجيء في كتاب العلل أحاديث لا يذكرها
أبو عيسى في الجامع ولا يبوب فيه بابا يقتضي أن تجعل فيه،
فأفردت لما كان من هذا النوع فصولا في أواخر الكتب التي تكون
تلك الأحاديث منها. ونبهت على أنها ليست في الجامع إذ تبين من
مطالعة الكتابين ما زاد كتاب العلل على كتاب الجامع. وذلك هو
الأقل. وما كان فيه من كلام على رجال جرى ذكرهم في سند حديث
فإني سقته حيث سقت الحديث. وما كان من الكلام على رجال لم يقع
ذكرهم في حديث، وإنما جاء ذلك منثورا في أثناء الكلام، فإني
ذكرت ذلك في آخر الكتاب، في باب الجامع يأتي ذكره هنالك إن شاء
الله.
ولقد كان يتجه أن يسقط من كتاب العلل ما كان مذكورا في الجامع،
حتى لا يذكر فيه إلا ما ليس في الجامع، غير أنا كرهنا أن نسقط
منه شيئا فتركناه على ما هو عليه فربما يجيء الباب ويكون فيه
الحديث الذي في ذلك الباب من الجامع بنحو الكلام الذي تكلم
عليه في الجامع بلا مزيد على ذلك".
وفي نهاية هذه المقدمة التفصيلية، التي بين فيها عمله ومنهجه،
ذكر إسناد كتاب العلل إلى الترمذي والجدير بالذكر أنه رواه عن
شيخه أبي القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال0
ومن هذه المقدمة الوافية الضافية تبين لنا ما يلي:
1 - إن الترمذي لم يرتب كتابه "العلل الكبير" على الأبواب، بل
ترك مادته منثورة مفترقة.
2 - إن الذي رتبه على الأبواب هو القاضي أبو طالب، وذلك ليسهل
الرجوع إلى الحديث فيه.
3 - إنه رتب كتاب العلل تماما على أبواب كتاب الجامع الصحيح،
واحتفظ بعناوين الأبواب عند الترمذي كما هي في الجامع. فإذا
كان باب من أبواب الجامع لا مادة فيه في كتاب العلل، فإنه يسقط
الباب ولا يذكره.
وفيما يلي تمثيل لعمله من باب الطهارة مقارنا بجامع الترمذي:
(1/79)
رقم الباب أبواب جامع الترمذي/ أبواب علل
الترمذي الكبير رقم الباب (1) (2) (3) (4) (5) (6) (7) (8) (9)
(10) (11) باب / لا تقبل صلاة بغير طهور باب / فضل الطهور باب
/ مفتاح الصلاة الطهور باب / ما يقول إذا دخل الخلاء باب / ما
يقول إذا خرج من الخلاء باب / النهي عن استقبال القبلة بغائط
أو بول باب / الرخصة في ذلك باب / النهي عن البول قائما باب /
الرخصة في البول قائما باب / في الاستتار عند الحاجة باب /
كراهة الاستنجاء باليمين - باب / ما جاء في فضل الطهور باب /
مفتاح الصلاة الطهور باب / ما يقول إذا دخل الخلاء - باب /
الرخصة في استقبال القبلة - باب / الرخصة في البول قائما باب /
في الاستتار عند الحاجة - (1) (2) (3) (4) (5) (6)
ومن هذه المقارنة يظهر الترتيب الذي سار عليه أبو طالب القاضي،
والذي وافق ترتيب الجامع، مع إسقاط الباب الذي لم يذكر عنه شيء
في كتاب العلل.
4 - أما الأسس التي اعتمد عليها أبو طالب في إلحاق مادة العلل
بالأبواب فهي ما يلي:
(أ) إذا كان الحديث المذكور في العلل مذكورا في كتاب الجامع
فإنه يضعه تحت نفس العنوان.
(ب) إذا كان الحديث المذكور في الجامع قد أشار إليه الترمذي
إشارة في الباب بقوله: وفي الباب عن فلان من الصحابة، وقد جاء
هذا الحديث مفصلا في العلل فإنه يلحقه في الباب الذي أشار
إليه.
(1/80)
(ج) إذا كان الحديث غير مذكور في الجامع
ولكنه مطابق لباب من أبوابه فإنه يضعه تحت ذلك الباب.
5 - أما الأحاديث التي ذكرت في "العلل" ولم ترد في "الجامع"
فإن أبا طالب قد جعلها في فصول آخر الكتاب.
6 - وأما الكلام عن الرجال فترتيبه على ضربين:
(أ) إذا كان ذكر هؤلاء الرجال متعلقا بحديث ما، فإنه يساق مع
هذا الحديث في بابه.
(ب) وإذا كان الكلام عن الرجال عاما لا يرتبط بحديث معين
موجود، فإنه يذكره في آخر الكتاب في باب جامع في الرجال.
ومن خلال قراءتي لهذا الكتاب أكثر من مرة بحثا عن النصوص التي
أوردها ابن رجب عنه، وجدت فيه نموذجا يحتذى لمن يعزم على ترتيب
بقية كتب العلل، والتي لا تجنى الفائدة الكاملة منها إلا
بترتيبها، وأي كتاب سيكون علل أحمد لو قدر له أن يرتب بمثل هذا
الترتيب، وبذلك تجتمع مئات الأحاديث المعلة في أبواب منظمة،
وتفهرس أسماء الرجال الواردة فيه فتشكل مصدرا من أهم مصادر
البحث في الرجال والتراجم، وبذلك يضاف إلى إمامة صاحبه سهولة
تناوله.
(1/81)
لقد سبقت الإشارة إلى أن الدكتور العتر بحث
عن نصوص من كتاب العلل فوجد نقولا في بعض الكتب، وكانت هذه
النقول الأساس الذي بني عليه دراسته لهذا الكتاب.
وقد قابلت هذه النقول بمادة الأصل فوجدتها مطابقة تماما، مما
يشهد للنسخة المخطوطة بالسلامة والدقة. ومن هذه النقول ما أخذه
من "نصب الراية" وهو حديث عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يكبر في الفطر والأضحى في الأولى سبع تكبيرات، وفي
الثانية خمسا. قال الترمذي في العلل: سألت محمدا عن هذا الحديث
فضعفه وقال: لا أعلم رواه غير ابن لهيعة.
وجاء هذا النص في العلل تحت عنوان "في التكبير في العيدين"
وفيه: وسألته عن حديث ابن لهيعة عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة
عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر في الفطر
والأضحى في الأولى سبع تكبيرات، وفي الثانية خمس تكبيرات".
ورواه بعضهم عن ابن لهيعة عن خالد بن يزيد عن الزهري عن عروة
عن عائشة، فضعف هذا الحديث، قلت له: رواه غير ابن لهيعة، قال:
لا أعلمه.
أما مادة هذا الكتاب فأكثرها أحاديث ذكرت عللها، ومعظم هذه
المادة موجود في كتاب الجامع، ويبدو أن الترمذي أراد من علله
الكبير إفراد العلل بالتصنيف المستقل، ليكون نموذجا للبحث
التطبيقي المتخصص في العلل. وقد اكتسبت هذه المادة أهمية كبيرة
وذلك لأمور:
1 - أنها في أكثرها آراء للبخاري في العلل ومعرفة الرجال حتى
كأن الكتاب للبخاري وليس للترمذي، إذ لا يكاد يخلو حديث من قول
الترمذي: وسألت محمدا عن هذا الحديث".
(1/82)
2 - أن الذي يسأل البخاري هو من أرباب هذا
الشأن العارف بمواطن الأوهام واللبس إذ هو ممن دار عليهم هذا
العلم في زمنه إلا أنه الترمذي.
3 - أن الأحاديث المعلة هنا هي في غالبها من الأحاديث المشهورة
المتداولة بين الناس. وقد استعرضنا نماذج كثيرة من هذا الكتاب
في أسباب العلل وأنواعها.
وفيما يلي نموذج من مادة الكتاب:
1 - "حدثنا محمد بن بشار (نا) يحيى بن سعيد، عن أسامة بن زيد
عن سالم بن خربوذ أبي النعمان، عن أم حبيبة، قالت: "ربما
اختلفت يدي ويد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوضوء من
إناء واحد" وهكذا روى أبو أسامة وغير واحد عن أسامة بن زيد.
وقال وكيع: عن أسامة بن زيد، عن النعمان بن خربوذ قال: سمعت أم
حبيبة: ربما اختلفت يدي. فسألت محمدا عن هذا الحديث، فقال: وهم
وكيع، والصحيح: عن أسامة بن زيد، عن سالم بن خربوذ، أبي
النعمان.
قلت لمحمد: روى هذا الحديث قبيصة، عن سفيان عن أسامة، فقال عن
أم حبيبة - فقال: أخطأ فيه قبيصة".
وفي هذا المثال نرى العلة في حديث رجلين من الثقات وكيع بن
الجراح وقبيصة بن ذؤيب. أما الأول فقد وهم في تغيير اسم
الراوي، وأما الثاني فقد أعل سنده بالانقطاع.
2 - وفيما يلي نموذج من آخر الكتاب مما يتعلق بالرجال: "قال
أبو عيسى: رأيت محمدا يثني على الأفريقي خيرا، يعني عبد الرحمن
بن زياد الأفريقي، ويقوي أمره، وسألت محمدا عن صالح المري،
فقال: هو ضعيف الحديث، ذاهب الحديث، قال أبو عيسى: صالح المري
رجل صالح ثقة تفرد بأحاديث عن الثقات يخاف عليه الغلط.
(1/83)
قال محمد: "محمد بن الفضل بن عطية ذاهب
الحديث".
هذا نموذج من علل الترمذي في الرجال، ويلاحظ فيه رأي الترمذي
في مقابل كلام البخاري.
أما استمداد ابن رجب من هذا الكتاب، فأمر ملحوظ في شرح العلل
حتى انه يعتبر من أبرز مصادره في العلل.
المطلب الخامس علل الحديث: لعبد
الرحمن بن أبي حاتم (ت 327هـ)
إذا كان القرن الثالث هو عصر السنة الذهبي، فإن النصف الثاني
منه هو ثمرته وخلاصته، حيث امتد النقد الحديثي واتسع على يد
رجلين من الري هما: أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم الرازي،
ومحمد بن إدريس، أبو حاتم الرازي. وقد قيض الله تعالى لهما
تلميذا عالما عارفا يجني علمهما ويلم شتاته، فجاء هذا العلم في
كتابين مهمين: الأول: كتاب الجرح والتعديل، والثاني: كتاب "علل
الحديث وبيان ما وقع من الخطأ والخلل في بعض طرق الأحاديث
المروية في السنن النبوية".
وقد نشر هذا الكتاب الأستاذ محب الدين الخطيب - رحمه الله - في
المطبعة السلفية سنة 1343هـ، وقدم له الأستاذ محب الدين الخطيب
ولم تخل مقدمته من أوهام، فقد قال: وأول من ألف فيه - على ما
نعلم - الإمام مسلم بن الحجاج القشيري - المتوفى عام (261هـ) ،
ثم جاء بعده الحافظ الكبير عبد الرحمن بن أبي حاتم.
... وممن ألف بعدهما في العلل الإمام الحاكم النيسابوري
المتوفى
(1/84)
سنة 405هـ، والإمام الدارقطني المتوفى سنة
485هـ، فقد وهم بقوله: أول من ألف فيه مسلم، مع العلم أن مسلما
مسبوق بهذا، إذ ألف فيه الإمام أحمد ويحيى بن معين وعلي بن
المديني والبخاري، وكلهم من طبقة شيوخ مسلم.
وأما قوله: وممن ألف بعدهما في العلل الإمام الحاكم النيسابوري
والإمام الدارقطني المتوفى سنة 485هـ، فهو خطأ بين إذ الأمام
الدارقطني شيخ الحاكم وقد توفي سنة 385هـ. ويبدو أن الناشر قد
تابع كشف الظنون، الذي ذكر هذه العبارة بهذا الترتيب:
وفي التحقيق سقط كثير، وأخطاء في الضبط، ونقص في المقابلة بين
النسخ، مما يجعل إعادة تحقيق هذا الكتاب واجبا على ذوي
الاختصاص، لا سيما وأن نسخه كثيرة وكاملة.
أما مادة هذا الكتاب: فهي أسئلة عبد الرحمن بن أبي حاتم لأبيه
وأبي زرعة، أو سماعاته منهما، وكلها تدور على الأحاديث المعلة
والأسانيد التي يعتريها الخلل والخطأ. وعبارته تأتي بأحد
الأشكال الآتية: سالت أبي، سألت أبا زرعة، سألت أبي وأبا زرعة،
سمعت أبي، سمعت أبا زرعة وقولهما قد يسبق بعبارة: "قالا" أو
يذكر رأي أحدهما ثم رأي الآخر، والجدير بالذكر أن اتفاقهما هو
السائد والغالب في هذه الأجوبة. وهذا يشهد لهذا العلم بوحدة
منطقة ومنهجية.
أما طريقة عرض هذه المادة:
فهذا الكتاب أول كتاب في العلل لقي عناية كبيرة من المصنف
فرتبه على أبواب الفقه، بدءا بباب الطهارة، ثم الصلاة، وانتهاء
بباب النذر، ولكن رغم هذا الترتيب إلا أن اتساع أبوابه تجعل من
الصعوبة بمكان الوصول إلى المطلوب منه ولا بد من تقسيم أبوابه
إلى فروع تسهل على الباحثين الرجوع إلى الأحاديث، أو أن تفهرس
مادة هذا الكتاب فهرسة مستقلة في آخره ترشد إلى الأحاديث فيه،
وفي هذا الكتاب ثلاثة آلاف حديث ذكرت عللها، وهذه العلل
(1/85)
متنوعة وكثيرة، فمنها العلل الخفية كاكتشاف
الإرسال والانقطاع، وأخرى بالقوادح الظاهرة كالمنكر والموضوع
الضعيف. وأما مادة الرجال فهي مبثوثة خلال الكلام عن الأحاديث
والأسانيد.
أهمية هذا الكتاب:
وترجع أهمية هذا الكتاب إلى مادته الغزيرة في العلل والرجال،
وإلى إمامة الرجلين العظيمين، أبي زرعة وأبي حاتم، وإلى تبويبه
الذي يجعل الحصول على المبتغى منه أقرب من غيره من كتب العلل
الأخرى.
وقد اعتمد ابن رجب في كتابه "شرح علل الترمذي" كثيرا على هذا
الكتاب، فكان من أهم مصادره.
المطلب السادس العلل الواردة في
الأحاديث النبوية
صنف الإمام أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني (ت 385هـ) مصنفات
كثيرة في مختلف فنون الحديث إلا أن مصنفه في العلل هو أشهرها
وأهمها، وهذا الكتاب يشهد لعلم الدارقطني وتبحره في الحديث
وطرقه، ولقد استحق بسببه عظيم الثناء من العلماء. قال ابن كثير
في اختصار علوم الحديث، وقد جمع أزمة ما ذكرناه كله الحافظ
الكبير أبو الحسن الدارقطني في كتابه في ذلك، وهو من أجل
الكتب، بل أجل ما رأيناه وضع في هذا الفن، لم يسبق إلى مثله،
وقد أعجز من يريد أن يأتي بعده، فرحمه الله وأكرم مثواه".
(1/86)
وبحق فإن الكتاب موسوعة حديثية، وقد جمع من
طرق الحديث وعلله ما يدهش المرء، ويعجزه عن الملاحقة،
والاطلاع، فكيف بالابتداء والتصنيف.
والكتاب يقع في خمسة مجلدات مخطوطة كبيرة، قدر لي أن أطلع
عليها - الحمد لله - بعد جهد جهيد وصبر، إذ لم أوفق بالاطلاع
على بعض أجزائه إلا بعد وقت طويل من البحث، وذلك بسبب ضياع بعض
هذه الأجزاء، حتى إن فهارس المخطوطات المتخصصة لم تشر إليها،
وكم كانت فرحتي عظيمة يوم أن علمت بوجود ثلاث نسخ مخطوطة من
هذا الكتاب في دار الكتب بالقاهرة.
وبعد الاستعراض السريع لهذا الكتاب للتعرف على مادته ومنهجه
ظهر لي أنه كتاب اعتمد أسلوب العلل على الأسانيد خلافا لعلل
ابن أبي حاتم الذي اعتمد أسلوب العلل على الأبواب فكتاب
الدارقطني هذا هو من كتب العلل الفريدة التي اعتمدت منهجا
موحدا، لا كما هو الحال في علل أحمد وابن المديني وابن معين
وأصل الترمذي قبل ترتيبه.
والمنهج الذي سلكه الدارقطني أنه يذكر الصحابي ومن روى عنه
ويذكر العلل في حديث هذا الصحابي من هذه الطريق، ثم ينتقل إلى
الصحابي الآخر بعد أن يستوفي الرواة عن الصحابي الأول. ففي
الجزء الأول: بدأ بأبي بكر الصديق - رضي الله عنهـ -. وقال:
حديث عمر عن أبي بكر، ثم حديث عثمان عن أبي بكر، ثم حديث علي
عن أبي بكر.. وفي كل مرة يذكر العلل في هذه الطرق.
وأما الجزء الثاني فقد أتم الكلام في أوله عن عبد الله بن
مسعود، فعرض حديث عتبة عنه ثم حديث مسروق عنه وهكذا.. ثم ذكر
مسند
(1/87)
أبي طلحة زيد بن سهل الأنصاري، ثم مسند أبي
بردة، ثم مسند معاذ بن جبل، وهكذا ... وفي كل مسند يتناول
الرواة عنهم، فيذكر عللهم. وآخره بعض مسند أبي هريرة.
أما الجزء الثالث: فأوله بقية مسند أبي هريرة فبدأ بحديث سعيد
بن المسيب عن أبي هريرة ثم من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن عن
أبي هريرة، ثم المقرونات من حديث أبي سلمة وسعيد عن أبي هريرة.
وكذلك فإن الجزء الرابع احتوى بقية مسانيد الصحابة، وهو في
جميع هذه الأجزاء يرتب المسانيد حسب الأكثر ثم الأقل فيما عدا
مسانيد الخلفاء الراشدين فإنه يبدأ بها، ولو كانت قليلة.
وأما الجزء الخامس فقد تضمن مسند النساء الصحابيات بدءا بعائشة
- رضي الله عنها - ثم أم حبيبة وهكذا حتى ينتهي بقوله آخر مسند
النساء من كتاب العلل.
وقد جاءت عبارة الكتاب على شكل مسائل يقال فيها: وسئل عن حديث
فلان عن فلان ورغم ما فيه من منهجية على المسانيد إلا أنه صعب
التناول فلا بد من معرفة إسناد الحديث للبحث عن علته ثم نقلب
صفحات الكتاب لنهتدي إلى مكان هذا الصحابي فيه ثم الرواة عنه
حتى نصل إلى المطلوب، ولو رتب الكتاب ترتيبا أبجديا أو على
أبواب الفقه لكانت الفائدة منه أكبر وأعم، وفي هذا يقول ابن
كثير: "ولكنه يعوزه شيء لا بد منه وهو أن يرتب على الأبواب
ليقرب تناوله للطلاب، أو أن تكون أسماء الصحابة الذين اشتمل
عليهم مرتبة على أبواب المعجم ليسهل الأخذ منه فإنه مبدد جدا،
لا يكاد الإنسان يهتدي إلى مطلوبه منه بسهولة".
نماذج من كتاب العلل للدارقطني:
ومن حديث ابن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه
وسلم: "وسئل عن حديث ابن المسيب عن أبي هريرة أن النبي
(1/88)
صلى الله عليه وسلم حض على صدقة رمضان،
فقال: على المرء صاع من تمر أو صاع من شعير أو صاع من قمح".
فقال: يرويه الزهري واختلف عنه في إسناده، وفي لفظه، فرواه بكر
بن الأسود، عن عباد بن العوام، عن سفيان بن حسين عن الزهري، عن
سعيد بن المسيب مرسلا وهو الصواب.
وأما في لفظه فإن بكر بن الأسود ذكر في صدقه الفطر، أمر بصاع،
وخالفه إسحاق، فقال: "على كل نفس مدان من قمح" وهو المحفوظ عن
الزهري وكذلك قال عقيل، وعبد الرحمن بن خالد بن مسافر، ومحمد
بن أبي حفصة عن ابن المسيب مرسلا.
وكذلك رواه زهرة بن معبد، ويزيد بن قسيط، عن ابن المسيب.
وعند ابن عدي فيه أقاويل من هذا.
ورواه معمر، عن الزهري، عن الأعرج، عن أبي هريرة.
وقيل عن معمر، عن الزهري، عن أبي هريرة.
وقال النعمان بن راشد، عن الزهري، عن ثعلبة بن أبي صعير عن
أبيه.
وقال يحيى بن خارجة: عن الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة، عن
سليمان بن أرقم، عن أبي هناد، عن سعيد بن المسيب، عن أبي
هريرة.
والمحفوظ عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، وقبل عن سليمان بن
أرقم عن الزهري عن قبيصة بن ذؤيب، عن زيد بن ثابت، عن النبي
صلى الله عليه وسلم.
وسليمان بن أرقم متروك".
ونلاحظ في هذا الحديث عللا في الإسناد من حيث الوصل والقطع،
كما نلاحظ في بعض رواياته علة القوادح الظاهرية، وهي الرواية
عن المتروك من الرواة.
(1/89)
كما نلاحظ العلم الغزير الذي يفيض به
الدارقطني على سائله، ويعرض من الطرق والأسانيد، واختلاف
الرواة ما يصلح تعريفا كاملا بأبعاد علم العلل ومهمة عالم
العلل.
وقد استفاد ابن رجب من هذا الكتاب وأحال عليه في كثير من مواضع
كتابه.
(1/90)
|