شرح علل الترمذي "المسألة الأولى: "رواية الثقة عن رجل هل
ترفع جهالته ومتى ترتفع الجهالة"؟
ما ذكره الترمذي - رحمه الله - يتضمن مسائل من علم الحديث.
أحدها - أن رواية الثقة عن رجل لا تدل على توثيقه، فإن كثيرا
من الثقات رووا عن الضعفاء، كسفيان الثوري وشعبة وغيرهما.
وكان شعبة يقول: لو لم أحدثكم إلا عن الثقات لم أحدثكم إلا عن
نفر يسير.
قال يحيى القطان: إن لم أرو إلا عمن أرضى ما رويت عن خمسة، أو
نحو ذلك.
وقد اختلف الفقهاء وأهل الحديث في رواية الثقة عن رجل غير
معروف: هل هو تعديل له، أم لا؟
وحكى أصحابها عن أحمد في ذلك روايتين.
وحكوا عن الحنيفة أنه تعديل.
وعن الشافعية خلاف ذلك.
والمنصوص عن أحمد يدل على أنه من عرف منه أنه لا يروي إلا عن
ثقة،
(1/376)
فروايته عن إنسان تعديل له. ومن لم يعرف
منه ذلك فليس بتعديل، وصرح بذلك طائفة من المحققين من أصحاب
الشافعي.
قال أحمد - في رواية الأثرم - إذا روى الحديث (عبد الرحمن) بن
مهدي (عن) رجل، فهو حجة، ثم قال: كان عبد الرحمن أولا يتساهل
في الرواية عن غير واحد، ثم تشدد بعد، وكان يروى عن جابر، ثم
تركه.
(وقال) في رواية أبي زرعة: مالك بن أنس إذا روى عن رجل لا يعرف
فهو حجة.
وقال (في) رواية ابن هانئ: ما روى مالك عن أحد إلا وهو ثقة. كل
من روى عنه مالك فهو ثقة.
وقال الميموني: سمعت أحمد - غير مرة - يقول: كان مالك من أثبت
الناس. ولا تبال أن لا تسأل عن رجل روى عنه مالك، ولا سيما
مدني.
قال الميموني: وقال لي يحيى بن معين: لا تريد أن تسأل عن رجال
مالك كل من حدث عنه ثقة إلا رجلا أو رجلين.
وقال يعقوب بن شيبة: قلت ليحيى بن معين: متى يكون الرجل
معروفا؟ إذا روى عنه كم؟
قال: إذا روى عن الرجل مثل ابن سيرين والشعبي، وهؤلاء أهل
العلم، فهو غير مجهول. قلت: فإذا روى عن الرجل (مثل سماك) بن
حرب، وأبي إسحاق؟
(1/377)
قال: هؤلاء يروون عن مجهولين، انتهى.
وهذا تفصيل حسن.
وهو يخالف إطلاق محمد بن يحيى الذهلي، الذي تبعه عليه
المتأخرون، أنه لا يخرج الرجل من الجهالة إلا برواية رجلين
فصاعدا عنه.
وابن المديني يشترط أكثر من ذلك:
فإنه يقول فيمن يروي عنه يحيى بن أبي كثير وزيد بن أسلم معا،
إنه مجهول.
ويقول فيمن يروي عنه شعبة وحده، إنه مجهول.
وقال فيمن يروي عنه ابن المبارك ووكيع وعاصم، هو معروف.
وقال فيمن يروي عنه عبد الحميد بن جعفر وابن لهيعة، ليس
بالمشهور.
وقال فيمن عنه ابن وهب وابن المبارك، معروف.
وقال فيمن يروي عنه المقبري - وزيد بن أسلم، معروف.
وقال في يسيع الحضرمي (معروف) وقال مرة أخرى مجهول،
(1/378)
روى عنه ذر وحده.
وقال فيمن روى (عنه) مالك وابن عيينة معروف.
وقد قسم المجهولين من شيوخ أبي إسحاق إلى طبقات متعددة.
والظاهر أنه ينظر إلى اشتهار الرجل بين العلماء وكثرة حديثه،
ونحو ذلك، لا ينظر إلى مجرد رواية الجماعة عنه.
وقال في داود بن عامر بن سعد بن أبي وقاص: ليس بالمشهور، مع
أنه روى عنه جماعة.
وكذا قال أبو حاتم الرازي في إسحاق بن أسيد الخراساني:
ليس بالمشهور، مع أنه روى عنه جماعة من المصريين لكنه لم يشتهر
حديثه بين العلماء.
وكذا قال أحمد في حصين بن عبد الرحمن الحارثي، ليس يعرف، ما
روي عنه غير حجاج بن أرطأة وإسماعيل بن أبي خالد روى عنه حديثا
واحدا.
وقال في عبد الرحمن بن وعلة، إنه مجهول، مع أنه روى عنه جماعة،
لكن مراده أنه لم يشتهر حديثه ولم ينتشر بين العلماء.
"من روى عنه واحد ولكنه معروف"
وقد صحح حديث بعض من روى عنه واحد ولم يجعله مجهولا.
قال في خالد بن (شمير) : (لا يعلم) روى عنه أحد سوى الأسود بن
شيبان، ولكنه حسن الحديث. وقال مرة أخرى: حديثه عندي صحيح.
وظاهر هذا أنه لا عبرة بتعدد الرواة، وإنما العبرة بالشهرة
ورواية الحفاظ الثقات.
"رأى ابن عبد البر فيما يرفع
الجهالة"
وذكر ابن عبد البر في استذكاره أن من روي عنه ثلاثة فليس
بمجهول.
قال: وقيل: اثنان.
وقد سئل مالك عن رجل، فقال: لو كان ثقة لرأيته في كتبي، ذكره
مسلم في مقدمة كتابه من طريق بشر بن عمر عن مالك.
وقال ابن أبي خيثمة: سمعت يحيى بن معين، يقول: سمعت ابن عيينة
يقول: إنا كنا نتبع آثار مالك بن أنس، وننظر إلى الشيخ إن كان
مالك ابن أنس كتب عنه وإلا تركناه.
قال القاضي إسماعيل:
(1/379)
إنما يعتبر بمالك في أهل بلده (فأما
الغرباء) فليس يحتج به فيهم، وبنحو هذا اعتذر غير واحد (عن
مالك) في روايته عن عبد الكريم أبي أمية وغيره من الغرباء.
قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن رواية الثقات عن رجل غير ثقة،
مما يقويه؟.
قال: إذا كان معروفا (بالضعف) ، لم تقوه، روايته عنه، وإن كان
مجهولا نفعه رواية الثقة عنه. قال: وسمعت أبي يقول: إذا رأيت
شعبة يحدث عن رجل فاعلم أنه ثقة. إلا نفرا بأعيانهم.
وسألت أبا زرعة عن رواية الثقات عن الرجل، مما يقوي حديثه؟
قال: إي لعمري.
قلت: الكلبي روى عنه الثوري.
قال: إنما ذلك إذا لم يتكلم فيه العلماء، وكان الكلبي يتكلم
فيه.
قلت: فما معنى رواية الثوري عنه، وهو غير ثقة عنده؟
قال: كان الثوري يذكر الرواية عن الرجل على الإنكار والتعجب،
فيعلقون عنه روايته عنه. ولم تكن روايته عن الكلبي قبوله له.
وذكر العقيلي بإسناده له عن الثوري، قال:
إني لأروي الحديث على ثلاثة أوجه: أسمع الحديث من الرجل وأتخذه
دينا، وأسمع الحديث من الرجل أوقف حديثه، وأسمع الحديث من
الرجل لا أعبأ بحديثه وأحب معرفته.
(1/381)
|