مفتاح السعيدية في شرح الألفية الحديثية الْمُضْطَرِبُ
قلت: بكسر الراء اسم فاعل من اضطرب نوعٌ من أنواع الحديث.
وقوله:
209 - مُضْطَرِبُ الحَدِيثِ: مَا قَدْ وَرَدَا ... مُخْتَلِفاً
مِنْ وَاحِدٍ فَأزْيَدَا
210 - في مَتْنٍ اوْ في سَنَدٍ إنِ اتَّضَحْ ... فِيْهِ
تَسَاوِي الخُلْفِ، أَمَّا إِنْ رَجَحْ [46 - أ]
211 - بَعْضُ الوُجُوْهِ لَمْ يَكُنْ مُضْطَرِبَا ...
وَالحُكْمُ للرَّاجِحِ مِنْهَا وَجَبَا
212 - كَالخَطِّ للسُّتْرَةِ جَمُّ الخُلْفِ ... والاضْطِرَابُ
مُوْجِبٌ للضَّعْف
الشرح: يعني أن المضطرب من
الحديث هو ما اختلف راويه فيه فرواه مرةً على وجه ومرةً على
آخر مخالف له، وكذا إن اضطرب راويان فأكثر فرواه كل واحدٍ على
وجه مخالف للآخر. فقوله: «من واحدٍ» صفة لموصوف أي: راوٍ
واحدٍ.
وقوله: «في متن» (خ) يعني أن الاضطراب يكون في المتن وفي
السند.
وقوله: «إن اتضح» (خ) يعني أنه لا يُسَمَّى مضطرباً إلا إذا
تساوت الروايتان المختلفتان في الصحة، بحيث لم تُرَجَّح إحدى
الروايتين على الأخرى، أما إذا ترجَّحت إحداهما بكون راويها
أحفظ أو أكثر صحبةً للمروي عنه أو غير ذلك من وجوه الترجيح،
فإنه لا يُطلق على الوجه الراجح وصف الاضطراب، ولا
(1/148)
حكمه، والحكم للراجح.
وقوله: «كالخط» (خ) مثال الاضطراب في السند رواية أبي داود
وابن ماجه من رواية إسماعيل بن أمية، عن أبي عمرو بن محمد بن
حُريث، عن جده حُريث، عن أبي هريرة، عن رسول الله -صلى الله
عليه وآله وسلم- قال: «إذا صلى أحدكم فليجعل شيئاً تلقاء وجهه»
الحديث، وفيه: «فإذا لم يجد عصاً [46 - ب] ينصبها بين يديه
فليخط خطاً».
وقوله: «جَمّ الخُلْف» يعني أنه اختُلف فيه على إسماعيل
اختلافاً كثيراً:
فرواه بشر بن المفضل، وروح بن القاسم عنه هكذا.
ورواه سفيان الثوري عنه، عن أبي عمروٍ بن حريث، عن أبيه، عن
أبي هريرة.
ورواه حميد بن الأسود عنه، عن أبي عمرو بن محمد بن عمرو بن
حريث، عن جده حُريث بن سليم، عن أبي هريرة.
ورواه وهيب بن خالد وعبد الوارث عنه، عن أبي عمرو بن حريث، عن
جده حُريث.
ورواه ابن جريج عنه، عن حُريث بن عمار، عن أبي هريرة.
ورواه ذَوَّاد بن عُلْبَة الحارثي عنه، عن أبي عمرو بن محمد،
عن جده حريث بن سليمان.
قال أبو زرعة الدمشقي: لا نعلم أحداً بَيَّنَهُ ونَسَبَهُ غير
ذَوَّاد.
(1/149)
وفيه من الاضطراب غير ما ذكرت.
قلت: وذَوَّاد بفتح الذال المعجمة، وتشديد الواو، وبعده ألف،
فدال مهملة.
وقوله: «كالخط» أي: كحديث الخط. «جم الخلف» أي: كثيره.
قلت: و «جَمّ» بفتح الجيم وتشديد الميم. انتهى.
ومثال الاضطراب في المتن حديث فاطمة بنت قيس قالت: سألت رسول
الله -صلى الله عليه وآله وسلم- عن الزكاة فقال: «إن في المال
لحقاً سوى الزكاة».
اضطرب لفظه ومعناه، فرواه (ت) هكذا من رواية شريكٍ، عن أبي
حمزة، عن الشعبي، عن فاطمة. ورواه ابن ماجه من هذا [47 - أ]
الوجه بلفظ: «ليس في المال حقٌ سوى الزكاة».
قلت: الذي في ابن ماجه بلفظ (ت): «إن في المال لحقاً سوى
الزكاة» (1) فأين الاضطراب في المتن. انتهى.
وقوله: «والاضطراب» (خ)، يعني أن المضطرب ضعيف لإشعاره بأنه لم
يضبط راويه ورواته.
_________
(1) لم أجده بهذا اللفظ في سنن ابن ماجه، بل باللفظ الأول:
«ليس في المال حق سوى الزكاة».
(1/150)
الْمُدْرَجُ
قوله:
213 - المُدْرَجُ: المُلْحَقُ آخِرَ الخَبَرْ ... مِنْ قَوْلِ
راوٍ مَا، بلا فَصْلٍ ظَهَرْ
214 - نَحْوُ إذَا قُلْتَ: (التَّشَهُّدَ) وَصَلْ ... ذَاكَ
(زُهَيْرٌ) وَ (ابنُ ثَوْبَانَ) فَصَلْ
الشرح: المدرجُ بضم الميم،
وإسكان الدال، وفتح الراء المهملتين، وآخره جيمٌ، نوع من أنواع
الحديث. وهو أقسامٌ:
أحدها: ما أُدرج في آخر الحديث من قول بعض رواته -الصحابي أو
مَنْ بعده- موصولاً بالحديث من غير فصلٍ بين الحديث وبين ذلك
الكلام بذكر قائله فيلتبس على من لا يعلم حقيقة الحال فيتوهم
أنه من الحديث.
وقوله: «نحو» (خ) يعني أن أمثاله رواية أبي داود بسنده عن
القاسم بن مخيمرة قال: أخذ علقمة بيدي فحدثني أن عبد الله بن
مسعود أخذ بيده، وأن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أخذ
بيد عبد الله فعلمنا التشهد في الصلاة. فذكر مثل حديث الأعمش:
«إذا قلت هذا أو قضيت هذا فقد [47 - ب] قضيت صلاتك، إن شئت أن
تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد».
فقوله: «إذا قلت» (خ) وصله زهير بن معاوية بالحديث المرفوع في
رواية (د) هذه.
قال الحاكم قوله: «إذا قلت» هذا مُدْرَج في الحديث من كلام ابن
مسعود.
(1/151)
وكذا قال البيهقي في «المعرفة»: قد ذهب
الحفاظ إلى أن هذا وهمٌ، وأن قوله «إذا فعلت هذا، أو قضيت هذا،
فقد قضيت صلاتك» من قول ابن مسعود فأُدرج في الحديث.
وكذا قال الخطيب في كتابه «المدرج». وقال النووي في «الخلاصة»:
اتفق الحفاظ على أنها مدرجة.
وقوله: «وابن ثوبان» فصل (خ) يعني أن ابن زُهير اختلف النقل
عنه في الحديث فرواه النُّفَيْلي وجماعة عديدة عنه مدرجاً.
ورواه شبابة بن سوار عنه فَفَصَلَهُ، وبَيَّنَ أنه من قول عبد
الله، فقال: قال عبد الله: «فإذا قلت ذلك فقد قضيت ما عليك من
الصلاة، فإن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد». كذا
رواه الدارقطني قائلاً: شبابة ثقة.
وقد فَصَلَ آخر الحديث وجعله من قول ابن مسعود وهو أصح ممن
أدرج [آخره] (1) والدليل عليه أن ابن ثوبان رواه عن الحسن بن
الحُر كذلك، وجعل آخره من قول ابن مسعود، ولم يرفعه إلى النبي
صلى الله عليه وسلم.
فقوله [48 - أ]: «التشهد» هو بالنصب على البيان، أي أعني
التشهد.
و «ابن ثوبان» بفتح المثلثة، وإسكان الواو، وبعده باء موحدة،
فألف، فنون، هو عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان.
_________
(1) زيادة من المصدر.
(1/152)
وقوله:
215 - قُلْتُ: وَمِنْهُ مُدْرَجٌ قَبْلُ قُلِبْ ... كـ
(أسْبِغُوا الوُضُوْءَ وَيْلٌ لِلعَقِبْ)
الشرح: هذا من الزيادة على ابن الصلاح؛ لأن ابن الصلاح قَيَّدَ
هذا القسم من المدرج بكونه أُدرج عقيب الحديث، والخطيب ذكر في
كتابه «المدرج» ما أُدخل أول الحديث أو وسطه، فأشار إلى ذلك
بقوله: «ومنه» (خ) يعني أتى به قبل الحديث المرفوع، أو قبل
آخره في وسطه.
وقوله: «قُلِب»، يعني: جعل آخره أَوَّلَه؛ لأن الغالب في
المدرجات ذكرها عقيب الحديث.
ومثاله: رواية الخطيب من رواية أبي قَطَن وشَبابة، عن شعبة، عن
محمد بن زياد، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار».
فقوله: «أسبغوا الوضوء». قلت: هو بفتح الهمزة أمرٌ من أَسْبَغَ
رباعياً، وهو من قول أبي هريرة وُصِلَ بالحديث أَوَّلَه. كذا
رواه البخاري في «صحيحه» عن آدم بن أبي إياس، عن شعبة، عن محمد
بن زياد، عن أبي هريرة قال: أسبغوا الوضوء فإن أبا القاسم صلى
الله عليه وسلم [48 - ب] قال: «ويل للأعقاب من النار».
وكذلك الخطيب بَيَّنَهُ وأنَّ «أسبغوا الوضوء» كلام أبي هريرة،
و «ويل للأعقاب» كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذا رواه أبو داود الطيالسي وغيره عن شعبة، وجعلوا «أسبغوا
الوضوء»
(1/153)
من قول أبي هريرة و «ويل ... » من كلام
النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: «للعَقِب» واحد الأعقاب للوزن في «قُلِب». وكذا هو في
رواية الطيالسي عن شعبة: «ويل للعَقِب من النار».
ومثال المدرج وسط الحديث رواية الدارقطني في «السُّنن» من
رواية عبد الحميد بن جعفر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن بُسرة
بنت صفوان قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من
مَسَّ ذكره أو أنثييه أو رُفْغَه فليتوضأ».
قال الدارقطني: كذا رواه عبد الحميد عن هشامٍ، ووهم في ذكر
الأنثيين والرفع وإدراجه ذلك في حديث بسرة، والمحفوظ أن ذلك من
قول عروة، كما رواه الثقات عن هشامٍ ومنهم أيوب السختياني
بلفظ: «من مس ذكره فليتوضأ»، قال وكان عروة يقول: «إذا مس
رُفغيه أو أنثييه أو ذكره فليتوضأ».
وكذا نص الخطيب قائلاً إنه من قول عروة بن الزبير فأدرجه
الراوي في متن الحديث وفيه بحث للقشيري (1) ذكره (ن) في (ش)
(2).
وقوله: [49 - أ]
216 - وَمِنْهُ جَمْعُ مَا أتَى كُلُّ طَرَفْ ... مِنْهُ
بِإسْنَادٍ بِوَاحِدٍ سَلَفْ
217 - كـ (وَائِلٍ) في صِفَةِ الصَّلاَةِ قَدْ ... اُدْرِجَ
(ثُمَّ جِئْتُهُمْ) وَمَا اتَّحَدْ
_________
(1) أي: ابن دقيق العيد، وكلامه في «الاقتراح».
(2) (1/ 300).
(1/154)
الشرح: يعني أن من القسم الثاني من أقسام
المدرج أن يكون الحديث عند من رواه بإسناد إلا طرفاً منه فإنه
عنده بإسناد آخر فيجمع الراوي عنه طَرَفي الحديث بإسناد الطرف
الأول، ولا يذكر إسنادَ طَرَفِهِ الثاني.
وقوله: «كوائل» (خ) مثال ذلك وهو حديث رواه أبو داود من رواية
زائدة وشريك، والنسائي من رواية ابن عيينة، كلهم عن عاصم بن
كُليب، عن أبيه، عن وائل بن حُجرٍ في صفة صلاة رسول الله صلى
الله عليه وسلم وقال فيه: «ثم جئتهم بعد ذلك في زمانٍ فيه بردٌ
شديدٌ، فرأيت الناس عليهم جُل الثياب، تَحَرَّك أيديهم تحت
الثياب».
قال الحمال موسى بن هارون: وهذا عندنا وهمٌ.
فقوله: «ثم جئتهم» ليس هو بهذا الإسناد، وإنما أُدرج عليه، وهو
من رواية عاصمٍ، عن عبد الجبار بن وائلٍ، عن بعض أهله، عن
وائلٍ.
وقوله: «أُدرج» بضم أوله مبنياً للمفعول.
وقوله: «وما اتحد» يعني أن إسناد الطرف الأخير ما اتحد مع أول
الحديث، بل إسنادهما مختلف.
وقوله:
218 - وَمِنْهُ أنْ يُدْرَجَ بَعْضُ مُسْنَدِ ... في غَيْرِهِ
مَعَ اخْتِلاَفِ السَّنَدِ [49 - ب]
219 - نَحْوُ (وَلاَ تَنَافَسُوْا) في مَتْنِ (لاَ ...
تَبَاغَضُوا) فَمُدْرَجٌ قَدْ نُقِلاَ
220 - مِنْ مَتْنِ (لاَ تَجَسَّسوا) أدْرَجَهُ ... (ابْنُ أبي
مَرْيَمَ) إذْ أخْرَجَهُ
(1/155)
الشرح: القسم الثالث من المدرج أن يُدرج
بعض حديثٍ في حديث آخر يخالفه في السند، كالحديث الذي رواه
سعيد بن أبي مريم، عن مالك، عن الزهري، عن أنس، أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: «لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا
ولا تنافسوا» (خ).
فقوله: «ولا تنافسوا» أدرجها ابن أبي مريم فيه من حديث آخر
لمالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى
الله عليه وسلم: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا
تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا تنافسوا .. » وهكذا الحديثان (1) عند
رواة «الموطأ» القعنبي ويحيى بن يحيى وغيرهما.
قلت: وابن أبي مريم اسمه سعيد بن محمد بن الحكم (2) بن أبي
مريم، أبو محمد، حافظ مصر، مولى لبني الضبيع (3)، روى عنه
البخاري في العلم وغير موضع، وروى عن محمد بن عبد الله عنه في
سورة الكهف، وروى عن مالك ونافع ابن عمر، وَثَّقَه أبو حاتم
انتهى.
وقوله:
221 - وَمِنْهُ مَتْنٌ عَنْ جَمَاعَةٍ وَرَدْ ... وَبَعْضُهُمْ
خَالَفَ بَعْضاً في السَّنَدْ
_________
(1) عبارة الناظم في شرحه (1/ 302): وكلا الحديثين متفق عليه
من طريق مالك، وليس في الأول: «ولا تنافسوا»، وهي في الحديث
الثاني، وهكذا الحديثان ..
(2) كذا، وهو قلب، صوابه: سعيد بن الحكم بن محمد.
(3) في مصادر ترجمته: مولى أبي الضبيع مولى لبني جمح.
(1/156)
222 - فَيَجْمَعُ الكُلَّ بإسْنَادٍ ذَكَرْ
... كَمَتْنِ (أيُّ الذَّنْبِ أعْظَمُ) الخَبَرْ
223 - فَإنَّ (عَمْراً) عِنْدَ (وَاصِلٍ) فَقَطْ ... بَيْنَ
(شَقيْقٍ) وَ (ابْنِ مَسْعُوْدٍ) سَقَطْ [50 - أ]
الشرح: القسم الرابع من المدرج أن يروي بعض الرواة حديثاً عن
جماعة وبينهم في إسناده اختلاف، فيجمع الكل على إسنادٍ واحدٍ
مما اختلفوا فيه، ويُدرج رواية من خالفهم معهم على الاتفاق.
كحديث رواه (ت) عن بُندار، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن الثوري،
عن واصلٍ ومنصور والأعمش، عن أبي وائل، عن عمرو بن شُرَحبيل،
عن عبد الله قال: قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ (خ) وكذا
رواه محمد بن كثير العبدي، عن سفيان.
فرواية واصل هذه مدرجة على رواية منصور والأعمش؛ لأن واصلاً لا
يذكر فيه عمراً بل يجعله عن أبي وائل عن عبد الله.
وقوله: «بين شقيق».
قلت: هو بفتح الشين المعجمة، وكسر القاف، وإسكان المثناة تحت،
وبعده قاف، وهو أبو وائل الراوي عن عبد الله بن مسعود.
وقوله: «فإن عَمْراً». قلت: هو بفتح العين بن شُرَحبيل بضم
الشين المعجمة، وفتح الراء، وإسكان الحاء المهملتين، وبعده
موحدة مكسورة، فمثناة تحت ساكنة، فلام، غير منصرف للعَلَمية
والعُجْمَة.
وقوله:
224 - وَزَادَ (الاعْمَشُ) كَذَا (مَنْصُوْرُ) ... وَعَمْدُ
الادْرَاجِ لَهَا مَحْظُوْرُ
الشرح: يعني أن الأعمش ومنصوراً زادا ذكر عمرو بن شرحبيل بين
شقيق
(1/157)
وابن مسعود.
وقوله: «وعَمْدُ» (خ) يعني أن الإدراج لا يجوز تَعَمُّدَه في
شيء من هذه الأقسام الأربعة.
وقد صَنَّف في هذا النوع الخطيب [50 - ب] كتاباً سماه «الفصل
للوصل المدرج في النقل» وقفتُ عليه وهو عندي، شَفَى فيه
وكَفَى.
(1/158)
الْمَوْضُوْعُ
قوله:
225 - شَرُّ الضَّعِيْفِ: الخَبَرُ الموضُوْعُ ... الكَذِبُ،
المُختَلَقُ، المَصْنُوْعُ
226 - وَكَيْفَ كَانَ لَمْ يُجِيْزُوا ذِكْرَه ... لِمَنْ
عَلِمْ، مَا لَمْ يُبَيِّنْ أمْرَهْ
227 - وَأكْثَرَ الجَامِعُ فِيْهِ إذْ خَرَجْ ... لِمُطْلَقِ
الضُّعْفِ، عَنَ: أبَا الفَرَجْ
الشرح: هذا نوع من أنواع الحديث وهو شر الأحاديث الضعيفة ويقال
له المختلق، بفتح اللام والمصنوع.
وقوله: «وكيف» (خ) يعني أن الموضوع
كيف كان في الأحكام، أو القصص، أو الترغيب والترهيب، وغير ذلك،
لم يجيزوا لمن عَلِمَ أنه موضوع أن يذكره بروايةٍ أو احتجاج
إلا مع بيان أنه موضوع، بخلاف غيره من الضعيف المحتمل للصدق
فإنهم جوزوا روايته في الترغيب والترهيب.
وقوله: «وأكثر» (خ) يعني أن ابن الصلاح قال: ولقد أكثر الذي
جمع في هذا العصر الموضوعات في نحو مجلدين فأودع فيها كثيراً
منها (1)، لا دليل على وضعه وحقه أن يذكر في مطلق الأحاديث
الضعيفة.
وعني ابن الصلاح بالجامع المذكور أبا الفرج ابن الجوزي.
_________
(1) في الأصل: مبهماً. خطأ.
(1/159)
وقوله:
228 - وَالوَاضِعُوْنَ لِلحَدِيْثِ أضْرُبُ ... أَضَرُّهُمْ
قَوْمٌ لِزُهْدٍ نُسِبُوا
229 - قَدْ وَضَعُوْهَا حِسْبَةً، فَقُبِلَتْ ... مِنْهُمْ،
رُكُوْنَاً لَهُمُ ونُقِلَتْ [51 - أ]
230 - فَقَيَّضَ اللهُ لَهَا نُقَّادَهَا ... فَبَيَّنُوا
بِنَقْدِهِمْ فَسَادَهَا
231 - نَحْوَ أبي عِصْمَةَ إذْ رَأَى الوَرَى ... زَعْمَاً
نَأوْا عَنِ القُرَانِ، فافْتَرَى
232 - لَهُمْ حَدِيْثَاً في فَضَائِلِ السُّوَرْ ... عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ، فبئسَمَا ابْتَكَرْ
233 - كَذَا الحَدِيْثُ عَنْ أُبَيٍّ اعْتَرَفْ ... رَاوِيْهِ
بِالوَضْعِ، وَبِئسَمَا اقتَرَفْ
234 - وَكُلُّ مَنْ أوْدَعَهُ كِتَابَهْ ... - كَالوَاحِدِيِّ
- مُخْطِيءٌ صَوَابَهْ
الشرح: يعني أن الواضعين للحديث أصنافٌ بحسب الحامل على الوضع.
[فضربٌ من] (1) الزنادقة فضلوا وأضلوا، كابن أبي العوجاء أمر
بضرب عنقه محمد بن سليمان، وبيانٍ قتله خالد القسري وحرقه
بالنار.
وروى العقيلي بسنده إلى حماد بن زيد قال: وَضَعَتِ الزنادقة
على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة عشر ألف حديث.
وضربٌ قصد التقرب للسلطان والأمير بما يوافق فعلهم ورأيهم،
كغياث بن إبراهيم لما وضع للمهدي في حديث: «لا سبق إلا في
نصلٍ، أو خُف، أو حافرٍ» فزاد فيه «أو جناح»، وكان المهدي يلعب
بها ثم تركها بعدُ وأمر بذبحها، وقال: أنا حملته على ذلك.
_________
(1) زيادة من المصدر.
(1/160)
وضربٌ للتكسب والارتزاق في القصص، نقله
المدائني أبو سعيد (1) وعَمَّت به البلوى في ديار مصر وريفها.
وضَرْبٌ قصدَ إقامة الدليل على ما تفردوا برأيهم في الإفتاء،
ونُقِل عن ابن دحية والله أعلم [51 - أ] بذاك.
وأعظم هؤلاء ضرراً قومٌ ينسبون إلى الزهد والديانة فوضعوه
حسبةً بزعمهم الباطل، وجهلهم، فَقُبلت موضوعاتُهم ثقةً بهم،
ولهذا قال يحيى بن سعيد القطان: «ما رأيت الصالحين أكذب منهم
في الحديث»، وأراد -والله تعالى أعلم- مَنْ يُنسب إلى الصلاح
بلا عِلْم، والله تعالى تبرأ من صلاحٍ بجهل، ومن يُنسب إلى
الصلاح بلا علمٍ يُحسن الظن فَيَحْمِلُ كلَّ ما سمعه على
الصِّدق، ولا وازع من العلم عنده يُمَيِّز به بين الخطأ
فيجتنبه، والصواب فيرتكبه.
قلت: ومن ثم منع أصحابنا شهادة من لديه تغفل (2)، فقال ابن عبد
الحكم: قد يكون الخَيِّر الفاضل ضعيفاً لغفلته فلا تقبل
شهادته، وأدركت بأخَرةٍ من ولي قضاء المالكية بديار مصر ممن
أخذنا عنه المعقول وبضاعته مزجاة في الفقه فلم يقبل شهادة شخصٍ
بمصر يشار إليه بالديانة والفضل لما نصه ابن عبد الحكم انتهى.
وقوله: «فقيض الله» (خ) يعني أنه وإن خفى على الكثير من الناس
وضع من
_________
(1) كذا، وهو خطأ صوابه أبو سعد.
(2) كذا.
(1/161)
يُنسب إلى الصلاح، فلا يخفى على الجهابذة
النُّقَّاد في الحديث، فإنهم قاموا بأعباء ما حُمِّلوه
فتحمَّلوه وكشفوا عُوَارَها ومحوا عَارَها، حتى روي عن سفيان
أنه قال: «ما ستر الله أحداً يكذب في الحديث». ورضي الله عن
ابن المبارك فقيل له: هذه الأحاديث [52 - أ] المصنوعة؟ فقال:
يعيش لها الجهابذة {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ
وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
وقوله: «نحو أبي عصمة» (خ) يعني أن مثال مَنْ كان يضع الحديث
حسبةً ما روي عن أبي عصمة في رواية الحاكم بسنده إلى أبي عمار
المروزي، أنه قيل لأبي عصمة: من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس
في فضائل القرآن سورةً سورةً، وليس عند أصحاب عكرمة هذا؟ فقال:
إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة
ومغازي محمد بن إسحاق فوضعت هذا الحديث حسبةً.
قلت: «وأبو عِصْمَة» بكسر العين، وإسكان الصاد المهملتين،
وبعده ميم مفتوحة، فهاء تأنيث، هو نوح بن أبي مريم المروزي
قاضي مرو، وكان يقال له: «نوح الجامع»، فقال ابن حبان: جَمَعَ
كل شيء إلا الصدق. وهو الواضع حديث فضائل القرآن فيما نص عليه
الحاكم.
قال الذهبي في «الميزان»: لأنه أخذ الفقه عن أبي حنيفة وابن
أبي ليلى، والحديث عن حجاج بن أرطأة، والتفسير عن الكلبي
ومقاتل، والمغازي عن محمد بن إسحاق قال ابن حبان: وهو الذي روى
عن يحيى بن سعيد عن ابن المسيب عن أبي هريرة: «نهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن يُقطع الخبز بالسكين، وقال: أكرموا
الخبز فإن الله تعالى أكرمه». وروى عن
(1/162)
زيد العمي، عن سعيد [52 - ب] بن جبير، عن
ابن عباس مرفوعاً: «من ترك الصف الأول مخافة أن يؤذي مسلماً
ضَعَّف الله له أجر الصف الأول» مات أبو عصمة سنة ثلاث وسبعين
ومائة. انتهى.
وقوله: «زَعْماً» بفتح الزاي، وإسكان العين المهملة، وبعده
ميم، وهو القول المقرون بالاعتقاد صحيحاً كان أو باطلاً.
وقوله: «نأوا» بالنون، أي: أعرضوا.
وقوله: «كذا الحديث» (خ) يعني وهكذا حديث أُبَي الطويل في
فضائل قراءة سُوَر القرآن سورةً سورةً، كما روي عن المؤمل بن
إسماعيل قال: حدثني شيخ به فقلت للشيخ: من حدثك؟ فقال: حدثني
رجل بالمدائن وهو حي. فصرت إليه فقلت: من حدثك؟ فقال: شيخ
بواسط وهو حي. فصرتُ إليه فقال: حدثني شيخ بالبصرة. فصرت إليه
فقال: حدثني شيخ بعبَّادان. فصرتُ إليه فأخذ بيدي فأدخلني
بيتاً فإذا فيه قوم من المتصوِّفَة ومعهم شيخ فقال: هذا الشيخ
حدثني. فقلت: يا شيخ من حَدَّثَك. فقال: لم يحدثني أحد، ولكنا
رأينا الناس قد رغبوا عن القرآن فوضعنا لهم هذا الحديث ليصرفوا
قلوبهم إلى القرآن.
وقوله: «وبئسما اقترف» أي: بئسما اكتسب.
قلت: ويشبه هذا الواضع حسبةً مَنْ يتصدى الشهادة على هلال
رمضان [53 - أ] بالزُّور زاعماً أنه يشغل الناس بالتعبد بالصوم
عن مفاسد تقع منهم ذلك اليوم فبئس ما اقترف، والله تعالى أعلم.
(1/163)
وقوله: «وكل» (خ) يعني أن كُلَّ من أودع
حديث أُبَي المذكور تفسيره كالواحدي، والثعلبي، والزمخشري،
يخطئ ذاك طريق الصواب.
والزمخشري أفحش في ذاك حيث أورده بصيغة الجزم غير مُبْرِزٍ
لسنده بخلاف الثعلبي والواحدي.
وقوله:
235 - وَجَوَّزَالوَضْعَ عَلَى التَّرْغِيْبِ ... قَوْمُ ابنِ
كَرَّامٍ، وَفي التَّرْهِيْب
الشرح: يعني أن الكَرَّامية المبتدعة جَوَّزُوا الوَضْع في
الترغيب والترهيب وهو خلاف إجماع المسلمين الذين يُعْتَدُّ
بهم.
واستدلوا على ذلك بما روي في بعض طرق الحديث: «من كذب علي
متعمداً ليُضِلَّ به الناس فليتبوأ مقعده من النار». وحمله
بعضهم على أي قال: «أنه ساحر أو مجنون» (1).
وأغرب وأفحش بعض من خذله الله تعالى فقال: «من كذب» أي عليَّ،
وهم يكذبون له ويُقَوُّون شرعه، قَبَّحَهُم الله تعالى في ذلك.
قلت: «وابن كَرَّام» بفتح الكاف، وتشديد الراء، وبعده ألف،
فميم، كذا ضبطه الأمير، وابن السمعاني، وغير واحدٍ، وهو الجاري
على الألسنة، وأنكره محمد بن الهيصم وغيره من الكَرَّامية،
وحكى ابن الهيصم فيه وجهين: التخفيف وذكر أنه المعروف في ألسنة
[53 - ب] مشايخهم،
_________
(1) كذا وقعت العبارة في الأصل، وعبارة الناظم في شرحه (1/
314): وحمل بعضهم حديث «من كذب عليَّ» أي: قال: إنه ساحر أو
مجنون.
(1/164)
والتشديد وحكاه عن أهل سجستان.
قال ابن الصلاح: ولا يُعْدَل عن التشديد. وهذا الذي أورده ابن
السمعاني في «الأنساب» وقال: كان والده يحفظ الكرم فقيل له
الكرام. انتهى.
وتَعَقَّبَ الذهبيُّ في «الميزان» كلامَ السمعاني هذا قائلاً:
إنه بلا إسنادٍ وفيه نظر، فإن كلمة كرام علمٌ على والد محمدٍ
سواءً عمل في الكرم أو لم يعمل، والله تعالى أعلم. انتهى.
وابن كَرَّامٍ هو السجستاني العابد المُتَكَلِّم شيخ
الكَرَّامية، ساقط الحديث لأجل بدعته. قال ابن السراج: شهدت
البخاري ودُفِعَ إليه كتاب من ابن كرام يسأله عن أحاديث منها
الزهري عن سالمٍ عن أبيه مرفوعاً: «الإيمان لا يزيد ولا ينقص»،
فكتب أبو عبد الله على ظهر كتابه: مَن حَدَّث بهذا استوجب
الضرب الشديد والحبس الطويل. انتهى.
وسُجِن بنيسابور لأجل بدعته ثمانية أعوام، ثم أُخرج، وسار إلى
بيت المقدس ومات بالشام، وعكف أصحابه على قبره مدةً.
ومِنْ بدعته قوله في المعبود: إنه جسمٌ لا كالأجسام. وله
أتباعٌ على ذلك ومريدون يُقال لهم الكَرَّامية كما أشار شيخنا
(ن) (1)، انتهى.
وقوله:
236 - وَالوَاضِعُوْنَ بَعْضُهُمْ قَدْ صَنَعَا ... مِنْ
عِنْدِ نَفْسِهِ، وَبَعْضٌ وَضَعَا
_________
(1) (1/ 313).
(1/165)
237 - كَلامَ بَعْضِ الحُكَمَا في
المُسْنَدِ ... وَمِنْهُ نَوْعٌ وَضْعُهُ لَمْ يُقْصَدِ [54 -
أ]
238 - نَحْوُ حَدِيْثِ ثَابِتٍ (مَنْ كَثُرَتْ ... صَلاَتُهُ)
الحَدِيْثَ، وَهْلَةٌ سَرَتْ
الشرح: يعني أن الواضعين للحديث منهم من يَضَع كلاماً من
قِبَلِهِ ويرويه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنهم من يأخذ كلام بعض الحُكَماء أو بعض الزُّهَّاد أو
الإسرائيليات فيجعله حديثاً نحو حديث: «حُبُّ الدنيا رأس كل
خطيئة» فإنه من كلام مالك بن دينار. كما رواه ابن أبي الدنيا
في «مكايد الشيطان» بإسناده إليه. أو من كلام عيسى بن مريم صلى
الله عليه وسلم، كما رواه البيهقي في «الزهد»، ولا أصل له من
حديث النبي صلى الله عليه وسلم إلا من مراسيل الحسن البصري،
كما رواه البيهقي في «الشُّعَب» في الباب الحادي والسبعين منه،
ومراسيل الحسن عندهم شبه الريح.
ومثال ذلك: «المعدة بيتُ الداء، والحِمْيَةُ رأس الدواء» فهذا
من كلام بعض الأطباء لا أصل له عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: «ومنه» (خ) يعني من أقسام الموضوع ما لم يُقْصَد وضعُه،
وإنما وَهِمَ فيه بعضُ الرواة، كالحديث الذي رواه ابن ماجه عن
إسماعيل بن محمد الطَّلْحي، عن ثابت بن موسى الزَّاهد، عن
شَرِيك، عن الأعمش، عن أبي سُفيان، عن جابر مرفوعاً: «من
كَثُرَت صلاتُهُ بالليل، حَسُنَ وجهه بالنهار». فقيل: الحديث
منكرٌ. وقيل: موضوع.
قال ابن عدي: إنه حديثٌ منكر لا يُعْرَف إلا لثابت [54 - ب]،
وسرقه منه من
(1/166)
الضعفاء عبد الحميد بن بحر، وعبد الله بن
شبرمة الشَّريكي، وجماعة منهم.
وروى عن محمد بن عبد الله بن نُمير أنه ذُكر له هذا الحديث عن
ثابت فقال: باطل، شُبِّه على ثابت، وذلك أن شريكاً كان
مَزَّاحاً، وكان ثابت رجلاً صالحاً، فيشبه أن يكون ثابت دخل
على شريك، وكان شريك يقول: حدثنا الأعمش، عن أبي سفيان، عن
جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالتفتَ فرأى ثابتاً فقال
يمازحه: «من كثرت صلاته» (خ) فظن ثابتٌ لغفلته أن هذا الكلام
هو متن الإسناد الذي قرأه (فحمله على ذلك. وإنما ذلك قول شريك.
انتهى. وشريك غير ثقة، وثابت كذاب. كذا قيل) (1).
وقوله: «وَهْلَة» بفتح الواو، وإسكان الهاء، وبعده لام مفتوحة،
فهاء تأنيث: غفلة.
وقوله:
239 - وَيُعْرَفُ الوَضْعُ بِالاقْرَارِ، وَمَا ... نُزِّلَ
مَنْزِلَتَهُ، وَرُبَّمَا
240 - يُعْرَفُ بِالرِّكَةِ قُلْتُ: اسْتَشْكَلاَ ...
(الثَّبَجِيُّ) القَطْعَ بِالوَضْعِ عَلَى
241 - مَااعْتَرَفَ الوَاضِعُ إذْ قَدْ يَكْذِبُ ... بَلَى
نَرُدُّهُ، وَعَنْهُ نُضْرِبُ
الشرح: يعني أن الوَضْع يُعْرَف بإقرار واضعه، أو معنى إقراره.
وقوله: «وربما» (خ) يعني أنه قد يُفهم الوضع من قَرينة حال
الراوي أو المروي، فقد وُضِعَت أحاديث تشهد بوضعها ركاكة
ألفاظها ومعانيها.
_________
(1) ما بين القوسين ملحق بالحاشية اليمنى.
(1/167)
وعن الربيع بن خثيم: «إن للحديث ضَوْءًا
كضوء النهار، تَعْرِفُهُ، وظُلمة كظلمة الليل تنكره».
ورحم الله ابن الجوزي قائلاً: الحديث [55 - أ] المنكر يقشعر له
جلد الطالب للعلم، وينفر منه قلبه غالباً.
و «الرِّكَّة» بكسر الراء المهملة، وتشديد الكاف، وبعده هاء
تأنيث، مِنْ رَكَّ الشيء إذا رَقَّ وضعف. ومنه قولهم: «اقطعْهُ
من حيث رَكَّ». قال في «الصحاح»: والعامة تقول من حيث رَقَّ.
يعني بالقاف. انتهى.
وقوله: «قلت» (خ) يعني أن ابن دقيق العيد استشكل الاعتماد على
إقرار الراوي بالوضع فقال: هذا كافٍ في رده لكن ليس بقاطع
بوضعه؛ لاحتمال أن يكذب في هذا الإقرار.
و «الثبجي» بفتح المثلثة، والباء الموحدة، وبعده جيم، نسبة ابن
دقيق العيد، وبخطه وُجِدَت؛ لأنه ولد بثبَج البحر، بساحل ينبع
من الحجاز.
وثبج البحر: ظهره أو وسطه.
(1/168)
الْمَقْلُوْبُ
قوله:
242 - وَقَسَّمُوا المَقْلُوْبَ قِسْمَيْنِ إلى: ... مَا كَانَ
مَشْهُورَاً بِراوٍ أُبْدِلا
243 - بِواحدٍ نَظِيْرُهُ، كَيْ يَرْغَبَا ... فِيهِ،
لِلاغْرَابِ إذا مَا اسْتُغْرِبَا
الشرح: من أنواع الحديث الضعيف
المقلوب، وهو قسمان:
أحدهما: أن يكون مشهوراً براوٍ فيجعل مكانه راوٍ آخر في طبقته
ليصير بذلك غريباً مرغوباً فيه كحديثٍ مشهور عن سالمٍ فيجعل
مكانه نافعٌ، فيصير غريباً مرغوباً فيه.
وفَعَل ذلك حماد بن عمرو النَّصِيبي الوَضَّاع فيما روى عمرو
بن خالد الحَرَّاني، عن حماد بن عمرو النَّصِيبي، عن الأعمش،
عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعاً: «إذا لقيتم المشركين في
طريقٍ فلا تبدأوهم [55 - ب] بالسلام» الحديث.
فهذا مقلوبٌ قَلَبَه حماد المتروك فجعله عن الأعمش، وإنما هو
معروف بسهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، هكذا رواه
مسلمٌ في «صحيحه» من رواية شُعبة، والثوري، وجَرير بن عبد
الحميد، وعبد العزيز بن محمد الدَّرَاوردي، كلهم عن سُهَيْل.
(1/169)
وقوله:
244 - وَمِنْهُ قَلْبُ سَنَدٍ لِمَتْنِ ... نَحْوُ:
امْتِحَانِهِمْ إمَامَ الفَنّ
245 - في مائَةٍ لَمَّا أتَى بَغْدَادَا ... فَرَدَّهَا،
وَجَوَّدَ الإسْنَادَا
الشرح: هذا القسم الثاني من المقلوب، وهو أن يُؤخذ إسنادُ متنٍ
فَيُجْعل على متنٍ آخر، ومتن هذا فيجعل بإسنادٍ آخر، وهذا يكون
لقصد الإغراب، فيكون كالوضع، ويكون اختباراً لحفظ المحدث كما
يرتكبه المحدثون كثيراً، وفي جوازه نظر. وممن فعله شعبة وحماد
بن سلمة.
وقوله: «نحو امتحانهم» (خ) يعني بذلك ما رواه (ن) (1) بسنده
إلى الرازي أبي أحمد الحسن (2)، قال: سمعت أبا أحمد بن عدي
يقول: سمعت عدة مشايخ يحكون أنَّ البخاري قدم بغداد فسمع به
أصحاب الحديث، فاجتمعوا وعمدوا إلى مائة حديثٍ فقلبوا متونها
وأسانيدها، وجعلوا متن هذا الإسناد لإسنادٍ آخر، وإسناد هذا
المتن لمتن آخر، ودفعوا إلى عشرة أنفس، إلى كلِّ رجلٍ عشرة
أحاديث، وأمرُوهم إذا حضروا المجلس يُلْقُون ذلك على البخاري،
وأخذوا الموعد للمجلس [56 - أ]، فحضر المجلس جماعةُ أصحاب
الحديث من الغرباء من أهل خراسان وغيرهم ومن البغداديين، فلما
اطمأن المجلس بأهله انتدب إليه رجل من العشرة فسأله عن حديث من
تلك الأحاديث، فقال البخاري: لا أعرفه. فسأله عن آخر
_________
(1) (1/ 321).
(2) كذا، وصوابه: أحمد بن الحسن الرازي. كما في «شرح الناظم».
(1/170)
فقال: لا أعرفه. فما زال يُلقى عليه واحداً
بعد واحد حتى فرغ من عشرته، و (خ) (1) يقول: لا أعرفه فكان
الفهماء ممن حضر المجلس يلتفت بعضهم إلى بعض ويقولون: الرجل
فَهِم، ومن كان منهم غير ذلك يقضي على (خ) بالعجز والتقصير
وقلة الفهم، ثم انتدب آخر من العشرة فسأله عن حديثٍ من تلك
الأحاديث المقلوبة فقال (خ): لا أعرفه. فسأله عن آخر فقال: لا
أعرفه. فلم يزل يلقي عليه واحداً بعد واحد حتى فرغ من عشرته، و
(خ) يقول: لا أعرفه. ثم انتدب إليه الثالث والرابع إلى تمام
العشرة حتى فرغوا كلهم من الأحاديث المقلوبة، و (خ) لا يزيدهم
على: لا أعرفه. فلما علم (خ) أنهم قد فرغوا التفت إلى الأول
منهم فقال: أما حديثك الأول فهو كذا، وحديثك الثاني فهو كذا،
على الولاء، حتى أتى على العشرة فَرَدَّ كلَّ متن على إسناده
وكُلَّ إسنادٍ إلى متنه، وفعل بالآخرين مثل ذلك، ورَدَّ متونَ
الأحاديث كلها إلى أسانيدها، وأسانيدها إلى متونها، فأَقَرَّ
له الناسُ بالحفظ، وأذعنوا له بالفضل.
وقوله: «بغدادا» بدالين مهملتين، أحد لغاتٍ جمة فيه [56 - ب]،
نبهتُ عليها في «الكافي» شرحي لمغني ابن هشام، نفع الله تعالى
به.
وقوله:
246 - وَقَلْبُ مَا لَمْ يَقْصِدِ الرُّوَاةُ ... نَحْوُ:
(إذَا أُقِيْمَتِ الصَّلاَةُ ... )
247 - حَدَّثَهُ - في مَجْلِسِ البُنَاني - ... حَجَّاجٌ،
اعْنِي: ابْنَ أبي عُثمَان
_________
(1) أي: البخاري.
(1/171)
248 - فَظَنَّهُ - عَنْ ثَابِتٍ -
جَرِيْرُ، ... بَيَّنَهُ حَمَّادٌ الضَّرِيْرُ
الشرح: من أقسام المقلوب ما انقلب على راويه ولم يقصد قلبه،
كالحديث الذي رواه جرير بن حازم، عن ثابت البناني، عن أنس قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أقيمت الصلاة فلا
تقوموا حتى تروني».
فهذا حديث انقلب إسناده على جرير، والحديث مشهور ليحيى بن أبي
كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، عن النبي صلى الله
عليه وسلم.
هكذا رواه الأئمة الخمسة من طُرُق تدور على يحيى، وهو عند مسلم
والنسائي من رواية حجاج بن أبي عثمان الصَّوَّاف، عن يحيى.
وأما جرير فما سمعه إلا من حَجَّاج فانقلب عليه.
وقوله: «حدثه» (خ) يعني أن حماد الضرير بن زيد قال: كنت وجرير
بن حازم عند ثابت البناني، فحدث حجاج بن أبي عثمان عن يحيى بن
أبي كثير بسنده المذكور عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره،
فظن جرير أنه إنما حدث به ثابت عن أنس قال الطَّبَّاع إسحاق بن
عيسى: حدثنا جرير بن حازم بهذا، فأتيت حماد بن زيد فسألته عن
الحديث، فقال: وَهِم أبو النَّضْر-يعني جريراً- إنما كنا
جميعاً في مجلس البناني، وذكر [57 - أ] نحوه.
قلت: «والبُنَاني» بضم الباء الموحدة، وبعده نون، فألف، فنون،
نسبةً إلى بُنَانة بن سعد بن لؤي بن غالب، وهو أبو محمد ثابت
بن أسلم، من تابعي البصرة، صحب أنس بن مالك أربعين سنة.
(1/172)
تنبيهات
قوله:
249 - وَإنْ تَجِدْ مَتْنَاً ضَعِيْفَ السَّنَدِ ... فَقُلْ:
ضَعِيْفٌ، أيْ: بِهَذَا فَاقْصِد
250 - وَلاَ تُضَعِّفْ مُطْلَقاً بِنَاءَ ... عَلَى
الطَّرِيْقِ، إذْ لَعَلَّ جَاءَ
251 - بِسَنَدٍ مُجَوَّدٍ، بَلْ يَقِفُ ... ذَاكَ عَلَى حُكْمِ
إمَامٍ يَصِفُ
252 - بَيَانَ ضَعْفِهِ، فَإنْ أطْلَقَهْ ... فَالشَّيْخُ
فِيما بَعْدَهُ حَقَّقَهْ
الشرح: ذَكَر تنبيهات، باعتبار أنه ذكر ثلاثة:
التنبيه الأول: أشار إليه بقوله: «وإن تجد» (خ) ومعناه: إذا
وجدت حديثاً بإسنادٍ ضعيفٍ، فلك أن تقول: «ضعيف» عانياً بذلك
الإسناد، ولا تعني بذلك ضعيف مطلقاً بناءً على ضعف ذلك السند؛
إذ لَعَلَّ له إسناداً آخر صحيحاً يَثْبُت بمثله الحديث، بل
سبيلك أن تقف (1) جواز إطلاق ضعفه على حكم إمام من أئمة الحديث
بأن ليس له إسنادٌ يثبت به، مع وَصْف ذلك الإمام بيان وجه ضعفه
مفسراً، فإن أَطْلَقَ ذلك الإمام ضَعْفَهُ وما فَسَّرَهُ،
فلابن الصلاح فيه كلام حَقَّقَهُ في النوع الثالث والعشرين من
كتابه.
_________
(1) كذا، وعبارة الناظم (1/ 324): «بل يقف جواز ... ».
(1/173)
وقوله:
253 - وَإنْ تُرِدْ نَقْلاً لِوَاهٍ، أوْ لِمَا ... يُشَكُّ
فِيهِ لاَ بِإسْنَادِهِمَا
254 - فَأتِ بِتَمْرِيضٍ كـ (يُرْوَى) وَاجْزِمِ ... بِنَقْلِ
مَا صَحَّ كـ (قَالَ) فَاعْلَمِ [57 - ب]
الشرح: هذا التنبيه الثاني من التنبيهات، وهو: إذا أردت نقل
حديث ضعيفٍ أو ما في صحته وضعفه شكٌ بغير إسنادٍ فلا تذكره
جازماً بصيغته كـ «قال» و «فَعَلَ» ونحوه، وقُلّ فيه ممرضاً:
«يُرْوَى» و «رُوِيَ» و «وَرَدَ» و «جاء» و «بلغنا» ونحو ذلك.
وقوله: «واجزم» (خ) يعني إذا نقلت حديثاً صحيحاً بغير إسناد
فاذكره جازماً كـ: «قال»، ونحوه.
وقوله:
255 - وَسَهَّلُوا في غَيْرِ مَوْضُوْعٍ رَوَوْا ... مِنْ
غَيْرِ تَبْيِينٍ لِضَعْفٍ، وَرَأوْا
256 - بَيَانَهُ في الحُكْمِ وَالعَقَائِدِ ... عَنِ (ابنِ
مَهْدِيٍّ) وَغَيْرِ وَاحِد
الشرح: وهذا التنبيه الثالث من التنبيهات وهو أن الحديث غير
الموضوع يجوز التساهل في إسناده وروايته من غير بيانٍ لضعفه
إذا كان في غير الأحكام والعقائد: كالترغيب والترهيب من
المواعظ والقصص وفضائل الأعمال ونحوها.
وقوله: «عن ابن مهدي» (خ) يعني أن ممن نَصَّ على ذلك من
الأئمة: ابن مَهْدي، بفتح الميم، وإسكان الهاء، وكسر الدال
المهملة، وتشديد الياء، عبد
(1/174)
الرحمن، والإمام أحمد (1).
«قلت» (2): و «عن» متعلق بـ «رأوا» وبتضمينه نقلوا (3)، وهو
أولى من ادعاء حذف مبتدأ محذوف مقدرٍ بـ «هذا» كما زعم (ن) في
(ش) (4)، والله تعالى أعلم.
_________
(1) أي: ممن نص على ذلك كذلك الإمام أحمد.
(2) وقعت العبارة في الأصل: [فقال]: قلت ... يظهر أنه حشو.
(3) أي فيكون المعنى: نقلوا عن ابن مهدي ..
(4) (1/ 325).
(1/175)
|