شرح علل الترمذي القسم الثاني
التحقيق
وصف لنسخ كتاب "شرح علل الترمذي المخطوطة
حصلت على ثلاث نسح خطية لكتاب "شرح علل الترمذي"، وفيما يلي
وصف لهذه النسخ، مع إثبات نماذج مصورة عن أولها وآخرها:
1 - النسخة الأولى:
وهي نسخة أحمد الثالث - تركيا: ذات الرقم 532 حديث. ويوجد عنها
نسخة مصورة بالمكيروفيلم في معهد المخطوطات بجامعة الدول
العربية، ورقمها في المعهد 248، وتبلغ عدة أوراق هذه النسخة
151 ورقة.
وقد كتب على الورقة الأولى منها: "كتاب شرح علل الترمذي للإمام
العلامة زين الدين بن رجب"، وهي بخط قاضي القضاة ابن اللحام
بدمشق، وعليها خط المؤلف في مواضع كثيرة.
كما كتب عليها: "خمس عشرة كراسة وورقة واحدة". وفي الصفحة
الأولى من هذه النسخة:
بسم الله الرحمن الرحيم وبه ثقتي وعليه توكلي:
قال شيخنا الإمام العلامة، شيخ الإسلام، حافظ مصر والشام أوحد
العلماء، الأعلام أبو الفرج عبد الرحمن زين الدين بن رجب
البغدادي الحنبلي فسح الله في مدته وختم له بخير في عافيته
بمنه وكرمه، في كتاب شرح الترمذي له: كتاب الترمذي.
أما آخر هذه النسخة فهو:
"ووجدت في آخر نسخة من نسخ كتاب الجامع للترمذي مما كتب باليمن
(1/313)
بثغر عدن ما هذا صورته: أنشدنا الفقيه
الحافظ أبو العباس أحمد بن معد بن عيسى التجيبي لنفسه في مدح
أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي - رضي اله عنه -:
(كتاب الترمذي رياض علم ... حكت أزهار النجوم) "
إلى قوله، وهو آخر القصيدة وآخر الكتاب:
("من العلماء والفقهاء قدما ... وأهل الفضل والنهج القويم")
حالة هذه النسخة، كتبت بخط النسخ، وهي جيدة، ولا تخلو من خروم
وخاصة في بعض الهوامش الداخلية في الأصل.
الناسخ:
أما ناسخها فهو الإمام علاء الدين بن اللحام قاضي قضاة دمشق
وهو علي بن محمد بن علي بن عباس بن فتيان، البعلي، ثم الدمشقي
الحنبلي، ويعرف بابن اللحام، وقد ترجمت له أثناء الكلام على
تلاميذ ابن رجب، وذلك في صفحة 264 من الدراسة.
وهذه النسخة قيمة للغاية لشهرة كاتبها، وهو أكبر تلاميذ ابن
رجب، ولما حملت من تعليقات من ابن رجب نفسه، ولا شك أنها أقدم
النسخ التي حصلت عليها ولهذا كله فقد اعتمدتها أصلا، ورمزت لها
بالحرف (أ) .
2 - النسخة الثانية:
وهي نسخة دار الكتب المصرية: ورمزنا لها بالرمز (د) :
ورقم هذه النسخة بدار الكتب المصرية 49 مصطلح، وقد كتبت هذه
النسخة بخط النسخ وعدد أوراقها 135 ورقة، وبها خروم كثيرة جدا،
أكبرها خرم في أولها، بمقدار أربع عشرة لوحة. وفيها تصحيف
وسقط.
وقد بدأت هذه النسخ بقوله:
"يتهم في الحديث، فقال: لأن أقطع الطريق أحب غلي من أن أروي
عنه وهذا المقطع يقابله السطر الثالث من الورقة 14/أمن نسخة
أحمد الثالث".
(1/316)
الناسخ وتاريخ النسخ:
وقد كتب في نهاية هذه النسخة:
"وكان الفراغ من تعليقه يوم الأحد ثامن عشر ربيع الآخر من شهور
سنة تسع وتسعين وثمانمائة، بمكة المكرمة، زادها الله شرفا
وتعظيما، ومهابة على يد العبد الفقير إلى الله تعالى محمد بن
محمد بن أبي حامد بن حسن بن علي المالكي البكري، والخليلي، غفر
الله تعالى له ولإخوانه، ولأحبابه، ولمشايخه، والجميع المسلمين
والحمد لله رب العالمين".
(وما كنت أهلا للذي قد كتبته ... وأني لفي خوف من الله نادم)
(ولكنني أرجو من الله عفوه ... وأني لأهل العلم لا شك خادم)
ولقد بحثت عن ترجمة هذا النسخ في وفيات المئة العاشرة فوجدت في
كتاب الكواكب السائرة ترجمة قد تكون هي ترجمة هذا الشيخ وجاء
فيها: "هو محمد البكري العالم الورع الزاهد الشيخ صدر الدين
البكري، حج وزار النبي صلى الله عليه وسلم وكانت وفاته
بالمدينة المنورة سنة 918هـ".
3 - النسخة الثالثة:
وهذه النسخة دار الكتب الظاهرية بدمشق، ورمزنا لها بالحرف (ظ)
:
وهذه النسخ مماثلة لنسخة دار الكتب في الخروم الكثيرة وخاصة
الخرم الذي في أولها وهو بنفس مقدار خرم النسخة المصرية.
وتتشابه النسختان في كثيرة من مواضع الخروم مما يرجح أنهما
منسوختان عن أصل واحد، وتحمل هذه النسخة رقم 405 حديث وعدد
أوراقها 102 ورقة وهي بخط النسخ.
"قال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن عيسى قال، ترك ابن المبارك
الحسن بن دينار".
وتنقص هذه البداية سطرا واحدا عن نسخة دار الكتب المصرية.
وأما آخر هذه النسخة فهو قوله:
"والحمد لله وحده صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
وحسبي الله ونعم الوكيل، وكتبه محمد بن أبي بكر بن عبد الرحمن
بن زريق".
(1/317)
التعريف بالناسخ:
وقد بحثت في التراجم عن ابن زريق فوقع لي شخصان أحدهما يعرف
بزريق والثاني يعرف بابن زريق. أما الأول فهو محمد بن عبد
الرحمن بن محمد بن أحمد ابن التقي سليمان بن حمزة المقدسي ثم
الصالحي، ناصر الدين، قال ابن حجر: المعروف بزريق تصغير أزرق.
وكانت وفاته سنة (803) هـ.
وأما الثاني فهو ناصر الدين أبو عبد الله بن أبي كبر بن عبد
الرحمن بن محمد بن أحمد بن سليمان بن حمزة المعروف بابن زريق،
كذا ورد اسمه في ثبت سماعات كتاب المحدث الفاصل تحت عنوان: سمع
محمد بن أبي بكر بن عبد الرحمن، ابن زريق بقراءته على الشيخ
إبراهيم بن محمد الحلبي، (سبط ابن العجمي) وكان ذلك سنة 837هـ
بالمدرسة الشرقية بحلب، وجاء في السماع: "وكتبه محمد بن أبي
بكر ... " وساق الاسم كاملا، ثم جاء ذكر سماع إبراهيم بن عبد
الله المقدسي الذئابي على الشيخ ناصر الدين محمد بن أبي بكر
ابن زريق في ربيع الآخر سنة (881هـ) ثم ورد سماع ابن طولون
الحنفي على الشيخ ناصر الدين ابن زريق في ربيع الآخر سنة
899هـ.
ونخلص إلى أن صاحبنا هو ابن زريق الصالحي الحنبلي الإمام
العالم المحدث ولد سنة اثنتي عشرة وثمانمائة، ولي مدرسة جده
أبي عمر ابن قدامة، ومات سنة تسعمائة
(1/318)
رموز واصطلاحات
التحقيق
اعتمدت نص نسخة أحمد الثالث أصلا للكتاب، ورمزت لها بالحرف (أ)
، وقابلت عليها النسختين الأخريين، ورمزت لنسخة دار الكتب
المصرية بالحرف (د) ، ولنسخة دار الكتب الظاهرية بالحرف (ظ) .
وضعت الفوارق بين النسخ ضمن قوسين () وأشرت في الحاشية إلى
النسخة المختلفة عن نسخة الأصل زيادة أو نقصا.
ولما كان استعمال صيغ التحمل (ثنا، نا، وأنا) كثيرا فقد جعلتها
بين () قوسين حتى لا يلتبس الأمر على القارئ.
أما العناوين فقد عنونت كثيرا من مباحث الكتاب وجعلت هذه
العناوين بين " " للدلالة على أنه من وضع المحقق.
وجميع الأرقام التي في النص هي من وضع المحقق.
وفيما يلي بعض المختصرات والرموز المستعلمة في التحقيق:
- تهذيب أو التعذيب: هو تعذيب التهذيب لابن حجر.
- اللسان: إذا كان في التراجم فهو لسان الميزان للذهبي، وإذا
كان في تفسير الغريب فهو لسان العرب لابن منظور.
- الميزان: هو ميزان الاعتدال للذهبي.
- المغني: هو كتاب المغني في الضعفاء للذهبي.
(1/319)
- ?: إشارة لانتهاء اللوحة من المخطوط.
- ت: لسنة الوفاة.
وكل السنين المستعملة هي بالتاريخ الهجري، وما كان بالميلادي
فإنني أنبه عليه، وليسهل تقسم الكتاب وبيان منهجه جعلته في
بابين، فأطلقت على القسم الأول: الباب الأول "شرع علل
الترمذي"،
(1/320)
"الباب الأول" "شرح علل الترمذي" لابن رجب
الحنبلي"
(1/321)
بسم الله الرحمن
الرحيم وبع ثقتي وعليه توكلي
قال شيخنا الشيخ الإمام العالم "العلامة، شيخ الإسلام، حافظ
مصر والشام، وأوحد العلماء الأعلام، أبو الفرج عبد الرحمن زين
الدين بن رجب البغدادي الحنبلي - فسح الله له مدته، وختم له
بخير في عافيته، بمنه وكرمه - في كتاب "شرح الترمذي" له:
كتاب العلل
قال أبو عيسى - رحمه الله -:
جميع ما في هذا الكتاب من الحديث معمول به، وقد أخذ به بعض أهل
العلم، ما خلا حديثين:
حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي صلى الله عليه
وسلم جمع بين الظهر والعصر بالمدينة والمغرب والعشاء من غير
خوف ولا سقم".
(1/323)
وحدث النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال:
"إذا شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه".
وقد بينا علة الحديثين جميعا في هذا الكتاب.
وكأن مراد الترمذي - رحمه الله تعالى - أحاديث الأحكام. وقد
سبق الكلام على هذين الحديثين اللذين أشار إليهما ههنا في
موضعهما في الكتاب.. وذكرنا مسالك العلماء فيهما من النسخ
وغيره. وذكرنا أيضا عن بعضهم العمل بكل واحد من الحديثين.
وقوله: (قد بينا علة الحديثين جميعا في الكتاب) ، فإنما بين ما
قد يستدل به للنسخ، لا أنه بين ضعف وإسناد.
وقد روى الترمذي في كتاب الحج حديث جابر في التلبية عن النساء،
(1/324)
ثم ذكر الإجماع على أنه لا يلبى عن النساء،
فهذا ينبغي أن يكون حديثا ثالثا، مما لم يؤخذ به عند الترمذي.
وقد وردت أحاديث أخر قد ادعى بعضهم أنه لم يعمل بها أيضا. وقد
ذكرنا غالبها في هذا الكتاب، فمنها ما خرجه الترمذي وأكثرها لم
يخرجه:
فمنها حديث: "من غسل ميتا فليغسل ومن حمله فليتوضأ".
وقد قال الخطابي: لا أعلم أحدا من العلماء قال بوجوب ذلك. ولكن
القائل باستحبابه يحمله على الندب، وذلك عمل به.
ومنها حديث أنه صلى الله عليه وسلم: توضأ ثلاثا، وقال: "ومن
زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم".
(1/325)
وقد ذكر مسلم الإجماع على خلافه.
ومنها حديث التيمم إلى المناكب والآباط.
ومنها حديث التيمم إلى نصف الذراعين.
ومنها حديث الأكل في الصيام بعد الفجر، قال الجوزجاني: هو حديث
قد أعيا العلماء معرفته.
ومنها حديث أنس في أكل البرد للصائم.
ومنها حديث ابن أم مكتوم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم
(1/326)
لم يرخص له في ترك الجماعة. مع ما ذكره من
ضرره وعدم قائد والسيول. وقد ذكر بعضهم أنه لا يعلم أحدا أخذ
بذلك.
ومنها أحاديث النهي عن كرى الأرض، وهي أحاديث صحيحة ثابتة.
ومنها أحاديث المسح على النعلين ذكره الطحاوي وغيره.
ومنها حديث أن في خمس وعشرين من الإبل خمس شياه.
ومنها حديث توريث المولى من أسفل. وقد ذكرنا الكلام عليه.
(1/327)
ومنها حديث الرضاع، أن لا يحرم إلا عشر
رضعات.
ومنها حديث الطلاق الثلاث جمع.
ومنها حديث أسماء بن عميس في إحداد المتوفى عنها ثلاثة أيام.
ومنها حديث سلمة بن المحبق فيمن وقع على جارية امرأته.
ومنها حديث الذي تزوج امرأة فوجدها حبلى. فجعل النبي صلى الله
عليه وسلم لها المهر، وقال: "الولد عبد" لكن قال الخطابي: لا
أعلم أحدا قال باسترقاق ولد الزنا.
(1/328)
ومنها أحاديث متعددة في الحج، مثل:
حديث النهي عن التمتع.
وحديث أن المعتمر إذا مسح الركن حل.
وحديث أن الوقوف بعرفة لا يفوت إلا بطلوع الشمس يوم النحر.
وحديث أن التحلل برمي الجمرة مشروط بطواف الإفاضة في بقية يوم
(1/329)
النحر وقد حكى عن عروة القول به.
وحديث الاضطباع في السعي بين الصفا والمروة.
وقد ادعى بعضهم ترك العمل بأحاديث أخر وهو خطأ ظاهر:
كدعوى ابن قتيبة الإجماع على ترك العمل بأحاديث المسح على
العمامة.
(1/330)
ودعوى بعضهم الإجماع على ترك العمل بأحاديث
فسخ الحج إلى العمرة.
ودعوى بعضهم الإجماع على ترك العمل بحديث: إذا اختلف
المتبايعان والسلعة قائمة فالقول ما قال البائع، أو يترادان
البيع.
قال ابن المنذر: ما علمت أحدا قال بظاهره غير الشعبي.
وكحديث ابن عباس في دية المكاتب.
(1/331)
قال الخطابي: لم يذهب إليه أحد سوى النخعي،
وقد روى في ذلك شيء عن علي.
وذكر الطحاوي الإجماع على ترك العمل بحديث "إذا انتصف شعبان
فلا تصوموا حتى رمضان".
وعلى ترك العمل بحديث تحريق متاع الغال إلا عن مكحول.
والطحاوي من أكثر الناس دعوى لترك العمل بأحاديث كثيرة، وعامة
هذه الأحاديث قد ذكرناها في مواضعها من هذا الكتاب، مع بسط
الكلام عليها، فمن أراد الوقوف عليها فليتتبعها من مظانها من
الكتاب.
وقد ذكر للثوري ما روي عن عمر قال: من لم يدرك الصلاة بجمع مع
الإمام فلا حج له. فقال الثوري: قد جاءت أحاديث لا يؤخذ بها.
وسنذكر هذا المعنى مستوفى عند الكلام على الحديث الغريب - إن
شاء الله تعالى -.
(1/332)
"أسانيد أقوال
الفقهاء عند الترمذي"
قال أبو عيسى الترمذي - رحمه الله -: وما ذكرنا في هذا الكتاب
من اختيار الفقهاء فما كان فيه من قول سفيان الثوري، فأكثره ما
حدثنا:
محمد بن عثمان الكوفي، ثنا عبيد الله بن موسى، عن سفيان
الثوري.
ومنه ما حدثني مكتوم أبو الفضل بن العباس الترمذي، ثنا محمد بن
يوسف الفريابي، عن سفيان..
وما كان فيه من قول مالك بن أنس.
(1/333)
فأكثره ما حدثني به إسحق بن موسى الأنصاري،
ثنا معن بن عيسى القزاز، عن مالك بن أنس.
وما كان فيه من أبواب الصوم: فأخبرنا به أبو مصعب المدني، عن
مالك بن أنس.
وبعض كلام مالك ما (أنا) به موسى بن حزام (أنا) عبد الله بن
مسلمة القعنبي، عن مالك بن أنس.
وما كان فيه من قول ابن المبارك:
فهو ما حدثنا به أحمد بن عبده الآملي عن أصحاب ابن المبارك.
ومنه ما روي عن أبي وهب، محمد بن مزاحم، عن ابن المبارك.
(1/334)
ومنه ما روي عن علي بن الحسن بن شقيق عن
عبد الله.
ومنه ما روي عن عبدان عن سفيان بن عبد الملك ابن المباكر.
ومنه ما روي عن حبان بن موسى، عن عبد الله بن المبارك.
وله رجال مسمون سوى من ذكرنا عن عبد الله بن المبارك.
- وما كان فيه من قول الشافعي:
فأكثره ما أخبرني به الحسن بن محمد الزعفراني عن الشافعي.
وما كان من الوضوء والصلاة: (ثنا) به الوليد المكي عن الشافعي.
ومنه ما (ثنا) به أبو إسماعيل الترمذي (ثنا) يوسف بن يحيى
القرشي
(1/335)
البويطي، عن الشافعي.
وذكر منه أشياء عن الربيع، عن الشافعين وقد أجاز لنا الربيع
ذلك وكتب به إلينا.
- وما كان فيه من قول أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، فهو ما
(أنا) به إسحاق بن منصور الكوسج، عن أحمد وإسحاق، إلا ما في
أبواب فإني لم أسمعه من إسحاق بن منصور وأخبرني به محمد بن
موسى الأصم، عن إسحاق بن منصور، عن أحمد وإسحاق.
وبعض كلام إسحاق بن إبراهيم (أنا) به محمد بن أفلح عن إسحاق،
(1/336)
وقد بينا هذا على وجهه، في الكتاب الذي فيه
الموقوف.
وأما ما كان فيه من ذكر العلل في الأحاديث والرجال والتاريخ،
فهو ما استخرجته من كتاب التاريخ، وأكثر ذلك ما ناظرت به محمد
بن إسماعيل. ومنه ما ناظرت به عبد الله بن عبد الرحمن. وأبا
زرعة، وأكثر ذلك عن محمد، وأقل شيء فيه عن عبد الله وأبي زرعة.
ولم أر أحدا بالعراق ولا بخراسان في معنى العلل والتاريخ،
ومعرفة الأسانيد، كبير أحد أعلم من محمد بن إسماعيل - رحمه
الله تعالى -.
اعلم أن أبا عيسى - رحمه الله - ذكر في هذا الكتاب مذاهب كثير
من فقهاء أهل الحديث المشهورين: كسفيان، وابن المبارك، ومالك،
والشافعي، وأحمد، وإسحاق. وذكر فيه كثيرا من العلل والتواريخ
والتراجم ولم يذكر أسانيد أكثر ذلك، فذكر ههنا أسانيد مجملة،
وإن كان لم يحصل بها الوقوف على حقيقة أسانيد ذلك، حيث ذكر أن
بعضه عن فلان، وبعضه عن فلان، ولم يبين ذلك البعض ولم يميزه.
(1/337)
وقد ذكر أنه بين ذلك على وجهه في كتابه
الذي فيه الموقوف، وكأنه - رحمه الله - له كتاب مصنف اكبر من
هذا، فيه الأحاديث المرفوعة، والآثار الموقوفة مذكورة كلها
بالأسانيد، وهذا الكتاب وضعه للأحاديث المرفوعة، وإنما يذكر
فيه قليلا من الموقوفات.
وأما التواريخ والعلل والأسماء ونحو ذلك:
فقد ذكر أن أكثر كلامه فيه استخرجه من كتاب تاريخ البخاري، وهو
كتاب جليل لم يسبق إلى مثله - رحمه الله تعالى - وهو جامع لذلك
كله. ثم لما وقف عليه أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان - رحمهما
الله - صنفا على منواله كتابين:
أحدهما: كتاب الجرح والتعديل، وفيه ذكر الأسماء فقد، وزاد على
ما ذكره البخاري أشياء من الجرح والتعديل. وفي كتابهما من ذلك
شيء كثير لم يذكره البخاري.
والثاني: كتاب العلل، وأفردا فيه الكلام في العلل.
وقد ذكر الترمذي - رحمه الله - أنه لم ير بخراسان ولا بالعراق
في معنى علة العلوم كبير أحد أعلم بها من البخاري، مع أنه رأى
أبا زرعة، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، وذاكرهما، ولكن
أكثر علمه في ذلك مستفاد من البخاري، وكلامه كالصريح في تفصيل
البخاري في هذا العلم على أبي زرعة والدارمي وغيرهما.
(1/338)
"كتاب العلل
والرجال"
وقد صنف في هذا العلم كتب غير مرتبة كترتيب كتاب البخاري وأبي
حام وأبي زرعة، منها ما هو منقول عن يحيى بن سعيد القطان.
- ومنها عن علي المديني وابن معين.
- ومنها عن أحمد بن حنبل - رحمه الله -.
وقد رتب أبو بكر الخلال العلل المنقولة عن أحمد على أبواب
الفقه وأفرادها فجاءت عدة مجلدات.
"أهمية علم العلل"
وقد ذكرنا فيما تقدم، في كتاب العلم، شرف علم العلل وعزته، وأن
أهله المتحققين به أفراد يسيرة من بين الحفاظ وأهل الحديث، وقد
قال أبو عبد الله بن مندة الحافظ إنما خص الله بمعرفة هذه
الأخبار نفرا يسيرا من كثير ممن يدعي علم الحديث فأما سائر
الناس من يدعي كثرة كتابة الحديث، أو متفقه في علم الشافعي
وأبي حنيفة، أو متبع لكلام الحارث المحاسبي،
(1/339)
والجنيد وذي النون، وأهل الخواطر، فليس لهن
أن يتكلموا في شيء من علم الحديث، إلا من أخذه عن أهله وأهل
المعرفة به، فحينئذ يتكلم بمعرفته، انتهى.
قال أبو عيسى الترمذي - رحمه الله -.
وإنما حملنا على ما بينا في هذا الكتاب من قول الفقهاء، وعلل
الحديث، لأنا سئلنا عن ذلك فلم نفعله زمانا، ثم فعلنا لما
رجونا فيه من منفعة الناس، لأنا وجدنا غير واحد من الأئمة
تكلفوا من التصنيف ما لم يسبقوا إليه:
فمنهم:
هشام بن حسان،
وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريح،
وسعيد بن أبي عروبة،
ومالك بن أنس،
وحماد بن سلمة،
وعبد الله بن المبارك،
ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة،
ووكيع بن الجراح،
وعبد الرحمن بن مهدي.
وغيرهم من أهل العلم والفضل صنفوا فجعل الله تبارك وتعالى في
ذلك منفعة كبيرة فنرجو لهم بذلك الثواب الجزيل من عند الله -
تعالى - لما نفع الله المسلمين به، فهم القدوة فيما صنفوا.
(1/340)
"كتاب الحديث
والتصنيف فيه"
اعلم أن العلم المتلقى عن النبي صلى الله عليه وسلم من أقواله
وأفعاله كان الصحابة - رضي الله عنهم - في زمن نبيهم صلى الله
عليه وسلم يتداولونه بينهم حفظا له ورواية.
ومنهم من كان يكتب كما تقدم - في كتاب العلم - عن عبد الله بن
عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - ثم بعد وفاة النبي صلى الله
عليه وسلم كان بعض الصحابة يرخص في كتابة العلم عنه وبعضهم لا
يرخص في ذلك، ودرج التابعون أيضا على مثل هذا الاختلاف.
وقد ذكرنا كراهة كتاب الحديث والرخصة فيه، مستوفى في كتاب
العلم من هذا الكتاب.
والذي كان يكتب في زمن الصحابة والتابعين تصنيفا مرتبا مبوبا،
وإنما كان يكتب للحفظ والمراجعة فقط، ثم إنه في زمن تابعي
التابعين صنفت التصانيف، وجمع طائفة من أهل العلم كلام النبي
صلى الله عليه وسلم وبعضهم جمع كلام الصحابة.
قال عبد الرزاق: أول من صنف الكتب ابن جريح، وصنف الأوزاعي،
(1/341)
حين قدم على يحيى بن أبي كثير كبته، خرجه
ابن عدي وغيره.
وانقسم الذين صنفوا في الكتب أقساما:
فمنهم من صنف كلام النبي صلى الله عليه وسلم أو كلامه وكلام
أصحابه على الأبواب، كما فعل مالك وابن المبارك وحماد بن سلمة
وابن أبي ليلى ووكيع وبعد الرزاق ومن سلك مسلكهم في ذلك.
ومنهم من جمع الحديث إلى مسانيد الصحابة كما فعله أحمد وإسحاق
وعبد بن حميد والدارمي ومن سلك مسلكهم في ذلك.
قال ابن أبي خيثمة: (ثنا) الزبير بن بكار، أخبرني محمد بن
الحسن عن مالك بن أنس، قال: أول من دون العلم ابن شهاب، يعني
الزهري.
ومحمد بن الحسن كأنه ابن زبالة لا يعتمد عليه.
قال بان خراش: يقال: إن أول من صنف الكتب سعيد بن أبي عروبة.
وقال يعقوب بن شيبة: يقولون إن أول من صنف الكتب بالكوفة: يحيى
بن زكريا بن أبي زائدة، وبالبصرة: حماد بن سلمة.
وقال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي: أول من صنف الكتب من هو؟
قال: ابن جريج، وابن أبي عروبة، ونحو هؤلاء.
قال ابن جريج: ما صنف أحد العلم تصنيفي.
قال: وسمعت أبي يقول: قدم ابن جريج على أبي جعفر - يعني -
(1/342)
المنصور، فقال له: إني قد جمعت حديث جدك
عبد الله بن عباس، وما جمعه أحد جمعي، أو نحو ذا فلم يعطه
شيئا.
وقال أبو محمد الرامهرمزي: أول م صنف وبوب - فيما أعلم -
الربيع بن صبيح بالبصرة، ثم سعيد بن أبي عروبة بها، وخالد بن
جميل الذي يقال له العبد، ومعمر باليمن، وابن جريج بمكة، ثم
سفيان الثوري بالكوفة، وحماد بن سلمة بالبصرة، وصنف ابن عيينة
بمكة والوليد بن مسلم بالشام وجرير بن عبد الحميد بالري، وابن
المبارك بمرو وخراسان، وهشيم بواسط.
وصنف في هذا العصر بالكوفة ابن أبي زائدة وابن فضيل ووكيع، ثم
صنف عبد الرزاق باليمن وأبو قرة موسى بن طارق.
(1/343)
"أبو عيسى أول
من تكلم على الصحيح والضعيف في جامعه، وأول من علل الأبواب"
وأول من علمناه بين ذلك عيسى الترمذي - رحمه الله - وقد بين في
كلامه هذا أنه لم يسبق إلى ذلك، واعتذر بأن هؤلاء الأئمة الذي
سماهم صنفوا ما لم يسبقوا إليه، فإذا زيد في التصنيف ببيان
العلل ونحوها كان فيه تأس بهم في تصنيف ما لم يسبق إليه.
وقد صنف ابن المديني ويعقوب بن شيبة مسانيد معللة.
وأما الأبواب المعللة، فلا نعلم أحدا سبق الترمذي إليها. وزاد
الترمذي ذكر كلام الفقهاء، وهذا كان قد سبق إليه مالك في
الموطأ، وسفيان في الجامع.
"موقف الإمام أحمد من ذكر كلام
الفقهاء مع الحديث، ورأي ابن رجب في ذلك"
وكان أحمد يكره ذلك، وينكره - رضي الله عنهـ - حتى إنه أمر
بتجريد أحاديث الموطأ وآثاره عما فيه من الرأي الذي يذكره مالك
من عنده.
وكره أحمد أن يكتب مع الحديث كلام يفسره، ويشرحه، وكان ينكر
على من صنف في الفقه كأبي عبيد وأبي ثور وغيرهما. ورخص في غريب
الحديث الذي صنفه أبو عبيد أولا، ثم لما بسطه أبو عبيد وطوله
كرهه أحمد، وقال:
(1/345)
"هو يشغل عما هو أهم منه"، ولكن عند بعد
العهد بكلام السلف وطول المدة وانتشار كلام المتأخرين في معاني
الحديث والفقه انتشارا كثيرا بما يخالف كلام السلف الأول،
يتعين ضبط كلام السلف من الأئمة، وجمعه، وكتابته، والرجوع
إليه، ليتميز بذلك ما هو مأثور عنهم، مما أحدث بعدهم، مما هو
مخالف لهم.
وكان ابن مهدي يندم على أن لا يكون كتب عقب كل حديث من حديثه
تفسيره.
"تدوين الكلام في العلل والتواريخ
وأهميته"
وكذا الكلام في العلل والتواريخ قد دون أئمة الحفاظ، وقد هجر
في هذا الزمان ودرس حفظه وفهمه، فلولا التصانيف المتقدمة فيه
لما عرف هذا العلم اليوم بالكلية، ففي التصنيف فيه ونقل كلام
الأئمة المتقدمين مصلحة عظيمة جدا. وقد كان السلف الصالح، ومع
سعة حفظهم، وكثرة الحفظ في زمانهم، يأمرون بالكتابة للحفظ،
فكيف بزماننا هذا الذي هجرت فيه علوم سلف الأمة وأئمتها، ولم
يبق منها إلا ما كان مدونا في الكتب، لتشاغل أهل هذا الزمان
بمدارسة الآراء وحفظها؟
قال أبو قلابة: الكتابة أحب إلي من النسيان.
وقال ابن المبارك: لولا الكتاب لما حفظنا.
وقال الخلال: أخبرني الميموني، أنه قال لأبي عبد الله، يعني
أحمد بن
(1/346)
حنبل قد كره قوم كتاب الحديث بالتأويل.
وقال: إذا يخطئون إذا تركوا كتاب الحديث.
وقال: حدثونا قوم من حفظهم، وقوم من كتبهم، فكان الذين حدثونا
من كتبهم أتقن.
وقال إسحق بن منصور: قلت لأحمد: من كره كتاب العلم؟
قال كرهه قوم، ورخص فيه قوم.
قلت: لو لم يكتب ذهب العلم.
قال أحمد: ولولا كتابة أي شيء كنا نحن؟
قال أبو عيسى - رحمه الله -:
وقد عاب بعض من لا يفهم على أصحاب الحديث الكلام في الرجال:
وقد وجدنا غير واحد من الأئمة من التابعين قد تكلموا في
الرجال: منهم: والحسن البصري وطاوس قد تكلما في معبد الجهني.
وتكلم سعيد بن جبير في طلق بن حبيب. وتكلم إبراهيم النخعي
وعامر الشعبي في الحارث الأعور. وهكذا روي عن أيوب السختياني،
وعبد الله بن عون وسليمان التيمي، وشعبة بن الحجاج، وسفيان
الثوري، ومالك بن أنسن والأوزاعي، وعبد الله بن المبارك، ويحيى
بن سعيد القطان، ووكيع بن الجراح، وعبد الرحمن بن مهدي وغيرهم
من أهل العلم، أنهم تكلموا في الرجال وضعفوا، فما حملهم على
ذلك - عندنا والله أعلم - غلا النصيحة للمسلمين. لا نظن أنهم
أرادوا الطعن على الناس، أو الغيبة، إنما أرادوا - عندنا - أن
يبينوا ضعف هؤلاء لكي
(1/347)
يعرفوا، لأن بعضهم - من الذين ضعفوا - كان
صاحب بدعة وبعضهم كان متهما في الحديث، وبعضهم كانوا أصحاب
غفلة وكثرة خطأ، فأراد هؤلاء الأئمة أن يبينوا أحوالهم، شفقة
على الدين وتثبيتا، لأن الشهادة في الدين أحق أن يتثبت فيها من
الشهادة في الحقوق والأموال.
"وجوب الكلام في الجرح والتعديل"
مقصود الترمذي - رحمه الله - أن يبين أن الكلام في الجرح
والتعديل جائز، قد أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها، لما فيه من
تمييز ما يجب قبوله من السنن مما لا يجوز قبوله.
وقد ظن بعض من لا علم عنده أن ذلك من باب الغيبة، وليس كذلك،
فإن ذكر عيب الرجل إذا كان فيه مصلحة، ولو كانت خاصة كالقدح في
شهادة شاهد الزور، جائز بغير نزاع، فما كان فيه مصلحة عامة
للمسلمين أولى.
وروى ابن أبي حاتم، بإسناده، عن بهز بن أسد، قال:
لو أن لرجل على رجل عشرة دراهم، ثم جحده، لم يستطع أخذها منه
إلا بشاهدين عدلين، فدين الله أحق أن يؤخذ في بالعدول.
وكذلك يجوز ذكر العيب إذا كان فيه مصلحة خاصة، كمن يستشير في
نكاح أو معاملة، وقد دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم
لفاطمة بنت قيس:
"أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع العصا عن
عاتقه".
(1/348)
وكذلك استشار النبي صلى الله عليه وسلم
عليا وأسامة في فراق أهله، لما قال أهل الإفك ما قالوا.
ولهذا كان شعبة يقول:
تعالوا حتى نغتاب في الله ساعة، يعني: نذكر الجرح والتعديل.
وذكر ابن المبارك رجلا فقال: يكذب.
فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، تغتاب؟
قال: اسكت، إذا لم نبين كيف يعرف الحق من الباطل؟.
وكذا روي عن ابن علية، أنه قال في الجرح: إن هذا أمانة، ليس
بغيبة.
وقال أبو زرعة الدمشقي: سمعت أبا مسهر يسأل عن الرجل يغلط ويهم
ويصحف.
فقال: بين أمره، فقلت لأبي زرعة: أترى ذلك غيبة؟ قال: لا.
وروى أحمد بن مروان المالكي، (ثنا) عبد الله بن أحمد بن حنبل،
قال: جاء أبو تراب النخشبي إلى أبي، فجعل أبي يقول: فلان ضعيف،
وفلان ثقة.
(1/349)
فقال أبو تراب: يا شيخ، لا تغتب العلماء.
قال: فالتفت أبي إليه، قال: ويحك. هذا نصيحة، ليس هذا غيبة.
وقال محمد بن بندار السباك الجرجاني: قلت لأحمد بن حنبل: أنه
ليشتد علي أن أقول: فلان ضعيف، فلان كذاب.
قال أحمد: إذا سكت أنت، وسكت أنا فمن يعرف الجاهل الصحيح من
السقيم؟
وقال إسماعيل الخطبي، (ثنا) عبد الله بن أحمد، قلت لأبي: ما
تقول في أصحاب الحديث يأتون الشيخ لعله أن يكون مرجئا أو شيعيا
أو فيه شيء من خلاف السنة، أيسعني أن أسكت عنه، أن أحذر عنه.
فقال أبي: إن كان يدعو إلى بدعة، وهو إمام فيها ويدعو إليها،
قال: نعم، تحذر عنه.
وقد خرج ذلك كله أبو بكر الخطيب في كتاب الكفاية، وغيره من
أئمة الحفاظ.
وكلام السلف في هذا يطول ذكره جدا.
وذكر الخلال، عن الحسن بن علي الإسكافي، قال: سألت أبا عبد
الله، يعني أحمد بن حنبل، عن معنى الغيبة. قال: إذا لم ترد عيب
الرجل.
(1/350)
قلت: فالرجل يقول: فلان لم يسمع، وفلان
يخطئ؟
قال: لو ترك الناس هذا لم يعرف الصحيح من غيره.
وخرج البيهقي من طريق الحسن بن الربيع، قال: قال ابن المبارك.
المعلى بن هلال هو، إلا أنه إذا جاء الحديث يكذب.
فقال له بعض الصوفية: يا أبا عبد الرحمن، تغتاب؟
قال: اسكت. إذا لم نبين كيف يعرف الحق من الباطل؟ أو نحو هذا.
"الكلام في معبد الجهني"
وما ذكره الترمذي - رحمه الله - من تكلم الحسن وطاوس في معبد
فقد روى مرحوم بن عبد العزيز عن أبيه وعمه سمعا الحسن يقول:
إياكم ومعبد الجهني فإنه ضال مضل.
ورواه أيضا حماد بن زيد، عن أبي طلحة، عن غيلان بن جرير، سمعت
الحسن يقول: لا تجالسوا معبدا، فإنه ضال مضل.
وروى نعيم بن حماد، عن ابن المبارك (نا) رياح بن زيد الصنعاني،
عن جعفر بن محمد بن عباد، عن طاوس، أنه قال لمعبد الجهني: أنت
الذي تفتري على الله عز وجل؟ فقال معبد: كذب علي.
(1/351)
"الكلام في طلق
بن حبيب"
وأما تلكم سعيد بن جبير في طلق، فمن طريق حماد بن زيد، عن أيوب
قال: رآني سعيد بن جبير مع طلق بن حبيب، فقال: ألم أرك مع طلق؟
لا تجالسه.
وكان طلق رجلا صالحا، لكنه كان يرمى بالأرجاء.
"الكلام في الحارث الأعور"
وأما تكلم الشعبي والنخعي في الحارث الأعور، فقد ذكره مسلم في
مقدمة كتابه، من طريق زائدة، عن منصور، والمغيرة، عن إبراهيم،
أن الحارث اتهم.
ومن طريق مغيرة عن الشعبي، قال: حدثني الحارث الأعور، وكان
كذابا.
قال أبو عيسى الترمذي - رحمه الله -:
أخبرنا محمد بن إسماعيل (ثنا) محمد بن يحيى بن سعيد القطان،
حدثني أبي، قال: سألت سفيان الثوري وشعبة ومالك بن أنس وسفيان
بن عيينة عن الرجل يكون فيه تهمة أو ضعف، أسكت أو أبين؟ قالوا:
بين.
هذا الأثر خرجه البخاري في أول كتابه الضعفاء، كما خرجه
الترمذي ههنا عنه، وخرجه مسلم في مقدمة كتابه، عن عمرو بن علي
الفلاس، عن يحيى بن سعيد، قال:
سألت الثوري وشعبة ومالكا وابن عيينة عن الرجل لا يكون ثبتا في
الحديث، فيأتيني الرجل، فيسألني عنه. قالوا: أخبر عنه ليس
بثبت.
(1/352)
ورواه أبو بكر النجار، (نا) جعفر بن محمد
الصائغ، (نا) عفان، (نا) يحيى بن سعيد، قال: سألت شعبة وسفيان
ومالك بن أنس وسفيان بن عيينة عن الرجل يتهم في الحديث، أو لا
يحفظ. قالوا: بين أمره للناس.
ورواه الإمام أحمد عن عفان أيضا بنحوه.
وقال يعقوب بن شيبة، (ثنا) موسى بن منصور، حدثني أبو سلمة
الخزاعي قال: سمعت حماد بن سلمة، ومالك بن أنس، وشريك بن عبد
الله، يقولون في الرجل يحدث: نخبر بأمره، يعنون ضعفه من قوته،
وصدقه من كذبه.
قال: وقال شريك: كيف نعرف الضعيف من القوي إذا لم نخبر به؟.
قال الترمذي - رحمه الله -:
حدثنا محمد بن رافع النيسابوري، (ثنا) محمد بن يحيى، قال: قيل
لأبي بكر بن عياش: إن ناسا يجلسون، ويجلس إليهم الناس، ولا
يستأهلون، قال: فقال أبو بكر: كل من جلس جلس الناس إليه، وصاحب
السنة إذا مات أحيا الله ذكره، والمبتدع لا يذكر.
قال ابن أبي الدنيا: (ثنا) أبو صالح المروزي، سمعت رافع بن
أشرس قال: كان يقال من عقوبة الكذاب أن لا يقبل صدقه. وأنا
أقول: من عقوبة الفاسق المبتدع أن لا تذكر محاسنه.
(1/353)
قال - رحمه الله -: حدثنا محمد بن علي بن
الحسن بن شقيق، (نا) النضر بن عبد الله الأصم، (انا) إسماعيل
بن زكريا، عن عاصم، عن ابن سعيد، عن ابن سيرين، قال: كان في
الزمان الأول لا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة، سألوا
عن الإسناد لكي يأخذوا حديث أهل السنة، ويدعوا حديث أهل البدع.
هذا الأثر خرجه مسلم في مقدمة كتابه، عن محمد بن الصباح
البزاز، عن إسماعيل بن زكريا به. ولفظه، قال: لم يكونوا يسألون
عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم فينظر
إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ
حديثهم.
وخرجه أبو بكر الخطيب من طريق أحمد بن سيار، (ثنا) النضر بن
عبد الله المديني - من مدينة الداخلة - أبو عبد الله الأصم
(ثنا) إسماعيل بن زكريا فذكره، وخرجه أيضا من طريق محمد بن
حميد الرازي، عن جرير، عن عاصم عن ابن سيرين بنحوه.
(1/354)
"ابن سيرين أول
من انتقد الرجال وفتش عن الإسناد"
وابن سيرين - رضي الله عنه - هو أول من انتقد الرجال، وميز
الثقات من غيرهم، وقد روى عنه من غير وجه أنه قال: إن هذا
العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم. وفي رواية عنه أنه قال:
إن هذا الحديث دين، فلينظر الرجل عمن يأخذ دينه.
قال يعقوب بن شيبة: قلت ليحيى بن معين:
تعرف أحدا من التابعين كان ينتقي الرجال، كما كان ابن سيرين
ينتقيهم؟
فقال - برأسه -: أي لا.
قال يعقوب: وسمعت علي بن المديني يقول:
كان ممن ينظر في الحديث ويفتش عن الإسناد، ولا نعرف أحدا أول
منه، محمد بن سيرين ثم كان أيوب وابن عون، ثم كان شعبة، ثم كان
يحيى بن سعيد، وعبد الرحمن.
قلت لعلي: فمالك بن أنس؟
فقال: أخبرني سفيان بن عيينة، قال: ما كان أشد انتقاء مالك
الرجال.
"بدء السؤال عن الإسناد"
وروى الإمام أحمد، عن جابر بن نوح، عن الأعمش، عن إبراهيم،
قال:
إنما سئل عن الإسناد أيام المختار، وسبب هذا: أنه كثر الكذب
على علي في تلك الأيام. كما روى شريك، عن أبي إسحاق، قال:
سمعت خزيمة بن نصر العبسي، أيام المختار، وهم يقولون ما يقولون
من
(1/355)
الكذب، وكان من أصحاب علي قال: ما لهم
قاتلهم الله، أي عصابة شانوا؟، وأي حديث أفسدوا؟.
وروى يونس بن أبي إسحاق عن صلة بن زفر العبسي قال: قاتل الله
المختار، أي شيعة أفسد، وأي حديث شان.
"الرواية عن أهل الأهواء والبدع"
وهذه المسألة قد اختلف العلماء فيها، قديما وحديثا، وهي
الرواية عن أهل الأهواء والبدع.
"من منع مطلقا"
فمنعت طائفة من الرواية عنهم، كما ذكره ابن سيرين، وحكى نحوه
عن مالك وابن عيينة والحميدي ويونس بن أبي إسحاق، وعلي بن حرب
وغيرهم.
وروى أبو إسحاق الفزاري، عن زائدة، عن هشام، عن الحسن، قال: لا
تسمعوا من أهل الأهواء. أخرجه ابن أبي حاتم.
"ومن قبل حديثهم"
ورخص طائفة في الرواية عنهم إذا لم يتهموا بالكذب، منهم أبو
حنيفة والشافعي ويحيى بن سعيد وعلي بن المديني، وقال ابن
المديني: لو تركت أهل البصرة للقدر، وتركت أهل الكوفة للتشيع
لخربت الكتب.
"من فرق بين الداعية وغيره"
وفرت طائفة أخرى بين الداعية وغيره فمنعوا الرواية عن الداعية
إلى البدعة دون غيره.
(1/356)
منهم: ابن المبارك، وابن المهدي، وأحمد بن
حنبل، ويحيى بن معين وروى أيضا عن مالك.
"حجة المانعين مطلقا"
والمانعون الرواية لهم مأخذان:
أحدهما: لكفر أهل الأهواء وفسقهم، وفيه خلاف مشهور.
والثاني: الإهانة لهم والهجران والعقوبة وترك الرواية عنهم،
وإن لم نحكم بكفر أو فسقهم.
ولهم مأخذ ثالث: وهو أن الهوى والبدعة لا يؤمن معه الكذب، لا
سيما إذا كانت الرواية مما تعضد هوى الراوي.
وروى أبو عبد الرحمن المقري، عن ابن لهيعة، أنه سمع رجلا من
أهل البدع رجع عن بدعته وجعل يقول: انظروا هذا الحديث عمن
تأخذونه، فإنا كنا إذا رأينا جعلناه حديثا. ورواه المعافى عن
ابن لهيعة، عن أبي الأسود، حدثني المنذر بن الجهم، فذكره
بمعناه.
وقال علي بن حرب: من قدر أن لا يكتب الحديث إلا عن صاحب سنة،
فإنهم يكذبون، كل صاحب هوى يكذب، ولا يبالي.
وعلى هذا المأخذ فقد يستثنى من اشتهر بالصدق والعلم، كما قال
أبو داود: ليس في أهل الأهواء أصح حديثا من الخوارج، ثم ذكر
عمران بن حطان، وأبا حسان الأعرج.
وأما الرافضة فبالعكس. قال يزيد بن هارون: لا يكتب عن الرافضة
فإنهم يكذبون. خرجه ابن أبي حاتم.
(1/357)
ومنهم من فرق بين من يغلو في هواه ومن لا
يغلوه، كما ترك ابن خزيمة حديث عباد بن يعقوب لغلوه.
وسئل ابن الأخرم: لا ترك البخاري حديث أبي الطفيل؟
قال: لأنه كان يفرط في التشيع.
وقريب من هذا القول من فرق بين البدع المغلظة، كالتجهم والرفض
والخارجية والقدر، والبدع المخففة ذات الشبه كالأرجاء.
قال أحمد في رواية أبي داود: احتملوا من المرجئة الحديث، ويكتب
عن القدري إذا لم يكن داعية.
وقال المروزي: كان أبو عبد الله يحدث عن المرجئ إذا لم يكن
داعيا.
ولم نقف له على نص في الجهمي. أنه يروى عنه إذا لم يكن داعيا،
بل كلامه فيه عام، أنه لا يرى عنه.
"الرأي المختار"
فيخرج من هذا: أن البدع الغليظة كالتجهم يرد بها الرواية
مطلقا، والمتوسطة كالقدر إنما يرد رواية الداعي إليها، والخفية
كالأرجاء، هل تقبل معها الرواية مطلقا أو ترد عن الداعية؟. على
روايتين.
(1/358)
"الإسناد
وأهميته"
قال - رحمه الله -:
حدثنا محمد بن علي بن الحسن، قال: سمعت عبدان، يقول: قال عبد
الله بن المبارك: الإسناد عندي من الدين، لولا الإسناد لقال من
شاء ما شاء، فإذا قيل له: من حدثك؟ بقي.
حدثنا محمد بن علي (أنا) حبان بن موسى، قال: ذكر لعبد الله
حديث، فقال: يحتاج لهذا أركان من آجر. قال أبو عيسى: يعني إنه
ضعيف الإسناد.
أما قول عبد الله بن المبارك الإسناد من الدين، فخرجه مسلم في
مقدمة كتابه، عن محمد بن عبد الله بن قهزاد المروزي عن عبدان،
عنه، إلى قوله: ما شاء. وخرجه بتمامه ابن حبان في أول كتابه من
طريق الحسين بن الفرج عن عبدان.
وأما قوله الثاني:
وذكر مسلم أيضا: قال محمد بن عبد الله، حدثني العباس بن رزمة،
قال: سمعت عبد الله - يعني - ابن المبارك يقول: بيننا وبين
القوم القوائم، يعني الإسناد.
قال: وقال محمد: سمعت أبا إسحاق، إبراهيم بن عيسى الطالقاني
يقول: قلت لعبد الله بن المبارك: يا أبا عبد الرحمن، الحديث
الذي جاء، "إن من البر بعد البر أن تصلي لأبويك مع صلاتك،
وتصوم لهما مع صومك".
(1/359)
فقال عبد الله: يا أبا إسحاق، عمن هذا؟.
قلت له: هذا من حديث شهاب بن خراش.
قال: ثقة. عمن؟ قلت: عن الحجاج بن دينار، قال: ثقة. عمن؟ قلت:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: يا أبا إسحاق، إن بين الحجاج بن دينار، وبين النبي صلى
الله عليه وسلم مفاوز تنقطع فيها أعناق المطى، لكن ليس في
الصدقة اختلاف.
وخرج ابن حبان وغيره من طريق الحسين بن الفرج، عن عبد الصمد بن
حسان، سمعت الثوري يقول: الإسناد سلاح المؤمن، إذا لم يكن معه
سلاح فبأي شيء يقاتل؟.
وخرج أبو عمر بن عبد البر في أول التمهيد من طريق محمد بن
خيرون، (ثنا) محمد بن الحسين البغدادي، قال: سمعت أحمد بن حنبل
يقول: سمعت يحيى بن سعيد يقول: الإسناد من الدين.
قال يحيى: وسمعت شعبة يقول: إنما يعلم صحة الحديث بصحة
الإسناد. وفي هذا الإسناد نظر، وخرج أيضا بإسناده نظر، وخرج
أيضا بإسناده عن الأوزاعي قال: ما ذهاب العلم إلا ذهاب
الإسناد، وبإسناده عن ابن عون قال: كان الحسن يحدثنا بأحاديث
لو كان يسندها كان أحب إلينا.
وخرج البيهقي من طريق علي بن حجر، قال: قال ابن المبارك:
لولا الإسناد لذهب الدين، ولقال امرؤ ما شاء أن يقول: ولكن إذا
قلت: عمن؟ يبقى.. قال: وسمعت ابن المبارك يقول: إن الله حفظ
الأسانيد على أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
(1/360)
ومن طريق الشافعي، قال: قال سفيان بن
عيينة:
حدث الزهري يوما بحديث، فقلت: هاته بلا إسناد، فقال الزهري:
أيرقى السطح بلا سلم؟
وخرج أبو بكر الخطيب من طريق مالك بن إسماعيل النهدي: سمعت ابن
المبارك يقول: طلب الإسناد المتصل من الدين.
ومن طريق هلال بن العلاء، عن أبيه سمع ابن عيينة، وقال له
أخوه: حدثهم بغير إسناد.
فقال سفيان: انظروا إلى هذا يأمرون أن أصعد فوق البيت بغير
درجة.
ومن طريق إبراهيم بن معدان، قال: قال ابن المبارك: مثل الذي
يطلب دينه بلا إسناده كمثل الذي يرتقي السطح بلا سلم.
ومن طريق ابن المديني، قال أبو سعيد الحداد: الإسناد مثل
الدرج، ومثل المراقي، فإذا زلت رجلك عن المرقاة سقطت.
وروى الفضل بن موسى، قال: قال بقية: ذاكرت حماد بن زيد أحاديث.
فقال: ما أجود أحاديثك، لو كان له أجنحة، يعني الأسانيد.
وقال علي بن المديني: قال يحيى، قال هشام بن عروة: إذا حدثك
رجل بحديث، فقل: عمن هو؟ وممن سمعته؟ فإن الرجل يحدث عن آخر
دونه. قال يحيى: فعجبت من فطنته.
وقد روى عن ابن سيرين معنى ذلك أيضا، خرج مسلم في مقدمة كتابه
من طريق هشام، عن ابن سيرين قال: إن هذا العلم دين فانظروا عمن
(1/361)
تأخذون دينكم وخرجه العقيلي في مقدمة كتابه
من طريق ابن عون، عن ابن سيرين، وزاد:
قال: وذكر عند محمد حديث عن أبي قلابة، فقال: إنا لا نتهم أبا
قلابة، ولكن عمن أخذه أبو قلابة.
وفي رواية له أيضا، عن ابن عون، قال: ذكر أيوب لمحمد حديثا عن
أبي قلابة، قال: فقال: أبو قلابة - إن شاء الله رجل صالح، ولكن
عمن ذكره أبو قلابة؟ ومن طريق أيوب عن ابن سيرين، أنه كان إذا
حدثه الرجل الحديث ينكره لم يقبل عليه ذاك الإقبال، ويقول:
إني لا أتهمك، ولا أتهم ذاك، ولكن لا أدري من بينكم.
ومن طريق عبيد الله بن عمر، قال: قال محمد بن سيرين: إن الرجل
لحدثني بالحديث لا أتهمه، ولكن أتهم من حدثه وأن الرجل ليحدثني
بالحديث عن الرجل، فما أتهم الرجل، ولكن اتهم من حدثني.
وذكر أيضا من طريقين أن التيمي حدث عن ابن سيرين بشيء، فبلغ
ابن سيرين فكذبه، فقال التيمي: حدثنيه مؤذن لنا عن ابن سيرين،
وخرجه غيره، وعنده أن المؤذن سئل، فقال: حدثني رجل عن ابن
سيرين.
وروى الشافعي (أنا) عمي محمد بن علي، عن هشام بن عروة، عن أبيه
قال: إني أسمع الحديث أستحسنه، فما يمنعني من ذكره إلا كراهة
أن يسمعه سامع فيقتدي به، أسمعه من الرجل، لا أثق به، قد حدثه
عمن أثق به، وأسمعه من الرجل أثق به، فيحدثه عمن لا أثق به.
وقد روى عن زيد بن أسلم، أنه قال: إن هذا العلم دين، فانظروا
ممن تأخذون دينكم. خرجه ابن حبان، وخرجه أيضا من كلام الحسن
وابن سيرين، والضحاك بن مزاحم، والنخعي.
وخرجه أيضا، بإسناده لا يصح عن أبي هريرة، وابن عباس - رضي
الله
(1/362)
عنهما - وخرجه ابن عدي أيضا من وجوه.
مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح منها شيء.
وروى أبو نعيم من طريق إسحاق بن بشر الرازي، قال: قال ابن
المبارك: ليس جودة الحديث في قرب الإسناد، ولكن جودة الحديث في
صحة الرجال.
وخرج الحاكم في المدخل بإسناده عن ضمرة، عن ابن شوذب، عن مطر
الوراق في قوله تعالى" (أو أثارة علم) ، قال: إسناد الحديث.
قال الترمذي - رحمه الله -:
حدثنا أحمد بن عبده، (ثنا) وهب بن زمعة، عن عبد الله بن
المبارك أنه ترك حديث الحسن بن عمارة، والحسن بن دينار،
وإبراهيم بن محمد الأسلمي، ومقاتل بن سليمان، وعثمان البري،
وروح بن مسافر وأبي شيبة الواسطي، وعمرو بن ثابت، وأيوب بن
خوط، وأيوب بن سويد، ونصر بن طريف أبي جزي والحكم وحبيب بن
حجر، والحكم روى له حديثا في
(1/363)
كتاب الرقائق ثم تركه، وحبيب لا أدري.
قال أحمد بن عبده: وسمعت عبدان يقول: كان عبد الله بن المبارك
قرأ أحاديث بكر بن خنيس، فكان آخر إذا آتى عليها أعرض عنها،
ولم يذكرها.
حدثنا أحمد، (ثنا) أبو وهب، قال: سمعوا لعبد الله بن المبارك
رجلا يتهم في الحديث، فقال: لأن أقطع الطريق أحب إلي من أروي
عنه.
قال الإمام أحمد: (ثنا) حسن بن عيسى قال: قال ابن المبارك.
الحسن بن دينار، وعمرو بن ثابت، وأيوب بن خوط، ومحمد بن سالم،
وعبيدة والسري بن إسماعيل، يعني أنه ترك الحديث عنهم.
وذكر حرب الكرماني، في كتابه، قال: بلغني أن ابن المبارك ترك
حديث عباد بن كثير والحسن بن دينار، والحسن بن عمارة، وروح بن
مسافر، وابن سمعان، وعمرو بن ثابت.
وقال ابن المبارك: ما يسوى حديث عباد بن كثير عندي كفا من
تراب.
وهؤلاء الذين سماهم الترمذي في روايته مشهورون بالضعف، وقد سبق
ذكرهم مفرقا في الكتاب، وفي مواضع متعددة.
(1/364)
وإبراهيم بن محمد الأسلمي: هو ابن أبي يحيى
المدني.
وعثمان البري - هو بصري، ضعيف، معتزلي، أحاديثه مناكير.
قال أحمد: حديثه منكر، وكان رأيه رأي سوء.
وأبو شيبة الواسطي: هو إبراهيم بن عثمان، جد بني شيبة.
وعمرو بن ثابت: هو ابن أبي المقدام الكوفي.
وأيوب بن سويد: هو الرملي.
(1/365)
وأما الحكم: فالظاهر أنه ابن عبد الله بن
سعد الأيلى.
وقد حكى البخاري وابن حبان وغيرهما عن ابن المبارك أنه كان
يحمل عليه. وحكى ابن أبي حاتم عن أبيه: أن ابن المبارك كان
تركه. وكذا ذكر ابن عدي في ترجمة الحكم الأيلي (عن الحسين بن
يوسف، (ثنا) أبو عيسى، (ثنا) أحمد بن عبده (ثنا) وهب بن زمعة،
عن عبد الله بن المبارك) أنه ترك حديث الحكم.
وأما حبيب بن حجر (فهو حبيب بن حجر) بالتشديد، تصغير حبيب، كذا
قاله يزيد بن هارون، وموسى بن إسماعيل، ورويا عنه. وكناه يزيد
أبا حجر. وكناه موسى أبا يحيى وهو قيسي بصري.
وقال ابن المبارك: هو حبيب أو حبيب، شك في ضبطه.
وهو يروي عن ثابت البناني والأزرق بن قيس. وقد ذكرنا له حديثا
في كتاب الأدب في باب السلام على الصبيان. وروى عنه أيضا وكيع،
ويونس، وروح وابن المبارك وكناه روح أبا حجر أيضا، وذكره ابن
حبان في ثقاته.
وقال يحيى بن معين: ليس به بأس.
وقد ذكر ابن عدي أن ابن المبارك إنما ترك حبيب بن حبيب أخا
حمزة
(1/366)
الزيات، فإنه ذكره في كتابه ثم قال: (ثنا)
حسين بن يوسف البندار، (ثنا) أبو عيسى الترمذي، (ثنا) أحمد بن
عبده الآملي، (ثنا) وهب بن زمعة عن ابن المبارك أنه ترك حبيب
بن حبيب.
وذكر عن ابن معين أنه قال: لا أعرفه، وعن عثمان بن أبي شيبة
أنه روى عنه. وقال: كان ثقة. وقد وثقه ابن معين في رواية أخرى
عنه، ويعقوب بن شيبة، وقال: ليس ممن يعتمد على تثبته.
وقال أبو زرعة: واهي الحديث.
وقد تكلم ابن المبارك في غير هؤلاء. فذكر مسلم في مقدمة كتابه:
عن إسحاق بن راهويه، قال: سمعت بعض أصحاب عبد الله، قال: قال
ابن المبارك نعم الرجل بقية، لولا أنه يسمي الكنى ويكني
الأسامي. قال كان دهرا يحدثنا عن أبي سعيد الوحاظي، فنظرنا
فإذا هو عبد القدوس.
قال مسلم: و (ثنا) أحمد بن يوسف الأزدي، سمعت عبد الرزاق يقول:
ما رأيت ابن المبارك يفصح بقوله: كذاب، إلا لعبد القدوس فإني
سمعته يقول له كذاب.
قال: حدثني محمد بن عبد الله بن قهزاذ، قال: سمعت أبا إسحاق
الطالقاني يقول: سمعت ابن المبارك يقول: لو خيرت يبن أن أدخل
الجنة وبين أن ألقى عبد الله بن محرر لاخترت أن ألقاه، ثم أدخل
الجنة، فلما رأيته كانت بعرة أحب إلي منه.
(1/367)
قال: وسمعت الحسن بن عيسى يقول: قال لي ابن
المبارك: إذا قدمت على جرير فاكتب علمه كله إلا حديث ثلاثة: لا
تكتب حديث عبيدة بن معتب، والسري بن إسماعيل، ومحمد بن سالم.
قال: وحدثني محمد بن عبد الله قهزاذ، أخبرني علي بن حسين بن
واقد، قال: قال عبد الله بن المبارك، قلت لسفيان الثوري: إن
عباد بن كثير من تعرف حاله، فإذا حدث جاء بأمر عظيم، فترى أن
أقول للناس: لا تأخذوا عنه؟ قال سفيان: بلى. قال عبد الله:فكنت
إذا كنت في مجلس ذكر عباد أثنيت عليه في دينه، وأقول: لا
تأخذوا عنه.
قال الترمذي - رحمه الله -:
أخبرني موسى بن حزام (ثنا) يزيد بن هارون، قال لا يحل لأحد أن
يروي عن سليمان بن عمر النخعي الكوفي.
سليمان هذا هو أبو داود النخعي، وهو مشهور بالكذب، ووضع
الحديث.
وقال أحمد: وكان كاذبا. سئل شريك عنه، فقال ذاك كذاب النخع.
(1/368)
وقال ابن معين: كان أكذب الناس.
وقال قتيبة: وهو معروف بالكذب. ونسبه إلى (الوضع) أحمد وإسحاق
ويحيى وغيرهم.
قال ابن عدي: أجمعوا على (أنه يضع) الحديث.
قال الترمذي:
(ثنا) محمود بن غيلان، (ثنا) أبو يحيى الحماني سمعت أبا حنيفة
يقول: ما رأيت أحدا أكذب من جابر، الجعفي، ولا أفضل من عطاء بن
أبي رباح.
قال أبو عيسى: وسمعت الجارود يقول: سمعت وكيعا يقول: لولا جابر
الجعفي لكان أهل الكوفة بغير حديث، ولولا حماد لكان أه الكوفة
بغير فقه.
هذا يوجد في بعض النسخ، ولا يوجد في بعض.
وجابر الجعفي قد سبق ذكره مستوفى في أبواب الأذان.
وما ذكره وكيع غلو غير مقبول، فأين أبو إسحاق والأعمش ومنصور
وغيرهم من أهل الثقة والصدق والأمانة؟ وأين إبراهيم وغيره من
أهل الفقه والعلم؟ وإسقاط هذا الكتاب أولى مع أن الترمذي قد
ذكره في غير هذا الموضع في كتابه أيضا.
(1/369)
قال أبو عيسى - رحمه الله -:
سمعت أحمد بن الحسن يقول: كنا عند أحمد بن حنبل فذكروا من تجب
عليه الجمعة، فذكر فيه بعض أهل العلم من التابعين وغيرهم فقلت:
فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث؟
فقال: عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قلت: نعم، حدثنا حجاج بن
نصير، (أنا) المعارك بن عباد، عن عبد الله بن سعيد المقبري، عن
أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"الجمعة على من آواه الليل إلى أهله".
قال: فغضب أحمد، وقال: استغفر ربك، استغفر ربك مرتين.
قال أبو عيسى: وإنما فعل أحمد هذا لأنه لم يصدق هذا عن النبي
صلى الله عليه وسلم لضعف إسناده، ولأنه لا يعرفه عن النبي صلى
الله عليه وسلم والحجاج بن نصير يضعف في الحديث، (وعبد الله
بن) سعيد المقبري ضعفه يحيى بن سعيد القطان جدا في الحديث، فكل
من روى عنه حديث، ممن يتهم أو يضعف لغفلته أو لكثرة خطئه، ولا
يعرف ذلك الحديث إلا من حديثه فلا يحتج به.
هذه الحكاية عن أحمد بن الحسين عن أحمد بن حنبل قد ذكرها
الترمذي أيضا في كتاب الجمعة. وسبق ذكر هذا الحديث هناك وبيان
ضعفه،
(1/370)
وفيه ثلاثة من الضعفاء: حجاج بن نصير
الفساطيطي، ومعارك بن عباد، وعبد الله بن سعيد المقبري، وهو
أبو عباد، وقد سبق ذكره وذكر حجاج أيضا ومعارك في الكتاب في
غير موضع.
وكان الثوري - يروي عن أبي عباد هذا ويقول: استبان لي كذبه في
مجلس، وكان يحيى بن وعبد الرحمن لا يحدثان عنه.
وقال يحيى بن معين: لا يكتب حديثه، وقال البخاري: تركوه.
"جواز الرواية عن الضعفاء في
الرقائق وضابط ذلك"
وأما ما ذكره الترمذي أن الحديث إذا انفرد به من هو متهم
بالكذب، أو من هو ضعيف في الحديث، لغفلته، وكثرة خطئه، ولم
يعرف ذلك الحديث إلا من حديثه، فإنه لا يحتج به، فمراده:
أنه لا يحتج به في الأحكام الشرعية والأمور العملية وإن كان قد
يروى حديث بعض هؤلاء في الرقائق والترغيب والترهيب.
فقد رخص كثير من الأئمة في رواية الأحاديث الرقاق ونحوها (عن
الضعفاء) منهم: ابن مهدي وأحمد بن حنبل.
(1/371)
وقال رواد بن الجرح: سمعت سفيان الثوري
يقول: لا تأخذوا هذا العلم في الحلال والحرام إلا من الرؤساء
المشهورين بالعلم، الذين يعرفون الزيادة والنقصان، ولا بأس بما
سوى ذلك من المشايخ.
وقال ابن أبي حاتم: (ثنا) أبي، (ثنا) عبدة، قال: قيل لابن
المبارك، وروى عن رجل حديثا، فقيل: هذا رجل ضعيف..
فقال: يحتمل أن يروى عنه هذا القدر، أو مثل هذه الأشياء.
قلت لعبدة: مثل أي شيء) كان؟.
قال: في أدب، في موعظة، في زهد.
وقال ابن معين في موسى بن عبيدة: يكتب من حديثه الرقاق.
وقال ابن عيينة: لا تسمعوا من بقية ما كان في سنة، واسمعوا منه
ما كان في ثواب وغيره.
وقال أحمد في ابن إسحاق: يكتب عنه المغازي وشبهها.
وقال ابن معين في زياد البكائي: لا بأس به في المغازي، وأما في
غيرها فلا.
وإنما يروى في الترهيب والترغيب والزهد والآداب أحاديث أهل
الغفلة الذين لا يتهمون بالكذب. فأما أهل التهمة فيطرح حديثهم،
كذا (قال) ابن (أبي) حاتم وغيره.
وظاهر ما ذكره مسلم في مقدمة كتابه يقتضي أنه لا تروى أحاديث
الترغيب والترهيب إلا عمن تروى عنه الأحكام.
قال الترمذي - رحمه الله -:
وقد روى غير واحد من الأئمة عن الضعفاء، وبينوا أحوالهم للناس:
حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن المنذر الباهلي، حدثنا يعلى بن
عبيد، قال: قال لنا سفيان (الثوري) : اتقوا الكلبي، قال: فقيل
له: فإنك تروي عنه.
قال: أنا أعرف صدقه من كذبه.
وأخبرني محمد بن إسماعيل: حدثني يحيى بن معين، ثنا عفان، عن
أبي عوانة، قال: لما مات الحسن (البصري) - رحمه الله - اشتهيت
كلامه، فتتبعته عن أصحاب الحسن، فأتيت به أبان بن أبي عياش،
فقرأه علي كله عن الحسن، فما استحل أن أروي عنه شيئا.
قال أبو عيسى:
وقد روى (عن) أبان بن أبي عياش غير واحد من الأئمة، وإن كان
فيه من الضعف والغفلة ما وصفه (به) أبو عوانة وغيره فلا تغتروا
برواية الثقات عن الناس، لأنه يروى عن ابن سيرين أنه قال: إن
الرجل ليحدثني فما أتهمه، ولكن أتهم من فوقه.
وقد روى غير واحد عن إبراهيم النخعي أن عبد الله بن مسعود كان
يقنت في وتره قبل الركوع.
وروى أبان بن أبي عياش، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة عن عبد
الله بن مسعود:
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقنت في وتره قبل الركوع هكذا
روى سفيان الثوري، عن أبان بن أبي عياش.
وروى بعضهم عن أبان بن أبي عياش، بهذا الإسناد، نحو هذا، وزاد
فيه، قال عبد الله بن مسعود:
وأخبرتني أمي أنها باتت عند النبي صلى الله عليه وسلم فرأت
النبي صلى الله عليه وسلم يقنت في وتره قبل الركوع.
قال أبو عيسى:
وأبان بن أبي عياش، وإن كان قد وصف بالعبادة والاجتهاد، فهذه
حاله في الحديث. والقوم كانوا أصحاب حفظ، فرب رجل، وإن كان
صالحا لا يقيم الشهادة ولا يحفظها.
(1/372)
فكل من كان متهما في الحديث بالكذب، أو كان
مغفلا يخطئ الكثيرن فالذي اختاره أكثر أهل الحديث من الأئمة أن
(لا يشتغل) بالرواية عنه.
ألا ترى أن عبد الله بن المبارك حدث عن قوم من أهل العلم، فلما
تبين له أمرهم ترك الرواية عنهم؟
أخبرني موسى بن حزام، سمعت صالح بن عبد الله يقول:
كنا عند أبي مقاتل السمرقندي، فجعل يروي عن عون بن أبي شداد
الأحاديث الطوال التي (كانت تروى) في وصية لقمان، وقتل سعيد بن
جبير، وما أشبه هذه الأحاديث. فقال ابن أخ لأبي مقاتل:
يا عم، لا تقل: حدثنا، فإنك لم تسع هذه الأشياء.
قال: يا بني، هو كلام حسن.
وسمعت الجارود يقول: كنا عند أبي معاوية، فذكر له حديث أبي
مقاتل، عن سفيان الثوري، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، قال:
(1/375)
سئل علي كور الزنابير، قال:
لا بأس به، هو بمنزلة صيد البحر.
قال أبو معاوية: ما أقول أن صاحبكم كذاب، ولكن هذا الحديث كذب. |