شرح علل الترمذي

المسألة الثالثة

ذكر الترمذي أنه رب رجل صالح مجتهد في العبادة، ولا يقيم الشهادة ولا يحفظها وكذلك الحديث، لسوء حفظه، وكثره (غفلته) ، وقد سبق قول ابن المبارك في عباد بن كثير وعبد الله بن محرر.
وروى مسلم في مقدمة كتاب من طريق محمد بن يحيى بن سعيد القطان عن أبيه قال: (لن ترى) الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث.
وفي رواية: لم تر أهل الخير في شيء أكذب منهم في الحديث.
قال مسلم: يقول: يجري الكذب على (ألسنتهم) ، (ولا يتعمدون) الكذب. وروى أيضا بإسناده له عن أيوب، قال:

(1/387)


إن لي جارا، ثم ذكر من فضله، ولو شهد على تمرتين ما رأيت شهادته جائزة.
وروى ابن عدي بإسناده، عن أبي عاصم النبيل، قال:
ما رأيت الصالح يكذب في شيء أكثر من الحديث.
وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن أبي أسامة، قال:
إن الرجل يكون صالحا، ويكون كذابا، يعني: يحدث بما لا يحفظ.
وقال الجوزجاني: سمعت أبا قدامة، يقول: سمعت يحيى بن سعيد يقول: رب رجل صالح لو لم يحدث كان خيرا له، إنما هو أمانة، تأدية الأمانة في الذهب والفضة أيسر منه في الحديث.
وروى عمرو الناقد: سمعت وكيعا، يقول، وذكر له حديث يرويه وهب بن إسماعيل، فقال: ذاك رجل صالح، وللحديث رجال.
وروى أبو نعيم بإسناده عن ابن مهدي قال: فتنة الحديث أشد من فتنة المال وفتنة الولد، لا تشبه فتنته فتنة. كم من رجل يظن به الخير، قد حمله فتنة الحديث على الكذب. يشير إلى أن من حدث من الصالحين من غير إتقان وحفظ فإنما حمله على ذلك حب الحديث، والتشبه بالحفاظ، فوقع في الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يعلم، ولو تورع واتقى الله لكف عن ذلك فسلم.

(1/388)


قال (أبو قلابة) ، عن علي بن المديني، سئل يحيى بن سعيد عن مالك بن دينار ومحمد بن واسع، وحسان بن أبي سنان، فقال:
ما رأيت الصالحين أكذب منهم في الحديث، لأنهم يكتبون عن كل من يلقون لا تمييز لهم فيه.
ويروي عن أبي عبد الله بن مندة، قال:
إذا رأيت في حديث (ثنا) فلان الزاهد فاغسل يدك منه.
(قال ابن عدي) : الصالحون قد وسموا بهذا الاسم أن يرووا أحاديث في فضائل الأعمال، موضوعة بواطيل ويتهم جماعة منهم بوضعها.
وهؤلاء المشتغلون بالتعبد الذين يترك حديثهم على قسمين:
منهم من شغلته العبادة عن الحفظ، فكثر الوهم في حديثه، فرفع الموقوف، ووصل المرسل، (وهؤلاء) مثل أبان بن أبي عياش ويزيد الرقاشي.

(1/389)


وقد كان شعبة يقول في كل واحد منهما: لأن أزني أحب إلي من أن احدث عنه.
ومثل جعفر بن الزبير، ورشدين بن سعد، وعباد بن كثير، وعبد الله بن محرر والحسن بن أبي جعفر الجفري، وغيرهم:
ومنهم من كان يتعمد الوضع، كما ذكر عن أحمد بن محمد بن غالب، غلام خليل، وعن زكريا بن يحيى الوقار المصري.
"أبان بن أبي عياش"

وقد ذكر الترمذي من أهل العبادة المتروكين رجلين:
أحدهما: أبان بن أبي عياش، وذكر حكاية أبي عوانة عنه أنه جمع حديث الحسن، ثم أتى به إليه فقرأه كله عليه، يعني أنه رواه له كله عن الحسن ولم يتوقف في ذلك.
وقال أحمد: قال لي عفان: أول من أهلك أبان بن أبي عياش أبو عوانة، جمع حديث الحسن عامته، فجاء به إلى أبان فقرأه عليه.
وقال مسلم - في أول كتابه - (ثنا) الحسن الحلواني، قال: سمعت عفان، قال: سمعت أبا عوانة يقول (لي) : ما بلغني عن الحسن حديث

(1/390)


إلا أتيت به أبن بن أبي عياش فقرأه علي.
ثنا سويد بن سعيد، حدثنا علي بن مسهر، قال: سمعت أنا وحمزة الزيات من أبان بن أبي عياش نحوا من ألف حديث. قال علي: فلقيت حمزة فأخبرني أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فعرض عليه ما سمع (من أبان) فما عرف منها إلا شيئا يسيرا خمسة أو ستة.
وذكر العقيلي هذه الحكاية، ثم قال:
وقال لنا أحمد بن علي الأبار، وكان شيخا صالحا: وأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت: يا رسول الله، أترضى أبان بن أبي عياش؟ قال: لا.
وذكر الترمذي حديث القنوت في الوتر، فإنه رفعه، والناس يقفونه على ابن مسعود. وربما وقف على إبراهيم، وقد سبق ذكره في أبواب الوتر من كتاب الصلاة وكان أبان لسوء حفظه يفعل ذلك كثيرا، يرفع الموقوف، ويصل المرسل، قال أبو زرعة لم يكن يتعمد الكذب، كان يسمع الحديث من أنس ومن شهر بن حوشب ومن الحسن، فلا يميز بينهم.
قال ابن عدي: قد حدث عنه الثوري، ومعمر، وابن جريج، وإسرائيل وحماد بن سلمة، وغيرهم، وأرجو أنه ممن لا يتعمد الكذب، إلا أنه ممن يشتبه عليه ويغلط وعامة ما أتى من جهة الرواة عنه. لا من جهته، لأنه قد روى عنه قوم مجهولون وهو إلى الضعف أقرب منه إلى الصدق، كما قال شعبة.

(1/391)


وذكر أن شعبة حدث عنه بحديث قنوت الوتر، فقيل له: تقول فيه ما قلت، ثم تحدث عنه؟ قال: إني لم أجد هذا الحديث إلا عنده. ذكرها من وجه منقطع، والمعروف أن شعبة قيل له: لم سمعت منه هذا الحديث؟ قال: ومن يصبر على هذا؟ أخرجه العقيلي وغيره.
"أبو مقاتل السمرقندي"

الرجل الآخر:
أبو مقاتل السمرقندي، واسمه حفص بن سلم الفزاري، وهو من العباد، يروى عن الكوفيين، كأبي حنيفة، ومسعر، والثوري، عن البصريين كأيوبن والتيمي، وعن الحجازيين كهشام بن عروة، وعبيد الله بن عمر، وسهيل.
قال أبو يعلى الخليلي في كتاب الإرشاد:
هو مشهور بالصدق والعلم، غير مخرج في الصحيح، وكان ممن يفتى في أيامه. وله في الفقه والعلم محل، يعتني بجمع حديثه.
وذكره الحاكم في تاريخ نيسابور، وقال: يروي المناكير.
وسئل عنه إبراهيم بن طهمان، فقال: خذوا عنه عبادته، وحسبكم: وقد أفحش قتيبة بن سعيد وغيره القول فيه.
مات سنة ثمان ومائتين.
وذكره ابن حبان في كتاب "الضعفاء" وقال: كان صاحب تقشف وعبادة ولكنه كان يأتي بالأشياء المنكرة، التي يعلم من كتب الحديث أنه ليس لها أصل يرجع إليها.

(1/392)


سئل ابن المبارك (عنه) فقال: خذوا عن أبي مقاتل عبادته وحسبكم.
وكان قتيبة بن سعيد يحمل علي شديدا ويضعفه بمرة. وقال: كان لا يدري ما يحدث به (وكان) عبد الرحمن بن مهدي يكذبه.
قال نصر بن حاجب المروزي: ذكرت أبا مقاتل لعبد الرحمن بن مهدي، فقال: والله لا تحل الرواية عنه. فقلت له: عيسى أن يكون كتب له في كتابه، وجهل ذلك.
فقال: يكتب في كتابه الحديث؟ فكيف بما ذكرت عنه أنه قال: ماتت أمي بمكة فأردت الخروج منها فتكاريت فلقيت عبيد الله بن عمر، فأخبرته بذلك.
فقال: حدثني نافع عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من زار قبر أمه كان (كعمرة) " قال: فقطعت الكرى، وأقمت.
فكيف يكتب هذا في كتابه؟.
وكذلك وكيع بن الجراح كان يكذبه، وليس لهذا الحديث أصل يرجع إليه - انتهى ما ذكره ابن حبان.
وذكره ابن عدي في كتابه، وذكر بإسناده عن قتيبة (بن سعيد) أنه سئل عن حديث كور الزنابير، فقال: (ثنا) أبو مقاتل السمرقندي، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، سئل (علي) عن كور الزنابير، فقال: هم من هذا ابحر، لا بأس به.

(1/393)


قال: فقلت: يا أبا مقاتل، هو موضوع. قال: هو في كتابي، تقول: هو موضوع قال: فقلت: نعم، وضعوه في كتابك.
وذكر بإسناده عن الجوزجاني قال: أبو مقاتل السمرقني كان فيما حدثت ينشئ للكلام الحسن إسنادا، ثم خرج (له) ابن عدي أحاديث منكرة، ثم قال:
أبو مقاتلك هذا له أحاديث كثيرة، ويقع في أحاديثه مثل ما ذكرته وأعظم منه، وليس هو ممن يعتمد على رواياته.
وذكره الإدريسي في تاريخ سمرقند، وغير واحد من العلماء.
ووقع لابن أبي حاتم في ذكره غير وهم، فإنه قال: حفص بن سليمان أبو مقاتل روى عن عون بن أبي شداد، روى عنه موسى بن إسماعيل الجبلي كذا قال.

(1/394)


وقوله ابن سليمان وهم، وإنما هو ابن سلم، ثم قال: حفص بن مسلم أبو مقاتل السمرقندي روى عن الثوري، وجويبر، وعمرو بن عبيد، روى عنه أبو تميلة وإبراهيم بن شماس، سمعت أبي يقول بعض ذلك.
فقوله ابن مسلم وهم أيضا، ووهم حيث جعل الراوي عن عون بن أبي شداد غير هذا. وهما رجل واحد.
"أهل الصدق غير الحفاظ"

قال أبو عيسى:
وقد تكلم بعض أهل الحديث في وقم من جلة أهل العلم، وضعفوهم من قبل حفظهم، ووثقهم آخرون لجلالتهم وصدقهم، وإن كانوا قد وهموا في بعض ما رووا.
وقد تكلم يحيى بن سعيد القطان في محمد بن عمرو، ثم روى عنه: حدثنا أبو بكر عبد القدوس بن محمد العطار البصري، (ثنا) علي بن المديني. قال: سألت يحيى بن سعيد عن محمد بن عمرو بن علقمة، فقال:
تريد العفو، أو تشدد؟.
فقلت: لا، بل أشدد.
فقال: ليس هو ممن تريد: كان يقول: أشياخنا أبو سلمة ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب.
(قال يحيى) .

(1/395)


وسألت مالك بن أنس عن محمد بن عمرو فقال فيه نحو ما قلت.
قال علي: قال يحيى: ومحمد بن عمرو أعلى من سهيل بن أبي صالح، وهو عندي فوق عبد الرحمن بن حرملة. قال علي: فقلت ليحيى: ما رأيت من عبد الرحمن بن حرملة؟ قال: لو شئت أن ألقنه لفعلت. قلت: كان يلقن؟. قال: نعم.
قال علي: ولم يرو يحيى عن شريك، ولا عن أبي بكر بن عياش ولا عن الربيع بن صبيح، ولا عن المبارك بن فضالة.
قال أبو عيسى:
وإن كان يحيى بن سعيد القطان قد ترك الرواية عن هؤلاء فلم يترك الرواية عنهم أنه اتهمهم بالكذب، ولكنه تركهم لحال (حفظهم) . وذكر عن يحيى بن سعيد أنه كان إذا رأى الرجل يحدث من حفظه، مرة هكذا ومرة هكذا، لا يثبت على رواية واحدة، تركه.
وقد حدث عن هؤلاء الذين تركهم يحيى بن سعيد (القطان) عبد الله بن المبارك، ووكيع بن الجراح، وعبد الرحمن بن مهدي، وغيرهم من الأئمة.