شرح علل الترمذي الفصل الثالث دراسة حول علم العلل من خلال
كتاب ابن رجب "شرح علل الترمذي"
وفيه مباحث:
المبحث الأول: في أسباب العلة من خلال كتاب ابن رجب.
المبحث الثاني: في معرفة العلة والكشف عنها من خلال كتاب ابن
رجب.
المبحث الثالث: في أنواع العلل من خلال كتاب ابن رجب.
المبحث الرابع: في الأشباه في العلل من خلال كتاب ابن رجب.
(1/91)
المبحث الأول في
أسباب العلة من خلال كتاب ابن رجب
تمهيد
لقد حاولت من خلال استقراء "شرح علل الترمذي" لابن رجب، وغيره
من كتب العلل أن أحدد أهم الأسباب التي تؤدي إلى حدوث العلة،
إذ الكلام عن هذه الأسباب، منظما مجتمعا، لم يقع لي في كتاب من
الكتب التي تعرضت للعلل، ومع أن كتاب ابن رجب هو كتاب العلل
الوحيد الذي تكلم على العلل كعلم له قواعده وأقسامه إلا أنه لم
يفصل أسباب العلل في مبحث مستقل، وإنما عرض لها في مواضع
متفرقة. ولعل دراستنا هذه هي بداية المحاولة في هذا الترتيب
النظري لعلم العلل.
وفيما يلي عرض لهذه الأسباب والكلام عليها، مع ذكر كلام ابن
رجب في كل منها:
السبب العام:
هو الذي يقف وراء الكثير من هذه العلل، إلا أنه الضعف البشري
الذي لا يسلم منه مخلوق، ولا عصمة إلا لله ولكتابه ولرسوله صلى
الله عليه وسلم وما وراء ذلك ناس يصيبون ويخطئون، ويتذكرون
وينسون، وينشطون ويغفلون، على ما بينهم من تفاوت في ذلك بين
مكثر مقل.
ودخول الوهم والخطأ على الصحابة والتابعين والأئمة المتقدمين
شيء معروف عند العامة والخاصة، وقد أشار الترمذي في "علله آخر
الجامع" إلى
(1/93)
هذا في القسم الرابع من الرواة عنده، وهم
الحفاظ الذي يندر أو يقل الغلط في حديثهم، وهؤلاء هم الطبقة
العليا من الرواة، فهو لم يصفهم بالضبط التام الكامل، بل قال:
وإنما تفاضل أهل العلم بالحفظ والإتقان مع أنه لم يسلم من
الخطأ والغلط كبير أحد من الأئمة. فالضبط التام الكامل هو ضبط
نسبي يدخل فيه الوهم والخطأ القليل النادر. وهذا احتراز ينبغي
أن يدخل صراحة في شرط رجال الصحيح، وإن كان قد تناوله تعريف
الحديث الصحيح بصورة غير مباشرة، عند ذكرهم سلامة الحديث من
الشذوذ والعلة القادحة.
وقد تناول ابن رجب في شرحه لعلل الترمذي هذا القسم الرابع الذي
ذكره الترمذي بالشرح وذكر أقوال العلماء في أخطاء الثقات
وأوهامهم فقال:
"وذكر الترمذي ههنا حكم القسم الرابع، وهم الحفاظ المتقنون
الذين يقل خطؤهم، وذكر أنه لم يسلم من الخطأ كبير أحد من
الأئمة، على حفظهم.
وقال ابن معين: من لم يخطئ في الحديث فهو كذاب.
وقال أيضا: لست أعجب ممن يحدث فيخطئ، إنما أعجب ممن يحدث
فيصيب.
وقال ابن المبارك: ومن يسلم من الوهم وقد وهمت عائشة جماعة من
الصحابة في رواياتهم وقد جمع بعضهم جزءا في ذلك.
ووهم سعيد بن المسيب ابن عباس في قوله: تزوج النبي صلى الله
عليه وسلم ميمونة وهو محرم".
وذكر ابن رجب في ذلك كلاما لأبي الحسن الدارقطني بعد ذكر بعض
الأوهام في روايات الصحابة، وقول الدارقطني: مثل هذا في
الصحابة، أي الوهم والخطأ.
(1/94)
وأما أوهام كبار أئمة الحديث، فقد ذكر ابن
رجب أقوالا فيها:
قال أحمد: كان مالك من أثبت الناس وكان يخطئ.
وقال البرذعي: شهدت أبا زرعة، وذكر عبد الرحمن بن مهدي ومدحه
وأطنب في مدحه، وقال: وهم في غير شيء، ثم ذكر عدة أسماء صحفها.
وهذه الأسماء ورد النص بها في كتاب البرذعي وهي: قول ابن مهدي:
شهاب بن شريفة، وإنما هو شهاب بن شرنقة. وقال: عن هشام عن
الحجاج عن عائذ بن بطة وإنما هو ابن نضلة.
وقال: قيس بن جبير، وإنما هو قيس بن حبتر (وزن جعفر) التميمي.
وفيما يلي عرض لأحاديث وهم فيها كبار الثقات:
منهم شعبة بن الحجاج: وثناء العلماء على شعبة جزيل طويل، فهو
أمير المؤمنين في الحديث، ورجل روى عنه شعبة لا يسأل عنه، وكان
الثوري يقول: أستاذنا شعبة. وقال الشافعي: لولا شعبة ما عرف
الحديث بالعراق. ولكن لشعبة أوهاما، وفي حديثه علل، وإن كانت
قليلة، وقد وقف النقاد عليها:
مثال:
أخرج الترمذي في العلل الكبير قال:
حدثنا محمود بن غيلان، قال (أنا) أبو داود، قال: (أنا) شعبة،
قال: (أنا) عبد ربه بن سعيد، قال: سمعت أنس بن أبي أنس، عن عبد
الله بن نافع بن العمياء، عن عبد الله بن الحارث بن المطلب، أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الصلاة مثنى مثنى، تشهد في
ركعتين، وتبؤس، وتمسكن، وتقنع وتقول: اللهم، اللهم، فمن لم
يفعل ذلك فهي خداج".
وقال الليث: (أنا) عبد ربه بن سعيد، عن عمران بن أبي أنس، عن
96
عبد الله بن نافع بن العمياء، عن ربيعة بن الحارث، عن الفضل بن
عباس.
سمعت محمد بن إسماعيل يقول: رواية الليث بن سعد أصح من حديث
شعبة.
وشعبة أخطأ في هذا الحديث في مواضيع:
- فقال: عن أنس بن أبي أنس، وإنما هو عمران بن أبي أنس.
- وقال: عن عبد الله بن الحارث، وإنما هو عن عبد الله بن نافع،
عن ربيعة بن الحارث.
- وربيعة بن الحارث هو ابن المطلب، فقال: هو: عن المطلب.
- ولم يذكر فيه: عن الفضل بن العباس.
هذه أوهام لشعبة ذكرها البخاري جوابا على سؤال الترمذي له،
وفيها بيان جلي لأخطاء الثقات ولو كانوا بمنزلة شعبة، وقد ذكر
ابن أبي حاتم كلاما للإمام أحمد في أوهام شعبة، فقال:
(قال أحمد: ما أكثر ما يخطئ شعبة في أسامي الرجال.
وقال أحمد: كان شعبة يحفظ، لم يكتب إلا شيئا قليلا، وربما وهم
في الشيء) ، وفي العبارة الأخيرة كشف عن مصدر الوهم والخطأ عند
هذا الإمام الفذ.
ورجل آخر شارك شعبة في الفضل والعصر، ولا يقل عنه إن لم يزد في
الحفظ والعلم، وهو إمام دار الهجرة مالك بن أنس. وقد ترجم له
ابن رجب ترجمة ضافية وافية جمع شتاتها ودورها من كثير من
المراجع في التواريخ والرجال، ولكن هذا الفضل لم يمنع أن يسجل
النقاد على مالك مآخذ وعللا في بعض رواياته:
(1/95)
فقد أخذ عليه الجماهير روايته عن عبد
الكريم أبي أمية وهو متهم بالكذب.
وأما مثال العلة في حديثه، فمما ذكره ابن أبي حاتم في علله.
سألت أبي عن حديث رواه مالك، عن عمرو بن الحارث، عن عبيد بن
فيروز عن البراء، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الضحايا"
فقال أبي: نقص مالك من هذا الإسناد، إنما هو سليمان بن عبد
الرحمن الدمشقي، عن عبيد بن فيروز، عن البراء، عن النبي صلى
الله عليه وسلم.
واستيفاء لهذا الموضوع نذكر رجلا ثالثا لا يقل عن سابقيه في
الإمامة والفضل وهو الليث بن سعد إمام أهل مصر، ومع علو رتبته
في الحفظ والضبط إلا أن النقاد سجلوا عليه عللا في حديثه، مثال
ذلك، ما رواه ابن أبي حاتم في علله، قال:
سمعت أبا زرعة، وحدثنا عن يحيى بن بكير، عن زيد بن أسلم، عن
عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، قال: قالوا: يا رسول الله، أصحاب
الحمر، قال: "لم ينزل علي في الحمر إلا هذه الآية الفاذة، (فمن
يعمل مثقال ذرة خيرا يره) إلى آخر السورة. قال أبو زرعة: وهم
فيه الليث، إنما هو زيد بن
(1/97)
أسلم عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي
صلى الله عليه وسلم.
ونختم هذا السبب العام، الذي لا يكاد يخرج من تأثيره أحد من
الحفاظ، بما ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، وهو نص يؤكد
وقوع بعض الأوهام في روايات الحفاظ، ويكشف عن القدر من الخطأ
الذي يبقى معه الحافظ، الضابط الإمام، على رتبته في الإمامة
والضبط:
(أنا) أبي، أخبرنا سليمان بن أحمد الدمشقي، قال: قلت لعبد
الرحمن بن مهدي: اكتب عمن يغلط في عشرة؟ قال: نعم. قيل له:
يغلط في عشرين قال: نعم. قلت: فثلاثين؟ قال: نعم. قلت: فخمسين؟
قال: نعم.
وهكذا، فإنه يمكننا أن نرجع قسما، لا بأس به، من علل الحديث
لأخطاء مثل هؤلاء الجهابذة، ويعتبر كشف هذه العلل من أعلى
مراتب هذا العلم، وذلك لخفائها واستتارها بمنزلتهم في الحفظ
والضبط.
وفي هذا درس بالغ لأعداء السنة، والطاغين فيها، ليعلموا أية
حراسة حرس الله بها سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وليدركوا أنه
ما دامت منزلة كبار الأئمة لم تمنع من تتبع رواياتهم ونقدها
وتمحيصها، وبيان الخطأ فيها، فمن باب أولى أن يكشف وهم غيرهم،
وعبث العابثين مهما كانت غايتهم، ومهما استخدموا من أساليب
التزوير والكذب.
السبب الثاني:
هو ما اتصف به بعض رواة الآثار من خفة الضبط، وكثرة الوهم، مع
بقاء عدالتهم. وهؤلاء هم الذين ذكرهم الترمذي في علله (آخر
الجامع) بقوله: أهل صدق وحفظ، ولكن يقع الوهن في حديثهم كثيرا.
وعلى أسلوب ابن رجب في توليد الموضوعات من الكلمات، فقد شرح
عبارة الترمذي وحشد لها عيون الشواهد من كلام أرباب هذه
الصنعة، فقال:
(1/98)
(وهم أيضا أهل صدق وحفظ، ولكن يقع الوهم في
حديثهم كثيرا، ولكن ليس هو الغالب عليهم، وهذا هو القسم الذي
ذكره الترمذي ههنا. وذكر عن يحيى بن سعيد أنه ترك حديث هذه
الطبقة.
وعن ابن المبارك وابن مهدي ووكيع وغيرهم أنهم حدثوا عنهم، وهو
أيضا رأي سفيان وأكثر أهل الحديث، والمصنفين منهم في السنن
والصحاح، كمسلم بن الحجاج وغيره فإنه ذكر في مقدمة كتابه أنه
لا يخرج حديث من هو متهم عند أهل الحديث، أو عند أكثرهم، ولا
من الغالب على حديثه المنكر أو الغلط.
وذكر قبل ذلك أنه يخرج حديث أهل الحفظ والإتقان، وأنهم على
ضربين:
أحدهما: من لم يوجد في حديثه اختلاف شديد، ولا تخليط فاحش.
والثاني: من هو دونهم في الحفظ والإتقان، وشملهم اسم الصدق
والستر، وتعاطى العلم كعطاء بن السائب ويزيد بن أبي زياد وليث
بن أبي سليم) .
من كل هذا نعلم أن حديث هؤلاء الذين كثر غلطهم، مقبول عند
جماهير علماء الحديث، ولا يعين قبول حديثهم أن يؤخذ دونما
تمييز بين الصواب والخطأ بل استطاع النقاد أن يحصوا ما لهم من
أوهام ويسجلوا شوارد أخبارهم شواذها، فكان نصيب كتب العلل من
هذه الأوهام كبيرا. وكثيرا ما نقرأ الحديث في هذه الكتب ثم
تذكر علته، ويقال بعد ذلك، أخطأ فيه شريك، وهم فيه عطاء
الخراساني ... وهكذا.
وقد ذكر ابن رجب في شرحه لعلل الترمذي عددا من هؤلاء الثقات
الذين يكثر الخطأ في حديثهم، مع ترجمة قصيرة لكل منهم، فأنار
سبيل سالك هذا الدرب بمعرفتهم، وأتاح لدارسي الكتاب فرصة كشف
كثير من العلل.
(1/99)
فذكر من هذا الصنف، محمد بن عمرو بن علقمة
بن وقاص الليثي، وعبد الرحمن بن حرملة المدني، وشريك بن عبد
الله النخعي قاضي الكوفة، وأبا بكر بن عياش المقرئ الكوفي،
والربيع بن صبيح، ومبارك بن فضالة، وسهيل بن أبي صالح، ومحمد
بن إسحاق، ومحمد بن عجلان، وحماد بن سلمة، وغيرهم.
وسيرا على المنهج التطبيقي الذي التزمته في هذه الدراسة،
فسأمثل لحديث هؤلاء الرواة، وأذكر عللا سجلها النقاد في
مصنفاتهم عليهم:
ومثال ذلك ما ذكره الترمذي في علله قال
(حدثنا علي بن نصر الجهضمي، (نا) بشر بن عمر، (نا) شعيب بن
زريق أبو شيبة، قال: حدثنا عطاء الخراساني، عن عطاء بن أبي
رباح، عن ابن عباس، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول:
"عينان لا تمسهما النار، عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس
في سبيل الله".
سألت محمدا عن هذا الحديث فقال: شعيب بن زريق مقارب الحديث،
ولكن الشأن في عطاء الخراساني، ما أعرف لمالك بن أنس رجلا يروي
عنه مالك يستحق أن يترك غير عطاء الخراساني. قلت له: ما شأنه؟
قال: عامة أحاديثه مقلوبة.
ثم ذكر البخاري أمثلة لهذه الأحاديث المقلوبة التي يرويها عطاء
الخراساني. روى عطاء الخراساني، عن سعيد بن المسيب أن رجلا أتى
النبي صلى الله عليه وسلم وأفطر في رمضان، وبعض أصحاب سعيد بن
المسيب يقولون سألت سعيدا عن هذا الحديث، فقال: "كذب على عطاء
لم أحدث هكذا".
(1/100)
وروى عطاء، عن أبي سلمة، عن عثمان وزيد بن
ثابت في الإيلاء: إذا أمضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة. وروى
حبيب بن أبي ثابت، عن طاوس، عن عثمان: أنه قال في المولي يوقف)
.
وعطاء الخراساني، بالرغم من أن البخاري جعل عامة أحاديثه
مقلوبة ونعته بالضعف، إلا أن بقية العلماء احتجوا بحديثة
الخالي من الوهم والخطأ، وروى عنه مسلم وأصحاب السنن الأربعة،
(وقد وثقه ابن معين، وقال ابن أبي حاتم عن أبيه ثقة صدوق، قلت
يحتج به، قال: نعم. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال الدارقطني:
ثقة في نفسه) . وتوثيق هذا العدد الغفير له يدفع رأي البخاري
فيه، ومع هذا الدفع تبقى لعطاء أوهامه وعلله.
ويشابه عطاء الخراساني في مرتبته وأوهامه شريك بن عبد الله
النخعي، فيما يلي مثال على العلة في حديثه: قال الترمذي في
علله الكبير: "حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي، (نا) يزيد بن
هارون عن شريك، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن وائل بن حجر،
قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع ركبتيه إذا سجد
قبل يديه".
قال يزيد: لم يرو شريك عن عاصم بن كليب إلا هذا الحديث الواحد.
قال أبو عيسى: وروى همام بن يحيى، عن شقيق، عن عاصم بن كليب
شيئا من هذا مرسلا، لم يذكر فيه، عن وائل بن حجر، وشريك بن عبد
الله كثير الغلط والوهم.
وشريك هذا الذي وهم في هذا الحديث كما وهم في غيره، قال عنه
ابن معين: ثقة ثقة، وقال عنه العجلي: كوفي ثقة، وقال عبد
الرحمن بن أبي حاتم: وسألت أبي عن شريك وأبي الأحوص أيهما
إليك؟ قال: شريك، وقد كان له أغاليط وقال النسائي: ليس به بأس.
وقال ابن عدي" والغالب على حديثة الصحة والاستواء، والذي يقع
في حديثه من النكرة إنما أتى به من سوء حفظه، والغالب في من
يوثق شريكا أنه يذكر خفة ضبطه وكثرة أوهامه ولكنه مع كل هذا
يبقى من أهل الصدق والستر ولا تزول عنه رتبة الاحتجاج بحديثه.
ولقد وصف بعض الحفاظ الثقات بكثرة الوهم، ولا شك أنهم يقلون في
أوهامهم عن مثل شريك وعطاء بن السائب، وهؤلاء مثل عبد الرزاق
بن همام، ومعمر بن راشد الصنعانيين، قال ابن أبي حاتم في علله:
سألت أبي وأبا زرعة عن حديث رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن أبي
إسحاق عن صلة، عن عمار، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
"ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: الإنفاق من الاقتار ...
الحديث".
فقالا: هذا خطأ: هذا خطأ. رواه الثوري وشعبة وإسرائيل وجماعة
يقولون: عن أبي إسحاق، عن صلة، عن عمار، قوله. لا يرفعه أحد
منهم.
والصحيح موقوف عن عمار. قلت لهما: الخطأ ممن؟ قال أبي: أرى من
عبد الرزاق، أو معمر فإنهما جيعا كثيرو الخطأ".
السبب الثالث - الاختلاط أو الآفة العقلية:
وقد تكلم ابن رجب عن هذا السبب أثناء الكلام عن اختلاط
المشاهير من الثقات. وقد جعل هذا نوعا من القسم الثاني من
أقسام علم العلل، وبيان ذلك: أنه قسم علم العلل إلى قسمين:
القسم الأول: في معرفة مراتب الثقات، قول من يقدم منهم عند
الاختلاف.
(1/101)
القسم الثاني: ذكر قوم من الثقات، لا يذكر
أكثرهم غالبا في كتب الجرح، وقد ضعف حديثهم - أما في بعض
الأوقات، وهم المختلطون.
أو في بعض الأماكن.
أو عن بعض الشيوخ.
فيكون ابن رجب قد ذكر هذا السبب في صورة طائفة من مشاهير
الثقات، ففصل حالة كل منهم، ذاكرا زمان الاختلاط ومكانه، ومن
روى عنه في الاختلاط، ومن روى عنه قبله، وضابط اختلاطه، وخلال
الكلام عنه يشير إلى أحاديث رويت عنه في الاختلاط.
مفهوم الاختلاط:
والاختلاط آفه عقلية تورث فسادا في الإدراك، وتصيب الإنسان في
آخر عمره، أو تعرض له بسبب حادث ما، كفقد عزيز، أو ضياع مال،
ومن تصيبه هذه الآفة لكبر سنة يقال فيه: اختلط بأخرة.
ورغم أن كثيرا من الناس يختلطون إلا أن الاختلاط إذا أطلق
انصرف إلى فئة قليلة منهم، وهي فئة المحدثين، وذلك لما في
اختلاط المحدث من أثر على روايته، لا سيما وأنه الثقة العدل،
المحتج به.
الكشف عن الاختلاط
والكشف عن الاختلاط يلقي على الناقد، رجل العلل، مهمة عسيرة
وشاقة، إلى جانب أنها دقيقة وخطيرة، فهي لا تقتصر على متابعة
المحدث في فترة دون فترة، أو مكان دون آخر أو عن شيخ دون سواه،
بل تمتد مهمة رجل العلل حتى وفاة الرجل موضع النقد والعلة،
ولمعرفة طريقة النقاد في الكشف عن الاختلاط، وتحديد زمنه يحسن
بنا أن نستشهد بما ذكره البرذعي في مسائله لأبي زرعة الرازي،
قال:
(1/103)
قلت لأبي زرعة: قرة بن حبيب تغير. فقال:
نعم، كنا أنكرناه بأخرة، غير أنه كان لا يحدث إلا من كتابه،
ولا يحدث حتى يحضر ابنه، ثم تبسم، فقلت: لم تبسمت؟ قال: أتيته
ذات يوم وأبو حاتم، فقرعنا عليه الباب، واستأذنا عليه، فدنا من
الباب ليفتح لنا فإذا ابنته قد لحقت، وقالت: يا أبت، إن هؤلاء
أصحاب الحديث، ولا آمن أن يغلطوك أو أن يدخلوا عليك ما ليس من
حديثك، فلا تخرج إليهم، حتى يجيء أخي، تعني علي بن قرة، فقال
لها: أنا أحفظ فلا أمكنهم ذاك، فقالت: لست أدعك تخرج إليهم
فإني لا آمنهم عليك. فما زال قرة يجتهد، ويحتج عليها في
الخروج، وهي تمنعه، وتحتج عليه في ترك الخروج إلى أن يجيء علي
بن قرة، حتى غلبت عليه، ولم تدعه.
قال أبو زرعة: فانصرفنا وقعدنا حتى وافى ابنه علي.
قال أبو زرعة: "فجعلت اعجب من صرامتها، وصياتنها أباها".
هذه القصة تسلط ضوءا باهرا على قضية الاختلاط، سواء من جانب
النقاد الذين يكشفون على الرواة كما يكشف الطبيب على مرضاه، أو
من جانب أهل المختلط وذويه الذين لا يذرون صاحبهم دونما رقابة
ومتابعة. وإنما هم خير عون للناقد على مهمته، إما بمنع المختلط
من الرواية، أو صيانة كتبه وإلزامه التحديث منها، مع الرعاية
والإشراف.
وأحيانا كان الناقد يدخل على المختلط يخضعه لاختبار دقيق فيقلب
عليه الأسانيد والمتون. ويلقنه ما ليس من روايته، فإن لم يتنبه
الشيخ لما يراد به فإنه يتأكد اختلاطه ويحذر الناس من الرواية
عنه:
روى أبو محمد الرامهرمزي من طريق يحيى بن سعيد، قال:
"قدمت الكوفة وبها ابن عجلان وبها من يطلب الحديث، مليح بن
وكيع. وحفص بن غياث، وعبد الله بن إدريس، ويوسف بن خالد
التيمي، قلنا: نأتي ابن عجلان نقلب على هذا الشيخ ننظر فهمه.
قال: فقلبوا، فجعلوا ما كان
(1/104)
عن سعيد عن أبيه، وما كان عن أبيه عن سعيد،
ثم جئنا إليه، لكن ابن إدريس تورع وجلس بالباب، وقال: لا أستحل
وجلست معه، ودخل حفص ويوسف بن خالد ومليح، فسألوه فمر فيها،
فلما كان عند آخر الكتاب انتبه الشيخ، فقال: أعد العرض، فعرض
عليه، فقال: ما سألتموني عن أبي، فقد حدثني به سعيد، وما
سألتموني عن سعيد، فقد حدثني به أبي".
ولكن بصيرة الناقد ويقظة المجتمع ليس لهما تلك القدرة التي
تحدد ساعات بدء الاختلاط، إذ الاختلاط حالة عقلية تبدأ خفية ثم
يتعاظم أمرها بالتدريج، وبين الخفاء والظهور يكون المختلط قد
روى أحاديث تناقلها الثقات عن الثقات وما دورا أنهم أخذوها عن
الثقة، ولكن في اختلاطه.
وهكذا تدخل العلة من هذا الطريق، الذي هو طريق الاختلاط، ولكن
رجال هذا العلم بما لديهم من وسائل الدراية، يقفون بالمرصاد
لتمييز الصحيح من السقيم.
وفيما يلي مثال على حديث علته اختلاط راويه:
قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: "سألت أبي وأبا زرعة عن حديث رواه
زكريا بن أبي زائدة وزهير، فقال أحدهما: عن أبي إسحاق، عن عمرو
بن ميمون، عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان
يتعوذ من خمس: من البخل والجبن، وسوء العمر، وفتنة الصدر. روى
هذا الحديث الثوري، فقال: عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن
النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ، مرسل. والثوري أحفظهم. وقال
أبي: أبو إسحاق كبر، وساء حفظه بأخرة، فسماع الثوري منه قديم،
قال أبو زرعة: تأخر سماع زهير وزكريا من أبي إسحاق".
(1/105)
أشهر الرواة الذين اختلطوا:
وقد ذكر ابن رجب طائفة من مشاهير المختلطين، وفصل أحوالهم، وما
يتعلق باختلاطهم، وهم: عطاء بن السائب الثقفي، وحصين بن عبد
الرحمن السلمي، وسعيد بن إياس الجريري، وسعيد بن أبي عروبة،
وعبد الرحمن بن عبد الله المسعودي، وأبان بن صمعة، وسفيان بن
عيينة، وأبو قلابة الرقاشي، ومحمد بن الفضل السدوسي.
وتناول ابن رجب للمختلطين تناول فريد بين الكتب التي تعرضت
لهم، وقد حرص ابن رجب على ما يلي:
1 - ذكر اسم المختلط ونسبه وكنيته وموطنه.
2 - بيان أقسام الرواة عنه، وجعلهم على أقسام:
- الذين رووا عنه قبل اختلاطه.
- الذين رووا عنه بعد اختلاطه.
- الذين رووا عنه قبل الاختلاط وبعده ولم يميزوا هذا من هذا.
- الذين رووا عنه قبل اختلاطه وبعده وميزوا هذا من هذا.
3 - ذكر ضابط التمييز بين السماع قبل الاختلاط وبعده.
وقد فصل ابن رجب في هذا الأمر الثالث، وجمع أقوال العلماء التي
تصلح ضابطا للتمييز بين الرواية عنه قبل الاختلاط وبعده. ونرى
مثل هذا في كلامه على اختلاط عطاء بن السائب، فقال:
وقد اختلفوا في ضابط من سمع منه قديما، ومن سمع منه بأخرة.
- فمنهم من قال: من سمع منه بالكوفة فسماعه صحيح ومن سمع منه
بالبصرة، فسماعه ضعيف.
- ومنهم من قال: دخل عطاء البصرة مرتين، فمن سمع منه في المرة
الأولى فسماعه صحيح ومنهم الحمادان والدستوائي، ومن سمع منه في
المقدمة الثانية فسماعه ضعيف، منهم وهيب وإسماعيل بن علية.
(1/106)
- ومنهم من قال: إن حدث عطاء عن رجل واحد
فحديثه جيد، وإن حدث عن جماعة فحديثه ضعيف. وهو ضابط التمييز
عند شعبة بالنسبة لروايات عطاء.
- ومنهم من قال حديث شعبة وسفيان عنه صحيح لأنه قبل الاختلاط.
كل هذا يدلنا على الجهد الذي بذله علماؤنا في تتبع هذا السبب
من أسباب العلة، وبالرجوع إلى قسم التحقيق نطلع على مزيد في
هذا، فجزى الله ابن رجب عنا خير الجزاء.
السبب الرابع - خفة الضبط بالأسباب العارضة:
ونقصد بالأسباب العارضة أمورا تعرض للمحدث، تؤثر في ضبطه، دون
أن تؤثر في إدراكه، وبهذا نميز هذه الأمور العارضة عن
الاختلاط، ولا أرى ضمها إلى الاختلاط كما فعل السخاوي في كتابه
"فتح المغيث". وهذه العوارض تعتري المحدث الذي يعتمد على كتابه
في الرواية، فإذا ضاع الكتاب أو احترق، أو أضر الراوي، أو لم
يصطحب كتابه معه إذا رحل، في كل هذه الحالات يختل ضبط الراوي،
ويكون سبب خفة الضبط هذا العارض الذي اعترض المحدث.
وقد تعرض ابن رجب - رحمه الله - لهذه الأسباب من العوارض في
أكثر من مكان من كتابه الذي نحن بصدده، فأطال في ذكر من حدث في
مكان لم تكن معه كتبه فخلط، وحدث في مكان آخر من كتبه فضبط،
وكان هذا هو الضرب الأول من النوع الثاني الذي هو من ضعف حديثه
في بعض الأماكن دون بعض، كما تعرض ابن رجب للمحدث الذي كان كل
اعتماده على كتبه
(1/107)
فأضر فخف ضبطه لذلك، ونجد هذا في آخر كلام
ابن رجب عن المختلطين تحت عنوان: "من يلتحق بالمختلطين ممن أضر
في آخر عمره".
وقبل الكلام عن هذه العوارض نرى ضرورة التنبيه إلى أن من لا
يحفظ إذا روى من كتابه فروايته جائزة، إذا كان صادقا ضابطا
للكتاب، وهذا معروف في شرط الحديث الصحيح، وهو أن يكون راويه
ضابطا لما في صدره أو لما في كتابه وقد تعرض ابن رجب لهذا
أثناء كلامه عن الرواية عن الضرير والأمي إذا لم يحفظا، وهما
بمنزلة من ليس له كتاب في هذه الحالة. ونقل ابن رجب قول أحمد
فيهما وخلاصته أنه لا يجوز أن يحدثا إلا بما سمعا.
وقد ذكر الخطيب البغدادي في كفايته كلاما أسنده إلى مروان بن
محمد، قال: "لا غنى لصاحب الحديث عن ثلاث: صدق وحفظ، وصحة
كتاب، فإن كانت فيه ثنتان وأخطأته واحدة لم يضره: إن كان صدق،
وصحة كتب ولم يحفظ ورجع إلى كتب صحيحة"، وروى الخطيب كذلك،
بسنده إلى يحيى بن معين قوله: "ينبغي للمحدث أن يتزر بالصدق،
ويرتدي بالكتب". ودفعا لما قد يدخل على الكتاب من زيادة أو نقص
فقد وضع المحدثون مبادىء لا بد من التزامها أثناء الكتاب وقد
طول الخطيب في الكلام على هذه المبادىء في كتابه"الجامع لأخلاق
الراوي وآداب السامع"
ولكن ضبط الكتاب لا يغني، وبالتالي يقع المحذور، في حالة بعد
الكتاب أو فقده وفقد آلة النظر في الكتاب. ومن هنا دخلت العلة
في أحاديث بعض الثقات فكان لا بد من دخول الناقد، رجل العلل،
في دائرة أحاديث هؤلاء الثقات لتمييز سقيمها معلولها من صحيحها
ومستقيمها.
(1/108)
وممن خف ضبطه لبعده عن كتبه معمر بن راشد،
وهذا الرجل عده علي بن المديني ممن دار الإسناد عليهم، وثناء
العلماء عليه عظيم، ولكن ذلك لم يمنع من أن يقال فيه: إذا حدثك
معمر عن العراقيين فخفه، إلا عن الزهري وابن طاوس فإن حديثه
عنهما مستقيم، فأما أهل الكوفة وأهل البصرة فلا. ونقل ابن رجب
عن الإمام أحمد قوله: حديث عبد الرزاق عن معمر أحب إلي من حديث
هؤلاء البصريين، كان يتعاهد كتبه وينظر فيها، يعني في اليمن،
وكان يحدثهم بخطأ بالبصرة، كما ذكر ابن رجب مثالا من الأحاديث
المعلولة التي تكشف عن أمر معمر بالعراق، وذلك أن معمرا روى
حديثا وهو: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى أسعد بن زرارة من
الشوكة".
رواه باليمن عن الزهري، عن أبي أمامة بن سهل مرسلا، ورواه
بالبصرة عن الزهري عن أنس، والصواب المرسل.
وأما عبد الله بن لهيعة، قاضي مصر، فهو ممن أجمع العلماء على
خفة ضبطه قبل موته بسنين، والأكثر على أن هذا راجع إلى احتراق
كتبه، روى العقيلي من طريق البخاري عن أبي بكير، قال: احترقت
كتب ابن لهيعة سنة سبعين ومائة، وقال ابن خراش كان يكتب حديثه،
احترقت كتبه، فكان من جاء بشيء قرأه عليه حتى لو وضع أحد حديثا
وجاء به إليه قرأه ليه، قال الخطيب فمن ثم كثرت المناكير في
روايته لتساهله، وقال يحيى بن حسان: رأيت مع قوم جزءا سمعوه من
ابن لهيعة فنظرت فإذا ليس هو من حديثه، فجئت إليه، فقال: ما
أصنع؟ يجيئون بكتاب فيقولون: هذا من حديثك، فأحدثهم.
(1/109)
وقد فصل ابن رجب في الكلام عن ابن لهيعة،
وذكر أقوال العلماء في تضعيفه من قبل حفظه، وساق بعض أحاديث
رواها فوهم فيها.
قال ابن حجر في تهذيب التهذيب: ومن أشنع ما رواه ابن لهيعة ما
أخرجه الحاكم في المستدرك من طريقه. عن أبي الأسود عن عروة عن
عائشة، قال: "مات رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذات الجنب"
وهذا مما يقطع ببطلانه لما ثبت في الصحيح أنه قال لما لدوه:
"لما فعلتم هذا"؟ قالوا: خشينا أن يكون بك ذات الجنب، فقال:
"ما كان الله ليسلطها علي". وإسناد الحاكم إلى ابن لهيعة صحيح،
والآفة فيه من ابن لهيعة.
ومن الحفاظ من خف ضبطه، لضياع كتبه فدخلت الأوهام على حديثه،
فمنهم علي بن مسهر القرشي الكوفي قاضي الموصل، ولي قضاءها
للمهدي (سنة 166هـ) ، وكان ثقة صالح الكتاب قبل ذهاب كتبه.
نقل ابن رجب عن الإمام أحمد - من رواية الأثرم - أنه أنكر
حديثا، فقيل له: رواه علي بن مسهر، فقال: إن علي بن مسهر كانت
كتبه قد ذهبت فكتب بعد، فإن كان روى هذا غيره، وإلا فليس بشيء
يعتمد.
ومن أسباب خفة الضبط - وبالتالي دخول الوهم والعلل - الانشغال
عن العلم حفظا وكتابة وضبطا، وقد ذكر هذا السبب في علل من
تولوا القضاء كشريك بن عبد الله النخعي وحفص بن غياث. فإما
شريك فقد ولي قضاء واسط (سنة 155هـ) (وقال عنه العجلي: - بعد
ما ذكر أنه ثقة - وكان صحيح القضاء، ومن سمع منه قديما فحديثه
صحيح، ومن سمع منه بعدما ولي القضاء ففي سماعه بعض الاختلاط،
وقال صالح جزرة: صدوق، لما ولي القضاء
(1/110)
اضطرب حفظه) . ونقل ابن رجب قولا لأحمد -
من رواية الأثرم - ذكر فيه سماع أبي نعيم من شريك، فقال: سماع
قديم، وجعل يصححه، وقال أحمد في رواية ابنه عبد الله: قال لي
حجاج بن محمد: كتبت عن شريك نحوا من خمسين حديثا عن سالم قبل
القضاء. وقد سبق أن مثلت لأحاديث أعلها النقاد من وراية شريك،
وكان معرض ذكرها خفة الضبط كسبب عام ويشمل روايات المحدث كلها،
وأما ما نحن فيه فهو الكلام عن حالة خاصة تعتري المحدث. وحديث
شريك قبل القضاء الغالب عليه القبول، وأما بعد القضاء فالغالب
عليه الرد ومن ذلك ما رواه ابن أبي حاتم في علله قال: (سألت
أبي عن حديث رواه شريك عن عاصم الأحول، عن الشعبي عن ابن عباس:
"أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم محرم". فقال: هذا
خطأ أخطأ فيه شريك، وروى جماعة هذا الحديث، ولم يذكروا صائما
محرما، إنما قالوا: احتجم وأعطى الحجام أجره فحدث شريك هذا
الحديث من حفظه بأخرة، وكان قد ساء حفظه فغلط فيه) .
وأما حفص بن غياث النخعي، أبو عمر الكوفي، فقد ولي القضاء في
الكوفة وبغداد، وللعلماء كلام كثير في الثناء عليه وتوثيقه،
ولكنه "لما ولي القضاء جفا كتبه"، قال عنه أبو زرعة: ساء حفظه
بعدما استقضي.
ومما أنكر على حفص حديثه، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر
"كنا نأكل ونحن نمشي".
قال ابن معين: تفرد وما أظنه إلا وهم فيه، وقال أحمد: ما أدري
ماذا، كالمنكر له، وقال أبو زرعة: رواه حفص وحده.
(1/111)
ومن الثقات من فقد بصره، وكان يعتمد على
كتبه، فخف ضبطه ووهم فيما حدث به بعد ذلك، وهؤلاء كثيرون، منهم
عبد الرزاق بن همام، فبالرغم من أنه أحد الأئمة المشهورين،
وإليه كانت الرحلة في زمانه في الحديث، حتى قيل أنه لم يرحل
إلى أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رحل إلى عبد
الرزاق، هذا ما قاله ابن رجب معبرا عن توثيق العلماء لهذا
العلم، بالرغم من كل هذا إلا أن حديثه ضعيف بعد فقد بصره، وهذا
ما قرره الإمام أحمد بقوله: عبد الرزاق لا يعبأ بحديث من سمع
منه وقد ذهب بصره، كان يلقن أحاديث باطلة وقد حدث عن الزهري
بأحاديث كتبناها من أصل كتابه جاء بخلافها.
وعلى هذا فآفة عبد الرزاق انه كان يتلقن ولم يوفق بمحدث واحد
ثقة يلقنه.
روى الخطيب بإسناده عن إسحاق بن أبي إسرائيل قال: كان أصحاب
الحديث يلقنون عبد الرزاق من كتبهم فيختلفون في الشيء فيقول
لي: كيف في كتابك؟ فإذا أخبرته صار إليه لما يعرف أنني كنت
أتعب في تصحيحها. وهذه القصة وما قبلها فيهما دلالة واضحة على
أن عبد الرزاق ابتلي بمن يلقنه الباطل أو الضعيف من الحديث،
وعليه يحمل تكذيب من كذبه، وما روى من الفضائل عنه حتى اتهم
بالتشيع.
ومما أدخل على عبد الرزاق ما رواه ابن أبي حاتم في علله، قال:
"سألت أبي عن حديث رواه أبو عقيل بن حاجب، عن عبد الرزاق، عن
سعيد بن قماذين، عن عثمان بن أبي سليمان عن سعيد بن محمد بن
جبير بن مطعم، عن عبد الله بن حبشي، قال: سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: "لا تطرقوا الطير في أوكارها فإن الليل
أمان لها".
(1/112)
قال أبي: يقال إن هذا الحديث مما ادخل على
عبد الرزاق، وهو حديث موضوع".
وقد ذكر ابن رجب ضابطا لرواية الضرير والأمي فقال: وهذا يرجع
إلى أصل وهو أن الضرير والأمي إذا لم يحفظا الحديث فإنه لا
تجوز الرواية عنهما، ولا تلقينهما، ولا القراءة عليها من كتاب،
وقد نص على ذلك أحمد - في رواية عبد الله - في الضرير والأمي
لا يجوز أن يحدثا إلا بما حفظا، وقال: كان أبو معاوية الضرير
إذا حدثنا بالشيء الذي نرى أنه لا يحفظه، يقول: في كتابي كذا
وكذا.
ولقد أخذ على يزيد بن هارون أنه لما أضر كانت جاريته تحفظه من
كتاب فيتلقن.
قال ابن رجب: "وحاصل الأمر أن الناس ثلاثة أقسام: حافظ متقن،
يحدث من حفظه فهذا لا كلام فيه، وحافظ نسي فلقن حتى ذكر أو
تذكر حديثه من كتاب فرجع إليه حفظه، الذي كان نسيه، وهذا أيضا
حكمه حكم الحافظ، ومن لا يحفظ وإنما يعتمد على مجرد التلقين
فهذا الذي منع أحمد ويحيى من الأخذ عنه.
السبب الخامس - قصر الصحبة للشيخ، وقلة الممارسة لحديثه:
أعطى المحدثون طول ملازمة الشيخ وممارسة حديثه أهمية كبيرة
فرجحوا - من أجل ذلك - أسانيد كثيرة على أخرى، وأعانتهم
معرفتهم بالصحبة والممارسة على تمييز كثير من الأوهام والعلل.
114 -
واهتمام النقاد بهذا الأمر جعلهم يتابعون الرواة عن شيخ ما
فيقسمونهم فئات بين الأطول صحبة والأقصر، والأقل ممارسة
والأكثر، وممن اعتنى اعتناء فائقا باختيار أكثر رجاله من بين
الأوثق والأطول صحبة، الإمام محمد بن إسماعيل البخاري، في
كتابه الصحيح، وفي هذا يقول الإمام ابن رجب - في شرحه لعلل
الترمذي - وأما البخاري فشرطه أشد من ذلك، وهو أنه لا يخرج إلا
للثقة الضابط، ولمن ندر وهمه ... ونذكر لذلك مثالا، وهو أن
أصحاب الزهري خمس طبقات.
الطبقة الأولى: جمعت الحفظ والإتقان وطول الصحبة للزهري،
والعلم بحديثه والضبط له، كمالك، وابن عيينة، وعبيد الله بن
عمر، ومعمر، ويونس، وعقيل وشعيب وغيرهم، وهؤلاء متفق على تخريج
حديثهم عن الزهري.
الطبقة الثانية: أهل حفظ وإتقان ولكن لم تطل صحبتهم للزهري،
وإنما صحبوه مدة يسيرة، ولم يمارسوا حديثه، وهم في إتقانه دون
الأولى، كالأوزاعي والليث، وهؤلاء يخرج لهم مسلم عن الزهري.
الطبقة الثالثة: لازموا الزهري وصحبوه ولكن تكلم في حفظهم،
كسفيان بن حسين ومحمد بن إسحاق.
الطبقة الرابعة: قوم رووا عن الزهري من غير ملازمة، ولا طول
صحبة، ومع ذلك تكلم فيهم مثل إسحاق بن أبي فروة، وهؤلاء قد
يخرج الترمذي لبعضهم.
الطبقة الخامسة: قوم من المتروكين والمجهولين، كالحكم الأيلي
وعبد القدوس بن حبيب.
ورجال البخاري - كما دل عليه الاستقراء - هم في معظمهم من
الطبقة الأولى، طبقات الثقات ذات الصحبة والممارسة.
وهكذا نرى أن درجة الثقة وحدها لا تكفي لقبول الحديث، بل لا بد
من
(1/113)
معرفة سياق السند ومعرفة ممارسة كل رجل من
رجاله لحديث شيخه، ومعرفة هذه الممارسة تجعل نظرة المحدث تختلف
- عما قبل المعرفة - وهو يرى حديث الأوزاعي عن الزهري، وحديث
معمر عن الزهري، فمما لا شك فيه أن الأوزاعي أكبر وأجل، ولكن
إسناد معمر أصح وأدق. إذ أن معمر عن الزهري من الطبقة الأولى،
والأوزاعي عن الزهري من الطبقة الثانية لقصر صحبته وقلة
ممارسته.
ومن أجل هذه الممارسة كان بعض المحدثين لا يرضى أن يسمع الحديث
من الشيخ مرة واحدة. قال حماد بن زيد: ما أبالي من خالفني إذا
وافقني شعبة، لأن شعبة كان لا يرضى أن يسمع الحديث مرة واحدة،
يعاود صاحبه مرارا.
وتظهر هذه الممارسة في عبارات القوم وهم يقولون: ليس هذا
الحديث من حديث فلان أو يقولون: هذا الحديث أشبه بفلان، إلى
غير ذلك من العبارات التي تدل على خبرة واسعة بعلاقة الرواة،
بعضهم ببعض.
والجدير بالذكر أن هذه الممارسة قد ترفع الراوي من رتبة الصدوق
إلى رتبة الثقة، أو إلى رتبة أوثق الناس في هذا الشيخ، ومثاله
حماد بن سلمة، فق اتفق النقاد أنه أوثق الناس في ثابت، بالرغم
من أن حمادا بشكل عام كثير الوهم والخطأ.
قال أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم في علله: "وسئل أبو زرعة
عن حديث رواه القعنبي عن سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أبي
موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا سقطت لقمة أحدكم فليمط
عنها، ثم ليأكلها ولا يدعها للشيطان" ورواه حماد بن سلمة عن
ثابت، عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو زرعة حماد
أحفظ".
(1/115)
وقال أبو حاتم في علة حديث ذكره: المسعودي
أفهم بحديث عون وأشبه.
وقال أبو زرعة: محمد بن يزيد عن أشبه لأنه أفهم لحديث أبيه.
وهذا كله في مجال تقديم إسناد على آخر إذ يتقدم الأفهم والأكثر
ممارسة على غيره.
السبب السادس - اختصار الحديث أو روايته بالمعنى:
رأى الجمهور على أن الرواية بالمعنى جائزة وقد دلل ابن رجب على
جوازها بأقوال بعض الصحابة والتابعين، وعلماء الحديث
المتقدمين، وبأن الله يقص قصص القرون السالفة بغير لغاتها، وقد
قيد العلماء هذا الجواز فاشترطوا فيمن يروي الحديث بالمعنى أن
يكون عارفا بمواقع الألفاظ، بصيرا بدلالاتها، حتى لا يحيل
الحلال حراما، أو يضع الدليل في غير مكانه. وفي شرح علل
الترمذي تفصيل لهذا الموضوع، وعرض لأقوال العلماء فيه وأن
الرواية بالمعنى، إن لم يلتزم راويها بشرطها الذي يضمن عدم
الإحالة، فإن هذه الرواية تكون سببا في دخول العلة على الحديث.
وقد مثل ابن رجب لروايات بالمعنى أحال الرواة معناها، لاضطراب
في المقدرة اللغوية، وعدم معرفتهم بلغة العرب، أو عدم إدراك
المراد من الحديث وسببه الذي قيل فيه.
وفي هذا يقول ابن رجب: "وقد روى كثير من الناس الحديث بمعنى
فهموه منه، فغيروا المعنى: مثل ما اختصر بعضهم من حديث عائشة
في حيضها في الحج، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها وكانت
حائضا: "انقضي رأسك وامتشطي" وأدخله في باب غسل الحيض، وقد
أنكر أحمد ذلك على من
(1/116)
فعله، لأن يخل بالمعنى، فإن هذا لم تؤمر به
في الغسل من الحيض عند انقطاعه، بل في غسل الحائض إذا أرادت
الإحرام.
وروى بعضهم حديث "إذا قرأ" يعني الإمام "فأنصتوا" بما فهمه من
المعنى، فقال: إذا قرأ الإمام " (ولا الضالين) فأنصتوا، فحمله
على فراغه من القراءة، لا على شروعه فيها.
وروى بعضهم حديث: كنا نؤديه على عهد رسول الله صلى الله عليه
وسلم يريد زكاة الفطر، فصحف نؤديه، فقال نورثه، ثم فسره من
عنده فقال الجد.
كل هذا تصرف سيئ لا يجوز مثله".
وقد يدخل هذا الوهم على كبار الثقات رغم يقظتهم، وذلك إما
لانشغالهم أثناء التحديث، وإما لحضورهم بعض الحديث دون بعضه
الآخر، ومثال ذلك:
ما رواه أبو داود في سننه "عن زيد بن ثابت قوله في كراء
المزارع: يغفر الله لرافع بن خديج، أنا - الله - أعلم بالحديث
منه، إنما أتاه رجلان، - قال مسدد: من الأنصار اتفقا، ثم
اقتتلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع" زاد مسدد: فسمع قوله: لا
تكروا المزارع"، فروى رافع ما سمعه من الحديث، علما بأن المنع
مقيد بما إذا اقتتلوا فأخطأ في روايته.
ونقل مثل هذا عن عائشة - رضي الله عنها - في إنكارها على ابن
عمر روايته "إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه".
فقالت: يغفر الله لأبي عبد الرحمن، أما إنه لم يكذب ولكنه نسي
(1/117)
أو أخطأ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم
مر على يهودية يبكى عليها، فقال: "إنهم يبكون، وإنها تعذب في
قبرها".
وقد ذكر الحاكم هذا الحديث وقول عائشة - رضي الله عنها - في
ردها على ابن عمر في موضوع معرفة الناسخ والمنسوخ وهو النوع
الحادي والعشرون من كتابه. وأرى أن ذكر هذا الحديث ليس مناسبا
في هذا النوع، وإنما هو إلى الرواية بالمعنى أقرب منه إلى
النسخ، علما بأن ابن قتيبة في كتابه مختلف الحديث رد قول
القائلين بوهم ابن عمر - رضي الله عنهما - مؤيدا قوله بروايات
عدد من الصحابة لهذا الحديث.
السبب السابع - تدليس الثقات:
وقد يكون سبب العلة تدليسا أدركه النقاد فكشفوا فيه عن انقطاع
في الإسناد أو رواية عن ضعيف غير اسمه أو كنيته. وغالبا ما
تكون العلة في حديث الأعمش أو هشيم بن بشير أو إسحاق بن أبي
فروة أو ابن جريح ناشئة عن التدليس.
والتدليس إما أن يكون تدليسا للإسناد، وهو أن يروي عمن لقيه
ولم يسمع منه أو عمن عاصره ولم يلقه، أو عمن سمع منه شيئا ولم
يسمع موضوع الرواية وفي كل هذا يوهم أنه سمع.
وتدليس الشيوخ: هو أن يسمي شيخه أو يكنيه أو ينسبه أو يصفه بما
لا يعرف وقد أفرد ابن رجب الكلام عن التدليس بمبحث ذكر فيه
أقوال العلماء، وشروطهم لقبول رواية المدلس.
السبب الثامن - الرواية عن المجروحين والضعفاء:
وقد تضمنت كتب العلل أحاديث ذكر أن علتها جرح الراوي، فكان هذا
(1/118)
الجرح سببا في العلة، وقد سبق وأن اشترطنا
لدخول هذا الفرع في العلل أن يكون من الخفاء بحيث يغيب عن بعض
الثقات الأعلام، كأن يروي مالك عن عبد الكريم أبي أمية
والشافعي عن إبراهيم بن أبي يحيى. والأمثلة على هذا السبب من
أسباب الجرح كثيرة سنذكر بعضها في هذه الدراسة، وينبغي التنبيه
إلى أن الأغلب في العلل أوهام الثقات، حتى الرواية عن
المجروحين كثيرا ما ترتبط بالثقة الذي روى الحديث. ***
وفي جعل الجرح سببا من أسباب العلة يقول ابن الصلاح:
"ثم اعلم أنه قد يطلق اسم العلة على غير ما ذكرناه من باقي
الأسباب القادحة في الحديث، المخرجة له من حال الصحة إلى حال
الضعف، المانعة من العمل به، على ما هو مقتضى لفظ العلة في
الأصل، ولذلك نجد في كتب علل الحديث الكثير من الجرح بالكذب
والغفلة وسوء الحفظ، ونحو ذلك من أنواع الجرح"
(1/119)
المبحث الثاني معرفة
العلل والكشف عنها من خلال كتاب ابن رجب
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: معرفة العلة.
المطلب الثاني: وسائل الكشف عن العلة. ***
المطلب الأول معرفة العلة
ذكر ابن رجب في شرح علل الترمذي أن مجال العلة - في الأغلب
والأكثر - حديث الثقات، وذلك لأن رواية الثقة للحديث تكسبه في
الأصل صفة الصحة الظاهرة، والسلامة التي تجعله مقبولا محتجا
به، ولكن ليس عجيبا أن يفاجئنا رجل العلل بما لديه من الوسائل
العلمية والمعرفة الحديثية بكشف ما يقدح في هذه السلامة
الظاهرة، وإذا بالحديث بعد الصحة معلولا، وبعد القبول
والاحتجاج به شاذا لا يستند عليه ولا يحتج به. وإذا كان الأمر
كذلك، فهل لنا أن نتعرف على وسائل النقاد وجوانب معرفتهم
الحديثية التي مكنتهم من ارتياد هذا المجال؟
وقبل الشروع في الكلام عن وسائل الناقد رجل العلل في كشف العلة
وتبينها، لا بد من عقد مناقشة لما شاع على ألسنة كبار النقاد
أثناء وصفهم لهذا العلم بأنه أقرب إلى الكهانة والعرافة لغموض
أسبابه وخفاء طرائقه، وكأنه معرفة
(1/121)
نفسية أو وجدانية أكثر منه معرفة عقلية
علمية، وفي هذا يقول إمام من أئمة هذا الفن، وهو عبد الرحمن بن
مهدي: "معرفة الحديث الهام، فلو قلت للعالم بعلل الحديث: من
أين قلت هذا؟ لم يكن له حجة".
ونقل عن أبي حاتم ما يشبه هذا، قال عبد الرحمن بن أبي حاتم:
سمعت أبي - رحمه الله - يقول: جاءني رجل من جلة أصحاب الرأي من
أهل الفهم منهم، ومعه دفتر، فعرضه علي، فقلت في بعضها هذا حديث
خطأ، قد دخل لصاحبه حديث في حديث، وقلت في بعضه: هذا حديث
منكر، وقلت في بعضه: هذا حديث كذب، وسائر ذلك أحاديث صحاح،
فقال لي: من أين علمت أن هذا خطأ، وهذا باطل، وأن هذا كذب؟
أخبرك راوي هذا الكتاب بأني غلطت وأني كذبت في هذا حديث كذا؟
فقلت: لا، ما أدري هذا الجزء من رواية من هو؟ غير أني أعلم أن
هذا خطأ، وأن هذا الحديث باطل، وأن هذا الحديث كذب، فقال: تدعى
الغيب؟ قال: قلت: ما هذا ادعاء الغيب، قال: فما الدليل على ما
تقول؟ قلت: سل عما قلت من يحسن مثل ما أحسن، فإن اتفقنا علمت
أنا لم نجازف ولم نقله إلا بفهم. قال: من هو الذي يحسن مثل ما
تحسن؟ قلت: أبو زرعة، قال: ويقول أبو زرعة مثل ما قلت؟ قلت:
نعم، قال: هذا عجب، فأخذ فكتب في كاغذ ألفاظي في تلك الأحاديث،
ثم رجع إلي وقد كتب ألفاظ ما تكلم به أبو زرعة في تلك
الأحاديث، فما قلت: إنه باطل، قال أبو زرعة: إنه كذب، قلت:
والكذب والباطل واحد، وما قلت إنه كذب، قال أبو زرعة باطل، وما
قلت: إنه منكر، قال: هو منكر، وما قلت: إنه صحاح، قال أبو
زرعة: هو صحاح، فقال: ما أعجب هذا، تتفقان في غير مواطأة فيما
بينكما، فقلت: إنا لم نجازف وإنما قلنا بعلم ومعرفة قد أوتينا.
والدليل على صحة ما نقوله: بأن دينارا نبهرجا يحمل إلى الناقد
فيقول: هذا دينار نبهرج، ويقول لدينار: هذا جيد فإن قيل له: من
أين قلت: إن هذا نبهرج؟ هل كنت حاضرا حين بهرج هذا الدينار؟
قال:
(1/122)
لا، فإن قيل له: فأخبرك الرجل الذي بهرجه:
إني بهرجت هذا الدينار؟ قال: لا، قيل: فمن أين قلت: إن هذا
نبهرج؟ قال: علما رزقت. كذلك نحن رزقنا معرفة ذلك".
وقد فهم السخاوي من كلام العلماء حول التعليل أنه أمر يهجم على
القلب أو هيئة نفسانية لا تدفع، فهو يقول: "والتعليل أمر يهجم
على قلوب هؤلاء لا يمكنهم رده وهيئة نفسانية لا معدل لهم عنها،
ولهذا ترى الجامع بين الفقه والحديث، كابن خزيمة والإسماعيلي
والبيهقي وابن عبد البر لا ينكر عليهم، بل يشاركهم ويحذو
حذوهم، وربما يطالبهم الفقيه والأصولي العاري عن الحديث
بالأدلة".
وأرى أن كلام السخاوي هذا - في جعل معرفة العلة هيئة نفسانية
وخواطر وجدانية - لا يستفاد من مجموع كلام النقاد، ولا يشهد له
هذا العلم، بل يشهد عليه، وهو مرفوض بمنطق مئات الأمثلة
والشواهد التي احتوتها هذه الرسالة.
ولابن رجب في شرح العلل عبارة تنقض قوله: قال: "وقد قال أبو
عبد الله بن منذة الحافظ: إنما خص الله بمعرفة هذه الأخبار نفر
يسيرا من كثير ممن يدعي علم الحديث، فإما سائر من يدعي كثرة
كتابه الحديث، أو متفقهه في علم الشافعي وأبي حنيفة، أو متبع
لكلام الحارث المحاسبي، والجنيد، وذي النون، وأهل الخواطر فليس
لهم أن يتكلموا في شيء من علم الحديث إلا من أخذه عن أهله،
وأهل المعرفة به، فحينئذ يتكلم بمعرفته".
أما كلام النقاد - كابن مهدي وأبي زرعة - فإنه يحمل على أن من
يجهل هذا العلم لا يمكنه الإحاطة بطرائقه ومعارفه وعناصره،
وعرض الدليل
(1/123)
والبرهان يلزم منه وجود من يدركهما لأنهما
ثمرة هذه المعارف المتنوعة الشاملة وغير ذوي الاختصاص يكفيهم
الحكم المتضمن صحة أو ضعفا أو بطلانا. فإن حرصوا على المزيد
فعليهم أن يسلكوا مسلك النقاد في إعداد الرصيد الكافي، فهذا
أبو زرعة يقول: "نظرت في نحو من ثمانين ألف حديث من حديث ابن
وهب بمصر ما أعلم أني رأيت له حديثا لا أصل له. وعلى القارئ أن
يقدر الرصيد الذي يحتفظ به أبو زرعة خلف هذه الكلمات، فقد حفظ
لرجل واحد هذا العدد ثم عرض هذا العدد على الأصول، ثم أصدر
حكمه بقوله: "ما أعلم أني رأيت له حديثا لا أصل له". ومن لا
يحيط بهذا العلم قد يشك في الخبر، فإذا ثبتت له صحته فإنه يقول
متى حفظها؟ وكيف عرفها؟ وعلام عرضها؟ وهل عرض كل حديث عند ابن
وهب على مئات مثل هذا الحديث عند غيره؟ وأسئلة غير هذه تلح على
معرفة الدليل والحجة، ولكن ذلك بعيد المنال على من لا يعرف هذا
الفن.
هذا الذي يحمل عليه كلام النقاد عندما يمتنعون عن الاحتجاج
لقولهم ويظهر هذا جليا في قول أبي حاتم في بداية قصته التي
أوردتها وفيها: "جاءني رجل من أهل الرأي" واهتمامات رجل الرأي
غيرها عند رجل العلل الناقد، فإذا كان رجل الرأي لا يدرك الحجة
في العلة، فإنه لا يعني خلوها من الحجة والدليل:
ولقد عبر ابن مهدي عن هذا المعنى تعبيرا دقيقا عندما قال:
"إنكارنا الحديث عند الجهال كهانة" وهو ما أبرزه ابن كثير
أثناء تعريفه للعلل بقوله: وهو فن خفي على كثير من علماء
الحديث، حتى قال بعض حفاظهم: معرفتنا بهذا كهانة عند الجاهل".
(1/124)
وعلى هذا يمكن تخريج كلام النقاد، إذ أن كل
علم هو كالعرافة والسحر بالنسبة لمن يجهله، وكلام أبي حاتم وهو
يشبه معرفة الناقد للعلة بمعرفة الصائغ للدرهم الزائف من الجيد
إنما يعني به أن الحديث صناعة وفن كالصياغة التي هي صناعة وفن،
ولكل منها مبادئه وطرائقه وقوانينه..
وإلى جانب ما سبق، أقول: إن كتب العلل في أكثر ما أسئلة
وأجوبة، وهذه الأجوبة في معظمها يحمل الحجة والدليل، ولا غرابة
في هذا إذا عرفنا أن السائل هو من أهل هذا الفن والمختصين به،
فالترمذي يسأل البخاري، وعبد الله بن أحمد يسأل أباه وابن أبي
حاتم يسأل أباه وأبا زرعة، والبرذعي يسأل أبا زرعة، والبرقاني
والسهمي يسألان الدارقطني، وهكذا. وفي مباحث أنواع العلل
وأسبابها أمثلة كثيرة فيها بيان كاف للعلة ونوعها وسببها
والدليل عليها.
وبعد كل هذا فإننا نخرج بنتيجة هي أن الناس أمام هذا العلم
عالم خبير به، أو جاهل منكر له. وأكبر دليل على منهجية هذا
العلم وحدة منطقه، الذي يظهر باتفاق النقاد عليه، كما رأينا في
إحالة أبي حاتم على أبي زرعة، ثم تشابه قوليهما في كل مسألة،
فعلم العلل علم قائم على أصول وطرائق متداولة بين أصحابه، وقد
ترتقي هذه الأصول والطرائق بلغتها حتى لا يعود من السهل كشف
غموضها عن غير أهلها.
ويضاف إلى كل ما سبق، أن منهج علماء الحديث هو جزء من المنهج
الإسلامي العام القائم على (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين)
والمنهج الإسلامي هو أول منهج أخرج الإنسان من سلطان الطلاسم
والفيوض الوجدانية، وحرره من تحكم الأهواء والأوهام والخواطر.
وإن كنت قد أطلت في مناقشة هذه القضية، فلخطورتها وأهميتها حتى
إنها تقف أمام كل باحث في العلل لتشعره باستحالة البحث والوصول
إلى نتائج جديدة.
(1/125)
وأما كلام العلماء عن مبادئ هذا العلم
وظهور حجته عند أهله فكثير، يقول الحاكم أبو عبد الله: "والحجة
فيه عندنا الحفظ والفهم والمعرفة لا غير". فالعلة عند الحاكم
لا تدعى إلا بالحجة، ولكنها حجة الحافظ الفهم العارف يدركها
الحافظ الفهم العارف، ولاحظ قوله: "عندنا" وكأنها تختلف في نظر
غيره، ولاحظ قوله: "لا غير".
وقال في موضع آخر من كتابه: "وليس لهذا العلم عون أكثر من
مذاكرة أهل الفهم والمعرفة، ليظهر ما يخفى من علة الحديث". وفي
هذه العبارة يؤكد الحاكم دور الفهم والمعرفة لما فيهما من
المعاني الزائدة على العلم، قال تعالى: (ففهمناها سليمان) .
وابن رجب يؤكد في كتابه أن هذا العلم معرفة وممارسة، ومذاكرة،
فيقول: "والوجه الثاني في معرفة مراتب الثقات وترجيح بعضهم على
بعض عند الاختلاف إما في الإسناد، وإما في الوصل والإرسال،
وإما في الوقف والرفع، ونحو ذلك، وهذا الذي يحصل من معرفته،
وإتقانه، وكثرة ممارسته الوقوف على دقائق علم العلل، ونحن نذكر
- إن شاء الله تعالى - من هذا العلم كلمات جامعة مختصرة يسهل
بها معرفته وفهمه، لمن أراد الله - تعالى - به ذلك، ولا بد في
هذا العلم من طول الممارسة، وكثرة المذاكرة، فإذا عدم المذاكر
به، فليكثر طالبه المطالعة في كلام الأئمة العارفين كيحيى
القطان، ومن تلقى عنه كأحمد وابن المديني، فمن رزق مطالعة ذلك
وفهمه وفقهت نفسه فيه وصارت له فيه قوة نفس وملكة، صلح له أن
يتكلم فيه".
ومن كل هذا نستفيد أن الكشف عن العلة يحتاج إلى علم غزير
بالأسانيد والطرق وأساليب التعبير، كما يحتاج إلى مزيد فهم
ومعرفة وحدة ذكاء وسرعة
(1/126)
بديهة، وإن شئت فقل هو فن القلة من الناس،
وحتى هؤلاء القلة فإنهم متفاوتون في القدرة عليه.
يقول ابن كثير في اختصار علوم الحديث: وإنما يهتدي إلى تحقيق
هذا الفن الجهابذة، النقاد، يميزون بين صحيح الحديث وسقيمه،
ومعوجه ومستقيمه، فمنهم من يظن، ومنهم من يقف، بحسب مراتب
علومهم وحذقهم واطلاعهم على طرق الحديث، وذوقهم حلاوة عبارة
الرسول صلى الله عليه وسلم التي لا يشبهها غيرها من ألفاظ
الناس، فمن الأحاديث المروية ما عليه أنوار النبوة. ومنها ما
وقع فيه تغيير لفظ أو زيادة باطلة يدركها البصير من أهل هذه
الصناعة".
ويقول ابن الصلاح في هذا: "ويستعان على إدراكها بتفرد الراوي
أو بمخالفته غيره له مع قرائن تنضم إلى ذلك، تنبه العارف بهذا
الشأن".
أما الخطيب البغدادي فإنه يقول: "السبيل إلى معرفة علة الحديث
أن يجمع بين طرقه وينظر في اختلاف رواته، ويعتبر بمكانتهم من
الحفظ ومنزلتهم من الإتقان".
وإن نظرة سريعة يلقيها الباحث في كتب العلل تظهر له أي علم
يحتاجه صاحب هذا الفن، وأية معرفة يفتقر إليها، حتى يصبح من
أهل هذه الصنعة. إنه يحتاج ملكة علمية متعددة الجوانب، كثيرة
العناصر، تمتاز بالشمول والتكامل. لأننا بعد التحقق نستطيع أن
نقول: إن كل جزئية من جزيئات علوم الحديث داخلة في علم العلل،
إما دخولا مباشرا، أو غير مباشر كخادم لأصول هذا العلم
وضروراته.
المطلب الثاني وسائل الكشف عن
العلة
دفعنا فيما سبق توهم إدراك العلة بالخواطر والتأملات الباطنية،
وذكرنا كلام ابن رجب - رحمه الله - في هذا، وأثبتنا أن كشف
العلة لا يكون إلا بعلم ومعرفة وفهم، والدليل على كل علة لا بد
من قيامه، وظهور لأهل هذا الفن. وأما موضوعنا هذا فمعقود
للكلام عن جوانب من معرفة الناقد وعلمه حتى نتصور كيف تجري
عملية الكشف عن العلة، وما هي طبيعة هذا الذهن الذي يتناول
النصوص الحديثية بالتمحيص والنقد؟ إيضاحا لهذا نقول:
إن كتب العل تحمل بين طياتها صورة كاملة شاملة لما ينبغي أن
يكون عليه رجل هذا الفن، وأنه إن كان حصر جوانب هذه المعرفة لا
يمكن في مبحث صغير فإن ذكر أهم هذه الجوانب يسير ومعقول، وفيما
يلي بعض هذه الجوانب:
1 - معرفة المدارس الحديثية، ونشأتها، ورجالها، ومذاهبها
العقدية والفقهية وأثرها وتأثيرها في غيرها، وما تميزت به عن
غيرها، فقد نشأت للحديث مدارس في المدينة ومكة والكوفة والبصرة
والشام ومصر واليمن.
وبهذه المعرفة يعالج الباحث أسانيد كثيرة فيكشف عن علتها، فإذا
كان الحديث كوفيا، احتمل التدليس، أو الرفض. إن كان بصريا
احتمل النصب وتأثير الإرجاء والاعتزال في إسناده. فإذا روى
المدنيون عن الكوفيين فإنها تختلف الاحتمالات عما إذا روى
المدنيون عن البصريين. ولذلك نجد الحاكم يقول بعد ذكره علة
حديث: والمدنيون إذا رووا عن الكوفيين زلقوا. أما حديث الشام
عن المدارس الأخرى فأكثره ضعيف.
وقد تكلم ابن رجب عن هذا عند كلامه على النوع الثاني من أنواع
العلل، وهو من ضعف حديثه في بعض الأماكن دون بعض.
(1/127)
قال ابن رجب: "ومنهم عبيد الله بن عمر
العمري، ذكر يعقوب بن شيبة أن في سماع أهل الكوفة منه شيئا.
ومنهم الوليد بن مسلم الدمشقي صاحب الأوزاعي، ظاهر كلام الإمام
أحمد أنه إذا حدث بغير دمشق ففي حديثه شيء، قال أبو داود: سمعت
أبا عبد الله سئل عن حديث الأوزاعي، عن عطاء، عن أبي هريرة عن
النبي صلى الله عليه وسلم "عليكم بالباءة" قال: هذا من الوليد
يخاف أن يكون ليس بمحفوظ عن الأوزاعي لأنه حدث به الوليد بحمص،
ليس هو عند أهل دمشق.
ومنهم المسعودي من سمع منه بالكوفة فسماعه صحيح، ومن سمع منه
ببغداد فسماعه مختلط".
وكذلك فقد ذكر ابن رجب طائفة من الثقات، حدثوا عن أهل إقليم
فحفظوا حديثهم، وحدثوا عن غيرهم فلم يحفظوا:
فمنهم إسماعيل بن عياش الحمصي أبو عتبة، إذا حدث عن الشاميين
فحديثه عنهم جيد، وإذا حدث عن غيرهم فحديثه مضطرب.
ومنهم معمر بن راشد كان يضعف حديثه عن أهل العراق خاصة
وأمثلة هذا كثيرة عند ابن رجب، وهذا يلزم الباحث في العلل أن
يعرف مدارس الحديث المختلفة ومن أضبط الناس فيها، ومن أكثر
الناس خطأ فيها وهكذا.
2 - معرفة من دار عليهم الإسناد، وأوثق الناس فيهم، وتمييز أصح
الأسانيد أضعفها وممن اهتم بهذا، وأرسى قواعده علي بن المديني،
فنراه يقول:
نظرت فإذا الإسناد يدور على ستة: فلأهل المدينة ابن شهاب،
ولأهل
(1/129)
مكة عمرو بن دينار، ولأهل البصرة قتادة بن
دعامة السدوسي، ويحيى بن أبي كثير، ولأهل الكوفة أبو إسحاق
السبيعي، وسليمان بن مهران.
ثم صار علم هؤلاء الستة إلى أصحاب الأصناف ممن صنف، فلأهل
المدينة مالك بن أنس، ومحمد بن إسحاق، من أهل مكة عبد العزيز
بن جريح، وسفيان بن عيينة. ثم انتهى علم هؤلاء الثلاثة من أهل
البصرة وعلم الاثني عشر إلى سنة ... وهكذا يمضي علي بن المديني
في تأصيل هذه الخبرة الإسنادية وتفريعها.
ومع ذكر الراوي فإنه يذكر أصحابه، ويبين أوثقهم فيه وأكثرهم في
الرواية عنه. وهذا جزء هام من علم العلل.
وفيما يلي نص من علل أحمد - رحمه الله - أوقفي على ارتباط هذا
الجانب بعلم العلل، ودوره في الكشف عن العلة، يقول عبد الله بن
الإمام أحمد:
سألته عن مطرف بن طريف، فقال: ثقة مطرف، قلت له: أيما أثبت
أصحاب الأعمش؟ فقال: سفيان الثوري أحبهم إلي، قلت له: ثم من؟
فقال: أبو معاوية في الكثرة والعلم - يعني عالما بالأعمش - قلت
له: أيما أثبت أصحاب الزهري؟ فقال: لكل واحد منهم علة: إلا أن
يونس وعقيلا يؤديان الألفاظ وشعيب بن أبي حمزة، وليسوا مثل
معمر، معمر يقاربهم في الإسناد، قلت: فمالك؟ قال: مالك أثبت في
كل شيء، ولكن هؤلاء الكثرة، كم عند مالك!! ثلاثمائة حديث أو
نحو ذا وابن عيينة نحو من ثلاثمائة حديث، ثم قال: هؤلاء الذي
رووا عن الزهري الكثير، يونس وعقيل ومعمر، قلت له: شعيب؟ قال:
شعيب قليل، هؤلاء أكثر حديثا عن الزهري، قلت: فصالح بن كيسان
روايته عن الزهري؟ قال: صالح أكبر من الزهري، قد رأى صالح بن
عمر. قلت فهؤلاء أصحاب الزهري، قلت: أثبتهم مالك؟ قال: نعم،
مالك
(1/130)
أثبتهم، ولكن هؤلاء الذين بقروا علم الزهري
يونس وعقيل ومعمر. قلت له: فبعد مالك من ترى؟ قال: ابن عيينة.
انتهى.
ومن خلال هذا النص نلاحظ أمرين لا بد من البحث عنهما ونحن
نتناول الرواة عن الثقات، الأول: من أوثق الناس في هذا الشيخ؟
والثاني: من أكثرهم جمعا ورواية عنه؟ وهكذا الأمر في كل ثقة
على حدة، ولنتصور حجم هذه المعرفة التي لا بد منها لرجل العلل.
وعن طريق مثل هذه المعرفة يتكون عند الناقد منهج يستعين به في
نقده.
ولقد أخذ هذا النوع من الدراية الإسنادية مساحة كبيرة من شرح
ابن رجب لعلل الترمذي. فذكر تراجم مطولة لمن دار عليهم
الإسناد، ولم يكتف بما أوجزه الترمذي عنهم. فجاء كلامه مفصلا
مليئا بالمعارف الحديثية، وعدد هذه التراجم اثنتان وعشرون
ترجمة.
وأما الأسانيد فقد أمد ابن رجب الباحث في العلل بمجموعة من
المعارف الإسنادية وذلك عند كلامه عن مراتب الثقات وقول من
يقدم في هؤلاء الثقات، وكان هذا هو القسم الأول من أقسام علم
العلل عنده، وقد عنونه بما يلي:
"القسم الأول في معرفة مراتب أعيان الثقات، الذين تدور غالب
الأحاديث الصحيحة عليهم، وبيان مراتبهم في الحفظ، وذكر من يرجح
قوله منهم عند الاختلاف".
وبدأ ابن رجب بذكر أصحاب ابن عمر، وبعد كلام طويل كأنه مال إلى
ترجيح قول نافع مولى ابن عمر على غيره عند الاختلاف، ثم ثنى
بذكر أصحاب نافع، ثم أصحاب عبد الله بن دينار ... وهكذا، فإن
ابن رجب يتابع الكلام في أعيان الثقات فيذكر أصحاب كل واحد
منهم، ومن أوثق الناس فيه، وكأن كل واحد من هؤلاء مدرسة حديثية
مستقلة.
(1/131)
ولم يكتف ابن رجب - رحمه الله - بهذه
الضروب من المعارف الإسنادية النادرة، بل عقد - رحمه الله -
فصلا هذا عنوانه:
"ذكر الأسانيد التي لا يثبت منها شيء، أو لا يثبت منها إلا شيء
يسير مع أنه قد روي بها أكثر من ذلك" وهاك أمثلة على هذه
الأسانيد:
قال ابن رجب: قتادة، عن الحسن، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه
وسلم هذه السلسلة لا يثبت منها حديث أصلا من رواية الثقات.
قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال البرديجي: هذه الأحاديث كلها معلولة.
حميد الطويل، عن أنس، قال أبو داود الطيالسي: قال شعبة: إنما
روى حميد عن أنس ما سمعه منه خمسة أحاديث.
الزبير بن عدي، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس له
إلا حديث واحد".
كل هذا يشكل جانبا لا بد لرجل العلل من معرفته، وعن طريق هذه
المعرفة تتشكل صورة واحدة لخريطة الأسانيد وتظهر على هذه
الصورة محطات كبرى. هذه المحطات هي من يدور عليهم الإسناد من
العلماء في كل زمان ومكان، ولا بد له كذلك من معرفة قواعد
التمييز بين هذه الأسانيد، فيعرف الصحيح، والضعيف، والمشهور
والغريب، حتى يصل الأمر برجل العلل إلى أن يقول: فلان عن فلان
خمسة أحاديث، وهكذا فإنه يذكر مع كل إسناد ما صح به من الحديث
وما دخل عليه من الوهم والخطأ.
(1/132)
3 - معرفة الأبواب: ورجل العلل الحافظ
العارف الفهم لم يصل إلى ما وصل إليه إلا بعد أن جمع الأحاديث
في الأبواب. وأحاديثه كما سبق وأن قلت: إنها مرتبة على
الأسانيد فهي أيضا مرتبة على الأبواب: باب الطهارة.. الصلاة..
الزكاة ... وهكذا، والعملية النقدية عنده هي عرض ما يسمعه على
أبوابه وأصوله، وبعد هذا العرض يذكر نتيجة من النتائج الكثيرة
عنده: معروف.. منكر.. مشهور.. غريب.. شاذ.. لا أصل له ...
وفي معرفة الأبواب وحصرها اشتهر عدد من العلماء كالإمام أحمد
والبخاري وأبي زرعة، وهذا أبو زرعة يقول لعبد الله بن الإمام
أحمد: "ذاكرت أباك فوجدته يحفظ ألف ألف حديث، فقال عبد الله:
كيف ذاكرته؟ قال أبو زرعة: ذاكرته على الأبواب". ومعنى هذا
أنهما يذكران رؤوس الموضوعات، والعناوين التي تضم عددا من
الأحاديث.
ولا غرابة في هذه القدرة على جمع الأبواب وعرضها من إمام كأحمد
- رضي الله عنهـ - ولكن الغرابة أن يجمع هذا ويعرضه رجل الدولة
مع مسؤولياته ومشاغله، فقد أورد الحاكم أبو عبد الله في كتابه
معرفة علوم الحديث قصة دارت بين المأمون ورجل ادعى معرفة
الحديث وجاء يطلب رفده فقال: يا أمير المؤمنين، صاحب حديث
منقطع، فقال له المأمون: أيش تحفظ في باب كذا؟ فلم يذكر فيه
شيئا، فما زال المأمون يقول: حدثنا هشيم وحدثنا حجاج بن محمد
وحدثنا فلان حتى ذكر الباب، ثم سأله عن باب ثان، فلم يذكر فيه
شيء فذكره المأمون".
وروي عن علي بن المديني أنه قال: "الباب إذا لم تجمع طرقه لم
يتبين خطؤه".
(1/133)
4 - معرفة المتشابه من الأسماء والكنى
والألقاب:
وكتب العلل مليئة بهذا النوع كمعرفة عامة أو تطبيقية تخدم
موضوع العلة. ومثال ذلك: ما ذكره عبد الله بن أحمد - رحمه الله
- في العلل، قال: "حدثني أبي، قال: حدثنا هشيم، قال: زعم لي
بعضهم، قال: كتب الحجاج أن يؤخذ إبراهيم بن يزيد إلى عامله
فلما أتاه الكتاب قال: فكتب إليه: إن قبلنا إبراهيم بن يزيد
التيمي، وإبراهيم بن يزيد النخعي، فأيهما نأخذ؟ قال: فكتب أن
يأخذهما جميعا". هذه القصة ظاهرها أنها طرفة، ومقصدها ذكر
اثنين من الرواة اجتمعا في الاسم والعصر والرتبة، ومن لا يميز
بينهما قد يخلط في حديثهما وقد يقول قائل: ما داما ثقتين فما
الضرر من هذا الخلط؟ والجواب على ذلك أن لكل من الرجلين إسناده
ولكل منهما رجاله، والخلط بينهما لا يقتصر عليهما بل يتعداهما
إلى بقية رجال الإسناد.
وإن الباحث ليدهش وهو يجد أن أربعة عشر رجلا من الثقات يحملون
اسم إبراهيم بن يزيد، مما يجعل معرفة هذا الجانب ضرورية لرجل
العلل حتى لا تشتبه عليه الأمور.
وكما تتشابه الأسماء تتشابه الكنى، ولا بد من معرفتها من قبل
صاحب هذا الشأن.
يقول عبد الله بن أحمد: "سمعت أبي يقول: من كنيته من أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم أبو عبد الرحمن: عبد الله بن مسعود
أبو عبد الرحمن، ومعاذ بن جبل أبو عبد الرحمن، وعبد الله بن
عمر أبو عبد الرحمن، وعبد الله بن عمروا أبو عبد الرحمن،
ويقولون أبو محمد. وفيروز الديلمي أبو عبد الرحمن، وسفينة أبو
عبد الرحمن، ومعاوية بن أبي سفيان أبو عبد الرحمن".
(1/134)
هذا التشابه في الصحابة، وهو في غيرهم
أكثر، وتمييزه أصعب، وكم من علة دخلت على الحديث بجهل هذا
الجانب.
وإلى جانب التشابه في الكنى نجد الكثير من الكنى التي لم تشتهر
أصحابها بها فستغلها المدلسون ستارا لتدليسهم، ولكن المعرفة
الواسعة التي يتمتع بها الناقد تقف لكل ذلك بالمرصاد.
5 - معرفة مواطن الرواة:
قال الحاكم أبو عبد الله: "وهو علم قد زلق فيه جماعة من كبار
العلماء بما يشتبه عليهم فيه" وقد يثبت هذه المعرفة في كتب
العلل لارتباطها وعلاقتها الوثيقة به. ففي علل أحمد: "ابن أبي
حسن قرشي مكي، هشام بن حجير مكي، ضعيف الحديث ومحمد بن أبي
إسماعيل شيخ كوفي ثقة وعبد الله بن سعيد بن أبي هند شيخ مديني
موثق، وإبراهيم بن ميسرة طائفي سكن مكة" ... وهكذا، إذ القصد
هو التمثيل على هذه المعرفة لا الإحاطة بما كتب عليها، فهو
كثير.
6 - معرفة الوفيات والولادات:
وعن طريق هذه المعرفة - مضافا إليها غيرها - يتأكد الناقد من
السماع والمعاصرة أو ينفيهما. وتجد هذه المعرفة مبثوثة في كتب
العلل: يقول ابن المديني: "مات أيوب سنة إحدى وثلاثين في
الطاعون، ومات يونس سنة تسع وثلاثين، ومات إبراهيم النخعي سنة
خمس وتسعين، وقتل ابن جبير سنة خمس وتسعين وفيها مات الحجاج
... وهكذا".
ومعرفة الولادات جانب آخر يحدد اللقاء وفترته بين الراوين،
فعندما يأتي
(1/135)
حديث يرويه عبد الجبار بن وائل عن أبيه،
نجد النقاد يقولون: "عبد الجبار لم يدرك أباه، ولد بعد وفاة
أبيه".
7 - معرفة من أرسل ومن دلس ومن اختلط:
وقد اعتنت كتب العلل اعتناء كبيرا بهذه المعرفة وكثير اما تجد
فيها علل الإرسال والتدليس والاختلاط، كما نجد تحديدات دقيقة
للاختلاط وتفاوت المراسيل وما دلس من الأسانيد. وقد توسع ابن
رجب في الكلام عن الإرسال والتدليس والاختلاط، وقد عرضنا
للاختلاط في أسباب العلل، وعرضنا للإرسال في مباحث دراسة علوم
المصطلح عند ابن رجب.
8 - معرفة أهل البدع والأهواء:
وقد سبق وأن ذكرت أن هذه المعرفة جزء من معرفة المدارس
الحديثية ولكنها هنا تهتم بالرواة كأفراد كل على حدة. وقد يكون
الغالب على مدرسة ما التشيع ولكن فيها الناصبي، والخارجين
والمعتزلي، وغير ذلك ...
وعلى صفحات كتب العلل نجد كلاما كثيرا حول هذا الجانب مثل:
"يونس بن عباد كان خبيث الرأي"، "كان يزيد بن عبد الرحمن شيخا
فقيرا مرجئيا".
هذه بعض جوانب المعرفة التي لا بد منها للمشتغل بالعلل، وتركت
غيرها، لأن الموضوع لا يتسع لعلوم الحديث، إذ ظهر لي بعد البحث
والاستقصاء أن أكثر علوم الحديث استمد من علم العلل، وأن أقدم
المحاولات في هذا الميدان هي كتب ابن المديني وأحمد الترمذي
وأبي زرعة وأبي حاتم وهي كتب شاملة تطبيقية.
(1/136)
وقد قصدت من ذكر هذه الجوانب التمثيل لا
الحصر. ولعل أبرز ثمرات هذا الموضوع القناعة التامة بأن علم
العلل عماده المعرفة المستفيضة أفقيا وعموديا وهو ما يعبر عنه
بعلم الرواية والدراية. ومن تتوافر له هذه المعرفة تنكشف له
العلاقات بين الروايات، فيصبح مجال الحديث، سندا ومتنا،
بمتناول بصيرته. وعند التعليل يستفيد من كل هذه الجوانب، فجزى
الله علماءنا عن أمتهم خير الجزاء، فلقد، والله، حملوا الأمانة
التي لا تحملها الجبال الراسيات
(1/137)
المبحث الثالث في
أنواع العلل من خلال كتاب ابن رجب
ويشتمل على:
المطلب الأول: علة الإسناد.
المطلب الثاني: علة المتن. ***
المطلب الأول علل الإسناد
أولا - علة موضوعها:
إبطال السماع الصريح أو نفي السماع
المتوهم بالعنعنة
اتصال الحديث شرط من شروط صحته، والأصل ان التصريح بالسماع من
الراوي الثقة معتبر، وكذلك الحال فيما يروى من الأسانيد ويكون
"معنعنا" أو "مؤننا" فإنه معتبر كذلك إذا كان الراوي ثقة،
بريئا من التدليس. ولكن رغم التصريح بالسماع، ورغم المعاصرة
الأكيدة بين الراوي والمروي عنه وسلامة الراوي من التدليس رغم
كل هذا قد يكشف النقاد من أهل صنعة العلل أن الإسناد منقطع،
ولا حقيقة لهذا السماع.
وقد أطال الإمام ابن رجب في هذا الموضوع وبحثه تحت عنوان
(1/139)
"التدليس" وقد أفردنا للعنعنة مبحثا مستقلا
عرضنا فيه كلام ابن رجب - رحمه الله - وحررنا هذه المسألة.
وفيما يلي طائفة من الأمثلة على هذه العلة استقينا بعضها من
شرح علل الترمذي لابن رجب، وأكثرها من كتب العلل الأخرى، وذلك
بهدف إبراز قيمة كتب العلل الأخرى، وتقديم نماذج منها للباحثين
والمطلعين، ومن جهة أخرى فإن هذه الكتب مليئة بالأمثلة الصالحة
لكل نوع من أنواع العلة، ولقيمة العلل في هذه الدراسة فسأمثل
لكل نوع منها بما فيه الكفاية - إن شاء الله -.
قال ابن رجب:
قال أحمد: "البهي ما أراه سمع من عائشة، إنما يروى عن عروة عن
عائشة، رغم أنه يقول في حديث زائدة، عن السدي: حدثتني عائشة".
ونقل ابن رجب عن ابن مهدي ما يؤكد هذا، فقال: "وكان ابن مهدي
سمعه من زائدة، وكان يدع منه "حدثتني عائشة".
وبهذا تكون العلة في هذا الإسناد إبطال السماع، وإثبات أن
الوهم دخل عليه. ومثل هذه العلة كثير في الأسانيد، قال ابن
رجب:
"وكان أحمد يستنكر دخول التحديث في كثير من الأسانيد، ويقول:
هو خطأ، يعني ذكر السماع.
قال في رواية هدبة، عن قتادة، ثنا خلاد الجهني، وهو خطأ، خلاد
قديم ما رأى قتادة خلادا. وذكروا لأحمد قول من قال: عن عراك بن
مالك سمعت عائشة، فقال: هذا خطأ. وأنكره وقال: عراك من أين سمع
عائشة؟ إنما يروى عن عروة، عن عائشة".
ولقد أفرد ابن رجب - رحمه الله - قاعدة من القواعد التي في
كتابه لهذا النوع من العلل، تحت عنوان: "ذكر الأسانيد التي لا
يثبت منها شيء،
(1/140)
أو لا يثبت منها إلا شيء يسير". واستعرض
أسانيد كثيرة العدد من الثقات الحفاظ، بعضها لم يثبت منه شيء
البتة، وبعضها ثبت منها قليل من كثير.
وأما نفي السماع المتوهم بالعنعنة: ففي هذا يقول ابن رجب "في
شرح علل الترمذي":
"وقد ذكر الترمذي في كتاب العلم أن سماع سعيد بن المسيب عن أنس
ممكن، لكن لم يحكم لروايته عنه بالاتصال. وقد حكى بعض أصحابنا
عن أحمد مثله" والحديث الذي رواه سعيد بن المسيب عن أنس هو:
عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا بني إن
قدرت أن تصبح، وتمسي، ليس في قلبك غش لأحد فافعل" وقال
الترمذي: "لا نعرف لسعيد بن المسيب رواية عن أنس إلا هذا
الحديث".
وفيما يلي بعض الأمثلة الأخرى لهذا النوع من العلة:
مثال:
قال الترمذي في علله الكبير: "ثنا يحيى بن أكثم، ثنا يحيى بن
آدم، ثنا زهير بن معاوية، عن حميد الطويل، عن ثابت، عن أنس بن
مالك، قال: لبى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة والحج
معا، قال لبيك بعمرة وحجة".
سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث، فقال: "هذا خطأ، أصحاب
حميد يقولون: عن حميد سمع أنسا".
وقول البخاري هذا يعني أن رواية حميد عن ثابت غير صحيحة، بل
الوارد هو ما ذكره أصحاب حميد أنه سمع أنسا، ومع أن روايات
أصحاب حميد ظاهرها سلامة الإسناد، إلا أن البخاري كشف عن وهم
في هذا السماع، وأن
(1/141)
حميدا لم يسمع أنسا، كما ورد في روايات
أصحاب حميد. وفي هذا يقول الترمذي:
"قال محمد: حدثنا عمرو بن خالد، نا زهير، قال: قدمت البصرة
فرأيت حميدا، وعنده أبو بكر بن عياش، جعل حميد يقول: قال أنس،
قال أنس، فلما فرغ، قلت له: أسمعت هذا؟ قال: سمعت عمن حدث
عنه".
ويلاحظ على هذا الحديث أن الإسنادين التقيا بزهير بن معاوية.
أما الأول وهو المعل ففيه زهير عن حميد، عن ثابت، عن أنس.
وأما الثاني ففيه زهير، عن حميد، عمن حدث عن أنس، عن أنس.
ويكون البخاري قد كشف علة الحديث وأثبت أن حميدا لم يسمع من
أنس وإنما بينهما واسطة، وقد بين أن الوهم إنما دخل من إكثار
حميد من القول: قال أنس، فجعل أصحاب حميد هذه العبارة: سمع
أنسا.
مثال:
ومنه قول الحسن: خطبنا ابن عباس.
وهذا مثال آخر فيه تصريح بالسماع إلا أن حقيقته غير ذلك.
وهذا الإسناد روي عن يزيد بن هارون، عن حميد، عن الحسن، وعقب
عليه الترمذي بقوله: "روى غير يزيد بن هارون، عن حميد، عن
الحسن، قال: خطب ابن عباس، وكأنه رأى هذا أصح وإنما قال محمد
هذا، لأن ابن عباس كان في البصرة في أيام علي، والحسن البصري
في أيام عثمان وعلي كان بالمدينة".
وبهذا يظهر لنا البخاري - رحمه الله - علة الحديث ومدارها على
يزيد بن هارون الذي قال: خطبنا، وقد حاول بعض النقاد التماس
تأويل للحسن
(1/142)
ل البصري، وقالوا: خطبنا أي خطب الناس، ولو
تنبهوا لمثل ما تنبه له البخاري لأدركوا العلة، ولما احتاجوا
لمثل هذا التأويل البعيد.
مثال:
ومن الأمثلة التي يظهر فيها علم العلل بجلاء ويظهر فيها خفاء
هذا العلم على غير الأئمة ما ذكره أبو عبد الله الحاكم في
كتابه "معرفة علوم الحديث"، قال:
"مثاله ما حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، فقال: (ثنا) محمد
بن إسحاق الصغاني، قال (ثنا) حجاج بن محمد، قال، قال ابن جريح،
عن موسى بن عقبة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه، عن أبي هريرة،
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
من جلس مجلسا كثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم: سبحانك اللهم
وبحمدك لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، إلا غفر له ما كان
في مجلسه ذاك.
وقال أبو عبد الله: هذا حديث من تأمله لم يشك أنه من شرط
الصحيح، وله علة فاحشة، قال محمد بن إسماعيل: هذا حديث مليح،
ولا أعلم في الدنيا في هذا الباب غير هذا الحديث، إلا انه
معلول، حدثنا به موسى بن إسماعيل، قال حدثنا وهيب، قال: (ثنا)
سهيل، عن عون بن عبد الله، قوله..
قال محمد بن إسماعيل: هذا أولى، فإنه لا يذكر لموسى بن عقبة
سماع من سهيل".
وقول البخاري هذا زاده أبو زرعة وأبو حاتم إيضاحا وبيانا،
وحاولا الكشف عن سبب العلة ومصدرها. فقد روى ابن أبي حاتم في
علله هذا الحديث فقال:
"سألت أبي وأبا زرعة عن هذا الحديث، فقالا: هذا خطأ رواه وهيب
(1/143)
عن سهيل عن عون بن عبد الله "موقوف"، وهذا
أصح، قلت لأبي: ممن هو؟ قال: يحتمل أن يكون الوهم من ابن جريح،
ويحتمل أن يكون من سهيل، وأخشى أن يكون ابن جريح دلس هذا
الحديث عن موسى بن عقبة، ولم يسمعه من موسى وإنما أخذه من بعض
الضعفاء، سمعت أبي مرة أخرى يقول:
لا أعلم روي هذا الحديث عن سهيل إلا ما يرويه ابن جريح عن موسى
بن عقبة، فأخشى أن يكون أخذه عن إبراهيم بن أبي يحيى. إذ لم
يروه أصحاب سهيل. لا أعلم روي هذا الحديث في شيء من طرق أبي
هريرة".
وبهذا يكون أئمة علماء الحديث والعلل في عصرهم، البخاري وأبو
زرعة وأبو حاتم، قد اتفقوا على خطأ نسبة سماع موسى بن عقبة من
سهيل، وهي علة على جانب من الخفاء حتى عبر عنها الحاكم بقوله:
هذا حديث من تأمله لم يشك أنه من شرط الصحيح.
وأختم كلامي في هذا النوع من أنواع العلل بعبارة لأبي عبد الله
الحاكم (405هـ) يقول فيها:
"هذا باب يطول، فليعلم صاحب الحديث أن الحسن لم يسمع من أبي
هريرة، ولا من ابن عمر، ولا من ابن عباس شيئا قط، وأن الأعمش
لم يسمع من أنس، وأن الشعبي لم يسمع من صحابي غير أنس، وأن
الشعبي لم يسمع من عائشة، ولا من عبد الله بن مسعود، ولا من
أسامة بن زيد، وأن قتادة لم يسمع من صحابي غير أنس وأن عامة
حديث عمرو بن دينار عن الصحابة حوالة، وأن ذلك كله يخفى إلا
على الحفاظ للحديث".
ثانيا - علة موضوعها:
إبدال الإسناد كله أو بعضه
وهذا نوع من أنواع العلل التي منشؤها إبدال الإسناد كله أو
بعضه،
(1/144)
ورغم هذا الخطأ بقي الإسناد المعل يحمل
السلامة الظاهرة حتى كشف النقاد عن علته وعرفوا وجه التغيير
الذي طرأ على الأصل. وقد يكون هذا الوهم ناشئا عن ملابسات خاصة
بالإسناد، وقد يكون ناشئا عن الوهم المجرد، دون ملابسات خاصة
ومثال الملابسات الخاصة أن يشتهر إسناد معين على لسان راو
معين، كمالك، عن نافع، عن ابن عمر، أو كسعيد المقبري، عن أبيه،
عن أبي هريرة، أو كأبي بردة عن أبيه.
فكل حديث يروى عن مالك قد يسبق اللسان إلى: نافع عن ابن عمر،
وفي واقع الأمر يكون مالك قد رواه عن غير نافع.
وقد أفرد ابن رجب - رحمه الله - في "شرح علل الترمذي" قاعدة
لهذا النوع من العلة، وكأنها إشارة منه - رحمه الله - للباحثين
أن يحصروا الأسانيد المشهورة، ثم يفتشوا عن كل إسناد خرج عن
طريق المشهور.
(قاعدة) :
قال ابن رجب: "قال أحمد، في رواية ابنه عبد الله: ثنا محمد بن
فضيل، ثنا عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة عن
النبي صلى الله عليه وسلم فذكر بضعة عشر حديثا كلها بهذا
الإسناد إلا حديث "أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر" فإنه
قال: عن عمارة بن القعقاع عن أبي صالح، عن أبي هريرة".
وفي قاعدة أخرى من قواعد ابن رجب هذه يقول - رحمه الله -:
(قاعدة) :
قال العجلي: "كل شيء روي عن محمد بن سيرين، عن عبيدة السلماني
سوى رأيه فهو عن علي، وكل شيء روى إبراهيم النخعي عن عبيدة سوى
رأيه فإنه عن عبد الله إلا حديثا واحدا".
(1/145)
مثال:
وقد مثل ابن رجب - رحمه الله - لهذا النوع فذكر حديثنا "في رفع
اليدين في الصلاة" "رواه حصين بن عبد الرحمن، عن عمرو بن مرة،
عن علقمة بن وائل، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواه
شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن عبد الرحمن اليحصبي،
عن وائل بن حجر، عن النبي صلى الله عليه وسلم."
وسئل عن ذلك أحمد: فقال: شعبة أثبت في عمرو بن مرة من حصين،
القول قول شعبة، من أين يقع شعبة، عن أبي البختري، عن عبد
الرحمن اليحصبي عن وائل؟.
قال ابن رجب "يشير إلى أن هذا إسناد غريب لا يحفظه إلا حافظ
بخلاف علقمه بن وائل عن أبيه فإنه طريق مشهور"
مثال:
ومن الأمثلة التي ذكرها ابن رجب لمثل هذا النوع قوله:
"روى حماد بن سلمة، عن ثابت، عن حبيب، عن أبي سبيعة الضبعي، عن
الحارث، أن رجلا قال: يا رسول الله، إني أحب فلانا. قال:
"أعلمته"؟ قال: لا ... الحديث، قال ابن رجب: هكذا رواه حماد بن
سلمة، وهو أحفظ أصحاب ثابت، وأثبتهم في حديثه. وخالفه من لم
يكن في حفظه بذاك من الشيوخ فرووه عن ثابت، عن أنس، عن النبي
صلى الله عليه وسلم وحكم الحفاظ هنا بصحة قول حماد، وخطأ من
خالفه، منهم أبو حاتم، والنسائي، والدارقطني.
قال أبو حاتم: مبارك لزم الطريق. يعني أن رواية ثابت، عن أنس
سلسلة معروفة، مشهورة، تسبق إليها الألسنة والأوهام، فيسلكها
من قل حفظه بخلاف ما قاله حماد بن سلمة، فإن في إسناد ما
يستغرب فلا يحفظه إلا حافظ وأبو حاتم كثيرا ما يعلل الأحاديث
بمثل هذا".
وقد تكون علة الإسناد إبدال صحابي بآخر، ومثاله فيما يلي:
مثال:
أخرج الترمذي في العلل الكبير، قال: "حدثنا أحمد بن مبيع، نا
يزيد بن هارون أنا إسماعيل بن أبي خالد، عن سالم البراد، عن
ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"من صلى على جنازة فله قيراط، ومن تبعها حتى يفرغ منها: فله
قيراطان، أحدهما، أو أصغرهما مثل أحد". سألت محمدا عن هذا
الحديث سالم البراد، عن ابن عمر، فقال: رواه عبد الملك بن
عمير، عن سالم البراد، عن أبي هريرة، وهو الصحيح، وحديث ابن
عمر ليس بشيء، ابن عمر أنكر على أبي هريرة، حديثه" ومحمد في
هذا المثال هو البخاري. ويقصد بقوله وحديث ابن عمر ليس بشيء أي
هذا الإسناد الذي فيه ابن عمر لا يثبت. وقد استدل البخاري على
علة الحديث بأن ابن عمر أخذ على أبي هريرة روايته مثل هذا
الحديث، واستنكر.
أما الدارقطني فقد ذكر في علله أسانيد كثيرة دخل الوهم على بعض
رواتها فغيروا فيها:
مثال:
"وسئل، أي الدارقطني، عن حديث محمد بن سيرين، عن أبي هريرة
صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم العصر، فلما انصرف رأى رجلين
لم يصليا، فقال: علي بهما: ما لكما لم تصليا معنا؟ قالا: كنا
في منازلنا، فظننا أنك قد صليت فصلينا، قال: لا تفعلا، إذا
جئتما مسجدا والناس يصلون، فصليا معهم".
(1/146)
فقال - أي الدارقطني - يرويه هشام بن حسان،
اختلف عليه فيه.
فرواه الحكم بن عبده، وهو بصري سكن مصر، عن هشام، عن ابن سيرين
عن أبي هريرة، ووهم فيه على هشام بن حسان، وروي هذا الحديث عن
يعلى بن عطاء، عن جابر بن يزيد بن الأسود، عن أبيه، عن النبي
صلى الله عليه وسلم" وبهذا يكون الدارقطني قد كشف علة هذا
الإسناد وهي تغيير فاحش أصابه، ومصدر هذا الوهم هو الحكم بن
عبده، الراوي عن هشام بن حسان.
وقد تكون العلة تغييرا أو تصحيفا طرأ على الاسم، ومثال ذلك ما
ذكره ابن رجب في شرح علل الترمذي قال: "روى زهير بن معاوية عن
واصل بن حبان، عن ابن بريدة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه
وسلم عدة أحاديث منها "حديث الكمأة وحديث الحبة السوداء و"حديث
عرضت على الجنة".
قال أحمد وأبو داود: انقلب على زهير اسم صالح بن حيان، فقال
واصل ابن حبان، يعني إنما يروي عن صالح بن حيان فسماه واصلا.
وقال ابن معين: سمع منهما معا فجعلهما واحدا، وسماه واصل ابن
حبان، قال أبو حاتم زهير مع اتقانه أخطأ في هذا ولم يسمع من
واصل بن حبان ولم يدركه، إنما سمع من صالح بن حيان".
والذي أخطأ في هذا الإسناد رجل كبير من الأعلام الثقات، ولولا
فطنة أحمد وأبي حاتم وأبي داود لكان من العسير كشف مثل هذا
الوهم لا سيما وأن في الرواة الثقات. واصل بن حبان الأسدي،
المتوفى سنة 129، وهو ثقة، وصالح بن حيان القرشي، المتوفى سنة
140هـ.
هذه بعض أمثلة من الأوهام الواقعة في حديث الثقات والتي نشا
عنها تغيير في الإسناد كله أو بعضه، أو قلب للأسماء والكنى،
وسنختم هذا النوع بأمثلة تبين أن العلة تغيير في أسماء الرواة
لعيب في نطق الراوي عنهم، كما جاء في علل الإمام أحمد، قال:
"ابن الثلب إنما هو ابن التلب، ولكن شعبة كان في لسانه شيء.
ولعل غندرا لم يفهم عنه".
وقد وقع في مثل هذا أبو يوسف القاضي تلميذ أبي حنيفة، قال
أحمد: "كانت فيه لثغة فكان يقول: مطيف بن طييف الحايثي، بدل من
مطرف بن طريف الحارثي".
ثالثا - علة موضوعها:
الوهم في رفع الوقوف، أو وصل المرسل أو ما فيه انقطاع
وهذا النوع من العلة هو ميدان العلل الأوسع والأكبر، والذي لا
تكاد تخلو منه صفحة من كتب هذا الفن، ولذا فقد نص ابن رجب على
الاختلاف في الوصل والإرسال والوقف والرفع فقال: والوجه
الثاني، "من وجوه معرفة صحة الحديث وسقمه" معرفة مراتب الثقات،
وترجيح بعضهم على بعض عند الاختلاف، إما في الإسناد، وإما في
الوصل والإرسال، وإما في الوقف والرفع".
فقد يروى الحديث مرفوعا ولكن النقاد يكشفون عن وهم في رفعه
ويثبتون أن وقفه أصح، وقد يروى الحديث متصلا، وإرساله أثبت
وآكد. أو قد يروى متصلا وهو في الحقيقة معضل أو منقطع.
مثال:
وقد ذكر ابن رجب - رحمه الله - في شرح علل الترمذي أحاديث
رفعها
(1/148)
سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، عن جده
عن النبي صلى الله عليه وسلم ووقفها نافع مولى ابن عمر، عن ابن
عمر، عن عمر. ورجح ابن رجب وقف هذه الأحاديث.
قال ابن رجب:
"وسئل أحمد إذا اختلفا فلأيهما يقضي؟ فقال: كلاهما ثبت. ولم ير
أن يقضي لأحدهما على الآخر، نقله عنه المروذي، ونقل عثمان
الدارمي عن ابن معين نحوه، مع أن المروذي نقل عن أحمد أنه مال
إلى قول نافع في حديث "من باع عبدا له مال"، وهو وقفه. وكذلك
نقل غيره عن أحمد أنه رجح قول نافع في وقف حديث "فيما سقت
السماء العشر" ورجح النسائي والدارقطني قول نافع في وقف ثلاثة
أحاديث: "فيما سقت السماء العشر" وحديث: "تخرج نار من قبل
اليمن" وكذا حكى الأثرم عن غير أحمد أنه رجح قول نافع في هذه
الأحاديث وفي حديث: "الناس كابل مائة".
مثال:
وتوضيحا لهذه العلة، وهي الوهم في رفع الموقوف، نسوق مثالا من
علل الدارقطني جاء فيه
"وسئل عن حديث محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله
عليه وسلم أحبب حبيبك هونا، ... الحديث" فقال: يرويه الحسن بن
دينار، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه
وسلم واختلف عنه:
- فرواه سويد بن عمرو، عن حماد بن سلمة، عن أيوب، عن ابن
سيرين، عن أبي هريرة.
- وخالفه الحسن بن أبي جعفر، رواه عن أيوب، عن حميد الحميري،
عن علي بن أبي طالب.
(1/150)
- وقال هارون بن إبراهيم الأهوازي: عن ابن
سيرين عن حميد الحميري، عن علي يرفعه.
- قال الدارقطني: والصحيح عن علي موقوف".
مثال:
ومن الأمثلة على ما كان الإرسال هو أولى والأرجح من الاتصال ما
ذكره ابن رجب في شرح علل الترمذي، في معرض الكلام عن هشام بن
عروة، وأن الإمام أحمد قال: "إن عيسى بن يونس أسند عنه ما كان
يرسله الناس، كحديث الهدية".
وحديث الهدية هذا ما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
يقبل الهدية ويثيب عليها، فهذا الحديث رواه عيسى بن يونس، عن
هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، وعلق البخاري على هذا
الإسناد بقوله: لم يذكر وكيع ومحاضر عن هشام، عن أبيه، عن
عائشة.
مثال:
ومثال آخر ذكره ابن رجب في شرح علل الترمذي، قال:
ومنهم حمد بن يحيى الأبح، له أوهام عن ثابت منها حديثه عن أنس
مرفوعا مثل أمتي مثل المطر. والصواب: عن ثابت عن الحسن مرسلا.
ومما كان موقوفا، والمرفوع أولى وأصح، ما ذكره ابن رجب في
اختلاط ابن علية وحماد بن زيد في أيوب.
قال ابن رجب: "ورجحت طائفة ابن علية على حماد. قال البرذيجي:
(1/151)
ابن علية أثبت من روى عن أيوب، وقال بعضهم:
حماد بن زيد. وقال: ولم يختلفا إلا في حديث أوقفه ابن علية،
ورفعه حماد وهو حديث أيوب عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن
النبي صلى الله عليه وسلم "ليس أحد منكم ينجيه عمله، قالوا:
ولا أنت؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل".
قال ابن رجب: وليس وقف هذا الحديث مما يضره، فإن ابن سيرين كان
يقف الأحاديث كثيرا، والناس كلهم يخالفونه فيرفعونها".
وقد يكون الحديث متصلا، ولكن النقاد يكشفون عن علة فيه، وهي
قطعه على التابعي، ومثاله ما ذكره الترمذي في علله الكبير،
قال: "حدثنا هناد، (نا) محمد بن فضيل عن الأعمش، عن أبي صالح،
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن
الصلاة أولا وآخرا".
حدثنا هناد، (نا) أبو أسامة، عن الفزاري، عن الأعمش، قال: قال
مجاهد: كان يقال "إن للصلاة أولا وآخرا"، فذكره بنحوه.
سألت محمدا، (يعني البخاري) ، عن هذا الحديث، فقال: وهم فيه
محمد بن فضيل والصحيح حديث الأعمش عن مجاهد.
رابعا - علة موضوعها:
جمع الشيوخ وبقاء اللفظ واحدا
الأصل أن يوجد بعض الاختلاف في روايات الحديث الواحد، لتصرف
الرواة في لفظ الحديث، دون المعنى، فإذا روي أحد الرواة حديثا
واحدا عن عدد من الشيوخ ثم ساق اللفظ سياقا واحدا، فإن هذا
دليل على الوهم والخطأ إلا أن يكون الراوي مبرزا في الحفظ جدا.
قال ابن رجب في شرح علل الترمذي:
"ومعنى هذا أن الرجل إذا جمع بين حديث جماعة، وساق الحديث
سياقة
(1/152)
واحدة، فالظاهر أن لفظهم لم يتفق فلا يقبل
هذا الجمع إلا من حافظ، متقن لحديثه، يعرف اتفاق شيوخه
واختلافهم، كما كان الزهري يجمع بين شيوخ له في حديث الإفك
وغيره".
وقد مثل ابن رجب لهذا النوع من الإسناد المعلل بأمثلة كثيرة:
مثال:
قال ابن رجب: "قال أحمد في رواية الأثرم في حديث حماد بن سلمة
عن أيوب وقتادة، عن أبي أسماء عن أبي ثعلبة الخشني، عن النبي
صلى الله عليه وسلم "في آنية المشركين".
قال أحمد: هذا من قبل حماد، كان لا يقوم على مثل هذا، يجمع
الرجال ثم يجعله إسنادا واحدا، وهم يختلفون".
"وقال أحمد: ابن إسحاق حسن الحديث، لكن إذا جمع بين رجلين.
قلت: كيف؟ قال: يحدث عن الزهري وآخر، يحمل حديث هذا على هذا".
وممن يعل حديثه إذا جمع الشيوخ ليث بن أبي سليم، وعطاء بن
السائب والواقدي، وعبد الرحمن بن عبد الله بن عمر العمري.
خامسا - علة موضوعها:
جرح الراوي
عرفنا فيما سبق أن ميدان علم العلل حديث الثقات فيكشف عن
أوهامهم وأخطائهم، ورأينا ابن رجب يحدد مهمة علم العلل بأنه
يبحث في مراتب الثقات، وقول من منهم يرجح عن الاختلاف، كما
رأينا يجعل علم الجرح
(1/153)
قسيما لعلم العلل، ويكل امر المجروحين من
المحدثين إلى الكتب التي صنفت فيهم.
كل هذا إذا روى المجروح حديثا، لكن إذا روى الثقة عن المجروح
فإن هذه الرواية قد تعمي حال المجروح على كثير من الناس،
وعندها فلا بد من أن يتدخل العالم بالعلل ليكشف عن موضع العلة،
وإذا بها رواية العدل عن المجروح.
هذا النوع من علة الإسناد تكلم عنه ابن رجب كثيرا في شرح علل
الترمذي كأن يقول:
"قاعدة:
قال أحمد: كل من روى عنه مالك فهو ثقة. قال النسائي: لا نعلم
مالكا روى عن إنسان ضعيف مشهور بالضعف إلا عاصم بن عبيد الله
فإنه روى عنه حديثا، وعن عمرو بن أبي عمرو، وهو أصلح من عاصم،
وعن شريك بن أبي نمر، وهو أصلح من عمرو.
ولا نعلم مالكا حدث عن أحد يترك حديثه، إلا عن عبد الكريم أبي
أمية". ويقول ابن رجب - رحمه الله - في موضع آخر:
وأما علي بن عاصم فهو علي بن عاصم بن صهيب بن سنان الواسطي،
يكنى أبا الحسن، وقد رماه طائفة بالكذب، منهم يزيد بن هارون
وغيره، وكذبه - أيضا - ابن معين، وكان أحمد يحسن القول فيه،
ويوثقه ويقول: إنه يخطئ".
ومن هنا يتأكد لنا أن دخول هذا النوع من الجرح في علم العلل
إنما كان لعلاقته الوطيدة برواية الثقات.
(1/154)
مثال:
قال الترمذي في علله الكبير: (ثنا) قتيبة بن سعيد (نا) أبو
صفوان، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، عن أبي سلمة عن عائشة عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا نذر في معصية، وكفارته
كفارة يمين".
سألت محمدا عن هذا الحديث، فقال: روى ابن المبارك، عن يونس عن
الزهري، قال: أخبرت عن أبي سلمة، عن عائشة، وروى موسى بن عقبة
وابن أبي عتيق، عن الزهري، عن سليمان بن أرقم، عن يحيى بن أبي
كثير عن أبي سلمة، عن عائشة.
قال محمد (هو البخاري) : وسليمان بن أرقم متروك، ذاهب الحديث".
وفي هذا الحديث نجد الزهري يروي عن سليمان بن أرقم، والزهري
إمام من الأئمة الأعلام، وهو ثقة من كبار الثقات، وروايته هذه
عن سليمان بن أرقم قد تجعل الحديث فوق التهمة والظنة عند كثير
من الناس.
مثال آخر:
جاء في علل ابن أبي حاتم: "سئل أبو زرعة عن حديث كان حدث به
قديما، عن محمد بن جامع العطار عن معتمر بن سليمان، عن الحجاج
الباهلي، وهو الأحول، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال:
أرادت عائشة أن تشتري بريرة فتعتقها، فقال مواليها: لا، إلا أن
تجعل الولاء لنا. فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: اشتريها فإن الولاء لمن أعتق ... الخ الحديث.
فقال أبو زرعة: اضربوا عليه، وأبى أن يقرأه، وقال: خطأ، وأظنه
من محمد بن جامع. وقال: محمد بن جامع شيخ فيه لين".
(1/155)
ونلاحظ في هذا الحديث قول ابن أبي حاتم.
وسئل أبو زرعة عن حديث كان يحدث به قديما.
وبهذا يكون إلحاق هذا الجرح بالعلل لأن أبا زرعة حدث به قديما،
ولم يكن حال محمد بن جامع مكشوفا له كما يبدو من العبارة.
المطلب الثاني العلة في متن الحديث
رأينا فيما سبق عللا وقعت في سند الحديث كرفع الوقوف، ووصل
المرسل وزيادة راو، أو إبداله، أو تحريف في أسماء الرواة. وأما
مبحثنا هذا فهو معقود للتعرف على علة المتن. والمتن هو ما ينقل
عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة
خلقية، أو خلقية أو ما ينقل عن الصحابة والتابعين وقد يتعرض
هذا المتن لأوهام النقلة فتدخل عليه علة من العلل فتحيله عن
معناه، أو تحرف لفظه، أو تدخل فيه ما ليس منه.
ويمكننا أن نرجع علل المتون إلى الأنواع التالية:
الأول: ما كانت علته إحالة المعنى كليا أو جزئيا.
الثاني: ما كانت علته تحريفا في لفظ من ألفاظه.
الثالث: ما كانت علته مخالفة الراوي الذي رواه لمقتضاه.
الرابع: ما كانت علته إدراج كلام آخر فيه، ليس منه.
الخامس: ما كانت علته أنه لا يشبه كلام النبوة.
ولقد بث ابن رجب - رحمه الله - هذه الأنواع على شكل أمثلة
ومباحث وقواعد في كتابه شرح علل الترمذي. وفيما يلي تفصيل لهذه
الأنواع مستفيدين من أمثلة ابن رجب ومباحثه وقواعده:
النوع الأول:
إحالة معنى الحديث إذا كان راويه غير عالم باللغة ولا بالمراد
من اللفظ،
(1/156)
وقد تكلم ابن رجب - رحمه الله - على راوية
الحديث بالمعنى، ونقل جوازها عن جمهور العلماء بشرط أن يكون
الراوي ملما باللغة، عارفا، عالما، بصيرا بمواقع الألفاظ، وما
يحيلها عن المراد.
ولا بد أن يكون الراوي عارفا المراد من الحديث ليحمله على هذا
المراد، ولا يصرفه لغيره.
قال ابن رجب: "وقد روى كثير من الناس الحديث بمعنى فهموه منه،
فغيروا المعنى، مثل ما اختصر بعضهم من حديث عائشة في حيضها في
الحج، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها، وكانت حائضا:
"انقضي رأسك وامتشطي". وأدخله في أبواب غسل الحيض. وقد أنكر
أحمد ذلك على من فعله، لأنه يخل بالمعنى، فإن هذا لم تؤمر به
في الغسل من الحيض عند انقطاعه، بل في غسل الحائض إذا أرادت
الإحرام".
قال ابن رجب - رحمه الله -: وروى بعضهم حديث إذا قرأ الإمام
فأنصتوا، بما فهمه من المعنى، فقال: إذا قرأ الإمام (ولا
الضالين) فأنصتوا فحمله على فراغه من القراءة، لا على شروعه
فيها. ومثل هذا ما أخرجه ابن أبي حاتم في العلل، قال:
"وسألت أبا زرعة عن حديث أبي الأحوص عن سماك، عن القاسم بن عبد
الرحمن عن أبيه، عن أبي بردة، قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم "اشربوا في الظروف ولا تسكروا".
قال أبو زرعة: وفي هذا الحديث أخطأ أبو الأحوص فصحف في
الإسناد، فقال: بردة وهو بريدة، وقلب في الإسناد فقال: عن
أبيه، عن أبي بريدة، وهو ابن بريدة، عن أبيه. ثم قال أبو زرعة:
(1/157)
وأفحش من ذلك وأشنع تصحيفة في المتن:
"اشربوا في الظروف ولا تسكروا" وقد روى هذا الحديث عن ابن
بريدة، عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق كثيرة،
ونصه:
"نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق
ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم، ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء،
فاشربوا في الأسقية، ولا تشربوا مسكرا".
وفي حديث بعضهم عن بريدة قال: واجتنبوا كل مسكر، ولم يقل أحد
من الرواة ولا تسكروا.
النوع الثاني - ما كانت علته تحريفا في لفظ من ألفاظه:
وقد مثل له ابن رجب بمن حرف كلمة "نؤديه" فجعلها "نورثه" وبدل
أن يجعل الحديث في صدقة الفطر، وهو: كنا نؤديه على عهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: الجد.
وقد سبق الكلام عن هذا في أسباب العلل.
النوع الثالث - ما كانت علته مخالفة راويه لمقتضاه:
هذا النوع من العلة أفرد له ابن رجب قاعدة من قواعد كتابه شرح
علل الترمذي، فقال:
"قاعدة: في تضعيف حديث الراوي إذا
روى ما يخالف رأيه"
. وقال ابن رجب: قد ضعف الإمام أحمد وأكثر الحفاظ أحاديث كثيرة
بمثل هذا.
فمنها: أحاديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في المسح
على الخفين، ضعفها أحمد ومسلم وغير واحد
وقال أحمد أبو هريرة ينكر المسح على الخفين فلا يصح له فيه
رواية.
(1/158)
ومنها: أحاديث ابن عمر في المسح على الخفين
أيضا، أنكرها أحمد، وقال: ابن عمر أنكر على سعد بن أبي وقاص،
المسح على الخفين، فكيف يكون عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم
فيه رواية.
ومنها: حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
للمستحاضة: "دعي الصلاة أيام أقرائك".
قال أحمد: كل من روى هذا عن عائشة فقد أخطأ، لأن عائشة تقول:
الأقراء الأطهار، لا الحيض".
ومن ذلك: ما أخرجه الترمذي في علله الكبير، قال:
"حدثنا أحمد بن منيع نا يزيد بن هارون، أنا إسماعيل بن أبي
خالد، عن سالم البراد، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال:
"من صلى على جنازة فله قيراط، ومن تبعها حتى يفرغ منها فله
قيراطان أحدهما أو أصغرهما مثل أحد.
سألت محمدا عن هذا الحديث، فقال: رواه عبد الملك بن عمير عن
سالم البراد عن أبي هريرة وهو الصحيح، وحديث ابن عمر ليس بشيء.
ابن عمر أنكر على أبي هريرة حديثه".
هكذا أعل البخاري هذا الحديث.
ومن ذلك: ما أخرجه الترمذي في علله أيضا: "ثنا علي بن حجر، ثنا
عيسى بن يونس، عن هشام بن حسان، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة،
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ذرعه القيء فليس عليه
قضاء، ومن استقاء عمدا فليقض".
سألت محمدا عن هذا الحديث فلم يعرفه إلا من حديث عيسى بن
(1/159)
يونس، عن هشام بن حسان، عن ابن سيرين، عن
أبي هريرة، وقال: ما أراه محفوظا.
قال: وقد روى يحيى بن أبي كثير عن عمر بن الحكم، أن أبا هريرة
كان لا يرى القيء يفطر الصائم".
النوع الرابع - ما كانت علته إدراج كلام آخر فيه:
وصورة هذا النوع من العلة أن يدخل في سياق الحديث ما ليس منه،
سواء أكان هذا الدخل حديثا آخر أو بعض حديث، أم كان كلاما
للراوي يوضح به المراد من الحديث، وفي كلتا الحالتين يظهر
الحديث مع ما أدرج فيه حديثا واحدا دونما تمييز بينهما أو فاصل
يحدد كلا منهما.
ومثال إدراج الحديث في الحديث ما ذكره ابن رجب في معرض كلامه،
عن جعفر بن برقان، فقال: "وكذا قال العقيلي هو ضعيف في روايته
عن الزهري وذكر له حديثه عن الزهري عن سالم عن أبيه، عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن لبستين، وبيعتين، ونكاحين، وعن
مطعمين، وذكر الجلوس على مائدة يشرب عليها الخمر، وأن يأكل
الرجل وهو منبطح على وجهه"، وقال: لا يتابع عليه من حديث
الزهري.
وأما الجلوس فيروى من غير حديث الزهري بأسانيد صالحة ما خلا
الجلوس على مائدة يشرب عليها الخمر فالرواية فيها لين انتهى
كلام ابن رجب
ومراد ابن رجب أن جعفر بن برقان روى عن الزهري النهي عن الجلوس
على مائدة يشرب عليها الخمر، وروى أحاديث أخرى من غير طريق
محمد بن شهاب الزهري فأدخل كل هذه الأحاديث في إسناد واحد وهو
الزهري عن سالم، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(1/160)
وقد خرجنا هذا الحديث في مكانه من شرح
العلل، وذكرنا قول أبي زرعة فيه:
حديث جعفر بن برقان إنما هو عن قبيصة بن ذؤيب، وعروة بن
الزبير، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أبي هريرة
- وحديث "نهى أن يتزوج الرجل المرأة على عمتها"، وحديث
"المنابذة والملامسة"، إنما هو عن الزهري، عن عامر بن سعد، عن
أبي سعيد.
وأما ما كان الإدراج فيه دخول كلام من الراوي على متنه فمثاله
حديث الاستسعاء، وهو ما أخرجه أبو داود من طريق سعيد بن أبي
عروبة، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي
هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
من أعتق شقصا أو شقيصا له في مملوك فخلاصه عليه في ماله، إن
كان له مال، فإن لم يكن له مال قوم العبد قيمة عبد، ثم استسعى
لصاحبه في قيمته غير مشقوق عليه.
وقد روي هذا الحديث من طرق أصح وأكثر، وليس فيها ذكر
الاستسعاء.
وفي هذا نقل ابن رجب كلاما عن الإمام أحمد أنه لا يعبأ برواية
سعيد بن أبي عروبة هذه التي ذكر فيها الاستسعاء، وقدم رواية
شعبة وهمام عن قتادة ولم يذكرا الاستسعاء، ونقل ابن رجب قول
الإمام أحمد: "ولا أذهب إلى الاستسعاء".
وقد تعرضنا لهذا الحديث في زيادة الثقة، وقد خرجنا رواياته في
شرح العلل.
وقد بين الحاكم في معرفة علوم الحديث مكان الإدراج في هذا
الحديث فقال: "حديث العتق ثابت صحيح وذكر الاستسعاء فيه من قول
قتادة، وقد
(1/161)
وهم من أدرجه في كلام النبي صلى الله عليه
وسلم ويشهد بصحة ذلك ما روي عن قتادة عن النضر بن أنس، عن بشير
بن نهيك عن أبي هريرة أن رجلا أعتق شقصا له في مملوك فغرمه
النبي صلى الله عليه وسلم قال همام: "وكان قتادة يقول: إن لم
يكن له مال استسعى العبد".
فقول همام هذا أكد لنا بأن الاستسعاء مدرج في الحديث. وليس في
الحديث زيادة ثقة، لأن زيادة الثقة هي جزء من الحديث روي من
بعض الطرق ولم يرو من بعضها الآخر.
النوع الخامس - ما كانت علته أنه لا يشبه كلام النبي صلى الله
عليه وسلم:
ومن ذلك ما يشبه كلام القصاص: وقد مثل له ابن رجب في شرح علل
الترمذي بحديث يرويه عمر بن يزيد الرفاء، عن شعبة، عن عمرو بن
مرة، عن أبي وائل، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: "ما بال أقوام يشرفون المترفين، ويستخفون بالعابدين،
ويعملون بالقرآن ما وافق أهواءهم وما خالف أهواءهم تركوه، فعند
ذلك يؤمنون ببعض الكتاب، ويكفرون ببعض، يسعون فيما يدرك بغير
سعي من القدر المقدور، والأجل المكتوب، والرزق المقسوم، ألا
يسعون فيما لا يدرك بالسعي من الجزاء الموفور، والسعي المشكور،
والتجارة التي لا تبور".
قيل في هذا أنه يشبه كلام القصاص، واستغرب عن شعبة، وحمله
النقاد على رجل كذاب اسمه عبد الله بن المسور المدائني.
قال ابن رجب: ومنه قول أبي أحمد الحاكم، في حديث علي الطويل في
الدعاء لحفظ القرآن، إنه يشبه أحاديث القصاص كذلك.
(1/162)
وقال في موضع آخر: ومن ذلك أنهم يعرفون
الكلام الذي يشبه كلام النبي صلى الله عليه وسلم من الكلام
الذي لا يشبه كلامه قال ابن أبي حاتم الرازي، عن أبيه: تعلم
صحة الحديث بعدالة ناقليه، وأن يكون كلاما يصلح أن يكون مثل
كلام النبوة.
ويعرف سقمه وإنكاره بتفرد من لم تتضح عدالته، والله أعلم.
هذه بعض أنواع علة المتن، وهي الأنواع التي وقعت لي في شرح علل
الترمذي وفي كتب العلل التي اطلعت عليه، وهذه الأنواع ليست على
سبيل الحصر، وإنما على سبيل التمثيل، وإنني لا أدعي استقراء
كتب العلل كلها لإخراج كل أنواع العلة، لأن هذا بحث يحتاج إلى
سنين، وتفنى فيه أعمار.
المبحث الرابع الأشباه في العلل
تمهيد:
رأينا في الأنواع السابقة نماذج من العلل كشفها النقاد بعبارات
صريحة واضحة لا لبس فيها، وذلك لقيام الأدلة الكاملة عندهم.
وأما هذا المبحث فقد أفردته للأشباه في العلل. وعنوان هذا
المبحث رأيت أنه يصلح لأن تنطوي تحته هذه العلل التي يكشف عنها
الناقد بقوله: حديث فلان أشبه أو أشبه بالصواب. أو يقول: حديث
فلان أشبه بحديث فلان أو يقول الناقد: هذا الحديث يشبه حديث
القصاص، هذه مادة هذا المبحث، وهذا الذي أقصده بالأشباه، ولعلي
لا أستبق الموضوع إن قلت أن الأشباه تعبير عن الكشف الظني
للعلة الذي يحتمل أمورا كثيرة، وإن كان قول الناقد هذا هو
الأرجح من غيره.
وننطلق في هذا المبحث من قاعدة رسمها ابن رجب - رحمه الله -
فقال:
(قاعدة مهمة) :
حذاق النقاد من الحفاظ لكثرة ممارستهم للحديث، ومعرفتهم
بالرجال وأحاديث كل واحد منهم، لهم فهم خاص يفهمون به أن هذا
الحديث يشبه حديث فلان ولا يشبه حديث فلان فيعللون الأحاديث
بذلك. وهذا مما لا يعبر عنه بعبارة تحصره وإنما يرجع فيه أهله
إلى مجرد الفهم، والمعرفة، التي خصوا بها عن سائر أهل العلم،
كما سبق ذكره في غير موضع.
(1/163)
ثم مثل ابن رجب - رحمه الله - لهذا بأمثلة،
منها:
شعيب بن أبي حمزة، عن ابن المنكدر.
روى عنه أحاديث منها حديث ابن المنكدر عن جابر، مرفوعا: من قال
حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة ... الحديث، وله
علة ذكرها ابن أبي حاتم عن أبيه، قال: قد طعن في هذا الحديث،
وكان قد عرض شعيب بن أبي حمزة على ابن المنكدر كتابا، فأمر
بقراءته عليه، فعرف بعضا، وأنكر بعضا، وقال لابنه أو ابن أخيه:
اكتب هذه الأحاديث، فروى شعيب ذلك الكتاب، وعرض علي بعض تلك
الأحاديث فرأيتها مشابهة لحديث إسحاق بن أبي فروة، وهذا الحديث
من تلك الأحاديث.
قلت - أي ابن رجب - ومصداق ذلك ما ذكره أبو حاتم أن شعيب بن
أبي حمزة روى عن ابن المنكدر، عن جابر حديث الاستفتاح في
الصلاة بنحو سياق حديث علي، وروى عن شعيب عن ابن المنكدر، عن
الأعرج، عن محمد بن مسلمة فرجع الحديث إلى الأعرج. وإنما رواه
الناس عن الأعرج، عن عبيد الله بن رافع، عن علي بن أبي طالب.
ومن جملة من رواه عن الأعرج بهذا الإسناد إسحاق بن أبي فروة.
وقيل إنه رواه عن عبد الله بن الفضل عن الأعرج، وروى عن محمد
بن حمير، عن شعيب بن أبي حمزة، عن ابن أبي فروة، وابن المنكدر،
عن الأعرج، عن محمد بن مسلمة.
ورواه أبو معاوية، عن شعيب، عن إسحاق عن الأعرج، عن عبيد الله
بن رافع عن محمد بن مسلمة.
فظهر بهذا أن الحديث عند شعيب عن ابن أبي فروة
وكذا قال أبو حاتم الرازي: هذا الحديث من حديث إسحاق بن أبي
فروة يرويه شعيب عنه.
(1/166)
وحاصل الأمر أن حديث الاستفتاح رواه شعيب
عن إسحاق بن أبي فروة وابن المنكدر، فمنهم من ترك إسحاق، وذكر
ابن المنكدر، ومنهم من كنى عنه فقال عن ابن المنكدر وآخر، وكذا
وقع في سنن النسائي.
وهذا مما لا يجوز فعله وهو أن يروي الرجل حديثا عن اثنين،
أحدهما مطعون فيه والآخر ثقة، فيترك ذكر المطعون فيه، ويذكر
الثقة. وقد نص الإمام أحمد على ذلك، وعلله بأنه ربما كان في
حديث الضعيف شيء ليس في حديث الثقة. وهو كما قال، فإنه ربما
كان سياق الحديث للضعيف، وحديث الآخر محمولا عليه.
فهذا الحديث يرجع إلى رواية إسحاق بن أبي فروة وابن المنكدر
ويرجع إلى حديث الأعرج.
ورواية الأعرج له معروفة عن ابن أبي رافع عن علي وهو الصواب
عند النسائي والدارقطني وغيرهما
وهذا الاضطراب في الحديث الظاهر أنه من ابن أبي فروة لسوء حفظه
وكثرة اضطرابه في الأحاديث وهو يروي عن ابن المنكدر.
وقد روى هذا الحديث يزيد بن عياض بن جعدبة، عن ابن المنكدر، عن
الأعرج، عن ابن أبي رافع، عن علي.
ويمكن أن نلخص ما مضى بما يلي:
1 - الصحيح ما رواه الناس ومنهم إسحاق بن أبي فروة عن ابن
المنكدر، عن الأعرج، عن عبيد الله بن رافع، عن علي أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان إذا قام يصلي قال: الله أكبر وجهت وجهي
للذي فطر السماوات والأرض حنيفا ... الخ الآية.
(1/167)
2 - وأما إسحاق بن أبي فروة فقد روى هذا
الحديث من طريقين:
الأولى: ابن أبي فروة، عن ابن المنكدر، عن الأعرج، عن محمد بن
مسلمة.
الثانية: ابن أبي فروة، عن الأعرج، عن عبيد الله بن رافع، عن
محمد بن مسلمة.
3 - رواه شعيب عن ابن المنكدر وإسحاق بن أبي فروة، علما بأنه
لم يسمعه من ابن المنكدر، وإنما من إسحاق، فسلك به طريق إسحاق
إلى محمد بن مسلمة وسوى بين إسناد ابن المنكدر وإسناد إسحاق بن
أبي فروة.
4 - ترك بعض الرواة إسحاق بن أبي فروة، وذكر ابن المنكدر،
وبعضهم قال: ابن المنكدر وآخر، يكنى عن إسحاق بن أبي فروة.
5 - وهكذا دخل إسناد إسحاق بن أبي فروة في إسناد ابن المنكدر،
وانتهى بإسقاط إسحاق من الإسناد.
ولما عرف النقاد تفرد إسحاق في ذكر محمد بن مسلمة علموا بعد
ذلك أن هذا الحديث من حديث إسحاق ولو لم يذكر هو في السند.
فقالوا: شعيب عن ابن المنكدر يشبه حديث إسحاق بن أبي فروة.
وبالرغم من أنني حاولت جهدي أن أسهل وأوضح، إلا أن الأمر يبقى
على جانب من الصعوبة. وذلك لما في هذه الأسانيد من التداخل إذ
أنها تلتقي في راو وتفترق عند آخر، وتبدو وكأنها جهاز دقيق
الآلات، تتشابك بداخله الخيوط والأسلاك، ولكنه لا يعدم من يعرف
أجزاءه ويتابع أسلاكه وخيوطه.
مثال:
قال ابن رجب: "سعيد بن سنان ويقال سنان بن سعيد يروى عن أنس
ويروى عنه أهل مصر. قال أحمد: تركت حديثه، حديثه مضطرب. وقال:
بشبه حديثه حديث الحسن لا يشبه أحاديث أنس".
(1/168)
قال ابن رجب: "ومراده أن الأحاديث التي
يرويها عن أنس مرفوعة إنما تشبه كلام الحسن البصري أو مراسليه.
وقال الجوزجاني: أحاديثه واهية لا تشبه أحاديث الناس عن أنس".
وهكذا يتضح لنا أن أحاديث سعيد بن سنان إنما يرويها عن الحسن
لا عن أنس لعدة قرائن:
1 - إن هذا الرجل معروف باضطرابه.
2 - إن هذه الأحاديث غريبة عن أنس ولم يروها الناس عنه
3 - إن هذه الأحاديث معروفة عن الحسن، لا عن أنس.
مثال:
قال ابن رجب - رحمه الله -:
قال البرذعي: "قال لي أبو زرعة: خالد بن يزيد المصري وسعيد بن
أبي هلال صدوقان، وربما وقع في قلبي من حسن حديثهما.
قال: وقال لي أبو حاتم: أخاف أن يكون بعضهما مراسيل عن ابن أبي
فروة وابن سمعان". قال ابن رجب:
"ومعنى ذلك أنه عرض حديثهما على حديث ابن أبي فروة وابن سمعان،
فوجده يشبهه ولا يشبه حديث الثقات الذين يحدثان عنهما فخاف
(أبو زرعة) أن يكونا أخذا حديث ابن أبي فروة وابن سمعان،
ودلساه عن شيوخهما".
هذا كلام ابن رجب، وفيه تفسير واضح لشك أبي زرعة في هذين
الرجلين، ثم كيف تحقق من صحة هذا الشك.
(1/169)
مثال: قال ابن رجب - رحمه الله -:
"روى القواريري، عن ابن بكر الحنفي، عن عاصم بن محمد العمري،
ثنا سعيد المقبري، عن أبيه عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله
عليه وسلم: قال الله تعالى: ابتلي عبدي المؤمن، فإن لم يشكني
إلى عواده أطلقته من أسارى ثم أبدلته لحما خيرا من لحمه.
هذا الحديث ليس من أحاديث سعيد المقبري، بل هو يشبه أحاديث عبد
الله بن سعيد المقبري: ودليل ذلك كما يقول ابن رجب - رحمه الله
-:
1 - هذا حديث منكر بهذا الإسناد وإنما رواه عاصم بن محمد، عن
عبد الله بن سعيد المقبري، عن أبيه.
2 - رواه معاذ بن معاذ، عن عاصم بن محمد، عن عبد الله بن سعيد،
عن أبيه. وعبد الله بن سعيد شديد الضعف، قال: يحيى القطان ما
رأيت أحدا أضعف منه".
مثال: قال ابن رجب - رحمه الله -:
"روى أبو جعفر العقيلي في كتابه "الضعفاء" قال: حدثنا إبراهيم
بن محمد، وعلي بن عبد العزيز، قالا: حدثنا عمر بن يزيد
الشيباني الرفا، قال: حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة، عن أبي وائل،
عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
"ما بال أقوام يشرفون المترفين، ويستخفون بالعابدين، ويعلمون
بالقرآن ما وافق أهواءهم، وما خالف أهواءهم تركوه، فعند ذلك
مؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، يسعون فيما يدرك بغير سعي من
القدر والمقدور، والأجل المكتوب، الرزق المقسوم، إلا يسعون
فيما لا يدرك إلا بسعي من الجزاء الموفور، والسعي المشكور
والتجارة التي لا تبور"؟
(1/170)
قال العقيلي: "ليس لهذا الحديث أصل من حديث
شعبة، هذا الكلام عندي، والله أعلم، يشبه كلام عبد الله بن
المسور الهاشمي المدائني، وكان يضع الحديث. وقد روى عن عمرو بن
مرة، عنه. ولعل هذا الشيخ - الذي هو عمر بن يزيد الرفا - روى
عن رجل عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن المسور فأحاله على
شعبة".
وهكذا أدرك العقيلي، وهو الناقد البصير، أن هذا الحديث من
المحتمل أن يكون لرجل لم يذكر نهائيا في هذا الإسناد، وذلك:
1 - لغرابته عن شعبة، ولكون هذا الشيخ (عمر بن يزيد) مجهولا.
2 - لشبهه بأحاديث القصاص الذين يتألفون قلوب الناس بأحاديث
يضعونها، فإن من يمعن النظر في هذا الحديث يرى فيه أثر الصنعة.
3 - لما كان عمرو بن مرة معروفا بالرواية عن أحد الكذابين، وهو
عبد الله بن المسور، فإن العقيلي يرى أن هذا الحديث يشبه
أحاديث هذا الوضاع، ولا يشبه حديث شعبة.
هذه أمثلة ذكرها ابن رجب لهذا الضرب من العلة، وجعل لها قاعدة
من قواعده، وصفها بالأهمية كما رأينا.
وكتب العلل مليئة بهذا النوع من العلة وكثيرا ما يقال: حديث
فلان أشبه، أو أشبه بالصواب، أو أشبه لسبب من الأسباب المرجحة.
وفيما يلي بعض الأمثلة من كتب العلل الأخرى توقفنا على مزيد من
البيان والإيضاح.
جاء في علل الدارقطني: "سئل عن حديث عمر عن أبي بكر أنه قبل
الحجر، وقال: لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقبلك ما قبلتك. فقال:
(1/171)
يرويه سليمان بن بلال، عن شريك بن أبي
نمير، واختلف عنه.
- فرواه أبو بكر الأعشى وهو عبد الحميد بن أبي أويس أخو
إسماعيل بن أبي أويس عن سليمان بن بلال، عن شريك بن أبي نمر،
عن عيسى بن طلحة، عن عمر، عن أبي بكر.
- وخالفه خالد بن مخلد، وعبد الله بن وهب، فروياه عن سليمان بن
بلال: عن شريك بن أبي نمر، عن عيسى بن طلحة عن رجل حدثه لم
يسميا عمر لا غيره، عن أبي بكر.
وقولهما أشبه بالصواب. وتابعهما عبد الملك بن مسلمة عن سليمان
بن بلال".
فالإسناد الذي أبهم فيه رجل أشبه بالصواب.
قال ابن أبي حاتم: "سالت أبي عن حديث رواه الأعمش وفضيل بن
عمرو، عن علقمة، عن عبد الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر" ...
وذكر الحديث.
ورواه ابن أبجر، عبد الملك بن سعيد بن أبجر، عن أبي معشر، عن
إبراهيم عن الأسود، عن عبد الله، موقوفا.
أيهما أصح. فقال: الأعمش وفضيل أضبط من أبي معشر، وهو أشبه
بالصواب".
قال ابن أبي حاتم: "سألت أبي عن حديث رواه موسى بن خلف، وحماد
بن زيد، وأحسبه عن أنس. وقال موسى: عن أنس، عن النبي صلى الله
عليه وسلم "من كانت له ابنتان أو ثلاث كنت أنا وهو كهاتين. قال
أبي:
(1/172)
رواه حماد بن سلمة عن ثابت، عن عائشة، عن
النبي صلى الله عليه وسلم هو أشبه بالصواب وحماد أثبت الناس في
ثابت، وعلي بن زيد".
هذه أمثلة كان الحكم فيها بصيغة أشبه بالصواب، وذلك عند مقارنة
إسنادين، أو رواية رجلين، ويكون أحدهما أقرب إلى الصحة من
الآخر.
وكثيرا ما تكون هذه العبارة مبررة بقرينة تؤيدها. وفيما يلي
عبارات من العلل لابن أبي حاتم ومن العلل الكبير للترمذي فيها
مثل هذا التبرير:
- قال أبو زرعة: محمد بن يزيد أشبه عن أبيه، لأنه أفهم لحديث
أبيه.
- حديث عنبسة وعمرو أشبه عندي. إذ اتفق عليه النفسان، وهما
الرواة عن الزبير بن عدي.
- قال أبو زرعة: عبد الله بن الربيع، عن أبي بردة، عن الربيع
بن خيثم أشبه، الرواية من طريق الثوري.
- "قال أبي: ابن عباس أشبه، لأن أيوب أشبههم وأحفظهم". أي
الرواية التي تنتهي بابن عباس أشبه من الرواية الأخرى، لأن
رواية ابن عباس جاءت من طريق أيوب.
- "لم يسمع يحيى بن أبي كثير من نوف شيئا، إنما روى عن زيد بن
سلام عن أبي سلام عن نوف وهو أشبه"، أي أن الرواية الثانية
سليمة من الانقطاع، خلافا للأولى.
(1/173)
هذه أشبه، وزكريا لزم الطريق، ومعنى لزم
الطريق دخل على إسناد آخر لشهرة رجاله، وترك إسناده الصحيح.
- مرسل أشبه، يحيى بن جعدة لم يلق ابن مسعود.
- لا يشبه هذا الحديث حديث الأعمش، لأن الأعمش لم يرو عن أبي
تميمة شيئا، وهو بأبي إسحاق أشبه. أي أن الوهم أدخل الأعمش
مكان أبي إسحاق.
- لا يرفعون هذا الحديث، والموقوف عندنا أشبه.
- حديث عقيل، عن الزهري أشبه من حديث عبد الله بن بشير، عنه،
لأن عقيلا معروف بالرواية عن الزهري.
- وحديث يونس بن أبي إسحاق أشبه من حديث عمار بن زريق عن أبي
إسحاق، لأن عمار بن زريق سمع من أبي إسحاق بأخرة.
- وحديث همام عن قتادة أشبه، وهو ثقة حافظ.
وذلك في مقابل رواية عبد الأعلى بن سعيد عن قتادة.
- حديث أبي سلمة، عن أبي هريرة أشبه، وعكرمة بن عمار يغلط
الكثير في أحاديث يحيى بن أبي كثير، وفي ذلك ترجيح رواية محمد
بن عمرو، عن أبي سلمة عن أبي هريرة، على رواية عكرمة بن عمار
عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.
(1/174)
- قال أبي، حديث منصور أشبه، لأن حديث أبي
هاشم رواه حجاج بن دينار، عن أبي هاشم وحجاج ليس بالقوي، وفي
حديث الربيع بن أنس دونه مصعب بن حيان، عن مقابل بن حيان. قال
أبو زرعة: حديث منصور أشبه، لأن الثوري رواه وهو أحفظهم.
- حديث أبي معمر أشبه من حديث عبد الصمد بن عبد الوارث، لأن
ابن بريدة يروي عن ابن عمر في حديث عبد الصمد، قلت لأبي: ابن
بريدة أدرك ابن عمر؟ قال: أدركه ولم يبين سماعه منه.
- وهيب أشبه، ووهيب أتقن وأوثق من أبي معاوية.
- وحديث إسرائيل أشبه، إذ كان هو أحفظ.
- وهو أشبه عندي، لأن الثوري أحفظهم.
- قال أبي: لا يحتمل عندي أن يكون من حديث ابن عمر، عبد الله
بن عمرو أشبه. وذلك في حديث: كل مسكر حرام، وهو مشهور عن ابن
عمرو، وتشابه عمر وعمرو يوقع في مثل هذا الوهم، فقال أبوا حاتم
"بابن عمرو أِشبه".
- قيل لأبي: أيهما أصح؟ قال: المسعودي أفهم بحديث عون، وهو
أشبه.
(1/175)
هذه الأمثلة تعرض لأسانيد وقع الاختلاف
فيها، فحاول النقاد بيان الأشبه بالصواب، وكذلك الحال عندما
يقع الاختلاف في المتون، فإنهم يلتمسون لأحدهما المرجح على
بقيتها، وذلك فيما لا يمكن فيه الجمع من هذه المتون.
مثال:
قال الترمذي: "حدثنا أبو موسى بن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر،
ثنا شعبة، عن الحكم، عن القاسم بن مخيمرة، عن عمرو بن شرحبيل،
عن قيس بن سعد: كنا نصوم يوم عاشوراء ونعطي زكاة الفطر قبل أن
ينزل علينا.. الحديث.
حدثنا محمد بن بشار، حدثنا ابن مهدي، حدثنا سفيان، عن سلمة بن
كهيل، عن القاسم، عن أبي عمار، عن قيس بن سعد، قال: أمرنا بصوم
عاشوراء.
سألت محمدا عن هذا الحديث فقلت له: حديث الحكم، عن القاسم بن
مخيمرة، عن عمرو بن شرحبيل، عن قيس بن سعد أصح؟ أو حديث سلمة
بن كهيل عن القاسم، عن أبي عمار، عن قيس بن سعد؟.
فقال لم أسمع أحدا يفضي في هذا بشيء، إلا أن حديث سلمة بن كهيل
أشبه عندي، لأن هذا خلاف ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم
في زكاة الفطر. قال ابن عمر: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم
زكاة الفطر".
ولما كان التمييز بين الأسانيد "بهذه العبارة" يحمل ما يبرره،
فلا بأس أن نقول: إننا نعرف أن سندا ما هو أشبه بالصواب، لأحد
الأسباب التالية:
1 - أشبه، لأنه أضبط، أو أتقن، أو أوثق، أو أثبت في شيخ ما، أو
أفهم بحديث أبيه أو شيخه أو قطرة.
(1/176)
2 - أشبه، لأن رواته أكثر.
3 - أشبه، لأن سمع وغيره لم يسمع، أو أدرك وغيره لم يدرك.
4 - أشبه، لأن هذا الحديث مشهور عنه وغريب عن غيره.
5 - أشبه، لأن غيره لزم الطريق.
6 - أشبه، لأن غيره خلاف ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهكذا فقد دلنا استقراء هذه العبارة في كتب العلل أنها تعني
الأسلم والأقرب إلى الصواب. وينبغي أن أنبه إلى أن هذا لا يعني
دائما صحة الإسناد في اصطلاح المحدثين، إذ قد يكون الإسناد
أشبه بالصواب ويكون مرسلا أو معضلا والله أعلم
(1/177)
|