شرح علل الترمذي "أنواع التحمل"
قال أبو عيسى:
وقد أجاز بعض أهل العلم الإجازة، وإذا أجاز العالم (لأحد أن
يروي عنه) شيئا من حديثه، فله أن يروي عنه.
حدثنا محمود بن غيلان، (أنا) وكيع، عن عمران بن حدير، عن أبي
مجلز عن بشير بن نهيك، قال: كتبت كتابا عن أبي هريرة، فقلت:
ارويه عنه؟
قال: نعم.
أخبرنا محمد بن إسماعيل الواسطي، (ثنا) محمد بن الحسن الواسطي،
عن عوف الأعرابي.
قال: قال رجل للحسن: عندي بعض حديثك. ارويه عنك؟
قال: نعم.
قال أبو عيسى:
ومحمد بن الحسن الواسطي إنما يعرف بمحبوب بن الحسن وقد حدث عنه
غير واحد من الأئمة.
حدثنا الجارود، (ثنا) أنس بن عياض، عن عبيد الله بن عمر، قال:
أتيت الزهري بكتاب، فقلت: هذا من حديثك، ارويه عنك؟ قال: نعم.
حدثنا أبو بكر، عن علي بن عبد الله عن يحيى بن سعيد قال:
(1/501)
وجاء ابن جريج إلى هشام بن عروة بكتاب،
فقال: هذا حديثك أرويه عنك؟ ز
قال: نعم.
قال يحيى: فقلت في نفسي: لا أدري أيهما أعجب أمرا؟.
قال علي: سألت يحيى عن حديث ابن جريج، عن عطاء الخراساني،
فقال: ضعيف. فقلت: انه يقول: أخبرني. قال: لا شيء، إنما هو
كتاب دفعه إليه.
ذكر الترمذي - رحمه الله - ههنا مسائل من مسائل تحمل الحديث
وروايته:
"المسألة الأولى: مسألة العرض"
وهو القراءة على العالم، وقد (ذكر) انه صحيح عند أهل الحديث
مثل السماع من لفظ العالم، وهذا يشعر بحكاية الإجماع على ذلك،
وقد ذكر جوازه عن عطاء وسفيان (الثوري) ومالك، وابن وهب.
وأما الأثر الذي أسنده عن ابن عباس فلا يصح.
وأبو عصمة في إسناده هو نوح بن أبي مريم.
وقد خرجه عبد الغني بن سعيد في كتاب "أدب المحدث والمحدث" من
(1/502)
طريق نعيم بن حماد (ثنا) نوح بن أبي مريم.
عن يزيد النحوي به، فذكره. وخرج أيضا من طريق نعيم بن حماد
(ثنا) نوح بن أبي مريم عن أبي إسحاق، عن هبيرة، عن علي: قال:
القراءة على العالم والسماع منه بمنزلة.
ونوح بن أبي مريم مشهور بالكذب ووضح الحديث.
وخرج أبو بكر الخطيب من طريق سلم بن سالم، عن نوح بن أبي مريم
به. وخرج أيضا حديث ابن عباس من طريق الحسين بن الحسن الأشقر،
عن سلم بن سالم عن زياد بن أبي مريم. (عن يزيد النحوي به، ثم
قال:
هكذا قال عن زياد بن أبي مريم) . والصواب: نوح بن أبي مريم.
وخرج الخطيب أيضا من طريق أبي مقاتل السمرقندي، عن سفيان عن
الأعمش، عن أبي ظبيان، عن علي، قال:
القراءة على العالم أصح من قراءة العالم، بعدما أقر أنه حديثه.
وهذا أيضا كذب على سفيان. وأبو مقاتل قد تقدم انه متهم بالكذب.
وخرج الرامهرمزي في كتابه "المحدث الفاصل" من طريق محمد بن
(1/503)
منصور الجواز، عن يحيى بن سليم، عن ابن
جريج عن عكرمة، عن ابن عباس. انه قال:
اقرأوا علي، فإن قراءتكم علي كقراءتي عليكم.
ويحيى بن سليم تركه أحمد، ولعل ابن جريج دلسه عن غير ثقة.
وخرج الخطيب من طريق إسحاق بن الضيف، عن إبراهيم بن الحكم،
حدثني أبي عن عكرمة، قال: قال ابن عباس:
اقرأوا علي فإن قراءتكم علي كقراءتي عليكم.
وإبراهيم بن الحكم ضعيف.
ورواه أيضا حفص بن عمر العدني، وهو ضعيف، عن (الحكم بن) أبان
بنحو سياق أبي عصمة، نوح بن أبي مريم خرجه البيهقي من طريقه
ولا يصح هذا.
(1/504)
وخرج الرامهرمزي هذا الحديث من طريق إسحاق
بن عيسى (ثنا) محمد بن حصين الواسطي.
قال: وقال في موضع آخر (ثناه) محمد بن يزيد الواسطي (ثنا) عون،
فذكره.
قلت: ولا يصح هذا عن علي، ولا عن ابن عباس، وقد روي عن أبي
هريرة من طريق علي بن (معبد) ، (ثنا) شعيب بن إسحاق الدمشقي عن
سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة - إن شاء الله - عن بشير بن نهيك،
قال: كنت آتي أبا هريرة فآخذ منه الكتب، فأنسخها، ثم أقرأها
عليها، فأقول هذا سمعته منك؟ فيقول: نعم.
هذا إسناد مشكوك فيه. والصحيح عن بشير نهيك خلاف هذا اللفظ
وسنذكره، وقد روي عن طائفة من التابعين، ومن بعدهم.
قال مروان بن معاوية، عن عاصم الأحول. قرأت على الشعبي:
(أحاديث فأجازها لي) . وروى أيضا عن مروان عن إسماعيل عن
الشعبي مثله. وروى أبو حمة (ثنا) عبد الرزاق (أنا) معمر عن
أيوب عن ابن سيرين أنه
(1/505)
كان يجيز للعرض وروى داود بن عطاء المديني
وفيه ضعف، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال:
عرض الكتاب والحديث سواء.
وعن جعفر بن محمد عن أبيه مثله.
وروى حنبل بن إسحاق والأثرم، قالا: (ثنا) أبو عبد الله، (ثنا)
محمد بن الحسن الواسطي، (ثنا) عوف. أن رجلا قال للحسن: معي
أحاديث، فإن لم تكن ترى بالقراءة بأسا قرأت عليك.
قال: ما أبالي قرأت عليك، أو قرأت علي، وأخبرتك أنه حديثي أو
حديثك به.
قال: يا أبا سعيد، فأقول: حدثني الحسن؟ قال: نعم.
ورواه يحيى بن معين عن محمد بن الحسن الواسطي أيضا.
وخرجه البخاري في صحيحه عن محمد بن سلام، (ثنا) محمد بن الحسن
الواسطي عن عوف، عن الحسن، قال:
لا بأس بالقرأة على العالم.
(1/506)
ومحمد بن الحسن الواسطي، هو الذي ذكره
الترمذي ههنا أنه يقال له: محبوب. وقد قال ابن معين: لا بأس به
وخرج له البخاري في صحيحه وضعفه النسائي. وهذا يخالف اللفظ
الذي خرجه الترمذي عن محمد بن إسماعيل، وهو الحساني، وقد رواه
محمد بن مخلد العطار عن الحساني كما رواه عنه الترمذي، إلا أن
لفظه:
قال رجل للحسن: إن عندي كتابا من علمك، فأرويه عنك؟ قال: نعم.
وفي روايته أن محمد بن الحسن هو المزني، والمزني كان قاضي
واسط، ليس محبوبا بصري، ليس بواسطي.
وخرج الرامهرمزي هذا الحديث من طريق إسحاق بن عيسى، (ثنا) محمد
بن الحسين الواسطي.
قال: وقال في موضع آخر (ثنا) محمد بن يزيد الواسطي، (ثنا) عوف،
فذكره.
قلت: ما كان إسحاق حفظ نسب هذا الرجل.
(1/507)
"من روى عنه الرخصة في العرض من التابعين"
وممن روى عنه الرخصة في العرض من
التابعين ومن بعدهم مكحول، والزهري، وأيوب السختياني،
ومنصور بن المعتمر، وشريك، وهو قول الثوري، والأوزاعي، ومالك،
مسعر، وأبي حنيفة، والليث بن سعد وابن عيينة والشافعي وأحمد
وغيرهم من أهل العلم. وكان شعبة يبالغ، فيقول: القراءة عند
أثبت من السماع، ووافقه على ذلك يحيى القطان وعبد الرحمن بن
مهدي.
وروي نحوه عن ابن أبي ذئب، وأبي حنيفة، ومالك، والليث،
والثوري. وهو قول أبي حاتم، وأبي عبيد.
وقال إسحاق بن هانئ: كنت أقرأ على أبي عبد الله، يعني أحمد،
الحديث وأنا أنظر في كتابه، هو ينظر معي. فقال لي: هذا أحب إلي
من أن أقرأ أنا عليك.
قلت له: أقول: حدثني؟ قال: قل إن شئت، لكن (أحب إلي) أن تصدق،
تقول: قرأت.
"من كره العرض"
وكره طائفة العرض، منهم وكيع، ومحمد بن سلام، وأبو مسهر، وأبو
عاصم. وحكى ذلك عن أهل العراق جملة. وكان مالك ينكره عليهم.
وروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة، قال: لا يحل
للرجل أن يروي الحديث إلا إذا سمعه من فم المحدث، فيحفظه، ثم
يحدث به.
(1/508)
واستدل البخاري وغيره على صحة العرض بحديث
ضمام بن ثعلبة.
وقد ذكر الترمذي ذلك عند تخريجه لحديث، في أول كتاب الزكاة.
واستدل مالك وغيره بعرض القرآن على القارئ، وبقراءة الصحيفة
بالدين على من عليه الحق فيقر بها فيشهد عليه وقد اشترط
الترمذي لصحة العرض على العالم أن يكون العالم حافظا لما يعرض
عليه، ويمسك أصله بيده عند العرض عليه إذا لم يكن حافظا.
ومفهوم كلامه انه إذا لم يكن المعروض عليه حافظا، ولا أمسك
أصله انه لا تجوز الرواية عنه بذلك العرض.
وقد قال أحمد في رواية حنبل: لا بأس بالقراءة إذا كان رجل يعرف
ويفهم ويبين ذلك.
قال سعيد بن مروان البغدادي: سمعت يحيى بن إسماعيل الواسطي
يقول: القراءة على مالك بن أنس (مثل) السماع من غيره.
(1/509)
"الرواية عن
الضرير والأمي إذا لم يحفظا"
وهذا يرجع إلى أصل وهو أن الضرير والأمي إذا لم يحفظا الحديث
فانه لا تجوز الرواية عنهما، ولا تلقينهما، ولا القراءة عليهما
من كتاب، وقد نص على ذلك أحمد في رواية عبد الله في الضرير
والأمي، لا يجوز أن حدثا إلا بما يحفظان.
وقال كان أبو معاوية الضرير إذا حدثنا بالشيء الذي نرى انه لا
يحفظه يقول: في كتابي كذا وكذا، ولا يقول: (ثنا) ولا سمعت.
وكذلك قال يحيى بن معين في الضرير والأمي، نقله عنه عبد الله
بن أحمد وعباس الدوري.
وقال أبو خيثمة: كان يعاب على يزيد بن هارون انه كان بعدما أضر
يأمر من يلقنه حديثه من كتابه ويتحفظه.
وأنكر طائفة على من كان يكتب من كتاب (موسى بن) عبيدة الربذي
ثم يقرؤها (عليه) وكان أعمى.
وذكر ابن المديني عن أبي معاوية الضرير انه قال: ما سمعته من
الشيخ وحفظته عنه قلت: حدثنا وما قرئ علي من الكتب، قلت: ذكر
فلان.
وكان عبد الرزاق يتلقن ممن يثق به، (كما كان يزيد بن هارون
يفعله، وعلى قول هؤلاء يجوز العرض على الشيخ وان كان ضريرا لا
يحفظ، أو أميا لا كتاب بيده إذا كان العرض ممن يوثق به) .
(1/510)
وقد رخص ابن معين في السماع ممن يتلقن إذا
كان يعرف حديثه ويعرف ما يدخل عليه، فإن لم يعرف ما يدخل عليه
فانه كرهه.
وحاصل الأمر أن الناس ثلاثة أقسام:
حافظ متقن يحدث من حفظه، فهذا لا كلام فيه.
وحافظ نسي، فلقن حتى ذكر أو تذكر حديثه من كتاب، فرجع إليه
حفظه الذي كان نسيه وهذا أيضا حكمه حكم الحافظ.
وكان شعبة أحيانا يتذكر حديثه من كتاب.
ومن لا يحفظ شيئا، وإنما يعتمد على مجرد التلقين، فهذا هو الذي
منع أحمد ويحيى بن الأخذ عنه.
"حكم التحديث من الكتاب إذا كان
المحدث لا يحفظ ما فيه"
واختلف العلماء أيضا في التحديث من الكتاب إذا كان المحدث لا
يحفظ ما فيه، وهو ثقة:
فقال مالك: لا يؤخذ العلم عمن هذه الصفة صفته، لأني أخاف أن
يزاد في كتبه بالليل.
وحكي أيضا عن أبي حنيفة - رحمه الله -:
وعلى قول هؤلاء فلا يجوز العرض على من لا يحفظ، وان أمسك
الكتاب، كما لا يجوز له أن حدث من الكتاب ولا يحفظ، وأولى.
وهكذا اشترط عثمان بن أبي شيبة في العرض أن يكون العالم يعرف
ما يقرأ عليه.
(1/511)
ورخص طائفة في التحديث من الكتاب لمن لا
يحفظ، منهم: مروان بن محمد، وابن عيينة، وابن مهدي، ويحيى بن
معين وغيرهم.
وهذا إذا كان الخط معروفا موثوقا به، والكتاب محفوظا عنده.
فإن غاب عنه كتابه ثم رجع إليه، فكان كثير منهم يتوقى الرواية
منه خشية أن يكون غير فيه شيء. منهم ابن مهدي وابن المبارك
والأنصاري.
ورخص فيه بعضهم، منهم: يحيى بن سعيد.
وقال أحمد في رجل يكون له السماع مع الرجل، أله أن يأخذ بعد
سنين؟
قال: لا بأس به إذا عرف الخط.
قال أبو بكر الخطيب: إنما يجوز هذا إذا لم ير فيه أثر تغيير
حادث من زيادة أو نقصان، أو تبديل وسكنت نفسه إلى سلامته.
قال: وعلى ذلك يحمل كلام يحيى بن سعيد.
قلت: وكذا إن كان له فهم ومعرفة بالحديث، وإن لم يحفظه.
وقد قال أبو زرعة: لما رد عليه كتابه، ورأى فيه تغييرا أنا
أحفظ هذا، ولو لم أحفظه لم يكن يخفى علي.
وقد قال أحمد في الكتاب قد طال على الإنسان عهده، لا يعرف بعض
حروفه فيخبره بعض أصحابه، ما ترى في ذاك؟ قال: إذا كان يعلم
أنه كما في الكتاب فليس به بأس، نقله عنه ابن هانئ.
واختلفوا في المحدث الذي لا يحفظ إذا حدث من كتاب غيره.
(1/512)
فرخص طائفة فيه إذا وثق بالخط، منهم ابن
جريج. وهو اختيار الإسماعيلي.
وقال أحمد: ينبغي للناس أن يتقوا هذا.
وكان يحيى بن سعيد يعيب قوما يفعلونه.
وقال المروذي: سمعت أبا عبد الله، قال: ما بالكوفة مثل هناد بن
السري، وهو شيخهم، فقيل له: هو يحدث من كتاب وراقه.
فجعل يسترجع ثم قال: إن كان هكذا لم يكتب عن هناد شيء.
هذا كله إذا قرأ القارئ على العالم وليس معه أحد، فإن كان معه
أحد يسمع معه:
فقالت طائفة: لا بد لمن يسمع معه أن ينظر في نسخته، وإلا فلا
يصخ سماعه، منهم ابن وارة وغيره. وكذا قالوا في المحدث إذا قرأ
عليهم من كتابه، ولم ينظروا فيه، ثم نسخوا من الكتاب من غير
نظر ولا حفظ. وكذا إذا أملى المحدث، فكتب عنه بعضهم، ثم نسخ
الباقون من كتابه من غير حفظ.
وذكر أحمد عن عبد الرزاق أن سفيان لما قدم اليمن جاؤوا بمن
يكتب، وكانوا ينظرون في الكتاب فإذا فرغ ختموا الكتاب حتى
ينسخوه.
وروى ابن عدي بإسناده عن معمر، قال:
اجتمعت أنا وشعبة والثوري وابن جريج، فقدم علينا شيخ فأملى
علينا أربعة آلاف حديث من ظهر قلب. فإذا جن الليل ختمنا
الكتاب، فوضعناه تحت رؤوسنا. وكان الكاتب شعبة، ونحن ننظر في
الكتاب.
وذكر الخلال عن علي بن عبد الصمد المكي، قال: قلت لأحمد بن
حنبل
(1/513)
ونحن في مجلس نسمع فيه الحديث، وأنا لا
أنظر في النسخة: يا أبا عبد الله يجزيني أن لا أنظر في النسخة
فأقول: (ثنا) مثل الصك إذا لم ينظر فيه ويشهد. قال لي:
لو نظرت في الكتاب كان أطيب لنفسك.
وذكر ابن معين عن ابن أبي ذئب أنه كان يقرأ عليهم كتابا ثم
يلقيه إليهم فيكتبونه، ولم ينظروا في الكتاب.
وروي عن مالك ما يدل عليه.
ورخص في ذلك أكثر المتأخرين إذا كان صاحب الكتاب مأمونا في
نفسه موثوقا بضبطه.
وروى أحمد بن حرب الموصلي، عن زيد بن أبي الزرقاء، (ثنا) سفيان
الثوري في القوم يكونون جميعا، فيأتون الرجل ومعهم حديث من
حديثه في كتاب، ويكون الكتاب مع بعضهم، وهو عندهم ثقة وهم أكثر
(من) أن يستطيعوا أن ينظروا فيه جميعا، هل يدخل عليهم أن
يصدقوا صاحبهم في مسائله؟.
قال: لا، إنما بمنزلة الشهادة.
خرجه الرامهرمزي، وحمله على أن مراد سفيان الرخصة في ذلك كما
(يقرأ) الصك على المشهود عليه بالدين فيقربه فيشهد عليه من
سمعه.
وكلام أحمد يدل على مثل ذلك أيضا إلا أنه استحب للسامع أن ينظر
في الكتاب لتطيب نفسه.
(1/514)
المسألة الثانية:
فيما يقول من عرض الحديث إذا حدث به
وقد ذكر الترمذي بإسناده عن عطاء أنه أجاز أن يقول: (ثنا) .
وذكره أيضا عن أبي مصعب صاحب مالك.
وعن يحيى نب القطان أنه قال: (ثنا) و (أنا) واحد.
وسئل محمد بن نصر المروزي ما الفرق بين (ثنا) و (أنا) ؟ قال:
سواء، الخلق.
وروى محمد بن سعيد بن الأصبهاني عن شريك مثل ذلك.
وذكر الترمذي أيضا عن ابن وهب أنه كان لا يقول: (ثنا) إلا فيما
سمع من لفظ العالم مع الناس، فإذا قرئ على العالم وهو شاهد،
قال: (أنا) ، وإن سمع وحده قال: حدثني، وإن قرأ وحده قال:
أخبرني.
والقول الأول: وهو الرخصة في أن يقول من عرض على العالم (ثنا)
وهو مروي عن الحسن والزهري ومنصور والثوري ومالك وابن جريج
وأبي حنيفة.
ورواه محمد بن كثير عن الأوزاعي. وروي أيضا عن يحيى بن سعيد
القطان. وقد تقدم مثله عن أحمد إلا أنه استحب أن يقول: قرأت.
وقال أحمد أيضا: (ثنا) و (أنا) واحد. نقله عنه سلمة بن (شبيب)
(1/515)
وغيره وكذلك قال يزيد بن هارون والنضر بن
شميل، وأبو عاصم النبيل ووهب بن جرير وابن عيينة، وأبو الوليد،
وإسحاق بن إبراهيم، وروي عن مالك وسفيان أيضا (وقد جمع الطحاوي
في التسوية بينهما جزءا) .
وأما القول الثاني: وهو أن يقول في العرض (أنا) وفي السماع
(ثنا) فهو محكي عن طائفة من العلماء منهم النسائي وقبله يونس
بن عبد الأعلى.
وحكاه بعضهم عن أكثر أصحاب الحديث، وهو مأثور عن ابن جريج.
قال يحيى بن سعيد: كان ابن جريج صدوقا، إذا قال: حدثني فهو
سماع، وإذا قال: أخبرنا أو أخبرني فهو قراءة، وإذا قال: قال،
فهو شبه الريح، يعني أنه لم يسمعه ولم يقرأه.
وروي عن الأوزاعي أنه أمر في الرواية عنه بذلك، وكذا نقله
الربيع عن الشافعي وذكر أبو داود في مسائله، قال: قيل لأحمد
كان "أخبرنا" أسهل من "حدثنا"؟ قال: نعم. هو أسهل. (ثنا) شديد.
وقال عوف: إذا قرأ العالم على العالم، فقال: حدثني فهي كذيبة.
وكذلك روي عن حماد بن زيد أنه منع في العرض أن يقول: (ثنا) .
وقال عثمان بن أبي شيبة: كان ابن المبارك يقول: قرأت على ابن
جريج، ولا يقول (أنا) .
(1/516)
وقال أحمد في رواية أبي داود: يعجبني أن
يقول كما فعل، يقول: قرأت.
وقال أحمد في رواية ابنه عبد الله: إذا سمعت من المحدث، فقل:
(ثنا) ، وإذا قرأت عليه فقل: قرأت، وإذا قرئ عليه فقل: قرئ
عليه. قال: وأحب إلى أن يبين كما كان.
ولكن هذا محمول على الاستحباب كما تقدم ذلك صريحا عنه.
ومن أصحابنا من حمله الوجوب.
وقال أبو القاسم البغوي: كان أحمد لا يرى في العرض والإجازة
(أنا) ولا (ثنا) إما رأيه أن يبين (الراوي) كما كان. وقرأ رجل
على شريك، ثم سأله، فقال: أقول: (ثنا) شريك؟.
فقال: إذن تكذب.
وقال يحيى بن سعيد: ينبغي أن يحدث الرجل كما سمع، فإن سمع
يقول: (ثنا) ، وإن عرض يقول: عرضت، وإن كان إجازة يقول:
أجازني.
وقال محمد بن كثير: سألت الأوزاعي عن الرجل يقرأ على الرجل
الحديث، يقول: (ثنا) ؟.
قال: لا، يقول كما صنع (يقول) : قرأت.
(1/517)
(وقال ابن معين: أرى إذا قرأ الرجل على
الرجل أن يقول: قرأت) على فلان، ولا يقول: (ثنا) ، وإذا قرئ
على الرجل وهو شاهد فليقل قرئ على فلان وأنا شاهد، يقول كما
كان.
وقال أحمد بن صالح المصري فيمن قرأ على العالم، يقول: قرأت
(قيل له: فإن قال: (ثنا) ؟ قال: لا ينبغي له أن يقول إلا كما
قرأ، فإن قال: حدثنا فلم يكذب.
قيل له: فإن قال: (أنا) وأنبأنا؟ قال: هو دون (ثنا) .
وقال محمد بن عبد الله الأنصاري: تقول: قرأت على فلان، ولا
تقول: حدثني.
وقال شعبة: أحب إلي أن يبين.
قال نعيم بن حماد: ما رأيت ابن المبارك يقول قط: (ثنا) ، وكأنه
يرى (أنا) أوسع.
"التفريق بين حدثني وحدثنا،
وأخبرني وأخبرنا"
وأما تفريق ابن وهب بين أن يكون سماعه أو عرضه وحده، أو مع
غيره، فيقول إذا كان وحده. حدثني، أو أخبرني، وإذا كان مع غيره
(يقول) (ثنا) أو أخبرنا.
فهذا محمول على الاستحباب، دون الوجوب.
(1/518)
وقد روي مثل ذلك عن سعيد بن أبي مريم
المصري.
وروى معناه عن طائفة من السلف.
قال ابن أبي خيثمة: (ثنا) الوليد بن شجاع، حدثني ضمرة عن رجاء
بن أبي سلمة، عن ابن عون، قال: ربما حدثنا ابن سيرين فيقول:
حدثني أبو هريرة، وربما قال: (ثنا) أبو هريرة. قال: فنقول: كيف
هذا يا أبا بكر؟ قال: أكون وحدي فيحدثني فأقول: حدثني، وأكون
في جماعة فيحدثنا، فأقول حدثنا.
وقال الوليد بن يزيد: قلت للأوزاعي: كتبت عنك حديثا كثيرا، فما
أقول فيه؟.
قال: ما قرأته عليك وحدك فقل فيه: حدثني، وما قرأته على جماعة
أنت فيهم فقل فيه: (ثنا) ، وما قرأته علي وحدك فقل فيه:
أخبرني، وما قرئ على جماعة أنت فيهم فقل فيه: (أنا) : وما
أخبرته لك وحدك فقل فيه: خبرني، وما أخبرته لجماعة أنت فيهم،
فقل فيه: خبرنا.
وخرج الخطيب كلام ابن وهب الذي خرج الترمذي من طريق ابن
(1/519)
أخي ابن وهب (عنه) ، ثم قال: هذا هو
المستحب، وليس بواجب عند أهل العلم. وثم ذكر عن أحمد بن صالح
أنه أجاز لمن سمع وحده أن يقول: (ثنا) ، ولمن سمع مع جماعة أن
يقول: حدثني.
وعن أبي داود، قال: قلت لأبي عبد الله، يعين أحمد: إذا سمع
الرجل وحده يقول: (ثنا) فلان؟ قال: لا بأس.
ومن طريق الأثرم، قال: قلت لأبي عبد الله: أليس هذا جائزا أن
يقول: حدثني وهو ينوي أنه قد حدثه فيمن حدث، ويقول: أشهدني،
وقد أشهد جماعة؟.
قال: فظننت أنه سهل في ذلك.
وعن المبارك، قال: إذا حدث الرجل جماعة فليقل كل منهم: حدثني.
وعن يحيى بن سعيد أنه رخص فيه أيضا.
قال أبو عبيد: كنت أسمع ابن المبارك كثيرا يقول: أخبرني، وكنت
أرى أنه سمعه وحده حتى أخبروني، أنه كان يقول: إذا حدثنا فقد
حدث كل واحد منا على حياله، فلهذا استجاز أن يقول.
وذكر البيهقي قول ابن وهب وسعيد بن أبي مريم الذي تقدم ذكرهن
قال: وهذا تفصيل حسن. وعليه أدرنا مشايخنا، وهو معنى قول
الشافعي وأحمد - رحمهما الله -.
(1/520)
وذكر عبد الغني بن سعيد، قال: سمعت الوليد
بن القاسم، يقول: سمعت أبا عبد الرحمن النسائي يقول: كان إسحاق
بن راهويه، يقول: إذا قرأت فقل: قرأت، وإذا قرئ عليك فقل: قرئ
وإذا حدثك فقل: حدثني، وإذا حدثكم فقل: حدثنا، قل كما كان.
قال عبد الغني: وبلغني عن أحمد بن حنبل نحوه.
وروي بإسناده عن أبي نعيم، قال: أتينا موسى بن علي بمكة، فقلت:
حدثك أبوك؟ قال: لا، حدث القوم وأنا فيهم. فقلت: كيف تقول؟
قال: أقول: سمعت أبي.
المسألة الثالثة: الرواية
بالمناوبة
وقد أسند الترمذي عن منصور بن المعتمر، أنه رخص في الرواية
بها.
والمناولة نوع من أنواع الإجازة، إلا أنها أرفع أنواعها،
وصورتها أن يدفع العالم كتابه إلى رجل، ويقول له: هذا حدثني أو
كتابي، فاروه عني، أو نحو ذلك.
وممن رأى الرواية بها أيضا: الزهري، ومالك، والأوزاعي، في
المشهور عنه، والليث وأحمد.
قال المروذي: قال أبو عبد الله: إذا أعطيتك كتابي، فقلت لك:
اروه عني وهو من حدثني فما تبالي أسمعته أم لم تسمعه.
قال: فأعطاني المسند ولأبي طالب مناولة.
(1/521)
وقول يحيى بن سعيد، في رواية ابن جريج عن
عطاء الخراساني: إنها ضعيفة لا شيء، إنما هي كتاب دفعه إليه،
يدل على أنه كان لا يرى الرواية بالمناولة، إلا أن يحمل على
أنه لم يأذن له في روايته عنه.
وفي جواز الرواية بذلك في هذه الحال خلاف بين أهل العلم ذكره
أبو بكر الخطيب وغيره.
وروى الوليد عن الأوزاعي أن المناولة يعمل بها، ولا يحدث.
ومن أنواع المناولة أن يأتي الطالب إلى العالم بجزء من حديثه
قد كتبه من أصل صحيح. فيدفعه إلى العالم، ويستجيزه إياه، فيجيز
له، ويرده إليه، إلا أنهم اشترطوا أن ينظر فيه العالم ويصححه
إن كان يحفظ ما فيه، وأن يقابل به أصله، إن كان لا يحفظه. وقد
فعل ذلك مالك وأحمد ومحمد بن يحيى الذهلي، واشترطه أحمد بن
صالح المصري.
وقال أحمد في رواية حنبل: المناولة لا أدري ما هي، حتى يعرف
المحدث حديثه، وما يدريه ما في الكتاب؟.
قال: (وأهل مصر يذهبون إلى هذا، وأنا لا يعجبني.
قال أبو بكر الخطيب: أراه أراد أن) أهل مصر يذهبون إلى
المناولة من غير أن يعلم الراوي هل ما في الجزء حديثه أم لا -
والله أعلم -.
وهذا الذي ذكر الخطيب صحيح، وقد اعتمد أحمد في ذلك على حكاية
حكاها له ابن معين، عن ابن وهب، أنه طلب من سفيان بن عيينة (أن
يجيز
(1/522)
له رواية جزء) أتاه به في يده، فأنكر ذلك
ابن معين، وقال لابن وهب: هذا والريح بمنزلة، ادفع إليه الجزء
حتى ينظر في حديثه.
وقد روي عن ابن شهاب جواز ذلك أيضا، إلا أن الخطيب تأوله على
أنه كان سبق علمه بما فيه، وفيه بعد.
وظاهر ما أسند الترمذي عن ابن جريج، وهشام بن عروة يدل على
جواز ذلك أيضا.
وروى عن مالك ما يدل عليه.
وإن قال العالم: إن كانت هذه من حديثي، فحدث بها جاز، ومقالة
مالك - رضي الله عنهـ - وظاهر الكلام أحمد يدل على أنه لا بد
أن يكون المناول حاضرا، فإن أذن له في رواية شيء غائب لم يجز،
فإنه قال في رواية الأثرم:
كان شعيب بن أبي حمزة عسرا في الحديث، فسألوه أن يأذن لهم أن
يرووا عنه، فقال: لا ترووا هذه الأحاديث عني، ثم كلموه، وحضر
ذلك أبو اليمان، فقال لهم: ارووا تلك الأحاديث عني.
(1/523)
وقيل لأبي عبد الله: مناولة؟ قال (لو كان
مناولة) كان، لم يعطهم كتبا ولا شيئا، إنما سمع هذا فقط، فكان
أبو اليمان بعد يقول: (أنا) شعيب، فكأنه استحل ذلك بأن سمع
شعيبا يقول لقوم: ارووه عني.
قال: استحل ذلك.. شيء عجيب..
وذكر أحمد ذلك على وجه الإنكار على أبي اليمان.
"قبول حديث أبي اليمان وتخريجه"
وحديث أبي اليمان عن شعيب متفق على تخريجه في الصحيحين. وإذا
كان حديث شعيب عندهم معروفا، وأذن لهم في روايته عنه، فلا حاجة
إلى إحضاره ومناولته، بل هذه إجازة من غير مناولة.
والحديث الذي خرجه الترمذي عن الحسن يدل على جواز ذلك أيضا،
إلا أن أبا اليمان كان يقول في الرواية بها: (أنا) . وقد نهى
عن ذلك الأوزاعي وأحمد بن صالح المصري. ورخص فيه آخرون، منهم
مالك، ورواه الوليد بن يزيد عن الأوزاعي أيضا، وقد روي عن أحمد
أيضا.
(1/524)
قال صالح بن أحمد الحافظ: سمعت القاسم بن
أبي صالح، يقول: سمعت إبراهيم بن الحسين يقول: سمعت أبا اليمان
الحكم بن نافع يقول: قال لي أحمد بن حنبل: كيف سمعت الكتب من
شعيب بن أبي حمزة؟.
قلت: قرأت عليه بعضه، وبعضه قرأه علي، وبعضه أجاز لي، وبعضه
مناولة فقال: قل في كله: (أنا) شعيب.
ونقل البرذعي عن أبي زرعة الرازي، قال:
لم يسمع أبو اليمان من شعيب بن أبي حمزة إلا حديثا واحدا،
والباقي إجازة.
"المناولة بالكتابة"
ومن أنواع المناولة أن يكتب العالم إلى رجل بشيء من حديثه،
ويختمه، ويأذن له في روايته عنه، وهي دون المناولة من يده، وقد
روى بها خلق كثير من جلة السلف والخلف.
وقال أيوب وشعبة منصور وغيرهم: إذا كتب إليك العالم، فقد حدثك.
وقال ابن وهب: كان يحيى بن سعيد يكتب إلى الليث بن سعد، فيقول
الليث: حدثني (يحيى بن سعيد. وكان هشام يكتب إليه فيقول:
حدثني) هشام.
(1/525)
"الشهادة على الكتاب المختوم"
وهؤلاء منهم من طرد ذلك في باب الشهادة، فأجاز
الشهادة على الكتاب المختوم
ونحوه، وإن لم يعلم ما فيه.
وحكي ذلك عن الزهري، وهو قول أبي عبيد، وأبي يوسف. وخرجه طائفة
من أصحابنا، رواية عن أحمد.
"من فرق بين الرواية والشهادة"
ومنهم من فرق بين الرواية والشهادة،
فأجاز الرواية بالمناولة دون الشهادة على الخط المختوم، وهو
المشهور عن الشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم من الفقهاء.
وفرق كثير منهم بأن الرواية مبناها على المسامحة، فإنه لا
يشترط لها العدالة الباطنة، ويقبل فيها قول النساء والعبيد
مطلقا، ويقبل فيها العنعنة بخلاف الشهادة.
ومنهم من فرق بأن الشهادة يخفي تغييرها وزيادتها ونقصها، بخلاف
الحديث فإنه قد حفظ وضبط، فلا يكاد يخفي تغييره.
وقيل: إن كلام أحمد إيماء إلى هذا الفرق.
"العمل بالوصية المختومة وعمل
القاضي بكتاب القاضي"
وقد يجوز كثير من العلماء العمل بالوصية المختومة، وإن لم يشهد
عليها، وهو نص أحمد وقول محمد بن نصر المروزي وغيره.
وكذلك جوز كثير من فقهاء الحجاز عمل القاضي بكتاب القاضي، إذا
(1/526)
عرف أنه كتابه من غير شهادة على ما فيه.
وقد حكى المعافى بن زكريا ذلك عن جمهور فقهاء الحجاز والشام
ومصر والمغرب والبصرة. وحكاه عن مالك والأوزاعي، والليث،
وإسحاق وأبي عبيد، وسمى عددا كثيرا.
ولكن لا يلزم من جواز العمل بالخط المعروف جواز تحمل الشهادة
بما لم يسمعه، وإن جاز أن يشهد أنه خط فلان إذا عرفه، ولعل
مراد كثير ممن قال بقبول الكتاب المختوم المشهود عليه. وإن لم
يقرأ على الشهود أن الشاهد يشهد أن هذا كتاب فلان أو خطه
فحينئذ يكون العمل بالخط.
وقد تقدم أن الأوزاعي فرق بين المناولة بين العمل والرواية في
رواية عنه، فلا يلزم من جواز العمل بما عرف صحته جواز تحمله من
غير تحمل له.
وأما الأثرم الذي خرجه الترمذي من حديث بشير بن نهيك، عن أبي
هريرة، فقد رواه روح بن عبادة، عن عمران بن حدير، عن أبي مجلز،
قال بشير بن نهيك: كنت أكتب بعض ما أسمع من أبي هريرة، فلما
أردت فراقه أتيت بالكتب فقرأتها عليه. فقلت: هذا سمعته منك؟
فقال: نعم.
ورواه عثمان بن الهيثم عن عمران به بنحوه.
ورواه أبو عاصم، عن عمران بن حدير به، وقال في حديثه: فلما
أردت فراقه أتيته فقلت: هذا حديثك، أحدث به عنك؟ قال: نعم.
(1/527)
وهذا ليس من باب المناولة ولا من باب العرض
المجرد، بل رواية روح تدل على أنه عرض بعد سماع.
وفي كلا الروايتين أنه كان يكتب بعدما يسمع منه، ثم أقر له به
أبو هريرة، وأذن له في روايته، وهذا نهاية ما يكون من التثبيت
في السماع، مع أن البخاري قال في بشير: لا أرى له سماعا من أبي
هريرة.
نقله عنه الترمذي في العلل.
المسألة الرابعة: الرواية بالإجازة
من غير مناولة
وقد ذكر الترمذي عن بعض أهل العلم إجازتها، وقد حكاه غيره عن
جمهور أهل العلم.
وحكاه بعضهم إجماعا، وليس كذلك، بل قد أنكر الإجازة جماعة من
العلماء، وحكي ذلك عن أبي زرعة، وصالح بن محمد، وإبراهيم
الحربي.
وروى الربيع عن الشافعي أنه كره الإجازة.
قال الحاكم: لقد كرهت عند أكثر أئمة هذا الشأن.
والذين أنكروا الإجازة المطلقة، منهم من رخص في المناولة، وهو
قول أحمد بن صالح المصري.
وروي أيضا مثله عن إبراهيم الحربي وأبي بكر البرقاني، وظاهر
(1/528)
كلام أحمد في رواية الأثرم في قصة رواية
أبي اليمان عن شعيب يدل على مثل ذلك، إلا أن يحمل إنكاره على
أبي اليمان على إطلاقه لفظ الإخبار في الرواية بالإجازة، لا
على أصل الرواية بالإجازة.
وقد ذكرنا عنه رواية أخرى أنه أجاز لأبي اليمان إطلاق قوله
(أنا) فيما يرويه عن شعيب بالمناولة والإجازة، وهو قول كثير من
السلف والخلف.
وروي عن أحمد أنه أجاز يقول (ثنا) فيما يرويه بالإجازة، وحكى
أيضا عن مالك والليث بن سعد والثوري وغيرهم.
"المرسل"
قال أبو عيسى - رحمه الله -:
والحديث إذا كان مرسلا فإنه لا يصخ عند أكثر أهل الحديث، وقد
ضعفه غير واحد.
أخبرنا علي بن حجر (أنا) بقية بن الوليد، عن عتبة بن أبي حكيم،
قال:
سمع الزهري إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة يقول: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
الزهري:
قاتلك الله يا ابن أبي فروة تجيئنا بأحاديث ليس لها خطم ولا
أزمة.
أخبرنا أبو بكر عن علي بن عبد الله، قال: قال يحيى بن سعيد:
مرسلات مجاهد أحب إلي من مرسلات عطاء بن أبي رباح بكثير، كان
عطاء (يحطب) يأخذ من كل شرب.
(1/529)
قال علي: قال يحيى: مرسلات سعيد بن جبير
أحب إلي من مرسلات عطاءز
قلت ليحيى: مرسلات مجاهد أحب (إليك) أم مرسلات طاوس".
قال: ما أقربهما؟.
قال علي: وسمعت يحيى يقول: مرسلات أبي إسحاق عندي شبه لا شيء،
والأعمش والتيمي ويحيى بن أبي كثير. ومرسلات ابن عيينة شبه
الريح. ثم قال: إي والله وسفيان بن سعيد.
قلت ليحيى: فمرسلات مالك؟ قال: هي أحب إلي.
ثم قال يحيى: ليس في القوم أحد أصح حديثا من مالك.
حدثنا سوار بن عبد الله العنزي، قال: سمعت يحيى بن سعيد
القطان، يقول: ما قال الحسن في حديثه، قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلا وجدنا له أصلا إلا حديثا أو حديثين.
قال أبو عيسى:
ومن ضعف المرسل فإنه ضعفه من قبل أن هؤلاء الأئمة قد حدثوا
الثقات وغير الثقات. فإذا روى أحدهم حديثا وأرسله لعله أخذه عن
غير ثقة.
وقد تكلم الحسن البصري في معبد الجهني، ثم روى عنه:
حدثنا بشر بن معاذ البصري (ثنا) مرحوم بن عبد العزيز العطار،
قال: حدثني أبي وعمي، قالا: سمعنا الحسن يقول: إياكم ومعبد
الجهني فإنه ضال مضل.
(1/530)
قال أبو عيسى:
ويروى عن (الشعبي) ، قال: (ثنا) الحارث الأعور، وكان كذابا.
وقد حدث عنه. وأكثر الفرائض التي يرويها عن علي وغيره هي عنه.
وقد قال الشعبي: الحارث الأعور علمني الفرائض، وكان من أفرض
الناس.
سمعت محمد بن بشار يقول: سمعت عبد الرحمن بن مهدي، يقول: ألا
تعجبون من سفيان بن عيينة؟ لقد تركت لجابر الجعفي بقوله لما
روى عنه أكثر من ألف حديث، ثم هو يحدث عنه.
قال محمد بن بشار: وترك عبد الرحمن بن مهدي حديث جابر الجعفي.
قال أبو عيسى:
وقد احتج بعض أهل العلم بالمرسل أيضا.
حدثنا أبو عبيدة بن أبي سفر الكوفي، (ثنا) سعيد بن عامر عن
شعبة عن سليمان الأعمش، قال: قلت لإبراهيم النخعي أسند لي عن
عبد الله بن مسعود.
فقال إبراهيم: إذا حدثتك عن رجل عن عبد الله فهو الذي سميت،
وإذا قلت: قال عبد الله فهو عن غير واحد عن عبد الله.
(1/531)
الكلام ههنا في حكم
الحديث المرسل
وقد ذكر الترمذي لأهل العلم فيه قولين:
أحدهما: أنه لا يصح، ومراده: أنه لا يكون حجة.
وحكاه عن أكثر أهل الحديث. وحكاه الحاكم عن جماعة أهل الحديث
من فقهاء الحجاز، وسمى منهم: سعيد بن المسيب، والزهري، ومالك
بن أنس والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، فمن بعدهم من فقهاء
المدينة.
وفي حكايته عن أكثر من سماه نظر.
ولا يصح عن أحد منهم الطعن في المراسيل عموما، ولكن في بعضها.
وأسند الترمذي قول الزهري لإسحاق بن أبي فروة: قاتلك الله
تجيئنا بأحاديث ليس لها خطم ولا أزمة، يريد لا أسانيد لها،
وهذا ذم لمن يرسل الحديث ولا يسنده.
وروى سلمة بن العيار عمن سمع الزهري يقول: ما هذا الأحاديث
التي تأتون بها ليس لها خطم وأزمة، يعني الأسانيد.
وذكر الترمذي أيضا كلام يحيى بن سعيد القطان في أن بعض
المرسلات أضعف من بعض.
ومضمون ما ذكر عنه تضعيف مرسلات عطاء، وأبي إسحاق، والأعمش،
والتيمي، ويحيى بن أبي كثير والثوري، وابن عيينة، وأن مرسلات
مجاهد وطاوس وسعيد بن المسيب ومالك أحب إليه منها.
وقد أشار إلى علة ذلك بأن عطاء كان يأخذ عن كل ضرب، يعني أنه
كان يأخذ عن الضعفاء ولا ينتقي الرجال، وهذه العلة مطردة في
أبي إسحاق،
(1/532)
والأعمش والتيمي ويحيى بن أبي كثير،
والثوري، وابن عيينة، فإنه عرف عنهم الرواية عن الضعفاء أيضا.
وأما مجاهد وطاوس وسعيد بن المسيب ومالك فأكثر تحريا في
رواياتهم وانتقادا لمن يروون عنه، مع أن يحيى بن سعيد صرح بأن
الكل ضعيف.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا صالح بن أحمد بن حنبل، (ثنا) علي بن
المديني، قال: قلت ليحيى بن سعيد: (ابن المسيب) عن أبي بكر؟ ز
قال: شبه الريح.
قال: وسمعت يحيى يقول: مالك عن سعيد بن المسيب أحب إلي من
سفيان عن إبراهيم، قال يحيى: وكل ضعيف.
قال: وسمعت يحيى يقول: سفيان عن إبراهيم شبه لا شيء. لأنه لو
كان فيه إسناد صاح به. قال: وقال يحيى: أما مجاهد عن علي فليس
بها بأس، قد أسند عن ابن أبي ليلى عن علي.
وأما عطاء، يعني عن علي، فأخاف أن يكون من كتاب.
قال: وسمعت يحيى يقول: مرسلات ابن أبي خالد ليس بشيء، ومرسلات
عمرو بن دينار أحب إلي.
قال: وسمعت يحيى يقول: مرسلات معاوية بن قرة أحب إلي من مرسلات
زيد بن أسلم.
(1/533)
وذكر يحيى عن شعبة أنه كان يقول: عطاء عن
علي إنما هي من كتاب، ومرسلات معاوية بن قرة نرى أنها عن شهر
بن حوشب.
قال ابن أبي حاتم: وحدثنا أحمد بن سنان الواسطي قال: كان يحيى
بن سعيد لا يرى إرسال الزهري وقتادة شيئا، ويقول: هو بمنزلة
الريح، ويقول: هؤلاء قوم حفاظ كانوا إذا سمعوا الشيء (علقوه) .
وكلام يحيى بن سعيد في تفاوت مراتب المرسلات بعضها على بعض
يدور على أربعة أسباب:
أحدهما: ما سبق من أن من عرف روايته عن الضعفاء ضعف مرسله
بخلاف غيره.
والثاني: أن من عرف له إسناد صحيح إلى من أرسل عنه، فإرساله
خير ممن لم يعرف له ذلك. وهذا معنى قوله: مجاهد عن علي ليس به
بأس، قد أسند عن ابن أبي ليلى عن علي.
والثالث: أن من قوي حفظه يحفظ كل ما يسمعه ويثبت في قلبه،
ويكون فيه ما لا يجوز الاعتماد عليه. بخلاف من لم يكن له قوة
الحفظ. ولهذا كان سفيان إذا مر بأحد يتغنى يسد أذنيه حتى لا
يدخل إلى قلبه ما يسمعه منه فيقر فيه.
وقد أنكر مرة يحيى بن معين على علي بن عاصم حديث، وقال: ليس هو
من حديثك، إنما ذوكرت به فوقع في قلبك، فظننت انك سمعته، ولم
تسمعه، وليس هو من حديثك.
وقال الحسين بن حريث: سمعت وكيعا يقول: لا ينظر الرجل في كتاب
لم يسمعه، لا يأمن أن يعلق قلبه منه.
(1/534)
وقال الحسين بن الحسن المروزي: سمعت عبد
الرحمن بن مهدي يقول: كنت عند أبي عوانة فحدث بحديث عن الأعمش:
فقلت: ليس هذا من حديثك. قال: بلى. قلت: لا. قال: بلى. قلت:
لا. قال: يا سلامة هات الدرج فأخرجت فنظرت فيه، فإذا ليس
الحديث فيه، فقال: صدقت يا أبا سعيد، فمن أين أتيت؟ قلت: ذوكرت
به وأنت شاب فظننت أنك سمعته.
والرابع: إن الحافظ إذا روى عن ثقة لا يكاد يترك اسمه بل
يسميه، فإذا ترك اسم الراوي دل إبهامه على انه غير مرضي، وقد
كان يفعل ذلك الثوري وغيره كثيرا، يكنون عن الضعيف ولا يسمونه،
بل يقولون: عن رجل، وهذا معنى قول القطان: لو كان فيه إسناد
صاح به، يعني لو كان أخذه عن ثقة لسماه وأعلن باسمه.
"مرسل الزهري ومنزلته"
وخرج البيهقي من طريق أبي قدامة السرخسي، قال: سمعت يحيى بن
سعيد يقول: مرسل الزهري شر من مرسل غيره، لأنه حافظ، وكل ما
يقدر أن يسمى سمي، وإنما يترك من لا يستجيز أن يسميه.
وقال يحيى بن معين: مراسيل الزهري ليس بشيء.
وقال الشافعي: إرسال الزهري - عندنا - ليس بشيء، وذلك أنا نجده
يروي عن سليمان بن أرقم.
وقد روي أيضا تضعيف مراسيل الزهري عن يحيى بن سعيد، وأن أحمد
بن صالح المصري أنكر ذلك عليه. لكن من وجه لا يثبت.
(1/535)
"مراسيل الحسن"
وأما مراسيل الحسن البصري
ففي كلام الترمذي ما يقتضي تضعيفها مع مراسيل الشعبي، فإنه ذكر
أن الحسن ضعف معبدا ثم روى عنه، وأن الشعبي كذب جابرا الجعفي
ثم روى عنه، فتضعف مراسيلهما حينئذ، وما ذكره عن يحيى القطان
أن مراسيل الحسن وجد لها أصلا إلا حديثا أو حديثين يدل على أن
مراسيله جيدة.
وقال ابن عدي: سمعت الحسن بن عثمان يقول: سمعت أبا زرعة الرازي
يقول: كل شيء يقول الحسن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
وجدت له أصلا ثابتا ما خلا أربعة أحاديث.
وخرج عبد الغني بن سعيد من طريق نصر بن مر زوق وسلمة بن مكتل،
قالا: سمعنا الخصيب بن ناصح يقول: كان الحسن إذا حدثه رجل واحد
عن النبي صلى الله عليه وسلم بحديث ذكره. فإذا حدثه أربعة
بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ألقاهم، وقال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم سلمة بن مكتل مصري، ذكره ابن يونس.
والخصيب بن ناصح مصري - أيضا - متأخر، لم يدرك الحسن، إنما
يروي عن خالد بن خداش ونحوه، ويروي عنه أيضا عبد الرحمن بن عبد
الله بن عبد الحكم.
(1/536)
قال محمد بن أحمد بن محمد بن أبي بكر
المقدمي: سمعت علي بن المديني يقول: مرسلات الحسن البصري التي
رواها عنه الثقات صحاح، ما أقل ما يسقط منها.
وقال ابن عبد البر: روى عباد بن منصور: سمعت الحسن، قال: ما
حدثني به رجلان قلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى
محمد بن موسى الحرشي عن ثمامة بن عبيدة (ثنا) عطية بن محارب عن
يونس، قال: سالت الحسن قلت: يا أبا سعيد انك تقول: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم ولم تدركه.
قال: كل شيء سمعتني أقوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
فهو عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهـ - غير أني في زمان لا
أستطيع أن أذكر عليا، وكان في عمل الحجاج.
وهذا إسناد ضعيف، ولم يثبت للحسن سماع من علي.
وذكر البخاري في تاريخه، قال: قال الهيثم بن عبيد (الصيد)
(1/537)
حدثني أبي، قال: قال رجل للحسن: انك
لتحدثنا: قال النبي صلى الله عليه وسلم فلو كنت تسند لنا؟
قال: والله ما كذبناك ولا كذبنا، لقد غزوت إلى خراسان غزوة
معنا فيها ثلاثمائة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذا يدل على أن مراسيل الحسن، أو أكثرها عن الصحابة.
وضعف آخرون مراسيل الحسن:
روى حماد عن ابن عون، عن ابن سيرين، قال: كان ههنا ثلاثة
يصدقون كل من حدثهم، وذكر الحسن وأبا العالية ورجلا آخر.
وروى جرير عن رجل عن عاصم الأحول، عن ابن سيرين قال: لا تحدثنا
عن الحسن، ولا عن أبي العالية فانهما لا يباليان عمن أخذا
الحديث.
وروى داود بن أبي هند عن الشعبي، قال: لو لقيت هذا يعني الحسن
لنهيته عن قوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صحبت ابن
عمر ستة أشهر فما سمعته قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلا في حديث واحد.
وروى شعبة عن عبد الله بن صبيح عن محمد بن سيرين قال: ثلاثة
كانوا يصدقون من حديثهم أنس، وأبو العالية، والحسن البصري.
قال الخطيب أراد أنس بن سيرين وفيه نظر.
وقال الإمام أحمد: (ثنا) أبو أسامة عن وهيب بن خالد، عن خالد
(1/538)
الحذاء، قال: سمعت محمد بن سيرين يقول: كان
أربعة يصدقون من حديثهم، أبو العالية والحسن وحمدي بن هلال،
ورجل آخر سماه.
وقد كان ابن سيرين يقول: سلوا الحسن ممن سمع "حديث العقيقة".
وسلوا الحسن ممن سمع "عمار تقتله الفئة الباغية".
وقال أحمد في رواية الفضل بن زياد: مرسلات سعيد بن المسيب أصح
المرسلات، ومرسلات إبراهيم لا بأس بها. وليس في المرسلات أضعف
من مراسيل الحسن وعطاء بن أبي رباح، فانهما يأخذان عن كل.
وقال أحمد في رواية الميموني وحنبل عنه: مرسلات سعيد بن المسيب
صحاح لا نرى أصح من مرسلاته.
زاد الميموني: وأما الحسن وعطاء فليس هي بذاك. هي أضعف
المراسيل كلها فإنهما كانا يأخذان عن كل.
وقال ابن سعد: قالوا ما أرسل الحسن ولم يسنده فليس بحجة.
وقال أحمد في رواية ابنه عبد الله: ابن جريج كان لا يبالي من
أين يأخذ، وبعض أحاديثه التي يرسلها، يقول: أخبرت عن فلان،
موضوعه.
وممن تكلم من السلف في المراسيل ابن سيرين، وقد تقدم قوله:
كانوا
(1/539)
لا يسألون عن (الإسناد) حتى وقعت الفتنة،
وقوله لما حدث عن أبي قلابة: أبو قلابة رجل صالح، ولكن عمن
أخذه أبو قلابة.
وكذلك تقدم قول ابن المبارك، لما روي له حديث عن الحجاج بن
دينار عن النبي صلى الله عليه وسلم: بين الحجاج بن دينار وبين
النبي صلى الله عليه وسلم مفاوز تنقطع فيها أعناق الإبل.
وقد سبق كلام شعبة ويحيى القطان.
وكذلك ذكر أصحاب الشافعي أن مذهبه أن المراسيل ليست حجة،
واستثنى بعضهم مراسيل سعيد بن المسيب، وقال: هي حجة عنده.
قال أبو الطيب الطبري: وعلى ذلك يدل كلام الشافعي. ومن أصحابه
من قال: إنما تصلح للترجيح لا غير.
وقال يونس بن عبد الأعلى: قال لي الشافعي: ليس المنقطع بشيء ما
عدا منقطع ابن المسيب.
(1/540)
خرجه ابن أبي حاتم في أول كتاب المراسيل عن
أبيه عن يونس. وتأوله على أن مراده أن يعتبر بمراسيل سعيد بن
المسيب.
وخرجه عبد الغني بن سعيد من طريق محمد بن (سفيان) بن سعيد
المؤذن عن يونس به.
قال ابن أبي حاتم: وسمعت أبي وأبا زرعة يقولا: لا يحتج
بالمراسيل، ولا تقوم الحجة إلا بالأسانيد الصحاح. وكذلك قال
الدارقطني: المرسل لا تقوم به حجة.
وخرج مسلم في مقدمة كتابه من طريق قيس بن سعد عن مجاهد، قال:
جاء بشير بن كعب العدوي إلى ابن عباس فجعل يحدث ويقول: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل ابن عباس لا يأذن بحديثه
ولا ينظر إليه. فقال: يا ابن عباس، ما لي أراك لا تسمع لحديثي،
أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسمع؟
فقال ابن عباس: إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه
بآذاننا، فلما ركب الناس الصعبة والذلول لم نأخذ من الناس إلا
بما نعرف.
ثم قال مسلم في أثناء كلامه: المرسل في أصل قولنا وقول أهل
العلم بالإخبار ليس بحجة.
(1/541)
القول الثاني في
المسألة: الاحتجاج بالمرسل
وحكاه الترمذي عن بعض أهل العلم وذكر كلام إبراهيم النخعي أنه
كان إذا أرسل فقد حدثه به غير واحد وان أسند لم يكن عنده إلا
عمن سماه. وهذا يقتضي ترجيح المرسل على المسند، لكن عن النخعي
خاصة، فيما أرسله عن ابن مسعود خاصة.
وقد قال أحمد في مراسيل النخعي، لا بأس بها.
وقال ابن معين: مرسلات ابن المسيب أحب إلي من مرسلات الحسن.
ومرسلات إبراهيم صحيحة إلا حديث تاجر البحرين، وحديث الضحك في
الصلاة. وقال أيضا: إبراهيم أعجب إلي مرسلات من سالم والقاسم
وسعيد بن المسيب.
قال البيهقي: والنخعي نجده يروي عن قوم مجهولين لا يروي عنهم
غيره، مثل هنى بن نويرة وخزام الطائي، قرثع الضبي ويزيد
(1/542)
ابن أوس، وغيرهم.
وقال العجلي: مرسل الشعبي صحيح، لا يكاد يرسل إلا صحيحا.
وقال الحسن بن شجاع البلخي: سمعت علي بن المديني يقول: مرسل
الشعبي وسعيد بن المسيب أحب إلي من داود بن الحصين عن عكرمة عن
ابن عباس.
وقد استدل كثير من الفقهاء بالمرسل، وهو الذي ذكره أصحابنا أنه
الصحيح عن الإمام أحمد، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وأصحاب
مالك أيضا هكذا أطلقوه.
وفي ذلك نظر سنبين علته - إن شاء الله - تعالى.
وحكي الاحتجاج بالمرسل عن أهل الكوفة، وعن أهل العراق جملة،
وحكاه الحاكم عن إبراهيم النخعي، وحماد بن أبي سليمان، وأبي
حنيفة، وصاحبيه.
وقال أبو داود السجستاني في رسالته إلى أهل مكة: وأما المراسيل
فقد كان يحتج بها العلماء فيما مضى مثل سفيان الثوري، ومالك بن
أنس والأوزاعي، حتى جاء الشافعي فتكلم فيه، وتابعه على ذلك
أحمد بن حنبل وغيره.
قال أبو داود: فإذا لم يكن مسند ضد المراسيل، ولم يوجد (مسند)
، فالمراسيل يحتج بها، وليس هو مثل المتصل في القوة، انتهى.
وأعلم أنه لا تنافي بين كلام الحفاظ، وكلام الفقهاء في هذا
الباب، فإن
(1/543)
الحفاظ إما يريدون صحة الحديث المعين إذا
كان مرسلا، وهو ليس بصحيح، على طريقتهم، لانقطاعه وعدم اتصال
إسناده إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما الفقهاء فمرادهم صحة ذلك المعنى الذي دل عليه الحديث،
فإذا عضد ذلك المرسل قرائن تدل على أن له أصلا قوي الظن بصحة
ما دل عليه، فاحتج به مع ما احتف به من القرائن.
وهذا هو التحقيق في الاحتجاج بالمرسل عند الأئمة كالشافعي
وأحمد وغيرهما مع أن في كلام الشافعي ما يقتضي صحة المرسل
حينئذ.
وقد سبق قول أحمد في مرسلات ابن المسيب: صحاح. ووقع مثله في
كلام ابن المديني، وغيره.
قال ابن المديني في حديث يرويه أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود
عن أبيه هو منقطع، وهو حديث ثبت.
قال يعقوب بن شيبة: إنما استجاز أصحابنا أن يدخلوا حديث أبي
عبيدة عن أبيه في المسند، يعني في الحديث المتصل، لمعرفة أبي
عبيدة بحديث أبيه وصحتها، وأنه لم يأت فيها بحديث منكر.
وقد ذكر ابن جرير وغيره أن إطلاق القول بأن المرسل ليس بحجة من
غير تفصيل بدعة حدثت بعد المائتين. ونحن نذكر كلام الشافعي
وأحمد في ذلك بحروفه:
(1/544)
قال الشافعي - رحمه الله - في الرسالة:
والمنقطع مختلف، فمن شاهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
(من التابعين، فحدث حديثا منقطعا عن النبي صلى الله عليه وسلم
اعتبر عليه بأمور منها:
أن ينظر إلى ما أرسل من الحديث، فإن شركه الحفاظ المأمون
فأسندوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل معنى ما روى،
كانت هذه دلالة على صحة من قبل عنه وحفظه، وإن انفرد بإرسال
حديث لم يشركه فيه من يسنده قبل ما ينفرد به من ذلك ويعتبر
عليه بأن ينظر:
- هل يوافقه مرسل غيره ممن قبل عنه العلم، من غير رجاله الذي
قبل عنهم؟ فإن وجد ذلك كانت دلالة تقوي له مرسله، وهي أضعف من
الأولى.
- وإن لم يوجد ذلك نظر إلى بعض ما يروى عن بعض أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم قولا له، فإن وجد يوافق ما روى عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم كانت في هذا دلالة على أنه لم يأخذ مرسله
إلا عن أصل يصح - إن شاء الله -.
وكذلك إن وجد عوام (من) أهل العلم يفتون بمثل معنى ما روي عن
النبي صلى الله عليه وسلم ثم يعتبر عليه بأن يكون إذا سمى من
روى عنه لم يسم مجهولا، ولا مرغوبا عن الرواية عنه، فيستدل
بذلك على صحته فيما روي عنه.
ويكون إذا شرك أحد من الحفاظ في حديث لم يخالفه فإن خالفه
(ووجد) حديثه أنقص كانت في هذه دلائل على صحة مخرج حديثه.
(1/545)
ومتى خالف ما وصفت أضر بحديثه، (حتى) لا
يسع أحدا قبول مرسله.
قال: وإذا (وجدت) الدلائل بصحة حديثه بما وصفت أحببنا أن يقبل
مرسله. ولا نستطيع أن نزعم أن الحجة تثبت بها ثبوتها بالمتصل،
وذلك أن معنى المنقطع مغيب يحتمل أن يكون حمل عمن يرغب عن
الرواية عنه، إذا سمي، وأن بعض المنقطعات وإن وافقه مرسل مثله
قد يحتمل أن يكون مخرجهما واحدا من حيث لو سمي لم يقبل، وأن
قول بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال برأيه لو
وافقه (لم) يدل على صحة مخرج الحديث دلالة قوية إذا نظر فيها:
ويمكن أن يكون إنما غلط به حين سمع قول بعض أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم فوافقه، ويحتمل مثل هذا فيمن يوافقه بعض
الفقهاء.
قال: فأما من بعد كبار التابعين فلا أعلم منهم أحدا يقبل مرسله
لأمور:
- أحدهما أنهم أشد تجوزا فيمن يروون عنه.
- والآخر أنهم توجد عليهم دلائل فيما أرسلوا بضعف مخرجه.
والآخر كثرة الإحاطة في الأخبار، وإذا كثرت الإحاطة، كان أمكن
للوهم، وضعف من يقبل عنه.
انتهى كلامه.
"مضمون كلام الشافعي":
وهو كلام حسن جدا، ومضمونه: أن الحديث المرسل يكون صحيحا،
ويقبل بشروط منها.
(1/546)
"1" في نفس المرسل، وهي ثلاثة:
أحدهما - أن لا يعرف له رواية عن غير مقبول الرواية، من مجهول
أو مجروح.
ثانيهما - أن لا يكون ممن يخالف الحفاظ إذا أسند الحديث فيما
أسندوه، فإن كان ممن يخالف الحفاظ عند الإسناد لم يقبل مرسله.
ثالثها - أن يكون من كبار التابعين فإنهم لا يروون غالبا إلا
عن صحابي، أو تابعي كبير، وأما غيرهم من صغار التابعين ومن
بعدهم فيتوسعون في الرواية عمن لا تقبل روايته، وأيضا فكبار
التابعين كانت الأحاديث في وقتهم الغالب عليها الصحة، وأما من
بعدهم فانتشرت في أيامهم الأحاديث المستحيلة، وهي الباطلة
الموضوعة، وكثر الكذب حينئذ.
وهذا ليس بشيء، فإن الشافعي اعتبر أن يسنده الحفاظ المأمون،
(1/547)
وكلامه إنما هو في صحة المرسل وقبوله، لا
في الاحتجاج للحكم الذي دل عليه المرسل، وبينهما بون.
وبعد أن كتبت هذا وجدت أبا عمرو بن الصلاح قد سبق إليه، وفي
كلام أحمد إيماء إليه، فإنه ذكر حديثا رواه خالد بن أبي قلابة،
عن ابن عباس، فقيل له: سمع أبو قلابة من ابن عباس أو رآه؟ قال:
لا، ولكن الحديث صحيح عنه، يعني عن ابن عباس، وأشار إلى أنه
روي عن ابن عباس من وجوه أخر.
(ثم وجدت في كلام أبي العباس بن سريج في رده على أبي بكر بن
أبي داود ما اعترض به على الشافعي أن مراد الشافعي أن المرسل
للحديث يعتبر أن توجد مراسيله توافق ما أسنده الحفاظ المأمون،
فيستدل بذلك على أن لمراسيله أصلا، فإذا وجدنا له مرسلا بعد
ذلك قبل، وإن لم يسنده الحفاظ.
وكأنه اعتبر أن يوجد الغالب على مراسيله ذلك، إذ لو كان معتبرا
في جميع مراسيله لم يقبل له مرسل حتى يسنده الثقات، "فيعود
الإشكال".
وهذا الذي قاله ابن سريج مخالف لما فهم الناس من كلام الشافعي
مع مخالفته لظاهر كلامه - والله أعلم -) .
(1/548)
والثاني: أن يوجد مرسل آخر موافق له عن
عالم يروي عن غير من يروي عنه (المرسل) الأول، فيكون ذلك دليلا
على تعدد مخرجه، وأن له أصلا بخلاف ما إذا كان المرسل الثاني
لا يروي إلا عمن يروي عنه الأول) ، فإن الظاهر أن مخرجها واحد،
لا تعدد فيه.
وهذا الثاني أضعف من الأول.
والثالث: أن لا يوجد شيء مرفوع يوافقه لا مسند ولا مرسل، لكن
يوجد ما يوافقه من كلام بعض الصحابة فيستدل (به) على أن للمرسل
أصلا صحيحا أيضا، لأن الظاهر أن الصحابي إنما (أخذ) قوله عن
النبي صلى الله عليه وسلم.
والرابع: أن لا يوجد للمرسل ما يوافقه، ولا مسند، ولا مرسل،
ولا قول صحابي لكنه يوجد عامة أهل العلم على القول به، فإنه
يدل على أن له أصلا، وأنهم مستندون في قولهم إلى ذلك الأصل.
فإذا وجدت هذه الشرائط دلت على صحة المرسل، وأن له أصلا، وقبل
واحتج به، ومع هذا فهو دون المتصل في الحجة، فإن المرسل وإن
اجتمعت فيه هذه الشروط فإنه يحتمل أن يكون في الأصل مأخوذا عن
غير من يحتج به، ولو عضده حديث متصل صحيح، لأنه يحتمل أن لا
يكون أصل المرسل صحيحا، وإن عضده مرسل فيحتمل أن يكون أصلهما
واحدا وأن يكون متلقى عن (غير مقبول) الرواية، وإن عضده قول
الصحابي فيحتمل أن الصحابي قال برأيه من غير سماع من النبي صلى
الله عليه وسلم فلا يكون في ذلك ما يقوي المرسل. ويحتمل أن
المرسل لما سمع قول الصحابي ظنه مرفوعا فغلط
(1/549)
ورفعه، ثم أرسله ولم يسم الصحابي، فما أكثر
ما يغلط في رفع الموقوفات، وإن عضده موافقة قول عامة الفقهاء
فهو كما لو عضده صحابي وأضعف، فإنه يحتمل أن يكون مستند
الفقهاء اجتهادا منهم، وأن يكون المرسل غلط، ورفع كلام
الفقهاء، لكن هذا في حق كبار التابعين بعيد جدا.
وقال الشافعي أيضا في كتاب الرهن الصغير وقد قيل له: كيف قبلتم
عن ابن المسيب منقطعا، ولم تقبلوه عن غيره؟.
قال: لا نحفظ لابن المسيب منقطعا إلا وجدنا ما يدل على تسديده،
ولا أثر عن أحد عرفناه عنه إلا عن ثقة معروف، فمن كان مثل حاله
قبلنا منقطعة.
وهذا موافق لما ذكره في الرسالة.
فإن ابن المسيب من كبار التابعين، ولم تعرف له رواية عن غير
ثقة، وقد اقترن بمراسيله كلها ما يعضدها.
وقد قرر كلام الشافعي هذا البيهقي في مواضع من تصانيفه كالسنن
والمدخل ورسالته إلى أبي محمد الجويني وأنكر فيها على الجويني
قوله: لا تقوم الحجة بسوى مرسل ابن المسيب. وأنكر صحة ذلك عن
الشافعي، وكأنه لم يطلع على رواية الربيع عنه التي قدمنا
ذكرها.
قال البيهقي: وليس الحسن وابن سيرين بدون كثير من التابعين،
وإن كان بعضهم أقوى مرسلا، منهما أو من أحدهما، وقد قال
الشافعي بمرسل الحسن حين اقترن به ما يعضده في مواضع منها:
"النكاح بلا ولي" وفي "النهي عن بيع الطعام حتى يجري فيه
الصاعان".
وقال بمرسل طاوس وعروة وأبي أماه بن سهل وعطاء بن أبي رباح
(1/550)
وعطاء بن يسار وابن سيرين وغيرهم من كبار
التابعين، حين اقترن به ما أكده، ولم يجد ما هو أقوى منه، كما
قال بمرسل ابن المسيب في النهي عن بيع اللحم بالحيوان، وأكده
بقول الصديق وبأنه روي عن وجه آخر مرسلا.
وقال: مرسل ابن المسيب عندنا حسن.
ولم يقل بمرسل ابن المسيب في زكاة الفطر بمدين من حنطة ولا
بمرسلة في التولية في الطعام قبل أن يستوفى، ولا بمرسله في دية
المعاهد، ولا بمرسله "من ضرب أبه فاقتلوه"، لما لم يقترن بها
من الأسباب ما يؤكدها، أو لما وجد من المعارض لها ما هو أقوى
منها. انتهى ما ذكره البيهقي.
وأما مرسل أبي العالية (الرياحي) في الوضوء من القهقهة في
الصلاة فقد رده الشافعي وأحمد.
وقال الشافعي: حديث أبي العالية الرياحي رياح، يشير إلى هذا
المرسل، وأحمد رده بأنه مرسل مع أنه يحتج بالمراسيل كثيرا،
وإنما ردا هذا المرسل لأن أبا العالية وإن كان من كبار
التابعين فقد ذكر ابن سيرين أنه كان يصدق كل من حدثه، ولم يعضد
مرسله هذا شيء مما يعتضد به المرسل، فإنه لم يرو من وجه متصل
صحيح، بل ضعيف، ولم يرو من وجه آخر مرسل، إلا من وجوه ترجع
كلها إلى أبي العالية.
(1/551)
وهذا المعنى الذي ذكره الشافعي من تقسيم
المراسيل إلى (صحيح محتج به، وغير محتج به) ، يؤخذ من كلام
غيره من العلماء، كما تقدم عن أحمد وغيره بقسيم المراسيل إلى
صحيح، وضعيف، ولم يصحح أحمد المرسل مطلقا، ولا ضعفه مطلقا،
وإنما ضعف مرسل من يأخذ عن غير ثقة، كما قال في مراسيل الحسن
وعطاء، وهي أضعف المراسيل، لأنهما كانا يأخذان عن كل.
وقال أيضا: لا يعجبني (مراسيل) يحيى بن أبي كثير، لأنه يروي عن
رجال ضعاف صغار.
وكذا قوله في مراسيل ابن جريج، قال: بعضها موضوعة.
وقال مهنا: قلت لأحمد: لم كرهت مرسلات الأعمش؟ قال: كان الأعمش
لا يبالي عمن حدث.
وهذا يدل على أنه إنما يضعف مراسيل من عرف بالرواية عن الضعفاء
خاصة، وكان أحمد يقوي مراسيل من أدرك الصحابة، فأرسل عنهم.
قال أبو طالب: قلت لأحمد: سعيد بن المسيب، عن عمر، حجة؟ قال:
هو عندنا حجة، وقد رأى عمر وسمع منه، وإذا لم يقبل سعيد عن عمر
فمن يقبل؟ ومراده أنه سمع منه شيئا يسيرا، لم يرد أنه سمع منه
كل ما روى عنه، فإنه كثير الرواية عنه، ولم يسمع ذلك كله منه
قطعا.
ونقل مهنا عن أحمد أنه ذكر حديث إبراهيم بن محمد بن طلحة،
وقال: قال عمر: "لأمنعن فروج ذوات الأحساب إلا من الأكفاء"،
قال: فقلت له: هذا مرسل عن عمر؟ قال: نعم. ولكن إبراهيم بن
محمد بن طلحة كبير.
(1/552)
وقال في حديث عكرمة، عن النبي صلى الله
عليه وسلم "من لم يسجد على أنفه مع جبهته فلا صلاة له". هو
مرسل أخشى أن لا يكون شيئا.
وقال في حديث عراك عن عائشة، حديث "حولوا مقعدتي إلى القبلة"،
هو أحسن ما روي في الرخصة، وإن كان مرسلا، فإن مخرجه حسن،
ويعني بإرساله أن عراكا لم يسمع من عائشة، وقال: إنما يروي عن
عروة عن عائشة. فلعله حسنه لأن عراكا قد عرف أنه يروي حديث
عائشة عن عروة عنها.
وظاهر كلام أحمد أن المرسل عنده من نوع الضعيف، لكنه يأخذ
بالحديث إذا كان فيه ضعف، ما لم يجيء عن النبي صلى الله عليه
وسلم أو عن أصحابه خلافه.
قال الأثرم: كان أبو عبد الله ربما كان الحديث عن النبي صلى
الله عليه وسلم
(1/553)
وفي إسناده شيء فيأخذ به إذا لم يجيء خلافه
أثبت منه، مثل حديث عمرو بن شعيب، وإبراهيم الهجري، وربما أخذ
بالحديث المرسل إذا لم يجيء خلافه.
وقال أحمد في رواية مهنا، في حديث معمر عن سالم عن ابن عمر: أن
غيلان أسلم وعند عشر نسوة، قال أحمد: ليس بصحيح والعمل عليه.
كان عبد الرزاق يقول: عن معمر عن الزهري، مرسلا. وظاهر هذا أنه
يعمل به مع أنه مرسل، وليس بصحيح، ويحتمل أنه أراد: ليس بصحيح
وصله، وقبله. وقد نص أحمد على تقديم قول الصحابي على الحديث
المرسل.
وكذا كلام ابن المبارك، فإنه قد تقدم عنه أنه ضعف مرسل حجاج بن
(1/554)
دينار وقد احتمل مرسل غيره، فروى الحاكم،
عن الأصم: (ثنا) عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: وجدت في كتاب
أبي، (ثنا) الحسن بن عيسى، قال: حدثت ابن المبارك بحديث لأبي
بكر بن عياش عن عاصم، عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: حسن.
فقلت لابن المبارك: إنه ليس فيه إسناد، فقال: إن عاصما يحتمل
له أن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فغدوت إلى أبي بكر فإذا ابن المبارك قد سبقني إليهن وهو
إلى جنبه فظننته قد سأله عنه.
فإذا احتمل مرسل عاصم بن بهدلة، فمرسل من هو أعلى منه من
التابعين أولى.
وأما مراسيل ابن المسيب
فهي أصح المراسيل كما قال أحمد وغيره. وكذا قال ابن معين: أصح
المراسيل ابن المسيب.
قال الحاكم: قد تأمل الأئمة المتقدمون مراسيله فوجدوها بأسانيد
صحيحة.
قال: وهذه الشرائط لم توجد في مراسيل غيره، كذا قال.
وهذا وجه ما نص عليه الشافعي في رواية يونس بن عبد الأعلى كما
سبق.
(1/555)
ولقد أنكر الخطيب وغيره ذلك وقالوا: لابن
المسيب مراسيل لا توجد مسنده.
وقد ذكر أصحاب مالك أن المرسل يقبل إذا كان مرسله ممن لا يروى
إلا عن الثقات.
وقد ذكر ابن عبد البر ما يقتضي أن ذلك إجماع، فإنه قال: كل من
عرف بالأخذ عن الضعفاء، والمسامحو في ذلك لم يحتج بما أرسله،
تابعا كان أبو من دونه. وكل من عرف أنه لا يأخذ إلا عن ثقة
فتدليسه ومرسله مقبول. فمراسيل سعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين
وإبراهيم النخعي عندهم صحاح. وقالوا: مراسيل الحسن وعطاء لا
يحتج بهما لأنهما كانا يأخذان عن كل أحد، وكذلك مراسيل أبي
قلابة، وأبي العالية، وقالوا: لا يقبل تدليس الأعمش لأنه إذا
وقف أحال على غير مليء، يعنون على غير ثقة. إذا سألته عمن هذا؟
قال: عن موسى بن طريق وعباية بن ربعي، والحسن بن ذكوان. قالوا:
ويقبل تدليس ابن عيينة، لأنه إذا وقف أحال على ابن جريج ومعمر
ونظرائهما.
ثم ذكر بعد ذلك كلام إبراهيم النخعي الذي خرجه الترمذي ههنا.
(1/556)
ثم قال: إلى هذا نزع من أصحابنا من زعم أن
مرسل الإمام أولى من مسنده لأن في هذا الخبر ما يدل على أن
مراسيل النخعي أقوى من مسانيده، وهو لعمري كذلك، إلا أن
إبراهيم ليس بمعيار على غيره. انتهى.
وقول من قبل مراسيل من لا يرسل إلا عن ثقة يدل على أن مذهبه أن
الراوي إذا قال: حدثني الثقة، أنه يقبل حديثه ويحتج به، وإن لم
يسم عين ذلك الرجل. وهو خلاف ما ذكره المتأخرون من المحدثين
كالخطيب وغيره.
وذكره أيضا طائفة من أهل الأصول كأبي بكر الصيرفي وغيره.
وقالوا: قد يوثق الرجل من يجرحه غيره، فلا بد من تسميته لنعرف
هل هو ثقة، أم لا؟.
أما لو علم أنه لا يرسل إلا عن صحابي كان حديثه حجة، لأن
الصحابة كلهم عدول. فلا يضر عدم المعرفة بعين من روى عنه منهم.
وكذلك لو قال تابعي: أخبرني بعض الصحابة، لكان حديثه متصلا
يحتج به، كما نص عليه أحمد.
وكذا ذكر ابن عمار الموصلي، ومن الأصوليين أبو بكر الصيرفي
وغيره، وقال البيهقي: هو مرسل.
(1/557)
"الاختلاف في
تضعيف الرواة"
قال أبو عيسى ـ رحمه الله ـ:
وقد اختلف الأئمة من أهل العلم في تضعيف الرجال كما اختلفوا في
سوى ذلك من العلم.
ذكر عن شعبة أنه ضعف أبا الزبير المكي وعبد الملك بن أبي
سليمان وحكيم بن جبير، وترك الرواية عنهم.
ثم حدث شعبة عمن دون هؤلاء في الحفظ والعدالة، حدث عن جابر
الجعفي، وإبراهيم بن مسلم الهجري، ومحمد بن عبيد الله العرزمي،
وغير واحد ممن يضعفون في الحديث.
حدثنا محمد بن عمرو بن نبهان البصري (ثنا) أمية بن خالد قال:
قلت لشعبة: تدع عبد الملك بن أبي سليمان ونحدث عن محمد بن عبيد
الله العرزمي. قال: نعم.
قال أبو عيسى:
وقد كان شعبة حدث عن عبد الملك بن أبي سليمان، ثم تركه.
ويقال إنما تركه لما تفرد بالحديث الذي روي عن عطاء بن أبي
رباح عن جابر بن عبد الله عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
قال:
"الرجل أحق بشفعته ينتظر بها وإن كان غائباً، إذا كان طريقها
واحداً".
وقد ثبت عن غير واحد من الأئمة، وحدثوا عن أبي الزبير، وعبد
الملك بن أبي سليمان، وحكيم بن جبير.
(2/558)
حدثنا احمد بن منيع، (أنا) هشيم، (أنا)
حجاج، وابن أبي ليلى، عن عطاء بن أبي رباح، قال: كنا إذا خرجنا
من عند جابر بن عبد الله تذاكرنا حديثه، وكان أبو الزبير
أحفظنا للحديث.
حدثنا محمد بن (يحيى بن) أبي عمر المكي، (ثنا) سفيان بن عيينة
قال: قال أبو الزبير، كان عطاء يقدمني إلى جابر بن عبد الله
فأحفظ لهم الحديث.
حدثنا ابن أبي عمر، (ثنا) سفيان، قال: سمعت أيوب السختياني
يقول: حدثني أبو الزبير، قال سفيان بيده فقبضها.
قال أبو عيسى:
إنما يعني به الإتقان والحفظ.
ويروي عن عبد الله بن المبارك أنه قال: كان سفيان يقول: كان
عبد الملك بن أبي سليمان ميزاناً في العلم.
حدثنا أبو بكر، عن علي بن عبد الله، قال: سألت يحيى بن سعيد عن
حكيم بن جبير، فقال: تركه شعبة من أجل الحديث الذي روي في
الصدقة. يعني حديث عبد الله بن مسعود عن النبي ـ صلى الله عليه
وسلم ـ قال: "من سأل الناس، وله ما يغنيه، كان يوم القيامة
خموشاً في وجهه".
قالوا: يا رسول الله، ما يغنيه؟.
قال: خمسون درهماً أو قيمتها من الذهب.
قال علي: قال يحيى: وقد حدث عن حكيم بن جبير سفيان الثوري
وزائدة.
قال علي: ولم ير يحيى بحديثه بأساً.
أخبرنا محمود بن غيلان، (ثنا) يحيى بن آدم (عن سفيان الثوري،
عن
(2/559)
حكيم بن جبير بحديث الصدقة، قال يحيى بن
آدم) ، فقال عبد الله بن عثمان، صاحب شعبة لسفيان الثوري: لو
غير حكيم حدث بهذا؟
فقال له سفيان: وما لحكيم، لا يحدث عنه شعبة؟ قال: نعم.
فقال سفيان الثوري: سمعت زبيداً يحدث بهذا عن محمد بن عبد
الرحمن بن يزيد.
قد تقدم أن رواه الحديث أربعة أقسام:
"1" ـ من هو متهم بالكذب.
"2" ـ ومن هو صادق، لكن يغلب على حديثه الغلط والوهم، لسوء
حفظه. وهذا القسمان متروكان.
"3" ـ ومن هو صادق ويغلط أحياناً. وهذا القسم هو المحتج
بحديثه.
"4" ـ ومن هو صادق ويخطىء كثيراً ويهم، ولكن لا يغلب الخطأ
عليه وهؤلاء مختلف في الرواية عنهم. والاحتجاج بهم.
وسبق الكلام على ذلك كله مستوفى، وبقي الكلام في أن بعض الرواة
يختلف الحفاظ فيه من أي هذه الأقسام هو، فمنهم من يختلف فيه:
ـ هل هو متهم بالكذب، أم لا؟.
ـ ومنهم من يختلف فيه هل هو ممن غلب على حديثه الغلط أم لا؟. -
ومنهم من يختلف فيه هل هو ممن كثر غلطه وفحش، أم ممن قل خطؤه
وندر؟.
وقد ذكر الترمذي هنا بعض من اختلف في ترك حديثه، وفي الرواية
عنه ونحن نذكر أمثلة هذه الأقسام الثلاثة التي ذكرناها ـ إن
شاء الله ـ.
(2/560)
"القسم الأول:
المختلف فيه بالكذب وعدمه"
فمثال القسم الأول: وهو من اختلف فيه هل هو متهم بالكذب أم لا.
عكرمة مولى ابن عباس:
اتهمه بالكذب جماعة منهم سعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد،
وعطاء، وعلي بن عبد الله بن عباس، ويحيى بن سعيد الأنصاري،
وغيرهم.
وأنكر ذلك جماعة آخرون:
قال أيوب: لم يكن بكذاب، ولم أكن أتهمه.
ووثقه ابن أبي ذئب وقال بكر المزني: أشهد أنه صدوق.
ووثقه أيضاً من الحفاظ يحيى بن معين وغيره.
وخرج له البخاري في صحيحه.
وقال ابن عدي: إذا روى عنه الثقات فهو مستقيم الحديث، ولم
يمتنع الأئمة من الرواية عنه.
وقال أحمد ـ في رواية عنه: عمرو بن أبي عمرو كل شيء يرويه عن
(2/561)
عكرمة مضطرب، وكذا كل من يروي عن عكرمة،
سماك وغيره. قيل له: فترى هذا من عكرمة أو منهم؟.
قال: لا، ما أحسبه إلا من قبل عكرمة.
وقال أحمد بن القاسم: رأيت أحمد ضعف رواية عكرمة، ولم ير
روايته حجة.
قال أبو بكر الخلال: هذا في حديث خاص، قال: وعكرمة عند أبي عبد
الله ثقة، يحتج بحديثه.
كذا قال. والظاهر خلافه، وقد يكون عن أحمد فيه روايتان، فإن
المروزي نقل عن احمد أنه قال: عكرمة يحتج به.
وذكر يحيى بن معين عن محمد بن فضيل، (ثنا) عثمان بن حكيم قال:
جاء عكرمة إلى أبي أمامة بن سهل، وأنا جالس عنده، فقال: يا أبا
أمامة، أسمعت ابن عباس يقول: ما حدثكم عكرمة عني بشيء فصدقوه،
فإنه لن يكذب علي؟. قال: نعم.
وقال ابن معين: إذا سمعت من يقع في عكرمة فاتهمه على الإسلام.
وقال أبو حاتم الرازي: يحتج بحديثه إذا روى عنه الثقات.
قال: والذي أنكر عليه مالك ويحيى بن سعيد فلسبب رأيه، يعني أنه
نسب إلى رأي الخوارج.
وأما تكذيب ابن عمر له، فقد روي من وجوه لا تصح، وقد أنكره
مالك.
قال إسحاق بن عيسى: قلت لمالك: أبلغك أن ابن عمر قال لنافع:
(2/562)
لا تكذب علي، كما يكذب عكرمة على ابن عباس؟
قال: لا، ولكن بلغني أن ابن المسيب قال ذلك لبرد مولاه.
وذكر أحمد أن ابن سيرين كان يروي عنه ولا يسميه، وكذلك مالك،
وأشار أحمد إلى أنهما طعنا في مذهبه ورأيه، لكن روي عن ابن
سيرين أنه كذبه، من رواية الصلت بن دينار عنه، والصلت لا تقبل
رواياته، وابن سيرين لا يروي عن كذاب أبداً.
"محمد بن إسحاق وغيره":
وممن اختلف في اتهامه بالكذب أيضاً محمد بن إسحاق، وقد سبق
ذكره.
ومنهم جابر الجعفي، وقد سبق ذكره مستوفى في أبواب الأذان.
ومنهم كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، فإن الترمذي يصحح
حديثه وقد مشى أمره غير واحد، وتركه الأكثرون وضرب أحمد على
حديثه، ولم يخرجه في المسند.
ومنهم إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، والأكثرون على اتهامه
بالكذب.
(2/563)
"القسم الثاني: المختلف فيه هل غلب عليه
الوهم أم لا"؟
ومثال القسم الثاني، وهو من اختلف فيه، هل هو ممن غلب على
حديثه الوهم والغلط أم لا؟.
عبد الله بن محمد بن عقيل:
وقد ذكر الترمذي في أول كتابه عن البخاري، أن أحمد وإسحاق
والحميدي كانوا يحتجون بحديثه، وقد صحح الترمذي حديثه.
وقال ابن معين وغيره: لا يحتج به.
وقال الجوزجاني: عامة ما يروى عنه غريب وتوقف عنه.
عاصم بن عبيد الله العمري:
وكذلك عاصم بن عبيد الله العمري، فإن الترمذي يصحح حديثه في
غير موضع، والأكثرون ذكروا أنه كان مغفلاً، يغلب عليه الوهم
والخطأ.
قال شعبة: كان عاصم لو قلت له من بنى مسجد البصرة؟ لقال: حدثني
فلان عن فلان أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بناه.
وقال شعبة أيضاً: كان عاصم لو قلت له: رأيت رجلاً راكباً
حماراً، لقال: حدثني أبي.
(2/564)
"القسم الثالث:
المختلف فيه في كثرة الخطأ وقلته"
ومثال القسم الثالث، وهو من اختلف فيه، هل هو ممن كثر خطؤه
وفحش، أم ممن قل خطؤه؟.
حكيم بن جبير:
حكيم بن جبير الأسدي الكوفي، فإنه قليل الحديث، وله أحاديث
منكرة.
قال محمد بن عبد الرحمن العنبري، عن عبد الرحمن بن مهدي، وسئل
عن حكيم بن جبير، فقال: إنما روى أحاديث يسيرة، وفيها أحاديث
منكرات.
وقال ابن المديني: سألت يحيى بن سعيد عنه، فقال: كم روى؟ إنما
روى شيئاً يسيراً.
وقال يحيى: وقد روى عنه زائدة. قلت ليحيى من تركه؟ قال شعبة.
قلت: من أجل حديث الصدقة؟ قال: نعم. ثم قال يحيى: نحن نحدث عمن
دون هؤلاء.
(2/565)
وقد خرج الترمذي حديث الصدقة في كتاب
الزكاة وحسنه، وسبق الكلام عليه هناك مستوفى.
وقد احتج به أحمد في رواية عنه وعضده بأن سفيان رواه عن زبيد
عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد.
وقد أنكر ابن معين وغيره حديث زبيد هذا.
وقال ابن حبان في حكيم بن جبير: كان غالياً في التشيع، كثير
الوهم فيما يروي، كان أحمد لا يرضاه.
وخرج له ابن حبان حديث الصدقة، وقال: ليس له طريق يعرف، ولا
رواية إلا من حديث حكيم بن جبير، وحكيم هذا روى عنه الثوري
والأعمش وزائدة، وغيرهم وتركه شعبة ويحيى وابن مهدي وقيل أن
يحيى كان يحدث عنه.
وقال الجوزجاني: هو كذاب.
وقد تقدم أن الترمذي حسن حديثه. وقال أحمد في رواية عنه في
حديث الصدقة: هو حسن، واحتج به، وقال مرة في حكيم: هو ضعيف
الحديث مضطرب.
وقال ابن معين: ليس بشيء.
(2/566)
وقال أبو زرعة في رأيه شيء، ومحله الصدق ـ
إن شاء الله ـ.
وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، منكر الحديث، له رأي غير محمود.
قال وهو قريب من يونس بن خباب.
وثوير بن أبي فاختة.
وقال النسائي: ليس بالقوي.
وقال الدارقطني: متروك.
"عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي":
وممن اختلف في أمره، هل هو ممن فحش خطؤه أم لا؟ عبد الملك بن
أبي سليمان العرزمي، واسم أبي سليمان ميسرة. قال أمية بن خالد:
قلت لشعبة، ما لك لا تحدث عن عبد الملك بن أبي سليمان؟ قال:
تركت حديثه. قلت: تحدث عن محمد بن عبيد الله العرزمي تدع عبد
الملك بن أبي سليمان، وكان حسن الحديث؟
قال: من حسنها فررت.
(2/567)
خرجه ابن أبي حاتم والعقيلي وابن عدي
وغيرهم.
وقال وكيع عن شعبة: لو روى عبد الملك بن أبي سليمان حديثاً آخر
مثل حديث الشفعة لطرحت حديثه.
وقد خرج الترمذي حديث الشفعة في كتاب الأحكام والأقضية، وسبق
الكلام عليه هناك مستوفى.
وقد ذكر الإمام أحمد أن له منكرات، وأنه يوصل أحاديث يرسلها
غيره. وقد ذكرنا ذلك في كتاب النكاح في باب "تنكح المرأة على
ثلاث".
وقال أبو بكر بن خلاد: وسمعت يحيى، وهو ابن سعيد، يقول: كان
صفة حديث عبد الملك بن أبي سليمان فيها شيء منقطع يوصله، وموصل
يقطعه.
وقال أحمد كان من الحفاظ، وكان سفيان الثوري يسميه الميزان.
وذكر ابن أبي حاتم بإسناده عن نوفل بن مطهر، عن ابن المبارك عن
سفيان قال:
حفاظ الناس ثلاثة: إسماعيل بن أبي خالد، وعبد الملك بن أبي
سليمان العرزمي، ويحيى بن سعيد الأنصاري.
(2/568)
ووثقه يحيى بن معين، وسئل: هو أحب إليك أم
ابن جريج؟ قال: كلاهما، ثبتان.
وقال أحمد: هو يخالف ابن جريج في أحاديث، وابن جريج عندنا أثبت
منه.
وخرج له مسلم.
وإنما ترك شعبة حديثه لرواية حديث الشفعة، لأن شعبة من مذهبه
أن من روى حديثاً غلطاً مجتمعاً عليه ولم يتهم نفسه فيتركه،
ترك حديثه، وقد ذكرنا ذلك عنه فيما تقدم.
وروى نعيم بن حماد عن ابن مهدي عن شعبة، أنه سئل عمن يستوجب
الترك؟ قال: إذا أكثر عن المعروفين ما لا يعرف، أو تمادى في
غلط مجمع عليه، فلم يشكك نفسه فيه، أو كذاب. وسائر الناس فارو
عنهم.
وخرج أبو بكر الخطيب بإسناده عن ابن معين أنه سئل عن رجل حدث
بأحاديث منكرة، فردها عليه أصحاب الحديث، أن هو رجع عنها،
وقال: ظننتها، فأما إذا أنكرتموها، ورددتموها علي، فقد رجعت
عنها، فقال: لا يكون صدوقاً أبداً إنما ذاك الرجل يشتبه له
الحديث الشاذ والشيء فيرجع عنه، فأما الأحاديث المنكرة التي لا
تشتبه لأحد فلا. فقيل ليحيى: فما يبريه؟ قال: يخرج كتاباً
عتيقاً فيه هذه الأحاديث، فإذا أخرجها في كتاب عتيق فهو صدوق،
وقد شبه له فيها، وأخطأ كما يخطىء الناس، ويرجع عنها، وأن لم
يخرجه فهو كذاب أبداً.
(2/569)
وقد ذكرنا فيما تقدم عن ابن المبارك أن
الحديث لا يكتب عن غلاط، لا يرجع.
وعن أحمد، أن الحديث لا يكتب عن رجل يغلط فيرد عليه، فلا يقبل.
"محمد بن عبيد الله العرزمي":
وأما محمد بن عبيد الله العرزمي، الذي روى عنه شعبة، وروى عنه
سفيان أيضاً، فهو ابن أخي عبد الملك بن أبي سليمان، المذكور
قبله.
وكان شريك ينسبه إلى جده، تدليساً، فيقول: حدثنا محمد بن أبي
سليمان.
وقد تركه ابن المبارك، وكان يحيى وعبد الرحمن لا يحدثان عنه.
قال يحيى: سألته، فجعل لا يحفظ فأتيته بكتاب فجعل لا يحسن
يقرأ.
قال وكيع: هو رجل صالح ذهبت كتبه، فكان يحدث حفظاً، فمن ذاك
أتى.
وقال ابن نمير: هو رجل صدوق، ولكن ذهبت كتبه، وكان رديء الحفظ،
فمن ثم أنكرت أحاديثه.
وضعفه ابن معين، وقال: ليس بشيء، ولا يكتب حديثه.
وقال الفلاس والنسائي: متروك الحديث.
وقال ابن عدي: عامة رواياته غير محفوظة.
(2/570)
وقال ابن حبان: كان صدوقاً إلا أن كتبه
ذهبت، وكان رديء الحفظ فجعل يحدث من حفظه، ويهم، فكثر المناكير
في رواياته.
"أبو الزبير المكي":
وأما أبو الزبير، محمد بن مسلم بن تدرس المكي، فإن شعبة ترك
حديثه وأعتل بأنه رآه لا يحسن يصلي، وبأنه رآه يزن ويسترجح في
الوزن، وبأن رجلاً أغضبه فافترى عليه وهو حاضر.
قال شعبة: وفي صدري لأبي الزبير عن جابر أربعمائة حديث، والله
لأحدثت عنه حديثاً أبداً. ولم يذكر عليه كذباً ولا سوء حفظ.
وقد اختلف العلماء فيه:
قال المروذي: سالت أبا عبد الله، يعني أحمد بن حنبل، عن أبي
الزبير، فقال: قد روى عنه قوم واحتملوه، روى عنه أيوب (وغيره)
، إلا أن شعبة لم يحدث عنه. قلت: هو لين الحديث؟. فكأنه لينه،
قلت هو أحب إليك، أو أبو نضرة؟ قال: أبو نضرة أحب إلي. انتهى.
وتكلم فيه أيوب أيضاً قال ابن المديني: حدثنا سفيان، (ثنا)
أيوب (ثنا) أبو الزبير، وهو أبو الزبير، يغمزه، كذا أخرجه
العقيلي من طريق البخاري عن علي وهذا خلاف ما فسر به الترمذي
أنه عنى حفظه واتقانه.
(2/571)
وخرج ابن عدي هذا الأثر من طريق الترمذي عن
ابن أبي عمر، عن سفيان. وعنده، قال سفيان: هذه نقيصة. وهذا
خلاف ما وجدنا في نسخ كتاب الترمذي.
وقال عبد الله بن أحمد: قال أبي: كان أيوب يقول: (ثنا) أبو
الزبير، وأبو الزبير أبو الزبير، قلت لأبي: كأنه يضعفه؟ قال:
نعم.
وخرج العقيلي من طريق أبي عوانة، قال: كنا عند عمرو بن دينار
جلوساً، ومعنا أيوب فحدثنا أبو الزبير بحديث فقلت لأيوب: تدري
ما هذا؟ فقال: هو لا يدري ما حدث، أدري هذا. وهذا يدل على أن
أيوب كان يغمزه، لا أنه كان يقويه.
وخرج العقيلي من طريق أبي داود، (أنا) رجل من أهل مكة، قال:
قال ابن جريج: ما كنت أرى أن أعيش حتى أرى حديث أبي الزبير
يروى.
ومن طريق نعيم بن حماد، قال: سمعت سفيان يقول: حدثني أبو
الزبير، وهو أبو الزبير، كأنه يضعفه.
وروى عبد الجبار بن العلاء، (ثنا) ابن عيينة، حدثني عمرو بن
دينار وأبو الزبير، وعمرو بن دينار أوثق عندنا من أبي الزبير.
وقال ابن خراش: و (ثنا) زيد بن أخزم، (ثنا) أبو عاصم، سمعت ابن
جريج يقول: إن أبا الزبير اتخذ جابراً مطية.
وقد وثقه ابن معين.
(2/572)
وقال أحمد في رواية ابن هاني: هو حجة احتج به.
وقال يعلى بن عطاء المكي: (ثنا) أبو الزبير المكي (أكمل) الناس
عقلاً، وأحفظه.
وقال ابن عدي: كفى بأبي الزبير صدقاً أن يحدث عنه مالك، فإن
مالكاً لا يحدث إلا عن ثقة ولا أعلم أحداً من الثقات تخلف عنه،
إلا وقد كتب عنه، وهو في نفسه ثقة صدوق، لا بأس به. انتهى.
خرج حديثه مسلم، وخرج له البخاري مقروناً. |