شرح علل الترمذي "أقسام الحديث عند الترمذي".
قال أبو عيسى:
وما ذكرنا في هذا الكتاب "حديث حسن" فإنما أردنا به حسن إسناده
ـ عندنا ـ.
كل حديث يروى لا يكون في إسناده متهم بالكذب، ولا يكون الحديث
شاذاً ويروى من غير وجه نحو ذلك. فهو عندنا حديث حسن.
وما ذكرنا في هذا الكتاب "حديث غريب" فإن أهل الحديث يستغربون
الحديث بمعان، رب حديث يكون غريباً لا يروى إلا من وجه واحد،
مثل ما حدث به حماد بن سلمة عن أبي العشراء، عن أبيه، قال: قلت
يا رسول الله، أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبة؟ فقال: لو
طعنت في فخذها اجزأ عنك.
فهذا حديث تفرد به حماد بن سلمة عن أبي العشراء، ولا يعرف لأبي
العشراء عن أبيه إلا هذا الحديث، وإن كان هذا الحديث مشهوراً
عند أهل العلم فإنما اشتهر من حديث حماد بن سلمة، ولا نعرفه
إلا من حديثه.
(2/573)
(ورب رجل من الأئمة يحدث بالحديث لا يعرف
إلا من حديثه) فيشتهر الحديث لكثرة من روى عنه، مثل ما روى عبد
الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
"نهى عن بيع الولاء، وعن هبته". لا نعرفه إلا من حديث عبد الله
بن دينار، روى عنه عبيد الله بن عمر وشعبة وسفيان الثوري،
ومالك بن أنس وابن عيينة وغير واحد من الأئمة، وروى يحيى بن
سليم هذا الحديث عن عبيد الله بن عمر، عن نافع عن ابن عمر،
فوهم فيه يحيى بن سليم، والصحيح هو عن عبيد الله بن عمر، عن
عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، (هكذا روى عبد الوهاب الثقفي
وعبد الله بن نمير عن عبيد الله بن عمر، عن عبد الله بن دينار،
عن ابن عمر) .
وروى المؤمل هذا الحديث عن شعبة، فقال شعبة: وددت أن عبد الله
بن دينار أذن لي حتى أقوم إليه فاقبل رأسه.
أعلم أن الترمذي قسم ـ في كتابه هذا ـ الحديث إلى صحيح، وحسن،
وغريب، وقد يجمع هذه الأوصاف الثلاثة في حديث واحد، وقد يجمع
منها وصفين في الحديث، وقد يفرد أحدها في بعض الأحاديث، وقد
نسب طائفة من العلماء الترمذي إلى التفرد بهذا التقسيم، ولا شك
أنه هو الذي اشتهرت عنه هذه القسمة، وقد سبقه البخاري إلى ذلك،
كما ذكره الترمذي عنه في كتاب العلل أنه قال في حديث "البحر هو
الطهور ماؤه"، هو حديث حسن صحيح، وإنه قال في أحاديث كثيرة:
هذا حديث حسن، وكذلك ذكر ابن أبي حاتم عن أبيه أنه قال في حديث
إبراهيم بن أبي شيبان، عن يونس بن
(2/574)
ميسرة بن حلبس، عن أبي إدريس، عن عبد الله
بن حوالة، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
"تجندون أجناداً ... الحديث".
قال: هو صحيح حسن غريب.
وقد كان أحمد وغيره يقولون: حديث حسن.
وأكثر ما كان الأئمة المتقدمون يقولون في الحديث أنه صحيح أو
ضعيف، ويقولون: منكر وموضوع وباطل.
(2/575)
وكان الإمام أحمد يحتج بالحديث الضعيف الذي
لم يرد خلافه، ومراده بالضعيف قريب من مراد الترمذي بالحسن.
وقد فسر الترمذي ههنا مراده بالحسن وفسر مراده بالغريب، ولم
يفسر معنى الصحيح، ونحن نذكر ما قيل في معنى الصحيح، أولاً، ثم
نشرح ما ذكره الترمذي في معنى الحسن والغريب، إن شاء الله
تعالى.
"الصحيح من الحديث ومعناه"
أما الصحيح من الحديث، وهو الحديث المحتج به، فقد ذكر الشافعي
ـ رحمه الله ـ شروطه بكلام جامع، قال الربيع:
قال الشافعي: ولا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع (أموراً)
منها:
أن يكون من حدث به ثقة في دينه معروفاً بالصدق في حديثه،
عاقلاً لما يحدث به، عالماً بما يحيل معاني الحديث من اللفظ،
أو أن يكون ممن يؤدي الحديث بحروفه كما سمعه، ولا يحدث به على
المعنى؛ لأنه إذا حدث على المعنى وهو غير عالم بما يحيل معناه،
لم يدر لعله يحيل الحلال إلى الحرام وإذا أدى بحروفه لم يبق
وجه يخاف فيه إحالة الأحاديث.
حافظاً إن حدث من حفظه، حافظاً لكتابه، إن حدث من كتابه. إذا
شرك أهل الحفظ في الحديث وافق حديثهم.
بريئاً من أن يكون مدلساً، يحدث عمن لقي، ما لم يسمع منه، أو
يحدث عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما يحدث الثقات بخلافه.
ويكون هكذا من فوقه ممن حدثه حتى ينتهي بالحديث موصولاً إلى
النبي
(2/576)
ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو إلى من انتهى به
إليه دونه، لأن كل واحد مثبت لمن حدثه، ومثبت على من حدث عنه.
قال: ومن كثر غلطه من المحدثين، ولم يكن له أصل كتاب صحيح، لم
يقبل حديثه، كما يكون من أكثر الغلط في الشهادات، لم تقبل
شهادته.
قال: وأقبل الحديث حدثني فلان عن فلان إذا لم يكن مدلساً، ومن
عرفناه دلس مرة فقد أبان لنا عورته في روايته. وليست تلك
العورة بكذب فيرد بها حديثه، ولا (على) النصيحة في الصدق فنقبل
منه ما قبلناه من أهل النصيحة في الصدق، فقلنا: لا نقبل من
مدلس حديثاً حتى يقول: حدثني أو سمعت.
"مضمون كلام الشافعي"
فقد تضمن كلامه ـ رحمه الله ـ أن الحديث لا يحتج به حتى يجمع
رواته من أولهم إلى آخرهم شروطاً.
أحدها: الثقة في الدين، وهي العدالة، وشروط العدالة مشهورة
معروفة في كتب الفقه.
والثاني: المعرفة بالصدق في الحديث ويعني بذلك، أن يكون الراوي
معروفاً بالصدق في رواياته، فلا يحتج بخبر من ليس بمعروف
بالصدق، كالمجهول الحال، ولا من يعرف بغير الصدق.
وكذلك ظاهر كلام الإمام أحمد أن خبر مجهول الحال لا يصح، ولا
يحتج به.
ومن أصحابنا من خرج قبول حديثه على الخلاف في قبول المرسل.
وقال الشافعي أيضاً: كان ابن سيرين والنخعي وغير واحد من
التابعين
(2/577)
يذهب هذا المذهب في أن لا يقبل إلا ممن
عرف. قال: وما لقيت ولا علمت أحداً من أهل (العلم) بالحديث
يخالف هذا المذهب.
الثالث: العقل لما يحدث به، وقد روي مثل هذا الكلام عن جماعة
من السلف. ذكر ابن أبي الزناد عن أبيه، قال: أدركت بالمدينة
مائة كلهم مأمون، ما يؤخذ عنهم شيء من الحديث، يقال: ليس من
أهله، خرجه مسلم في مقدمة كتابه.
وروى إبراهيم بن المنذر، حدثني معن بن عيسى، قال: كان مالك
يقول: لا تأخذ العلم من أربعة وخذ ممن سوى ذلك، لا تأخذ من
سفيه معلن بالسفه، وإن كان أروى الناس، ولا تأخذ من كذاب يكذب
في أحاديث الناس، وإن كان لا يتهم أن يكذب على رسول الله ـ صلى
الله عليه وسلم ـ ولا من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه، ولا من
شيخ له فضل وعباده إذا كان لا يعرف ما يحدث به.
قال إبراهيم بن المنذر فذكرت هذا الحديث لمطرف بن عبد الله
(اليساري) مولى زيد بن أسلم، فقال: ما أدري ما هذا، ولكن أشهد
أني سمعت مالك بن أنس يقول: لقد أدركت بهذا البلد، يعني
المدينة مشيخة لهم فضل وصلاح وعبادة، يحدثون، ما سمعت من واحد
منهم حديثاً قط، قيل: ولم يا أبا عبد الله؟ قال: لم يكونوا
يعرفون ما يحدثون.
(2/578)
وروى ضمرة: عنه سعيد بن عبد العزيز عن
مغيرة، عن إبراهيم قال: لقد رأيتنا وما نأخذ الأحاديث إلا ممن
يعرف حلالها من حرامها، وحرامها من حلالها، وإنك لتجد الشيخ
يحدث بالحديث فيحرف حلاله عن حرامه، وحرامه عن حلاله، وهو لا
يشعر.
وقال محمد بن عبد الله بن عمار الحافظ الموصلي وقد سئل عن علي
بن غراب، فقال: كان صاحب حديث بصيراً به، فقيل له: أليس هو
ضعيفاً؟ قال: إنه كان يشيع، ولست بتارك الرواية عن رجل صاحب
حديث يبصر الحديث بعد أن لا يكون كذوباً للتشيع أو للقدر، ولست
براوٍ عن رجل لا يبصر الحديث ولا يعقله ولو كان أفضل من فتح،
يعني الموصلي.
وحكى الترمذي في علله عن البخاري قال:
كل من لا يعرف صحيح الحديث من سقيمه لا أحدث عنه، وسمى منهم
زمعة بن صالح وأيوب بن عتبة.
وحكى الحاكم هذا المذهب عن مالك وأبي حنيفة.
(2/579)
وحكى عن أكثر أهل الحديث الاحتجاج بحديث من
لا يعرف ما يحدث به ولا يحفظه.
والظاهر ـ والله أعلم ـ حمل كلام الشافعي على من لا يحفظ لفظ
الحديث، وإنما يحدث بالمعنى كما صرح بذلك فيما بعد، وكذلك نقل
الربيع عنه في موضع آخر، أنه قال:
تكون اللفظة تترك من الحديث فتحيل المعنى، أو ينطق بها بغير
لفظ المحدث، والناطق بها غير عامد (لاحالة) الحديث (فيختل
معناه، فإذا كان الذي يحمل الحديث يجهل هذا المعنى وكان غير
عاقل للحديث) فلم يقبل حديثه إذا كان يحمل ما لا يعقل، إذا كان
ممن لا يؤدي الحديث بحروفه، وكان يلتمس روايته على معانيه، وهو
لا يعقل المعنى، إلى أن قال: فالظنة فيمن لا يؤدي الحديث
بحروفه ولا يعقل معانيه أبين منها في الشاهد لمن ترد شهادته
(له) فيما هو ظنين فيه.
فهذا يبين أن الشافعي إنما اعتبر في الراوي أن يكون عارفاً
بمعاني الحديث إذا كان يحدث بالمعنى ولا يحفظ الحروف، والله
أعلم.
فقوله هنا، عاقلاً لما يحدث به، عالماً بما يحيل معاني الحديث
من اللفظ هو شرط واحد ليس فيه تكرير، بل مراده يعقل ما يحدث به
فهم المعنى، ومراده بالعلم بما يحيل المعنى من الألفاظ معرفة
الألفاظ التي تؤدي بها المعاني.
وقد فسر أبو بكر الصيرفي في شرح الرسالة قول الشافعي: عاقلاً
لما يحدث به بأن مراده أن يكون الراوي ذا عقل فقط، قال: وهذا
شرط بإجماع.
وهذا الذي قاله فيه نظر وضعيف، وهذا (كله) في حق من لا يحفظ
(2/580)
الحديث بألفاظه بدليل أنه قال بعد ذلك: أو
أن يكون ممن يؤدي الحديث بحروفه كما سمعه، ولا يحدث به على
المعنى، فجعل هذا قسيماً للذي قبله، فقسم الرواة إلى قسمين:
من يحدث بالمعنى، فيشترط فيه أن يكون عاقلاً لما يحدث به من
المعاني، عالماً بما يحيل المعنى من الألفاظ.
ومن يحدث باللفظ، فيشترط فيه الحفظ للفظ الحديث، واتقانه، وما
علل به من اشتراط معرفة المعنى واللفظ المؤدي له فهو حق واضح،
وقد سبق معنى ذلك عن إبراهيم النخعي.
وقد قال أحمد في رواية الأثرم: سعيد بن زكريا المدائني كنا
كتبنا عنه، ثم تركناه، قيل له: لم؟ قال: لم أكن أرى به في نفسه
بأساً ولكن لم يكن بصاحب حديث.
وهذا محمول على أنه كان يحدث من حفظه أيضاً فيخشى عليه الغلط.
الرابع: حفظ الراوي، فإن كان يحدث من حفظه اعتبر حفظه لما يحدث
به، لكن إن كان يحدث باللفظ اعتبر حفظه لألفاظ الحديث، وإن كان
يحدث بالمعنى اعتبر معرفته بالمعنى واللفظ الدال عليه كما
تقدم، وإن كان يحدث من كتابه اعتبر حفظه لكتابه، وقد سبق كلام
الأئمة واختلافهم في جواز التحديث من الكتاب، وفي صفة حفظ
الكتاب بما فيه كفاية.
الخامس: أن يكون في حديثه الذي لا ينفرد به يوافق الثقات في
حديثهم، فلا يحدث بما لا يوافق الثقات وهذا الذي ذكره معنى قول
كثير من الأئمة الحفاظ
(2/581)
في الجرح في كثير من الرواة يحدث بما يخالف
الثقات، أو يحدث بما لا يتابعه الثقات (عليه) لكن الشافعي
اعتبر أن لا يخالفه الثقات، ولهذا قال بعد هذا الكلام:
(بريئاً) أن يحدث عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما يحدث
الثقات خلافه. وقد فسر الشافعي الشاذ من الحديث بهذا.
قال يونس بن عبد الأعلى: سمعت الشافعي يقول: ليس الشاذ من
الحديث أن يروي الثقة حديثاً لم يروه غيره، إنما الشاذ من
الحديث أن يروي الثقات حديثاً فيشذ عنهم واحد فيخالفهم.
وأما أكثر الحفاظ المتقدمين فإنهم يقولون في الحديث إذا انفرد
به واحد وإن (لم) يرو الثقات خلافه أنه لا يتابع عليه، ويجعلون
ذلك علة فيه، اللهم إلا أن يكون ممن كثر حفظه واشتهرت عدالته
وحديثه كالزهري ونحوه، وربما يستنكرون بعض تفردات الثقات
الكبار أيضاً، ولهم في كل حديث نقد خاص، وليس عندهم لذلك ضابط
يضبطه.
قال صالح بن محمد الحافظ: الشاذ، الحديث المنكر الذي لا يعرف،
وسيأتي لذلك مزيد إيضاح عند ذكر الحديث الغريب إن شاء الله
تعالى.
السادس: أن لا يكون مدلساً، فمن كان مدلساً يحدث عمن رآه بما
لم يسمعه منه فإنه لا يقبل منه حديثه حتى يصرح بالسماع ممن روى
عنه، وهذا الذي ذكره الشافعي قد حكاه يعقوب بن شيبة عن يحيى بن
معين.
وقال الشاذكوني: من أراد التدين بالحديث فلا يأخذ عن الأعمش،
ولا عن قتادة إلا ما قالا: سمعناه.
وقال البرديجي: لا يحتج من حديث حميد إلا ما قال: (ثنا) أنس.
ولم يعتبر الشافعي أن يتكرر التدليس من الراوي، ولا أن يغلب
على
(2/582)
حديثه، بل اعتبر ثبوت تدليسه، ولو بمرة
واحدة. واعتبر غيره من أهل الحديث أن يغلب التدليس على حديث
الرجل، وقالوا: إذا غلب عليه التدليس لم يقبل حديثه حتى يقول:
(ثنا) وهذا قول ابن المديني، حكاه يعقوب بن شيبة عنه.
وذكر مسلم في مقدمة كتابه أنه إنما يعتبر التصريح بالسماع ممن
شهر بالتدليس، وعرف به، وهذا يحتمل أن يريد به كثرة التدليس في
حديثه، ويحتمل أن يريد ثبوت ذلك عنه، وصحته، فيكون كقول
الشافعي.
وفرقت طائفة بين أن يدلس عن الثقات أو عن الضعفاء، فإن كان
يدلس عن الثقات قبل حديثه، وإن عنعنه، وإن كان يدلس عن غير
الثقات لم يقبل حديثه حتى يصرح بالسماع، وهذا الذي ذكره حسين
الكرابيسي، وأبو الفتح الأزدي الموصلي الحافظ، وكذلك ذكره
طائفة من فقهاء أصحابنا، وهذا بناء على قولهم بقبول المراسيل،
واعتبروا كثرة التدليس في حق من يدلس عن غير الثقات، وكذا ذكر
الحاكم أن المدلس إذا لم يذكر سماعه في الرواية فحكم حديثه حكم
المرسل.
وكذلك أشار إليه أبو بكر الصيرفي في شرح رسالة الشافعي.
وأما الإمام أحمد فتوقف في المسألة، قال أبو داود: سمعت أحمد
سئل عن الرجل يعرف بالتدليس في الحديث، يحتج فيما لم يقبل فيه:
حدثني، أو سمعت؟ قال: لا أدري.
(2/583)
وأما من يدلس عمن لم يره، فحكم حديثه حكم
المرسل، وقد سبق ذكره ومتى صرح بالسماع، أو قال: (ثنا) أو
(أنا) فهو حجة.
وزعم أبو الطيب الطبري من الشافعية أنه لا يحتج بقول المدلس:
(أنا) ؛ لأنه قد يكون إجازة وهذا ضعيف، فإن مثله يتطرق إلى
قوله: (ثنا) أيضاً، فإن ذلك جائز عند كثير من العلماء في
الإجازة كما سبق، ثم إن الإجازة والمناولة تصح الرواية بهما
على ما تقدم، فيحتج بحديث من حدث بهما حينئذ، وأيضاً فقد
تستعمل "حدثنا" في الإرسال كما كان الحسن يقول: (ثنا) ابن
عباس، ويتأوله أنه حدث أهل البصرة، ولكن هذا استعمال نادر،
والحكم للغالب.
وأما قول الشافعي: إن التدليس ليس بكذب يرد به حديث صاحبه كله،
فهذا أيضاً قول أحمد وغيره من الأئمة، لأن قول المدلس "عن
فلان" ليس بكذب منه وإنما فيه كتمان من سمع منه عن فلان.
وحكى الخطيب هذا القول عن كثير من العلماء، وعن بعضهم أنه كذب
يرد به حديث صاحبه، وممن قال إنه كذب: حماد بن زيد وأبو أسامة.
وقال شعبة: هو أخو الكذب، وقال مرة: هو أشد من الزنا. وروى رزق
الله بن موسى عن وكيع، قال: لا يحل تدليس (الثوب) ، فكيف يحل
تدليس الحديث، وهذا في التدليس عن غير الثقات (أشد) .
وقال أحمد في التدليس: أكرهه. قيل له: قال شعبة: هو كذب. قال
أحمد: لا قد دلس قوم، ونحن نروي عنهم، وقال يحيى بن معين: كان
(2/584)
الأعمش يرسل، فقيل له: إن بعض الناس قال:
من أرسل لا يحتج بحديثه. فقال: الثوري إذا لا يحتج بحديثه. وقد
كان يدلس: إنما سفيان أمير المؤمنين في الحديث، انتهى.
والتدليس مكروه عند الأكثرين لما فيه من الإيهام، وهو عن
الكذابين أشد.
وقد صرح طائفة من العلماء، منهم مسلم في مقدمة كتابه بأن من
روى عن غير ثقة، وهو يعرف حاله، ولم يبين ذلك لمن لا يعرفه أنه
يكون آثماً بذلك، يريدون أنه فعل محرم، فإسقاط من ليس بثقة من
الحديث أقبح من الرواية عنه من غير تبيين حاله.
ورخص في التدليس طائفة، قال يعقوب بن شيبة، من رخص فيه فإنما
رخص فيه عن ثقة سمع (منه) ، وأما من دلس عمن لم يسمع منه، فلم
يرخص فيه، وكذا إذا دلس عن غير ثقة، كذا قال يعقوب.
وقد كان الثوري وغيره يدلسون عمن لم يسمعوا منه أيضاً، فلا يصح
ما قال يعقوب.
وقول الشافعي ـ رحمه الله ـ: وأقبل الحديث حدثني فلان عن فلان،
إذا لم يكن مدلساً مراده أن تقبل العنعنة عمن عرف منه أنه ليس
بمدلس، فإن الربيع نقل عنه أيضاً، قال في كلام له:
لم يعرف التدليس ببلدنا، فيمن مضى، ولا ممن أدركنا من أصحابنا،
إلا حديثاً، فإن منهم من قبله عمن لو تركه عليه كان خيراً له.
وكان قول الرجل: سمعت فلاناً (يقول: سمعت فلاناً) وقوله:
"حدثني فلان عن
(2/585)
فلان" سواء عندهم، لا يحدث واحد منهم عمن
لقي إلا ما سمع منه، (فمن عرفناه) بهذا الطريق قبلنا منه:
حدثني فلان عن فلان، إذا لم يكن مدلساً. وظاهر هذا أنه لا يقبل
العنعنة إلا عمن عرف منه أنه لا يدلس، ولا يحدث إلا عمن لقيه
بما سمع منه، وهذا قريب من قول من قال: إنه لا يقبل العنعنة
إلا عمن ثبت أنه لقيه وفيه زيادة أخرى عليه، وهي أنه اشترط أنه
يعرف أنه لا يدلس عمن لقيه أيضاً، ولا يحدث إلا بما سمع، وقد
فسره أبو بكر الصيرفي في شرح الرسالة باشتراط ثبوت السماع
لقبول العنعنة، وأنه إذا علم السماع فهو على السماع حتى يعلم
التدليس، وإذا لم يعلم سمع أو لم يسمع وقف فإذا صح السماع فهو
عليه حتى يعلم غيره، قال: وهذا الذي قاله صحيح. انتهى.
وهذه المسألة فيها اختلاف معروف بين العلماء.
وقد أطال القول فيها مسلم في مقدمة كتابه، واختار أنه تقبل
العنعنة من الثقة غير المدلس عمن عاصره، وأمكن لقيه له، ولا
تعتبر المعرفة باجتماعهما والتقائهما.
وذكر عن بعضهم أنه اعتبر المعرفة بلقائهما واجتماعهما وأنه لا
تقبل العنعنة من الثقة عمن لم يعرف أنه (لقيه و) اجتمع به ورد
هذا القول على
(2/586)
قائله رداً بليغاً، ونسبه إلى مخالفة
الإجماع في ذلك. واستدل مسلم على صحة قوله، باتفاق العلماء على
قبول الخبر إذا رواه الثقة عن آخر ممن تيقن أنه سمع منه من غير
اعتبار أن يقول: (ثنا) أو سمعت، ولو كان الإسناد لا يتصل إلا
بالتصريح بالسماع لم يكن فرق بين الرواية عمن ثبت لقيه ومن لم
يثبت، فإنا نجد كثيراً ممن روى عن رجل، ثم روى حديثاً عن آخر
عنه.
وقد طرد بعض المتأخرين من الظاهرية ونحوهم هذا الأصل، وقال: كل
خبر لا يصرح فيه بالسماع فإنه لا يحكم باتصاله مطلقاً، وربما
تعلق بعضهم بقول شعبة: كل إسناد ليس فيه (ثنا) أو (أنا) فهو خل
وبقل. وروى عن شعبة قال: فلان عن فلان ليس بحديث.
قال وكيع: وقال سفيان هو حديث.
قال ابن عبد البر: رجع شعبة إلى قول سفيان في هذا.
وهذا القول شاذ مطرح.
وقد حكى مسلم وغيره الإجماع على خلافه.
وقال الخطيب: أهل العلم بالحديث مجمعون على أن قول المحدثين
(ثنا) فلان عن فلان صحيح معمول به، إذا كان شيخه الذي ذكره
يعرف أنه قد أدرك الذي حدث عنه ولقيه وسمع منه، ولم يكن هذا
المحدث ممن يدلس. انتهى.
ومما استدل به مسلم على المخالف له: أن من تكلم في صحة الحديث
من السلف لم يفتش أحد منهم على موضع السماع، وسمى منهم شعبة
والقطان (وابن مهدي، قال) ومن بعدهم من أهل الحديث.
وذكر أن عبد الله بن يزيد روى عن حذيفة وأبي مسعود حديثين ولم
يرد
(2/587)
أنه سمع منهما، ولا رآهما قط، ولم يطعن
فيهما أحد. وذكر أيضاً رواية أبي عثمان النهدي، وأبي رافع
الصائغ عن أبي بن كعب ورواية أبي عمرو الشيباني وأبي معمر عن
أبي مسعود، ورواية عبيد بن عمير عن أم سلمة، ورواية ابن أبي
ليلى عن أنس، وربعي بن حراش عن عمران بن حصين. ونافع بن جبير
عن أبي شريح، والنعمان بن أبي عياش عن أبي سعيد وعطاء بن يزيد
عن تميم الداري، وسليمان بن يسار عن رافع بن خديج، وحميد
الحميري عن أبي هريرة وكل هؤلاء لم يحفظ لهم عن هؤلاء الصحابة
سماع ولا لقاء، يعني وقد قبل الناس حديثهم (عنهم) .
وقال الحاكم: قرأت بخط محمد بن يحيى: سألت أبا الوليد: أكان
شعبة يفرق بين أخبرني وعن؟. فقال: أدركت العلماء وهم لا يفرقون
بينهما وحمله البيهقي (على من) لا يعرف بالتدليس، (ويمكن حمله
على من ثبت لقيه أيضاً) ، وكثير من العلماء المتأخرين على ما
قاله مسلم ـ رحمه الله ـ من أن إمكان اللقى كاف في الاتصال من
الثقة غير المدلس، وهو ظاهر كلام ابن حبان وغيره.
(وقد ذكر الترمذي في كتاب العلم أن سماع سعيد بن المسيب من أنس
(2/588)
ممكن لكن لم يحكم لروايته عنه بالاتصال) .
وقد حكى بعض أصحابنا عن أحمد مثله، وقال الأثرم: سألت أحمد
قلت: محمد بن سوقة سمع من سعيد بن جبير؟ قال: نعم، قد سمع من
الأسود غير شيء. كأنه يقول: إن الأسود أقدم، لكن قد يكون مستند
أحمد أنه وجد التصريح (لسماعه منه، وما ذكره من قدم الأسود
إنما ذكره ليستدل به على صحة قول من ذكر سماعه من سعيد بن جبير
فإنه كثيراً ما يرد التصريح بالسماع ويكون خطأ) وقد روى ابن
مهدي عن شعبة: سمعت أبا بكر بن محمد بن حزم؛ فأنكره أحمد،
وقال: لم يسمع شعبة من أحد من أهل المدينة من القدماء ما يستدل
به على أنه سمع من أبي بكر إلا سعيداً المقبري، فإنه روى عنه
حديثاً فقيل له: فإن المقبري قديم: فسكت أحمد.
وأما جمهور المتقدمين فعلى ما قاله ابن المديني والبخاري وهو
القول الذي أنكره مسلم على من قاله.
وحكى عن أبي المظفر السمعاني أنه اعتبر لاتصال الإسناد اللقى
(2/589)
وطول الصحبة، وعن أبي عمرو الداني أن يكون
معروفاً بالرواية عنه.
وهذا أشد من شرط البخاري وشيخه، الذي أنكره مسلم.
وما قاله ابن المديني والبخاري هو مقتضى كلام أحمد وأبي زرعة
وأبي حاتم وغيرهم من أعيان الحفاظ، بل كلامهم يدل على اشتراط
ثبوت السماع كما تقدم عن الشافعي ـ رضي الله عنهـ ـ فإنهم
قالوا في جماعة من الأعيان ثبتت لهم الرؤية لبعض الصحابة،
وقالوا مع ذلك: لم يثبت لهم السماع منهم فرواياتهم عنهم مرسلة،
منهم الأعمش ويحيى بن أبي كثير، وأيوب، وابن عون، وقرة بن
خالد، رأوا أنساً ولم يسمعوا منه فرواياتهم عنه مرسله، كذا
قاله أبو حاتم، وقاله أبو زرعة أيضاً في يحيى بن أبي كثير.
وقال أحمد في يحيى بن أبي كثير: قد رأى أنساً فلا أدري سمع منه
أم لا؟ ولم يجعلوا روايته عنه متصلة بمجرد الرؤية، والرؤية
أبلغ من إمكان اللقى، وكذلك كثير من صبيان الصحابة رأوا النبي
ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يصح لهم سماع منه فرواياتهم عنه
مرسله كطارق بن شهاب وغيره، وكذلك من علم منه أنه مع اللقاء لم
يسمع ممن لقيه إلا شيئاً يسيراً فرواياته عنه زيادة على ذلك
مرسلة، كروايات ابن المسيب عن عمر، فإن الأكثرين نفوا سماعه
منه، وأثبت أحمد أنه رآه وسمع منه، وقال مع ذلك: إن رواياته
عنه مرسلة لأنه إنما سمع منه شيئاً يسيراً، مثل (نعيه) النعمان
بن
(2/590)
مقرن على المنبر ونحو ذلك، وكذلك سماع
الحسن من عثمان وهو على المنبر يأمر بقتل الكلاب وذبح الحمام،
ورواياته عنه غير ذلك مرسلة.
وقال أحمد: ابن جريج لم يسمع من طاوس ولا حرفاً، ويقول: رأيت
طاوساً.
وقال أبو حاتم الرازي أيضاً: الزهري لا يصح سماعه من ابن عمر
رآه، ولم يسمع منه، ورأى عبد الله بن جعفر، ولم يسمع منه،
وأثبت أيضاً دخول مكحول على واثلة بن الأسقع، ورؤيته له
ومشافهته، وأنكر سماعه منه، وقال: لم يصح له منه سماع، وجعل
رواياته عنه مرسلة.
وقد جاء التصريح بسماع مكحول من واثلة للحديث من وجه فيه نظر،
وقد ذكرناه في آخر كتاب الأدب.
وقد ذكر الترمذي دخول مكحول على واثلة في ذكر الرواية بالمعنى.
وقال أحمد: أبان بن عثمان لم يسمع من أبيه، من أين سمع منه؟
ومراده: من أين صحت الرواية بسماعه منه، وإلا فإن إمكان ذلك
وإحتماله غير مستبعد.
وقال أبو زرعة في أبي أمامة بن سهل بن حنيف: لم يسمع من عمر،
هذا مع أن أبا أمامة رأى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
(2/591)
فدل كلام أحمد وأبي زرعة وأبي حاتم على أن
الاتصال لا يثبت إلا بثبوت التصريح بالسماع، وهذا أضيق من قول
ابن المديني والبخاري، فإن المحكى عنهما: أنه يعتبر أحد أمرين:
أما السماع، وإما اللقاء. وأحمد ومن تبعه عندهم لا بد من ثبوت
السماع.
ويدل على أن هذا مرادهم أن أحمد قال: ابن سيرين لم يجيء عنه
سماع من ابن عباس. وقال أبو حاتم: الزهري أدرك أبان بن عثمان،
ومن هو أكبر منه، ولكن لا يثبت له السماع (كما أن حبيب بن أبي
ثابت لا يثبت له السماع) من عروة، وقد سمع ممن هو أكبر منه،
غير أن أهل الحديث قد اتفقوا على ذلك، واتفاقهم على شيء يكون
حجة.
واعتبار السماع أيضاً لاتصال الحديث هو الذي ذكره ابن عبد
البر، وحكاه عن العلماء، وقوة كلامه تشعر بأنه إجماع منهم، وقد
تقدم أنه قول الشافعي أيضاً.
وحكى البرديجي قولين في ثبوت السماع بمجرد اللقاء، فإنه قال
قتادة حدث عن الزهري. قال بعض أهل الحديث: لم يسمع منه. وقال
بعضهم: سمع منه، لأنهما التقيا عند هشام بن عبد الملك.
ومما يستدل به أحمد وغيره من الأئمة على عدم السماع الاتصال،
أن يروي عن شيخ من غير أهل بلدة، لم يعلم أنه دخل إلى بلده،
ولا أن الشيخ قدم إلى بلد كان الراوي عنه فيه.
نقل مهنا عن أحمد، قال: لم يسمع زرارة بن أوفى من تميم الداري،
تميم بالشام وزرارة بصري.
(2/592)
وقال أبو حاتم في رواية ابن سيرين عن أبي
الدرداء لقد أدركه ولا أظنه سمع منه، ذاك بالشام وهذا بالبصرة.
وقال ابن المديني: لم يسمع الحسن من الضحاك بن قيس، كان الضحاك
يكون بالبوادي.
وقال الدارقطني: لا يثبت سماع سعيد بن المسيب من أبي الدرداء،
لأنهما لم يلتقيا، ومراده: أنه لم يثبت التقاؤهما: لا أنه ثبت
انتفاؤه، لأن نفيه لم يرد في رواية قط.
فإن كان الثقة يروي عمن عاصره أحياناً ولم يثبت لقيه له ثم
يدخل أحياناً بينه وبينه واسطة فهذا يستدل به هؤلاء الأئمة على
عدم السماع منه.
قال أحمد: البهي ما أراه سمع من عائشة إنما يروي عن عروة عن
عائشة، قال وفي حديث زائدة عن السدي عن البهي، قال: حدثتني
عائشة، قال: وكان ابن مهدي سمعه من زائدة وكان يدع منه "حدثتني
عائشة" ينكره.
وكان أحمد يستنكر دخول التحديث في كثير من الأسانيد، ويقول: هو
خطأ، يعني ذكر السماع. قال في رواية هدبة، عن حماد، عن قتادة،
(ثنا) خلاد الجهني: هو خطأ، خلاد قديم، ما رأى قتادة خلاداً.
(2/593)
وذكروا لأحمد قول من قال: عن عراك بن مالك:
سمعت عائشة، فقال: هذا خطأ وأنكره، وقال: عراك من أين سمع من
عائشة، إنما يروي عن عروة عن عائشة.
وكذلك ذكر أبو حاتم الرازي أن بقية بن الوليد كان يروي عن شيوخ
ما لم يسمعه، فيظن أصحابه أنه سمعه، فيروون عنه تلك الأحاديث
ويصرحون بسماعه لها، من شيوخه، ولا يضبطون ذلك.
وحينئذ ينبغي التفطن لهذه الأمور ولا يغتر بمجرد ذكر السماع
والتحديث في الأسانيد، فقد ذكر ابن المديني أن شعبة وجدوا له
غير شيء يذكر فيه الإخبار عن شيوخه، ويكون منقطعاً.
وذكر أحمد أن ابن مهدي حدث بحديث عن هشيم (أنا) منصور بن
زاذان: قال أحمد: ولم يسمعه هشيم من منصور.
وقال أبو حاتم في يحيى بن أبي كثير: ما أراه سمع من عروة بن
الزبير لأنه يدخل بينه وبينه رجلاً، ورجلين، ولا يذكر سماعاً،
ولا رؤية، ولا سؤاله عن مسألة.
وقال أحمد في رواية قتادة عن يحيى بن يعمر: لا أدري سمع منه أم
لا؟ قد روى عنه. وقد روى عن رجل عنه.
(2/594)
وقال أيضاً: قتادة لم يسمع من سليمان بن
يسار، بينهما أبو الخليل، ولم يسمع من مجاهد، بينهما أبو
الخليل.
وقال في سماع الزهري من عبد الرحمن بن أزهر: قد رآه ـ يعني ولم
يسمع منه ـ قد أدخل بينه وبينه طلحة بن عبد الله بن عوف.
ولم يصحح قول معمر وأسامة عن الزهري: سمعت عبد الرحمن بن أزهر.
وقال أبو حاتم: الزهري لم يثبت له سماع من المسور، يدخل بينه
وبينه سليمان بن يسار وعروة بن الزبير.
وكلام أحمد وأبي زرعة، وأبي حاتم، في هذا المعنى كثير جداً،
يطول الكتاب بذكره، وكله يدور على أن مجرد ثبوت الرواية لا
يكفي في ثبوت السماع، وأن السماع لا يثبت بدون التصريح به. وأن
رواية من روى عمن عاصره تارة بواسطة، وتارة بغير واسطة، يدل
على أنه لم يسمع منه، إلا أن يثبت له السماع منه من وجه.
(2/595)
وكذلك رواية من هو من بلد عمن هو ببلد آخر،
ولم يثبت اجتماعهما ببلد واحد يدل على عدم السماع منه.
وكذلك كلام ابن المديني وأحمد وأبي زرعه وأبي حاتم والبرديجي
وغيرهم في سماع الحسن من الصحابة كله يدور على هذا، وأن الحسن
لم يصح سماعه من أحد من الصحابة إلا بثبوت الرواية عنه أنه صرح
بالسماع منه ونحو ذلك، (وإلا فهو مرسل) .
فإذا كان هذا هو قول هؤلاء الأئمة الأعلام، وهم أعلم أهل
زمانهم بالحديث وعلله وصحيحه وسقيمه (مع) موافقة البخاري
وغيره، فكيف يصح لمسلم ـ رحمه الله ـ دعوى الإجماع على خلاف
قولهم، بل اتفاق هؤلاء الأئمة على قولهم هذا يقتضي حكاية إجماع
الحفاظ (المعتد بهم) على هذا القول، وأن القول بخلاف قولهم لا
يعرف عن أحد من نظرائهم، ولا عمن قبلهم ممن هو في درجتهم
وحفظهم، ويشهد لصحة ذلك حكاية أبي حاتم. كما سبق اتفاق أهل
الحديث على أن (حبيب) بن أبي ثابت لم يثبت له السماع من عروة
مع إدراكه له، وقد ذكرنا من قبل أن كلام الشافعي إنما يدل على
مثل هذا القول، لا على خلافه، وكذلك حكاية ابن عبد البر عن
العلماء، فلا يبعد حينئذ أن يقال: هذا هو قول الأئمة من
المحدثين والفقهاء.
وأما إنكار مسلم أن يكون هذا قول شعبة، أو من بعده، فليس كذلك،
(2/596)
فقد أنكر شعبة سماع من روى سماعه ولكن لم
يثبته كسماع مجاهد من عائشة، وسماع أبي عبد الرحمن السلمي من
عثمان وابن مسعود، وقال شعبة: أدرك أبو العالية علياً ولم يسمع
منه، ومراده: أنه لم يرد سماعه منه ولم يكتف بإدراكه فإن أبا
العالية سمع (ممن هو أقدم موتاً من علي، فإنه قيل انه سمع) من
أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ.
وما ذكره مسلم من رواية عبد الله بن يزيد ومن سماه بعده،
فالقول فيها كالقول في غيرها. وقد قال أبو زرعة في روايات أبي
أمامة بن سهل عن عمر هي مرسلة، مع أنه له أيضاً رؤية.
فإن قال قائل: هذا يلزم منه طرح أكثر الأحاديث، وترك الاحتجاج
بها، قيل من ههنا عظم ذلك على مسلم ـ رحمه الله ـ والصواب أن
ما لم يرد فيه السماع من الأسانيد لا يحكم باتصاله، ويحتج به
مع إمكان اللقى، كما يحتج بمرسل أكابر التابعين، كما نص عليه
الإمام أحمد، وقد سبق ذكر ذلك في المرسل.
(2/597)
ويرد على ما ذكره (مسلم) أنه يلزمه أن يحكم
باتصال كل حديث رواه من ثبت له رؤية من النبي ـ صلى الله عليه
وسلم ـ بل هذا أولى، لأن هؤلاء، ثبت لهم اللقى، وهو يكتفي
بمجرد إمكان السماع.
ويلزمه أيضاً الحكم باتصال حديث كل من عاصر النبي ـ صلى الله
عليه وسلم ـ وأمكن لقيه له إذا روى عنه شيئاً، وإن لم يثبت
سماعه منه، ولا يكون حديثه عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
مرسلاً، وهذا خلاف إجماع أئمة الحديث، والله أعلم.
(ثم إن بعض ما مثل به مسلم ليس كما ذكره، فقوله: إن عبد الله
بن يزيد، وقيس بن أبي حازم رويا عن أبي مسعود، وأن النعمان بن
أبي عياش روى عن أبي سعيد ولم يرد التصريح بسماعهم منهما ليس
كما قال. فإن مسلماً ـ رحمه الله ـ خرج في صحيحه التصريح بسماع
النعمان بن أبي عياش من أبي سعيد في حديثين في صفة الجنة، وفي
حديث (أنا فرطكم) على الحوض".
(2/598)
وأما سماع عبد الله بن يزيد وقيس بن (أبي
حازم من) أبي مسعود فقد وقع مصرحاً به في صحيح البخاري، والله
أعلم.
ولهذا المعنى تجد في كلام شعبة ويحيى وأحمد وعلي ومن بعدهم
التعليل بعدم السماع، فيقولون: لم يسمع فلان من فلان، أو لم
يصح له سماع منه، ولا يقول أحدهم قط: لم يعاصره. وإذا قال
بعضهم: لم يدركه، فمرادهم الاستدلال على عدم السماع منه بعدم
الإدراك. فإن قيل فقد قال أحمد، في رواية ابن مشيش وسئل عن أبي
ريحانة: سمع من سفينة؟ قال: ينبغي، هو قديم، قد سمع من ابن
عمر. قيل: لم يقل إن حديثه عن سفينة صحيح متصل، إنما قال: هو
قديم، ينبغي أن يكون سمع منه، وهذا تقريب لإمكان سماعه، وليس
في كلامه أكثر من هذا.
"صيغ الأداء"
واعلم أن الراوي في روايته تارة يصرح بالسماع أو التحديث أو
الإخبار وتارة يقول: (عن) ولا يصرح بشيء من ذلك، وقد ذكرنا حكم
هذا كله آنفاً. وتارة يقول قال فلان كذا، فهذا له ثلاثة أحوال.
أحدها: أن يكون القائل لذلك ممن يعلم منه عدم التدليس، فتكون
روايته مقبولة محتجاً بها، كهمام، وحماد بن زيد، وشعبة، وحجاج
(2/599)
ابن محمد، وغيرهم.
قال همام: ما قلت: قال قتادة، فأنا سمعته من قتادة، وقال حماد
بن زيد: إني أكره إذا كنت لم أسمع من أيوب حديثاً أن أقول: قال
أيوب كذا وكذا فيظن أني قد سمعته.
وقال شعبة: لأن أزني أحب إلى من أن أقول: قال فلان، ولم أسمعه
منه.
(وكذلك حجاج بن محمد كان إذا قال: قال ابن جريج فقد سمعه منه)
.
والحال الثاني: أن يكون القائل لذلك معروفاً بالتدليس فحكم
قوله: قال فلان حكم قوله "عن فلان" كما سبق.
وبعضهم كانت هذه عادته كابن جريج.
قال أحمد: كل شيء قال ابن جريج: قال عطاء، أو عن عطاء فإنه لم
يسمعه من عطاء.
وقال أيضاً: إذا قال ابن إسحاق: وذكر فلان، فلم يسمعه منه.
الحال الثالث: أن يكون حاله مجهولاً، فهل يحمل على الاتصال، أم
لا قد ذكر الفقهاء من أصحابنا وأصحاب الشافعي خلافاً في
الصحابي إذا قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هل
يحمل على السماع أم لا؟ وأن الأصح حمله على السماع.
وحكى ابن عبد البر عن الجمهور من العلماء أن من روى عمن صح له
لقيه والسماع منه، قال قال فلان، حمل على الاتصال، بل كلامه
يدل على أنه
(2/600)
إجماع منهم) وذكر الإجماع على أن قول
الصحابي: عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال رسول الله
ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وسمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم
ـ كله سواء ولكن هذا قد يبنى على أن مرسل الصحابي حجة.
"المؤنن"
فأما قول الراوي: أن فلان قال:
فهل يحمل على الاتصال، أم لا؟.
فهذا على قسمين:
أحدهما: أن يكون ذلك القول المحكى عن فلان، أو الفعل المحكى
عنه بالقول، مما يمكن أن يكون الراوي قد شهده، وسمعه منه، فهذا
حكمه حكم قول الراوي: قال فلان كذا، أو فعل فلان كذا على ما
سبق ذكره.
والقسم الثاني: أن يكون ذلك القول المحكى عن المروي عنه أو
الفعل مما لا يمكن أن يكون قد شهده الراوي مثل أن لا يكون قد
أدرك زمانه، كقول عروة: إن عائشة قالت للنبي ـ صلى الله عليه
وسلم ـ كذا وكذا، فهل هو مرسل لعدم الإتيان بما يبين أنه رواه
عن عائشة أم هو متصل، لأن عروة قد عرف بالرواية عن عائشة؟
فالظاهر أنه سمع ذلك منها. هذا فيه خلاف.
قال أبو داود: سمعت أبا عبد الله، يعني أحمد، قال: كان مالك
(2/601)
ـ زعموا أنه ـ يرى "عن فلان"، و "أن
فلاناً" سواء. وذكر أحمد مثل حديث جابر: أن سليكاً جاء والنبي
ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخطب، وعن جابر، عن سليك أنه جاء
والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخطب.
قال: وسمعت أحمد، قيل له: إن رجلاً قال: عن عروة، قالت عائشة
يا رسول الله، وعن عروة، عن عائشة، سواء؟ قال: كيف هذا سواء؟
ليس هذا بسواء.
فذكر أحمد القسمين اللذين أشرنا إليهما.
فأما رواية جابر: أن (سليكا) جاء والنبي ـ صلى الله عليه وسلم
ـ
(2/602)
يخطب، (وروايته عن سليك أنه جاء والنبي ـ
صلى الله عليه وسلم يخطب) فهذا من القسم الأول، لأنه يمكن أن
يكون جابر شهد ذلك، وحضره، ويمكن أن يكون رواه عن سليك.
ومثل هذا كثير في الحديث، مثل رواية ابن عمر عن النبي ـ صلى
الله عليه وسلم ـ فمن رواه عن ابن عمر، أن النبي ـ صلى الله
عليه وسلم ـ قال لعمر كذا وكذا في أحاديث متعددة، وروى بعضها
عن ابن عمر عن عمر عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فمن رواه
عن ابن عمر، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لعمر، جعله
من مسند ابن عمر، ومن رواه عن ابن عمر عن عمر، جعله من مسند
عمر.
ولكن كان القدماء كثيراً ما يقولون: "عن فلان" ويريدون به
الحكاية عن قصته، والتحديث عن شأنه، لا يقصدون الرواية عنه.
وقد حكى الدارقطني، عن موسى بن هارون (الحافظ) ، أن المتقدمين
كانوا يفعلون ذلك.
وقد ذكرنا كلامه في كتاب الحج في باب الصيد للمحرم.
وأما إذا روى الزهري مثلاً عن سعيد بن المسيب ثم قال مرة: إن
سعيد بن المسيب قال، فهذا محمول على الرواية عنه، دون
الانقطاع، ولعل هذا هو مراد مالك الذي حكاه أحمد عنه ولم
يخالفه.
وقد حكى ابن عبد البر هذا القول عن جمهور العلماء.
وحكى عن البرديجي خلاف ذلك، وأنه قال: هو محمول على الانقطاع،
(2/603)
إلا أن يعلم اتصاله من وجه آخر، وقال: لا
وجه لذلك، ولم يذكر لفظ البرديجي فلعله قال ذلك في القسم
الثاني، كما سنذكره.
وأما رواية "عروة عن عائشة، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ"
وعروة أن عائشة قالت للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهذا هو
القسم الثاني وهو الذي أنكر أحمد التسوية بينهما.
والحفاظ كثيراً ما يذكرون مثل هذا، ويعدونه اختلافاً في إرسال
الحديث واتصاله، وهو موجود كثيراً في كلام أحمد، وأبي زرعة،
وأبي حاتم، والدارقطني وغيرهم من الأئمة.
ومن الناس من يقول: هما سواء، كما ذكر ذلك لأحمد.
وهذا إنما يكون فيمن اشتهر بالرواية عن المحكي قصته، كعروة مع
عائشة، أما من لم يعرف له سماع منه، فلا ينبغي أن يحمل على
الاتصال، ولا (عند من يكتفي) بإمكان اللقى.
والبخاري قد يخرج من هذا القسم في صحيحه، كحديث عكرمة "أن
عائشة قالت للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قصة امرأة رفاعة،
وقد ذكرناه في كتاب النكاح، هذا على تقدير أن يكون عكرمة سمع
من عائشة.
وقد ذكر الإسماعيلي في صحيحه أن المتقدمين كانوا لا يفرقون بين
هاتين العبارتين، وكذلك ذكر أحمد أيضاً أنهم كانوا يتساهلون في
ذلك، مع قوله: إنهما ليسا سواء، وان حكمهما مختلف، لكن كان يقع
ذلك منهم أحياناً على وجه التسامح، وعدم التحرير.
قال أحمد، في رواية الأثرم، في حديث سفيان، عن أبي النضر، عن
(2/604)
سليمان بن يسار، عن عبد الله بن حذافة في
النهي عن صيام أيام التشريق: ومالك قال فيه: عن سليمان بن يسار
أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعث عبد الله بن حذافة.
قال أحمد: هو مرسل. سليمان بن يسار لم يدرك عبد الله بن حذافة.
قال: (وهم كانوا يتساهلون بين: (عن) عبد الله بن حذافة) ، وبين
أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعث عبد الله بن حذافة.
قيل له: وحديث أبي رافع أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعثه
يخطب ميمونة، وقال مطر: عن أبي رافع؟ قال: نعم وذاك أيضاً.
(2/605)
"معنى الحسن
عند الترمذي"
وأما الحديث الحسن فقد بين الترمذي مراده بالحسن: وهو ما كان
حسن الإسناد.
وفسر حسن الإسناد: بأن لا يكون في إسناده متهم بالكذب، ولا
يكون شاذاً، ويروى من غير وجه نحوه، فكل حديث كان (كذلك) فهو
عنده حديث حسن.
وقد تقدم أن الرواة منهم من يتهم بالكذب، ومنهم من يغلب على
حديثه الوهم والغلط، ومنهم الثقة الذي يقل غلطه، ومنهم الثقة
الذي يكثر غلطه.
فعلى ما ذكره الترمذي: كلما كان في إسناده متهم فليس بحسن، وما
عداه فهو حسن، بشرط أن لا يكون شاذاً.
والظاهر أنه أراد بالشاذ ما قاله الشافعي، وهو أن يروي الثقات
عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خلافه بشرط أن لا يكون شاذاً.
وبشرط أن يروى نحوه من غير وجه، يعني أن يروي معنى ذلك الحديث
من وجوه أخر عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بغير ذلك
الإسناد. فعلى هذا الحديث الذي يرويه الثقة العدل، ومن كثر
غلطه، ومن يغلب على حديثه الوهم إذا لم يكن أحد منهم متهماً،
كله حسن؛ بشرط أن لا يكون شاذاً، مخالفاً للأحاديث الصحيحة،
وبشرط أن يكون معناه قد روي من وجوه متعددة.
فإن كان مع ذلك من رواية الثقات العدول الحفاظ، فالحديث حينئذ
"حسن صحيح".
وإن كان مع ذلك من رواية غيرهم من أهل الصدق، الذين في حديثهم
وهم وغلط، إما كثير، أو غالب عليهم، فهو حسن، ولو لم يرو لفظه
إلا من ذلك الوجه، لأن المعتبر أن يروى معناه من غير وجه، لا
نفس لفظه.
(2/606)
وعلى هذا فلا يشكل قوله: "حديث حسن غريب"،
ولا قوله: صحيح حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، لأن مراده
أن هذا اللفظ لا يعرف إلا من هذا الوجه، لكن لمعناه شواهد من
غير هذا الوجه، وإن كانت شواهد بغير لفظه.
وهذا كما في حديث "الأعمال بالبينات" فإن شواهده كثيرة جداً في
السنة، مما يدل على أن المقاصد والنيات هي المؤثرة في الأعمال،
وأن الجزاء يقع على العمل بحسب ما نوي به، وإن لم يكن لفظ حديث
عمر مروياً من غير حديثه من وجه يصح.
"الرد على ابن الصلاح فيما ذهب
إليه"
وبمعنى هذا الذي ذكرناه فسر ابن الصلاح كلام الترمذي في معنى
الحسن، غير أنه زاد: أن لا يكون من رواية مغفل كثير الخطأ.
وهذا (لا) يدل عليه كلام الترمذي، لأنه إنما اعتبر أن لا يكون
راويه متهماً فقط. لكن قد يؤخذ مما ذكره الترمذي قبل هذا، أن
من كان مغفلاً كثير الخطأ، لا يحتج بحديثه ولا يشتغل بالرواية
عنه عند الأكثرين.
"معنى قول الترمذي: ويروى من غير
وجه نحو ذلك"
وقول الترمذي ـ رحمه الله ـ يروى من غير وجه نحو ذلك، لم يقل
عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيحتمل أن يكون مراده عن
النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويحتمل أن يحمل كلامه على ظاهره،
وهو أن يكون معناه يروى من غير وجه، ولو موقوفاً، ليستدل بذلك
على أن هذا المرفوع له أصل يعتضد به.
وهذا كما قال الشافعي في الحديث المرسل: إنه إذا عضده قول
صحابي، أو عمل عامة أهل الفتوى به كان صحيحاً.
(2/607)
وعلى هذا التفسير الذي ذكرناه لكلام
الترمذي إنما يكون الحديث صحيحاً حسناً إذا صح إسناده، برواية
الثقات العدول، ولم يكن شاذاً، وروى نحوه من غير وجه وأما
الصحيح المجرد فلا يشترط فيه أن يروى نحوه من غير وجه، لكن لا
بد أن لا يكون ـ أيضاً ـ شاذاً، (وهو ما روت الثقات بخلافه على
ما يقوله الشافعي والترمذي) فيكون حينئذ الصحيح الحسن أقوى من
الصحيح المجرد.
وقد يقال: إن الترمذي إنما يريد الحسن ما فسره به ههنا، إذا
ذكر الحسن مجرداً عن الصحة، فأما الحسن المقترن بالصحيح فلا
يحتاج (إلى) أن يروى نحوه من غير وجه، لأن صحته تغني عن
اعتضاده بشواهد أخر، والله أعلم.
"تخريج قول الترمذي: حسن صحيح وحسن
غريب"
وقد اضطرب الناس في جمع الترمذي بين الحسن والصحيح، لأن الحسن
دون الصحيح، فكيف يجتمع الحسن والصحة، وكذلك جمعه بين الحسن
والغريب (فإن الحسن عنده ما تعددت مخارجه، والغريب) ، ما لم
يرو إلا من وجه واحد.
"المذهب الأول":
فمنهم من قال: إن مراده أنا لحديث حسن لثقة رجاله، وارتقى من
الحسن إلى درجة الصحة، لأن رواته في نهاية مراتب الثقة،
فحديثهم (حسن صحيح) ، لجمعهم بين صفات من يحسن حديثه، وصفات من
يصحح حديثه، وعلى هذا فكل صحيح حسن، ولا عكس، ولهذا لا يكاد
يفرد الصحة عن
(2/608)
الحسن إلا نادراً (وعلى هذا التفسير)
فالحسن ما تقاصر عن درجة الصحيح، لكون رجاله لم يبلغوا من
الصدق والحفظ درجة رواة الصحيح، وهم الطبقة الثانية من الثقات،
الذين ذكرهم مسلم في مقدمة كتابه، وقيل: إنه خرج حديثهم في
المتابعات، وهذا الحسن هو (الذي) أراده أبو داود في كتابه
بقوله: خرجت في كتابي الصحيح، وما يشبهه وما يقاربه.
وذكر ابن الصلاح أن تفسير الحسن بهذا (المعنى) هو قول الخطابي،
وليس هو قول الترمذي، وذكر أن الحسن نوعان:
أحدهما: ما ذكره الترمذي وهو أن يكون راويه غير متهم، ولا
مغفلاً كثير الخطأ، ولا صاحب فسق، ويكون متن الحديث قد اعتضد
بشاهد آخر له، فيخرج بذلك عن أن يكون شاذاً أو منكراً.
والثاني: وهو قول الخطابي: أن يكون رواته من المشهورين بالصدق
والأمانة، غير أنهم لم يبلغوا درجة رجال الصحيح، لتقصيرهم عنهم
في الاتقان والحفظ، ولا يكون الحديث شاذاً ولا منكراً ولا
معللاً.
"مذهب ابن الصلاح":
وذكر أن الترمذي إذا جمع بين الحسن والصحة فمراده أنه روي
بإسنادين، أحدهما حسن، والآخر صحيح.
وهذا فيه نظر، لأنه يقول كثيراً: "حسن صحيح، غريب، (لا نعرفه)
إلا من هذا الوجه".
وقد أجاب عن ذلك بعض أكابر المتأخرين بأنه قد يكون أصل الحديث
غريباً ثم تتعدد طرقه عن بعض رواته، أما التابعي، أو من بعده.
فإن كانت تلك الطرق
(2/609)
كلها صحيحة فهو "صحيح غريب" (وإن كانت كلها
حسنة فهو "حسن غريب" وإن كان بعضها صحيحاً وبعضها حسناً فهو
"صحيح حسن غريب"، إذ الحسن عند الترمذي ما تعددت طرقه وليس
فيها متهم، وليس شاذاً، فإذا قال مع ذلك: إنه غريب لا يعرف إلا
من ذلك الوجه حمل على أحد شيئين:
إما أن (تكون) طرقه قد تعددت إلى أحد رواته الأصليين، فيكون
أصله غريباً ثم صار حسناً، وإما أن يكون إسناده غريباً، بحيث
لا يعرف بذلك الإسناد إلا من هذا الوجه، ومتنه حسناً بحيث روي
من وجهين (وأكثر) ، كما يقول: وفي الباب عن فلان وفلان، فيكون
لمعناه شواهد تبين أن متنه حسن، وإن كان إسناده غريباً.
وفي بعض هذا نظر، وهو بعيد من مراد الترمذي، لمن تأمل كلامه.
"المذهب الثالث":
ومن المتأخرين من قال: إن الحسن الصحيح عند الترمذي دون الصحيح
المفرد، فإذا قال: "صحيح" فقد جزم بصحته، وإذا قال: حسن صحيح،
فمراده أنه جمع طرفاً من الصحة وطرفاً من الحسن، وليس بصحيح
محض، بل حسن مشرب بصحة، كما يقال في المز: إنه حلو حامض،
باعتبار أن فيه حلاوة وحموضة، وهذا بعيد جداً، فإن الترمذي
يجمع بين الحسن والصحة في غالب الأحاديث الصحيحة، المتفق على
صحتها، والتي أسانيدها في أعلى درجة الصحة، كمالك، عن نافع، عن
ابن عمر، والزهري، عن سالم، عن أبيه.
ولا يكاد الترمذي يفرد الصحة إلا نادراً.
وليس ما أفرد فيه الصحة بأقوى مما جمع فيه بين الصحة والحسن.
(2/610)
"المذهب الرابع":
ومن المتأخرين ـ أيضاً ـ من قال: مراد الترمذي في الحسن أن
كلاً من الأوصاف الثلاثة التي ذكرها في الحسن، وهي سلامة
الإسناد من المتهم، وسلامته من الشذوذ، وتعدد طرقه، ولو كانت
واهية، موجب لحسن الحديث عنده.
"المذهب المختار":
وهذا بعيد جداً، وكلام الترمذي وإنما يدل على أنه لا يكون
حسناً حتى يجتمع فيه الأوصاف الثلاثة. وتسمية الحديث الواهي
التي تعددت طرقه حسناً لا أعلمه وقع في كلام الترمذي في شيء من
أحاديث كتابه.
"شرط الترمذي في الرجال مع عرض
لشرط غيره من الأئمة"
واعلم أن الترمذي ـ رحمه الله ـ خرج في كتابه الحديث الصحيح،
والحديث الحسن، وهو ما نزل عن درجة الصحيح، وكان فيه بعض ضعف،
والحديث الغريب كما سيأتي.
والغرائب التي خرجها فيها بعض المناكير، ولا سيما في كتاب
الفضائل، ولكنه يبين ذلك غالباً ولا يسكت عنه.
ولا أعلمه خرج عن متهم بالكذب، متفق على اتهامه حديثاً بإسناد
منفرد إلا أنه قد يخرج حديثاً مروياً من (طرق) ، أو مختلفاً في
إسناده، وفي بعض طرقه متهم.
وعلى هذا الوجه خرج (حديث) محمد بن سعيد المصلوب، ومحمد بن
السائب الكلبي.
(2/611)
نعم، قد يخرج عن سيىء الحفظ، وعمن غلب على
حديثه الوهم، ويبين ذلك غالباً، ولا يسكت عنه.
وقد شاركه أبو داود في التخريج عن كثير من هذه الطبقة، مع
السكوت على حديثهم، كإسحاق بن أبي فروة، وغيره.
وقد قال أبو داود، في رسالته إلى أهل مكة:
ليس في كتاب السنن الذي صنفته (عن رجل) متروك الحديث، سيىء
الحفظ، وإذا كان فيه حديث منكر بينت أنه منكر.
ومراده: أنه لم يخرج لمتروك الحديث، عنده، على ما ظهر له، أو
لمتروك متفق على تركه، فإنه قد خرج لمن قيل: "إنه متروك"، ومن
قيل "إنه متهم بالكذب".
وقد كان أحمد بن صالح المصري وغيره لا يتركون إلا حديث من
(اجتمع) على ترك حديثه.
وحكي مثله عن النسائي.
والترمذي ـ رحمه الله ـ يخرج حديث الثقة الضابط، ومن يهم
قليلاً، ومن يهم كثيراً، ومن يغلب عليه الوهم، يخرج حديثه
نادراً، ويبين ذلك، ولا يسكت عنه.
وقد خرج حديث كثير بن عبد الله المزني، ولم يجمع على ترك
حديثه، بل قد قواه قوم، وقدم بعضهم حديثه على مرسل ابن المسيب،
وقد ذكرنا ذلك (في مواضع) . وقد حكى الترمذي في العلل، عن
البخاري، أنه قال في حديثه
(2/612)
"في تكبيرة صلاة العيدين": هو أصح حديث في
هذا الباب، قال: وأنا أذهب إليه.
وأبو داود قريب من الترمذي في هذا، بل هو اشد انتقاداً للرجال
منه.
وأما النسائي فشرطه أشد من ذلك، ولا يكاد يخرج لمن يغلب عليه
الوهم، ولا لمن فحش خطؤه، وكثر.
وأما مسلم فلا يخرج إلا حديث الثقة الضابط، ومن في حفظه بعض
شيء، وتكلم فيه لحفظه لكنه يتحرى في التخريج عنه، ولا يخرج عنه
إلا ما لا يقال إنه مما وهم فيه.
وأما البخاري فشرطه أشد من ذلك، وهو أنه لا يخرج إلا للثقة
الضابط، ولمن ندر وهمه. وإن كان قد اعترض عليه في بعض من خرج
عنه.
ونذكر لذلك مثالاً: وهو أن أصحاب الزهري خمس طبقات:
الطبقة الأولى: جمعت الحفظ والاتقان، وطول الصحبة للزهري،
والعلم بحديثه، والضبط له، كمالك، وابن عيينة، وعبيد الله بن
عمر، ومعمر، ويونس وعقيل، وشعيب، وغيرهم، وهؤلاء متفق على
تخريج حديثهم عن الزهري.
(2/613)
الطبقة الثانية: أهل حفظ واتقان، لكن لم
تطل صحبتهم للزهري، وإنما صحبوه مدة يسيرة، ولم يمارسوا حديثه،
وهم في اتقانه دون الطبقة الأولى، كالأوزاعي، والليث، وعبد
الرحمن بن خالد بن مسافر، والنعمان بن راشد ونحوهم.
وهؤلاء يخرج لهم مسلم عن الزهري.
الطبقة الثالثة: لازموا الزهري، وصحبوه، ورووا عنه، ولكن تكلم
في حفظهم كسفيان بن حسين، ومحمد بن إسحاق، وصالح بن أبي
الأخضر، وزمعة بن صالح، ونحوهم.
وهؤلاء يخرج لهم أبو داود، والترمذي والنسائي، وقد يخرج مسلم
لبعضهم متابعة.
الطبقة الرابعة: قوم رووا عن الزهري، من غير ملازمة، ولا طول
صحبة، ومع ذلك تكلم فيهم، مثل إسحاق بن يحيى الكلبي،
(2/614)
ومعاوية بن يحيى الصدفي، وإسحاق بن أبي
فروة، وإبراهيم بن يزيد المكي، والمثنى بن الصباح، ونحوهم.
وهؤلاء قد يخرج الترمذي لبعضهم.
الطبقة الخامسة: قوم من المتروكين والمجهولين كالحكم الأيلي،
وعبد القدوس بن حبيب، ومحمد بن سعيد المصلوب وبحر السقاء،
ونحوهم.
فلم يخرج لهم الترمذي، ولا أبو داود، ولا النسائي، ويخرج ابن
ماجه لبعضهم، ومن هنا نزلت درجة كتابه عن بقية الكتب، ولم يعده
من الكتب المعتبرة سوى طائفة من المتأخرين.
أصحاب نافع.
قسمهم ابن المديني تسع طبقات:
الطبقة الأولى: أيوب، وعبيد الله بن عمر، ومالك، وعمر بن نافع.
قال: فهؤلاء أثبت أصحابه، وأثبتهم ـ عندي ـ أيوب. قال: وسمعت
يحيى يقول: ليس ابن جريج بدونهم فيما سمع من نافع.
الطبقة الثانية: عبد الله بن عون، ويحيى الأنصاري، وابن جريج.
(2/615)
الطبقة الثالثة: أيوب بن موسى، وإسماعيل بن
أمية، وسليمان بن موسى، وسعد بن إبراهيم.
الطبقة الرابعة: موسى بن عقبة، ومحمد بن إسحاق، وداود بن
الحصين.
الطبقة الخامسة: محمد بن عجلان، والضحاك بن عثمان، وأسامة بن
زيد الليثي، ومالك بن مغول.
الطبقة السادسة: ليث بن سعد، وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة،
وسليمان بن مساحق، وابن غنج المصري.
(2/616)
الطبقة السابعة: عبد الرحمن بن السراج،
وسعيد بن عبد الله بن حرب، وسلمة بن علقمة، وعلي بن الحكم،
والوليد بن أبي هشام.
الطبقة الثامنة: أبو بكر بن نافع، وخليفة بن غلاب، ويونس بن
يزيد، وجويرية بن أسماء، وعبد العزيز بن أبي رواد، ومحمد بن
ثابت العبدي، وأبو علقمة الفروي، وعطاف بن خالد، وعبد الله بن
عمر،
(2/617)
وحجاج بن أرطأة، وأشعث بن سوار، وثور بن
يزيد.
وطبقة تاسعة: لا يكتب عنهم، عبد الله بن نافع، وأبو أمية بن
يعلى، وعثمان البري، وعمر بن قيس سندل انتهى.
وقد خولف في بعض هذا الترتيب، فمن ذلك وتقديم سليمان بن موسى
على موسى بن عقبة، والليث والضحاك بن عثمان، ومالك بن مغول،
وجويريه، ويونس.
وحديث جويرية والليث بن سعد عن نافع مخرج في الصحيحين، وسليمان
بن موسى قد تكلم فيه غير واحد، ولم يخرجا له شيئاً.
وقد قسم النسائي أصحاب نافع تسع طبقات أيضاً، وخالف ابن
المديني، في بعض ما ذكره، ووافقه في بعضه، فوافقه في ذكر
الطبقة الأولى، وزاد في الطبقة الثانية صالح بن كيسان، وزاد في
الثالثة موسى بن عقبة، وكثير بن
(2/618)
فرقد، وأسقط منها سعد بن إبراهيم، وسليمان
بن موسى، وذكر الطبقة الرابعة: الليث بن سعد، وجويرية بن أسماء
وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، ويونس بن يزيد، لم يذكر غيرهم،
وزاد في الخامسة ابن أبي ذئب وحنظلة بن أبي سفيان، وابن غنج،
وأسقط ذكر أسامة وابن مغول، وذكر الطبقة السادسة سليمان بن
موسى، وبرد بن سنان، وهشام بن الغاز، وابن أبي رواد، وزاد في
السابعة عبيد الله بن الأخنس، وأسقط منها سعيداً، وعلي بن
الحكم، وقال الطبقة الثامنة: عمر بن محمد زيد، وأسامة بن زيد،
ومحمد بن إسحاق، وصخر بن جويرية، وهمام بن يحيى، وهشام بن سعد،
قال: والتاسعة: الضعفاء: عبد الكريم أبي أمية، وليث بن أبي
سليم، وحجاج بن أرطأة، وأشعث بن سوار، وعبد الله بن عمر وذكر
طبقة عاشرة، وقال: هم المتروك حديثهم، إسحاق بن أبي فروة، وعبد
الله بن نافع، وعمر بن قيس، ونجيح أبو معشر، وعثمان البري،
وأبو أمية بن يعلى، ومحمد بن
(2/619)
عبد الرحمن بن المجير، وعبد العزيز بن عبيد
الله.
أصحاب الأعمش
قال النسائي: هم سبع طبقات:
الأولى: يحيى القطان، والثوري، وشعبة.
الثانية: زائدة، وابن أبي زائدة، وحفص بن غياث.
الثالثة: أبو معاوية، وجرير بن عبد الحميد، وابو عوانة.
الرابعة: قطبة بن عبد العزيز، ومفضل بن مهلهل، وداود الطائي
(2/620)
وفضيل بن عياض، وابن المبارك.
الخامسة: ابن إدريس، وعيسى بن يونس، ووكيع، وحميد الرواسي،
وعبد الله بن داود، والفضل بن موسى، وزهير بن معاوية.
السادسة: أبو أسامة، وابن نمير، وعبد الواحد بن زياد.
السابعة: عبيدة بن حميد، وعبدة بن سليمان.
"الغريب"
وأما الحديث الغريب فهو ضد
المشهور.
وقد كان السلف يمدحون المشهور من الحديث، ويذمون الغريب منه في
الجملة، ومنه قول ابن المبارك: العلم هو الذي يجيئك من ههنا
ومن ههنا، يعني المشهور.
خرجه البيهقي من طريق الترمذي عن أحمد بن عبدة، عن أبي وهب
عنه.
وخرج أيضاً من طريق الزهري عن علي بن حسين، قال: ليس من العلم
ما لا يعرف إنما العلم ما عرف وتواطأت عليه الألسن.
(2/621)
وبإسناده عن مالك، قال: شر العلم الغريب،
وخير العلم الظاهر، الذي قد رواه الناس.
وروى محمد بن جابر، عن الأعمش، عن إبراهيم، قال: كانوا يكرهون
غريب الحديث، وغريب الكلام.
وعن أبي يوسف، قال: من طلب غرائب الحديث كذب.
وقال أبو نعيم: كان عندنا رجل يصلي كل يوم خمسمائة ركعة، سقط
حديثه في الغرائب.
وقال (عمرو) بن خالد: سمعت زهير بن معاوية يقول لعيسى بن يونس
ينبغي للرجل أن يتوقى رواية غريب الحديث، فإني أعرف رجلاً كان
يصلي في اليوم مائتي ركعة، ما أفسده عند الناس إلا رواية غريب
الحديث.
وذكر مسلم، في مقدمة كتابه، من طريق حماد بن زيد، أن أيوب قال
لرجل: لزمت عمراً؟ قال: نعم، إنه يجيئنا بأشياء غرائب. قال:
يقول له أيوب: إنما نفر أو نفرق من تلك الغرائب.
(2/622)
وقال رجل لخالد بن الحارث: (اخرج لي) حديث
الأشعث لعلي أجد فيه شيئاً غريباً. فقال: لو كان فيه شيء غريب
لمحوته.
ونقل علي بن عثمان النفيلي، عن أحمد، قال: شر الحديث الغرائب
التي لا يعمل بها، ولا يعتمد عليها.
وقال المروذي: سمعت أحمد يقول: تركوا الحديث وأقبلوا على
الغرائب ما أقل الفقه فيهم.
ونقل محمد بن سهل بن عسكر، عن أحمد، قال: إذا سمعت أصحاب
الحديث يقولون: هذا الحديث "غريب" أو "فائدة" فاعلم أنه خطأ،
أو دخل حديث في حديث، أو خطأ من المحدث، أو ليس له إسناد، وإن
كان قد روى شعبة وسفيان. وإذا سمعتهم يقولون لا شيء، فاعلم أنه
حديث صحيح.
وقال أحمد بن يحيى: سمعت أحمد غير مرة، يقول: لا تكتبوا هذه
الأحاديث الغرائب، فإنها مناكير، وعامتها عن الضعفاء.
قال أبو بكر الخطيب: أكثر طالبي الحديث في هذا الزمان يغلب
عليهم
(2/623)
كتب الغريب دون المشهور، وسماع المنكر دون
المعروف، والاشتغال بما وقع فيه السهو والخطأ، من رواية
المجروحين والضعفاء حتى لقد صار الصحيح عند أكثرهم مجتنباً،
والثابت مصدوفاً عنه مطرحاً، وذلك لعدم معرفتهم بأحوال الرواة
ومحلهم، ونقصان علمهم بالتمييز، وزهدهم في تعلمه.
وهذا خلاف ما كان عليه الأئمة من المحدثين الأعلام من أسلافنا
الماضين.
وهذا الذي ذكره الخطيب حق. ونجد كثيراً ممن ينتسب إلى الحديث،
لا يعتني بالأصول الصحاح كالكتب الستة ونحوها، ويعتني بالأجزاء
الغريبة، وبمثل مسند البزار، ومعاجم الطبراني، وأفراد
الدارقطني، وهي مجمع الغرائب والمناكير.
"أنواع الغريب"
ومن جملة الغرائب المنكرة الأحاديث الشاذة المطرحة، وهي نوعان:
- ما هو شاذ الاسناد، وسيذكر الترمذي، فيما بعد، بعض أمثلته.
- وما هو شاذ المتن كالأحاديث التي صحت (الأحاديث) بخلافها، أو
أجمعت أئمة العلماء على القول بغيرها، وهذا كما قاله أحمد في
حديث أسماء بنت عميس:
"تسلبي ثلاثاً، ثم اصنعي ما بدا لك".
إنه من الشاذ المطرح، مع أنه قد قال به شذوذ من العلماء في أن
المتوفى عنها لا إحداد عليها بالكلية، كما سبق ذكره في موضعه.
(2/624)
وكذلك حديث طاوس عن ابن عباس، في الطلاق
الثلاث، فقد تقدم في كتاب الطلاق كلام أحمد وغيره من الأئمة
فيه، وإنه شاذ مطرح.
قال إبراهيم بن أبي عبلة: من حمل شاذ العلم حمل شراً كثيراً.
وقال معاوية بن قرة: إياك والشاذ من العلم.
وقال شعبة: لا يجيئك الحديث الشاذ إلا من الرجل الشاذ.
قال صالح بن محمد الحافظ: الشاذ الحديث المنكر الذي لا يعرف.
وقد تقدم قول ابن مهدي: لا يكون إماماً في العلم من يحدث
بالشاذ من العلم.
"اعتراض على الترمذي وبيان لمنهجه،
ومنهج النسائي وأبي داود"
وقد اعترض على الترمذي ـ رحمه الله ـ بأنه في غالب الأبواب
يبدأ بالأحاديث الغريبة الإسناد غالباً.
وليس ذلك بعيب، فإنه ـ رحمه الله ـ يبين ما فيها من العلل، ثم
يبين الصحيح في الإسناد.
وكان مقصده ـ رحمه الله ـ ذكر العلل، ولهذا تجد النسائي إذا
استوعب طرق الحديث بدأ بما هو غلط، ثم يذكر بعد ذلك الصواب
المخالف له.
(2/625)
وأما أبو داود ـ رحمه الله ـ فكانت عنايته
بالمتون أكثر، ولهذا يذكر الطرق واختلاف ألفاظها، والزيادات
المذكورة في بعضها دون بعض، فكانت عنايته بفقه الحديث أكثر من
عنايته بالأسانيد، فلهذا يبدأ بالصحيح من الأسانيد، وربما لم
يذكر الإسناد المعلل بالكلية، ولهذا قال في رسالته إلى أهل
مكة:
سألتم أن أذكر لكم الأحاديث التي في كتاب السنن أهي أصح ما
عرفت في الباب؟
فاعلموا أنه كذلك (كله) ، إلا أن يكون قد روى من وجهين صحيحين،
وأحدهما أقوى إسناداً، والآخر صاحبه أقدم في الحفظ فربما كتبت
ذلك، ولا أرى في كتابي من هذا عشرة أحاديث، ولم أكتب في الباب
إلا حديثاً أو حديثين، وإن كان في الباب أحاديث صحاح، فانه
يكثر، وإذا أعدت الحديث في الباب من وجهين أو ثلاثة، فإنما هو
من زيادة كلام فيه، وربما فيه كلمة زائدة على الأحاديث، وربما
اختصرت الحديث الطويل، لأني لو كتبته بطوله لم يعلم بعض من
سمعه ولا يفهم موضع الفقه منه، فاختصرته لذلك.
إلى أن قال: وما كان في كتابي من حديث فيه وهن شديد فقد بينته،
ومنه ما لا يصح مسنداً، وما لم أذكر فيه شيئاً فهو صالح،
وبعضها أصح من بعض.
إلى أن قال: والأحاديث التي وضعتها في كتاب السنن أكثرها
مشاهير، وهي عند كل من كتب شيئاً من الأحاديث، إلا أن تمييزها
لا يقدر عليه كل
(2/626)
الناس، والفخر بها أنها مشاهير، فانه لا
يحتج بحديث غريب، ولو كان من رواية مالك ويحيى بن سعيد،
والثقات من أئمة العلم، ولو أحتج بحديث غريب وجدت من يطعن فيه
ولا يحتج بالحديث الذي قد احتج به إذا كان الحديث غريباً
شاذاً، فأما الحديث المشهور المتصل الصحيح فليس يقدر أن يرده
علينا أحد.
وقال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون الغريب من الحديث.
وقال يزيد بن أبي حبيب: إذا سمعت الحديث فأنشده كما تنشد
الضالة، فإن عرف، وإلا فدعه. وذكر بقية الرسالة.
وخرج البيهقي بإسناده عن ابن وهب، قال:
لولا مالك بن انس والليث بن سعد لهلكت، كنت أظن أن كل ما جاء
عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعمل به.
قال ابن أبي خيثمة: (ثنا) بن الأصبهاني. (ثنا) عيسى بن يونس،
عن الأعمش، عن إبراهيم، قال: إني لأسمع الحديث فآخذ منه ما
يؤخذ به وأدع سائره.
الغريب في اصطلاح الترمذي
ثم لنرجع إلى ما ذكره الترمذي ـ رحمه الله ـ فنقول:
ذكر الترمذي ـ رحمه الله ـ عند أهل الحديث يطلق بمعان:
أحدها: "ما لا يروى إلا من وجه واحد":
أن يكون الحديث لا يروى إلا من وجه واحد. ثم مثله بمثالين وهما
في الحقيقة نوعان: أحدهما: أن يكون ذلك الإسناد لا يروى به إلا
ذلك الحديث أيضاً، وهذا مثل حديث حماد بن سلمة، عن أبي العشراء
الدارمي عن أبيه،
(2/627)
عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ "في
الذكاة" فهذا حديث غريب لا يعرف إلا من حديث حماد بن سلمة، عن
أبي العشراء، ثم اشتهر عن حماد ورواه عنه خلق فهو في أصل
إسناده، غريب ثم صار مشهوراً عن حماد.
قال الترمذي: ولا نعرف لأبي العشراء عن أبيه غير هذا الحديث.
وقد خرج الترمذي في كتاب الصيد والذبائح هذا الحديث، وقال:
غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة، ولا نعرف لأبي
العشراء عن أبيه غيره، ولم يقل: إنه حسن، لما ذكر ههنا أن شرطه
في الحسن أن يروى نحوه من غير وجه، وهذا ليس كذلك فإنه لم يرو
في الذكاة في غير الحلق واللبة إلا في حال الضرورة.
وحكى أيضاً ـ في كتاب العلل عن البخاري، أنه قال: لا يعرف لأبي
العشراء شيء غير هذا.
وقد ذكرنا هناك أن بعضهم ذكر لحماد بن سلمة عن أبي العشراء عن
أبيه نحو عشرة أحاديث، لكن كل أسانيدها إلى حماد ضعيفة، لا
يكاد يصح منها شيء عنه.
ووهن أحمد حديث أبي العشراء في الذكاء أيضاً.
النوع الثاني: أن يكون الإسناد مشهوراً، يروى به أحاديث كثيرة،
(2/628)
ولكن هذا المتن لم تصح روايته إلا بهذا
الإسناد، ومثله الترمذي بحديث عبد الله بن دينار، عن ابن عمر،
عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في النهي عن بيع الولاء
وهبته، فإنه لا يصح عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا من
هذا الوجه، ومن رواه من غيره فقد وهم وغلط.
وقد خرجه الترمذي في كتاب البيوع وسبق الكلام عليه هناك
مستوفى، وهو معدود من غرائب الصحيح فإن الشيخين خرجاه، ومع هذا
فتكلم فيه الإمام أحمد (ووهنه، ثم) قال:
لم يتابع عبد الله بن دينار عليه، وأشار إلى أن الصحيح ما روى
نافع عن ابن عمر: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
قال: "الولاء لمن أعتق" لم يذكر النهي عن بيع الولاء وهبته.
قلت: وروى نافع عن ابن عمر، من قوله: النهي عن بيع الولاء وعن
هبته (غير) مرفوع.
وهذا مما يعلل به حديث عبد الله بن دينار، والله أعلم.
(2/629)
ومن غرائب الصحيح أيضاً حديث عمر عن النبي
ـ صلى الله عليه وسلم ـ "إنما الأعمال بالنيات" الحديث وقد
خرجه الترمذي في الجهاد، وسبق الكلام عليه هناك مستوفى، فانه
لم يصح إلا من حديث يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم التيمي،
عن علقمة بن وقاص، عن عمر.
ومنها أيضاً، "حديث أنس" دخل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مكة
وعلى رأسه المغفر، فانه لم يصح إلا من حديث مالك عن ابن شهاب
عن أنس، وقد سبق ذكره في الجهاد أيضاً. وأمثلة ذلك كثيرة.
"زيادة الثقة"
قال أبو عيسى ـ رحمه الله ـ:
ورب حديث أستغرب لزيادة تكون في الحديث، وإنما يصح إذا كانت
الزيادة ممن يعتمد على حفظه، مثل ما روى مالك بن أنس، عن نافع
عن ابن عمر، قال: فرض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ زكاة
الفطر في رمضان على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى، من المسلمين:
صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير.
فزاد مالك في هذا الحديث "من المسلمين".
وروى أيوب السختياني وعبيد الله بن عمر، وغير واحد من الأئمة
هذا الحديث عن نافع عن ابن عمر، ولم يذكر فيه من المسلمين".
وقد روى بعضهم عن نافع مثل رواية مالك، ممن لا يعتمد على حفظه.
وقد أخذ غير واحد من الأئمة بحديث مالك واحتجوا به: منهم
الشافعي
(2/630)
وأحمد بن حنبل، قالا: إذا كان للرجل عبيد
غير مسلمين لم يؤد زكاة الفطر عنهم، واحتجا بحديث مالك.
فإذا زاد حافظ ممن يعتمد على حفظه قبل ذلك عنه.
هذا أيضاً نوع من الغريب، وهو أن يكون الحديث في نفسه مشهوراً
لكن يزيد بعض الرواة في متنه زيادة تستغرب. وقد ذكر الترمذي أن
الزيادة إن كانت من حافظ يعتمد على حفظه فإنها تقبل، يعني: وإن
كان الذي زاد ثقة لا يعتمد على حفظه لا تقبل زيادته.
وهذا ـ أيضاً ـ ظاهر كلام الإمام أحمد، قال في رواية صالح: قد
أنكر على مالك هذا الحديث، يعني زيادته "من المسلمين". ومالك
إذا انفرد بحديث هو ثقة.
وما قال أحد ممن قال بالرأي أثبت منه، يعني في الحديث.
(2/631)
وقال: قد رواه العمري الصغير والجمحي
ومالك.
فذكر أحمد أن مالكاً يقبل تفرده، وعلل بزيادته في التثبيت على
غيره، وبأنه قد توبع على هذه الزيادة.
وقد ذكرنا هذه الزيادة، ومن تابع مالكاً عليها في كتاب الزكاة.
ولا تخرج بالمتابعة عن أن تكون زيادة من بعض الرواة، لأن عامة
أصحاب نافع لم يذكروها.
وقد قال أحمد في رواية عنه: كنت أتهيب حديث مالك "من المسلمين"
يعني حتى وجده من حديث (العمريين) قيل له: أمحفوظ هو عندك "من
المسلمين"؟ قال: نعم.
وهذه الرواية تدل على توقفه في زيادة (واحد من الثقات) ، ولو
كان مثل مالك، حتى يتابع على تلك الزيادة، وتدل على أن متابعة
مثل العمري لمالك مما يقوي رواية مالك، ويزيل عن حديثه الشذوذ
والإنكار.
وسيأتي فيما بعد ـ إن شاء الله ـ عن يحيى القطان نحو ذلك
أيضاً.
وكلام الترمذي ههنا يدل على خلاف ذلك وأن العبرة برواية مالك،
وأنه لا عبرة ممن تابعه ممن لا يعتمد على حفظه.
وفي حديث ابن عمر في صدقة الفطر زيادات أخر لا تثبت، منها ذكر
القمح، وكذلك في حديث أبي سعيد في صدقة الفطر زيادات، وقد
ذكرنا ذلك كله مستوفى في كتاب الزكاة.
وقال أحمد أيضاً: في حديث ابن فضيل عن الأعمش، عن عمارة بن
(2/632)
عمير، عن أبي عطية، عن عائشة في تلبية
النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وذكر فيها: "والملك لا شريك لك"،
قال أحمد: وهم ابن فضيل في هذه الزيادة، ولا تعرف هذه عن
عائشة، إنما تعرف عن ابن عمر، وذكر أن أبا معاوية روى الحديث
عن الأعمش بدونها: وخرجه البخاري بدونها أيضاً من طريق الثوري،
عن الأعمش وقال: تابعه أبو معاوية.
قال الخلال: أبو عبد الله لا يعبأ بمن خالف أبا معاوية في
الأعمش إلا أن يكون الثوري، وذكر أن هذه الزيادة رواها ابن
نمير وغيره أيضاً ـ عن الأعمش.
وكذلك قال أحمد في رواية الميموني: حديث أبي هريرة في
الاستسعاء
(2/633)
يرويه ابن أبي عروبة. وأما شعبة وهمام فلم
يذكراه، ولا أذهب إلى الاستسعاء.
فالذي يدل عليه كلام الإمام أحمد في هذا الباب: إن زيادة الثقة
للفظة في حديث من بين الثقات إن لم يكن مبرزاً في الحفظ
والتثبت على غيره ممن لم يذكر الزيادة، ولم يتابع عليها، فلا
يقبل تفرده، وإن كان ثقة مبرزاً في الحفظ على من لم يذكرها
ففيه عنه روايتان، لأنه قال مرة في زيادة مالك "من المسلمين":
كنت أتهيبه حتى وجدته من حديث العمريين.
وقال مرة: إذا انفرد مالك بحديث هو ثقة، وما قال أحد بالرأي
أثبت منه.
وقال في حديث أيوب عن نافع، عن ابن عمر المرفوع: من حلف فقال:
(2/634)
إن شاء الله فلا حنث عليه". خالفه الناس،
عبيد الله وغيره فوقفوه.
وأما أصحابنا الفقهاء، فذكروا في كتب أصول الفقه في هذه
المسألة روايتين عن أحمد: بالقبول مطلقاً، وعدمه مطلقاً، ولم
يذكروا نصاً له بالقبول مطلقاً مع أنهم رجحوا هذا القول، ولم
يذكروا به نصاً عن أحمد، وإنما اعتمدوا على كلام له، لا يدل
على ذلك، مثل قوله في فوات الحج: جاء فيه روايتان، إحداهما:
فيه زيادة دم، قال: والزائد أولى أن يؤخذ وهذا ليس مما نحن
فيه، فإن مراده أن الصحابة روى بعضهم فيمن يفوته الحج أن عليه
القضاء، وعن بعضهم عليه القضاء مع الدم، فأخذ بقول من زاد
الدم، فإذا روي حديثان مستقلان في حادثة، وفي أحدهما زيادة
فإنها تقبل من الثقة، كما لو انفرد الثقة بأصل الحديث. وليس
هذا من باب زيادة الثقة، (ولا سيما إذا كان الحديثان موقوفين
عن صحابيين) ، وإنما قد يكون أحياناً من باب المطلق والمقيد.
وأما مسألة زيادة الثقة التي نتكلم فيها ههنا فصورتها: إن يروي
جماعة حديثاً واحداً بإسناد واحد، ومتن واحد فيزيد بعض الرواة
فيه زيادة، لم يذكرها بقية الرواة.
ومن الأصحاب من قال في هذه المسألة: إن تعدد المجلس الذي نقل
فيه الحديث قبلت الزيادة وإن كان المجلس واحداً وكان الذي ترك
الزيادة جماعة
(2/635)
لا يجوز عليهم الوهم لم تقبل الزيادة وإن
كان ناقل الزيادة جماعة كثيرة قبلت، وإن كان راوي الزيادة
واحداً والنقصان واحداً قدم أشهرهما (وأوثقهما) في الحفظ
والضبط.
قالوا: وإن خالفت الزيادة ظاهر المزيد عليه، لم تقبل. وحملوا
كلام أحمد في حديث السعاية على ذلك.
وليس في كلام أحمد تعرض لشيء من هذا التفصيل، وإنما يدل كلامه
على ما ذكرناه أولاً.
وأما الفرق بين أن يكون المجلس متحداً أو متعدداً فإنه مأخوذه
مما ذكره بعضهم في حديث أبي موسى "في النكاح بلا ولي" فإن شعبة
وسفيان أرسلاه عن أبي إسحاق، عن أبي بردة وإسرائيل وصله. ويقال
إن سماع شعبة وسفيان كان واحداً، والذين وصلوه جماعة، فالظاهر
أنهم سمعوه في مجالس متعددة. وقد أشار الترمذي إلى هذا في كتاب
النكاح، كما تقدم.
(2/636)
وحكى (أصحابنا الفقهاء) عن أكثر الفقهاء
والمتكلمين قبول الزيادة إذا كانت من ثقة، ولم تخالف المزيد
وهو قول الشافعي.
وعن أبي حنيفة أنها لا تقبل.
وعن أصحاب مالك في ذلك وجهان.
(وفي حكاية ذلك عن الشافعي نظر، فإنه قال في الشاذ: هو أن يروي
ما يخالف الثقات. وهذا يدل على أن الثقة إذا انفرد عن الثقات
بشيء أنه يكون ما انفرد به عنهم شاذاً غير مقبول، والله أعلم)
.
ولا فرق في الزيادة بين الإسناد والمتن، كما ذكرنا في حديث
النكاح بلا ولي، وقد تكرر في هذا الكتاب ذكر الاختلاف في الوصل
والإرسال، والوقف والرفع، وكلام أحمد وغيره من الحفاظ يدور على
اعتبار قول الأوثق في ذلك، والأحفظ ـ أيضاً ـ.
وقد قال أحمد في حديث أسنده حماد بن سلمة: أي شيء ينفع وغيره
يرسله؟.
وذكر الحاكم أن أئمة الحديث على أن القول قول الأكثرين، الذين
أرسلوا الحديث.
وهذا يخالف تصرفه في المستدرك.
وقد صنف (في ذلك) الحافظ أبو بكر الخطيب مصنفاً حسناً سماه
"تمييز المزيد في (متصل) الأسانيد" وقسمه قسمين: أحدهما: ما
حكم فيه بصحة ذكر الزيادة في الإسناد، وتركها.
(2/637)
والثاني: ما حكم فيه برد الزيادة وعدم
قبولها.
ثم إن الخطيب تناقض، فذكر في كتاب الكفاية للناس مذاهب في
اختلاف الرواة في إرسال الحديث ووصله، كلها لا تعرف عن أحد من
متقدمي الحفاظ إنما هي مأخوذة من كتب المتكلمين، ثم إنه اختار
أن الزيادة من الثقة تقبل مطلقاً، كما نصره المتكلمون وكثير من
الفقهاء.
وهذا يخالف تصرفه في كتاب "تمييز المزيد".
(وقد عاب تصرفه في كتاب "تمييز المزيد") بعض محدثي الفقهاء
وطمع فيه لموافقته لهم في كتاب الكفاية. وذكر في الكفاية،
حكاية عن البخاري، أنه سئل عن حديث أبي إسحاق في "النكاح بلا
ولي".
قال: الزيادة من الثقة مقبولة، وإسرائيل ثقة.
وهذه الحكاية إن صحت فإنما مراده الزيادة في هذا الحديث. وإلا
فمن تأمل كتاب تاريخ البخاري تبين له قطعاً أنه لم يكن يرى أن
زيادة كل ثقة في الإسناد مقبولة.
(وهكذا الدارقطني يذكر في بعض المواضع أن الزيادة من الثقة
مقبولة) ، ثم يرد في أكثر المواضع زيادات كثيرة من الثقات،
ويرجح الإرسال على الإسناد.
فدل على أن مرادهم زيادة الثقة في مثل تلك المواضع الخاصة، وهي
إذا كان الثقة مبرزاً في الحفظ.
وقال الدارقطني في (حديث) زاد في إسناده رجلان ثقتان رجلاً،
(2/638)
وخالفهما الثوري فلم يذكره، قال: لولا أن
الثوري خالف لكان القول قول من زاد فيه، لأن زيادة الثقة
مقبولة. وهذا تصريح بأنه إنما يقبل زيادة الثقة إذا لم يخالفه
من هو أحفظ عنه.
وأما الزيادة في المتون وألفاظ الحديث، فأبو داود ـ رحمه الله
ـ في كتاب السنن أكثر الناس اعتناء بذلك، وهو مما يعتني به
محدثو الفقهاء.
قال الحاكم: هذا مما يعز وجوده، ويقل في أهل الصنعة من يحفظه:
وقد كان أبو بكر بن زياد النيسابوري الفقيه ببغداد يذكر بذلك،
وأبو نعيم عبد الملك بن محمد بن عدي الجرجاني بخراسان، وبعدهما
شيخنا أبو الوليد، يعني حسان بن محمد القرشي.
وذكر الحاكم لذلك أمثلة منها: حديث الوليد بن العيزار عن أبي
عمرو الشيباني، عن ابن مسعود.
سألت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أي العمل أفضل، قال:
"الصلاة لأول وقتها".
وقال: هذه الزيادة لم يذكرها غير بندار والحسن بن مكرم، وهما
ثقتان، عن عثمان بن عمر، عن مالك بن مغول، عن الوليد بن
العيزار، عن أبي عمر الشيباني.
(2/639)
وقال الدارقطني: ما رأيت أحفظ من أبي بكر
بن زياد: كان يعرف زيادات الألفاظ في المتون.
قال وكنا في مجلس فيه أبو طالب والجعابي وغيرهما، فجاء فقيه
فسأل: من روى عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ "وجعل تربتها
طهوراً" فلم يجيبوه، ثم قاموا، وسألوا أبا بكر بن زياد، فقال:
نعم، حدثنا فلان، وسرد الحديث.
والحديث خرجه مسلم في صحيحه، من حديث حذيفة، وخرجه ابن خزيمة
(في صحيحه) ولفظه.
"وجعل ترابها لنا طهوراً".
وقد تقدم الحديث في كتاب الصلاة، "في باب ما جاء أن الأرض كلها
مسجد".
وهذا ـ أيضاً ـ ليس مما نحن فيه، لأن حديث حذيفة لم يرد بإسقاط
هذه
(2/640)
اللفظة وإثباتها، وإنما وردت هذه اللفظة
فيه، وأكثر الأحاديث فيها "وجعلت لنا الأرض مسجداً وطهوراً".
وليس هذا من باب المطلق (والمقيد) ، كما ظنه بعضهم، وإنما هو
من باب تخصيص بعض أفراد العموم بالذكر، ولا يقتضي ذلك التخصيص:
إلا عند من يرى التخصيص بالمفهوم.
ويرى أن للقب مفهوماً معتبراً.
ومن الزيادات الغربية في المتون زيادة من زاد في حديث صفوان بن
عسال "في المسح على الخفين": ثم يحدث بعد ذلك وضوءاً. وزيادة
من زاد في حديث "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة"،
قالوا: يا رسول الله، ولا ركعتي الفجر؟ قال: "ولا ركعتي
الفجر".
وقد ذكرنا الحديثين في موضوعهما من الكتاب، وهما زيادتان
ضعيفتان.
(2/641)
وقد ذكر مسلم في كتاب التمييز حديث أيمن بن
نابل، عن أبي الزبير عن جابر:
أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يقول في التشهد: بسم الله
وبالله، والتحيات الله" الحديث.
وذكر أن زيادة التسمية في التشهد تفرد بها أيمن بن نابل، وزاد
في آخر التشهد: "وأسأل الله الجنة، وأعوذ به من النار". وذكر
أن الحفاظ رووه عن أبي الزبير، عن طاوس، عن أبي عباس بدون
هاتين الزيادتين.
قال: والزيادة في الأخبار لا تلزم إلا عن الحفاظ الذين لم يكثر
عليهم الوهم في حفظهم.
وذكر مسلم ـ أيضاً ـ في هذا الكتاب رواية من روى من الكوفيين
ممن روى حديث ابن عمر في سؤال جبريل للنبي ـ صلى الله عليه
وسلم ـ عن شرائع الإسلام فأسقطوا من الإسناد عمر، وزاد في
المتن ذكر الشرائع.
قال مسلم في هذه الزيادة: هي غير مقبولة، لمخالفة من هو أحفظ
منهم من الكوفيين كسفيان، ولمخالفة أهل البصرة لهم قاطبة، فلم
يذكروا هذه الزيادة، وإنما ذكرها طائفة من المرجئة ليشيدوا بها
مذهبهم.
(2/642)
وأما زيادة عمر في الإسناد، فقال: أهل
البصرة أثبت وهم له أحفظ من أهل الكوفة إذ هم الوائدون في
الإسناد عمر، ولم يحفظه الكوفيون، والحديث للزائد والحافظ،
لأنه في معنى الشاهد الذي حفظ في شهادته ما لم يحفظ صاحبه.
وهذا القياس الذي ذكره ليس بجيد، لأنه لو كان كذلك لقبلت زيادة
كل ثقة، زاد في روايته، كما يقبل ذلك في الشهادة، وليس ذلك قول
مسلم، ولا قول أئمة الحفاظ ـ والله أعلم ـ وإنما قبلت زيادة
أهل البصرة في الإسناد لعمر (لأنهم) أحفظ وأوثق ممن تركه من
الكوفيين، وفي كلامه ما يدل على أن صاحب الهوى إذا روى ما يعضد
هواه فإنه لا يقبل منه، لا سيما إذا انفرد بذلك.
ثالثها: "ما يروى من وجوه كثيرة ويستغرب من وجه معين":
قال أبو عيسى ـ رحمه الله ـ:
رب حديث يروى من أوجه كثيرة، وإنما يستغرب لحال الإسناد:
حدثنا أبو كريب وأبو هشام الرفاعي وأبو السائب والحسين الأسود
قالوا: (ثنا) أبو أسامة، عن بريد بن عبد الله بن أبي بردة، عن
جده، أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
قال:
"الكافر يأكل في سبعة أمعاء، والمؤمن يأكل في معى واحد".
(2/643)
هذا حديث غريب من هذا الوجه، من قبل
إسناده، وقد روي من غير وجه عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
وإنما يستغرب من حديث أبي موسى.
وسألت محمود بن غيلان عن هذا الحديث، فقال: هذا حديث أبي كريب
عن أبي أسامة.
(وسألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث، فقال: هذا حديث أبي
كريب: عن أبي أسامة) ولم نعرفه إلا من حديث أبي كريب عن أبي
أسامة.
فقلت: حدثنا غير واحد عن أبي أسامة بهذا، فجعل يتعجب، ويقول:
ما علمت أن أحداً حدث بهذا غير أبي كريب.
قال محمد: وكنا نرى أن أبي كريب أخذ هذا الحديث عن أبي أسامة
في المذاكرة.
حدثنا عبد الله بن أبي زياد، وغير واحد، قالوا: (ثنا) شبابة بن
سوار، (ثنا) شعبة، عن بكر بن عطاء، عن عبد الرحمن بن يعمر، "أن
النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى عن الدباء والمزفت".
هذا حديث غريب من قبل إسناده.
لا نعلم أحداً حدث به عن شعبة غير شبابة، وقد روي عن النبي ـ
صلى الله عليه وسلم ـ من أوجه كثيرة، أنه نهى أن ينتبذ في
الدباء، والمزفت.
وحديث شبابة إنما يستغرب لأنه تفرد به عن شعبة.
وقد روى شعبة وسفيان الثوري بهذا الإسناد عن بكير بن عطاء، عن
عبد الرحمن بن يعمر، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال:
(2/644)
"الحج عرفة".
فهذا الحديث المعروف عند أهل الحديث بهذا الإسناد.
"غريب عن صحابي ومشهور عن آخرين من
الصحابة"
هذا نوع آخر من الغريب.
وهو أن يكون الحديث يروى عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من
طرق معروفة، ويروى عن بعض الصحابة من وجه يستغرب عنه بحيث لا
يعرف حديثه إلا من ذلك الوجه.
وقد ذكر الترمذي لهذا النوع مثالين:
أحدهما: حديث أبي كريب، عن أبي أسامة، عن بريد بن عبد الله بن
أبي بردة، عن جده، عن أبيه أبي موسى. عن النبي ـ صلى الله عليه
وسلم ـ "المؤمن يأكل في معى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعا".
فهذا المتن معروف عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من وجوه
متعددة وقد خرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة، ومن حديث ابن
عمر، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
وأما حديث أبي موسى هذا فخرجه مسلم، عن أبي كريب، وقد
(2/645)
استغربه غير واحد من هذا الوجه وذكروا أن
ابا كريب تفرد به، منهم البخاري وأبو زرعة.
وذكر لأبي زرعة من رواه عن أبي أسامة غير أبي كريب، فكأنه أشار
إلى أنهم أخذوه منه، وحسين بن الأسود كان يتهم بسرقة الحديث،
وأبو هشام فيه ضعف أيضاً.
وقد ذكرنا كلام أبي زرعة في هذا في كتاب الأطعمة وإنكاره، على
أبي السائب وأبي هشام روايته، وظاهر كلام أحمد يدل على استنكار
هذا الحديث أيضاً.
قال أبو داود: سمعت أحمد، وذكر له حديث بريد هذا، فقال أحمد:
(2/646)
يطلبون حديثاً من ثلاثين وجهاً، أحاديث
ضعيفة، وجعل ينكر طلب الطرق نحو هذا. قال: هذا شيء لا تنتفعون
به، أو نحو هذا الكلام.
وإنما كره أحمد تطلب الطرق الغريبة الشاذة المنكرة: وأما الطرق
الصحيحة المحفوظة فإنه كان يحث على طلبها، كما ذكرناه عنه في
أول الكتاب.
وما حكاه الترمذي عن البخاري ههنا أنه قال: كنا نرى أن أبا
كريب أخذ هذا عن أبي اسامة في المذاكرة، فهو تعليل للحديث، فإن
أبا أسامة لم يرو هذا الحديث عنه أحد من الثقات غير أبي كريب.
والمذاكرة يجعل فيها تسامح، بخلاف حال السماع، أو الإملاء،
وكذلك لم يروه أحد عن بريد غير أبي أسامة.
المثال الثاني: حديث شبابة، عن شعبة عن بكير بن عطاء، عن عبد
الرحمن بن يعمر، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
أنه نهى عن الدباء والمزفت.
فإن نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الانتباذ في الدباء،
والمزفت صحيح ثابت عنه، رواه عنه جماعة كثيرون من أصحابه، وأما
رواية عبد الرحمن بن يعمر عنه فغريبة جداً، ولا تعرف إلا بهذا
الإسناد، تفرد بها شبابة عن شعبة، عن بكير بن عطاء، عنه.
(2/647)
وعند شعبة بهذا الإسناد، عن عبد الرحمن بن
يعمر، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال:
"الحج عرفة" في حديث ذكره.
فهذا المتن هو الذي يعرف بهذا الإسناد.
وأما حديث النهي عن الدباء والمزفت، فهو بهذا الإسناد غريب
جداً، وقد أنكره على شبابة طوائف من الأئمة، منهم الإمام أحمد،
والبخاري وأبو حاتم، وابن عدي.
وأما ابن المديني فإنه سئل عنه، فقال: لا ينكر لمن سمع من
شعبة، يعني حديثاً كثيراً، أن ينفرد بحديث غريب.
وقال أحمد: إنما روى شعبة بهذا الإسناد: حديث (الحج) ، يشير
إلى أنه لا يعرف بهذا الإسناد غير حديث الحج.
وقد سبق ذكر هذا الحديث، مع الكلام عليه في كتاب الأشربة والله
أعلم.
(2/648)
رابعاً: "ما كان مشهوراً عن الصحابي
من طريق وغريباً من طريق آخر":
قال أبو عيسى ـ رحمه الله ـ:
(ثنا) محمد بن بشار (ثنا) معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن يحيى بن
أبي كثير، قال: حدثني أبو مزاحم: أنه سمع أبا هريرة يقول: قال
رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "من تبع جنازة فصلى عليها
فله قيراط، ومن تبعها حتى يقضي قضاؤها فله قيراطان"، قالوا: يا
رسول الله، وما القيراطان؟ قال: "أصغرهما مثل أحد".
حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن، (أنا) مروان بن محمد، عن معاوية
بن سلام، قال: حدثني يحيى بن أبي كثير عن أبي مزاحم سمع أبا
هريرة يقول عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
قال: "من تبع جنازة فله قيراط"، فذكره بمعناه.
قال عبد الله بن عبد الرحمن: و (أنا) مروان عن معاوية بن سلام،
قال: قال يحيى: وحدثني أبو سعيد مولى المهري عن حمزة بن سفينة،
عن السائب، سمع عائشة، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نحوه.
قلت: لأبي محمد، عبد الله بن عبد الرحمن: ما الذي استغربوا من
حديثك بالعراق؟
(2/649)
فقال: حديث السائب عن عائشة، عن النبي ـ
صلى الله عليه وسلم ـ فذكر الحديث.
وسمعت محمد بن إسماعيل يحدث بهذا الحديث عن عبد الله بن عبد
الرحمن، قال: وهذا حديث قد روي من غير وجه، عن عائشة، عن النبي
ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإنما يستغرب هذا الحديث لحال إسناده
لرواية السائب عن عائشة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
هذا نوع آخر من الغريب.
وهو أن يكون الحديث عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ معروفاً
من رواية صحابي عنه، من طريق أو من طرق ثم يروى عن ذلك الصحابي
من وجه آخر، يستغرب من ذلك الوجه خاصة عنه، مثل ما ذكر الترمذي
ههنا من حديث يحيى بن أبي كثير، عن أبي سعيد مولى المهري، عن
حمزة بن سفينة عن السائب، عن عائشة، عن النبي ـ صلى الله عليه
وسلم ـ.
وهذا الحديث إنما يعرف من رواية عبد الله بن عبد الرحمن
الدارمي الحافظ، الذي خرجه الترمذي هنا عنه، ذكر أن البخاري
كان يحدث به عنه. وقد ذكره البخاري في تاريخه عنه، فقال:
قال عبد الله، (أنا) مروان، عن معاوية، فذكره.
وخرجه بقي بن مخلد في مسنده، عن عبد الله الدارمي أيضاً.
وذكر الترمذي عن الدارمي أن أهل العراق كانوا يستغربون من
حديثه هذا الحديث
(2/650)
وحمزة بن سفينة الذي يرويه عن السائب بن
يزيد، شيخ بصري، ذكره ابن حبان في ثقاته.
وهذا الحديث مروي من وجوه متعددة عن عائشة، أنها صدقت أبا
هريرة بما حدث به عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من هذا
الحديث.
وأما من حديث السائب بن يزيد عنها فلا يعرف إلا من هذا الوجه.
ومما كان يستغرب من حديث الدارمي ـ أيضاً ـ بالعراق حديثه عن
يحيى بن حسان عن سليمان بن بلال عن هشام، عن أبيه، عن عائشة،
عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "نعم الادام الخل".
وقد خرجه الترمذي في كتاب الأطعمة من كتابه هذا، ومسلم في
صحيحه كلاهما عن الدارمي به.
وقد سبق الكلام عليه في موضعه، وذكرنا أن كثيراً من الحفاظ
استنكروه، على سليمان بن بلال منهم أحمد، وأبو حاتم، وأحمد بن
صالح، وغيرهم.
وكذلك قال جماعة منهم في حديث: "بيت لا تمر فيه جياع أهله".
بهذا
(2/651)
الإسناد، ولكن هذا من نوع الغريب المذكور
قبل هذا، فإنه غريب من حديث عائشة عن النبي ـ صلى الله عليه
وسلم ـ على أنه قد روي من وجه آخر عنها، وهو ضعيف.
والحديث معروف من حديث جابر عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
"المنكر وحده"
قال أبو عيسى ـ رحمه الله ـ:
حدثنا أبو حفص عمرو بن علي، (ثنا) يحيى بن سعيد القطان، (ثنا)
المغيرة بن أبي قرة السدوسي، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: قال
رجل: يا رسول الله أعقلها وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟ قال:
"أعقلها وتوكل".
قال عمرو بن علي: قال يحيى بن سعيد: وهذا عندي حديث منكر.
قال أبو عيسى:
وهذا حديث غريب من هذا الوجه، لا نعرفه من حديث أنس بن مالك
إلا من هذا الوجه. وقد روى عن عمرو بن أمية الضمري عن النبي ـ
صلى الله عليه وسلم ـ نحو هذا.
قال أبو عيسى ـ رحمه الله ـ:
(2/652)
وقد وضعنا هذا الكتاب على الاختصار لما
رجونا فيه من المنفعة، ونسأل الله ـ عز وجل ـ النفع بما فيه
وأن لا يجعله وبالاً علينا برحمته.
آخر الكتاب والحمد لله وحده.
حديث أنس هذا قد خرجه الترمذي فيما تقدم ـ أيضاً ـ في أواخر
كتاب الزهد، وسبق هناك ذكره، وذكر حديث عمرو بن أمية الضمري ـ
أيضاً ـ.
وحديث أنس قد رواه غير واحد عن المغيرة بن أبي قرة، عن أنس.
وقد تفرد به المغيرة عنه، ولهذا غربه الترمذي من حديث أنس.
وقال يحيى القطان: هو عندي منكر.
فهذا الحديث من الغرائب المنكرة.
ولم أقف لأحد من المتقدمين على حد المنكر من الحديث، وتعريفه
إلا على ما ذكره أبو بكر البرديجي الحافظ، وكان من أعيان
الحفاظ المبرزين في العلل: أن المنكر هو الذي يحدث به الرجل عن
الصحابة، أو عن التابعين، عن الصحابة، لا يعرف ذلك الحديث، وهو
متن الحديث، إلا من طريق الذي رواه فيكون منكراً.
ذكر هذا الكلام في سياق ما إذا انفرد شعبة أو سعيد بن أبي
عروبة أو هشام الدستوائي بحديث عن قتادة، عن أنس، عن النبي ـ
صلى الله عليه وسلم ـ.
وهذا كالتصريح بأن كل ما ينفرد به ثقة عن ثقة ولا يعرف المتن
من غير ذلك الطريق فهو منكر، كما قاله الإمام أحمد في حديث عبد
الله بن دينار، عن
(2/653)
ابن عمر، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
"في النهي عن بيع الولاء وهبته".
وكذا قال أحمد في حديث مالك، عن الزهري، عن عروة عن عائشة:
"إن الذين جمعوا الحج والعمرة طافوا حين قدموا لعمرتهم، وطافوا
لحجهم حين رجعوا من منى".
قال: لم يقل هذا أحد إلا مالك. وقال: ما أظن مالكاً إلا غلط
فيه، ولم يجىء به أحد غيره، وقال مرة: لم يروه إلا مالك، ومالك
ثقة.
ولعل أحمد إنما استنكره لمخالفته للأحاديث، في أن القارن يطوف
طوافاً واحداً.
قال البرديجي بعد ذلك: فأما أحاديث قتادة التي يرويها الشيوخ
مثل حماد بن سلمة، وهمام، وأبان، والأوزاعي، ننظر في الحديث
فإن كان الحديث يحفظ من غير طريقهم عن النبي ـ صلى الله عليه
وسلم ـ أو عن أنس بن مالك من وجه آخر، لم يدفع، وإن كان لا
يعرف عن أحد عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا من طريق عن
أنس إلا من رواية هذا الذي ذكرت لك، كان منكراً.
وقال أيضاً: إذا روى الثقة من طريق صحيح عن رجل من أصحاب النبي
ـ صلى الله عليه وسلم ـ حديثاً لا يصاب إلا عند الرجل الواحد
لم يضره أن لا يرويه غيره، إذا كان متن الحديث معروفاً، ولا
يكون منكراً ولا معلولاً.
وقال في حديث رواه عمرو بن عاصم، عن همام، عن إسحاق بن أبي
طلحة عن أنس، أن رجلاً قال للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ "إني
(2/654)
أصبت حداً فأقمه علي" الحديث: هذا عندي
حديث منكر، وهو عندي وهم من عمرو بن عاصم.
ونقل ابن أبي حاتم عن أبيه أنه قال: هذا حديث باطل بهذا
الإسناد.
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من هذا الوجه.
وخرج مسلم معناه أيضاً من حديث أبي أمامة عن النبي ـ صلى الله
عليه وسلم ـ فهذا شاهد لحديث أنس.
ولعل أبا حاتم والبرديجي إنما أنكرا الحديث لأن عمرو بن عاصم
ليس هو عندهما في محل من يحتمل تفرده بمثل هذا الإسناد، والله
أعلم.
وقال إسحاق بن هانىء، قال لي أبو عبد الله، (يعني أحمد) ، قال
لي يحيى بن سعيد: لا أعلم عبيد الله، يعني ابن عمر، أخطأ (إلا)
في حديث
(2/655)
واحد لنافع، عن ابن عمر أن النبي ـ صلى
الله عليه وسلم ـ قال: "لا تسافر امرأة فوق ثلاثة أيام ...
الحديث".
قال أبو عبد الله: فأنكره يحيى بن سعيد عليه.
قال (أبو عبد الله) : قال لي يحيى بن سعيد: فوجدته قد حدث به
العمري الصغير عن ابن عمر مثله. قال أبو عبد الله: لم يسمعه
إلا من عبيد الله، فلما بلغه عن العمري صححه.
وهذا الكلام يدل على أن النكارة عند يحيى القطان لا تزول إلا
بمعرفة الحديث من وجه آخر.
وكلام الإمام أحمد قريب من ذلك.
قال عبد الله: سألت أبي عن حسين بن علي، الذي يروي حديث
المواقيت فقال: هو أخو أبي جعفر محمد بن علي، وحديثه الذي روي
في المواقيت ليس بمنكر لأنه قد وافقه على بعض صفاته غيره.
(2/656)
وقال أحمد في بريد بن عبد الله بن أبي
بردة: يروي أحاديث مناكير.
وقال أحمد في محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، وهو المنفرد
برواية حديث الأعمال بالنيات: في حديثه شيء، يروي أحاديث
مناكير، أو قال: منكرة.
وقال في زيد بن أبي أنيسة: إن حديثه لحسن مقارب، وأن فيها لبعض
النكارة، قال: وهو على ذلك حسن الحديث.
قال الأثرم: قلت لأحمد: إن له أحاديث أن لم تكن مناكير فهي
غرائب، قال: نعم وهؤلاء الثلاثة متفق على الاحتجاج بحديثهم في
الصحيح، وقد استنكر أحمد ما تفردوا به، وكذلك قال في عمرو بن
الحارث: (له أحاديث) مناكير، وفي الحسين بن واقد، وخالد بن
مخلد، وجماعة خرج لهم في الصحيح بعض ما ينفردون به.
وأما تصرف الشيخين والأكثرين فيدل على خلاف هذا، وإن ما رواه
الثقة عن الثقة إلى منتهاه، وليس له علة فليس بمنكر.
(وقد خرجا في الصحيحين حديث بريد بن عبد الله بن أبي بردة،
وحديث محمد بن إبراهيم التيمي، وحديث زيد بن أبي أنيسة) .
وقد قال مسلم في أول كتابه: حكم أهل العلم والذي يعرف من
مذهبهم في قبول ما ينفرد به المحدث من الحديث أن يكون قد شارك
الثقات من أهل الحفظ في بعض ما رووا وأمعن في ذلك على الموافقة
لهم، فإذا وجد كذلك ثم زاد بعد ذلك شيئاً (ليس) عند أصحابه
قبلت زيادته.
(2/657)
فأما من نراه يعمد لمثل الزهري في جلالته
وكثرة أصحابه الحفاظ المتقنين لحديثه وحديث غيره، أو لمثل هشام
بن عروة، وحديثهما عند أهل العلم مبسوط مشترك، قد نقل أصحابهما
عنهما حديثهما على اتفاق منهم في أكثره، فيروي عنهما أو عن
أحدهما العدد من الحديث، مما لا يعرفه أحد من أصحابهما، وليس
ممن قد شاركهم في الصحيح الذي عندهم، فغير جائز قبول حديث هذا
الضرب من الناس، والله أعلم.
(فصرح بأن الثقة إذا أمعن في موافقة الثقات في حديثهم، ثم تفرد
عنهم بحديث قبل ما تفرد به، وحكاه عن أهل العلم) .
وقد ذكرنا فيما تقدم قول الشافعي في الشاذ، وأنه قال: ليس
الشاذ من الحديث أن يروي الثقة (من الحديث) ما لا يروي غيره،
إنما الشاذ أن يروي الثقة حديثاً يخالف الناس.
وكذا قال أبو بكر الأثرم، وحكى أبو يعلى الخليلي هذا القول عن
الشافعي وجماعة من أهل الحجاز، ثم قال: الذي عليه حفاظ الحديث
أن الشاذ ما ليس له إلا إسناد واحد يشذ بذلك شيخ ثقة كان، أو
غير ثقة، فما كان عن غير ثقة فمتروك، لا يقبل، وما كان عن ثقة
يتوقف فيه، ولا يحتج به.
وكذلك ذكر الحاكم، أن الشاذ هو الحديث الذي ينفرد به ثقة، من
الثقات، وليس له أصل متابع لذلك الثقة ولم يوقف له على علة.
ولكن كلام الخليلي في تفرد الشيوخ، والشيوخ في اصطلاح أهل هذا
العلم عبارة عمن دون الأئمة والحفاظ، وقد يكون فيهم الثقة
وغيره، فأما ما انفرد به الأئمة والحفاظ فقد سماه الخليلي
فرداً، وذكر أن أفراد الحفاظ المشهورين
(2/658)
الثقات، أو إفراد إمام عن الحفاظ، والأئمة
صحيح متفق عليه، ومثله بحديث مالك في المغفر.
(فتلخص من هذا أن النكارة لا تزول عند يحيى القطان والإمام
أحمد والبرديجي وغيرهم من المتقدمين إلا بالمتابعة، وكذلك
الشذوذ كما حكاه الحاكم.
وأما الشافعي وغيره فيرون أن ما تفرد به ثقة مقبول الرواية،
ولم يخالفه غيره فليس بشاذ، وتصرف الشيخين يدل على مثل هذا
المعنى.
وفرق الخليلي بين ما ينفرد به شيخ من الشيوخ الثقات، وما ينفرد
به إمام أو حافظ، فما انفرد به إمام أو حافظ قبل واحتج به،
بخلاف ما تفرد به شيخ من الشيوخ، وحكى ذلك عن حفاظ الحديث،
والله أعلم) .
"خاتمة العلل للترمذي"
وقد ذكر الترمذي ـ رحمه الله ـ إنما وضع كتابه هذا على
الاختصار لما رجا فيه من المنفعة، وهو تقريبه على طلبة العلم.
وكان قد وعد بكتاب أكبر منه يستوعب فيه الأحاديث والآثار، ثم
سأل الله عند فراغ كتابه النفع بما فيه، وأن لا يجعله وبالاً
عليه برحمته.
وقد ظهرت آثار إجابة دعائه الأول، وحصل النفع بهذا الكتاب
نفعاً عاماً.
(2/659)
قال محمد بن طاهر المقدسي:
سمعت أبا إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري، يقول:
كتاب أبي عيسى الترمذي ـ عندي ـ أفيد من كتاب البخاري ومسلم،
قلت: لم؟.
قال: لأن كتاب البخاري ومسلم لا يصل إلى الفائدة منهما إلا من
يكون من أهل المعرفة التامة، وهذا كتاب قد شرح أحاديثه وبينها،
فيصل إلى فائدته كل واحد من الناس، من الفقهاء والمحدثين،
وغيرهم.
(2/660)
|