شرح علل الترمذي المسألة الثانية:
الرواية عن الضعفاء أهل التهمة بالكذب (والغلط) والغفلة وكثرة
الخطأ
وقد ذكر الترمذي للعلماء في ذلك قولين:
أحدهما: جواز الرواية عنهم.
حكاه عن سفيان الثوري، لكن كلامه في روايته عن الكلبي يدل على
أنه لم يكن يحدث عنه إلا بما يعرف أنه صدق.
والثاني: الامتناع عن ذلك.
ذكره عن أبي عوانة وابن المبارك.
وحكاه الترمذي عن أكثر أهل الحديث من الأئمة.
وقد ذكر الحاكم المذهب الأول عن مالك والشافعي وأبي حنيفة،
واعتمد في حكايته عن مالك على روايته عن عبد الكريم، أبي أمية،
ولكن قد ذكرنا عذره في روايته عنه، وفي حكايته عن الشافعي على
روايته عن إبراهيم بن أبي يحيى، وأبي داود سليمان بن عمروا
النخعي، وغيرهما من المجروحين، وفي حكايته عن أبي حنيفة على
روايته عن جابر الجعفي، وأبي العطوف الجزري.
قال: وحدث أبو يوسف ومحمد بن الحسن، عن الحسن بن عمارة،
(1/382)
وعبد الله بن محرر، وغيرهما من المجروحين.
قال: وكذلك من بعدهم من أئمة المسلمين، قرنا بعد قرن، وعصرا
بعد عصر إلى عصرنا هذا لم يخل حديث إمام من أئمة الفريقين (عن)
مطعون فيه من المحدثين، وللأئمة في ذلك غرض ظاهر وهو أن يعرفوا
الحديث من أين مخرجه والمنفرد به عدل أو مجروح.
ثم روى بإسناده، عن الأثرم، قال: رأى أحمد بن حنبل يحيى بن
معين بصنعاء يكتب صحيفة معمر، عن أبان، عن أنس، فإذا اطلع عليه
إنسان كتمه، فقال له أحمد: تكتب صحيفة معمر عن أبان، وتعلم
أنها موضوعة، فلو قال لك قائل: أنت تتكلم في أبان ثم تكتب
حديثه على الوجه!!
فقال: رحمك الله يا أبا عبد الله، أكتب هذه الصحيفة عن عبد
الرزاق، عن معمر على الوجه، فأحفظها كلها، وأعلم أنها موضوعة،
حتى لا يجيء بعد إنسان فيجعل بدل أبان ثابتا، ويرويها عن معمر،
عن ثابت، عن أنس، فأقول له:
كذبت. إنما هي عن معمر عن أبان، لا عن ثابت.
وذكر أيضا من طريق أحمد بن علي الأبار، قال: قال يحيى بن معين:
كتبنا عن الكذابين، وسجرنا به التنور وأخرجنا به خبزا نضيجا.
وخرج العقيلي من طريق أبي غسان، قال: جاءني علي بن المديني
يكتب عني، عن عبد السلام بن حرب أحاديث إسحاق بن أبي فروة،
فقلت له: أي شيء تصنع بها؟
"التفريق بين الكتابة عن الضعفاء
والرواية عنهم"
قلت: فرق بين كتابة حديث الضعيف وبين روايته فإن الأئمة كتبوا
أحاديث الضعفاء لمعرفتها ولم يرووها، كما قال يحيى: سجرنا بها
التنور. وكذلك أحمد حرق حديث (خلق ممن) كتب حديثهم، ولم يحدث
به، وأسقط من المسند (حديث) خلق من المتروكين لم يخرجه فيه،
مثل فائد أبي
(1/383)
(الورقاء) ، وكثير بن عبد الله المزني،
وأبان بن أبي عياش وغيرهم، وكان يحدث عمن دونهم في الضعف.
قال - في رواية إسحاق بن إبراهيم بن هانئ - قد يحتاج الرجل
يحدث عن الضعيف مثل عمرو بن مرزوق، وعمرو بن حكام، ومحمد بن
معاوية، وعلي بن الجعد، وإسحاق بن إسرائيل ولا يعجبني أن يحدث
عن بعضهم.
وقال - في روايته أيضا - وقد سأله: ترى أن نكتب الحديث المنكر؟
قال: المنكر أبدا منكر.
قيل له: فالضعفاء؟ قال: قد يحتاج إليهم في وقت.
كأنه لم ير بالكتابة عنهم بأسا.
وقال - في رواية ابن القاسم -: ابن لهيعة ما كان حديثه بذاك،
وما أكتب حديثه إلا للاعتبار والاستدلال، إنما قد أكتب حديث
الرجل، كأني أستدل به، مع حديث غيره يشده، لا أنه حجة إذا
انفرد.
وقال - في رواية المروذي -: كنت لا أكتب حديث جابر الجعفي، ثم
كتبته، أعتبر به.
(1/385)
وقال في رواية مهنا وسأله: (لم) تكتب حديث
أبي بكر بن أبي مريم، وهو ضعيف؟.. قال: أعرفه.
وقال محمد بن رافع النيسابوري: رأيت أحمد بين يدي يزيد بن
هارون وفي يده كتاب لزهير، عن جابر الجعفي، وهو يكتبه. قلت: يا
أبا عبد الله، تنهوننا عن جابر وتكتبون (عنه) ؟.
قال: نعرفه.
وكذا قال أحمد في حديث عبيد الله الوصافي: (إنما) أكتبه
للمعرفة.
(والذي) يتبين من عمل الإمام أحمد وكلامه أنه يترك الرواية عن
المتهمين والذين (كثر خطؤهم) للغفلة وسوء الحفظ، ويحدث عمن
دونهم في الضعف مثل في (في) حفظه شيء. ويختلف الناس في تضعيفه
وتوثيقه.
(1/386)
وكذلك كان أبو زرعة الرازي يفعل.
وأما الذين كتبوا حديث الكذابين، من أهل المعرفة والحفظ، فإنما
كتبوه لمعرفته، وهذا كما (ذكروا أحاديثهم) في كتب الجرح
والتعديل، ويقول بعضهم في كثير من أحاديثهم: لا يجوز ذكرها إلا
ليبين أمرها أو معنى ذلك.
وقد سبق عن ابن أبي حاتم: أنه يجوز رواية حديث من كثرت غفلته
في غير الأحكام، وأما رواية أهل التهمة بالكذب فلا تجوز إلا مع
بيان حاله وهذا هو الصحيح - والله أعلم -. |