شرح علل الترمذي الباب الثاني: ترجمة
ابن رجب عصره - حياته - جهوده في الحديث
(1/219)
الفصل الأول عصر ابن
رجب
تمهيد:
(أ) الحالة السياسية.
(ب) الحالة الاجتماعية.
(ج) الحالة العلمية.
(1/221)
تمهيد
ولد زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب في الثلث الثاني من
القرن الثامن الهجري ببغداد، وكانت العراق تحت سلطان أحفاد
هولاكو الذين دخلوا في الإسلام. وكانت ولادة ابن رجب سنة 736
للهجرة،بعد مضي ثمانين عاما على سقوط بغداد، حاضرة الإسلام
والخلافة، بأيدي المغول.
وبالرغم من توالي الأيام، وإسلام الأحفاد، إلا أن الصورة
القاتمة للغزو المغولي ظلت قائمة في النفوس، تشيع فيها القلق،
وتهيج الذكريات المؤلمة لتلك الكارثة التي أفقدت الدولة
الإسلامية مجدها، وقضت على مركز بغداد الروحي، والحضاري،
والسياسي، والعلمي.
وفي ظل تلك الذكريات يصعب المقام فتبحث النفوس عن مكان آخر،
تتنفس فيه الصعداء، لا سيما وأن الوطن الإسلامي في ذلك الزمان
لم يكن يعرف هذه الحدود السياسية والإقليمية، التي تفقد
الإنسان حرية الحركة.
وهكذا فإن البقية الباقية، من علماء بغداد، توجهت نحو حواضر
الإسلام العامرة كدمشق والقاهرة. ومن هذه البقية الإمام المقرئ
أحمد بن رجب، والد شيخنا عبد الرحمن الذي حمل أولاده، وتوجه
تلقاء دمشق، وفيها نشأ ابنه عبد الرحمن، وفيها شب وترعرع
واكتهل، وبها توفي.
ولقد اكتنفت البلاد الشامية - موطن ابن رجب - كما اكتنفت
البلاد
(1/223)
المصرية أحداث سياسية واجتماعية وعلمية
شكلت بيئة معينة يخضع الأفراد لتأثيرها وتطبعهم بإيجابياتها
وسلبياتها.
وفيما يلي عرض سريع للحالات السياسية، والاجتماعية، والعلمية
في بلاد الشام في القرن الثامن الهجري.
(أ) الحالة السياسية
ورث المماليك سلطان الأيوبيين على مصر والشام، بعد مقتل توران
شاه سنة 648هـ، وفي هذه السنة تولى الملك المعز أيبك التركماني
كرسي السلطنة، وبعد بضع سنين، وعلى يد المظفر قطز، حطم
المماليك غزو التتار وكان ذلك سنة 657هـ، فسلمت البقية الباقية
من العالم الإسلامي - بفضل الله وبرحمته - من تلك الهجمة
الشرسة. وبذلك حقق المماليك في أوائل عهدهم مفخرة إسلامية
كبرى، انضم إليها قضاؤهم على الفلول الصليبية، فطهروا البلاد
الشامية من آخر قلاع الصليبيين.
ويضاف إلى ما سبق أثر ثالث لا يقل أهمية عن دحر التتار
والصليبيين، وهو إحياء الخلافة الإسلامية، وكان ذلك سنة 659هـ،
بعد سقوط بغداد بثلاث سنين، حيث نصب أبو القاسم أحمد بن
الخليفة الظاهر خليفة للمسلمين.
ومع أن هذا المنصب ظل منصب تشريف، لا يحمل من حقيقة الخليفة
إلا الاسم، إلا أنها كانت باردة وجهت قلوب المسلمين نحو هذه
الدولة الجديدة، التي أصبحت حامية حمى المسلمين، ومركز خلافتهم
بعد بغداد.
وأما الحكم الفعلي فقد تعاقبت عليه فئتان من المماليك هما:
1 - المماليك البحرية (أو الأتراك) وحكموا من سنة 648 إلى سنة
784هـ.
(1/224)
2 - المماليك البرجية (أو الجراكسة) وحكموا
من سنة 784 إلى سنة 923هـ.
وقد أدرك الإمام ابن رجب طرفا من كلا العهدين، فعاش في ظل
المماليك البحرية من سنة 744 - إلى 784هـ، وعاش في ظل البرجية
من سنة 784 - إلى 795هـ أي حتى وافاه أجله.
ويتسم عصر المماليك - رغم الانتصارات العسكرية التي حققها -
بعدم الاستقرار، وكثرة الفتن، والتنافس على الحكم، أو قل:
بالفوضى السياسية الكاملة، إذ في كل صفحة من صفحات تاريخ هذا
العصر مخامرة على السلطان، أو صراع بين الأمراء، أو سفك
للدماء، أو مصادرة للأموال، وكل هذه أمور عادية، أصبح المؤرخ
يتقبلها، ويعرضها، دون استغراب أو تعجب.
أما شكل النظام السياسي في الدولة المملوكية: فقد كانت القاهرة
مركز الحكم، وفيها الخليفة العباسي، والسلطان المملوكي، وهو
الحاكم الفعلي الذي يصرف الأمور، فيولي ويعزل، ويقطع
الإقطاعات، ويسير الجيوش، ويساعد السلطان نائب له في مصر، وقد
يستقل هذا النائب بالأمر إذا كان السلطان قاصرا، وغالبا ما
يكون النائب من الشخصيات ذات المطامع، يتولى السلطنة وقد يصل
عن طريق الفتك بالسلطان، أو يفتك به السلطان قبل أن يصل إلى
مراده.
وأما بلاد الشام - التي تعنينا بوجه خاص لأنها موطن ابن رجب -
فهي تابعة للنظام في مصر، وتحكم بشكل مماثل، فهي مقسمة إلى عدة
نيابات: نيابة دمشق، وحلب، وطرابلس، وحماة، وصفد، والكرك. وكل
نائب في نيابته
(1/225)
سلطان مختصر، إلا أن دمشق تقف بين النيابات
الشامية مقام السلطان في أكثر الأمور، ونائبها هو الذي يكتب
عنه التوقيع، مع بقاء بعض المراكز الكبرى في النيابة من اختصاص
السلطان، وذلك لضمان عدم الخروج عليه.
وكان في كل نيابة أربعة قضاة يمثلون المذاهب الأربعة، ووزير
يتمتع بما يتمتع به الوزير في مصر، ويسمى ناظر النظار.
وأما الدواوين: فأشهرها ديوان الإنشاء، وديوان النظر، وديوان
الجيش ويلقب صاحب ديوان الإنشاء بكاتب السر، ويمثل ديوان النظر
الإدارة المالية.
ومما يمتاز به عصر المماليك أن الأحداث والمناصب السياسية حكر
على عنصر المماليك، لا يشاركهم فيها أحد من عامة الناس، وإنما
دور بقية الناس يقف عند مراقبة الأحداث، فإذا تغلب مملوك على
آخر فعلى العامة أن تقيم الزينات، وتعلن الابتهاج، وكل ما يحدث
في مركز الدولة تتأثر به دمشق وسائر النيابات، ونواب دمشق
وغيرها، كسادتهم في القاهرة، بين جديد تقام له الزينات، وطريد
غير مأسوف عليه، وهكذا دواليك.
(ب) الحالة الاجتماعية
في معرض الكلام عن الحالة الاجتماعية في العصر المماليكي
سنتكلم إن شاء الله على ناحيتين بارزتين مؤثرتين في المجتمع:
الأولى: فئات الناس الاجتماعية وأوضاعها المعيشية.
الثانية: الأوبئة والمجاعات التي كان يتعرض لها المجتمع.
(1/226)
أما عن الأولى: فإن الباحث في تاريخ هذا
العصر يجد أمامه فئات من الناس، كل فئة لها حالتها الاجتماعية
الخاصة، وهذه الفئات هي: المماليك، والعلماء، والتجار،
والعامة، والفلاحون، والعربان.
فالمماليك هم الطبقة الأولى في المجتمع وهم أصحاب السلطان
والجاه في الدولة، ويرجع هؤلاء في أصلهم إلى جنسيات مختلفة،
فمنهم التركي، ومنهم الجركسي، ومنهم المغولي، ومنهم الصيني،
وينسب هؤلاء إلى سيدهم الذي اشتراهم إن كان سلطان من السلاطين
أو تاجرا من التجار، كالمماليك الأشرفية والخليلية نسبة
للسلطان الأشرف خليل، وكبرقوق العثماني، نسبة للتاجر الذي
اشتراه.
ولقد اعتنى السلاطين عناية فائقة بمماليكهم، وحرصوا على
تربيتهم تربية سليمة، فإذا اشترى السلطان عددا من المماليك
فإنه يرسلهم إلى الفحص أولا، للتأكد من سلامة أبدانهم، وبعد
ذلك ينزل كل مملوك في طبقة جنسه، وكان في القلعة طباق، خصص لكل
جنس من أجناس المماليك طبقة معينة. ويقوم بتربية هؤلاء
المماليك مجموعة من الطواشية ويتردد عليهم الفقهاء والقراء
ويعلمونهم القرآن والفقه كما يعلمونهم الخط
وكان هؤلاء المماليك يتقلبون في رغيد العيش، ويلقون من
سلاطينهم كل تكريم وحنو، ولم يكن ينظر إليهم كالعبيد الأرقاء،
وإنما ينظر إليهم بعين الإحسان والتربية، وهذا يعلل قوة
ارتباطهم بأسانيدهم.
وعندما يبلغ المملوك سن البلوغ يتلقى فنون الفروسية والحرب،
وبعدها يخرج من الطباق، ثم يتدرج في الخدمة السلطانية، ويترقى
حتى يصل إلى رتبة الأمراء.
ولقد حرص السلاطين والأمراء على بقاء الانفصال تاما بين
المماليك وسائر الناس، ومن مظاهر هذا الانفصال منع الزواج بين
هذه الفئة وغيرها من
(1/227)
فئات المجتمع، وكان السلاطين يؤيدون هذا
الانفصال بالتحذيرات المستمرة، وفرض العقوبات الرادعة.
وهذه العزلة أوجدت هوة كبيرة بين المماليك الذين هم الحكام من
جهة، وبين المحكومين من جهة أخرى، وأصبح الشعب لا يبالي بما
يجري من الأحداث ولا تحركه أشجان السلاطين ومآسيهم إذا دارت
الدائرة عليهم.
ولم تسجل الكتب التي بين أيدينا موقف حاسمة لجماهير الناس فيما
عدا بعض المواقف النادرة كنصرة العامة للسلطان الناصر محمد بن
قلاوون سنة 708هـ عندما تحالف زعيما البحرية والبرجية للتخلص
منه، ولم يكن معه إلا عدد قليل من المماليك، ولم يخلصه من هذه
الورطة - التي أوشكت أن تودي بحياته - إلا العامة الذين ثبتوا
في أماكنهم وهم يصرخون "يا ناصر يا منصور، الله يخون من يخون
ابن قلاوون" وهذا من الموقف النادرة التي شارك فيها الناس
لتأييد سلطانهم.
وأما العلماء: فقد لقي هؤلاء تكريم سلاطين المماليك، وكان
للعلماء كلمتهم المسموعة، وسلطانهم الكبير على العامة، وهذا
السلطان مكن بعضهم من الوقوف في وجه السلاطين، يأمرون
بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويصدعون بالحق، كالعز ابن عبد
السلام، وشمس الدين الحريري قاضي الحنفية، وابن تيمية الحراني.
وأما التجار: فقد شعر السلاطين بأن التجار هم المصدر الأول
الذي يعتمدون عليه في سد حاجاتهم في الأوقات العصبية، لذا فقد
كانت هذه الفئة تتمتع بمكانة مرموقة، وقد نشط السلاطين الحركة
التجارية في بلادهم، وأعطوا التجار الأجانب امتيازات وتسهيلات
تجارية، كل ذلك فتح الباب أمام التجار المسلمين لأن يجمعوا
ثروات طائلة لانعكاس تلك التسهيلات عليهم، وقد
(1/228)
استفادوا كثيرا من ذلك المركز التجاري
الممتاز، الذي جعل بلاد المماليك ملتقى النشاط التجاري العالمي
آنذاك.
والجدير بالذكر أنه بالرغم من هذه المكانة التي حظي بها التجار
عند السلاطين، إلا أنهم كانوا يتعرضون لسطوتهم، فيؤخذ منهم
المال الوفير بين الحين والآخر.
وأما العامة: فتتألف من العمال، والصناع، والسقائين، والسوقة،
والمكاريين، وكان أفراد هذه الفئة على درجة كبيرة من الفقر
والحاجة.
وأما الفلاحون: وهم سواد الناس، فلم يكن نصيبهم سوى الإهمال،
وقد وصلت أحوالهم إلى درجة كبيرة من السوء، وزاد من هذا السوء
كثرة المغارم، التي حلت بهم، والضرائب التي فرضت عليهم، علاوة
على أنهم لم يسلموا من فئة العربان وبطشهم.
وأما العربان فهؤلاء لهم شخصيتهم المتميزة، وهم المنافس الوحيد
لفئة المماليك، ولذلك فهم يثورون بين الفينة والفينة، وفي بعض
الأوقات يتمنعون عن دفع الضرائب والخراج.
ومن أشهر ثورات هؤلاء الأعراب ثورة بدر بن سلام سنة 779هـ،
الذي هاجم دمنهور وفتك في أهلها، ولم تتمكن الدولة من إخماد
هذه الثورة إلا بعد ثلاث سنين، أي سنة 782هـ.
ولقد جرب العربان حظهم مرة أخرى بالثورة، ومعهم الخليفة
المتوكل والمماليك الأشرفية، وحاولوا قتل السلطان برقوق وتنصيب
الخليفة المتوكل سلطانا، ولكن هذه المحاولة لم تفلح.
(1/229)
وأما الناحية الثانية من المؤثرات
الاجتماعية: فهي الأوبئة والمجاعات:
وما كان يتعرض له الناس في هذا القرن من الأوبئة والمجاعات فإن
الحديث عنه يطول، ولا بد أن يكون لهذه الأوبئة أثرها على
النفوس، فتوجهها نحو بارئها بالتضرع والخشية كلما قسمت القلوب،
أو طال عليها الأمد. فهذا طاعون سنة 749هـ ملأت مآسيه الصفحات،
وما أصاب الناس من جرائه من العنت سجله المؤرخون، وعلى رأسهم
عماد الدين بن كثير فقال: "وكثر الموت في الناس بأمراض
الطواعين، وزادت الأموات كل يوم على المائة، وإذا وقع في أهل
بيت لا يكاد يخرج حتى يموت أكثرهم، ثم زاد الموتى على المائتين
في كل يوم، وتعطلت مصالح الناس". ولا يقف الأمر عند هذا الحد،
بل يزداد الضنك على الناس حتى تكاد القلوب تخرج من صدورها،
فيقول ابن كثير: "وفي يوم الاثنين ثاني عشر رجب حصل بدمشق وما
حلوها ريح شديدة، أثارت غبارا شديدا، اصفر الجو منه، ثم اسود،
حتى أظلمت الدنيا، وبقي الناس يستجيرون الله، ويستنصرون،
ويبكون، مع ما هم فيه من شدة الموت، وبلغ المصلى عليهم في
الجامع الأموي نحو المائة وخمسين".
ويودع الناس هذا الموت الأسود، ويتنفسون الصعداء، وما إن تهل
عليهم سنة 765هـ حتى تأتي موجة أخرى منه، يصاحبها الجراد
والغلاء، يقول ابن كثير: "واستهل شهر شوال سنة 765هـ والجراد
قد أتلف شيئا كثيرا من البلاد، ورعى الخضراوات والأشجار، وأوسع
أهل الشام في الفساد، وغلت الأسعار واستمر الفناء، وكثر الضجيج
والبكاء، وفقدت كثيرا من الأصحاب والأصدقاء".
(ج) الحالة العلمية
شهد العصر المملوكي بشكل عام، والقرن الثامن بشكل خاص، حركة
علمية، ناشطة، ولقد كان هذا النشاط فريدا في كميته ونوعيته،
ويبدو أن
(1/230)
السبب الرئيس في هذا النشاط هو التحدي
الحضاري الذي بدأت الأمة الإسلامية تمارسه ردا على الموجات
المغولية والصليبية، فبدأت الأمة تلقي بكل ثقلها لتثبت ذلك،
وأنها لم تمت. ولعل هذا من الأسباب الكامنة، وراء إنشاء الكثرة
الكاثرة من المدارس العلمية في كل مكان، حتى أنه لقد أصبح شغل
أهل العصر الشاغل كيف يبنون المدارس، وماذا يقفون عليها من
الأوقاف.
ويرجع الكثير من إنشاء هذه المدارس إلى عهد نور الدين زنكي،
وصلاح الدين، اللذين وجدا في المدرسة حصنا يحفظ على الأمة
شخصيتها في وجه كل التحديات الصليبية من جهة، والفاطمية
والباطنية من جهة أخرى.
وقد كانت المدارس العلمية التي أنشئت في هذا العصر على درجة
عالية من التنظيم والإدارة، ذات أهداف بينة ومناهج محددة، وكان
لكل مدرسة شيخ، وفيها العدد الجم الغفير من المدرسين والمعيدين
والإداريين، والخدم، وربما كان بعض هذه المدارس يفوق في
إمكانياته جامعات هذا العصر وكلياته.
فهذا ابن كثير يذكر في تاريخه في حوادث سنة 724هـ نبذة عن
المدرسة الناصرية، بالقاهرة، فيقول: كان عدد المدرسين ثلاثين
في كل مذهب، فجعلهم السلطان أربعة وخمسين.
ولا يحتاج هذا الخبر إلى تعليق لبيان إمكانية هذه المدرسة.
أما المدرسة السكرية بدمشق، والتي كان شيخنا ابن رجب يسكن فيها
فقد عين لهذه المدرسة ثلاثون محدثا لكل منهم جراية شهرية، وقرر
فيها ثلاثون نفرا يقرأون القرآن، لكل عشرة شيخ، ولكل واحد من
القراء نظير ما للمحدثين، ورتب لها إمام، وقارئ حديث، ونواب.
وقد تعاقب على مشيخة هذه المدرسة عبد الحليم بن تيمية، ثم أحمد
بن عبد الحليم بن تيمية الإمام المشهور، ثم الذهبي.
(1/231)
وقد كان في دمشق - وحدها - وحيث يقطن ابن
رجب ثلاثمائة وخمسون مدرسة، منها ثماني عشرة دارا للحديث، وإلى
جانب هذا العدد من المدارس وجد الكثير من الخوانق والربط
والمساجد، وكلها تساهم في نشر الثقافة والعلم.
وقد تجاوزت هذه الحركة العلمية رجال هذا العصر إلى نسائه لنجد
العالمات والمسندات والفقيهات، وقد تتلمذ على كثير منهن مشايخ
هذا العصر الأجلاء ومنهن ست العز بنت محمد بن الفخر المسندة (ت
767هـ) ، التي سمع منها الحافظان العراقي والهيثمي، والمقرئ
ابن رجب والد شيخنا عبد الرحمن. وكزينب بنت إسماعيل بن الخباز،
التي تتلمذ عليها العراقي، وعبد الرحمن بن رجب، ومعظم مشايخ
العصر.
وأما مشاهير علماء هذا العصر فإنه يصعب حصرهم لكثرتهم، فقد
امتلأت المدن والحواضر بكبار العلماء، وحتى القرى النائية
والأمصار المهجورة كان عندها من العلماء من يسد حاجتها، وتفيض
به على غيرها.
ومن مشاهير علماء هذا العصر: أحمد بن عبد الحليم بن تيمية
الحراني (ت 728هـ) صاحب الفتاوى، ومنهاج السنة، والحسبة،
والسياسة الشرعية وغيرها كثير من الكتب، والقاسم بن محمد
البرزالي (ت 740هـ) محدث الشام، وصاحب التاريخ، والمعجم
الكبير، والحافظ جمال الدين المزي (ت 742) صاحب تهذيب الكمال،
والحافظ محمد بن قايماز الذهبي (ت 748هـ) ، عالم التاريخ
الموسوعي، وعالم الحديث، وصاحب الكتب الكثيرة كتاريخ الإسلام،
وسير أعلام النبلاء وميزان الاعتدال، وغيرها كثير، والحافظ
عماد الدين بن كثير (ت 774هـ) صاحب التاريخ، والتفسير، وأحمد
بن فضل الله العمري الدمشقي إمام أهل الأدب، والتاريخ،
والجغرافيا، والاصطرلاب، ومسالك الأبصار له معلمة تاريخية
كبرى، وصلاح الدين
(1/232)
خليل بن أيبك الصفدي (ت 764هـ) صاحب الوافي
بالوفيات.
أما الذين عاشوا عامة هذا العصر ولكن وفياتهم كانت في القرن
التاسع فهم كثيرون مثل الحافظ العراقي (ت 806هـ) والهيثمي (ت
807هـ) ، وابن خلدون (808هـ) القلقشندي (ت 803 هـ) وابن الملقن
(ت 805هـ) .
ولقد قدم علماء هذا القرن موسوعات علمية في كل المجالات
التاريخية، والفقهية، والحديثية، والأدبية، والجغرافية. ومن
يستعرض بعض هذه الموسوعات ير أنها عنوان تحد كبير من هذه الأمة
لأعدائها، ورد فعل للمحاولات التي بذلها المغول والصليبيون
لطمس الحضارة الإسلامية. والباحث في هذه الموسوعات يخيل إليه
كأن العلوم قد نسيت فوقف أهل هذا العصر أنفسهم على جمعها،
وتبويبها وعرضها من جديد، وتحمل هذه الموسوعات بين طياتها
الثقافة المتكاملة التي حفظت شخصية الأمة أمام أشرس الهجمات.
(1/233)
|