صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط وحمايته من الإسقاط والسقط

الْفَصْل الثَّالِث

وَقع فِي هَذَا الْكتاب وَفِي كتاب البُخَارِيّ مَا صورته صُورَة الإنقطاع وَلَيْسَ ملتحقا بالإنقطاع فِي إِخْرَاج مَا وَقع فِيهِ ذَلِك من حيّز الصَّحِيح إِلَى حيّز الضَّعِيف وَيُسمى تَعْلِيقا سَمَّاهُ بِهِ الإِمَام أَبُو الْحسن الدَّارَقُطْنِيّ ويذكره الْحميدِي فِي الْجمع بَين الصَّحِيحَيْنِ وَغَيره من المغاربة وَكَأَنَّهُم سموهُ تَعْلِيقا أخذا من تَعْلِيق الْعتْق وَالطَّلَاق وَتَعْلِيق الْجِدَار لما يشْتَرك فِيهِ الْجَمِيع من قطع الإتصال فَإِن مَا فِيهِ من حذف رجل أَو رجلَيْنِ أَو أَكثر من أَوَائِل الْإِسْنَاد قَاطع للإتصال لَا محَالة وَهُوَ فِي كتاب البُخَارِيّ كثير وَفِي كتاب مُسلم قَلِيل وَإِذا كَانَ التَّعْلِيق بِلَفْظ فِيهِ جزم مِنْهُمَا وَحكم بِأَن من وَقع بَينهمَا وَبَينه الإنقطاع قد قَالَ ذَلِك أَو رَوَاهُ واتصل الْإِسْنَاد

(1/76)


مِنْهُ على الشَّرْط مثل أَن يَقُولَا روى الزُّهْرِيّ ويسوقا إِسْنَاده مُتَّصِلا ثِقَة عَن ثِقَة فحال الْكِتَابَيْنِ يُوجب أَن ذَلِك من الصَّحِيح عِنْدهمَا وَكَذَلِكَ مَا روياه عَن من ذكرَاهُ بِمَا لم يحصل بِهِ التَّعْرِيف بِهِ وأورداه أصلا محتجين بِهِ وَذَلِكَ مثل حَدثنِي بعض أَصْحَابنَا وَنَحْو ذَلِك وَذكر الْحَافِظ أَبُو عَليّ الغساني الأندلسي أَن مُسلما وَقع الإنقطاع فِيمَا رَوَاهُ فِي كِتَابه فِي أَرْبَعَة عشر موضعا
أَولهَا فِي التَّيَمُّم قَوْله فِي حَدِيث أبي الجهم وروى اللَّيْث بن سعد

(1/77)


ثمَّ قَوْله فِي كتاب الصَّلَاة فِي بَاب الصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَدثنَا صَاحب لنا عَن إِسْمَاعِيل بن زَكَرِيَّاء عَن الْأَعْمَش وَهَذَا فِي رِوَايَة أبي الْعَلَاء بن ماهان وسلمت رِوَايَة أبي أَحْمد الجلودي من هَذَا وَقَالَ فِيهِ عَن مُسلم حَدثنَا مُحَمَّد بن بكار قَالَ حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن زَكَرِيَّاء
ثمَّ فِي بَاب السُّكُوت بَين التَّكْبِير وَالْقِرَاءَة قَوْله وَحدثت عَن يحيى بن حسان وَيُونُس الْمُؤَدب
ثمَّ قَوْله فِي كتاب الْجَنَائِز فِي حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فِي خُرُوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى البقيع لَيْلًا وحَدثني من سمع حجاجا الْأَعْوَر وَاللَّفْظ لَهُ قَالَ حَدثنَا حجاج ابْن مُحَمَّد حَدثنَا ابْن جريج
وَقَوله فِي بَاب الْحَوَائِج فِي حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا حَدثنِي غير وَاحِد من أَصْحَابنَا قَالُوا حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن أبي أويس

(1/78)


وَقَوله فِي هَذَا الْبَاب وروى اللَّيْث بن سعد قَالَ حَدثنِي جَعْفَر بن ربيعَة وَذكر حَدِيث كَعْب بن مَالك فِي تقاضي ابْن أبي حَدْرَد
وَقَوله فِي بَاب احتكار الطَّعَام فِي حَدِيث معمر بن عبد الله الْعَدوي حَدثنِي بعض أَصْحَابنَا عَن عَمْرو بن عون وَالله أعلم
وَقَوله فِي صفة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَحدثت عَن أبي أُسَامَة وَمِمَّنْ روى ذَلِك عَنهُ إِبْرَاهِيم بن سعيد الْجَوْهَرِي قَالَ حَدثنَا أَبُو أُسَامَة
وَذكر أَبُو عَليّ أَنه رَوَاهُ أَبُو أَحْمد الجلودي عَن مُحَمَّد بن الْمسيب الأرغياني عَن إِبْرَاهِيم بن سعيد

(1/79)


قلت ورويناه من غير طَرِيق أبي أَحْمد عَن مُحَمَّد بن الْمسيب وَرَوَاهُ غير ابْن الْمسيب عَن إِبْرَاهِيم الْجَوْهَرِي وسنورد ذَلِك فِي مَوْضِعه إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَفِي آخر الْفَضَائِل فِي حَدِيث ابْن عمر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرَأَيْتكُم ليلتكم هَذِه فَإِن على رَأس مائَة سنة مِنْهَا لَا يبْقى مِمَّن هُوَ على ظهر الأَرْض أحد
رِوَايَة مُسلم إِيَّاه مَوْصُولا عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه ثمَّ قَالَ حَدثنِي عبد الله بن عبد الرَّحْمَن الدَّارمِيّ أخبرنَا أَبُو الْيَمَان أخبرنَا شُعَيْب وَرَوَاهُ اللَّيْث عَن عبد الرَّحْمَن بن خَالِد بن مُسَافر كِلَاهُمَا عَن الزُّهْرِيّ بِإِسْنَاد معمر كَمثل حَدِيثه
وَقَالَ مُسلم فِي آخر كتاب الْقدر فِي حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ لتركبن سنَن من كَانَ قبلكُمْ حَدثنِي عدَّة من أَصْحَابنَا عَن سعيد بن أبي مَرْيَم وَهَذَا قد وَصله إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن سُفْيَان عَن مُحَمَّد بن يحيى بن أبي مَرْيَم
قلت وَإِنَّمَا أوردهُ مُسلم على وَجه الْمُتَابَعَة والاستشهاد
وَقَوله فِيمَا سبق فِي الاستشهاد والمتابعة فِي حَدِيث الْبَراء بن عَازِب فِي

(1/80)


الصَّلَاة الْوُسْطَى بعد أَن رَوَاهُ مَوْصُولا وَرَوَاهُ الْأَشْجَعِيّ عَن سُفْيَان الثَّوْريّ إِلَى آخِره
وَقَوله أَيْضا فِي الرَّجْم فِي الْمُتَابَعَة لما رَوَاهُ مَوْصُولا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة فِي الَّذِي اعْترف على نَفسه بِالزِّنَا وَرَوَاهُ اللَّيْث أَيْضا عَن عبد الرَّحْمَن بن خَالِد بن مُسَافر عَن ابْن شهَاب بِهَذَا الْإِسْنَاد
وَقَوله فِي كتاب الأمارة فِي الْمُتَابَعَة لما رَوَاهُ مُتَّصِلا من حَدِيث عَوْف بن مَالك خِيَار أئمتكم الَّذين تحبونهم وَرَوَاهُ مُعَاوِيَة بن صَالح عَن ربيعَة بن يزِيد
وَذكر أَبُو عَليّ فِيمَا عندنَا من كِتَابه فِي الرَّابِع عشر حَدِيث ابْن عمر أَرَأَيْتكُم ليلتكم هَذِه الْمَذْكُور فِي الْفَضَائِل وَقد ذكره مرّة فَيسْقط هَذَا من الْعدَد
والْحَدِيث الثَّانِي لكَون الجلودي رَوَاهُ عَن مُسلم مَوْصُولا وَرِوَايَته هِيَ الْمُعْتَمدَة الْمَشْهُورَة فَهِيَ إِذن اثْنَا عشر لَا أَرْبَعَة عشر وَأخذ هَذَا عَن أبي عَليّ أَبُو عبد الله الْمَازرِيّ صَاحب الْمعلم وَأطلق أَن فِي الْكتاب أَحَادِيث مَقْطُوعَة فِي أَرْبَعَة عشر موضعا
وَهَذَا يُوهم خللا فِي ذَلِك وَلَيْسَ ذَلِك كَذَلِك وَلَا شَيْء من هَذَا وَالْحَمْد لله

(1/81)


فَخرج لَا سِيمَا مَا كَانَ مِنْهَا مَذْكُورا على وَجه الْمُتَابَعَة فَفِي نفس الْكتاب وَصلهَا فَاكْتفى بِكَوْن ذَلِك مَعْرُوفا عِنْد أهل الحَدِيث
كَمَا أَنه روى عَن جمَاعَة من الضُّعَفَاء اعْتِمَادًا على كَون مَا رَوَاهُ عَنْهُم مَعْرُوفا من رِوَايَة الثِّقَات على مَا سنرويه عَنهُ فِيمَا بعد إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَهَكَذَا الْأَمر فِي تعليقات البُخَارِيّ بِأَلْفَاظ مثبتة جازمة على الصّفة الَّتِي ذَكرنَاهَا كَمثل مَا قَالَ فِيهِ قَالَ فلَان أَو روى فلَان أَو ذكر فلَان أَو نَحْو ذَلِك وَلم يصب أَبُو مُحَمَّد ابْن حزم الظَّاهِرِيّ حَيْثُ جعل مثل ذَلِك انْقِطَاعًا قادحا فِي الصِّحَّة مستروحا إِلَى ذَلِك فِي تَقْرِير مذْهبه الْفَاسِد فِي إِبَاحَة الملاهي وزعمه أَنه لم يَصح فِي تَحْرِيمهَا حَدِيث مجيبا بِهِ عَن حَدِيث أبي عَامر أَو أبي مَالك الْأَشْعَرِيّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيَكُونن فِي أمتِي أَقوام يسْتَحلُّونَ الْحَرِير وَالْخمر وَالْمَعَازِف إِلَى آخر الحَدِيث فَزعم أَنه وَإِن أخرجه البُخَارِيّ فَهُوَ غير صَحِيح

(1/82)


لِأَن البُخَارِيّ قَالَ فِيهِ قَالَ هِشَام بن عمار وَسَاقه بِإِسْنَادِهِ فَهُوَ مُنْقَطع فِيمَا بَين البُخَارِيّ وَهِشَام
وَهَذَا خطأ من وُجُوه وَالله أعلم
أَحدهَا انه لَا انْقِطَاع فِي هَذَا أصلا من جِهَة أَن البُخَارِيّ لقى هشاما وَسمع مِنْهُ وَقد قَررنَا فِي كتاب معرفَة عُلُوم الحَدِيث أَنه إِذا تحقق اللِّقَاء وَالسَّمَاع مَعَ السَّلامَة من التَّدْلِيس حمل مَا يرويهِ عَنهُ على السماع بِأَيّ لفظ كَانَ كَمَا يحمل قَول الصَّحَابِيّ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على سَمَاعه مِنْهُ إِذا لم يظْهر خِلَافه وَكَذَا غير قَالَ من الْأَلْفَاظ
الثَّانِي إِن هَذَا الحَدِيث بِعَيْنِه مَعْرُوف الإتصال بِصَرِيح لَفظه من غير جِهَة البُخَارِيّ
الثَّالِث أَنه وَإِن كَانَ ذَلِك انْقِطَاعًا فَمثل ذَلِك فِي الْكِتَابَيْنِ غير ملتحق فِي بالإنقطاع القادح لما عرف من عاداتهما وشرطهما وذكرهما ذَلِك فِي كتاب مَوْضُوع لذكر الصَّحِيح خَاصَّة فَلَنْ يستجيزا فِيهِ الْجَزْم الْمَذْكُور من غير ثَبت وَثُبُوت بِخِلَاف الإنقطاع والإرسال الصادرين من غَيرهمَا وَأما إِذا لم يكن ذَلِك من الشَّيْخَيْنِ بِلَفْظ جازم مُثبت لَهُ على مَا ذكرَاهُ عَنهُ على الصّفة الَّتِي قدمت ذكرهَا مثل أَن يَقُولهَا وروى عَن فلَان أَو ذكر عَن فلَان أَو فِي الْبَاب عَن فلَان وَنَحْو ذَلِك فَلَيْسَ ذَلِك فِي حكم التَّعْلِيق الَّذِي ذَكرْنَاهُ وَلَكِن يسْتَأْنس بإيرادهما لَهُ وَأما قَول مُسلم فِي خطْبَة

(1/83)


كِتَابه وَقد ذكر عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت أمرنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن ننزل النَّاس مَنَازِلهمْ فَهَذَا بِالنّظرِ إِلَى أَن لَفظه لَيْسَ لفظا جَازِمًا بذلك عَن عَائِشَة غير مُقْتَض كَونه مِمَّا حكم بِصِحَّتِهِ وبالنظر إِلَى أَنه احْتج بِهِ وَأوردهُ إِيرَاد الْأُصُول لَا إِيرَاد الشواهد يَقْتَضِي كَونه مِمَّا حكم بِصِحَّتِهِ
وَمَعَ ذَلِك قد حكم الْحَاكِم أَبُو عبد الله الْحَافِظ فِي كِتَابه معرفَة عُلُوم الحَدِيث بِصِحَّتِهِ وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي سنَنه بِإِسْنَادِهِ مُنْفَردا بِهِ وَذكر أَن الرَّاوِي لَهُ عَن عَائِشَة مَيْمُون بن أبي شبيب لم يُدْرِكهَا وَفِيمَا قَالَه أَبُو دَاوُد توقف وَنظر فَإِنَّهُ كُوفِي مُتَقَدم قد أدْرك الْمُغيرَة بن شُعْبَة وَمَات الْمُغيرَة قبل عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا وَعند مُسلم التعاصر مَعَ إِمْكَان التلاقي كَاف فِي ثُبُوت الْإِدْرَاك فَلَو ورد عَن مَيْمُون هَذَا أَنه قَالَ لم ألق عَائِشَة أَو نَحْو هَذَا لاستقام لأبي دَاوُد الْجَزْم بِعَدَمِ إِدْرَاكه وهيهات ذَلِك وَالله أعلم

(1/84)