شرح علل الترمذي

"أقسام الرواة"

اعلم أن الرواة أقسام:
فمنهم من يتهم بالكذب، ومنهم من غلب على حديثه المناكير، لغفلته وسوء حفظه، وقد سبق ذكر هذين القسمين، وحكم الرواية عنهما.
وقسم ثالث: أهل صدق وحفظ، ويندر الخطأ والوهم في حديثهم، أو يقل وهؤلاء هم الثقات المتفق على الاحتجاج (بهم) .

(1/396)


وقسم رابع: هم أيضا أهل صدق وحفظ، ولكن يقع الوهم في حديثهم كثيرا. لكن ليس هو الغالب عليهم. وهذا هو القسم الذي ذكره الترمذي ههنا.
وذكر عن يحيى بن سعيد أنه ترك حديث هذه الطبقة.
"رأي الجمهور جواز الرواية عن هؤلاء"

وعن ابن المبارك وابن مهدي، ووكيع، وغيرهم، أنهم حدثوا عنهم. وهو أيضا رأي سفيان وأكثر أهل الحديث، (المصنفين) منهم في السنن والصحاح كمسلم بن الحجاج، وغيره، فإنه ذكر في مقدمة كتابه، أنه لا يخرج حديث من متهم عند أهل الحديث، أو عند أكثرهم، ولا من الغالب على حديثه المنكر أو الغلط، وذكر قبل ذلك أنه يخرج حديث أهل الحفظ الإتقان: وأنهم على ضربين.
أحدهما: من لم يوجد في حديثه اختلاف شديد، ولا تخليط فاحش.
الثاني: من هو دونهم في الحفظ والإتقان ويشملهم اسم الصدق والستر وتعاطى العلم، كعطاء بن السائب، ويزيد بن أبي زياد، وليث بن أبي سليم.
قيل إنه أدركته المنية قبل أن يخرج حديث هؤلاء وقيل: أنه خرج لهم في المتابعات، وذلك كان مراده.

(1/397)


وعلى هذا المنوال نسج أبو داود والنسائي والترمذي، مع أنه خرج لبعض من هو دون هؤلاء، وبين ذلك لم يسكت عنه.
"من لا يحتج بحديث غير الحفاظ المتقنين"

وإلى طريقة يحيى بن سعيد يميل علي بن المديني (وصاحبته) . البخاري.
وكان علي بن المديني فيما نقله عنه يعقوب بن شيبة لا يترك حديث رجل حتى يجتمع على تركه ابن مهدي، ويحيى القطان، فإن حدث عنه أحدهما (وتركه الآخر) حدث عنه.
"رأي ابن مهدي يوافق رأي الجمهور"

قال أحمد بن سنان: كان ابن مهدي لا يترك حديث رجل إلا رجلا متهما بالكذب، أو رجلا الغالب عليه الغلط.
وقال أبو موسى، محمد بن المثنى: سمعت ابن مهدي يقول: الناس

(1/398)


ثلاثة: رجل حافظ متقن، فهذا لا يختلف فيه، وآخر يهم والغالب على حديثه الصحة، فهذا لا يترك حديثه، وآخر يهم والغالب في حديثه الوهم، لهذا يترك حديثه.
وقال أبو بكر بن خلاد: سمعت ابن مهدي يقول:
ثلاثة لا يؤخذ عنهم: المتهم بالكذب، وصاحب بدعة إلى بدعته، والرجل الغالب عليه الوهم والغلط. وقال إسحاق بن عيسى: سمعت ابن المبارك يقول:
يكتب الحديث إلا عن أربعة: غلاط لا يرجع، وكذاب، وصاحب هوى يدعو إلى بدعته، ورجل لا يحفظ فيحدث من حفظه.
وقال الوليد بن شجاع: سمعت الأشجعي يذكر عن سفيان الثوري. قال: ليس يكاد يفلت من الغلط أحد، إذا كان الغالب على الرجل الحفظ فهو حافظ وإن غلط، وإذا كان الغالب عليه الغلط ترك.
وقال الحسين بن منصور، أبو علي السلمي النيسابوري: سئل أحمد

(1/399)


عمن يكتب حديثه، فقال: عن الناس كلهم إلا عن ثلاثة: صاحب هوى يدعو إليه، أو كذاب، أو رجل يغلط في الحديث، فيرد عليه، فلا يقبل.
وقال الربيع بن سليمان: قال الشافعي:
من كثر غلطه من المحدثين، ولم يكن له أصل كتاب صحيح لم يقبل حديثه، كما يكون من أكثر الغلط في الشهادة، لم تقبل شهادته.
وكذا ذكر الحميدي، وهذا قد يكون موافقا لقول يحيى بن سعيد ومن تابعه.
وروى نعيم بن حماد، حدثني ابن مهدي، قال: سئل شعبة: حديث من يترك؟.
قال: من يكذب في الحديث، ومن يكثر الغلط، ومن يخطئ في حديث مجتمع عليه، فيقيم على غلطه ولا يرجع، ومن روى عن المعروفين ما لا يعرفه المعروفون.
وذكر أبو حاتم الرازي: (ثنا) سليمان بن أحمد الدمشقي، قال: قلت لعبد الرحمن بن مهدي: اكتب عمن يغلط في عشرة؟ قال: نعم. قيل له: يغلط في عشرين؟ قال: نعم، قيل له: فثلاثين؟ قال: نعم. قيل له: فخمسين؟ قال: نعم.
وقال حمزة السهمي: سألت الدارقطني عمن يكون كثير الخطأ. قال

(1/400)


أن نبهوه عليه ورجع عنه فلا يسقطن وإن لم يرجع سقط.
خرج ذلك كله أبو بكر الخطيب في كتابه الكفاية.
وقال ابن أبي حاتم: حدثني أبي، عن أحمد الدروقي، (ثنا) ابن مهدي، قال: قيل لشعبة: متى يترك حديث الرجل؟ قال: إذا حدث عن المعروفين بما لا يعرف المعروفين، وإذا أكثر الغلط، وإذا روى حديثا غلطا مجتمعا عليه، فلم يتهم نفسه فيتركه، طرح حديثه. وما كان غير ذلك فارووا عنه.
قال: و (ثنا) أبي، (أنا) سليمان بن أحمد الدمشقي، قال: قلت لابن مهدي: اكتب عمن يغلط في مائة؟.
قال: لا، مائة كثير، وهذه الرواية عن ابن مهدي توافق قول شعبة، ويحيى والشافعي: إن كثرة الغلط ترد به الرواية، وتخالف رواية ابن المثنى وأحمد بن سنان عنه أن الاعتبار في ذلك بالأغلب.
وكلام الإمام أحمد يدل على مثل قول ابن المبارك ومن وافقه، فإنه حديث عن أبي سعيد مولى بني هاشم. وقد قال فيه: كان كثير الخطأ، ولم يترك حديثه. وحدث عن زيد بن الحباب وقال فيه: كان كثير الخطأ.

(1/401)


وقال أبو عثمان البرذعي: (ثنا) محمد بن يحيى النيسابوري، قال: قلت لأحمد بن حنبل في علي بن عاصم، وذكرت له خطأ، فقال لي أحمد:
كان حماد بن سلمة يخطئ، وأومأ أحمد بن حنبل بيده، خطأ كثير. ولم ير بالرواية عنه بأسا.
وقال إسحاق بن منصور: قلت لأحمد: متى يترك حديث الرجل؟ قال: إذا كان الغالب عليه الخطأ.
وكلام الترمذي ههنا يحتمل مثل قول شعبة، ويحيى، ومن وفقهما، حيث ذكر أن من كان مغفلا يخطئ الكثير، فإنه لا يشتغل بالرواية عنه، عند أكثر أهل الحديث.
وذكر أيضا قبل ذلك أن من ضعف لغفلته وكثرة خطئه لا يحتج بحديثه. فلم يعتبر إلا كثرة الخطأ.
ويحتمل أن يكون مراده سقوط حديث من جمع بين الوصفين معا: الغفلة وكثرة الخطأ، دون من كان فيه أحدهما.
أما الغفلة المجردة مع قلة الخطأ، أو كثرة الخطأ لسوء الحفظ دون الغفلة فهذا قول ثالث في المسألة - الله أعلم -.

(1/402)


"محمد بن عمرو بن علقمة"

وأما محمد بن عمرو الذي تكلم فيه يحيى، فهو محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي، وقد تكلم فيه يحيى ومالك. وقال أحمد: كان محمد بن عمرو يحدث بأحاديث فيرسلها، ويسندها لأقوام آخرين. قال: وهو مضطرب الحديث، والعلاء أحب إلي منه.
وقال ابن أبي خيثمة: سمعت يحيى بن معين يقول: ما زال الناس يتقون حديث محمد بن عمرو، قيل له: ما علة ذلك؟
قال: كان مرة يحدث عن أبي سلمة بالشيء رأيه، ثم يحدث به مرة أخرى عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.. ووثقه ابن معين في رواية أخرة.
ونقل إسحاق بن حكيم عن يحيى القطان أنه قال فيه: رجل صالح ليس بأحفظ الناس للحديث.
وقد ذكر الترمذي أن يحيى بن سعيد روى عنه، وكذلك روى عنه مالك في الموطأ، وخرج حديثه مسلم متابعة، وخرجه البخاري مقرونا.
وقد قال يحيى بن سعيد: هو فوق سهيل بن أبي صالح، وخالفه في ذلك الإمام أحمد، وقال: ليس كما قال يحيى.
قال أحمد: ولم يرو شعبة عن محمد بن عمرو إلا حديثا واحدا.

(1/403)


"عبد الرحمن بن حرملة"

وأما عبد الرحمن بن حرملة الذي ذكر يحيى القطان أن محمد بن عمرو فوقه فهو مدني، كان يحيى القطان يضعفه، ولا يرضاه. وقال (ابن) المديني: راددت يحيى في ابن حرملة، فقال: ليس هو عندي مثل يحيى بن سعيد (الأنصاري) .
وقال: سمعت سعيد بن المسيب. قال (يحيى) : لو شئت أن ألقنه أشياء. قال قلت: كان يلقن؟ قال: نعم.
وقال أحمد في (ابن) حرملة: هو كذا وكذا، يضعفه. وقال ابن معين: لا بأس به.
قيل له: يقولون: سمع من ابن المسيب، وهو صغير. قال: لا.
وذكر ابن أبي خيثمة عن ابن معين، عن يحيى، عن ابن حرملة، قال: كنت سيئ الحفظ، فسألت سعيد بن المسيب، فرخص لي في الكتاب.

(1/404)


"شريك بن عبد الله النخعي"

وأما شريك فهو ابن عبد الله النخعي، قاضي الكوفة، وكان كثير الوهم، ولا سيما بعد أن ولي القضاء، وكان (فيه - أيضا -) في تلك الحالة تيه وكبر، واحتقار للأئمة الصالحين.
وقد خرج حديثه مسلم مقرونا بغيره.
ومن الأوهام المتعلقة بترجمته أن مسلما ذكر في كتاب الكنى أن أحمد سمع منه، وهو وهم، لم يسمع منه أحمد، إنما سمع من أصحابه.
"أبو بكر بن عياش"

وأما بكر بن عياش، فهو المقرئ الكوفي، وهو رجل صالح، لكنه كثير الوهم، ومع هذا فقد خرج البخاري حديثه. وأنكر عليه ابن حبان تخريج حديثه وتركه لحماد بن سلمة.

(1/405)


"الربيع بن صبيح ومبارك بن فضالة"

وأما الربيع بن صبيح ومبارك بن فضالة فلم يخرج لهما في الصحيح.
وقد وثق المبارك عفان وأبو زرعة وغيرهما، وقال شعبة: هو أحب إلي من الربيع، وسوى ابن معين بينهما في الضعف.
وقال أحمد ما أقربهما، وقال مرة: مبارك أحب إلي إذا قال سمعت الحسن يشير إلى أنه يدلس.
وقال نعيم: كان ابن مهدي لا يكتب للمبارك شيئا يقول فيه: سمعت الحسن.
وقال الفلاس: كان يحيى وعبد الرحمن لا يحدثنا عن مبارك.

(1/406)


وقال ابن معين: لم يرو عنه يحيى.
وقال أحمد: تركه عبد الرحمن، لأنه كان يروي أقاويل الحسن، يأخذها من الناس.
قال: وكان عبد الرحمن يروي عن الربيع بن صبيح. وكان الربيع رجلا صالحا.
وقال الفلاس: كان عبد الرحمن يحدث عن الربيع، وكان يحيى لا يحدث عنه. ***
قال أبو عيسى:
وقد تكلم بعض أهل الحديث في سهيل بن أبي صالح، ومحمد بن إسحاق، وحماد بن سلمة، ومحمد بن عجلان، وأشباه هؤلاء من الأئمة، إنما تكلموا فيهم من قبل حفظهم في بعض ما رووا، وقد حدث عنهم الأئمة.
حدثنا الحسن بن علي الحلواني (ثنا) علي بن المديني قال: قال لنا سفيان بن عيينة: كنا نعد سهيل بن أبي صالح ثبتا في الحديث.
وحدثنا ابن أبي عمر، قال: قال سفيان بن عيينة: كان محمد ابن عجلان ثقة، مأمونا في الحديث.
قال أبو عيسى:
وإنما تكلم يحيى بن سعيد القطان - عندنا - في رواية محمد بن عجلان عن سعيد المقبري.
حدثنا أبو بكر، عن علي بن عبد الله، قال: قال يحيى بن سعيد: قال محمد بن عجلان: أحاديث سعيد المقبري بعضها عن سعيد عن أبي هريرة،

(1/407)


وبعضها عن سعيد عن رجل، عن أبي هريرة، فاختلطت علي فصيرتها عن سعيد عن أبي هريرة. وإنما تكلم يحيى بن سعيد - عندنا - في ابن عجلان لهذا، وقد روى يحيى عن ابن عجلان الكثير.
أما سهيل بن أبي صالح السمان فقد تكلم فيه جماعة من الأئمة:
قال ابن أبي خثيمة: سمعت يحيى بن معين يقول: لم يزل أصحاب الحديث يتقون حديث سهيل قال: وسئل ابن معين مرة أخرى عن سهيل، فقال: ليس بذاك وسئل مرة أخرى فقال: سهيل ضعيف.
وحكى عباس الدوري قال: سئل يحيى بن معين عن حديث سهيل والعلاء بن عبد الرحمن، فقال: حديثهما قريب من السواء، وليس حديثهما بالحجة، قال: وسمعت يحيى يقول: سهيل صويلح، وفيه لين. قال: ومحمد بن عمرو أكبر من هؤلاء، يعني من سهيل والعلاء وعاصم بن عبيد الله، وابن عقيل.
وقد سبق قول يحيى بن سعيد إن محمد بن عمرو أعلى من سهيل. وأنكر ذلك عليه أحمد، وقال: لم يكن ليحيى بسهيل علم. وكان قد جالس محمد بن عمرو.
قال: وسهيل صالح. وقال أيضا: لم يصنع يحيى شيئا، الناس عندهم سهيل ليس مثل محمد بن عمرو.
فقيل له: سهيل عندهم أثبت؟ قال: نعم.
وقال أحمد أيضا.

(1/408)


سهيل ما أصلح حديثه. قال: والعلاء بن عبد الرحمن - عندي - فوق سهيل وفوق محمد بن عمرو.
وقال عبد الله: سألت أبي عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه، وعن سهيل عن أبيه فقال: ما سمعت أحدا يذكر العلاء إلا بخير.
وقدم أبا صالح على العلاء، كذا في المسند، وإنما كان السؤال عن سهيل، لا عن أبيه.
وقد ذكر الترمذي هنا عن ابن عيينة، قال: كنا نعد سهيلا ثبتا في الحديث.
وقال ابن معين - في رواية عباس - في موضع آخر - عنه: سهيل: ثقة.
ووثقه العجلي وقال النسائي: ليس به بأس.
وقال ابن عدي: هو عندي ثبت، لا بأس به، مقبول الأخبار.
وقال أبو زرعة: سهيل أشبه، وأشهر من العلاء بن عبد الرحمن.
وقال أبو حاتم: هو أحب إلي من العلاء، وأحب إلي من عمرو بن أبي عمرو، يكتب حديثه، ولا يحتج به.
وقد روى عنه الأئمة، مالك وشعبة والثوري.
وخرج له مسلم في صحيحه، والبخاري مقرونا بغيره.

(1/409)


"محمد بن عجلان"

وأما محمد بن عجلان المدني، الفقيه الصالح فقد روى عنه شعبة ومالك والقطان وخلق. وقد وثقه ابن عيينة، وأحمد، وابن معين، وخرج مسلم حديثه مقرونا وتكلم جماعة في حفظه.
قال ابن أبي خيثمة:
سمعت يحيى بن معين يقول: كان يحيى بن سعيد لا يرضى محمد بن عجلان. قال: وسمعت يحيى بن سعيد يقول: لو جربت من (أروى عنه) ، لم أرو إلا عن قليل. (وفي) كتاب علي بن المديني: قال يحيى بن سعيد: قال ابن عجلان: كان سعيد المقبري يحدث عن أبيه عن أبي هريرة، وعن رجل، عن أبي هريرة فاختلط علي فجعلته عن أبي هريرة. قال يحيى: سمعته منه أو حدثته عنه. ولا أعلم إلا أني سمعته منه.
وقال أحمد:
كان ثقة، إلا أنه اختلط عليه حديث المقبري، كان عن رجل، جعل يصيره عن أبي هريرة.
وقال ابن عيينة:
حدثنا محمد بن عجلان، وكان ثقة.

(1/410)


وروى أبو بكر بن خلاد، عن يحيى بن سعيد، قال: كان ابن عجلان مضطرب الحديث في حديث نافع، ولم يكن له تلك القيمة عنده.
وروى أبو محمد الرامهرمزي في كتابه، من طريق يحيى بن سعيد، قال: قدمت الكوفة وبها ابن عجلان، وبها من يطلب الحديث، مليح بن وكيع، وحصف بن غياث، وعبد الله بن إدريس، ويوسف بن خالد السمتي. قلنا نأتي ابن عجلان. فقال ويوسف بن خالد: نقلب على هذا الشيخ حديثه ننظر فهمه. قال: فقلبوا فجعلوا ما كان عن سعيد، عن أبيه. وما كان عن أبيه عن سعيد. ثم جئنا إليه. لكن ابن إدريس تورع وجلس بالباب، وقال: لا أستحل، وجلس معه. ودخل حفص ويوسف بن خالد، ومليح، فسألوه، فمر فيها، فلما كان عند آخر الكتاب انتبه الشيخ، فقال: أعد العرض. فقرض عليه، فقال: ما سألتموني عن أبي فقد حدثني به سعيد، وما سألتموني عن سعيد، فقد حدثني به أبي، ثم أقبل على يوسف بن خالد، فقال:

(1/411)


إن كنت أردت شيني وعيبي فسلبك الله الإٍسلام.
وأقبل على حفص، فقال:
ابتلاك الله في دينك ودنياك.
وأقبل على مليح، فقال:
لا نفعك الله بعلمك.
قال يحيى: فمات مليح، ولم ينتفع به، وابتلى حفص في بدنه بالفالج. وبالقضاء في دينه. ولم يمت يوسف حتى اتهم بالزندقة.
"محمد بن إسحاق بن يسار"

وأما محمد بن إسحاق بن يسار، صاحب المغازي، فيطول ذكر ترجمته على وجهها. وقد وثقه جماعة:
قال أحمد: هو حسن الحديث. وقال مرة: يكتب من حديثه هذه الأحاديث (كأنه) يعني المغازي.
وقال مرة: هو صالح الحديث، وأحتج به (أنا) أيضا.
وقال ابن المديني: حديثه عندي صحيح.
وقال ابن عيينة: ما سمعت أحدا تلكم في محمد بن إسحاق إلا في قوله بالقدر.
وقال ابن معين مرة: هو ثقة، وليس بحجة.

(1/412)


وتكلم في آخرون:
وكان يحيى بن سعيد شديد الحمل عليه، وكان لا يحدث عنه، ذكره عنه الإمام أحمد، وقال:
ما رأيت يحيى أسوأ رأيا منه في محمد بن إسحاق، وليث (بن أبي سليم) وهمام، لا يستطيع أحد أن يراجعه فيهم.
وكان ابن مهدي يحدث عن رجل عنه.
وكذبه مالك وهشام بن عروة والأعمش.
ولا ريب أنه كان يتهم بأنواع من البدع، ومن التشيع والقدر وغيرهما. وكان يدلس عن غير الثقات، وربما دلس عن أهل الكتاب ما يأخذه عنهم من الأخبار.
قال أحمد: هو كثير التدليس جدا.
قيل له: فإذا قال: حدثنا أو (أنا) فهو ثقة؟.
قال: هو يقول: أخبرني فيخالف يشير إلى أنه يصرح بالتحديث والأخبار ويخالف الناس في حديثه مع ذلك.
وقال الجوزجاني: يمضع حديث الزهري بمنطقة حتى يعرف من رسخ في علمه أنه خلاف رواية أصحابه عنه.
وروى عنه يحيى بن سعيد الأنصاري وشعبة والحمادان والسفيانان وخلق.
وخرج مسلم حديثه مقرونا بغيره.

(1/413)


"حماد بن سلمة"

وأما حماد بن سلمة، فهو أرفع من هؤلاء كلهم. وهو الإمام الرباني العالم بالله، والعلم بأمر الله، أبو سلمة، (حماد بن سلمة) البصري، الفقيه، الزاهد، العابد.
وقد روى عنه الأئمة الكبار مثل يحيى بن القطان وابن مهدي وابن المبارك، ومالك والثوري، وهما من أقرانه، وشعبة وهو أسن منه، وهو ثقة (ثقة) ، من أصلت الناس في السنة. ولذلك قال ابن معين: من ذكره بسوء فاتهمه على الإسلام. وأثنى عليه الأئمة ثناء عظيما.
وفصل القول في رواياته:
أنه من أثبت الناس في بعض شيوخه الذين لزمهم كثابت البناني، وعلي بن زيد ويضطرب في بعضهم الذين لم يكثر ملازمتهم كقتادة وأيوب وغيرهما، وسنذكر ذلك مستوفى فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وقد خرج له مسلم الكثير في صحيحه واستشهد به البخاري وقيل: إنه خرج له حديثا واحدا في الرقاق. وأنكر ابن حبان ذلك عليه، فقال:

(1/414)


لم ينصف من جانب حديث حماد بن سلمة، واحتج بأبي بكر بن عياش في كتابه وبابن أخي الزهري، وبعبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، فإن كان تركه إياه لما كان يخطئ فغيره من أقرانه مثل الثوري وشعبة وذويهما كانوا يخطئون. فإن زعم أن خطأه قد كثر من تغير حفظه، فقد كان ذلك في أبي بكر بن عياش موجودا، وأنى يبلغ أبو بكر حماد بن سلمة في إتقانه أم جمعه، أم في علمه والدين والنسك والعلم والكتبة والجمع والصلابة في السنة، والقمع لأهل البدع، ولم يكن يثلبه في أيامه إلا معتزلي قدري أو مبتدعي جهمي، لما كان يظهر من السنن الصحيحة التي ينكرها المعتزلة.
قال أبو عيسى:
وهكذا من تكلم في ابن ليلى إنما تلكم فيه من قبل حفظه.
قال علي: قال يحيى بن سعيد القطان: روى شعبة عن ابن أبي ليلى عن أخيه عيسى، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أيوب عن النبي صلى الله عليه وسلم في العطاس.
قال يحيى: ثم لقيت ابن أبي ليلى فحدثنا عن أخيه عيسى عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبو عيسى:
ويروى عن ابن أبي ليلى نحو هذا غير شيء، وكان يروي الشيء مرة هكذا ومرة هكذا، يغير الإسناد.
وإنما جاء هذا من قبل حفظه، لأن أكثر من مضى من أهل العلم كانوا لا يكتبون. ومن منهم إنما كان يكتب بعد السماع.
قال: وسمعت أحمد بن الحسن يقول: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ابن أبي ليلى لا يحتج به.

(1/415)


قال أبو عيسى:
وكذلك من تلكم من أهل العلم في مجالد بن سعيد وعبد الرحمن بن لهيعة وغيرهما، إنما تكلموا فيهم من قبل حفظهم وكثرة خطئهم، وقد روى عنهم غير واحد من الأئمة.
فإذا انفرد واحد من هؤلاء بحديث ولم يتابع عليه لم يحتج به، كما قال أحمد بن حنبل: ابن أبي ليلى لا يحتج به، إنما عنى إذا انفرج بالشيء، وأشد ما يكون في هذا إذا لم يحفظ الإسناد، فزاد في الإسناد أو نقص أو غير الإسناد أو جاء بما يتغير فيه المعنى.
"ابن أبي ليلى"

أما ابن أبي ليلى (فهو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى) قاضي الكوفة. وكان من جلة الفقهاء المعتبرين وله حديث كثير، وهو صدوق لا يتهم بتعمد الكذب، ولكنه كان سيئ الحفظ جدا.
قال أبو داود الطيالسي: قال شعبة: ما رأيت أحدا أسوأ حفظا من ابن أبي ليلى.

(1/416)


وقال النضر بن شميل: قال شعبة أفادني محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى أحاديث، فإذا هي مقلوبة.
وقال علي بن المديني: سمعت يحيى يقول: كان ابن أبي ليلى سيئ الحفظ وقال أحمد: هو مضطرب الحديث جدا سيئ الحفظ وقال: لا يحتج بحديثه.
وذكر إبراهيم بن سعيد عن يحيى بن معين، كان يحيى بن سعيد لا يحدث عن ابن أبي ليلى ما روى عن عطاء.
قال ابن معين: ابن أبي ليلى ضعيف في روايته.
قال إبراهيم: وكان أحمد بن حنبل لا يحدث عنه.
وقال أحمد بن حفص السعدي عن أحمد بن حنبل: ابن أبي ليلى ضعيف، وعن عطاء أكثره خطأ.
وقال العجلي: كان صدوقا، جائز الحديث.
وأما حديث العطاس الذي ذكره الترمذي أن ابن أبي ليلى اضطرب

(1/417)


فيه. فقد خرجه الترمذي أيضا في كتاب الأدب في باب "كيف يشمت العاطس" وسبق الكلام عليه هناك مستوفى.
وذكر الترمذي أنه يروى عن ابن أبي ليلى نحو هذا غير شيء، وهو كما قال. وقد سبق له حديث في أبواب الدعاء "في أبواب الذكر عند الصباح والمساء وسبق له حديث آخر في القنوت في كتاب الصلاة.
وحديث آخر في التيمم في آخر كتاب الطهارة.
"مجاهد بن سعيد الهمذاني"

وأما مجالد بن سعيد الهمذاني الكوفي، فليس هو بالحافظ أيضا، قد ضعفه غير واحد.

(1/418)


قال يحيى بن سعيد: لو شئت أن يجعلها لي مجالد كلها عن الشعبي، عن مسروق، عن عبد الله فعل، يشير إلى أنه كان يقبل التلقين.
وضعفه أحمد، وقال: كم من أعجوبة لمجالد. وقال مرة: هو يزيد في الأسانيد.
وقال مرة: ليس بشيء يرفع حديثا كثيرا لا يرفعه الناس وقد احتمله الناس.
وضعفه يحيى بن معين. وقال: لا يحتج به، وقال مرة: صالح.
وقال النسائي: ليس بالقوي. قوال مرة: ثقة.
وقال ابن حبان، يقلب الأسانيد، ويرفع المراسيل، لا يجوز الاحتجاج به.
وقال ابن عدي: عامة ما يرويه غير محفوظ.
وقال الدارقطني: ليس بثقة، يزيد بن أبي زياد أرجح منه، ومجالد لا يعتبر به.
وخرج له مسلم مقرونا. وكان يحيى بن سعيد يحدث عنه. وحدث ابن مهدي عن رجل عنه.
عبد الله بن لهيعة

وأما ابن لهيعة، فهو عبد الله بن لهيعة بن عقبة، قاضي مصر، وهو كثي الاضطراب.
وكان يحيى بن سعيد يضعفه لا يراه شيئا.
وقد اختلف الأئمة في أمره:

(1/419)


فمنهم من قال: حديثه في أول عمره قبل احتراق كتبه أصح. وقد سمع منه قبل احتراق كتبه ابن المبارك والمقبري، كذا قال الفلاس وغيره.
وقاله ابن معين في رواية عنه.
ومنهم من قال: حديثه في عمره كله واحد، وهو ضعيف، وهو المشهور عن يحيى بن معين وأنكر أن تكون كتبه احترقت. وقال: لا يحتج به. وقال أبو زرعة: سماع الأوائل والأواخر منه سواء إلا أن ابن وهب وابن المبارك كانا يتتبعان أصوله. وليس ممن يحتج به.
وقال ابن مهدي: ما (اعتد) بشيء سمعته من حديث ابن لهيعة إلا سماع ابن المبارك ونحوه.
وقال مرة: لا أحمل عن ابن لهيعة قليلا ولا كثيران ثم قال: كتب لي ابن لهيعة كتابا فيه: (ثنا) عمرو بن شعيب، قال عبد الرحمن: فقرأته على ابن المبارك، فأخرجه إلي ابن المبارك من كتابه عن ابن لهيعة، قال: أخبرني إسحاق بن أبي فروة عن عمرو بن شعيب.
وقال أحمد: كان ابن لهيعة يحدث عن المثنى بن الصباح، عن عمرو بن شعيب، وكان (بعد) يحدث بها عن عمرو بن شعيب نفسه.
وقال أيضا: ما حديث ابن لهيعة بحجة. وإني لأكتب كثيرا مما أكتب أعتبر به، وهو يقوي بعضه ببعض.
وروى عن أحمد أنه قال: سماع العبادلة من ابن لهيعة عندي صالح، عبد الله بن وهب، وعبد الله بن يزيد المقرئ، وعبد الله بن المبارك.

(1/420)


وقال الجوزجاني: لا ينبغي أن يحتج بروايته، ولا يعتد بها.
وقال ابن حبان: سبرت أخباره فرأيته يدلس عن أقوام ضعفاء على أقوام ثقات قد رآهم ثم كان لا يبالي ما دفع إليه قرأه سواء اكان من حديث أو لم يكن من حديثه، فوجب التنكب عن رواية المتقدمين عنه قبل احتراق كتبه، لما فيها من الأخبار المدلسة، عن المتروكين، ووجب ترك الاحتجاج (برواية) المتأخرين بعد احتراق كتبه، لما فيها مما ليس من حديثه.
ونقل أبو عبيد الآجري عن أبي داود، عن أحمد، قال: من كان مثل ابن لهيعة بمصر في كثرة حديثه وضبطه وإتقانه، وكذا نقله النسائي عن أبي داود عن أحمد.
وذكر جعفر الفريابي عن بعض أصحابه عن قتيبة، قال: قال (لي) أحمد: أحاديثك عن ابن لهيعة صحاح.. قلت: لأنا كنا نكتب من كتاب عبد الله بن وهب ثم نسمعه من ابن لهيعة.
وقال الثوري: (عند) ابن لهيعة الأصول، وعندنا الفروع.
وقال حججت حججا لألقى ابن لهيعة.

(1/421)


وكان ابن وهب يقول: حدثني (- والله -) الصادق البار عبد الله بن لهيعة.
وأثنى عليه أحمد بن صالح المصري، وقال: هو صحيح الكتاب، فمن ضبط عنه من إملائه من كتابه فحديثه صحيح. قال: وأنا أذهب إلى أنه لا يترك حديث محدث حتى يجتمع أهل مصره على ترك حديثه.
قال ابن عدي: هو حسن الحديث، يكتب حديثه، وقد حدث عنه الثقات: الثوري، وشعبة، ومالك، وعمرو بن الحارث، والليث بن سعد.
خرج مسلم حديثه مقرونا بعمرو بن الحارث. وأما البخاري والنسائي فإذا ذكرا إسنادا فيه ابن لهيعة وغيره سميا ذلك الغير، وكنيا عن اسم ابن لهيعة، ولم يسمياه.
وممن يضطرب في حديثه أيضا شهر بن حوشب. وهو يروي المتن الواحد بأسانيد متعددة.
ومنهم ليث بن أبي سليم، ويزيد بن أبي زياد الكوفي.

(1/422)


ومنهم عبد الملك بن عمير، على أن حديثه مخرج في الصحيحين، وقال أحمد: هو مضطرب الحديث جدا، وهو أشد اضطرابا من سماك.
وممن يضطرب في حديثه سماك، وعاصم بن بهدلة.
وقد ذكر الترمذي أن هؤلاء وأمثالهم ممن تكلم فيه من قبل حفظه، وكثرة خطئه لا يحتج بحديث أحد منهم إذا انفرد. يعني في الأحكام الشرعية والأمور العلمية، وأن أشد ما يكون ذلك إذا اضطرب أحدهم في الإسناد. فزاد فيه أو نقص، أو غير الإسناد أو غير المتن، تغييرا يتغير به المعنى.
ومثال ذلك حديث رواه ابن لهيعة فزاد في إسناده على الناس، ورواه أيضا بغير الإسناد الذي رواه به الناس، ورواه بمعنى غير معنى حديث الناس:
روى الليث بن سعد، وعمرو بن الحارث، وعبد الحميد بن جعفر كلهم عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الله بن الحارث بن جزء قال: أنا أول من سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
"لا يبول أحدكم مستقبل القبلة"، وأنا أول من حدث الناس بذلك.
وفي رواية الليث بن سعد وغيره عن يزيد بن أبي حبيب، أنه سمع عبد الله بن الحارث يذكره.

(1/423)


ورواه ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب، عن جبلة بن نافع، عن عبد الله بن الحارث (بن جزء) ، (فزاد في إسناده رجلا.
ورواه أيضا عن عبد الله بن الحارث) سليمان بن زياد الحضرمي وسهيل بن ثعلبة.
وقد رواه عن سليمان بن زياد غير واحد، منهم ابن لهيعة، وانفرد ابن لهيعة فرواه عن عبيد الله بن المغيرة، عن عبد الله بن الحارث بن جزء، قال:
"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبول مستقبل القبلة" وأنا أول من حدث الناس بذلك.
وهذا اللفظ خطأ. تفرد به ابن لهيعة، وخالف رواية الناس كلهم.
وقد روى مسلم في مقدمة كتابه، عن الحسن الحلواني: سمعت يزيد بن هارون وذكر زياد بن ميمون، فقال:
حلفت أن لا أروي عنه شيئا، لقيته، فسألته عن حديث فحدثني به عن بكر المزني. ثم عدت إليه فحدثني به عن مورق. ثم عدت إليه فحدثني به عن الحسن (وكان ينسبه) إلى الكذب، انتهى.
فاختلاف الرجل الواحد في الإسناد إن كان متهما فإنه ينسب به إلى الكذب. وإن كان سيئ الحفظ ينسب به إلى الاضطراب وعدم الضبط، وإنما (يحتمل مثل ذلك) ممن كثر حديثه وقوي حفظه، كالزهري، وشعبة، ونحوهما.

(1/424)


وقد كان عكرمة يتهم في رواية الحديث عن رجل ثم يرويه عن آخر حتى ظهر لهم سعة علمه وكثرة حديثه. وذكر معنى ذلك ابن لهيعة عن ابن هبيرة وأبي الأسود، عن إسماعيل بن عبيد الأنصاري، وكان من أصحاب ابن عباس.
"الرواية باللفظ والمعنى"

قال الترمذي - رحمه الله -:
فإما من أقام الإسناد وحفظه وغيره اللفظ، فإن هذا واسع عند أهل العلم، إذا لم يتغير به المعنى.
حدثنا محمد بن بشار، (ثنا) عبد الرحمن بن مهدي ثنا معاوية بن صالح، عن العلاء بن الحارث، عن مكحول، عن واثلة بن الأسقع، قال:
"إذا حدثناكم على المعنى فحسبكم"
(ثنا) يحيى بن موسى، (أنا عبد الرزاق، (أنا) معمر، عن أيوب، عن محمد بن سيرين قال: كنت أسمع من عشرة، اللفظ مختلف والمعنى واحد.
(ثنا) أحمد بن منيع، (ثنا) محمد بن عبد الله الأنصاري، عن ابن عون قال: كان إبراهيم النخعي والحسن والشعبي يأتون بالحديث على المعاني، وكان القاسم بن محمد، ومحمد بن سيرين ورجاء بن حيوة يقيدون الحديث على حروفه.
حدثنا علي بن خشرم، (ثنا) حفص بن غياث، عن عاصم الأحول،

(1/425)


قال: قلت لأبي عثمان النهدي: إنك تحدثنا بالحديث ثم تحدثنا به على غير ما حدثتنا!!
قال: عليك بالسماع الأول.
قال: حدثنا الجارود بن معاذ، (ثنا) وكيع عن الربيع بن صبيح عن الحسن، قال:
إذا أصبت المعنى أجزأك.
(ثنا) علي بن حجر، (أنا) ابن المبارك، عن سيف هو ابن سليمان، قال: سمعت مجاهدا يقول: أنقص من هذا الحديث إن شئت، ولا تزد فيه.
حدثنا أبو عمار، الحسين بن حريث قال: (أنا) زيد بن حباب، عن رجل، قال: خرج إلينا سفيان الثوري، فقال: إن قلت لكم: إني أحدثكم كما سمعت، فلا تصدقوني، إنما هو المعنى.
حدثنا الحسين) بن حريث، قال: سمعت وكيعا يقول: إن لم يكن المعنى واسعا فقد هلك الناس.
حديث واثلة بن الأسقع الموقوف ذكره البخاري في تاريخه وذكر أن

(1/426)


أبا نعيم النخعي رواه عن (العلاء) بن كثير عن مكحول، عن واثلة مرفوعا، قال: ولا يصح. والعلاء بن كثير منكر الحديث.
مقصود الترمذي بهذا الفصل الذي ذكره ههنا، أن من أقام الأسانيد وحفظها، وغير المتون تغييرا لا يغير المعنى، انه حافظ ثقة يعتبر بحديثه: (وبنى ذلك على) أن رواية الحديث بالمعنى جائزة وحكاه عن أهل العلم، وكلامه يشعر بأنه إجماع، وليس كذلك، بل هو قول كثير من العلماء. ونص عليه أحمد وقال: ما زال الحفاظ يحدثون بالمعنى وإنما يجوز ذلك لمن هو عالم بلغات العرب بصير بالمعاني عالم بما يحيل المعنى، وما لا يحيله. نص على ذلك الشافعي.
"أمثلة لرواية بالمعنى أحالت الحديث عن أصلة"

وقد روى كثير من الناس الحديث بمعنى فهموه منه فغيروا المعنى:
مثل ما اختصره بعضهم من حديث عائشة في حيضها في الحج، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها وكانت حائضا: "انقضي رأسك وامتشطي"

(1/427)


وأدخله في باب غسل الحيض، وقد أنكر ذلك على من فعلة، لأنه يخل بالمعنى، فإن هذا لم يؤمر به في الغسل من الحيض عند انقطاعه، بل في غسل الحائض إذا أرادت الإحرام، وهي حائض.
وروى بعضهم حديث إذا قرأ، يعني الإمام، فانصتوا. بما فهمه من المعنى، فقال:
إذا قرا الإمام: "ولا الضالين" فانصتوا، فحمله على فراغه من القراءة، لا على شروعه فيها.
وروى بعضهم حديث: كنا نؤديه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يريد زكاة الفطر. فصحف نؤديه، فقال: نورثه، ثم فسره من عنده، فقال: يعني الجد.
كل هذا تصرف سيئ، لا يجوز مثله.
"جواز الرواية بالمعنى وأدلة ذلك من قال به"

فأما الرواية بلفظ آخر لا يختل به المعنى، فهو الذي ذكر الترمذي جوازه عند أهل العلم، وذكره عمن ذكره من السلف.
وروي عن الحسن أنه استدل لذلك بأن الله يقص قصص القرون السالفة بغير لغاتها.
وروى قتادة، عن زرارة بن أوفى، قال: لقيت عدة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فاختلفوا علي في اللفظ، واجتمعوا في المعنى.

(1/428)


وقد روى إجازة ذلك أيضا عن عائشة، وأبي سعيد الخدري، وابن عباس. وفي أسانيدها نظر.
وروى معناه عن ابن مسعود، وأبي الدرداء، وأنس، أنهم كانوا يحدثون عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم يقولون: أو نحو هذا، أو شبهه.
وكان أنس يقول: أو كما قال. وهو أيضا قول عمرو بن دينار، وابن أبي نجيح وعمرو بن مرة، وجعفر بن محمد، وحماد بن زيد، ويحيى بن سعيد، ويزيد بن هارون، وابن عيينة وأبي زرعة. وحكى عن أكثر الفقهاء.
وروي فيه أحاديث مرفوعة، لا يصح شيء منها.
"اتباع اللفظ ومن قال به"
وكان ابن عمر - رضي الله عنهما - يشدد في اتباع لفظ الحديث، وينهي عن تغيير شيء منه، وكذلك محمد بن سيرين والقاسم بن محمد، ورجاء بن حيوة.
وهو قول مالك في حديث النبي صلى الله عليه وسلم خاصة دون حديث غيره. وروى عنه أنه قال: استحب ذلك.

(1/429)


وحكى الإمام أحمد عن وكيع أنه كان يحدث على المعنى، وأن ابن مهدي كان يتبع الألفاظ ويتعاهدها.
"رأي في جواز النقص دون الزيادة"

ورخص طائفة في النقص في الحديث للشك فيه، دون الزيادة، منهم: مجاهد، وابن سيرين.
وروى أيضا عن مالك أنه كان يترك منه كل ما شك فيه.
"رأى ابن حبان اتباع اللفظ لمن ليس بفقيه"

وقد قال ابن حبان في أول كتاب الضعفاء: الثقة الحافظ إذا حدث من حفظه وليس بفقيه، لا يجوز عندي الاحتجاج بخبره، لأن الحفاظ الذين رأيناهم أكثرهم كانوا يحفظون الطرق والأسانيد دون المتون. ولقد كنا نجالسهم برهة من دهرنا على المذاكرة، ولا أراهم يذكرون من متن الخبر إلا كلمة واحدة يشيرون إليها، وما رأيت على أديم الأرض من كان يحسن صناعة السنن، ويحفظ الصحاح بألفاظها، ويقوم بزيادة كل لفظة زاد في الخبر ثقة، حتى كأن السنن نصب عينيه إلا محمد بن إسحاق بن خزيمة فقط، فإذا كان الثقة الحافظ لم يكن بفقيه، وحدث من حفظه، ربما قلت المتن، وغير المعنى، حتى يذهب الخبر عن معنى ما جاء فيه، ويقلبه إلى شيء ليس منه وهو لا يعلم، فلا يجوز عندي الاحتجاج بخبر من هذا نعته، إلا أن يحدث من كتاب، أو يوافق الثقات فيما يرويه من متون الأخبار. انتهى.

(1/430)


"اعتراض على ابن حبان"

وفيما ذكره نظر، وما أظنه سبق إليه. ولو فتح هذا الباب لم يحتج بحديث انفرد به عامة حفاظ المحدثين كالأعمش وغيره، ولا قائل بذلك، اللهم إلا أن يعرف من أحد أنه لا يقيم متون الأحاديث، فيتوقف حينئذ فيما انفرد به فأما مجرد هذا الظن فيمن ظهر حفظه وإتقانه، فلا يكفي في رد حديثه - والله أعلم -.
"الحفاظ المتقنون"

قال أبو عيسى:
وإنما تفاضل أهل العلم بالحفظ والإتقان والتثبيت عند السماع، مع أنه لم يسلم من الخطأ والغلط كبير أحد من الأئمة، مع حفظهم.
حدثنا محمد بن حميد الرازي، (ثنا) جرير عن عمارة بن القعقاع، قال: قال لي إبراهيم النخعي: إذا حدثتني فحدثني عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، فإنه حدثني مرة بحديث ثم سأله بعد ذلك بسنتين فلم يخرم منه حرفا.
(ثنا) أبو حفص، عمرو بن علي. (ثنا) يحيى بن سعيد القطان، عن سفيان، عن منصور، قال: قلت لإبراهيم النخعي: ما لسالم بن أبي الجعد أتم حديثا منك؟ قال: لأنه كان يكتب.
حدثنا عبد الجبار بن العلاء، (ثنا) سفيان بن عيينة قال: قال عبد الملك بن عمير: إني لأحدث بالحديث فما أدع منه حرفا.

(1/431)


حدثنا الحسين بن مهدي البصري، (ثنا) عبد الرزاق (أنا) معمر، عن قتادة، قال: ما سمعت أذناي شيئا قط إلا وعاه قلبي.
حدثنا سعيد بن عبد الرحمن المخزومي (ثنا) سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، قال: ما رأيت أحدا أنص للحديث من الزهري.
أخبرنا إبراهيم بن سعيد الجوهري (ثنا) سفيان بن عيينة قال: قال أيوب السختياني:
ما علمت أحدا كان أعلم بحديث أهل المدينة بعد الزهري من يحيى بن أبي كثير.
حدثنا محمد بن إسماعيل، (ثنا) سليمان بن حرب (ثنا) حماد بن زيد، قال: كان ابن عون يحدث، فإذا حدثته عن أيوب بخلافه تركه، فأقول: قد سمعته. فيقول: إن أيوب أعلمنا بحديث محمد بن سيرين.
أخبرنا أبو بكر، عن علي بن عبد الله، قال: قلت ليحيى بن سعيد: أيهما أثبت هشام الدستوائي أو مسعر؟ قال: ما رأيت مثل مسعر. كان مسعر من أثبت الناس.
حدثنا أبو بكر عند القدوس بن محمد، قال: وحدثنا أبو الوليد، قال: سمعت حماد بن زيد يقول: ما خالفني شعبة في شيء إلا تركته.
قال أبو بكر: حدثني أبو الوليد، قال: قال لي حماد بن سلمة: إن أردت الحديث فعليك بشعبة.
حدثنا عبد بن حميد، (ثنا) أبو داود، قال: قال شعبة ما رويت عن رجل حديثا إلا أتيته أكثر من مرة، والذي رويت عنه عشرة أحاديث أتيته أكثر من

(1/432)


عشر مرار. والذي رويت عنه (خمسين حديثا أتيته أكثر من خمسين مرة) . والذي رويت عنه مائة أتيت أكثر من مائة مرة، إلا حيان البارقي، فإني سمعت منه هذه الأحاديث، ثم عدت إليه فوجدته قد مات.
حدثنا محمد بن إسماعيل، (ثنا) عبد الله بن أبي الأسود (أنا) ابن مهدي، قال: سمعت سفيان يقول: شعبة أمير المؤمنين في الحديث.
حدثنا أبو بكر، عن علي بن عبد الله، قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: ليس أحد أحب إلي من شعبة، ولا يعدله أحد عندي، وإذا خالفه سفيان أخذت بقول سفيان.
قال علي: قلت ليحيى: أيهما كان أحفظ للأحاديث الطوال سفيان أو شعبة؟
قال: كان شعبة أمر فيها.
قال يحيى: وكان شعبة أعلم بالرجال فلان، عن فلان وكان سفيان صاحب أبواب.
حدثنا أبو عمار الحسين بن حريث، قال: سمعت وكيعا يقول: قال شعبة:
سفيان الثوري أحفظ مني. ما حدثني سفيان عن شيخ بشيء فسألته إلا وجدته كما حدثني.
حدثنا عمرو بن علي، قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: الأئمة في الحديث أربعة: سفيان الثوري، ومالك بن أنس، والأوزاعي، وحماد بن زيد.

(1/433)


قال أبو عيسى:
سمعت إسحاق بن موسى الأنصاري، قال: سمعت معن بن عيسى القزاز، يقول:
كان مالك بن أنس يشدد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الباء والتاء ونحوهما.
أخبرنا أبو موسى حدثني إبراهيم بن عبد الله بن قريم الأنصاري، قاضي المدينة، قال:
مر مالك بن أنس على أبي حازم، وهو جالس فجازه، فقيل له: قال: إني لم أجد موضوعا أجلس فيه، وكرهت أن آخذ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قائم.
أخبرنا أبو بكر، عن علي بن عبد الله، قال: قال يحيى بن سعيد: مالك عن سعيد بن المسيب أحب إلي من سفيان الثوري، عن إبراهيم النخعي.
قال يحيى: ما في القوم أحد أصح حديثا من مالك بن أنس، كان مالك إماما في الحديث.
سمعت أحمد بن الحسن، يقول: سمعت أحمد بن حنبل، يقول: ما رأيت بعيني مثل يحيى بن سعيد القطان.

(1/434)


قال أحمد بن الحسن: وسئل أحمد بن حنبل عن وكيع وعبد الرحمن بن مهدي. قال أحمد:
وكيع أكبر في القلب وعبد الرحمن إمام.
سمعت محمد بن عمرو بن نبهان بن صفوان الثقفي البصري يقول: سمعت علي بن المديني يقول:
لو حلفت بين الركن والمقام، لحلفت أني لم أر أحدا أعلم من عبد الرحمن بن مهدي.
قال أبو عيسى:
والكلام في هذا والرواية عن أهل العلم تكثر، وإنما بيننا شيئا منه على الاختصار. ليستدل به على منازل أهل العلم وتفاضل بعضهم على بعض في الحفظ والإتقان، ومن تكلم فيه من أهل العلم لأي شيء تكلم فيه.
"أقسام الرواة"

وقد ذكرنا فيما تقدم أن الرواة ينقسمون أربعة أقسام:
أحدهما: من يتهم بالكذب.
والثاني: من لا يتهم، ولكن الغالب على حديثه الوهم والغلط.
وأن هذين القسمين يترك تخريج حديثهم إلا لمجرد معرفته.
والثالث: من هو صادق، ويكثر في حديثه الوهم ولا يغلب عليه. وقد ذكرنا الاختلاف في الرواية عنه وتركه.
والرابع: الحفاظ الذي يندر أو يقل الغلط والخطأ في حديثهم وهذا هو القسم المحتج به بالاتفاق.
وقد ذكر الترمذي حكم الأقسام الثلاثة فيما تقدم. وذكر ههنا حكم القسم الرابع.
وهم الحفاظ المتقنون الذي يقل خطؤهم. وذكر أنه لم يسلم من الغلط كبير أحد من الأئمة مع حفظهم، وهو كما قال.

(1/435)


"أخطاء الحفاظ"

وقال ابن معين: من لم يخطئ فهو كذاب.
وقال ابن معين: لست أعجب ممن يحدث فيخطئ، إنما أعجب ممن يحدث فيصيب.
وقال ابن المبارك: ومن يسلم من الوهم، وقد وهمت عائشة جماعة من الصحابة في رواياتهم للحديث وقد جمع جزءا في ذلك.
ووهم سعيد بن المسيب ابن عباس في قوله:
تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم.
وقرأت بخط أبي حفص البرمكي الفقيه الحنبلي - ذكرت لأبي الحسن يعني الدارقطني:
جاء عمرو بن يحيى المازني، في ذكره الحمار موضع البعير في توجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر. وأن أحمد لم يضعفه بذلك. فقال أبو الحسن: مثل هذا في الصحابة.

(1/436)


قال: روى رافع بن عمرو المزني. قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب على بلغة بمنى.
وروى الناس كلهم خطبة النبي صلى الله عليه وسلم على ناقة. أو جمل. أفيضعف الصحابي بذلك؟ انتهى.
وقد ذكر الأثرم لأحمد أن ابن المديني كان يحمل على عمرو بن يحيى، وذكر له هذا الحديث.
"أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على حمار". قال: إنما هو على بعير.
فقال أحمد: هذا سهل.
وقال أحمد: كان مالك من أثبت الناس وكان يخطئ.
وقال: حماد بن زيد قد أخطأ في غير شيء.
وقال علي بن المديني: المحدثون صحفوا وأخطأوا ما خلا أربعة: يزيد بن زريع، وابن علية، وبشر بن المفضل، وعبد الوارث بن سعيد.

(1/437)


وقال البرذعي: شهدت أبا زرعة ذكر عبد الرحمن بن مهدي ومدحه وأطنب في مدحه، وقال: وهم في غير شيء. ثم ذكر عدة أسماء صحفها. وقال: (قال) عن سماك، عن عبد الله بن ظالم وإنما هو مالك بن ظالم.
وقال ابن معين: يحيى بن زكريا بن أبي زائدة كيس، لا أعلمه أخطأ إلا في حديث واحد.
"تراجم أعيان الحفاظ"

وقد ذكر الترمذي ههنا تراجم طائفة من أعيان الحفاظ مختصرة، فنذكرهم ونذكر معهم طائفة ممن لم يسمع أيضا على وجه الاختصار إن شاء الله تعالى.
"1 - أبو زرعة بن عمرو بن جرير":
فمنهم أبو زرعة بن عمرو بن جرير، واسمه هرم، وقيل عبد الرحمن، قاله ابن معين وغيره.
وقيل: عبد الله، وقيل: عمرو. وجده جرير بن عبد الله البجلي الكوفي.
يروي عن جده جرير، وعن أبي هريرة.

(1/438)


روى عنه إبراهيم النخعي، وغيره.
قال ابن أبي خيثمة: (ثنا) أبي، (ثنا) جريرة، عن عمارة بن القعقاع قال: قال لي إبراهيم:
حدثني عن أبي زرعة،
فإني سألته عن حديث، ثم سألته عنه بعد سنتين، فما أخرم منه حرفا.
وخرجه ابن عدي، عن الحسين بن يوسف الفربري، عن أبي عيسى الترمذي، عن ابن حميد، كما أخرجه الترمذي ههنا.
"2 - سالم بن أبي الجعد، ت 101":
ومنهم سالم بن أبي الجعد.
واسم أبي الجعد رافع الأشجعي، مولاهم الكوفي، وهو ثقة متفق على حديثه.
وكلام منصور الذي خرجه الترمذي خرجه ابن عدي، عن الحسين بن يوسف، عن الترمذي: مع أن بعضهم تكلم في سالم بن أبي الجعد.
قال ابن جرير: (ثنا) ابن حميد، (ثنا) جرير، عن المغيرة قال: ثلاثة كانوا لا يعبأون بحديثهم فذكر أحدهم سالم بن أبي الجعد.
"3 - عبد الله بن عمير، ت 136":
ومنهم عبد الملك بن عمير القرشي الكوفي.
يكنى أبا عمرو. وهو ثقة. متفق على حديثه. وقد سبق أن أحمد قال: هو كثير الاضطراب.

(1/439)


وقدم سماكا وعاصم بن أبي النجود عليه في الاضطراب، يعني انه أكثر منهم اضطرابا.
وقال أحمد: (ثنا) سفيان، سمعت عبد الملك بن عمير يقول: والله إني لأحدث بالحديث، وما أدع منه حرفا.
وخرجه ابن عدي عن الحسين بن يوسف، عن الترمذي، كما خرجه هنا.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا صالح بن أحمد (ثنا) علي بن المديني، قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول:
كان سفيان يعجب من حفظ عبد الملك قال صالح: قلت لأبي: هو عبد الملك بن عمير؟
قال: نعم. قال ابن أبي حاتم: فذكرته لأبي. قال: هذا وهم، إنما هو عبد الملك بن أبي سليمان. وعبد الملك بن عمير لم يوصف بالحفظ.
"4 - قتادة بن دعامة السدوسي، ت 117":
ومنهم قتادة بن دعامة السدوسي البصري.
يكنى أبا الخطاب، أحد الأئمة الأعلام، والحفاظ والثقات، والمتفق على صحة حديثهم.
وإليه المنتهى في الحفظ والإتقان.

(1/440)


قال أبو هلال، عن غالب، عن بكر بن عبد الله المزني: من سره أن ينظر إلى أحفظ من أدركنا في زمانه، وأجدر أن يؤدي الحديث كما سمعه، فلينظر إلى قتادة. ما رأيت الذي هو أحفظ منه ولا أجدر أن يؤدي الحديث كما سمعه.
وقال الصعق بن حزن: (ثنا) زيد أبو عبد الواحد، قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: ما أتاني عراقي أحفظ من قتادة.
وروي عبد الرزاق، عن معمر أن ابن سيرين، قال في منام قص عليه، فعبره، فقال: قتادة احفظ الناس.
وقال موسى بن إسماعيل، (ثنا) صاحب لنا عن مطر الوراق: _، قال: كان قتادة إذا سمع الحديث حفظه حفظا وكان إذا سمع الحديث أخذه العويل والزويل حتى يحفظه.

(1/441)


وقال أحمد: (ثنا) عبد الرزاق، عن معمر، قال: قال قتادة لسعيد: خذ المصحف. فعرض عليه سورة البقرة فلم يخطئ فيها حرفا واحدا فقال: أحكمت. قال: نعم. قال: لأنا لصحيفة جابر بن عبد الله احفظ من لسورة البقرة. وكانت قرئت عليه.
وبهذا الإسناد عن قتادة، قال: ما قلت لأحد قط: أعد علي.
وقال أبو داود الطيالسي: ذكر سفيان (لشعبة) حديثا لقتادة، فقال سفيان: وكان في الدنيا مثل قتادة؟
"5 - محمد بن شهاب الزهري، ت 124":
ومنهم محمد بن مسلم بن شهاب الزهري القرشي. يكنى أبا بكر، أحد الأئمة الأعلام الحفاظ الإثبات.
وكان يقال: انه أعلم الناس بكل فن.
قال ابن أبي خيثمة: (ثنا) أبو سلمة التبوذكي، (ثنا) ابن عيينة عن عمرو بن دينار قال:
جالست جابر بن عبد الله، وابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير فلم أر أحد أنسق للحديث من الزهري.
وقال أحمد بن حنبل: قيل لسفيان، يعني ابن عيينة، قال عمرو بن دينار:
ما رأيت أحدا أبصر بالحديث من الزهري. قال: نعم.

(1/442)


وروى ابن عدي بإسناده، عن الليث قال: كان ابن شهاب يقول: ما استودعت قلبي شيئا قط فنسيته.
وعن عمر بن عبد العزيز قال: ما رأيت أحدا أحسن سوقا للحديث إذا حدث من الزهري.
وعن أيوب السختياني، قال: ما رأيت أعلم من الزهري، قيل له: ولا الحسن؟ قال: ما رأيت أعلم من الزهري.
وقال عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري: ما استعدت حديثا قط ولا شككت في حديث قط، إلا حديثا واحدا. فإذا هو كما حفظت.
وقال أحمد: الزهري أحسن حديثا وأجود الناس إسنادا.
وكان عمر بن عبد العزيز يقول: لم يبق أحد أعلم بسنة ماضية منه. وكذا قال مكحول:
وقال الثوري: مات الزهري يوم مات وما أحد أعلم بالسنة منه.
وقال هشام بن عمار: (أنا) الوليد، عن سعيد، أن هشام بن عبد الملك سأل الزهري أن يملي على بعض ولده شيئا من الحديث، فدعا بكاتب فأملى عليه أربعمائة حديث، فخرج الزهري من عند هشام فقال: أين أنتم

(1/443)


يا أصحاب الحديث، فحدثهم بتلك الأربعمائة، ثم لقي هشام بعد شهر، أو نحوه، فقال الزهري:
إن ذلك الكتاب قد ضاع.
فقال: لا عليك. فدعا بكاتب فأملاها عليه. ثم قابل هشام بالكتاب الأول. فما غادر حرفا واحدا.
قال أبو حاتم الرازي: أثبت أصحاب أنس الزهري، ثم قتادة، ثم ثابت البناني.
"6 - يحيى بن أبي كثير، ت 129":
ومنهم يحيى بن أبي كثير الطائي. يكنى أبا نصر من أهل اليمامة واسم أبي كثير صالح بن المتوكل.
كان أحد الأئمة الربانيين، والحفاظ المتقنين.
قال أيوب: ما بقي على وجه الأرض مثل يحيى بن أبي كثير.
وذكر ابن المديني، انه سمع يحيى بن سعيد يقول: قال شعبة: حديث يحيى بن أبي كثير أحسن من حديث الزهري. وروى عبد الرحمن بن الحكم بن بشير قال: كان شعبة يقدم يحيى بن أبي كثير على الزهري.
والحكاية التي ذكرها الترمذي عن أيوب خرجها ابن عدي، عن الحسين بن يوسف، عن الترمذي.

(1/444)


وكان يحيى بن أبي كثير يرسل. وضعف يحيى بن سعيد مرسلاته وقال: هي شبه الريح.
وقال أحمد: لا تعجبني مراسيله، لأنه قد روى عن رجال صغار ضعاف.
وليحيى بن أبي كثير كلام حسن في علم المعارف والمحبة والخشية والمخاوف.
"7 - أيوب بن أبي تميمة السختياني، ت 131":
ومنهم أيوب بن أبي تميمة السختياني البصري يكنى أبا بكر، واسم أبيه كيسان.
أحد الأئمة الأعلام الربانيين الحفاظ الأثبات.
وكان شعبة يقول: (ثنا) أيوب السختياني وكان سيد الفقهاء.
وقال أبو خشينة: سألت محمد بن سيرين: من حدثك بحديث كذا وكذا؟ قال: حدثني الثبت الثبت أيوب.
وحدث (عنه) مالك بن أنس، وقال: ما حدثتكم عن أحد إلا أيوب أفضل منه. وروى عن (شعبة) مثله.
وعن هشام بن عروة: قال: ما قدم علينا أحد من أهل العراق أفضل من أيوب السختياني ومسعر.
وقال ابن أبي مليكة: أيوب ما بالمشرق مثله.

(1/445)


وقال عبد الوهاب الثقفي، سمعت ابن عون يقول: عليكم بأيوب. فانه أعلم مني، قال وسمعت يونس يقول: عليكم بأيوب، فإنه أعلم مني.
وقال ابن المبارك: لم أر رجلا أفضل من أيوب.
وقال القواريري: سمعت حماد بن زيد يقول: سمعت أيوب ويحيى بن عتيق وهشاما يتذاكران حديث محمد بن سيرين، فذكروا حديثا، فقال أيوب: هو كذا، فخالفه هشام ويحيى، ثم لم يقوما حتى رجعا إلى حفظ أيوب. قال: فأراد أيوب أن يضع من نفسه، فقال: وما الحفظ؟ وأي شيء الحفظ؟ هذا فلان يحفظ، قال حماد: رجل رأيته يضحك (به) .
وقال ابن معين: أيوب ثقة، وهو أثبت من ابن عون. وإذا اختلف أيوب وابن عون في الحديث فأيوب أثبت منه.
وسئل ابن معين عن أحاديث أيوب، اختلاف ابن علية وحماد بن زيد، فقال: إن أيوب كان يحفظ، وربما نسي شيء.
قال يحيى: وأخبرني عبد الصمد بن عبد الوارث، عن أبيه، عن أيوب أنه كان إذا قدم البصرة يقول:
خذوها رطبة قبل أن تتغير، ولم يكن يكتب ولا يكتب.
قيل ليحيى: كان شعبة هم أن يترك حديث أيوب. قال: كان أيوب خيرا من شعبة، ولكن لحال أنه كان يتحفظ. ولم يكن يكتب. قال يحيى: وأيوب ويونس وابن عون هؤلاء خيار الناس وسليمان التيمي أيضا.

(1/446)


وذكر ابن مهدي حماد بن زيد، قال: قال لي أيوب: لقد كنت أجمعت أن لا أحدث بشيء اختلف علي فيه.
وقال سلام بن أبي مطيع، قال أيوب: لو كنت كاتبا عن أحد من الناس كتبت عن ابن شهاب.
"8 - مسعر بن كدام بن ظهير، ت 153":
ومنهم مسعر بن كدام بن ظهير بن رافع الهلالي الرواسي. وقيل له: الرواسي لكبر رأسه.
يكنى أبا سلمة، أحد الأئمة الأعلام الكوفيين.
وكان هشام بن عروة يقول: ما رأيت بالكوفة مثله.
وقال ابن عيينة: ما رأيت أفضل من مسعر.
وقال يحيى بن سعيد: ما رأيت مثل مسعر.
وكان ابن عيينة يحدث عن مسعر، ويقول: كان مسعر من معادن الصدق.
وقال الثوري: كنا إذا اختلفنا في شيء، سألنا مسعرا عنه.
وقال إبراهيم بن سعيد الجوهري: كان شعبة وسفيان إذا اختلفا قالا: اذهبا بنا إلى الميزان، مسعر.

(1/447)


قال ابن المديني: قلت ليحيى بن سعيد: أيما أثبت هشام الدستوائي أو مسعر؟ قال: كان مسعر؟ قال: كان مسعر أثبت الناس.
وقال أبو نعيم: ما رأيت أثبت في حديث من مسعر.
وقال ابن عيينة: قالوا للأعمش: أن مسعرا يشك في الحديث. قال: شك مسعر أحب إلي من يقين غيره.
وروى ابن أبي حاتم بإسناده، عن شعبة، قال: (كنا نسمي مسعرا) المصحف. كأنه يريد اتقانه، وضبطه.
وكان مسعر قانتا الله مخلصا يجتنب الشهرة يحب الخمول. وقد نسب إلى شيء من الأرجاء، فتكلم فيه الثوري وشريك بسبب ذلك.
"9 - شعبة بن الحجاج، ت 160":
ومنهم شعبة بن الحجاج بن الورد العتكي الأزدي الواسطي، يكنى أبا بسطام، سكن البصرة.
وهو أول من وسع الكلام في الجرح والتعديل، واتصال الأسانيد وانقطاعها، ونقب عن دقائق علم العلل، وأئمة هذا الشأن بعده تبع له في هذا العلم.
وقال صالح بن محمد الحافظ: أول من تلكم في الرجال شعبة بن الحجاج، ثم تبعه يحيى بن سعيد القطان ثم تبعه يحيى بن معين، وأحمد بن حنبل.

(1/448)


وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه، قال: كان شعبة أمة وحده في هذا الشأن يعني في الرجال، وبصره في الحديث وتثبته وتنقيته للرجال.
وقال عبد الله بن إدريس: كان شعبة قبان المحدثين.
وقال حماد بن زيد: قال لنا أيوب: الآن يقدم عليكم رجل من أهل واسط، هو فارس في الحديث، فخذوا عنه. قال حماد: فلما قدم شعبة أخذت عنه.
وقال أبو الوليد الطيالسي: قال لي حماد بن سلمة: إذا أردت الحديث فالزم شعبه.
قال أبو الوليد: وسمعت حماد بن زيد يقول: لا أبالي من خالفني إذا وافقني شعبة، لأن شعبة كان لا يرضى أن يسمع الحديث مرة، إذا خالفني شعبة في شيء تركته.
وكان الثوري يقول: شعبة أمير المؤمنين في الحديث، وكان يقول أستاذنا شعبة.
قال الشافعي: لولا شعبة ما عرف الحديث بالعراق.
وقال أحمد: شعبة أثبت في الحكم من الأعمش، وأعلم بحديث الحكم، ولولا شعبة ذهب حديث الحكم وشعبة أحسن حديثا من الثوري.

(1/449)


لم يكن في زمان شعبة مثله في الحديث، ولا أحسن حديثا منه قسم له من هذا حظ، وروى عن ثلاثين رجلا من أهل الكوفة لم يرو عنهم سفيان.
وقال أحمد أيضا: كان شعبة أثبت من سفيان وأنقى رجالا.
وقال مرة: شعبة أنبل رجالا وأنسق حديثا، يعني من سفيان.
وقال علي بن المديني: سمعت يحيى بن سعيد، يقول: كان شعبة أعلم بالرجال، عن فلان، عن فلان كذا وكذا. وكان سفيان صاحب أبواب. وكان شعبة أمر في الأحاديث الطوالات يعني أسرد لها.
وقال أبو داود: لما مات شعبة، قال سفيان: مات الحديث.
قيل له: هو أحسن حديثا من سفيان؟
قال: ليس في الدنيا أحسن حديثا من شعبة، ومالك على القلة - والزهري أحسن الناس حديثا، وشعبة يخطئ فيما لا يضره، ولا يعاب عليه يعني في الأسماء.
وقال العجلي: (شعبة) ثقة ثبت في الحديث. وكان يخطئ في أسماء الرجال قليلا.
وقال أحمد: ما أكثر ما يخطئ شعبة في أسامي الرجال.
وقال أيضا: كان شعبة يحفظ، لم يكتب إلا شيئا قليلا. ربما وهم في الشيء.

(1/450)


وقال أحمد: سئل عفان: أيما أقل خطأ شعبة أو سفيان؟ قال: شعبة بكثير.
قال يزيد بن هارون: لولا أن شعبة أراد الله ما ارتفع هكذا قال ابن أبي حاتم: يعني بكلامه في رواة العلم.
وقال أبو حاتم الرازي: كان الثوري قد غلب عليه شهوة الحديث وحفظه. وكان شعبة أبصر بالحديث وبالرجال. وكان الثوري أحفظ. وكان شعبة بصيرا بالحديث جدا، فهما له كأنه خلق لهذا الشأن.
وقد خرج ابن عدي عن الحسين بن يوسف عن الترمذي عن عبد بن حميد الحديث الذي خرجه الترمذي ههنا في اختلاف شعبة إلى شيوخه.
وخرج أيضا من حديث حماد بن زيد، قال: إذا خالفني شعبة في الحديث تبعته. قيل له: ولم؟
قال: إن شعبة كان يسمع ويعيد، ويبدي وكنت أنا أسمع مرة واحدة.
وقال يعقوب بن شيبة كان يقال: إن شعبة كان إذا لم يسمع الحديث مرتين لم يعتد به.
سمعت سهل بن محمد العسكري، أخبرني ابن أخي ابن أبي زائدة عن عمه يحيى بن زكريا بن أبي زائدة.
قال: سألت شعبة عن حديث فلم يحدثني به، وقال: لم أسمعه إلا مرة، فلا أحدثك به.
وخرج ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن أبي الوليد، قال: سألت شعبة عن حديث، فقال: لا أحدثك، إني سمعته من ابن عون مرة واحدة.

(1/451)


وقال أبو الوليد: قال حماد بن زيد شعبة كان لا يرضى أن يسمع الحديث مرة، يعاود صاحبه مرارا. ونحن كنا إذا سمعناه مرة اجتزينا به.
"10 - سفيان بن سعيد الثوري، ت161":
ومنهم سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، وليس من ثور همدان على الأصح، أبو عبد الله الكوفي، أحد الأئمة المجتهدين، والعلماء الربانيين الحفاظ المبرزين. وقد قال فيه شعبة وابن عيينة وأبو عاصم وابن معين وغيرهم: إنه أمير المؤمنين في الحديث.
وقال ابن المبارك: ما كتبت عن أحد أفضل منه.
وعنه قال: ما رأيت مثل سفيان.
وعن يونس بن عبيد، قال: ما رأيت أفضل من سفيان.
وقال ورقاء بن عمر: لم ير سفيان مثل نفسه.
وقال ابن عيينة: ما رأيت قط مثله.
قال عبد الرزاق: سمعت سفيان يقول: ما استودعت قلبي شيئا قط فخافني.

(1/452)


وكان شعبة يقول: سفيان أحفظ مني، وإذا خالفني في حديث فالحديث حديثه.
وقال يحيى بن سعيد: ما رأيت أحدا أحفظ من سفيان، ثم شعبة ثم هشيم.
وقال محمد بن خلاد: سمعت يحيى بن سعيد، وذكر شعبة وسفيان، فقال: سفيان أقل خطأ: لأنه يرجع إلى كتاب.
وقال ابن عيينة: ما بالعراق أحد يحفظ الحديث إلا سفيان.
وقال أبو داود الطيالسي، عن شعبة: ما حدثني أحد عن شيخ إلا وإذا سألته، يعني ذلك الشيخ، يأتي بخلاف ما حدث به. ما خلا سفيان الثوري فإنه لم يحدثني عن شيخ إلا وإذا سألته وجدته على ما قال سفيان.
وقال أحمد: سفيان أحفظ للإسناد وأسماء الرجال من شعبة.
وقال إسحاق بن هانئ: قلت لأحمد: إن اختلف سفيان وشعبة في الحديث، فالقول قول من؟ قال: سفيان أقل خطأ، وبقول سفيان آخذ.
وقال: الثوري أعلم بحديث الكوفيين ومشايخهم من الأعمش.
وقال: علم الناس إنما هو عن شعبة وسفيان وزائدة وزهير، هؤلاء أثبت الناس واعلم بالحديث من غيرهم.

(1/453)


وقال معاوية بن عمرو، عن زائدة: كنا نأتي الأعمش فيحدثنا فيكثر، ونأتي سفيان الثوري فنذكر له تلك الأحاديث، فيقول: ليس هذا من حديث الأعمش. فنقول: هو حدثنا به الساعة. فيقول: اذهبوا فقولوا له إن شئتم فنأتي الأعمش فنخبره بذلك، فيقول: صدق سفيان. ليس هذا من حديثنا.
وقال أبو حاتم الرازي: هو إمام أهل العراق، وأتقن أصحاب أبي إسحاق، وهو أحفظ من شعبة وإذا اختلف شعبة والثوري فالثوري.
وقال أبو زرعة: كان الثوري أحفظ من شعبة في إسناد الحديث ومتنه.
وقال أبو داود: ليس يختلف سفيان وشعبة في شيء إلا يظفر به سفيان. وخالفه في أكثر من خمسين حديثا، القول فيها قول سفيان.
قال: وبلغني عن يحيى بن معين، أنه قال: ما خالف أحد سفيان في شيء إلا كان القول قول سفيان.
وقال وهيب بن خالد: ما أدرك الناس أحفظ من سفيان.
قال الأشجعي: ذهبت مع سفيان إلى هشام بن عروة، فجعل سفيان

(1/454)


يسأل هشاما، وهشام يحدثه، حتى إذا فرغ قال له سفيان: أعيدها عليه. فأعادها (عليه) .
قال: ثم قال هشام لأصحاب الحديث: احفظوا كما حفظ صاحبكم.
قالوا: لا نستطيع أن نحفظ كما حفظ.
وذكر العجلي عن بعض الكوفيين عن شريك، قال: قدم علينا سالم الأفطس، فأتيته ومعي قرطاس فيه مائة حديث، فسألته عنها، فحدثني بها وسفيان يسمع، فلما (فرغ) قال لي سفيان:
أرني قرطاسك، فأعطيته (إياه) فخرقه فرجعت إلى منزلي فاستلقيت على قفاي، فحفظت منها سبعة تسعين حديثا، وذهبت عني ثلاثة. قال: وحفظها سفيان كلها.
كان سفيان ممرورا لا يخالطه شيء من البلغم (حتى كان يخاف عليه وكان لا يسمع شيئا إلا حفظه) .
وقال يحيى بن سعيد: سفيان فوق مالك في كل شيء.
وعن ابن المبارك، قال: لا أعلم على وجه الأرض أعلم من سفيان.
وعنه قال: ما رأيت أحدا خيرا من سفيان.

(1/455)


وعن ابن عيينة، قال: ما رأيت رجلا أعلم بالحلال والحرام من سفيان.
وقال زائدة: سفيان أعلم الناس في أنفسنا. وكان يرى أنه سيد المسلمين.
قال أحمد: قال ابن عيينة: لن ترى بعينيك مثل سفيان حتى تموت، قال أحمد: هو كما قال. قال أحمد: ما يتقدم سفيان في قلبي أحد. ثم قال: أتدري من الإمام؟ الإمام سفيان الثوري قال عبد الرحمن بن الحكم بن بشير: ما سمعت بعد التابعين بمثل سفيان. وقال المثنى بن الصباح: سفيان عالم الأمة وعابدها، وفضائله كثيرة جدا، وهي مذكورة في كتب كثيرة من تصانيف العلماء. وأفراد (أبو الفرج) بن الجوزي مناقبه في مجلد.
قال علي بن المديني: لا أعلم سفيان صحف في شيء قط، إلا في اسم امرأة أبي عبيد، كان يقول حفينة (يعني أن الصواب جفينة بالجيم) .
"11 - مالك بن أنس، ت 179":
ومنهم مالك بن أنس بن أبي عامر الأصبحي إمام دار الهجرة، المجتمع على إمامته وجلالته وفضله وعلمه.

(1/456)


قال الشافعي: إذا جاء الأثر فمالك النجم.
وقال أيضا: لولا مالك وسفيان لذهب علم الحجاز.
وقال أيضا: كان مالك إذا شك في الحديث تركه كله.
وقال أيضا: العلم يدور على مالك وابن عيينة والليث.
وقال ابن مهدي: ما أقدم على مالك في صحة الحديث أحدا.
وقال يحيى بن سعيد: ما في القوم أصح حديثا من مالك. يعني بالقوم مالكا والثوري وابن عيينة.
قال أحمد: مالك أصح حديثا من ابن عيينة. قيل له: فمعمر؟ فقدم عليه مالكا.
وسئل أي أصحاب الزهري أثبت؟ قال: مالك أثبت في كل شيء.
وقال ابن معين: أثبت أصحاب الزهري مالك، ثم معمر.
قال: ومالك أثبت في نافع من أيوب، وعبيد الله بن عمر، وليث بن سعد.
وقال الفلاس: أثبت من روى عن الزهري ممن لا يختلف فيه مالك بن أنس.
قال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يقول: كنت أنا وعلي بن المديني

(1/457)


فذكرنا أثبت من روى عن الزهري. فقال علي: سفيان بن عيينة. فقلت أنا: مالك بن أنس. وابن عيينة يخطئ في نحو من عشرين حديثا عن الزهري. وقلت هات ما أخطأ فيه مالك. فجاء بحديثين أو ثلاثة. قال: فنظرت ما أخطأ فيه سفيان بن عيينة فإذا هو أكثر من عشرين حديثا.
وقال أبو حاتم الرازي: مالك إمام أهل الحجاز، وهو أثبت أصحاب الزهري: وإذا خالفوا مالكا من أهل الحجاز حكم لمالك، ومالك نقي للرجال، نقي الحديث، وهو أتقن حديثا من الثوري والأوزاعي وأقوى في الزهري من ابن عيينة، وأقل خطأ منه (وأقوى) من معمر وابن أبي ذئب.
وقال أحمد: مالك من أثبت الناس، ولا تبالي أن (لا) تسأل عن رجل روى عنه مالك، ولا سيما مديني.
وسئل أحمد عن مالك وابن عيينة في الزهري، قال: مالك أثبت مع قلة ما روى وقال: معمر أحبهم إلي (وأحسنهم) حديثا وأصح، يعني أصحاب الزهري، وبعده مالك.
وسئل: أيما أثبت في نافع عبيد الله أو مالك؟ قال ليس أحد أثبت في نافع من عبيد الله، كذا نقله المروزي عن أحمد.
ونقل ابن هانئ عن أحمد، قال: أوثق أصحاب نافع، عندي:_،

(1/458)


أيوب ثم مالك ثم عبيد الله.
ونقل ابن هانئ عنه أيضا، قال: ليس أحد في نافع أثبت من عبيد الله بن عمر ولا أصح حديثا منه.
وهذا كله يخالف قول ابن معين.
وقد روى ابن أبي حاتم من طريق (ابن) مهدي، قال: قال وهيب لمالك: لم أر أروى عن نافع من عبيد الله بن عمر، إن كان حفظ. فقال مالك (صدقت) . قال وهيب، وقلت: لم أر أثبت عن نافع من أيوب، فضحك مالك، أي كأنه يريد (مالك) نفسه.
وذكر ابن أبي حاتم بإسناده، عن ابن عيينة، قال: ومن كان أطلب لحديث نافع وأعلم به من أيوب؟.
وقال ابن المديني: أثبتهم عندي أيوب.
وقال يحيى القطان: ابن جريج أثبت في نافع من مالك.
قال يحيى: مرسلات مالك أحب إلي من مرسلات الأعمش، والتيمي،

(1/459)


ويحيى بن أبي كثير، وأبي إسحاق: (وابن عيينة) ، والثوري. قال يحيى، ليس في القوم أصح حديثا من مالك.
وهذا معنى ما ذكره الترمذي عن يحيى أنه قال: مالك عن ابن المسيب أحب إلي من سفيان عن النخعي.
وقال النسائي: أمناء الله عز وجل على (علم) رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبة (بن الحجاج) ومالك بن أنس، ويحيى بن سعيد القطان. قال: والثوري إمام إلا أنه كان يروي عن الضعفاء. وكذلك ابن المبارك من أجل أهل زمانه إلا أنه يروي عن الضعفاء.
قال وما أحد عندي بعد التابعين أنبل من مالك، ولا أجل ولا آمن على الحديث (ثم "يليه" شعبة في الحديث، ثم يحيى القطان، ليس بعد التابعين آمن على الحديث) من هؤلاء الثلاثة ولا أقل رواية عن الضعفاء.
وقال يحيى القطان: سفيان وشعبة ليس لهما ثالث إلا مالك.
وقال ابن معين: مالك أمير المؤمنين في الحديث.
وقال ابن المديني: كل مدني لم يحدث عنه مالك ففي حديثه شيء. لا أعلم مالكا ترك إنسانا في حديثه شيء.
"12 - عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، ت 157":
ومنهم عبد الرحمن بن عمرو بن (يحمد) الأوزاعي أبو عمرو. إمام أهل

(1/460)


الشام، وأحد الأئمة الأعلام.
ذكر إسماعيل بن عياش أنه سمع الناس سنة أربعين ومائة يقولون: الأوزاعي اليوم عالم الأمة.
وقال مالك: الأوزاعي إمام يقتدى به. وكان مالك يرجحه على سفيان الثوري وغيره.
وقال عبد الله بن داود الخريبي، كان الأوزاعي أفضل أهل زمانه.
قال ابن معين: الأوزاعي أثبت من سفيان بن عيينة.
وقال إسحاق بن إبراهيم: إذا اجتمع سفيان الثوري ومالك بن أنس والأوزاعي على أمر فهو سنه، وإن لم يكن في كتاب ناطق، فإنهم أئمة.
وقال الفلاس: الأئمة خمسة، الأوزاعي بالشام والثوري بالكوفة ومالك بالحرمين، وشعبة وحماد بن زيد بالبصرة.
وذكر ابن مهدي: الأئمة أربعة، ولم يذكر شعبة، وقد خرجه الترمذي، وروى من غير وجه عن ابن مهدي.
وفي رواية عنه. قال: أئمة الناس في زمانهم أربعة، فذكرهم.
وقال ابن مهدي أيضا: لم يكن بالشام أعلم بالسنة من الأوزاعي.
وذكر الوليد بن مسلم عن الأوزاعي، قال: كنا نسمع الحديث فنعرضه

(1/461)


على أصحاب كما يعرض الدرهم الزائف على الصيارفة، فما عرفوا منه أخذنا، وما أنكروا منه تركنا.
"13 - حماد بن زيد، ت 179":
ومنهم حماد بن زيد بن درهم، أبو إسماعيل البصري، أحد الأعلام الأثبات.
قال أحمد: هو من أئمة المسلمين، من أهل الدين والإسلام، وهو أحب إلي من حماد بن سلمة، يعني في صحة الحديث.
وقال ابن مهدي: لم أر أحدا قط أعلم بالسنة، وما يدخل في السنة من حماد بن زيد.
وقال ابن مهدي أيضا: ما رأيت أحدا لم يكتب الحديث أحفظ من حماد بن زيد. وقال أيضا: ما رأيت بالبصرة أفقه منه.
وروي عنه، قال: ما رأيت أعلم من حماد بن زيد (ولا من سفيان من مالك) .
وسئل وكيع: أيهما أحفظ حماد بن زيد أو ابن سلمة؟.
قال: حماد بن زيد، ما كنا نشبه حماد بن زيد إلا بمسعر.
وقال الثوري: هو رجل أهل البصرة.

(1/462)


وقال يحيى بن يحيى: ما رأيت أحدا من الشيوخ أحفظ من حماد بن زيد.
وقال سليمان بن حرب: سمعت حماد بن زيد يحدث بالحديث، فيقول سمعته منذ خمسين سنة، ولم أحدث (به) قبل اليوم. ولم يكن له كتب إلا كتاب ليحيى بن سعيد الأنصاري.
وقال يزيد بن زريع: حماد بن زيد أثبت في الحديث من حماد بن سلمة.
وقال ابن معين: حماد بن زيد أثبت من عبد الوارث، وابن علية والثقفي، وابن عيينة.
وقال أبو الوليد: يرون أن حماد بن زيد دون شعبة في الحديث.
وقال أبو زرعة: حماد بن زيد أثبت من حماد بن سلمة بكثير، أصح حديثا وأتقن.
وقال أحمد: ما عندي أعلم بحديث أيوب من حماد بن زيد، وقد أخطأ في غير شيء.
وقال أحمد: ما عندي أعلم بحديث أيوب من حماد بن زيد، وقد أخطأ في غير شيء.
وقال ابن معين: ليس أحد أثبت في أيوب من حماد بن زيد.
وقال ابن مهدي: ليس أحد أثبت في أيوب من حماد بن زيد.
وقال ابن مهدي: لم يكن عنده كتاب إلا جزء ليحيى بن سعيد، وكان يخلط فيه.
وذكر (ابن حبان) وغيره: أنه كان ضريرا، وكان يحفظ حديثه كله.

(1/463)


وقال وهب بن جرير: سأل رجل شعبة عن حديث من حديث أيوب، فقال له: يا مجنون تسألني عن حديث (من حديث) أيوب وحماد إلى جنبك.
وقال سليمان بن حرب: حماد بن زيد في أيوب أكبر من كل من روى عن أيوب.
وقال ابن معين: إذا اختلف إسماعيل ابن علية وحماد بن زيد في أيوب كان القول قول حماد، قيل ليحيى: فإن خالفه سفيان الثوري؟ قال: فالقول قول حماد بن زيد في أيوب. قال يحيى: ومن خالفه من الناس جميعا في أيوب فالقول قوله.
ولما مات حماد بن زيد قال يزيد بن زريع: مات سيد المسلمين.
"14 - يحيى بن سعيد القطان، ت 198":
ومنهم يحيى بن سعيد القطان، أبو سعيد، خليفة شعبة، والقائم بعده مقامه في هذا العلم وعنه تلقاه أئمة هذا الشأن، كأحمد، وعلي، ويحيى، ونحوهم. وقد كان شعبة يحكمه على نفسه في هذا العلم.
ذكر ابن أبي حاتم عن أبيه عن رستة الأصبهاني، قال، سمعت ابن مهدي يقول: اختلفوا يوما عند شعبة فقالوا: اجعل بيننا وبينك حكما. فقال: قد رضيت بالأحوال، يعني يحيى بن سعيد القطان، فجاء يحيى فتحاكموا إليه، فقضى على شعبة، فقال له شعبة: ومن يطيق نقدك يا أحوال؟ أو من له مثل نقدك؟.

(1/464)


وقال ابن معين: قال لي عبد الرحمن بن مهدي: لا ترى بعينيك مثل يحيى بن سعيد القطان أبدا.
وقال الإمام أحمد: ما رأينا مثل يحيى بن سعيد في هذا الشأن (يعني في معرفة الحديث ورواته، هو كان صاحب هذا الشأن) ، وجعل يرفع أمره جدا.
وقال أحمد أيضا: لم يكن في زمان يحيى القطان مثله: كان تعلم من شعبة.
وسئل أحمد عن يحيى وابن مهدي ووكيع، فقال: كان يحيى أبصرهم بالرجال، وأنقاهم حديثا، وأظنه قال: وأثبتهم حديثا.
وقال أيضا: لا يقاس بيحيى بن سعيد في العلم أحد.
وقال أيضا: ما رأيت في الحديث أثبت منه.
وقال سهيل (بن صالح) . سألت أحمد بن حنبل، فقلت: يحيى القطان، وابن المبارك إذا اختلفا في حديث، فقول من تقدم؟ فقال: ليس نقدم نحن على يحيى أحدا.
وقال أبو حاتم الرازي: إذا اختلف ابن المبارك ويحيى بن سعيد وسفيان بن عيينة في حديث، آخذ بقول يحيى.
قال ابن المديني: ما رأيت أحدا أنفع للإسلام وأهله من يحيى بن سعيد القطان.

(1/465)


قال (علي) : سمعت يحيى بن سعيد يقول: ينبغي لصاحب الحديث أن يكون ثبت الأخذ ويكون يفهم ما يقال له، ويبصر الرجال، ثم يتعاهد ذاك.
وقال البخاري: أعلم الناس بالثوري يحيى بن سعيد، لأنه عرف صحيح حديثه من تدليسه.
وقال أبو علي الحافظ: (ثنا) أبو بكر الواسطي، قال: سمعت علي بن المديني، يقول: شعبة أحفظ الناس للمشايخ، وسفيان أحفظ الناس للأبواب، وابن مهدي أحفظهم، (ثم إنه) قال: للمشايخ والأبواب، ويحيى بن سعيد أعرف بمخارج الأسانيد، وأعرف بمواضع الطعن من جمعيهم.
وقال يحيى بن غيلان: سمعت يحيى بن سعيد يقول: ما تركت حديث محمد بن إسحاق إلا لله.
وقال أبو بكر بن خلاد: دخلت على يحيى بن سعيد في مرضه، فقال لي: يا أبا بكر، ما تركت أهل البصرة يتكلمون؟ قلت: يذكرون خيرا، إلا أنهم يخافون عليك من كلامك في الناس. فقال:
احفظ عني، لأن يكون خصمي (في الآخرة) رجل من عرض الناس أحب إلي من أن يكون خصمي في الآخرة النبي صلى الله عليه وسلم يقول: بلغك عني حديث وقع في وهمك أنه عني غير صحيح، يعني فلم تنكر.

(1/466)


"15 - عبد الرحمن بن مهدي، ت 198":

ومنهم عبد الرحمن بن مهدي البصري، قرين يحيى بن سعيد، ويكنى أبا سعيد أيضا.
قال حسين بن عروة: كنا عند حماد بن زيد، وعنده عبد الرحمن بن مهدي، فقال حماد: إن كان أحد يؤتى لهذا الشأن، فهو هذا الشاب.
وقال جرير الرازي: ما رأيت مثل عبد الرحمن بن مهدي، ووصف عنه بصرا بالحديث وحفظا.
وقال ابن المديني: كان ابن مهدي أعلم الناس، قالها مرارا.
وفي رواية عنه: قال: أعلم الناس بالحديث عبد الرحمن بن مهدي.
وقال أيضا: (أعلم الناس بزيد بن ثابت وقوله عشرة، وسماهم، أولهم سعيد بن المسيب. قال: وكان) أعلم الناس بقولهم وحديثهم ابن شهاب، ثم بعده مالك، ثم بعد مالك عبد الرحمن بن مهدي.

(1/467)


وقال أبو حاتم: (ثنا محمد بن صفوان. قال: سمعت ابن المديني يقول: لو أخذت فأحلقت بين الركن والمقام لحلفت بالله أنني لم أر أحدا قط أعلم بالحديث من عبد الرحمن بن مهدي.
وقال صالح بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي: أيما أثبت عندك: عبد الرحمن بن مهدي أو وكيع؟ قال:
عبد الرحمن أقل سقطا من وكيع في سفيان، قد خالفه وكيع في ستين حديثا من حديث سفيان، وكان عبد الرحمن يجيء بها على ألفاظها، وكان لعبد الرحمن توق حسن.
وقال محمد بن أبي بكر المقدمي: ما رأيت أحدا أتقن لما سمع، ولما لم يسمع من عبد الرحمن بن مهدي.
وقال أبو حاتم الرازي: عبد الرحمن بن مهدي أثبت من يحيى بن سعيد وأتقن من وكيع وكان عرض حديثه علي سفيان الثوري.
وقال الإمام أحمد أيضا (في ابن مهدي) - رحمه الله - ما كان أشد تتبعه للألفاظ، وأشد توقيه.
وقال: كان (حافظا) ، وكان يتوقى كثيرا، كان يحب أن يحدث باللفظ.
قال: وهو إمام من أئمة المسلمين.

(1/468)


وقال: لم يكن يكثر الحديث جدا، كان الغالب عليه حديث سفيان.
قال: وكان يتوسع في الفقه، كان فيه أوسع من يحيى، كان يحيى يميل إلى قول الكوفيين، وكان عبد الرحمن يذهب إلى بعض مذاهب الحديث، وإلى رأي المدنيين. نقل ذلك كله الأثرم عن الإمام أحمد.
وقال أبو حاتم الرازي: سئل أحمد عن يحيى وعبد الرحمن ووكيع فقال: كان عبد الرحمن أكثرهم حديثا.
وروى الحافظ أبو نعيم بإسناده عن القواريري. قال: كان ابن مهدي يعرف حديثه وحديث غيره وكان يحيى بن سعيد يعرف حديثه.
وعن حماد بن زيد، قال: لئن عاش ابن مهدي ليخرجن رجل أهل البصرة.
وعن حماد، أنه سئل عن مسألة. فقال: من لهذا إلا ابن مهدي فأقبل عبد الرحمن فسألوه عن ذلك: فأجاب، فلما (قما) من عنده قال: هذا سيد أو فتى أهل البصرة منذ ثلاثين سنة أو نحو هذا.
وعن القواريري، قال: أملى على عبد الرحمن بن مهدي عشرين ألف حديث حفظا.
وعن أحمد بن حنبل، قال: كأن عبد الرحمن بن مهدي خلق للحديث.
وعن مهنا، سألت أحمد أيهما أفقه: عبد الرحمن أو يحيى؟ قال: عبد الرحمن.
وعن ابن المديني، قال: كان علم عبد الرحمن بن مهدي في الحديث كالسحر.
وقال نعيم بن حماد: قلت لابن مهدي: كيف تعرف صحيح الحديث وسقيمه؟ قال: كما يعرف الطبيب المجنون.

(1/469)


وعن ابن نمير، قال: ابن مهدي: معرفة الحديث إلهام. قال ابن نمير: صدق، لو قلت له: من أين؟.
لم يكن له جواب.
وقال ابن مهدي: لا يجوز أن يكون الرجل إماما حتى يعلم ما يصح مما لا يصح، وحتى لا يحتج بكل شيء، وحتى يعلم مخارج العلم.
وقال ابن مهدي: لأن أعرف (علة) حديث واحد أحب إلي من أن أستفيد عشرة أحاديث.
وعنه قال: لا يكون إماما في الحديث من يحدث بكل ما سمع ولا يكون إماما في العلم من يحدث عن كل أحد، ولا يكون إماما في العلم من يحدث بالشاذ من العلم، (والحفظ والإتقان) .
"16 - وكيع بن الجراح مليح، ت 196":

ومنهم وكيع بن الجراح بن مليح بن فرس بن عدي، أبو سفيان الرؤاسي الكوفي، أحد الأئمة الأعلام.
وقال أحمد: ما رأيت أحدا أوعى للعلم من وكيع، ولا أشبه بأهل النسك.

(1/470)


وقال أيضا: كان وكيع حافظا (حافظا) ، وكان أحفظ من ابن مهدي (كثيرا كثيرا) .
وقال أيضا: ما رأيت أحد ممن أدركنا كان أحفظ للحديث من وكيع.
وقال: أيضا -: وكيع كان يحفظ عن سفيان وعن المشايخ، فلم يكن يصحف.
وقال: أيضا -: ما رأيت أحدا كان أجمع من وكيع.
وقال: وما كتبت عن أحد أكثر مما كتبت عنه.
وقال إسحاق بن راهويه: حفظي وحفظ ابن المبارك تكلف، وحفظ وكيع أصلي، قام وكيع يوما قائما، ووضع يده على الحائط وحدث بسبعمائة حديث.
وقال بشر بن السري، وسهل بن عثمان، ويحيى بن معين، ما رأينا أحفظ من وكيع.
وقال إبراهيم بن شماس: وكيع أحفظ الناس.
وسئل أحمد بن يحيى وابن مهدي ووكيع، فقال: كان وكيع أسردهم.

(1/471)


قال أبو حاتم: وكيع أحفظ من ابن المبارك.
وقال يحيى بن يمان: إن لهذا الحديث رجالا خلفهم الله منذ خلق السماوات والأرض، وان وكيعا منهم.
وقال حماد بن زيد: ليس الثوري عندنا بأفضل من وكيع.
وسئل عبد الرحمن: من أثبت في الأعمش بعد الثوري؟ قال: ما أعدل بوكيع أحدا.
قال له رجل: يقولون أبو معاوية، فنفر من ذلك، وقال: أبو معاوية عنده كذا وكذا وهما.
وقال ابن معين وكيع أحب إلي في سفيان من عبد الرحمن بن مهدي. فذكر ذلك لأبي حاتم، وقيل له: أيهما أحب إليك؟ فقال: عبد الرحمن ثبت، ووكيع ثقة. وظاهر هذا أنه قدم عبد الرحمن على وكيع.
وقال ابن معين: ما رأيت أحفظ من وكيع.
وقال أيضا: من فضل عبد الرحمن بن مهدي على وكيع لعنه يحيى.
وعن عبد الرزاق، قال: رأيت الثوري وابن عيينة ومعمرا ومالكا، ورأيت ورأيت فما رأت عيناي قط مثل وكيع.

(1/472)


وقال محمد بن عبد الله بن نمير وكيع: أعلم بالحديث من ابن إدريس وكانوا إذا رأوا وكيعا سكتوا، يعني للحفظ والاجلال.
"الأعلام الذين لم يترجم لهم الترمذي"

فهذا ما أشار إليه الترمذي من تراجم بعض أعيان الأئمة الحفاظ المقتدى بهم في هذا العلم.
وذكر أنه ذكره على وجه الاختصار، ليستدل به على منازلهم، وتفاوت مراتبهم في الحفظ.
ونذكر بعض تراجم الأئمة الذين تكرر ذكرهم في هذا الكتاب في أثناء الأبواب، وحكى عنهم الكلام في الجرح والتعديل والعلل. ولم يذكرهم ها هنا.
"17 - عبد الله بن المبارك":

فمنهم عبد الله بن المبارك الخراساني، أبو عبد الرحمن، إمام خراسان الجامع بين الخلال الحسان.
وقال ابن عيينة: كان فقيها عالما زاهدا سخيا شجاعا شاعرا.
وقال أحمد: لم يكن في زمن ابن المبارك أطلب للعلم منه، رحل إلى

(1/473)


اليمن وإلى مصر والشام والبصرة والكوفة. وكان من رواة العلم. وكان أهل ذاك. كتب عن الصغار والكبار، وجمع أمرا عظيما. ما كان أحد أقل سقطا من ابن المبارك. وكان يحدث من حفظه، ولم يكن ينظر في كتاب.
وقال أيضا: ما أخرجت خراسان مثل ابن المبارك.
وعن الثوري، قال: ابن المبارك أعلم أهل المشرق وأهل المغرب.
وعن ابن عيينة، قال: ابن المبارك عالم المشرق والمغرب وما بينهما.
وقال ابن مهدي: ما رأيت مثل ابن المبارك، فقيل له: ولا سفيان ولا شعبة؟
قال: ولا سفيان، ولا شعبة.
وقال (معمر) بن سليمان: ما رأيت مثل ابن المبارك نصيب عنده شيء الذي لا يصاب عند أحد.
وقال أبو الوليد الطيالسي: ما رأيت أجمع من ابن المبارك.
وروى ابن الطباع، عن ابن مهدي، قال: الأئمة أربعة: الثوري

(1/474)


ومالك، وحماد بن زيد، وابن المبارك.
وقال أبو إسحاق الفزاري: ابن المبارك إمام المسلمين.
وقال نعيم بن حماد: قلت لابن مهدي: أيهما أفضل عندك ابن المبارك أو سفيان؟.
قال: ابن المبارك.
قلت: إن الناس يخالفونك. قال: إن الناس لم يجربوا. ما رأيت مثل ابن المبارك.
وعنه قال: ابن المبارك أثبت من الثوري.
وقال سنيد عن شعيب بن حرب: سمعت سفيان الثوري يقول: لو جهدت جهدي أن أكون في السنة ثلاثة أيام على ما عليه ابن المبارك، لم أقدر عليه.
وقال ابن عيينة: لا ترى عينك مثل ابن المبارك.
وسئل ابن (معين) : من أثبت في حيوة، ابن المبارك، أو ابن وهب؟

(1/475)


قال ابن المبارك أثبت منه. يعني ابن وهب، في جميع ما يروي. ثم قال: ابن المبارك بابه يحيى بن سعيد القطان يعني انه يشبهه.
وقال أسود بن سالم: كان ابن المبارك إماما يقتدى به. كان من أثبت الناس في السنة، إذا رأيت رجلا يغمز ابن المبارك بشيء فاتهمه على الإسلام.
وقال الأوزاعي لرجل: لو رأيت ابن المبارك لقرت عينيك.
ولما مات ابن المبارك، قال الفضيل بن عياض: ما خلف بعده مثله.
وعن ابن عيينة، قال: نظرت في الصحابة فما رأيت لهم فضلا على ابن المبارك إلا صحبتهم النبي صلى الله عليه وسلم وغزوهم معه.
وعن أبي أسامة، قال: كان ابن المبارك في أصحاب الحديث مثل أمير المؤمنين (في الناس) .
وقال شعيب بن حرب: ما لقي ابن المبارك رجلا إلا وابن المبارك أفضل منه.
وقال الحسن بن عياش: لم يأخذ ابن المبارك في فن من الفنون إلا يخيل إليك أن علمه كان فيه.
وقال إسماعيل بن عياش: ما على وجه الأرض مثل ابن المبارك، وملا أعلم أن الله خلق خصلة من خصال الخير إلا وقد جعلها فيه.

(1/476)


وقال عبد العزيز بن أبي رزمة: لم تكن خصلة من خصال البر إلا جمعت في ابن المبارك.
حياء، وكرم، وحسن خلق، وحسن صحبة، حسن المجالسة والزهد والورع وكل شيء.
وقال الحسن بن عيسى: اجتمع جماعة من أصحاب ابن المبارك مثل الفضل بن موسى، ومخلد بن حسين ومحمد بن النضر، فقالوا: تعالوا حتى نعد خصال ابن المبارك، من أبواب الخير، فقالوا:
جمع العلم، والفقه، والأدب، والنحو، واللغة، والزهد، والشعر، والفصاحة، والورع، والإنصاف، وقيام الليل، والعبادة، والحج، والغزو والشجاعة، والفروسية، والشدة في بدنه، وترك الكلام فيما لا يعنيه، وقلة الخلاف على أصحابه.
وقال العباس بن مصعب: جمع ابن المبارك الحديث والفقه والعربية وأيام الناس والشجاعة، والتجارة، والسخاء، والمحبة عند الفرق.
وقال ابن المديني: ابن المبارك أوسع علما من ابن مهدي ويحيى بن آدم.
478
- وقال جعفر الطيالسي: قلت لابن معين: إذا اختلف يحيى القطان ووكيع؟ قال: القول قول يحيى. قلت: إذا اختلف عبد الرحمن ويحيى؟ قال: يحتاج من يفصل بينهما. قلت: أبو نعيم وعبد الرحمن؟ قال: يحتاد من يفصل بينهما. قلت: ابن المبارك؟ قال: ذاك أمير المؤمنين.
وقال النسائي: أثبت أصحاب الأوزاعي ابن المبارك.
وقال إبراهيم الحربي. عن أحمد: إذا اختلف أصحاب معمر فالقول قول ابن المبارك.
وقال نعيم بن حماد: قال ابن المبارك: قال لي أبي: لئن وجدت كتبك لأحرقنها.
فقلت له: وما علي من ذلك وهو في صدري.
وكان ابن المبارك، يقول: لنا في صحيح الحديث شغل عن سقيمه.
وقال: العلم ما يجيئك من هنا وهنا، يعني المشهور.
وقيل له: هذه الأحاديث المصنوعة؟ قال: تعيش لها الجهابذة.
وفضائله ومناقبه كثيرة جدا.
وله تصانيف كثيرة في فنون العلم - رضي الله عنهـ -.
"18 - الإمام أحمد بن حنبل، ت 241":

ومنهم الإمام أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني: أبو عبد الله رباني الأمة في وقته وعالمها وفقيهها، وحافظها وعابدها، وزاهدها وشهرة فضائله ومناقبه تغني عن الإطالة فيها، وقد أفرد العلماء، التصانيف لمناقبه، فمنهم من طول، ومنهم من قصر.

(1/477)


وممن أفرد التصنيف لمناقبه: ابن أبي حاتم، وابن شاهين والبيهقي، وأبو إسماعيل الأنصاري ويحيى بن مندة، وابن الجوزي.
وقد أفردت مصنفا لمناقبه، ونذكر ههنا نبذة يسيرة من فضائله في الحديث وعلومه، لأن المقصود يحصل بذلك ههنا.
قال عبد الله بن أحمد: كتب أبي ألف ألف حديث، وترك لقوم لم يرو عنهم مائتي ألف حديث.
وقال أبو زرعة: كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث، فقيل له وما يدريك؟.
قال: ذاكرته، فأخذت عليه الأبواب.
وسئل أبو زرعة: أنت أحفظ، أم أحمد بن حنبل؟.
قال: بل أحمد. قالوا: كيف علمت ذاك؟ قال: وجدت كتب أحمد بن حنبل ليس فيها في أوائل الأجزاء ترجمة أسماء المحدثين الذين سمع منهم، فكان يحفظ كل جزء ممن سمعه وأنا أقدر على هذا.
وعن أبي زرعة، قال: أتيت أحمد بن حنبل، فقلت أخرج إلى حديث سفيان، فأخرج إلى أجزاء كلها سفيان، سفيان، ليس على حديث منها (ثنا) فلان فظننت أنها عن رجل واحد، فجعلت أنتخب فلما قرأ علي جعل يقول في

(1/479)


الحديث: (ثنا) وكيع ويحيى، و (ثنا) فلان. قال: فعجبت من ذلك. قال أبو زرعة: فجهدت في عمري أن أقدر على شيء من هذا فلم أقدر.
وقال عبد الله بن أحمد: قال لي أبي: خذ أي كتاب شئت من كتب وكيع من (المصنف) فإن شئت تسألني عن الكلام حتى أخبرك بالإسناد، وإن شئت بالإسناد حتى أخبرك: بالكلام.
وقيل لأبي زرعة من رأيت من المشايخ المحدثين أحفظ؟.
قال: أحمد بن حنبل حزر كتبه اليوم الذي مات فيه فبلغت اثني عشر حملا وعدلا، ما كان على ظهر كتاب منها حديث فلان، ولا في بطنه (ثنا) فلان، وكل ذلك كان يحفظه عن ظهر قلبه.
وقال صالح بن أحمد: قال أبي: كتبت بخطي ألف ألف حديث سوى ما كتب لي.
وقال أحمد بن الدورقي: سمعت أحمد يقول: نحن كتبنا الحديث من ستة أوجه وسبعة وجوه ولم نضبطه، كيف يضبطه من كتبه من وجه واحد أو نحو هذا؟
وقال أبو عبيد: انتهى العلم إلى أربعة: إلى أحمد بن حنبل وهو أفقههم فيه، وإلى ابن أبي شيبة وهو أحفظهم له، وإلى علي بن المديني، وهو أعلمهم

(1/480)


به، وإلى يحيى بن معين، وهو أكتبهم له.
وذكر يحيى بن مندة في مناقب أحمد بإسناده له عن أبي عبيد، قال: ربانيو العلم أربعة، فأعرفهم بالحلال والحرام أحمد بن حنبل، وأحسنهم سياقة للحديث علي بن المديني، وأحسنهم معرفة بالرجال يحيى بن معين، أحسنهم وضعا للباب أبو بكر بن أبي شيبة.
وقال إبراهيم الحربي: انتهى علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رواه أهل المدينة وأهل الكوفة وأهل البصرة وأهل الشام، إلى أربعة:
إلى أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وأبي خيثمة، وأبي بكر بن أبي شيبة، وكان أحمد أفقه القوم.
وقال عبد الرزاق: رحل إلينا من العراق أربعة من رؤساء الحديث الشاذكوني، وكان أحفظهم للحديث، ابن المديني، وكان أعرفهم باختلافه ويحيى بن معين. وكان أعلمهم بالرجال، وأحمد بن حنبل، كان أجمعهم لذلك كله.
وقال ابن المديني: ليس في أصحابنا أحفظ من أبي عبد الله، أحمد بن حنبل، وبلغني أنه لا يحدث إلا من كتاب، ولنا فيه أسوة.
وسئل أبو زرعة: عن علي بن المديني ويحيى بن معين، أيهما كان أحفظ؟ قال: كان علي أسرد وأتقن، ويحيى أفهم بصحيح الحديث وسقيمه.

(1/481)


وأجمعهم أبو عبد الله بن حنبل، كان صاحب حفظ، وصاحب فقه، وصاحب معرفة.
قال: وما أعلم في أصحابنا أفقه من أحمد.
قيل له: اختيار أحمد وإسحاق أحب إليك، أم قول الشافعي؟ قال: بل اختيار أحمد وإسحاق أحب إلي.
وقال: ما رأت عيناي مثل أحمد في العلم والزهد والفقه والمعرفة وكل خير.
وقال أبو زرعة أيضا: ما رأيت مثل أحمد في فنون العلم.
وقال أيضا: ما رأيت أجمع من أحمد بن حنبل.
قيل (له) : إسحاق؟.
قال: أحمد أكبر من إسحاق، وأفقه من إسحاق.
وسئل أبو حاتم الرازي: عن أحمد وعلي بن المديني أيهما كان أحفظ؟ قال: كانا في الحفظ متقاربين، وكان أحمد أفقه.
قال أبو حاتم: وكان أحمد بارع الفهم بمعرفة الحديث، بصحيحه وسقيمه. وتعلم الشافعي أشياء من معرفة الحديث منه. وكان الشافعي يقول لأحمد: حديث كذا وكذا قوي الإسناد محفوظ؟ فإذا قال: نعم جعله أصلا، وبنى عليه.

(1/482)


وقال أحمد بن (سلمة) : قلت لأبي حاتم الرازي: أراك في الفتوى على قول أحمد وإسحاق، وعند كتاب الشافعي، وكتاب مالك والثوري وشريك، فتركت هؤلاء كلهم، وأقبلت على قول أحمد وإسحاق.
قال: لا أعلم في دهر ولا عصر مثل هذين الرجلين رحلا وكتبا وذاكرا وصنفا.
وقال النسائي: لم يكن في عصر أحمد مثل هؤلاء الأربعة: أحمد ويحيى، وعلي، وإسحاق، وأعلمهم علي بالحديث وعلله، وأعلمهم بالرجال وأكثرهم حديثا يحيى، وأحفظهم للحديث والفقه إسحاق، إلا أن أحمد بن حنبل كان - عندي - أعلم بعلل الحديث من إسحاق، وجمع أحمد المعرفة بالحديث والفقه والورع والزهد.
وقال العجلي: أحمد ثقة، ثبت في الحديث فقه في الحديث، متبع للآثار، وصاحب سنة (وخبر) نزه النفس.
وقال قتيبة: أحمد وإسحاق إماما الدنيا.
وقال: لو أدرك أحمد عصر الثوري ومالك والأوزاعي والليث لكان هو المقدم.

(1/483)


قلت: تضم أحمد إلى التابعين؟ قال: إلى كبار التابعين.
وقال أبو عبد الله البوشنجي: (أحمد) - عندي - أفضل من سفيان الثوري، لأن سفيان لم يمتحن من الشدة والبلوى بمثل ما امتحن به أحمد ولا علم سفيان ومن تقدم من فقهاء الأمصار كعلم أحمد لأنه كان أجمع لها، وأبصر (بمتقنهم) ، وغالطهم، وصدوقهم، وكذوبهم (منه) .
وقال زكريا الساجي: أحمد أفضل عندي من مالك والأوزاعي والثوري، والشافعي، لأن لهؤلاء نظيرا، وأحمد (لا) نظير له، يعني في وقتهم ووقته - رضي الله عنهم أجمعين -.
"19 - علي بن المديني، ت234":

ومنهم علي بن عبد الله بن جعفر بن نجيح المديني السعدي البصري أبو الحسن، أحد الأئمة الحفاظ المبرزين في علم الحديث وعلله.
كان ابن عيينة - وهو أحد شيوخه - يروي عنه ويقول: "يلومونني على

(1/484)


حبه) والله ما أتعلم منه أكثر مما يتعلم مني.
وكذا روي عن يحيى القطان أنه قال: أنا أتعلم من علي أكثر مما يتعلم مني.
وعلي بن المديني هو شيخ البخاري، وعنه (تلقى) هذا العلم.
وكان البخاري يقول: ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني.
وقال أبو حاتم الرازي: كان علي بن المديني علما في الناس، في معرفة الحديث والعلل.
وكان أحمد بن حنبل لا يسميه، وإنما يكنيه "أبو الحسن" تبجيلا له.
وسئل أبو حاتم عن علي وأحمد: أيهما أحفظ؟ قال: كانا في الحفظ متقاربين. وكان أحمد أفقه، وكان علي أفهم للحديث.
وقال هارون بن إسحاق الهمداني: الكلام في صحة الحديث وسقيمه لأحمد بن حنبل وعلي بن المديني.
وسئل ابن وارة الحافظ عن ابن المديني وابن معين، أيهما أحفظ؟ قال: كان علي أسرد، وأتقن.

(1/485)


وقال ابن حبان: سمعت علي بن أحمد الجرجاني بحلب، يقول: سمعت حنبل بن إسحاق يقول: سمعت عمي أحمد بن حنبل يقول: أحفظنا للطوالات، الشاذكوني، وأعرفنا بالرجال يحيى بن معين، وأعلمنا بالعلل علي بن المديني، وكأنه أومأ إلى نفسه انه أفقههم.
ولابن المديني تصانيف كثيرة في علوم الحديث منها:
كتاب الأسامي والكنى، ثمانية أجزاء.
كتاب المدليسن، خمسة أجزاء.
كتاب أول من نظر في الرجال، وفحص عنهم، جزء.
الطبقان، عشرة أجزاء.
من روى عن رجل لم يره، جزء.
علل المسند، ثلاثون جزء.
العلل التي كتبها عنه إسماعيل القاضي، أربعة عشر جزءا.
علل حديث ابن عيينة، ثلاثة عشر جزءا.
كتاب من (لا يحتج) بحديث ولا يسقط، جزءان.
(الكنى) ، خمسة أجزاء.
الوهم والخطأ، خمسة أجزاء.
قبائل العرب، عشرة أجزاء.
من نزل من الصحابة سائر البلدان، خمسة أجزاء.

(1/486)


التاريخ، عشرة أجزاء.
العرض على المحدث جزآن.
من حدث ثم رجع عنه، جزء.
كتاب يحيى وعبد الرحمن في الرجال خمسة أجزاء.
سؤالات يحيى، جزآن.
كتاب الثقات والمتثبتين، عشرة أجزاء.
اختلاف الحديث، خمسة أجزاء.
الأسامي الشاذة، ثلاثة أجزاء.
الأشربة، ثلاثة أجزاء.
تفسير غريب الحديث، خمسة أجزاء.
الإخوة والأخوات، ثلاثة أجزاء.
من يعرف باسمه دون اسم أبيه، جزآن.
من يعرف (باللقب) ، جزء.
العلل المتفرقة، ثلاثون جزءا.
مذاهب المحدثين، جزآن.
كان ابن المديني قد امتحن في محنة خلق القرآن، فأجاب مكرها، ثم إنه تقرب إلى ابن أبي دؤاد حيث استماله بدنياه وصحبه وعظمه، فوقع بسبب

(1/487)


ذلك في أمور صعبة حتى إنه كان يتكلم في طائفة من أعيان أهل الحديث ليرضي بذلك ابن أبي (دؤاد) ، فهجره الإمام أحمد لذلك وعظمت الشناعة عليه حتى صار عند الناس كأنه مرتد، وترك أحمد الرواية عنه، وكذلك (إبراهيم) الحربي وغيرهما.
وكان يحيى بن معين (يقول) : هو رجل خاف فقال ما عليه.
ولو اقتصر على ما ذكره ابن معين لعذر، لكن حاله كما وصفنا.
وقد روي عنه أنه قال: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر. والله تعالى. يرحمه ويسامحه بمنه وكرمه.
"20 - يحيى بن معين، ت 233":

ومنهم يحيى بن معين، (أبو) زكريا البغدادي، الإمام المطلق في الجرح والتعديل، وإلى قوله في ذلك يرجع الناس، وعلى كلامه فيه يعولون.
وقد قال هلال بن العلاء وحجاج بن الشاعر: من الله على هذه

(1/488)


الأمة بيحيى بن معين، نفى الكذب عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال أحمد بن (عقبة) : سألت يحيى بن معين: كم كتبت من الحديث؟. قال: كتبت بيدي هذه ستمائة ألف حديث. قال (أحمد) : وإني أظن المحدثين قد كتبوا له بأيديهم ستمائة ألف (وستمائة ألف) .
وقال علي بن المديني: حديث الثقات يدور على (ستة) ، وذكرهم قال: وما شذ عنهم يصير إلى اثني عشر، فذكرهم.
(ثم قال) : صار حديث هؤلاء كلهم إلى يحيى بن معين.
وذكر داود بن رشيد: أن يحيى بن معين خلف له أبوه ألف ألف درهم وخمسين ألف درهم، فأنفقه كله على الحديث حتى لم يبق له نعل يلبسه.
وكان يحيى يوسع القول في الجرح، ولا يحابي أحدا، بل يصدع به في وجه صاحبه، ولهذا قال عبد الله بن أحمد الدورقي: كل من سكت عنه يحيى بن معين فهو ثقة.
وسئل ابن وارة عن ابن معين وابن المديني، أيهما أحفظ؟ فقال: كان علي أسرد وأتقن، وكان يحيى أفهم بصحيح الحديث وسقيمه.
وقال سليمان بن حرب: كان يحيى بن معين يقول في الحديث هذا خطأ، فأقول: كيف صوابه؟ فلا يدري، فأنظر في الأصل فأجده كما قال.

(1/489)


وقال أبو عمرو الطالقاني: رأيتهم يقولون الناس عندنا أربعة: أحمد بن حنبل، ومحمد بن عبد الله بن نمير، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين وسمعتهم يقولون: محمد بن نمير ريحانة الكوفة، وأحمد قرة عين الإسلام. وابن المديني أعلم علماء آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن معين أعلم بروايته، وأكثر علمه آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعمرو الناقد، قال: ما كان في أصحابنا أحفظ للأبواب من أحمد بن حنبل، ولا أسرد للحديث من الشاذكوني، ولا أعلم بالإسناد من يحيى (بن معين) ، ما قدر أحد يقلب عليه إسنادا قط.
قال محمد بن هارون الفلاس المخرمي: إذا رأيت الرجل تقع في يحيى بن معين فاعلم أنه كذاب يضع الحديث. وإنما يبغضه لما يبين أمر الكذابين.
قال أبو حاتم: توفي ابن معين بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم وحمل على سرير النبي صلى الله عليه وسلم واجتمع في جنازته خلق كثير، وإذا رجل يقول: هذه جنازة يحيى بن معين، الذاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الكذب، والناس يبكون.
كان ابن معين يكره أن يدون كلامه في الجرح والتعديل، ولم يدون هو شيئا - فيما أظن - وإنما سأله أصحابه ودونوا كلامه، منهم: عباس الدوري

(1/490)


وإبراهيم بن الجنيد، ومضر بن محمد، و (الفضل) الغلابي، وعثمان بن سعيد الدارمي، ويزيد بن الهيثم. وغيرهم.
"21 - أبو زرعة، ت 264":

ومنهم أبو زرعة، عبيد الله بن عبد الكريم بن يزيد الرازي. أحمد الأعلام، وحفاظ الإسلام وكان من الصلاح والعبادة والخشية بمحل عظيم.
قال أبو العباس محمد بن إسحاق الثقفي، لما انصرف قتيبة بن سعيد إلى الري، سألوه أن يحدثهم فامتنع وقال: أحدثكم بعد أن حضر مجالسي أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأبو خيثمة؟ فقالوا له: فإن عندنا غلاما يسرد كل ما حدثت به مجلسا مجلسا، قم فقال أبو زرعة فسرد كل ما حدث به قتيبة، فحدثهم قتيبة.
وقال محمد بن يحيى الذهلي: لا يزال المسلمون بخير ما أبقى الله لهم

(1/491)


مثل أبي زرعة الرازي. وما كان الله ليترك الأرض إلا وفيها مثل أبي زرعة يعلم الناس ما جهلوه.
وقال علي بن الحسين بن الجنيد: ما رأيت أحدا أعلم بحديث مالك مسندة ومنقطعة من أبي زرعة وكذلك سائر العلوم ولكن خاصة حديث مالك قيل له:
ما في الموطأ والزيادات التي ليست في الموطأ؟ (قال نعم) . وكان أحمد يعظم أبا زرعة. وإذا جالسه ترك أحمد نوافله واشتغل عنها بمذاكرة أبي زرعة.
وروي عنه أنه قال: صح من الحديث سبعمائة ألف حديث، وهذا الفتى، يعنى أبا زرعة، يحفظ ستمائة ألف حديث.
وقال يونس بن عبد الأعلى: أبو زرعة وأبو حاتم إماما خراسان، وبقاؤهما صلاح للمسلمين.
وقال ابن وارة: سمعت إسحاق بن راهويه، يقول: كل حديث لا يعرفه أبو زرعة فليس له أصل.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: ما رأيت أحفظ من أبي زرعة الرازي.
وحلف رجل بالطلاق في زمن أبي زرعة أن أبا زرعة يحفظ مائة ألف حديث، فسئل عن ذلك أبو زرعة، فقال: ليمسك امرأته، فإنها لم تطلق منه.

(1/492)


وقال أبو مصعب الزهري: لقيت مالك بن أنس وغيره، فما رأت عيناي مثل أبي زرعة الرازي.
وقال أبو حاتم الرازي: ما خلف أبو زرعة بعده مثله، علما وفقها وصيانة وصدقا، وهذا مما لا يرتاب فيه، ولا أعلم (بين) المشرق والمغرب من كان يفهم هذا الشأن مثله، ولقد كان من هذا الأمر بسبيل.
وقال أبو حاتم أيضا: الذي كان يعرف صحيح الحديث وسقيمه وعنده تمييز ذلك، ويحسن علل الحديث أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وبعدهم أبو زرعة كان يحسن ذلك.
قيل له: فغير هؤلاء تعرف اليوم أحدا؟ قال: لا.
وذكر أبو حاتم شيئا من معرفة الرجال، فقال: ذهب الذي كان يحسن هذا يعني أبا زرعة، ما بقي بمصر ولا بالعراق أحد يحسن هذا.
قال أبو حاتم: وجرى بيني وبين أبي زرعة يوما تمييز الحديث ومعرفته فجعل يذكر أحاديث ويذكر عللها، وكنت أذكر أحاديث خطأ وعللها، وخطأ الشيوخ، فقال لي: يا أبا حاتم، قل من يفهم هذا، ما أعز هذا، إذا رفعت هذا عن واحد واثنين فما أقل ما تجد من يحسن هذا.
وقال أبو يعلى الموصلي: ما سمعنا أحدا يذكر في الحفظ إلا كان اسمه أكثر من رؤيته، إلا أبا زرعة الرازي، فإن مشاهدته كان أعظم من اسمه وكان

(1/493)


لا يرى أحدا ممن هو دونه في الحفظ أنه أعرف منه، وكان قد جمع حفظ الأبواب، والشيوخ، والتفسير، وغير ذلك.
قال يحيى بن مندة: قيل أحفظ الأمة أبو هريرة، ثم أبو زرعة الرازي.
وقيل ما ولدت حوافظ أحفظ من أبي زرعة.
قال: وبلغني بإسناد هو لي مسموع أن أبا زرعة قال: أنا أحفظ ستمائة ألف حديث صحيح وأربعة عشر ألف إسناد في التفسير والقراءات، وعشرة آلاف حديث مزورة. قيل له: ما بال المزورة تحفظ؟ قال: إذا مر بي (منها) حديث عرفته.
"22 - محمد بن إسماعيل البخاري":

ومنهم محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجعفي، مولاهم البخاري، الإمام أبو عبد الله، صاحب الصحيح وإمام المحدثين في وقته وأستاذ هذه الصناعة، وعنه أخذها كثير من الأئمة، منهم: مسلم بن الحجاج وسماه أستاذ الأستاذين، وسيد المحدثين، وطبيب الحديث في علله، وأبو عيسى الترمذي، وقد ذكر أبو عيسى في أول كتاب العلل، أنه لم ير بالعراق ولا بخراسان في معنى العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد، كبير أحد أعلم من محمد بن إسماعيل - رحمه الله -.
وقال ابن خزيمة: ما رأيت تحت أديم هذه السماء أعلم بالحديث ولا أحفظ له من محمد بن إسماعيل البخاري.

(1/494)


ولما سأل مسلم البخاري عن حديث سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة في كفارة المجلس، فبين له علته، قال مسلم: لا يبغضك إلا حاسد، وأشهد أن ليس في الدنيا مثلك.
وروى عن محمد بن الأزهر السجزي قال: كنت بالبصرة في مجلس سليمان بن حرب والبخاري جالس لا يكتب، فقلت: ما لأبي عبد الله لا يكتب؟ قال: يرجع إلى بخارى فيكتب من حفظه.
وقال محمد بن حمدويه سمعت البخاري يقول: أحفظ مائة ألف حديث صحيح، وأعرف مائتي ألف حديث غير صحيح.
وقال أحمد بن حمدون: رأيت البخاري ومحمد بن يحيى يسأله عن الأسامي والكنى والعلل، ومحمد بن إسماعيل يمر فيه مثل السهم، كأنه يقرأ (قل هو الله أحد) .
وقال عبد الله الدارمي، قد رأيت العلماء بالحجاز والعراق فما رأيت فيهم أجمع من محمد بن إسماعيل.
وقال ابن المديني في البخاري: ما رأى مثل نفسه.
وقال الفلاس: حديث ليس يعرفه محمد بن إسماعيل ليس بحديث، وسئل صالح بن محمد الحافظ عن البخاري وأبي زرعة، فقال: أعلمهم بالحديث البخاري وأبو زرعة أحفظهم وأكثرهم حديثا.

(1/495)


وعن أبي حاتم الرازي، قال: محمد بن إسماعيل أعلم من دخل العراق.
وقال علي بن حجر: أخرجت خراسان ثلاثة: أبا زرعة بالري، ومحمد بن إسماعيل ببخارى، وعبد الله بن عبد الرحمن السمرقندي بسمرقند، ومحمد بن إسماعيل - عندي - أبصرهم وأعلمهم وأفقههم.
وعن إسحاق بن راهويه، قال: لو كان محمد بن إسماعيل في زمن الحسن بن أبي الحسن لاحتاج الناس إليه، لمعرفته بالحديث وفقهه.
وفضائل البخاري كثيرة جدا، وامتحن في آخر عمره بمسألة اللفظ بالقرآن، فإنه قال: أفعال العباد مخلوقة، فنسبه محمد بن يحيى الذهلي إلى القول بأن اللفظ بالقرآن مخلوق، وأمر بهجره وضيق عليه فخرج البخاري من نيسابور إلى بخارى، فكتب محمد بن يحيى إلى والي بخارى في أخره فنفاه من بخارى فتوفي بقرية من قراها.
وقد روي عنه أنه قال: من زعم أني قلت: لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذاب، فإني لم أقل هذه المقالة، إلا أني قلت: أفعال العباد مخلوقة.
وروى عنه أنه قال: هذه مسألة مشؤومة، يعني مسألة اللفظ، رأيت أحمد بن حنبل وما ناله في هذه المسألة، جعلت على نفسي ألا أتكلم فيها.
وللبخاري تصانيف كثيرة، وقد سبق الناس إلى تصنيف الصحيح والتاريخ، والناس بعده تبع له في هذين الكتابين. إذ كل من صنف في هذين العلمين يحتاج إلى كتابه، وقد كان أبو أحمد الحاكم يعيب من صنف فيهما.

(1/496)


بعده، ويزعم أنهم إنما أخذوا كتابي البخاري، ولا ريب أنهم استعانوا بهما، وزادوا عليهما، والله يغفر لنا ولهم أجمعين آمين.
"23 - عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، ت 255":

ومنهم عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام بن عبد الصمد السمرقندي الدارمي. يكنى أبا محمد، أحد الأئمة الحفاظ المبرزين والعلماء العاملين، وقد صنف المسند والجامع التفسير، وامتحن في مسألة القرآن فلم يجب. (وألح عليه السلطان في قضاء سمرقند فتقلده وقضى قضية واحدة ثم استعفى) . فأعفي، وكان الإمام أحمد (إذا ذكره) قال: ذاك السيد عرض على الكفر فلم يقبل، وعرضت عليه الدنيا فلم يقبل.
وقال أحمد: هو إمام.
وقال محمد بن بشار بندار: حفاظ الدنيا أربعة: أبو زرعة بالري، ومسلم بن الحجاج بنيسابور، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي بسمرقند، ومحمد بن إسماعيل ببخارى. قال بندار: وهم غلماني خروجا من تحت كرسي.
وروي عن الإمام أحمد قال: انتهى الحفظ إلى أربعة من أهل خراسان أبي زرعة الرازي، ومحمد بن إسماعيل البخاري، وعبد الله بن عبد الرحمن السمرقندي، والحسن بن شجاع البلخي: ثم قال: أبو زرعة أحفظهم، والبخاري أعرفهم، وابن شجاع أجمعهم للأبواب، والسمرقندي أتقنهم.

(1/497)


ذكره يحيى بن مندة بإسناده.
وقال محمد بن عبد الله بن نمير: غلبنا عبد الله بن عبد الرحمن بالحفظ والورع.
وعن أبي حاتم الرازي، قال: محمد بن إسماعيل أعلم من دخل العراق، ومحمد بن يحيى أعلم من خراسان اليوم، ومحمد بن أسلم أورعهم، وعبد الله بن عبد الرحمن أتقنهم.
وعنه قال: عبد الله بن عبد الرحمن إمام أهل زمانه.
وعن رجاء بن المرجا، قال: رأيت أحمد وإسحاق وابن المديني والشاذكوني، فما رأيت أحفظ من عبد الله، يعني الدارمي.
وعن رجاء أيضا قال: ما رأيت أحدا أعلم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم من عبد الله بن عبد الرحمن.
وعن أبي حامد بن الشرقي، قال: إنما أخرجت خراسان من الأئمة الحديث خمسة رجال:

(1/498)


محمد بن يحيى، ومحمد بن إسماعيل، وعبد الله بن عبد الرحمن، ومسلم بن الحجاج، وإبراهيم بن أبي طالب.
وقال ابن حبان: كان عبد الله بن عبد الرحمن بن الحفاظ المتقنين وأهل الورع في الدين، ممن حفظ وجمع وتفقه، وصنف، وحدث، وأظهر السنة في بلده، ودعا إليها، وذب عن حريمها، وقمع من خالفها.
وقال محمد بن منصور الشيرازي: كان عبد الله بن عبد الرحمن على غاية من العقل الديانة ممن يضرب به المثل في الحلم والرواية، والحفظ، والعبادة، والزهادة. أظهر علم (الحديث) والآثار بسمرقند، وذب عنها الكذب، وكان مفسرا كاملا، وفقيها عالما - رحمه الله -.
"صيغ الأداء"

قال أبو عيسى - رحمه الله تعالى -:
والقراءة على العالم إذا كان يحفظ ما يقرأ عليه، أو يمسك أصله فيما يقرأ عليه إذا لم يحفظ، وهو صحيح عند أهل الحديث مثل السماع. حدثنا حسين بن مهدي البصري (ثنا) عبد الرزاق (نا) ابن جريج قال:
قرأت على عطاء بن أبي رباح: فقلت له: كيف أقول؟
قال: قل:
حدثنا سويد بن نصر، (أنا) علي بن الحسين بن واقد، عن أبي عصمة،

(1/499)


عن يزيد النحوي، عن عكرمة، أن نفرا قدموا على ابن عباس، من أهل الطائفن بكتب من كبته، فجعل يقرأ عليهم فيقدم ويؤخر، فقال:
إني بليت بهذه المصيبة، فاقرأوا علي، فإن إقراري بها كقراءتي عليكم. حدثنا سويد بن نصر، (أنا) علي بن الحسين بن واقد، عن أبيه، عن منصور بن المعتمر. قال:
إذا ناول الرجل كتابه آخر فقال: أرو هذا عني فله أن يرويه.
قال أبو عيسى:
وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: سألت أبا عاصم النبيل عن: حديث، قال: اقرأ علي. فأحببت أن يقرأ هو، فقال: أنت لا تجيز القراءة.
وكان سفيان الثوري ومالك بن أنس يجيزان القراءة.
حدثنا أحمد بن الحسين، (ثنا) يحيى بن سليمان الجعفي المصري، قال: قال عبد الله بن وهب: ما قلت (ثنا) فهو ما سمعت مع الناس، وما قلت: حدثني، فهو ما سمعت وحدي. وما قلت: (أنا) ، فهو ما قرئ على العالم، وأنا شاهد. وما قلت: أخبرني، فهو ما قرأت على العلم، يعني أنا وحدي.
سمعت أبا موسى، محمد بن المثنى، يقول: سمعت يحيى بن سعيد القطان، يقول:
(ثنا) و (أنا) واحد:
قال أبو عيسى:
وكنا عند أبي مصعب المديني فقرئ عليه بعض حديثه فلما فرغ منه، قلت: كيف نقول: قال: قل (ثنا) أبو مصعب.

(1/500)