مقدمة ابن الصلاح معرفة أنواع علوم الحديث ت فحل النَّوْعُ الثَّانِي عَشَرَ
مَعْرِفَةُ التَّدْلِيْسِ، وحُكْمِ الْمُدَلَّسِ (2)
التدليسُ (3) قِسمانِ (4):
__________
(1) قال العراقي في التقييد: 95: ((وما صحّحه المصنف هو الذي
رجّحه أهل الحديث. وصحّح الأصوليون خلافه، وهو أن الاعتبار بما
وقع منه أكثر، فإن وقع وصله أو رفعه أكثر من إرساله أو وقفه،
فالحكم للوصل والرفع، وإن كان الإرسال أو الوقف أكثر فالحكم
له)).
(2) انظر في التدليس:
معرفة علوم الحديث: 103، والمدخل إلى الإكليل: 20، والكفاية:
(508 ت، 355 هـ)، والتمهيد 1/ 15، وجامع الأصول 1/ 167،
والإرشاد 1/ 205، والتقريب: 63، والاقتراح: 209، والمنهل
الروي: 72، والخلاصة: 74، والموقظة: 47، وجامع التحصيل: 97،
واختصار علوم الحديث: 53، والمقنع: 1/ 154، وشرح التبصرة
والتذكرة 1/ 303، ونزهة النظر: 113، ومقدمة طبقات المدلسين:
13، والمختصر: 132، وفتح المغيث 1/ 169، وألفية السيوطي: 33،
وشرح السيوطي على ألفية العراقي: 173، وفتح الباقي 1/ 179،
وتوضيح الأفكار 1/ 346، وظفر الأماني: 373، وقواعد التحديث:
132.
(3) التدليس: مأخوذ من الدَّلَس - بالتحريك - وهو اختلاط
الظلام الذي هو سبب لتغطية الأشياء عن البصر. قال ابن حجر:
وكأنه أظلم أمره على الناظر لتغطية وجه الصواب فيه. ومنه
التدليس في البيع، يقال: دلَّس فلان على فلان، أي: ستر عنه
العيب الذي في متاعه كأنه أظلم عليه الأمر، وأصله مما ذكرنا -
من الدَّلَس -.
وهو في الاصطلاح راجع إلى ذلك من حيث إن مَن أسقط مِنَ الإسناد
شيئاً فقد غطّى ذلك الذي
أسقطه، وزاد في التغطية في إتيانه بعبارة موهمة، وكذا تدليس
الشيوخ فإن الراوي يغطّي الوصف الذي يُعرف به الشيخ أو يغطّي
الشيخ بوصفه بغير ما يشتهر به. انظر: نكت ابن حجر 2/ 614،
والنكت الوفية 137 / أ، وتاج العروس 16/ 84.
(4) ليس الأمر كما ذكر المصنف هنا، بل هناك أقسام أُخر أغفل
المصنّف ذكرها، منها: تدليس التسوية، وتدليس القطع، وتدليس
العطف، وغيرها.
انظر في هذا وفي تفصيل هذه الأنواع: نكت الزركشي 2/ 98 و 101
وما بعدها، والتقييد والإيضاح: 95، ونكت ابن حجر 2/ 616، وقارن
بـ: النكت الوفية 137 / أ.
(1/156)
أحدُهُما: تدليسُ الإسنادِ: وهوَ أنْ يرويَ
عَمَّنْ لَقِيَهُ ما لَمْ يَسْمَعْهُ منهُ، مُوهِماً أنَّهُ
سَمِعَهُ منهُ (1)، أو عَمَّنْ عاصَرَهُ ولَمْ يَلْقَهُ،
مُوهِماً أنَّهُ قَدْ لَقِيَهُ وَسَمِعَهُ منهُ. ثُمَّ قدْ
يكونُ بينَهُما واحِدٌ وقدْ يكونُ أكثرُ. ومِنْ شَأنِهِ أنْ لا
يقولَ في ذلكَ: ((أخبرنا فلانٌ))، ولا
((حدَّثنا))، وما أشبَهَهُما. وإنَّما يقولُ: ((قالَ فلانٌ أو
عَنْ فلانٍ))، ونحوَ ذلكَ (2). مثالُ ذلكَ: ((ما رُوِّيْنا
عَنْ عليِّ بنِ خَشْرَمٍ (3) قالَ: كُنَّا عندَ ابنِ عُيينةَ،
فقالَ:
((الزهريُّ))، فقيلَ لهُ: ((حَدَّثَكُمُ الزهريُّ؟))، فسَكَتَ،
ثُمَّ قالَ: ((الزهريُّ))، فقيلَ لهُ: ((سَمِعْتَهُ مِنَ
الزهريِّ؟))، فقالَ: ((لا، لَمْ أسمعْهُ مِنَ الزهريِّ، ولا
ممَّنْ سَمِعَهُ مِنَ الزهريِّ، حدَّثَني عبدُ الرَّزَّاقِ،
عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزهريِّ)) (4).
__________
(1) هذا ليس من التدليس في شيء، على قول ابن حجر، بل هو من باب
المرسل الخفي، وحاصل كلامهم أن في هذا الباب صوراً هي:
1 - الاتّصال: وهو الرواية عمّن عاصره وسمع منه، ما قد سمعه
منه.
2 - الانقطاع: وهو الرواية عمَّن لَم يعاصره أصلاً.
3 - الإرسال الخفي: وهو الرواية عمَّن عاصره ولم يسمع منه.
4 - التدليس: هو الرواية عمّن عاصره وسمع منه، ما لم يسمعه
منه.
وانظر: نكت الزركشي 2/ 68، والتقييد والإيضاح 97، ونكت ابن حجر
2/ 614، وأثر علل الحديث في اختلاف الفقهاء: 60 وما بعدها.
(2) قال الزركشي 2/ 70: ((أي: أن ((فلاناً)) ومثله، إن أسقط
ذلك ويسمي الشيخ فقط، فيقول:
((فلان)) كما تراه في حكاية ابن عيينة)).
(3) بمعجمتين، وزن: جَعْفَر. التقريب (4729).
(4) أسند هذه القصة الحاكم في المدخل إلى الإكليل: 20 - 21،
وفي معرفة علوم الحديث: 105، والخطيب في الكفاية: (512 ت، 359
هـ).
قال الزركشي 2/ 70: ((هكذا مثّل هذا القسم، ثم حكى الخلاف فيمن
عرف به هل يرد حديثه مطلقاً، أو ما لم يصرّح فيه بالاتصال؟ وهو
يقتضي جريانه في ابن عيينة، وهو مردود، فإن ابن عبد البر حكى
عن أئمة الحديث أنهم قالوا: يقبل تدليس ابن عيينة؛ لأنه إذا
وقف أحال على ابن جريج ومعمر ونظرائهما.
وقال الكرابيسي: دلّس ابن عيينة عن مثل معمر ومسعر بن كدام
ومالك بن مغول. وقال الحاكم في سؤالاته للدارقطني: سُئِل عن
تدليس ابن جريج، فقال: يتجنب تدليسه، فإنه وحش التدليس لا يدلس
إلاّ فيما سمعه من مجروح، فأما ابن عيينة فإنه يدلّس عن
الثقات. =
(1/157)
القسمُ الثاني: تدليسُ الشيوخِ، وهوَ أنْ
يرويَ عَنْ شيخٍ حديثاً سَمِعَهُ مِنْهُ، فيُسَمِّيَهُ، أو
يَكْنِيَهُ أو يَنْسُبَهُ، أو يَصِفَهُ بما لا يُعْرَفُ بهِ
كيْ لا (1) يُعرَفُ (2)، مِثالُهُ: ما رُويَ لنا عَنْ أبي بكرِ
بنِ مجاهِدٍ الإمامِ المقرئِ أنَّهُ رَوَى عَنْ أبي بكرٍ عبدِ
اللهِ بنِ أبي داودَ السِّجِسْتانيِّ، فقالَ: حدَّثَنا عبدُ
اللهِ بنُ أبي عبدِ اللهِ، وروى عَنْ أبي بكرٍ محمدِ بنِ
الحسنِ النَّقَّاشِ (3) الْمُفَسِّرِ المُقرئِ فقالَ:
((حدَّثَنا محمدُ بنُ سَنَدٍ، نسبَهُ إلى جدٍّ لهُ)) (4)،
واللهُ أعلمُ.
أمَّا القسمُ الأوَّلُ فمكروهٌ جدّاً، ذمَّهُ أكثَرُ العلماءِ
(5)، وكانَ شُعبةُ مِنْ أشدِّهِم ذَمّاً لهُ، فرُوِّيْنا عَنِ
الشافعيِّ الإمامِ، عنهُ (6) أنَّهُ قالَ: ((التدليسُ أخو
الكَذِبِ)) (7). ورُوِّيْنا
__________
=وقال ابن حبان في ديباجة كتابه الصحيح: وهذا شيء ليس في
الدنيا إلا لسفيان بن عيينة وحده، فإنه كان يدلّس ولا يدلّس
إلا عن ثقة متقن، ولا يكاد يوجد لابن عيينة خبر دلّس فيه إلا
وجد ذلك الخبر بعينه قد تبين سماعه عن ثقة)).
(1) في (جـ): ((لئلاّ)).
(2) قال الزركشي 2/ 76: ((أي: لكونه ضعيفاً أو متأخر الوفاة قد
شارك الراوي عنه جماعة دونه في السماع منه، أو يكون أصغر من
الراوي سنّاً، أو تكون أحاديثه التي عنده كثيرة فلا يحب تكرار
الرواية عنه)). وانظر: محاسن الاصطلاح 167، ونكت ابن حجر 2/
615.
(3) بفتح النون والقاف المشدّدة، هذه النسبة إلى من ينقش
السقوف والحيطان وغيرهما، وكان أبو بكر المذكور في مبدأ أمره
يتعاطى هذه الصنعة فعرف بها، ت (351 هـ).
ترجمته في: تاريخ بغداد 2/ 201، وتاريخ دمشق 52/ 320، ووفيات
الأعيان 4/ 298، وسير أعلام النبلاء 15/ 573.
(4) قال الزركشي 2/ 81: ((يقتضي كراهة ذلك، ولهذا جعله
تدليساً، وحكى ابن الموّاق في " بغية النقاد " خلافاً في نسبة
الرجل إلى جده، واختار التفصيل بين المشهور به فيجوز ذلك،
وإلاَّ فلا؛ لِما فيه من إبهام أمرهم وتعمية طريق معرفتهم)).
(5) قال الزركشي 2/ 81: ((أي: ومنهم من سهله، قال أبو بكر
البزار في مسنده: التدليس ليس بكذب، وإنما هو تحسين لظاهر
الإسناد)).
(6) الضمير في قوله: ((عنه)) يعود على شعبة.
(7) رواه ابن عدي في كامله 1/ 107، والبيهقي في مناقب الشافعي
2/ 35، والخطيب في الكفاية: (508 ت، 355 هـ).
(1/158)
عنهُ أنَّهُ قالَ: ((لأنْ أزنيَ أحبُّ
إليَّ مِنْ أنْ أُدَلِّسَ)) (1)، وهذا مِنْ شُعبَةَ إفراطٌ
محمولٌ على المبالغةِ في الزَّجْرِ عنهُ والتَّنْفِيرِ (2).
ثُمَّ اختلفُوا في قَبولِ روايةِ مَنْ عُرِفَ بهذا التدليسِ
فجعلَهُ فريقٌ مِنْ أهلِ الحديثِ والفقهاءِ مجروحاً بذلكَ،
وقالوا: لا تُقبَلُ روايتُهُ بحالٍ، بَيَّنَ السَّمَاعَ أوْ
لَمْ يُبَيِّنْ (3).
والصحيحُ التفصيلُ: وأنَّ ما رواهُ المدلِّسُ بلفظٍ مُحتَملٍ
لَمْ يُبَيِّنْ فيهِ السماعَ والاتِّصالَ، حُكْمُهُ حُكْمُ
المرسَلِ وأنواعِهِ (4)، وما رواهُ بلفظٍ مُبيِّنٍ للاتِّصالِ
(5)، نحوُ
((سَمِعْتُ، وحدَّثَنا، وأخبَرَنا)) وأشباهِها، فهو مقبولٌ
محتجٌّ بهِ.
وفي " الصحيحينِ " وغيرِهِما مِنَ الكُتُبِ المعتمدةِ مِنْ
حديثِ هذا الضَّرْبِ كثيرٌ جدّاً، كقتادةَ، والأعمشِ،
والسُّفيَانَيْنِ، وهُشَيْمِ (6) بنِ بَشِيْرٍ، وغيرِهِمْ (7).
__________
(1) رواه ابن أبي حاتم في تقدمة الجرح والتعديل 1/ 173، وابن
عدي في الكامل 1/ 107، والخطيب في الكفاية: (508 ت، 356 هـ).
(2) قال البلقيني: ((وهذا الذي قاله شعبة ظاهر، فإن آفة
التدليس لها ضرر كبير في الدين، وهي أضر من أكل الربا، وقد
جاءت أحاديث محتجّ بها تدلّ على أن أكل درهم من رباً أشد من
الزنا ... إلى آخر كلامه. محاسن الاصطلاح: 170، وانظر: النكت
الوفية 142 / أ.
(3) انظر تعليقاً طويلاً مفيداً للزركشي في نكته 2/ 86.
(4) قال الزركشي 2/ 92: ((يستثنى من هذا ما إذا كان المدلِّس
لا يدلِّس إلا عن ثقة، فإنه تقبل روايته وإن لم يُبيِّن
السماع، كسفيان بن عيينة)).
قال ابن حجر 2/ 624: ((وبذلك صرّح أبو الفتح الأزدي، وأشار
إليه الفقيه أبو بكر الصيرفي في " شرح الرسالة ". وجزم بذلك
أبو حاتم بن حبان وأبو عمر بن عبد البر وغيرهما في حق سفيان بن
عيينة)).
(5) في (ب) و (ع): ((الاتصال)).
(6) بالتَّصغيرِ، والده بَشِيْر: بوزن (عَظِيْم). تقريب
التهذيب (7312).
(7) قال الزركشي 2/ 92: ((هكذا ذكره محتجاً به على قبول رواية
المدلس إذا صرّح بالاتصال، وليس هذا من موضع النزاع، قال
النووي في مختصره: ((ما كان في الصحيحين وغيرهما من الكتب
الصحيحة عن المدلسين بـ ((عن)) فمحمول عَلَى ثبوت سماعه من جهة
أخرى)).
وكذا قَالَ الحَافِظ الحلبي في القِدْح المُعَلَّى: ((إن
المعنعنات الَّتِي في الصحيحين منزَّلة مَنْزِلة السماع)).
وتوقف في ذلك من المتأخرين الشيخ صدر الدين بن الوكيل، وقال في
كتابه الإنصاف: ((لعمر الله إن=
(1/159)
__________________________________________________
= في النفس لغصة من استثناء أبي عمرو بن الصلاح وغيره من
المتأخرين عنعنة المدلّسين في الصحيحين من بين سائر معنعنات
المدلسين))، ورد مقالة النووي، وقال: ((وهي دعوى لا تقبل إلا
بدليل لا سيما مع أن كثيراً من الحفّاظ يعلّلون أحاديث وقعت في
الصحيحين أو أحدهما بتدليس رواتها، كما فعلوا في حديث الوليد
بن مسلم في نفي قراءة البسملة في الصلاة وغيره)).
قلت -القائل: الزركشي-: قد أزال الغصة الشيخ الإمام تقي الدين
بن دقيق العيد، فأشار في كلام له إلى استشكال حول رواية المدلس
في الصحيحين وردّ روايته في غيرهما، قال: ((ولابدّ من الثبات
على طريقة واحدة إما القبول أو الردّ، الممكن هنا من الأحوال
الثلاثة: إما أن تردّ الأحاديث من المدلس مطلقاً في الصحيحين
وغيرهما، وإما أن يفرق بين ما في الصحيح من ذلك وما خرج عنه،
فأما الأول فلا سبيل إليه؛ للاستقرار على ترك التعرض لما في
الصحيحين، وإن خالف في ذلك الظاهرية من المغاربة، فإني رأيتهم
يجسرون على أشياء من أحاديث الصحيحين بسبب كلام قيل: في بعض
الرواة، ولا يجعلون راويها في حمى من تخريج صاحب الصحيح لهم.
وأما الثاني: ففيه خروج عن المذهب المشهور في أن رواية المدلس
محكوم عليها بالانقطاع حتّى يتبيّن السماع.
وأما الثالث: وهو التفصيل بين ما في الصحيحين من ذلك وبين غيره
فلا يظهر فيه وجه صحيح في
الفرق، وغاية ما يوجه به أحد أمرين:
أحدهما: أن يُدّعى أن تلك الأحاديث عرف صاحبا الصحيح صحة
السماع فيها، وهذا إحالة على جهالة وإثبات للأمر بمجرد
الاحتمال، وحكم على صاحب الصحيح بأنه يرى هذا المذهب أعني: أن
رواية المدلس محمولة على الانقطاع، وإلاّ فيجوز أن يرى أنها
محمولة على السماع حتّى يظهر الانقطاع، وإذا جاز وجاز فليس لنا
الحكم عليه بأحد الجائزين مع الاحتمال.
والثاني: أن يدعى أن الإجماع على صحة ما في الكتابين دليل على
وقوع السماع في هذه الأحاديث وإلا لكانت الأمة مجمعة على
الخطأ، وهو ممتنع، وهذا يحتاج إلى إثبات الإجماع الذي يمتنع أن
يقع في نفس الأمر خلاف مقتضاه، وهذا فيه عسر، ونحن ما ادّعيناه
وإنما ادّعينا أن الظنّ الثابت سبب الإطباق على التصحيح لما في
الكتابين أقوى من الظن المقابل له، ويلزم مَن سلك هذه الطريق
ألا يستدل بما جاء في رواية المدلّس من غير الصحيح، ولا يقول:
((هذا شرط مسلم))، فلنحتج به؛ لأن الإجماع الذي يُدّعى ليس
موجوداً فيما لم خرّج في غير هذا الطريق، أعني: طريق القدح
بسبب التدليس)).
قال ابن حجر 2/ 636: ((وفي أسئلة الإمام تقي الدين السبكي
للحافظ أبي الحجاج المزي: ((وسألته عن ما وقع في الصحيحين من
حديث المدلّس معنعناً هل تقول: أنهما اطلعا على اتصالها؟ فقال:
كذا يقولون وما فيه إلا تحسين الظن بهما، وإلاّ ففيهما أحاديث
من رواية المدلّسين ما توجد من غير تلك الطريق التي في
الصحيح)).
قلت: - القائل ابن حجر -: وليست الأحاديث التي في الصحيحين
بالعنعنة عن المدلّسين كلها في الاحتجاج، فيحمل كلامهم هنا على
ما كان منها في الاحتجاج فقط. أما ما كان في المتابعات =
(1/160)
وهذا؛ لأنَّ التدليسَ ليسَ كَذِباً،
وإنَّما هوَ ضَرْبٌ مِنَ الإيْهامِ بلفظٍ مُحْتَملٍ،
والْحُكْمُ بأنَّهُ لا يُقْبَلُ مِنَ المدلِّسِ حَتَّى
يُبَيِّنَ، قدْ أجراهُ الشافِعِيُّ - رضي الله عنه - فيمَنْ
عَرَفناهُ دلَّسَ مرَّةً (1)، واللهُ أعلمُ.
وأمَّا القسمُ الثاني فأمرُهُ أخفُّ، وفيهِ تضْييعٌ
للمَرْوِيِّ عنهُ، وتَوعِيرٌ لطريقِ معرفِتِهِ على مَنْ يطلُبُ
الوقوفَ على حالِهِ وأهليَّتِهِ (2). ويختلِفُ الحالُ في
كراهَةِ ذلكَ بحسَبِ الغرضِ الحاملِ عليهِ، فقدْ يحمِلُهُ على
ذلكَ كونُ شيخِهِ الذي غَيَّرَ سِمَتَهُ غيرَ ثقةٍ (3)، أو
__________
= فيحتمل أن يكون حصل التسامح في تخريجها كغيرها. وكذلك
المدلّسون الذين خرج حديثهم في الصحيحين ليسوا في مرتبة واحدة
في ذلك بل هم على مراتب)).
وقال ابن الوزير: ((ويحتمل أنهما لم يعرفا سماع ذلك المدلس
الذي رويا عنه، لكن عرفا لحديثه من التوابع ما يدلّ على صحته،
ومما لو ذكراه لطال، فاختارا إسناد الحديث إلى المدلس لجلالته
وأمانته وانتفاء تهمة الضعف عن حديثه، ولم يكن في المتابعين
الثقات الذين تابعوا المدلس من يماثله ولا يقاربه فضلاً
وشهرة)).
قلنا: هذا كله تنظير بحسب المجوزات العقلية وعدمها، أما من
مارس هذا الفن وصار له ذوق فيه، علم صحة ما رواه الشيخان عن
المدلسين معنعنة، وأن ذلك راجع إلى جودة انتقائها، ولعلّنا
نفرد بحثاً مستقلاً في ذلك - إن شاء الله تعالى -.
(1) ((قلت: يشير إلى أن العادة في التدليس يثبت بمرة؛ لأنه نوع
جرح. وقد رأيت نص الشافعي في الرسالة بذلك، فقال: ((ومن عرفناه
دلّس مرة فقد أبان لنا عورته في روايته، وليست تلك العورة بكذب
فيرد بها حديثه، ولا نصيحة في الصدق فنقبل منه ما قبلناه من
أهل النصيحة والصدق، فقلنا: لا يقبل من مدلّس حديثاً حتى يقول
فيه: ((حدَّثَني))، و ((أخبرني)).
ومعناه: أنه إذا قال المدلس بلفظ محتمل السماع وعدمه لا يقبل
منه حتّى يبين أنه سمعه منه أو سمعه ممّن سمعه منه، وقد حكم
البيهقي بعدم قبول قول من دلّس مرة واحدة ... . ثمَّ إذا بيّن
أنه سمعه ممّن أسند الخبر إليه قبل، وإن لم يبين أنه سمعه
ممَّن سمعه منه فقد تأكّد فيه شيء فيه الخلاف)). قاله بحروفه
الزركشي 2/ 97 - 98.
(2) ((توعير الطريق قد يكون لامتحان الأذهان في استخراج
المدلسات واختبار الحفظ، وقد يكون لغير
ذلك، فتحصل المفسدة)). المحاسن: 171، وانظر: الاقتراح 214 -
215، ونكت الزركشي 2/ 98.
(3) كما فعل ذلك عطية العوفي إذ روى عن الكلبي -وهو ضعيف-
كنَّاه أبا سعيد - وهو مشهور بأبي النضر -، يوهم أنه يروي عن
أبي سعيد الخدري. انظر: الكفاية (521 ت، 366 هـ).
(1/161)
كونُهُ متأخِّرَ الوفاةِ قدْ شاركَهُ في
السماعِ منهُ جماعةٌ دُونَهُ، أو كونُهُ أصغرَ سِنّاً مِنَ
الراوي عَنْهُ، أو كونُهُ كثيرَ الروايةِ عنهُ، فلا يُحِبُّ
الإكثارَ مِنْ ذِكْرِ شَخْصٍ واحدٍ على صورةٍ واحدةٍ (1).
وتَسَمَّحَ بذلكَ جماعةٌ مِنَ الرواةِ المصنِّفينَ، منهم:
الخطيبُ أبو بكرٍ، فقدْ كانَ لَهِجاً (2) بهِ في تصانِيْفِهِ
(3)، واللهُ أعلمُ.
__________
(1) الأسباب الحاملة للرواة على التدليس متعددة، ولكنها تختلف
بالنسبة للثقات عمّا هي عليه بالنسبة للضعفاء، فأمّا الأسباب
الحاملة للثقات على التدليس فهي:
1 - الاختصار.
2 - العلو بذكر ذلك الشيخ دون من دونه؛ لصحة روايته وجزمه
بتحديث الثقات ذلك عنه.
3 - وقوع منافرة بين الراوي والمروي عنه.
وأما الأسباب الحاملة للضعفاء على التدليس فهي:
1 - تعمية الأمر على الباحث، كون المروي عنه ضعيفاً أو
مجهولاً، فيتركون ذكره ويذكرون مَنْ فوقه.
2 - تعمية الأمر على الباحث، كون المروي عنه ضعيفاً مشهور
الضعف وله أسماء ونعوت متعددة، فيسمّوه بغير ما شهر به.
3 - تعمية الأمر على الباحث، كون المروي عنه ضعيفاً قد اشترك
مع آخر مقبول في الطبقة والكنية ورواية الراوي عن الاثنين.
انظر: نكت الزركشي 2/ 130 - 132.
(2) لَهِجَ بالأمرِ لَهَجاً: أُولِعَ بهِ فثابر عليه واعتاده،
فهو لَهِج ولاهِج. ويقال: فلان مُلْهَجٌ بهذا الأمر، أي:
مُولَعٌ به، واللَّهَجُ بالشيءِ: الولوعُ به. انظر: لسان العرب
2/ 169، والمعجم الوسيط 2/ 841.
(3) قال ابن الصلاح ص: ((والخطيب الحافظ يروي في كتبه عن أبي
القاسم الأزهري، وعن عبيد الله بن أبي الفتح الفارسي، وعن عبيد
الله بن أحمد بن عثمان الصيرفي، والجميع شخص واحد من مشايخه.
وكذلك يروي عن الحسن بن محمد الخلال، وعن الحسن بن أبي طالب،
وعن أبي محمد الخلال، والجميع عبارة عن واحد. ويروي أيضاً عن
أبي القاسم التنوخي، وعن علي بن المحسن، وعن القاضي أبي القاسم
على بن المحسن التنوخي، وعن علي بن أبي علي المعدل، والجميع
شخص واحد، وله من ذلك الكثير، والله أعلم)).
(1/162)
النَّوْعُ الثَّالِثَ عَشَرَ
مَعْرِفَةُ الشَّاذِّ (1)
رُوِّيْنا عَنْ يونُسَ بنِ عبدِ الأعلى قالَ: قالَ ليَ
الشافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ -: ((ليسَ (2) الشاذُّ (3) مِنَ
الحديثِ أنْ يروِيَ الثِّقَةُ ما لا يرويَ غيرُهُ، إنَّما
الشاذُّ: أنْ يرويَ الثِّقَةُ حديثاً يخالِفُ ما روَى الناسُ))
(4).
وحَكَى الحافِظُ أبو يَعْلَى الخليليُّ القَزْوِينيُّ نحوَ هذا
عَنِ الشافعيِّ وجماعةٍ مِنْ أهلِ الحِجازِ (5). ثُمَّ قالَ:
((الذي عليهِ حُفَّاظُ الحديثِ أنَّ الشاذَّ ما ليسَ لهُ إلاَّ
إسنادٌ واحدٌ يَشذُّ بذلكَ شيخٌ، ثقةً كانَ أو غيرَ ثقةٍ، فما
كانَ عَنْ غيرِ ثقةٍ فمتروكٌ لا يُقبَلُ، وما كانَ عَنْ ثقةٍ
يُتَوَقَّفُ فيهِ ولا يُحْتَجُّ بهِ)) (6).
__________
(1) انظر في الشاذ:
معرفة علوم الحديث: 119، وجامع الأصول 1/ 177، والإرشاد 1/
213، والتقريب: 67، والاقتراح: 197، والمنهل الروي: 50،
والخلاصة: 69، والموقظة: 42، ونظم الفرائد: 361، واختصار علوم
الحديث: 56، والمقنع 1/ 165، وشرح التبصرة والتذكرة 1/ 320،
ونزهة النظر: 97، والمختصر: 124، وفتح المغيث 1/ 185، وألفية
السيوطي: 39، وشرح السيوطي على ألفية العراقي: 177، وفتح
الباقي 1/ 192، وتوضيح الأفكار 1/ 377، وظفر الأماني: 356،
وقواعد التحديث: 130.
(2) في (جـ): ((وليس)).
(3) الشاذ لغة: المنفرد، يقال: شذَّ يَشُذُّ ويَشِذُّ - بضم
الشين وكسرها - أي: انفرد عن الجمهور. وشذَّ الرجلُ: إذا انفرد
عن أصحابه. وكذلك كلّ شيء منفرد فهو شاذٌّ. ومنه: هو شاذٌّ من
القياس، وهذا مما يشذُّ عن الأصول، وكلمة شاذَّة ... وهكذا.
انظر: الصحاح 2/ 64، وتاج العروس 9/ 423.
(4) رواه عن الشافعي: الحاكم في معرفة علوم الحديث: 119،
والخليلي في الإرشاد 1/ 176، والبيهقي في معرفة السنن والآثار
1/ 81 - 82، والخطيب في الكفاية: (223 ت، 141 هـ).
(5) الإرشاد 1/ 176، وانظر: نكت الزركشي 2/ 138.
(6) الإرشاد 1/ 176 - 177.
(1/163)
وذَكَرَ الحاكِمُ أبو عبدِ اللهِ الحافِظُ
أنَّ الشاذَّ هوَ الحديثُ الذي ينفَرِدُ (1) بهِ ثقةٌ مِنَ
الثِّقاتِ وليسَ لهُ أصلٌ بمُتابِعٍ لذلكَ الثقةِ (2). وذَكَرَ
أنَّهُ يُغَايرُ المعلَّلَ مِنْ حيثُ إنَّ المعلَّلَ وُقِفَ
على عِلَّتِهِ الدالَّةِ على جِهَةِ الوَهَمِ فيهِ، والشاذُّ
لَمْ يُوقَفْ فيهِ عَلَى عِلَّتِهِ كذلكَ.
قُلْتُ: أمَّا ما حَكَمَ الشافِعيُّ عليهِ بالشذوذِ فلا إشكالَ
(3) في أنَّهُ شاذٌّ غيرُ مقبولٍ، وأمَّا ما حكيناهُ عَنْ
غَيْرِهِ فَيُشْكِلُ بما ينفَرِدُ (4) بهِ العدْلُ الحافظُ
الضابطُ، كحديثِ:
((إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ)) (5)، فإنَّهُ حديثٌ فَرْدٌ،
تفرَّدَ بهِ: عُمَرُ - رضي الله عنه - عَنْ رسولِ اللهِ - صلى
الله عليه وسلم - ثُمَّ تَفرَّدَ بهِ عَنْ عُمَرَ: عَلْقمةُ
بنُ وقَّاصٍ، ثُمَّ عَنْ عَلْقمةَ: محمدُ بنُ إبراهيمَ، ثُمَّ
عنهُ: يحيى بنُ سعيدٍ على ما هوَ الصحيحُ عِندَ أهلِ الحديثِ
(6).
__________
(1) في (أ) و (ب): ((يتفرد)).
(2) معرفة علوم الحديث: 119.
(3) ((فيه نظر لِمَا أبديته آخراً، وعلى المصنّف إشكال أشد منه
وذلك أنه يشترط في الصحيح أن لا يكون شاذّاً كما تقدّم، ويقول:
إنه لو تعارض الوصل والإرسال قُدِّم الوصل مطلقاً سواء كان
رواة الإرسال أكثر أو أقل، حفظ أم لا. ويختار في تفسير الشاذ
أنه الذي يخالف راويه من هو أرجح منه. وإذا كان راوي الإرسال
أحفظ ممن روى الوصل مع اشتراكهما في الثقة، فقد ثبت كون الوصل
شاذاً، فكيف يحكم له بالصحة مع شرطه في الصحة أن لا يكون
شاذاً؟ هذا في غاية الإشكال. ويمكن أن يجاب عنه بأن اشتراط نفي
الشذوذ في شرط الصحة إنما يقوله المحدِّثون، وهم القائلون
بترجيح رواية الأحفظ ... الخ)). نكت ابن حجر 2/ 653 - 654.
(4) في (ع) والتقييد: ((يتفرد)).
(5) أخرجه الحميدي (28)، وأحمد 1/ 25، 43، والبخاري 1/ 2 (1)،
و 1/ 21 (54)، و3/ 190 (2529)، و 5/ 72 (3898) و 7/ 4 (5070)،
و8/ 175 (6689)، و9/ 29
(6953)، ومسلم 6/ 48 (1907)، وأبو داود (2201)، وابن ماجه
(4227)، والترمذي (1647)، والنسائي 1/ 58 و 6/ 158 و 7/ 13 وفي
الكبرى (78) و (4736)
و (5630)، وابن خزيمة (142) و (143) و (455).
(6) اعترض عليه بأمرين:
أحدهما: أن الخليلي والحاكم إنما ذكرا تفرد الثقة فلا يرد
عليهما تفرد الحافظ لما بينهما من الفرقان.
والأمر الثاني: أن حديث النيّة لَم ينفرد عمر به، بل رواه أبو
سعيد الخدري وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما ذكره
الدارقطني وغيره. انتهى ما اعترض به عليه. =
(1/164)
وأوضَحُ مِنْ ذلكَ في ذلكَ: حديثُ عبدِ
اللهِ بنِ دينارٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ: ((أنَّ النبيَّ - صلى
الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ بَيْعِ الوَلاءِ وهِبَتِهِ (1))
(2)، تَفَرَّدَ بهِ عبدُ اللهِ بنُ دينارٍ (3). وحديثُ مالكٍ،
عَنِ الزهريِّ، عَنْ أنسٍ: ((أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه
وسلم - دَخَلَ مَكَّةَ وعلى رأسِهِ المِغْفَرُ (4)) (5)،
تَفَرَّدَ بهِ
__________
= والجواب عن الأول: أن الحاكم ذكر تفرد مطلق الثقة، والخليلي
إنما ذكر مطلق الراوي، فيرد على إطلاقهما تفرد العدل الحافظ،
ولكن الخليلي يجعل تفرد الراوي الثقة شاذاً صحيحاً، وتفرد
الراوي غير الثقة شاذاً ضعيفاً، والحاكم ذكر تفرد مطلق الثقة
فيدخل فيه تفرد الثقة الحافظ، فلذلك استشكله المصنف.
وعن الثاني: أنه لم يصح من حديث أبي سعيد ولا غيره سوى عمر،
وقد أشار المصنف إلى أنه قد قيل: إن له غير طريق عمر بقوله:
((على ما هو الصحيح عند أهل الحديث))، فلم يبقَ للاعتراض عليه
وجه ... الخ كلامه)). التقييد والإيضاح: 101. وانظر: نكت
الزركشي 2/ 140، ومحاسن الاصطلاح: 174.
(1) في (جـ): ((أوهبته)).
(2) أخرجه: مالك (2268)، والحميدي (639)، وأحمد 2/ 9 و 79 و
107، والدارمي (2575)
و (3160) و (3161)، والبخاري 3/ 192 (2535)، و 8/ 192 (6756)،
ومسلم
4/ 216 (1506)، وأبو داود (2919)، وابن ماجه (2747)، والترمذي
(1236)
و (2126)، والنسائي 7/ 306، وفي الكبرى (6253) و (6254) و
(6255)، والبيهقي 10/ 292، وانظر: التمهيد 16/ 333.
(3) قال مسلم عقب تخريجه: ((الناس كلهم عيال على عبد الله بن
دينار في هذا الحديث)). وقال الترمذي عقب (1236): ((هذا حديث
حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن دينار، عن ابن
عمر)).
(4) في (ع) والتقييد: ((مغفر)). والمِغْفَر - كَمِنْبَر -
زَرَدٌ مِنَ الدرعِ ينسج على قدر الرأس، يلبس تحت
القَلَنْسُوَةِ. انظر: التاج 13/ 248.
(5) رواه مالك في الموطأ (1271)، ومن طريقه أخرجه:
الحميدي (1212)، وابن أبي شيبة 14/ 492، وأحمد 3/ 109 و 164
و180 و 224 و 231 و232 و 240، والدارمي (1944) و (2460)،
والبخاري 3/ 21 (1846) و 4/ 82 (3044) و 5/ 188 (4286)، ومسلم
4/ 111 (1357)، وأبو داود (2685)، وابن ماجه (2805)، والترمذي
(1693)، وفي الشمائل (112)، والنسائي 5/ 200 و 201، وابن خزيمة
(3063)، والطحاوي في شرح المشكل (4519) و (4520)، وفي شرح
المعاني 2/ 258، وأبو يعلى (3539) و (3540) و (3542)، وابن
حبان (3719) و (3721) و (3805)، والبيهقي 7/ 59 و 8/ 205،
والبغوي (2006).
(1/165)
مالكٌ عنِ الزهريِّ (1). فكلُّ هذهِ
مُخَرَّجَةٌ في الصحيحينِ معَ أنَّهُ ليسَ لها إلاَّ إسنادٌ
واحدٌ تَفَرَّدَ بهِ ثقةٌ. وفي غرائبِ الصحيحِ أشباهٌ لذلكَ
غيرُ قليلةٍ. وقد قالَ مسلمُ بنُ الحجَّاجِ: ((للزهريِّ نحوُ
(2) تسعينَ حرفاً يرويهِ (3) عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه
وسلم - لا يُشاركُهُ فيها أحدٌ، بأسانيدَ جِيَادٍ)) (4)،
واللهُ أعلمُ. فهذا الذي ذكرناهُ وغيرُهُ مِنْ مذاهِبِ أئمَّةِ
الحديثِ يُبَيِّنُ لكَ أنَّهُ ليسَ الأمرُ في ذلكَ على
الإطلاقِ الذي أتى بهِ الخليليُّ والحاكمُ (5)، بلِ الأمرُ في
ذلكَ على تفصيلِ نُبَيِّنَهُ فنقولُ:
__________
(1) قال الترمذي عقب تخريجه: ((لا نعرف كبير أحد رواه غير مالك
عن الزهري)).
قال ابن عبد البر في التمهيد 6/ 159 - 160: ((هذا حديث انفرد
به مالك - رحمه الله - لا يحفظ عن غيره، ولم يروه أحد عن
الزهري سواه من طريق يصح ... ولا يثبت أهل العلم بالنقل فيه
إسناداً غير حديث مالك)).
قال العراقي 105: ((قد ورد من عدّة طرق غير طريق مالك من رواية
ابن أخي الزهري وأبي أويس
عبد الله بن عبد الله بن أبي عامر ومعمر والأوزاعي كلهم عن
الزهري ... )).
وقد تتبع ابن حجر في نكته 2/ 656 - 670، هذه الطرق فأوصلها إلى
ثلاثة عشر طريقاً عن الزهري رويت عن غير مالك وأشار إليها ابن
حجر في النكت الظراف 1/ 389، ولكن هذه الطرق لا يصح منها شيء،
كما بينه الدكتور بشار عواد في التعليق على تحفة الأشراف
(1527). وانظر: النكت الوفية 148 / ب.
(2) في (ع) فقط هنا زيادة: ((من))، وليست في شيء من النسخ
المعتمدة؛ لكنها مثبتة في المطبوع من صحيح مسلم.
(3) في (أ) و (ب): ((يرويه كذا)).
(4) صحيح مسلم 5/ 82، عقب (1647).
وقال الحاكم في معرفة علوم الحديث: 160: ((تفرّد الزهري عن
نيّف وعشرين رجلاً من التابعين لم يروِ عنهم غيره)).
(5) ((فيه نظر؛ لأن الخليلي ما حكم بشيء من جهة نفسه، بل ذكر
قول الشافعي فقط. وقوله: ((إن مراد الشافعي حكم الشاذ لا
تعريفه، وأما الحاكم فقد عرّف الشاذ، والتعريف لا يعوّل عليه
إلا من جهة الجمع أو المنع)).
فيقال: هذا غير جامع أو غير مانع؛ فإنه قال: إنه غير مانع
لدخول الحديث الذي انفرد به الآحاد مع كونه ورد في الصحيح،
فللحاكم أن يقول: لا يعتبر في ورود الحديث المنفرد في الصحيح؛
لأنه لم يحكم بصحته ولا بضعفه، بل بشذوذه، ولا يلزم من ذلك
ضعفه؛ لأن التفرد ربما ينجبر بما يلحقه بالصحيح أو الحسن)).
نكت الزركشي 2/ 153.
(1/166)
إذا انفرَدَ الراوي بشيءٍ نُظِرَ فِيْهِ،
فإنْ كانَ ما انفَرَدَ بهِ مخالفاً لِمَا رواهُ مَنْ هو أولى
منهُ بالحفظِ لذلكَ وأضبطُ كانَ ما انفردَ بهِ شاذّاً مردوداً،
وإنْ لَمْ تكُنْ (1) فيهِ مخالفةٌ لِمَا رواهُ غيرُهُ، وإنَّما
هوَ أمرٌ رواهُ هوَ وَلَمْ يَرْوِهِ غيرُهُ، فَيُنْظَرُ في هذا
الراوي المنفردِ، فإنْ كانَ عدلاً حافظاً موثوقاً بإتقانِهِ
وضبطِهِ؛ قُبِلَ ما انفردَ بهِ ولَمْ يَقْدَحِ الانفرادُ فيهِ،
كما فيما سبقَ مِنَ الأمثلةِ، وإنْ لَمْ يكنْ ممَّنْ يُوثَقُ
بحفظِهِ وإتقانِهِ لذلكَ الذي انفردَ بهِ؛ كانَ انفرادُهُ (2)
خارماً لهُ مُزَحْزِحاً لهُ عَنْ حَيِّزِ الصحيحِ.
ثُمَّ هوَ بعدَ ذلكَ دائرٌ بينَ مراتبَ متفاوتَةٍ (3) بحسبِ
الحالِ فيهِ: فإنْ كانَ المنفردُ بهِ غيرَ بعيدٍ مِنْ درجَةِ
الحافظِ الضابطِ المقبولِ تفرُّدُهُ اسْتَحْسَنا حديثَهُ ذلكَ
ولَمْ نَحطَّهُ (4) إلى قبيلِ الحديثِ الضعيفِ، وإنْ كانَ
بعيداً مِنْ ذلكَ رَدَدْنا ما انفرَدَ بهِ، وكانَ مِنْ قبيلِ
الشَّاذِّ المنكرِ (5).
__________
(1) في (ب) و (م): ((يكن)).
(2) في (أ) و (ب): ((انفراده به)).
(3) في (جـ): ((متقاربة)).
(4) في (ب): ((ينحط)).
(5) ولخطورة هذه المسألة وأهميتها في ميزان النقد الحديثي
رأينا أنْ نُفصِّلَ في ذلك فنقول: لا يشترط في الخبر التعدّد
بل خبر الواحد يكفي إذا استوفى شروطه، وهو الذي عليه جماهير
المسلمين من صدر الإسلام وحتى يوم الناس هذا، وقد شذّ بعضهم
فاشترط العدد، وقد أجاب الحافظ ابن حجر عن شبه هذا المذهب في
النكت 1/ 243 - 247. فالجماهير من أهل العلم لا يشترطون العدد
في الرواية بل يعمل بالحديث إن كان راويه عدلاً ضابطاً، وكان
السند متصلاً، ولَم يكن في متن الحديث شذوذ أو علّة؛ لذا قَدْ
تواترت النصوص عن الأئمة بعدم وجود ضرر في تفرد الرَّاوِي.
(انظر عَلَى سبيل المثال: ميزان الاعتدال 1/ 504 (1894) ونصب
الراية 3/ 74، وهدي الساري ص 394، والفتح 5/ 11 و 5/ 407
والتنكيل 1/ 104، وأثر علل الْحَدِيْث ص 131)، وهذا إذا كَانَ
الرَّاوِي مبرزاً في الحفظ أما إذا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، أو
كَانَ قليل الطلب، أو إذا رَوَى عن المشهورين ما لا يعرفه
ملازموهم فإن تفرّده عندئذ يوجب النظر والتأني. ونحن حينما
ننظر في كتب العلل والتخريج نجد الأئمة النقّاد كثيراً ما
يعلون أحاديث الثقات بالتفرد والتفرد بحد ذاته لَيْسَ علّة
لكنه يكشف عن العلّة بَلْ قَدْ يَكُوْن أحياناً من أسباب
العلة. =
(1/167)
فخَرَجَ مِنْ ذلكَ أنَّ الشاذَّ المردودَ
قسمانِ:
أحدُهُما: الحديثُ (1) الفردُ المخالفُ.
والثاني: الفردُ الذي ليسَ في راويهِ (2) مِنَ الثقةِ والضبطِ
ما يقعُ جابراً لِمَا يوجبُهُ التفرُّدُ والشذوذُ مِنَ
النَّكارةِ والضعفِ، واللهُ أعلمُ.
__________
= فالتفرد إذن من المسائل الخطيرة المهمّة وأغمضها إذ تتميز
بدورها الفعّال في إلقاء الضوء على ما يكمن في أعماق الرواية
من علّة ووهم، ولأهمية التفرد في النقد والتعليل نجد المحدّثين
قد أفردوا هذا النوع بالتصنيف بمؤلفات خاصّة. فالتفرد لا يأخذ
ضابطاً لردِّ روايات الثقات بل له أحوال مختلفة حتى رواية
الضعيف لا يردّ ما ينفرد به مطلقاً، بل الجهابذة الفهماء من
الأولين يستخرجون منه ما صحّ من حديثه وقد روى الشيخان عمّن في
حفظه شيء لما علما أنّ هذا من صحيح حديث الراوي ومثل هذا لا
يستطيعه كلُّ أحد. والتفرد إذا كان بالطبقات المتقدّمة كطبقة
الصحابة فإنه لا يضرّ، وكذلك الحال في طبقة كبار التابعين،
وذلك إذا كَانَ المتفرد عدلاً ضابطاً، أما إذا كان التفرد في
الطبقات المتأخّرة التي من شأنها التعدد والشهرة لا سيما إذا
كان عن الرواة المكثرين الذين يكثر تلامذتهم وينقل أحاديثهم
جماعة، فذلك أمر يأخذه النقاد بعين الاعتبار فينظرون علاقة
المتفرد بالراوي الذي تفرّد عنه، وكيف كانت ملازمته له، وكيف
كان يتلقى منه الأحاديث عموماً، وهذا الحديث الذي تفرد به
خصوصاً، وحالة ضبطه لما يرويه عامّة وهذا الحديث خاصة ثم الحكم
عليه بعد ذلك بحسب مقتضى نظرهم، ولم يكونوا يطلقون فيه حكماً
مطرّداً بالقبول إذا كان ثقة أو بالردّ إذا كان ضعيفاً، وإنّما
يخضع حكمهم عليه لمنهج علمي دقيق يطبقه حذاق النقاد أصحاب
البصيرة والخبرة التامّة بصناعة الحديث؛ وذلك لأنّ الثقة يختلف
حاله في الضبط باختلاف الأحوال والأماكن والشيوخ لخلل يطرأ في
كيفية التلقي للأحاديث، أو لعدم توافر الوسائل التي تمكّنه من
ضبط ما سمعه من بعض شيوخه. (وانظر: أثر علل الحديث ص 131 -
137). وراجع بلا بدّ ما دبّجه يراع الدكتور حمزة المليباري -
رعاه الله - في كتابه القيّم " الموازنة بين المتقدّمين
والمتأخّرين في تصحيح الأحاديث وتعليلها ": 15 - 32.
قال ابن حجر 2/ 673: ((هذا يعطي أن الشاذ والمنكر عنده - يعني:
ابن الصلاح - مترادفان. والتحقيق خلاف ذلك على ما سنبينه
بعد)).
(1) ساقطة من (جـ).
(2) في (أ): ((رواته)).
(1/168)
|