شرح علل الترمذي الفصل الرابع دراسة
لمباحث في مصطلح الحديث من كتاب شرح علل الترمذي
(1/179)
تمهيد
تعرضنا فيما سبق للمادة الرئيسة في شرح علل الترمذي وهي مادة
علم العلل، وحاولنا إبراز بناء متكامل لهذا العلم، مستمدا من
كتاب ابن رجب، ومسترشدا بالأصول التي اعتمد عليها. وأما الجزء
التالي من الدراسة فجعلته لدراسة مباحث في مصطلح الحديث خرج
فيها ابن رجب عن المألوف، وأظهر فيها براعة وإبداعا، وقد جعلت
هذا الفصل في ثلاثة مباحث، هي:
المبحث الأول: في المرسل.
المبحث الثاني: في العنعنة. المبحث الثالث: في زيادة الثقة.
(1/181)
المبحث الأول في
المرسل عند ابن رجب مقارنا بآراء غيره من العلماء
تعريف المرسل في الاصطلاح:
يطلق المرسل عند علماء المصطلح على قول التابعي: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وهو ما اختاره الحاكم في معرفة علوم
الحديث، وسار عليه أبو عمرو بن الصلاح في مقدمته، تابعه على
ذلك شراح المقدمة ومختصروها.
أما الخطيب البغدادي فقد أطلق المرسل على ما انقطع إسناده
مطلقا، وعليه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وأبو زرعة وأبو
حاتم الرازيان،والدارقطني وهو المشهور عند الفقهاء والأصوليين.
(1/183)
ورغم هذا الاختلاف الظاهر في الاصطلاح إلا
أن الحقيقة المختلف عليها واحدة، وبيان ذلك: أن المرسل عند أهل
المصطلح نوع خاص من المنقطع، وهو ما انقطع بعد التابعي، وقول
الخطيب ومن سبقه أو لحقه عام في كل منقطع، يضاف إلى هذا أن
المرسل الذي دار حوله الخلاف، بين التصحيح والتضعيف والقبول
والرد، هو مرسل التابعي، وأما المنقطع دون التابعي فهذا لا
جدال في ضعفه، وأهل الاصطلاح وغيرهم يقرون بضعفه.
ولما كانت صورة الخلاف الحقيقي هي مرسل التابعي كانت صور
الانقطاع الأخرى محل نزاع لفظي لا نزاع حقيقي.
المرسل عند ابن رجب:
أما ابن رجب فإنه لم يتعرض لتعريف المرسل كما فعل سلفه وخلفه
من أهل المصطلح، وإنما اكتفى بالأمثلة التطبيقية تحدد مفهومه
عن المرسل، وفي شرح العلل له تبعا لأصله، صور من المرسل، هاك
أمثلتها:
1 - أن يقول التابعي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما
كان يفعل سعيد بن المسيب والحسن البصري وعطاء بن أبي رباح
ويحيى بن أبي كثير. وهذا هو الأعم الأغلب في المرسلات.
2 - أن يسقط التابعي راويا بينه وبين الصحابي: كرواية مجاهد عن
علي، وبينهما ابن أبي ليلى. أو يقال: سعيد بن المسيب عن عمر
حجة، رغم انه لم يسمع من عمر كثيرا، ولكنه أرسل عنه كثيرا.
3 - أن يقول تابع التابعي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
كمالك مثلا، ومن في طبقته جاء في علل الترمذي قوله: قال علي:
قلت ليحيى: فمرسلات مالك؟ قال: هي أحب إلي. ثم قال يحيى: ليس
في القوم أحد أصح حديثا من مالك.
(1/184)
عرض الترمذي لمذاهب العلماء في المرسل /
واعتراضات ابن رجب عليه:
المذهب الأول - تضعيف المراسيل:
وفي ذلك يقول الترمذي: "والحديث إذا كان مرسلا فإنه لا يصح عند
أكثر أهل الحديث". ومن أهل الحديث الذين استدل الترمذي بقولهم
الإمام الزهري الذي قال لإسحاق بن أبي فروة، وكان يرسل الحديث
مالك - قاتلك الله - تجيئنا بأسانيد لا خطم لها ولا أزمة، فرأى
الإمام الترمذي أن هذا دليل على تضعيف الزهري لمطلق المراسيل،
وانه لا يحتج بها.
ولكن ابن رجب اعترض في الشرح على هذا الاستدلال، وقال: ليس هذا
دليلا على رد الزهري للمراسيل عموما، وإنما هو تضعيف خاص
لمراسيل ابن أبي فروة الذي عرف أن الإرسال عادة له، ويضاف هذا
إلى ما كان عليه هذا الرجل من الضعف، إذ أن كتب الجرح طافحة
بكلام العلماء في جرحه.
وأما بيان المحدثين الذين قالوا بتضعيف المرسل فلم يرد على
لسان الترمذي، وإنما ذكر على سبيل الإجمال أن هذا مذهب أكثر
أهل الحديث، ولقد ذكر الحاكم أبو عبد الله أسماء عدد من هؤلاء
المحدثين. وفي هذا يقول ابن رجب: وحكاه الحاكم عن جماعة من أهل
الحديث من فقهاء الحجاز وسمى منهم: سعيد بن المسيب، والزهري،
ومالك بن أنس، والأوزاعي، والشافعي وأحمد، فمن بعدهم من فقهاء
المدينة.
وبعد إجمال الترمذي وبيان الحاكم قال ابن رجب: وفي حكايته عن
أكثر من سماهم نظر، ولا يصح عن أحدهم الطعن في المراسيل عموما،
ولكن في بعضها.
وهذا اعتراض وجيه من ابن رجب على الترمذي والحاكم، لأن لكل
واحد من أهل الحديث كلاما طويلا في المراسيل، وهو كلام يدل على
تفاوتها في الاحتجاج والرتبة، حتى يصل بعضها إلى منتهى درجات
الضعف، فيقال:
(1/185)
مرسلات فلان رياح. وفي الوقت نفسه يقول نفس
القائل ومرسلات فلان أحب إلي، أو يقول: ومرسلات فلان صحاح.
وكلام يحيى بن سعيد القطان الذي ذكره الترمذي يبين قدر التفاوت
بين المرسلات. قال ابن رجب: وذكر الترمذي - أيضا - كلام يحيى
بن سعيد القطان في أن بعض المرسلات أضعف من بعض. ومضمون ما
ذكره عنه تضعيف مرسلات عطاء، وأبي إسحاق والأعمش، والتيمي،
ويحيى بن أبي كثير والثوري، وابن عيينة، وأن مرسلات مجاهد،
وطاوس، وسعيد بن المسيب، ومالك أحب إليه منها.
ضابط التفاوت بين المراسيل:
وهذا التفاوت الكبير بين المراسيل يحتاج إلى ضابط يحكم هذه
المرسلات ويحدد قيمتها العلمية، وهذا ما استدركه ابن رجب على
الترمذي عندما عرض آراء يحيى بن سعيد القطان الكثيرة، فقال ابن
رجب:
وكلام يحيى بن سعيد في تفاوت مراتب المرسلات بعضها على بعض
يدور على أربعة أسباب:
أحدهما: أن من عرف بروايته عن الضعفاء ضعف مرسله بخلاف غيره.
الثاني: أن من عرف له إسناد صحيح إلى من أرسل عنه فإرساله خير
ممن لم يعرف له ذلك. وهذا معنى قوله: مجاهد، عن علي ليس به
بأس، قد أسند عن ابن أبي ليلى عن علي.
الثالث: إن من قوي حفظه يحفظ كل ما يسمعه، ويثبت في قلبه،
ويكون فيه ما لا يجوز الاعتماد عليه، بخلاف من لم يكن له قوة
الحفظ ولهذا كان سفيان إذا مر بأحد يتغنى يسد أذنيه حتى لا
يدخل إلى قلبه ما يسمعه منه، فيقر فيه، وقد أنكر مرة يحيى بن
معين على علي بن عاصم حديثا، وقال: ليس هو من
(1/186)
حديثك إنما ذوكرت به فوقع في قلبك، فظننت
أنك سمعته ولم تسمعه، وليس هو من حديثك.
الرابع: إن الحافظ إذا روى عن ثقة لا يكاد يترك اسمه، بل
يسميه، فإذا ترك اسم الراوي دل إبهامه على أنه غير مرضي، وقد
كان يفعل ذلك الثوري وغيره، يكتبون عن الضعيف ولا يسمعونه، بل
يقولون، عن رجل وهذا معنى قول القطان: لو كان فيه إسناد صاح
به، يعني: لو كان أخذه عن ثقة لسماه.
وبناء على هذه الضوابط التي قعدها ابن رجب نحكم على مرسلات
الزهرى والشعبي بالضعف، كما نحكم على مرسلات كل من عرفنا له
رواية عن الضعفاء. ولا يفوتني هنا أن أنوه بعقلية ابن رجب
العلمية القادرة على جمع نثار المتفرقات ضمن قواعد وضوابط.
ورغم هذا التفاوت في المراسيل، ورغم الضوابط التي وضعها ابن
رجب لكلام يحيى القطان إلا أن المراسيل تبقى في دائرة الضعيف،
وقد ذكر ابن رجب كلاما لابن المبارك، وابن سيرين، وأبي حاتم،
وأبي زرعة والدارقطني، يشهد بضعف المراسيل.
المذهب الثاني - الاحتجاج بالمرسل:
قال ابن رجب، وحكاه الترمذي عن بعض أهل العلم، وذكر كلام
النخعي أنه كان إذا أرسل فقد حدثه به غير واحد.
قال ابن رجب: "وقد استدل كثير من الفقهاء بالمرسل، وهو الذي
ذكره أصحابنا أنه الصحيح عن الإمام أحمد، وهو قول أبي حنيفة
وأصحابه، وأصحاب مالك وحكى الاحتجاج بالمرسل عن أهل الكوفة وعن
أهل العراق جملة، وحكاه الحاكم عن إبراهيم النخعي، وحماد بن
أبي سليمان وأبي حنيفة".
(1/187)
رأي ابن رجب في الاحتجاج بالمرسل:
بعد أن ذكر ابن رجب هذين المذهبين حاول التوفيق بينهما فقال:
"واعلم انه لا تنافي بين كلام الحفاظ وكلام الفقهاء في هذا
الباب، فإن الحفاظ إنما يريدون صحة الحديث المعين إذا كان
مرسلا، وهو ليس بصحيح على طريقتهم، لانقطاعه وعدم اتصال
إسناده.
وأما الفقهاء فمرادهم صحة ذلك المعنى الذي دل عليه الحديث فإذا
عضد ذلك المرسل قرائن تدل على أنه له أصلا قوي الظن بصحة ما دل
عليه فاحتج به مع ما احتف به من القرائن.
قال ابن رجب: "وهذا هو التحقيق في الاحتجاج بالمرسل عند
الأئمة، كالشافعي وأحمد وغيرهما مع أن في كلام الشافعي ما
يقتضي صحة المرسل حينئذ".
القول الثالث في المرسل:
وهو تصحيح المرسل بشروط: وهذا ما عليه الشافعي - رحمه الله
تعالى - ولقد عرض ابن رجب مضمون كلام الشافعي عرضا غير مسبوق
إليه - فيما أعلم - فقال بعد أن ساق كلامه في الرسالة: وهو
كلام حسن جدا، ومضمونه: إن الحديث المرسل يكون صحيحا ويقبل
بشروط منها.
1 - في نفس المرسل، وهي ثلاثة:
أحدهما: أن لا يعرف له رواية عن غير مقبول الرواية.
ثانيهما: أن لا يكون ممن يخالف الحفاظ إذا أسند الحديث فيما
أسندوه.
ثالثهما: أن يكون من كبار التابعين فإنهم لا يروون غالبا إلا
عن صحابي، أو تابعي كبير.
(1/188)
2 - وأما الخبر الذي يرسله:
فيشترط لصحة مخرجه وقبوله أن يعضده ما يدل على صحته، وأن له
أصلا والعاضد له أشياء.
أحدهما: وهو أقوها، أن يسنده الحفاظ المأمونون، من وجه آخر عن
النبي صلى الله عليه وسلم بمعنى ذلك المرسل، فيكون ذلك دليلا
على صحة المرسل، وأن الذي أرسل عنه ثقة".
وقد تنبه ابن رجب إلى ظاهر كلام الشافعي: "فيكون ذلك دليلا على
صحة المرسل"، فرد قول من زعم أن العمل يكون عند الاعتضاد
بالمسند، لا بالمرسل وذلك لتصريح الشافعي - رحمه الله - بكون
المسند دليلا على صحة المرسل.
اعتراض ابن رجب على أبي العباس بن سريج:
ذكر ابن رجب أن أبا العباس بن سريج يرى أن مراد الشافعي أن
المرسل للحديث ينظر في مراسيله هل توافق ما أسنده الحفاظ
المأمونون، فإن وجد ذلك كذلك فإن أي مرسل له بعد ذلك يقبل وإن
لم يسنده الحفاظ.
واعتراض ابن رجب على ابن سريج من وجهين:
الوجه الأول: أنه مخالف لما فهم من كلام الشافعي وان العبرة في
البحث عن عاضد لكل مرسل على حدة.
الوجه الثاني: أن هذا الكلام قد يؤدي إلى خلاف المطلوب وذلك
إذا وجدنا أن المرسلات الأولى، التي بحثنا عن عاضد لها، ليس
لها ما يؤيدها، فنحكم على بقية مرسلاته بالضعف، وتكون النتيجة
عكس ذلك إذا عثرنا على ما يعضد هذه المرسلات أولا، فنمد الأمر
إلى باقي المرسلات ونحكم لها بالصحة.
والثاني: أن يوجد مرسل آخر موافق له عن عالم يروي عن غير من
يروي
(1/189)
عنه المرسل الأول، فيكون ذلك دليلا على
تعدد مخرجه، وهذا الثاني أضعف من الأول.
والثالث: أن لا يوجد شيء مرفوع يوفقه، لا مسند ولا مرسل، لكن
يوجد ما يوافقه من كلام بعض الصحابة فيستدل به على أن للمرسل
أصلا صحيحا أيضا، لأن الظاهر أن الصحابي إنما أخذ قوله عن
النبي صلى الله عليه وسلم.
والرابع: أن لا يوجد للمرسل ما يوافقه، لا مسند، ولا مرسل، ولا
قول صحابي، لكنه يوجد عامة أهل العلم على القول به، فإنه يدل
على أن له أصلا.
المرسل المعتضد بالقرائن دون المتصل الصحيح:
وبالرغم من صحة المرسل إذا وجدت معه بعض هذه القرائن، إلا أن
الشافعي - رحمه الله - لا يجعله في منزله المتصل، وذلك لورود
بعض الاحتمالات عليه كأن يكون أصل المرسل ضعيفا، ولو وجد حديث
صحيح بمعناه، وإن عضده مرسل فيحتمل أن يكون أصلهما واحد ...
وهكذا.
موقف الشافعي من مراسيل ابن المسيب:
ظاهر كلام الشافعي انه يقبل مراسيل ابن المسيب جميعها، ونجد
هذا في قوله: لا نحفظ لابن المسيب منقطعا إلا وجدنا ما يدل على
تسديده، وكلام الشافعي - رحمه الله - ليس على إطلاقه إذ أنه
يقول بمرسل ابن المسيب إذا احتفت به القرائن التي سبق ذكرها
واشتراطها لقبول المرسل، ولذلك فإن الشافعي لم يقبل مرسل ابن
المسيب في زكاة الفطر "مدين من حنطه" ولا بمرسله في التولية في
الطعام ولا بمرسله في دية المعاهد، ولا بمرسله "من ضرب أباه
فاقتلوه". وبذلك يكون كلام الشافعي محمولا على المراسيل
المؤيدة بالقرائن أو التي لا معارض لها.
(1/190)
موقف الشافعي من مراسيل غير ابن المسيب:
ولا يقتصر الشافعي على تصحيح مرسل ابن المسيب إذا احتفت به
القرائن بل يحكم كذلك بصحة غيره من مراسيل كبار التابعين إذا
وجدت الشروط المطلوبة. وقد نقل ابن رجب كلاما للبيهقي في هذا
"أنكر فيه البيهقي على أبي محمد الجويني قوله: لا تقوم الحجة
بسوى مرسل ابن المسيب، وأنكر البيهقي صحة ذلك عن الشافعي، قال
ابن رجب، وكأنه لم يطلع على رواية الربيع عنه التي قدمنا
ذكرها.
ورواية الربيع عنه قوله في الرهن الصغير: كيف قبلتم عن ابن
المسيب منقطعا ولم تقبلوه عن غيره؟ قال: لا نحفظ لابن المسيب
منقطعا إلا وجدنا ما يدل على تسديده ولا أثر عن أحد عرفناه عنه
إلا عن ثقة معروف، فمن كان مثل حاله قبلنا منقطعه".
وفي رواية الربيع هذه لا يعتد الشافعي بمرسل ابن المسيب فقط،
بل يؤكد على قبول مرسل من كانت حاله كحال ابن المسيب، وهذا
يجعل قول الجويني مردودا قال البيهقي: وليس الحسن، وابن سيرين،
بدون كثير من التابعين وإن كان بعضهم أقوى مرسلا منهما، أو من
أحدهما، وقد قال الشافعي بمرسل الحسن حين اقترن به ما يعضده في
مواضع منها: "النكاح بلا ولي"، وفي "النهي عن بيع الطعام حتى
يجري فيه الصاعان"، وقال بمرسل طاوس، وعروة، وأبي أمامة بن
سهل، وعطاء بن أبي رباح، وعطاء بن يسار، وغيرهم من كبار
التابعين، حين اقترن به ما أكده.
وبهذا يكون المرسل عند الشافعي قسمين:
1 - صحيح محتج به، وهو مراسيل كبار التابعين بشرائط مخصوصة،
ومرسل ابن المسيب وغيره في ذلك سواء.
(1/191)
2 - ضعيف غير محتج به: وهو كل مرسل فقد
الشرائط المذكورة، ومرسل ابن المسيب وغيره في ذلك سواء.
اتفاق الإمام أحمد مع الشافعي في هذا المذهب:
الشائع والمعروف عند أهل المصطلح أن الشافعي انفرد بهذا المذهب
في المراسيل، ولكن ابن رجب يثبت في شرح الترمذي أن الإمام أحمد
يشارك الشافعي في هذا، فنجده يقول:
"وهذا المعنى الذي ذكره الشافعي من تقسيم المراسيل إلى صحيح
محتج به، وغير محتج به، يؤخذ من كلام غيره من العلماء، كما
تقدم عن أحمد وغيره تقسيم المراسيل إلى صحيح وضعف، ولم يصحح
أحمد المرسل مطلقا، ولا ضعفه مطلقا، وإنما ضعف مرسل من يأخذ عن
غير ثقة، كما قال في مراسيل الحسن وعطاء، وهي أضعف المراسيل،
لأنهما يأخذان عن كل أحد. وقال أيضا: لا تعجبني مراسيل يحيى بن
أبي كثير لأنه يروي عن رجال ضعاف صغار. وقال مهنا: قلت لأحمد:
لم كرهت مرسلات الأعمش؟ وقال: كان الأعمش لا يبالي عمن حدث".
"قال أبو طالب: قلت لأحمد: سعيد بن المسيب عن عمر حجة؟ قال: هو
عندنا حجة، قد رأى عمر، وسمع منه".
الأصل الذي بنى عليه الإمام أحمد احتجاجه بالمرسل:
عرفنا ان الأصل الذي بنى عليه الشافعي احتجاجه بالمرسل هو
إلحاق المرسل بالصحيح إذا احتفت به القرائن. أما الإمام أحمد
فقد بنى احتجاجه بالمراسيل على قاعدة معروفة عنه وهي:
العمل بالحديث الضعيف ما لم يرد خلافه:
قال الأثرم: كان أبو عبد الله ربما كان الحديث عن النبي صلى
الله عليه وسلم
(1/192)
وفي إسناده شيء، فيأخذ به إذا لم يجئ خلافه
أثبت منه مثل حديث عمرو بن شعيب، وإبراهيم الهجري، وربما أخذ
بالحديث المرسل إذا لم يجئ خلافه.
وقال أحمد في رواية مهنا، في حديث معمر عن سالم، عن ابن عمر:
"إن غيلان أسلم وعنده عشر نسوة". قال أحمد: ليس بصحيح والعمل
عليه، ويعني أن الحديث لم يصح، مع أن العمل عليه، بأن يطلق ما
عدا أربع نسوة.
وكلام أحمد هذا ينطبق على المرسل الذي احتفت به القرائن، قال
الإمام أحمد في حديث عراك، عن عائشة، تروي عن النبي صلى الله
عليه وسلم قوله: "حولوا مقعدتي إلى القبلة" هو أحسن ما روي في
الرخصة وإن كان مرسلا فإن مخرجه حسن، ويعنى بإرساله أن عراكا
لم يسمع من عائشة، وقال: إنما يروى عن عروة عن عائشة. فلعله
حسنه لأن عراكا قد عرف أنه يروي حديث عائشة، عن عروة عنها.
قال ابن رجب:
"وظاهر كلام أحمد أن المرسل عنده من نوع الضعيف، ولكنه يأخذ
بالحديث إذا كان فيه ضعف، ما لم يجئ عن النبي صلى الله عليه
وسلم أو عن أصحابه خلافه".
(1/193)
المبحث الثاني في
العنعنة عند ابن رجب مقارنا بآراء غيره من العلماء
العنعنة في اصطلاح المحدثين:
العنعنة من عنعن الحديث إذا رواه بـ (عن) من غير بيان التحديث،
أو الإخبار، أو السماع، ويلحق بالمعنعن المؤنن، وهو ما روى بـ
(أن) من غير بيان التحديث، أو الأخبار، أو السماع كذلك.
ولقد أولت كتب المصطلح هذه الصيغة قدرا من الاهتمام، ودار جدل
كثير حولها، وذلك إنما يرجع إلى أنها تحتمل الاتصال، كما تحتمل
الانقطاع. وقد اتخذ منها المدلسون وسيلة يتوصلون بها إلى
مرادهم، يضاف إلى هذا كثرة الإرسال في الأسانيد المعنعنة.
وأمام هذه المشكلة من مشاكل الاصطلاح تباينت أنظار العلماء،
فرأى الإمام مسلم في مقدمة صحيحه أن المعاصرة والبراءة من
التدليس شرطان لا بد من توفرهما لرفع احتمال الانقطاع، وأما
البخاري وشيخه علي بن المديني فإنهما يشترطان ثبوت اللقاء، وهو
مقتضى كلام الشافعي. وروي عن أبي المظفر بن السمعاني أنه اشترط
طول الصحبة بين المعنعن الذي فوقه، وأما أبو عمرو الداني
(1/195)
فيشترط أن يكون الراوي معروفا بالرواية عن
المعنعن، واشترط أبو الحسن القابسي إدراك الناقل للمنقول عنه
إدراكا بينا.
وما يهمنا من هذه الآراء اثنان: رأي البخاري وابن المديني،
ورأي الإمام مسلم الذي حرره في مقدمة الصحيح.
أما رأي البخاري فيتلخص باشتراط ثبوت اللقاء بين الراوي وشيخه،
وهذا الرأي استقرأه العلماء من خلال النظر في كتاب البخاري،
ورأى بعضهم أن هذا الشرط شرط صحة، لا يصح الحديث إلا به، وهو
مقتضى كلام الإمام مسلم في مقدمته ومنهم من يرى أن هذا الشرط
هو شرط كتاب، لم يلتزمه البخاري في الأحاديث التي صححها خارج
كتابه.
وأما رأي مسلم فيتلخص باشتراط المعاصرة، وهي تساوي إمكان
اللقاء، ويضاف إليها البراءة من التدليس.
وفيما يلي عرض لرأي الإمام مسلم، ثم عرض لرأي ابن رجب في هذه
المسألة واعتراضه على الإمام مسلم. ثم نورد في ختام هذا البحث
ما نرجحه ونراه أقرب وأوفق - إن شاء الله -.
عرض لرأي الإمام مسلم - رحمه الله -:
"قال الإمام مسلم - رحمه الله - في مقدمة صحيحة: وزعم القائل
الذي افتتحنا الكلام على الحكاية عن قوله، والإخبار عن سوء
رويته، أن كل إسناد لحديث فيه: فلان عن فلان، وقد أحاط العلم
بأنهما قد كانا في عصر واحد، وجائز أن يكون الحديث الذي روى
الراوي عمن روى عنه قد سمعه منه وشافهه به، غير أنه لا نعلم له
منه سماعا ولم نجد في شيء من الروايات أنهما التقيا قط، أو
تشافها بحديث، أن الحجة لا تقوم عنده بكل خبر جاء هذا المجيء،
حتى يكون عنده العلم بأنهما قد اجتمعا من دهرهما مرة فصاعدا،
(1/196)
أو تشافها بالحديث بينهما، أو يرد خبر فيه
بيان اجتماعهما، وتلاقيهما مرة من دهرهما، فما فوقها، فإن لم
يكن عنده علم ذلك، ولم تأت رواية صحيحة تخبر أن هذا الراوي عن
صاحبه قد لقيه مرة، وسمع منه شيئا، ولم يكن في نقله الخبر عمن
روى عنه ذلك حجة، وكان الخبر عنده موقوفا حتى يرد عليه سماعه
منه لشيء من الحديث قل أو كثر.
وهذا القول، في الطعن في الأسانيد، قول مخترع مستحدث، غير
مسبوق صاحبه إليه، ولا مساعد له من أهل العلم عليه، وذلك أن
القول الشائع المتفق عليه بين أهل العلم بالأخبار والروايات
قديما وحديثا، أن كل رجل ثقة روى عن مثله حديثا، وجائز ممكن له
لقاؤه والسماع منه، لكونهما جميعا كانا في عصر واحد، وإن لم
يأت في خبر قط أنهما اجتمعا، ولا تشافها بكلام فالرواية ثابتة،
والحجة بها لازمة، إلا أن يكون هناك دلالة بينة أن هذا الراوي
لم يلق من روى عنه، أو لم يسمع منه شيئا، فأما والأمر مبهم على
الإمكان الذي فسرنا، فالرواية على السماع أبدا حتى تكون
الدلالة التي بينا.
فيقال لمخترع هذا القول الذي وصفنا مقالته، قد أعطيت في جملة
قولك أن خبر الواحد الثقة عن الواحد الثقة حجة، يلزم به العمل،
ثم أدخلت فيه الشرط بعد، فقلت حتى نعلم أنهما كانا التقيا مرة
فصاعدا، أو سمع منه شيئا، فهل تجد هذا الشرط الذي اشترطته عن
أحد يلزم قوله؟ وإلا فهلم دليلا على ما زعمت".
ويطيل الإمام مسلم في عرض هذا الموضوع، ويضيف إلى ما ذكر أمورا
منها:
1 - إن التفتيش عن سماع كل راو عمن روى لم يعرف عن السلف فقال
مسلم: "فإن ادعى قول أحد من علماء السلف طولب به ولن يجد هو
ولا غيره إلى إيجاده سبيلا".
(1/197)
2 - ويجيب الإمام مسلم على قول من يرى أن
احتمال الإرسال قائم في صيغة العنعنة، ولذلك اشترط التفتيش عن
اللقاء أو السماع، ولو مرة واحدة، فيقول:
"فإن كانت العلة في تضعيفك الخبر وتركك الاحتجاج به إمكان
الإرسال فيه لزمك أن لا تثبت إسنادا معنعنا حتى ترى فيه السماع
من أوله إلى آخره وذلك أن الحديث الوارد علينا بإسناد هشام بن
عروة عن أبيه عن عائشة، فبيقين نعلم أن هشاما قد سمع من أبيه،
وأن أباه قد سمع من عائشة، كما نعلم أن عائشة قد سمعت من النبي
صلى الله عليه وسلم وقد يجوز إذا لم يقل هشام في رواية يرويها
عن أبيه: سمعت أو أخبرني، أن يكون بينه وبين أبيه في تلك
الرواية إنسان آخر، أخبره بها عن أبيه، ولم يسمعها هو من أبيه،
لما أحب أن يرويها مرسلا، ولا يسندها إلى من سمعها منه.
وكما يمكن ذلك في هشام عن أبيه فهو أيضا ممكن في أبيه عن عائشة
- رضي الله عنها - ".
3 - ويذكر الإمام مسلم لتأييد مذهبه طائفة من الأسانيد التي
حكم عليها بالصحة مع أن رواتها لم يثبت لهم لقاء بشيوخهم، ولا
سماع منهم، فقال:
(فمن ذلك أن عبد الله بن يزيد الأنصاري، وقد رأى النبي صلى
الله عليه وسلم وقد روى عن حذيفة وأبي مسعود الأنصاري، عن كل
واحد منهما حديثا يسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم وليس في
روايته عنهما ذكر السماع منهما، ولا حفظنا في شيء من الروايات
أن عبد الله بن يزيد شافه حذيفة وأبا مسعود بحديث قط، ولا
وجدنا ذكر رؤيته إياهما في رواية بعينها، ولم نسمع من أحد من
أهل العلم ممن مضى، ولا ممن أدركنا أنه طعن في هذين الخبرين.
ولو ذهبنا نعدد
(1/198)
الأخبار الصحاح عند أهل العلم، ممن يهن
بزعم هذا القائل، ونحصيها لعجزنا عن تقصي ذكرها".
ابن رجب يعارض مسلما، وينتصر للرأي المنسوب للبخاري:
وقف الإمام ابن رجب موقف المعارض للإمام مسلم، وساق كلاما
طويلا في هذه المسألة ينصر به الرأي المنسوب للإمام البخاري،
وفي ذلك يقول:
"وما قاله ابن المديني والبخاري هو مقتضى كلام أحمد، وأبي
زرعة، وأبي حاتم، وغيرهم من أعيان الحفاظ، بل كلامهم يدل على
اشتراط ثبوت السماع، فإنهم قالوا في جماعة من الأعيان ثبتت لهم
الرواية عن بعض الصحابة، وقالوا مع ذلك لم يثبت لهم السماع
منهم فرواياتهم عنهم مرسلة. منهم الأعمش، ويحيى بن أبي كثير،
وأيوب، وابن عون، وقرة بن خالد، رأوا أنسا، ولم يسمعوا منه،
فرواياتهم عنه مرسلة، كذا قاله أبو حاتم، وقاله أبو زرعة في
يحيى بن أبي كثير. وقال أحمد في يحيى بن أبي كثير: رأى أنسا،
فلا أدري سمع منه أم لا؟ ولم يجعلوا روايته عنه متصلة لمجرد
الرواية. والرواية أبلغ من إمكان اللقى، وكذلك كثير من صبيان
الصحابة رأوا النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصح لهم سماع
فرواياتهم عنه مرسلة، كطارق بن شهاب وغيره، وكذلك من علم منه
أنه مع اللقاء لم يسمع ممن لقيه إلا شيئا يسيرا، فرواياته عنه
زيادة على ذلك مرسلة، كرواية ابن المسيب عن عمر - رضي الله
عنهـ - فإن الأكثرين نفوا سماعه منه.
وقال أبو حاتم: الزهري لا يصح سماعه من ابن عمر، رآه ولم يسمع
منه، ورأى عبد الله بن جعفر، ولم يسمع منه، وأثبت أيضا دخول
مكحول على واثلة بن الأسقع ورؤيته له ومشافهته، وأنكر سماعه
منه.
وقال أحمد: أبان بن عثمان لم يسمع من أبيه، من أين سمع منه؟
ومراده من أين صحت الرواية بسماعه منه، وإلا فإن إمكان ذلك
واحتماله غير مستبعد".
(1/199)
ويواصل ابن رجب عرض أقوال العلماء الذين
فتشوا عن السماع، ولم يكتفوا بمجرد المعاصرة، أو حتى اللقى
والرواية، ويخلص من هذا العرض بقوله:
"فدل كلام أحمد وأبي زرعة، وأبي حاتم، على أن الاتصال لا يثبت
إلا بثبوت التصريح بالسماع. وهذا أضيق من قول ابن المديني
والبخاري، فإن المحكى عنهما أحد أمرين: إما السماع، وإما
اللقاء، وأحمد ومن تبعه لا بد عندهم من ثبوت السماع".
ويقول ابن رجب أيضا: "اعتبار السماع أيضا لاتصال الحديث هو
الذي ذكره ابن عبد البر، وحكاه عن العلماء، وقوة كلامه تشعر
بأنه إجماع منهم، وقد تقدم أنه قول الشافعي أيضا".
ما يستدل به على عدم ثبوت السماع
وأما الدليل الذي يكشف عدم السماع والاتصال في الرواية، فهو
كما يقول ابن رجب أحد أمرين:
1 - "أن يروي الراوي عن شيخ من غير أهل بلده، ولم يعلم أنه دخل
إلى بلده، ولا أن الشيخ قدم إلى بلد كان الراوي عنه فيه،
ومثاله ما نقله مهنا عن أحمد، قال: لم يسمع زرارة بن أوفى من
تميم الداري، تميم بالشام وزرارة بصري، وقال ابن المديني: لم
يسمع الحسن من الضحاك بن قيس كان الضحاك يكون بالبوادي
2 - أن يروي عمن عاصره أحيانا، ولكن لم يثبت عدم لقيه له، ثم
يدخل أحيانا بينه وبينه واسطة.
فهذا يستدل به هؤلاء الأئمة على عدم السماع، ومثاله: قال أحمد:
البهي ما أراه سمع من عائشة إنما يروى عن عروة عن عائشة. وقال
في حديث زائدة
(1/200)
عن السدى عن البهي، قال حدثتني عائشة. قال:
وكان ابن مهدي سمعه من زائدة، وكان يدع منه: حدثتني عائشة".
دخول الوهم على الصيغ الصريحة يجعل
التفتيش عن السماع في غير الصريحة أولى:
لم يكتف ابن رجب بهذه الحملة على موقف الإمام مسلم الذي يقبل
العنعنة بمجرد المعاصرة والبراءة من التدليس. ولم يكتف بإيراد
مثل أو مثلين، إنما حشد الكثير من الأمثلة، وما تركناه منها
أكثر، وزيادة في إيضاح مذهب من يشترط اللقاء نرى ابن رجب يمد
يده الماهرة إلى بطون كتب العلل ليخرج منها أمثلة عديدة ورد
فيها التصريح بالسماع، ولكن النقاد فتشوا عن هذا السماع فوجدوا
أنه وهم من الراوي وذلك رغم جلالة الراوي وعظم شأنه، ويخلص ابن
رجب إلى القول بأن الاحتمال قد يدخل على السماع، فمن باب أولى
أن يدخل الاحتمال الكبير على العنعنة مع المعاصرة، فتكون
منقطعة لا متصلة.
قال ابن رجب:
"وحينئذ ينبغي التفطن لهذه الأمور، ولا يعتبر بمجرد ذكر السماع
والتحديث في الأسانيد، فقد ذكر ابن المديني أن شعبة وجدوا له
غير شيء يذكر فيه الأخبار عن شيوخه، ويكون منقطعا.
وذكر أحمد أن ابن مهدي حدث بحديث عن هشيم (أنا) منصور بن
زاذان، قال أحمد: ولم يسمعه هشيم من منصور. ولم يصحح قول معمر
وأسامة عن الزهري، سمعت عبد الرحمن بن أزهر.
وقال أبو حاتم: الزهري لم يثبت له سماع من المسور، يدخل بينه
وبين سليمان بن يسار وعروة بن الزبير.
قال ابن رجب:
وكلام أحمد، وأبي زرعة، وأبي حاتم، في هذا المعنى كثير جدا،
يطول
(1/201)
لكتاب بذكره، كله يدور على أن مجرد ثبوت
الرواية لا يكفي في ثبوت السماع، وأن السماع لا يثبت بدون
التصريح به. وأن رواية من روى عمن عاصره تارة بواسطة، وتارة
بغير واسطة، يدل على أنه لم يسمع منه، إلا أن يثبت له السماع
منه من وجه".
خلاصة رد ابن رجب على الإمام مسلم:
ويخلص ابن رجب - رحمه الله تعالى - بعد كل هذه الأدلة التي
تنقض قول الإمام مسلم - رحمه الله - واعتراضه على البخاري إلى
القول:
"فإذا كان هذا هو قول هؤلاء الأئمة الأعلام، وهم أعلم أهل
زمانهم بالحديث وعلله وصحيحه وسقيمه مع موفقة البخاري وغيره
فكيف يصح لمسلم - رحمه الله - دعوى الاجماع على خلاف قولهم، بل
اتفاق هؤلاء الأئمة على قولهم هذا يقتضي حكاية إجماع الحفاظ -
المعتد بهم - على هذا القول، وأن القول بخلاف قولهم لا يعرف عن
أحد من نظرائهم، ولا عمن قبلهم ممن هو في درجتهم وحفظهم، ويشهد
لصحة ذلك حكاية أبي حاتم"، وهي قوله في يحيى بن أبي كثير: ما
أراه سمع من عروة بن الزبير لأنه يدخل بينه وبينه رجلا،
ورجلين، ولا يذكر سماعا ولا رؤية، ولا سؤاله عن مسألة.
كلام ابن رجب في رده على مسلم:
قوله: إن شعبة ومن بعده لا يفتشون عن السماع.
وأما إنكار الإمام مسلم أن يكون التفتيش عن السماع هو مذهب
شعبة أو من بعده، فإن ابن رجب يثبت خلافه، فيقول: "فقد أنكر
شعبة سماع من روي سماعه ولكن لم يثبت، كسماع مجاهد من عائشة،
وسماع أبي عبد الرحمن السلمي من عثمان وابن مسعود، وقال شعبة:
أدرك أبو العالية عليا، ولم يسمع منه، ومرده أنه لم يرد سماعه
منه، ولم يكتف بإدراكه، فإن أبا العالية سمع ممن
(1/202)
هو أقدم موتا من علي، فإنه قيل: إنه سمع من
أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - ".
كلام ابن رجب على الأسانيد التي
وصفها والإمام مسلم بالصحة ولم يثبت اللقاء فيها:
وكان الإمام مسلم قد ذكر جملة من الأسانيد لم يتحقق فيها لقاء
رواتها لشيوخهم، ومع هذا فإن العلماء صححوها ولم يطعنوا فيها
ومثل ذلك حديث عبد الله بن يزيد وقيس بن أبي حازم عن ابن
مسعود، والنعمان بن أبي عياش عن أبي سعيد.
ورد ابن رجب كلام مسلم هذا بأن القول في هذه الأسانيد كالقول
في غيرها ويقصد ابن رجب أنه لا بد من التفتيش عن اللقاء وثبوت
السماع، وإلا فإن هذه الأسانيد تحمل على الانقطاع، وتكون
مرسلة.
ويرى ابن رجب أن اشتراط اللقاء عظم على مسلم حتى لا يؤدي ذلك
إلى طرح الكثير من الأحاديث وترك الاحتجاج بها، ولكن ابن رجب
يرى مخرجا من هذا وهو أن لا يحكم باتصالها ولكن يحتج بها مع
اللقي كما يحتج بمرسل أكابر التابعين.
ولقد انفرد ابن رجب بهذا الدعاء، بينما نجد السخاوي يخرج من
هذه المسألة بما هو أسلم وأحكم فيقول: "وما خدشه به مسلم من
وجود أحاديث اتفق الأئمة على صحتها مع أنها ما رويت إلا
معنعنة، ولم يأت في خبر قط أن بعض رواتها لقي شيخه فغير لازم،
إذ لا يلزم من نفى ذلك عنده نفيه في نفس الأمر".
(1/203)
ومقتضى كلام السخاوي أنه ما دام الأئمة قد
صححوا هذه الأحاديث فإن هذا التصحيح يستلزم الحكم بثبوت اللقاء
فيها.
مناقشة ابن رجب فيما ذهب إليه:
لقد فصل ابن رجب رأيه في هذه المسألة تفصيلا غير مسبوق به، ولم
أجد مثله لأحد من العلماء قبله أو بعده. وإنما تناول السابقون
واللاحقون هذه المسألة بإيجاز، سواء منهم من أيد الإمام مسلم،
كالحاكم في معرفة علوم الحديث وكالنووي في تقريبه، والطيبي في
خلاصته، ومن عارضه ونصر البخاري: كابن عبد البر في تمهيده،
وابن الصلاح، والنووي في شرح مسلم. وجاء ابن حجر والسيوطي
والسخاوي بعد ابن رجب يحملون مثل رأيه وينصرون البخاري كذلك.
وإعجابنا بابن رجب وثناؤنا عليه لا يعني أننا نوفقه في هذه
المسألة، وإنما ينصب إعجابنا على لكتاب بمجموعه وما فيه من سبق
وتفصيل وسعة اطلاع، وتقعيد لقواعد علم العلل، والمصطلح بشكل
عام. وأما اختياره في هذه المسألة، ففيما يلي تحليل ومناقشة
ونقد لما ذهب إليه.
أولا: من بدهيات هذه المسألة أن التفتيش عن اللقاء بين الراوي
والمروي عنه أعم من التفتيش عن السماع ولو مرة، وأن التفتيش عن
السماع ولو مرة أعم من التفتيش عن السماع في كل رواية.
(1/204)
ولم يكتف العلماء بهذا بل فحصوا السماع
للتأكد من عدم دخول الوهم والخطأ على السماع.
وابن رجب في رده على الإمام مسلم جمع بين هذه المراتب كلها،
وساق الأدلة على أن العلماء فتشوا عن اللقاء بين الراوي
والمروي عنه، ولم يكتفوا به بل فتشوا عن ورود السماع، ولم
يكتفوا به بل فتشوا عن صحة السماع وعدم دخول الوهم والخطأ
عليه.
وهذا الذي جاء به ابن رجب ينقض مدعاه في نصرة البخاري، وهو
يعارض البخاري كما يعارض مسلما، فالبخاري لم يشترط السماع الذي
هو أخص من اللقاء، ولم يشترط البحث في سلامة كل سماع من الوهم
والخطأ.
ثانيا: لم يحدد ابن رجب رأيه في المسألة، وبعد عرض طويل مليء
بالأمثلة الشواهد لم نعرف مراده بالتحديد، هل هو مع اشتراط
اللقاء، أم مع اشتراط السماع، أم مع اشتراط تحقق السماع في كل
مسألة. وقد أظهر من كلامه أنه أدخل التفتيش عن السماع في أصل
الصحة، ولا يوافقه أحد من العلماء على ما ذهب إليه، وخاصة ألئك
الذي كتبوا في المصطلح.
ثالثا: يستدل ابن رجب على عدم السماع بأمرين ذكرهما عن الإمام
أحمد:
الأول - أن يكون الراوي ببلد غير بلد المروي عنه، ولم يعرف عن
أحدهما النقلة إلى بلد الآخر.
الثاني - أن يروي الراوي مباشرة عن شيخه ثم يدخل بينه وبينه
واسطة.
وليس في هذا ما ينصر مذهب ابن رجب لأن الإمام مسلما كذلك يبحث
عن اللقاء في مثل هاتين الحالتين، لما فيهما من القرينة على
انتقاء اللقاء، لأن الإمام مسلما يعتبر المعاصرة مع إمكان
اللقاء لا مع القرينة على نفي اللقاء.
وفي هذا يقول الإمام مسلم: فالرواية ثابتة، والحجة بها لازمة،
إلا أن يكون هناك دلالة بينة، أن هذا الراوي لم يلق الراوي
عنه.
(1/205)
ويقول الإمام مسلم كذلك: وإنما كان تفقد من
تفقد سماع رواة الحديث ممن روى عن رجل ثم روى حديثا عن آخر
عنه.
ومن هذا كله يتبين لنا أن كلام الإمام مسلم ينصب على إمكان
اللقاء العاري عن أية قرينة على خلافه.
رابعا: إن الأمثلة التي ساقها ابن رجب للتدليل على رأيه لا
تصلح للاستدلال، لأنها كلها حالات من العنعنة التي قامت
القرينة على عدم الاتصال فيها، فمثلا: المعروف أن لقاء سعيد بن
المسيب بعمر - رضي الله عنهـ - لا يتسع لحجم رواية سعيد عنه،
وهذا يكفي قرينة على عدم السماع ويدعو إلى التفتيش عنه في كل
رواية.
وكذلك كل من بحث من السلف عن اللقاء أو السماع إنما بحث لقيام
قرينة ترجح جانب الانقطاع على الاتصال، وقد ذكرنا القرائن التي
توجب التفتيش عن اللقاء أو السماع في الاعتراض الثالث السابق،
وقلنا أن مذهب مسلم لا يعارض هذا.
خامسا: وإنني أرى في ختام هذه المناقشة رأي مسلم أسلم وأوجه
وأثبت وأنه يتناول أدنى مراتب الاتصال. ولا يمنع هذا أن يصنف
غيره كتابا فيضيف شرطا، كشرط اللقاء أو السماع ولكن هذا الشرط
يبقى شرط كتاب لا شرط صحة والله أعلم
(1/206)
المبحث الثالث في
زيادة الثقة عند ابن رجب مقارنا بآراء غيره من العلماء
زيادة الثقة:
عرض ابن رجب زيادة الثقة ضمن مباحث الغريب عند الترمذي. وذلك
أن الغريب يطلق عند الترمذي بمعان:
المعنى الأول: أن لا يروى الحديث في أصله إلا من وجه واحد.
والمعنى الثاني: أن يكون الحديث في نفسه مشهورا لكن يزيد بعض
الرواة في متنه زيادة تستغرب.
والمعنى الثالث: أن يروى الحديث من أوجه كثيرة، وإنما يستغرب
لحال إسناده من أسانيده.
والغريب بالمعنى الثاني هو ما يسمى بزيادة الثقة في المتن،
وللعلماء في قبول هذه الزيادة وردها كلام طويل. وقد فصل ابن
رجب الكلام فيها أثناء عرضه وشرحه لعبارة الترمذي.
والجدير بالذكر أن الصلة وثيقة بين علم العلل وبين هذا الفن من
فنون الحديث، وكثيرا ما يجد الباحث في كتب العلل تطبيقات
لزيادة الثقة، وأمام كل زيادة من هذه الزيادات تختلف الأنظار،
وذلك حسب موفقة الزيادة أو مخالفتها للأصل المزيد عليه وحسن
مكانة الراوي الذي جاء بهذه الزيادة.
وقبل الدخول في عرض هذا الموضوع سنذكر كلام الترمذي، وقد تضمن
(1/207)
مثالا بين فيه صورة الزيادة، كما تضمن
إجمالا سريعا لكلام العلماء فيها: قال الترمذي:
"ورب حديث استغرب لزيادة تكون في الحديث، وإنما يصح إذا كانت
الزيادة ممن يعتمد على حفظه، مثل ما روى مالك بن أنس، عن نافع،
عن ابن عمر، قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر
في رمضان على كل حر وعبد ذكر أو أنثى من المسلمين: صاعا من تمر
أو صاعا من شعير.
فزاد مالك في هذا الحديث: "من المسلمين".
وروى أيوب السختياني وعبيد الله بن عمر، وغير واحد من الأئمة
هذا الحديث عن نافع، عن ابن عمر، ولم يذكر فيه "من المسلمين"
وقد روى بعضهم عن نافع رواية مالك، ممن لا يعتمد على حفظه.
وقد أخذ غير واحد من الأئمة بحديث مالك واحتجوا به، منهم
الشافعي وأحمد بن حنبل".
ويلاحظ على المثال الذي ذكره الترمذي ما يلي:
1 - إن رواة الأصل، دون زيادة، من مشاهير الثقات: أيوب وعبيد
الله بن عمر.
2 - إن المستقل بالزيادة هو كذلك من الأعلام الثقات، وهو مالك
بن أنس.
3 - إن موضوع المزيد والزيادة واحد وهو زكاة الفطر.
4 - إن الزيادة أعطت حكما جديدا وهو تقييد من تجب عليهم الزكاة
بالمسلمين.
عرض لآراء المحدثين والأصوليين في زيادة الثقة:
عالجت كتب مصطلح الحديث والأصول هذا الموضوع، فطول بعضها،
وبعضها اختصر، وبعضها اكتفى بإيراد الأمثلة والشواهد دون الخوض
في
(1/208)
التفصيل والترجيح، كما فعل الحاكم في معرفة
علوم الحديث، مع أن بعض الأمثلة التي ضربها كانت خارجة تماما
عن موضوع زيادة الثقة وذلك لأمرين:
1 - إما لضعف راوي الزيادة، ونحن في زيادة الثقة، لا في زيادة
الضعيف.
2 - وإما لتعدد مخرج الحديثين، ونحن في زيادة الثقة التي تتحد
في المخرج مع الحديث الأصل. وكل حديثين في الموضوع الواحد
اختلفا في المخرج وفي أحدهما زيادة في الحكم، فإنهما يخضعان
للعموم والخصوص أو الإطلاق والتقييد. وقد نبه ابن رجب على هذا
الفارق بين زيادة الثقة وغيرها.
أما الخطيب البغدادي فقد فصل في كفايته هذا الموضوع، وعضده،
بالأمثلة والشواهد وعرض آراء المحدثين بما فيه كفاية.
وكما تناول الخطيب هذا الموضوع فقد تناوله ابن الصلاح في
مقدمته، وجعل الزيادة على ثلاثة أقسام:
(أ) قسم مخالف ومناف لما رواه سائر الثقات فمردود.
(ب) قسم لا مخالفة ولا منافاة فيه لما رواه سائر الثقات، فهذا
مقبول.
(ج) قسم بين هاتين المرتبتين مثل زيادة لفظة في حديث لم يذكرها
سائر من روى الحديث.
ومع أن ابن الصلاح مثل للقسم الثالث بحديث جعلت لنا الأرض
مسجدا، الذي وردت عليه زيادة "وتربتها طهورا" إلا أنه لم يمثل
للقسم الأول، وكنت أظن أنه تقسيم نظري حتى وحدت مثالا يصلح
لهذا القسم، وهو حديث السعاية الآتي فيما بعد.
(1/209)
ونظرا لكثرة الآراء في هذا المسألة
فسأوجزها ضمن ثلاثة آراء رئيسية، هي:
أولا: أن ترد الزيادة مطلقا، وحجة هذا الرأي أنه لا يعقل أن
يجتمع الجماعة من الحفاظ على الشيء، ويكون قد غاب عنهم بعضه
ليذكره واحد بمفرده دونهم.
ثانيا: أن تقبل الزيادة مقيدة، وقد اختلفت الأنظار في القيد
الذي تقبل الزيادة معه:
1 - إذا كان راوي الزيادة غير راوي الحديث بدونها قبلت.
2 - إذا توافر شرطان في راوي الزيادة قبلت، وهما: أن يذكر أنه
سمع الحديث مرتين، وأن يذكر أن رواية الحديث بدونها كان نسيانا
منه، وهذا قيد لمن يروي الزيادة والحديث.
3 - إذا كان رواة الزيادة أكثر من رواه الحديث، أو تساوي
رواتها ورواة الحديث قبلت.
4 - إذا أفادت الزيادة حكما قبلت.
5 - إذا لم تغير الزيادة الإعراب قبلت.
6 - إذا لم تناف أصل الحديث قبلت، وإذا قيدت مطلقه قبلت، وهو
رأي النووي، وابن الصلاح، وابن حجر، والسيوطي.
7 - إذا لم يكن رواة الحديث بدونها كثيرين بحيث لا يعقل أن
يغفلوا عنها، قبلت.
ثالثا: أن تقبل الزيادة مطلقا: وهو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء
والمحدثين وحكاه الخطيب عنهم، أن زيادة الثقة العدل الضابط
مقبولة مطلقان ولا فرق بين
(1/210)
أن تكون من نفس الراوي الذي روى الحديث
بدونها أو من غيره، تعلق بها حكم شرعي، أو لم يتعلق بها حكم،
أوجبت نقصانا من أحكام ثبتت أو قيدت الحكم الثابت، ويشترط
لقبولها أن يكون راويها عدلا حافظا، ومتقنا ضابطا، والدليل على
هذا:
(أ) لو انفرد الثقة بحديث لوجب قبوله، فإن قيل إن رواية
الجماعة تشير إلى وهم وقع فيه الواحد بهذه الزيادة، يقال بجواز
أن يكون الراوي أعاد الحديث بالزيادة، أو بجواز حضور بعضهم كل
الحديث، وغياب بعضهم عن بعضه.
(ب) إن الثقة العدل يقول: سمعت وحفظت ما لم يسمعه الباقون، وهم
يقولون: ما سمعنا ولا حفظنا، فعند الزائد زيادة علم، والمثبت
مقدم على النافي.
الرأي المختار في المسألة:
والرأي المختار أن تقبل الزيادة إذا كانت من حافظ يعتمد على
حفظه، وهذا قول الترمذي، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد كما ذكر
ابن رجب، نقلا عن رواية صالح عنه قال في زيادة مالك: "من
المسلمين": قد أنكر على مالك هذا الحديث، ومالك إذا انفرد
بحديث هو ثقة، وما قال أحد بالرأي أثبت منه.
وذكر ابن رجب رواية أخرى عن أحمد قال فيها: كنت أتهيب حديث
مالك "من المسلمين" يعني حتى وجده من حديث العمري. وهذه
الرواية ظاهرها يناقض الرواية السابقة، حتى قال ابن رجب: "وهذه
الرواية تدل على توقفه، ولو جاءت الزيادة من مثل مالك بن أنس".
ولكنني أرى أن تهيب أحمد لا يعني توقفه كما ذهب ابن رجب بل قد
يكون قبول الزيادة مع هذا التهيب الذي زال عند مجيء المتابعة،
والرواية الأولى صريحة في قبول الزيادة إذا كانت من مثل مالك
عند أحمد".
(1/211)
وإذا كان الثقة غير مبرز بالحفظ فإن أحمد
لا يقبل الزيادة منه مطلقا، ومثل ابن رجب لهذا بمثالين:
الأول: بحديث تفرد به ابن فضيل عن الأعمش، عن عمارة بن عمير،
عن ابن عطية، عن عائشة، في تلبية النبي صلى الله عليه وسلم
وذكر فيها "والملك لا شريك لك".
ولا تعرف هذه عن عائشة، وإنما تعرف عن ابن عمر، وروى الثوري
وأبو معاوية، عن الأعمش هذا الحديث، من غير هذه الزيادة.
وبالرغم من أن ابن فضيل ثقة إلا أن الثوري وأبا معاوية أوثق
منه في الأعمش، فمن ههنا لم يقبل أحمد هذه الزيادة.
الثاني: روى شعبة وهمام، عن قتادة، حديث أبي هريرة، أن رجلا
أعتق شقصا من غلام، فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم وغرمه
بقية ثمنه.
ورواه سعيد بن أبي عروة بزيادة ذكر الاستسعاء، وصورته أنه إذا
كان العبد مشتركا بين رجلين، وأراد أحدهما أن يعتق العبد، وهذا
يقتضي تصرفه في حصة شريكه، فإن لم يكن للمعتق مال يدفع قيمة
حصة شريكه، فإن العبد يعمل ويسدد حصة الشريك.
ولم يذهب الإمام أحمد إلى هذه الزيادة بالرغم من أن سعيد بن
أبي عروبة ثقة. ووجد من يتابعه عليها إلا أن المعتبر عند أحمد
الزيادة من المبرز في الحفظ.
ومن المعروف في علم العلل أن شعبة وهماما أوثق الناس في قتادة،
وبخاصة من سعيد بن أبي عروبة.
(1/212)
وهذان المثالان يؤكدان أن الإمام أحمد لا
يقبل الزيادة مطلقا، وإنما يقبلها من أوثق الناس في المروي عنه
وهذا يناقض قول بعض الحنابلة الذين قالوا: إن أحمد يقبل
الزيادة مطلقا. واعتمدوا على كلام لأحمد في حديث فوات الحج حيث
جاء فيه روايتنا الأولى، فيها القضاء فقط، والثانية فيها زيادة
دم، فقال أحمد، والزائد أولى أن يؤخذ.
اعتراض ابن رجب على أصحابه من الحنابلة الذي قالوا أن أحمد
يقبل الزيادة مطلقا:
واعتراض ابن رجب على من قال إن أحمد يقبل الزيادة مطلقا، ورد
الاستدلال السابق فقال: "وهذا ليس مما نحن فيه فإن مراده أن
الصحابة روى بعضهم فيمن يفوته الحج أن عليه القضاء، وعن بعضهم
أن عليه القضاء مع الدم فأخذ بقول من زاد الدم، فإذا روي
حديثان مستقلان في حادثة، وأحدهما فيه زيادة فإنها تقبل كما لو
انفرد الثقة بأصل الحديث. وليس هذا من باب زيادة الثقة، التي
صورتها أن يروي جماعة حديثا واحدا بإسناد واحد ومتن واحد،
فيزيد بعض الرواة فيه زيادة لم يذكرها بقية الرواة".
ونخلص مما سبق أن الزيادة المقبولة هي زيادة المبرز في الحفظ
على غيره، وهذا أمر اعتباري يختلف من راو إلى آخر، فحماد بن
سلمة أوثق الناس في ثابت البناني فالزيادة التي ينفرد بها في
حديث ثابت مقبولة وأما حماد في غير ثابت ففي حفظه نظر فزيادته
في غير ثابت فيها نظر كذلك. وكذلك كل راو من الرواة فإنه مختص
برجل يروي عنه فيضبط أحاديثه أكثر من غيره. فزيادة هذا الراوي
مقبولة.
زيادة الثقة في الإسناد:
وزيادة الثقة في الإسناد فرع من زيادة الثقة بشكل عام، ولبيان
معنى هذا النوع من الزيادة نمثل لها بمثال ذكره أكثر المصنفين
وهو حديث "النكاح بلا ولي".
(1/213)
هذا الحديث رواه يونس بن أبي إسحاق، عن أبي
إسحاق، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: "لا نكاح إلا بولي".
ورواه شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن النبي صلى الله
عليه وسلم مرسلا. ووافق شعبة سفيان الثوري في هذا.
وقد تباينت أنظار العلماء في زيادة الإسناد هذه:
أولا: نقل الخطيب عن أكثر أصحاب الحديث أن الحكم في هذه أو ما
كان بسبيله للمرسل، ومنهم من قدح في عدالة من يصل حديثا أرسله
الحفاظ.
ومنهم من قال الحكم للمسند، إذا كان راويه ثابت العدالة ضابطا
للرواية. فيجب قبول الخبر ويلزم العمل به، وإن خالفه غيره.
وسواء كان المخالف واحدا أو جماعة، قال الخطيب: وهذا هو الصحيح
عندنا، لأن إرسال الحديث ليس بجرح للراوي الذي وصله ولا تكذيب
له، ولعله أيضا مسند عند الذين رووه مرسلا، أو عند بعضهم، إلا
أنهم أرسلوه لغرض، أو نسيان، والناسي لا يقضي على الذاكر.
ثانيا: وقد اشترط ابن رجب لقبول زيادة الإسناد ما اشترطه لقبول
زيادة المتن، وأن العبرة في الزيادة التي رواها المبرز في
الحفظ والإتقان، ولا يكفي مجرد العدالة والضبط. ويجري تمييز
المبرز من غيره في كل إسناد ورواية تبعا لقواعد العلل في تفاوت
الرواة:
قال ابن رجب: وكلام أحمد وغيره من الحفاظ إنما يدور على اعتبار
قول الأوثق في ذلك، والأحفظ أيضا، وقد قال أحمد في حديث أسنده
حماد بن سلمة: أي شيء ينفع وغيره يرسل.
(1/214)
وبهذا يكون رأي ابن رجب واحدا في زيادة
المتن وزيادة الإسناد، ولا يترك الأمر على مطلق الحافظ الضابط
كما فعل الخطيب بل يتعداه إلى الضابط المبرز، المقدم في شيخه.
اعتراضات ابن رجب على سابقيه في هذه المسألة:
لقد ساق ابن رجب مجموعة من الاعتراضات على سابقيه، ويبدو في
هذه الاعتراضات مصنفا بارعا، ومحققا ناقدا، ولم أجد من تعرض
لهذه الأمور كما تعرض لها ابن رجب وسنسوق هذه الاعتراضات مع
شيء من التفصيل.
الاعتراض الأول:
اعترض ابن رجب على الحاكم أبي عبد الله في كتابه معرفة علوم
الحديث الذي لم يقبل الزيادة من الثقة في الإسناد، وقال: أئمة
الحديث على أن القول قول الأكثرين الذين أرسلوا الحديث. فاعترض
عليه ابن رجب بقوله: وهذا يخالف تصرفه في المستدرك، وذلك لأن
الحاكم يقبل زيادة الثقة في الإسناد هناك.
الاعتراض الثاني:
اعترض ابن رجب على الخطيب البغدادي الذي اختار قبول الزيادة في
الإسناد، مطلقا، إذا كانت من الثقة الحافظ، وذكره اختياره هذا
في كتاب الكفاية. ولكنه خالف هذا في كتاب "تمييز المزيد في
متصل الأسانيد" وفي هذا الكتاب قسم زيادة الإسناد إلى قسمين:
- ما حكم فيه بصحة الزيادة في الإسناد.
- ما حكم فيه برد الزيادة وعدم قبولها.
فقال ابن رجب تعقيبا على هذا: ثم إن الخطيب تناقض فذكر في كتاب
الكفاية للناس مذاهب في اختلاف الرواة، في إرسال الحديث ووصله،
كلها
(1/215)
لا تعرف عن أحد من متقدمي الحفاظ، إنما هي
مأخوذة من كتب المتكلمين، ثم إنه اختار أن الزيادة من الثقة
تقبل مطلقا، كما نصره المتكلمون وكثير من الفقهاء، وهذا يخالف
تصرفه في كتاب "تمييز المزيد" وقد عاب تصرفه هذا في كتاب
"تمييز المزيد" محدثي الفقهاء، وطمع فيه لموافقته لهم في كتاب
الكفاية.
الاعتراض الثالث:
واعتراض ابن رجب على الخطيب باعتراض آخر، وهو أنه ذكر في كتاب
الكفاية، حكاية عن البخاري: أنه سئل عن حديث أبي إسحاق "في
النكاح بلا ولي" فقال: الزيادة من الثقة مقبولة، وإسرائيل ثقة.
وهذا يعني أن الزيادة في الإسناد مقبولة على الإطلاق من الثقة
عند البخاري ولكن ابن رجب يعترض على هذا بقوله: وهذه الحكاية
إن صحت فإن مراده الزيادة في هذا الحديث، وإلا فمن تأمل كتاب
البخاري يتبين له قطعا أنه لم يكن يرى أن زيادة كل ثقة في
الإسناد مقبولة.
قال ابن رجب: وهكذا الدارقطني يذكر في بعض المواضع أن الزيادة
من الثقة مقبولة، ثم يورد في أكثر المواضع زيادات كثير من
الثقات، ويرجح الإرسال على الإسناد المتصل.
قال ابن رجب فدل على أن مرادهم زيادة الثقة في مثل تلك المواضع
الخاصة وهي إذا كان الثقة مبرزا في الحفظ
قال ابن رجب: وقال الدارقطني في حديث زاد في إسناده رجلان
ثقتان رجلا، وخالفهما الثوري فلم يذكره، قال: لولا أن الثوري
خالف، لكان القول قول من زاد فيه، لأن زيادة الثقة مقبولة.
وهذا تصريح بأنه إنما تقبل زيادة الثقة إذا لم يخالفه من هو
أحفظ منه.
الاعتراض الرابع:
واعتراض ابن رجب على تصرف المصنفين قبله كالحاكم والخطيب وابن
(1/216)
الصلاح الذين جعلوا رواية "وجعل ترابها
طهورا" زيادة ثقة على أصل الحديث، ولكن ابن رجب عاب صنيعهم
هذا، فقال: وهذا ليس مما نحن فيه، لأن حديث حذيفة لم يرد
بإسقاط هذه اللفظة وإثباتها، وأكثر الأحاديث فيها: "وجعلت لنا
الأرض مسجدا وطهورا".
وحديث حذيفة فقط هو الذي ورد فيه "وجعل ترابها طهورا"، وقد روى
هذا الحديث مسلم في صحيحه، وقد روى مسلم هذا الحديث عن جابر بن
عبد الله وأبي هريرة، في نفس الباب، ولم توجد عبارة حديث حذيفة
السابق.
وهذا اعتراض وجيه لابن رجب فحديث جابر غير حديث حذيفة، وليس
حديث حذيفة زيادة ثقة، بل هو تقييد لمطلق حديث جابر وأبي
هريرة، ولو أدرك بعض الفقهاء هذا الفرق بين زيادة الثقة وغيرها
من أدلة التقييد لما أسقطوا التيمم بالتراب لأنها زيادة ثقة
على أصل الحديث.
الاعتراض الخامس:
ذكر ابن رجب كلاما للإمام مسلم في كتاب التمييز له في قبول
زيادة الثقة، جاء فيه "والحديث للزائد والحافظ لأنه في معنى
الشاهد، الذي حفظ في شهادته ما لم يحفظ صاحبه".
واعتراض ابن رجب على قياس الزيادة على الشهادة، فقال: وهذا
القياس الذي ذكره ليس بجيد، لأنه لو كان كذلك لقبلت زيادة كل
ثقة زاد في روايته، كما يقبل ذلك في الشهادة، وليس ذلك قول
مسلم ولا قول أئمة الحافظ والله أعلم.
(1/217)
|