مقدمة ابن الصلاح معرفة أنواع علوم الحديث ت فحل

النَّوعُ الرَّابِعَ عَشَرَ
مَعْرِفَةُ الْمُنْكَرِ مِنَ الْحَدِيْثِ (1)
بَلَغَنا عَنْ أبي بكرٍ أحمدَ بنِ هارونَ البِرْديجيِّ الحافِظِ أنَّهُ: الحديثُ الذي ينفردُ بهِ الرجلُ ولا يُعْرَفُ مَتْنُهُ مِنْ غيرِ روايتِهِ، لا مِنَ الوجهِ الذي رواهُ منهُ، ولا مِنْ وجهٍ آخرَ (2). فأطلقَ البِرْديجيُّ ذلكَ ولَمْ يُفَصِّلْ.
__________
(1) ((قد نوزع في إفراده بنوعٍ، وكلامهم يقتضي أنه: الحديث الذي انفرد به الراوي مخالفاً لِمَا رواهُ مَنْ هو أولى منه بالحفظ والإتقان، أو انفرد به من غير مخالفة لِمَا رواه أحد، لكن هذا التفرد نازل عن درجة الحافظ الضابط.
يعرف من ذلك أن المنكر من أقسام الشاذّ فلم يحتج لإفراده)). نكت الزركشي 2/ 155.
وللدكتور حمزة المليباري في كتابه "نظرات جديدة في علوم الحديث": 31، رأي آخر في المنكر، فقال: ((وكذلك مصطلح ((المنكر))، فإنه عند المتأخرين ما رواه الضعيف مخالفاً للثقات، غير أن المتقدمين لم يتقيّدوا بذلك، وإنما عندهم كل حديث لم يعرف عن مصدره: ثقة كان راويه أم ضعيفاً، خالف غيره أم تفرد. وهناك في كتب العلل والضعفاء أمثلة كثيرة توضح ذلك، وقد ذكرت بعضها في كتابي
" الحديث المعلول: قواعد وضوابط " ص66 - ص77. فالمنكر في لغة المتقدمين أعمّ منه عند المتأخرين، وهو أقرب إلى معناه اللغوي، فإن المنكر لغة: نَكِرَ الأمرَ نكيراً وأنكره إنكاراً ونُكْراً، معناه: جهله. وجاء إطلاقه على هذا المعنى في مواضع من القرآن الكريم، كقوله تعالى: {وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوْسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُوْنَ} (يوسف: 58)، وقوله تعالى: {يَعْرِفُوْنَ نِعْمَةَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُوْنَهَا} (النحل: 83). وعلى هذا فإن المتأخرين خالفوا المتقدمين في مصطلح ((المنكر)) بتضييق ما وسعوا فيه)).
وانظر في المنكر:
الإرشاد 1/ 219، والتقريب: 69، والاقتراح: 198، والمنهل الروي: 51، والخلاصة: 70، والموقظة: 42، واختصار علوم الحديث: 58، والمقنع 1/ 179، وشرح التبصرة والتذكرة 1/ 329، ونزهة النظر: 98، والمختصر: 125، وفتح المغيث 1/ 190، وألفية السيوطي: 39 وشرح السيوطي على ألفية العراقي: 179، وفتح الباقي 1/ 197، وتوضيح الأفكار 2/ 3، وظفر الأماني: 356، وقواعد التحديث: 131، والحديث المعلول قواعد وضوابط: 66 - 77.
(2) ((هذا لا يظهر فيه فرق بينه وبين ما سبق في أحد نوعي الشاذ، ومن تأمل كلام الأقدمين من أهل الحديث وجدهم إنما يطلقون النكارة على الحديث الذي يخالف رواية الحفاظ المتقنين.
قال مسلم في مقدمة كتابه: ((وعلامة المنكر في حديث المحدث إذا ما عرضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضا خالفت روايته روايتهم أو لم تكد توافقها)). انتهى. صحيح مسلم 1/ 5.
وكتاب الحافظ أبي أحمد بن عدي أصل في معرفة المنكرات من الأحاديث)). نكت الزركشي2/ 156 - 157.

(1/169)


وإطلاقُ الحكمِ على التفرُّدِ بالرَّدِّ أو النكارةِ أو الشذوذِ، موجودٌ في كلامِ كثيرٍ مِنْ أهلِ الحديثِ (1).
والصوابُ فيهِ التَّفْصيلُ الذي بيَّنَّاهُ آنِفاً في شرحِ الشاذِّ. وعندَ هذا نقولُ: المنكرُ ينقَسِمُ قسمينِ (2) على ما ذكرناهُ في الشاذِّ فإنَّهُ بمعناهُ (3).
مِثَالُ الأوَّلِ - وهوَ المنفردُ المخالِفُ لِمَا رواهُ الثِّقَاتُ -: روايةُ مالكٍ عنِ الزهريِّ، عنْ عليِّ بنِ حسينٍ، عَنْ عُمَرَ بنِ عُثمانَ، عَنْ أُسَامةَ بنِ زيدٍ، عَنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: ((لا يَرِثُ المسلمُ الكافِرَ، ولا الكافِرُ المسلِمَ)) (4)، فخالفَ مالكٌ غيرَهُ مِنَ الثِّقاتِ في
__________
(1) ((وهذا مما ينبغي التيقظ له، فقد أطلق الإمام أحمد والنسائي وغير واحد من النقاد لفظ ((المنكر)) على مجرد التفرد؛ لكن حيث لا يكون المتفرد في وزن مَن يحكم لحديثه بالصحة بغير عاضد يعضده)). من إفادات ابن حجر في نكته 2/ 674.
(2) في (أ): ((إلى قسمين)).
(3) قال ابن حجر في النزهة: 99: ((وقد غَفَل مَنْ سوَّى بينهما)). قال المحقّق: ((يشير بذلك إلى ابن الصلاح ومَن تابعه)). وقال ابن الوزير - معقباً على ابن الصلاح في تسويته بينهما -: ((كان يليق أن لا يجعل نوعاً وحده)).
قلنا: وهذا تعقب مهم متجه؛ لأنهما لما كانا متماثلين في حقيقتهما عند ابن الصلاح ومن تبعه، كان الأولى دمجهما في مكان واحد، كما فعل الطيبي في خلاصته: 69.
(4) الموطّأ (1475): ((رِوَايَة الليثي)). وَقَدْ أخرجه عن مالك أبو مصعب الزهري (3061)، وعبد الله بن مسلمة القعنبي عِنْدَ الجوهري (210)، والمزي في تهذيب الكمال 22/ 155، وعبد الله بن وهب
عند الجوهري (210)، والطحاوي في شرح المعاني 3/ 265، ومحمد بن الحسن (728)، ومصعب بن عبد الله بن الزبير عند ابن عبد البرِّ في التمهيد 9/ 162، وقد رواه عن الزهري غير مالك جماعة منهم:
1 - سفيان بن عيينة عند الحميدي (541)، وأحمد 5/ 200، والدارمي (3005) ومسلم 5/ 59 (1614)، وأبو داود (2909)، وابن ماجه (2729)، والترمذي (2107)، والنسائي في الكبرى (6376)، وابن الجارود (954)، والطبراني (412)، والبيهقي 6/ 218.
2 - ومحمد بن أبي حفصة عند أحمد 5/ 201، والبخاري 5/ 387 حديث (4282)، والطبراني (412).
3 - ومعمر بن راشد عند أحمد 5/ 208 و 209، والدارمي (3002)، والنسائي في الكبرى (6379)، والطبراني (412)، والبيهقي 6/ 218. =

(1/170)


قولِهِ: عُمَرَ بنِ عُثمانَ - بضمِّ العينِ -. وذكرَ مسلمٌ صاحبُ " الصحيحِ " في كتابِ
" التمييزِ ": أنَّ كُلَّ مَنْ رواهُ مِنْ أصحابِ الزهريِّ، قالَ فيهِ: عَمْرُو بنُ عثمانَ - يعني: بفتحِ العينِ -. وذكرَ أنَّ مالِكاً كانَ يشيرُ بيدِهِ إلى دارِ عُمَرَ بنِ عُثمانَ، كأنَّهُ عَلِمَ أنَّهُمْ يخالِفونَهُ. وعَمْرٌو وعُمَرُ جميعاً: وَلَدُ (1) عُثمانَ (2)، غيرَ أنَّ هذا الحديثَ إنَّما هو عَنْ (3) عَمْرٍو - بفتحِ العينِ -، وحَكَمَ مسلمٌ وغيرُهُ على مالكٍ بالوهمِ فيهِ (4)، واللهُ أعلمُ.
__________
= 4 - ابن جريج عند عبد الرزاق (9852)، وأحمد 5/ 208، والبخاري 8/ 194 حديث (6764)، والبيهقي 6/ 217.
5 - ويونس عند ابن ماجه (2730)، والنسائي في الكبرى (6380)، والطحاوي في شرح المشكل (2504)، والدارقطني 4/ 69، والطبراني (412) والبيهقي 6/ 218.
6 - وهشيم عند الترمذي (2107)، والنسائي في الكبرى (6382)، والطبراني (391).
7 - وزمعة بن صالح عند الطبراني في الكبير (412).
8 - عبد الله بن بديل بن ورقاء عند الطبراني (412).
9 - عقيل بن خالد عند النسائي في الكبرى (6378)، والطبراني (412).
10 - يزيد بن عبد الله بن الهاد عند النسائي في الكبرى (6377)، والطبراني (412).
11 - يحيى بن سعيد الأنصاري عند الطبراني (412).
12 - سفيان بن حسين عند الطبراني (412).
13 - صالح بن كيسان عند الطبراني (412).
(1) في (ب) و (م): ((ولدا)) بألف التثنية.
(2) وهذا بإجماع من أهل النسب. انظر: نسب قريش: 104، وجمهرة أنساب العرب: 75، والتمهيد 9/ 160.
(3) ليست في (أ) و (ب).
(4) قال الناقد الجهبذ الإمام الترمذي - بعد أن ساقه من طريق سفيان بن عيينة وهشيم، عن الزهري، عن علي بن حسين، عن عمرو بن عثمان: ((هذا حديث حسن صحيح. هكذا رواه معمر وغير واحد عن الزهري نحو هذا. وروى مالك، عن الزهري، عن علي بن حسين، عن عمر بن عثمان، عن أسامة بن زيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه.
وحديث مالك وَهَمٌ، وَهِمَ فيه مالك، وقد رواه بعضهم، عن مالك فقال: عن عمرو بن عثمان. وأكثر أصحاب مالك قالوا: عن مالك، عن عمر بن عثمان. =

(1/171)


ومثالُ الثاني - وهوَ الفردُ الذي ليسَ في راوِيْهِ (1) مِنَ الثقةِ والإتقانِ ما يُحْتَمَلُ مَعَهُ تَفَرُّدُهُ -: ما رُوِّيْناهُ مِنْ حديثِ أبي زُكَيْرٍ (2) يحيى بنِ محمدِ بنِ قيسٍ، عنْ هِشامِ بنِ عُروةَ، عَنْ أبيهِ، عنْ عائشةَ - رضيَ اللهُ عنها - أنَّ رسولَ (3) اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: ((كُلُوا البَلَحَ (4) بالتَّمْرِ؛ فإنَّ الشيطانَ إذا رأى ذلكَ غاظَهُ، ويقولُ: عاشَ ابنُ آدمَ حتَّى أكلَ الجديدَ بالخَلَقِ!)) (5).
__________
= وعمرو بن عثمان بن عفان هو مشهور من ولد عثمان، ولا يعرف عمر بن عثمان)). جامع الترمذي عقب (2107).
وقال الإمام النسائي في الكبرى عقب (6377): ((والصواب من حديث مالك: عمرو بن عثمان. ولا نعلم أن أحداً من أصحاب الزهري تابعه على ذلك)).
وقال ابن عبد البر: ((هكذا قال مالك: عمر بن عثمان، وسائر أصحاب ابن شهاب يقولون: عمرو بن عثمان، وقد رواه ابن بكير عن مالك، على الشك فقال فيه: عن عمر بن عثمان أو عمرو بن عثمان، والثابت عن مالك: عمر بن عثمان كما روى يحيى وتابعه القعنبي وأكثر الرواة، وقال ابن القاسم فيه: عن عمرو بن عثمان.
وذكر ابن معين، عن عبد الرحمان بن مهدي، أنّه قال له: قال لي مالك بن أنس: تراني لا أعرف عمر من عمرو، هذه دار عمر وهذه دار عمرو ... ومالك لا يكاد يقاس به غيره حفظاً وإتقاناً، لكن الغلط لا يسلم منه أحد، وأهل الحديث يأبون أن يكون في هذا الإسناد إلا عمرو - بالواو - ... الخ)). التمهيد 9/ 160 - 161.
(1) في (ب): ((رواته)) بالجمع.
(2) بالتصغير - بضم الزاي المعجمة -. التقريب (7639).
(3) في (جـ): ((النبي)).
(4) آخره حاء مهملة، أي: الخلال، وهو حمل النخل ما دام أخضر صغاراً كحِصرم العنب، واحدته: بلحة. لسان العرب 2/ 231.
(5) أخرجه ابن ماجه (3330)، والنسائي في الكبرى (6724)، وأبو يعلى (4399)، وابن حبان في المجروحين 3/ 120، والعقيلي في الضعفاء 4/ 427، وابن عدي في الكامل 7/ 2698، والحاكم في المستدرك 4/ 21، وفي معرفة علوم الحديث: 100 - 101، والخليلي في الإرشاد (11)، والخطيب في تاريخه 5/ 353.
وقد استنكره أبو حاتم والنسائي والعقيلي وابن عدي والذهبي، وقال ابن حبان: ((وهذا الكلام لا أصل له من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)). وساقه ابن الجوزي في الموضوعات 3/ 25 - 26، والسيوطي في الآلي المصنوعة 2/ 243 - 244. وذكروا جميعاً أن البلية فيه من أبي زكير.

(1/172)


تَفرَّدَ بهِ أبو زُكيرٍ، وهو شيخٌ صالِحٌ (1) أخرجَ عنهُ مسلمٌ في كتابهِ (2) غيرَ أنَّهُ لَمْ يبلغْ مبلغَ مَنْ يُحتَمَلُ تَفَرُّدُهُ، واللهُ أعلمُ.

النَّوْعُ الخَامِسَ عَشَرَ
مَعْرِفَةُ الاعْتِبَارِ وَالْمُتَابِعَاتِ وَالشَّوَاهِدِ (3)
هذهِ أمورٌ يَتَداولونها في نَظَرِهم في حالِ الحديثِ: هَلْ تَفَرَّدَ بهِ راويهِ أو لا؟، وهَلْ هُوَ معروفٌ أو لا؟، ذكرَ أبو حاتِمٍ محمدُ بنُ حِبَّانَ التميميُّ الحافظُ - رَحِمَهُ اللهُ - أنَّ طريقَ الاعتبارِ في الأخبارِ مثالُهُ: أنْ يَرويَ حمادُ بنُ سَلَمَةَ حديثاً لَمْ يُتابَعْ عليهِ، عَنْ أيُّوبَ، عنِ ابنِ سيرينَ، عَنْ أبي هريرةَ، عَنِ النبيِّ (4) - صلى الله عليه وسلم -، فَيُنْظَرَ هلْ روى ذلكَ ثِقَةٌ غيرُ (5) أيّوبَ، عَنِ ابنِ سيرينَ؟ فإنْ وُجِدَ عُلِمَ أنَّ للخبرِ أصلاً يُرْجَعُ إليهِ، وإنْ لَمْ يوجدْ ذلكَ، فثقةٌ غيرُ ابنِ سيرينَ رواهُ عنْ أبي هريرةَ، وإلاَّ فصحابيٌّ غيرُ أبي هريرةَ رواهُ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فأيُّ ذلكَ وُجِدَ، يُعْلمُ بهِ أنَّ للحديثِ أصلاً يَرجِعُ إليهِ وإلاَّ فلاَ (6).
__________
(1) قول المصنف: إنه شيخ صالح. أخذه من كلام أبي يعلى الخليلي، فإنه كذلك في كتاب الإرشاد قاله العراقي في التقييد: 109. وانظر: الإرشاد في معرفة علماء الحديث 1/ 173.
قال ابن حجر 2/ 680: ((وقول الخليلي: إنه شيخ صالح. أراد به في دينه لا في حديثه لأن من عادتهم إذا أرادوا وصف الراوي بالصلاحية في الحديث قيدوا ذلك، فقالوا: صالح الحديث. فإذا أطلقوا الصلاح، فإنما يريدون به في الديانة. والله أعلم)).
(2) في المتابعات لا في الأصول. انظر المقنع 1/ 186، ومحاسن الاصطلاح: 181، والتقييد والإيضاح: 109، وخلاصة تذهيب تهذيب الكمال 428.
(3) ((هذه العبارة توهم أن الاعتبار قسيم للمتابعة والشاهد، وليس كذلك، بل الاعتبار هو الهيأة الحاصلة في الكشف عن المتابعة والشاهد.
وعلى هذا فكان حق العبارة أن يقول: معرفة الاعتبار للمتابعة والشاهد)). أفاده ابن حجر 2/ 681، وانظر: نكت الزركشي 2/ 169، والنكت الوفية 152 / ب.
(4) في (ب): ((رسول الله)).
(5) في (ب): ((عن)).
(6) الإحسان في ترتيب صحيح ابن حبان 1/ 143 - 144، وطبعة دار الفكر 1/ 63.

(1/173)


قُلْتُ: فمثالُ المتابعةِ أنْ يرويَ ذلكَ الحديثَ بعينِهِ عَنْ أيُّوبَ غيرُ حمّادٍ، فهذهِ المتابعةُ التامَّةُ (1). فإنْ لَمْ يَرْوِهِ أحدٌ غيرُهُ، عَنْ أيوبَ، لكنْ رواهُ بعضُهُم عَنِ ابنِ سيرينَ أوْ عَنْ أبي هريرةَ، أو رواهُ غيرُ أبي هريرةَ، عنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فذلكَ قدْ يُطلَقُ عليهِ اسمُ المتابعةِ أيضاً، لكنْ تَقْصُرُ (2) عَنِ المتابَعَةِ الأُولى بحَسَبِ بُعْدِها مِنْها، ويجوزُ أنْ يُسَمَّى ذلكَ بالشاهدِ أيضاً (3). فإنْ لَمْ يُرْوَ ذلكَ (4) الحديثُ أصلاً مِنْ وجهٍ مِنَ الوجوهِ المذكورةِ، لكنْ رُوِيَ حديثٌ آخرُ بمعناهُ، فذلكَ الشاهِدُ من غيرِ متابعةٍ، فإنْ لَمْ يُرْوَ أيضاً بمعناهُ حديثٌ آخرُ، فقد تحقّقَ فيهِ التفرّدُ المطلقُ حينَئِذٍ.
وينقسمُ عندَ ذلكَ إلى: مردودٍ منكرٍ، وغيرِ مردودٍ كما سَبَقَ.
وإذا قالوا في مثلِ هذا: ((تفَرَّدَ بهِ أبو هريرةَ، وتَفَرَّدَ بهِ عَنْ أبي هريرةَ ابنُ سيرينَ، وتَفَرَّدَ بهِ عَنِ ابنِ سيرينَ أيّوبُ، وتَفَرَّدَ بهِ عنْ أيوبَ حمَّادُ بنُ سَلَمَةَ)) كانَ في ذلكَ إشعارٌ بانتفاءِ وجوهِ المتابعاتِ فيهِ.
ثُمَّ اعْلَمْ أنَّهُ قَدْ يدخلُ في بابِ المتابعةِ والاستشهادِ روايةُ مَنْ لا يحتجُّ بحديثِهِ وَحْدَهُ بلْ يكونُ معدوداً في الضعفاءِ (5)، وفي كتابَيِ البخاريِّ ومسلمٍ جماعةٌ مِنَ الضعفاءِ
__________
(1) في حاشية نسخة (جـ) جاءت تعليقة نصّها: ((وقد سمّى البيهقي في باب الدباغ ما وقع من ذلك عن شيخ شيخه متابعة، والله أعلم)). وانظر: سنن البيهقي الكبرى 1/ 16.
(2) في (ع) والتقييد فقط: ((يقصر)).
(3) في حاشية (ب) تعليقة نصّها: ((قال المصنف - رحمه الله تعالى -: سمّى الحاكم في المدخل ... إلى الصحيح المتابعات شواهد، والله تعالى أعلم)). وقد ضمنها البلقيني: 183 في محاسنه، فيما أوردتها محققة الكتاب عن حاشية نسختين.
(4) في (ب): ((لذلك)).
(5) ((لا يقال: عطف الاستشهاد على المتابعة يقتضي تغايرهما، والحاكم في " المدخل " سَمَّى المتابعات شواهد.
لأنا نقول: المغايرة صادقة، بأن لا يسمّي الشواهد متابعات، وأما تسمية المتابعة شاهداً فهو موجود في قوله: ويجوز أن يسمى ذلك بالشاهد أيضاً)). أفاده البلقيني في محاسنه: 183. وانظر: نكت الزركشي 2/ 171.

(1/174)


ذَكَرَاهُم في المتابعاتِ والشواهِدِ، وليسَ كلُّ ضعيفٍ يَصْلُحُ لذلكَ، ولهذا يقولُ الدارقطنيُّ وغيرُهُ في الضعفاءِ: ((فلانٌ يُعْتَبَرُ بهِ، وفلانٌ لا يُعْتَبَرُ بهِ))، وقدْ تَقَدَّمَ التنبيهُ على نحوِ ذلكَ، واللهُ أعلمُ.
مثالٌ للمتابعِ (1) والشاهدِ: رُوِّيْنا مِنْ حديثِ سفيانَ بنِ عُيينةَ، عَنْ عمرِو بنِ
دينارٍ، عَنْ عطاءِ بنِ أبي رباحٍ، عَنِ ابنِ عبَّاسٍ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: ((لَوْ أخَذُوا إِهَابَها فَدَبَغُوهُ فانتَفَعُوا بهِ)) (2)، ورواهُ ابنُ جريجٍ، عَنْ عمرٍو، عَنْ عطاءٍ ولَمْ يذكرْ فيهِ
الدِّبَاغَ (3)، فذكرَ الحافظُ أحمدُ البيهقيُّ لحديثِ ابنِ عيينةَ متابِعاً وشاهِداً. أمَّا المتابعُ فإنَّ أسامةَ بنَ زيدٍ تابَعَهُ عَنْ عطاءٍ. وروى بإسنادِهِ عَنْ أسامةَ، عَنْ عطاءٍ، عَنِ ابنِ عبَّاسٍ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: ((أَلاَ نَزَعْتُمْ جِلْدَها فَدَبَغْتُمُوهُ فاسْتَمْتَعْتُمْ بهِ)) (4)، وأمَّا الشاهِدُ فحديثُ عبدِ الرَّحْمَانِ بنِ وَعْلَةَ (5)، عَنِ ابنِ عبَّاسٍ، قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((أيُّما إهَابٍ (6) دُبِغَ فقَدْ طَهُرَ)) (7)، واللهُ أعلمُ.
__________
(1) في (ع) والتقييد والشذا ونكت الزركشي: ((المتابع)).
(2) أخرجه مسلم 1/ 190 (363)، والنسائي 7/ 172، وكذلك أخرجه الحميدي (491).
(3) عند أحمد 1/ 366، ومسلم 1/ 190 – 191 (364)، والنسائي 7/ 172.
وهذا ((يوهم أن رواية ابن جريج موافقة لرواية سفيان، وليس كذلك؛ لأن ابن جريج زاد في السند ميمونة فجعله من مسندها، وسفيان جعله من مسند ابن عباس، فهذا خلاف آخر غير إسقاط ((الدباغ))، ولم يتعرض له المصنف)). نكت الزركشي 2/ 172. وانظر: التقييد والإيضاح 109، وشرح التبصرة والتذكرة 1/ 343–345، ونكت ابن حجر 2/ 681–685.
(4) أخرجه الطحاوي في شرح المعاني 1/ 469، والدارقطني 1/ 44، والبيهقي 1/ 16.
(5) بفتح الواو وسكون العين. تقريب التهذيب (4039).
(6) الإهاب: الجلد من البقر والغنم والوحش ما لم يدبغ. لسان العرب 2/ 16.
(7) أخرجه: مسلم 1/ 190 عقيب (363)، وأبو داود (4123)، وابن ماجه (3609)، والترمذي (1728)، والنسائي 7/ 173. وأخرجه أيضاً: مالك (1437) ((رواية يحيى الليثي))، والشافعي 1/ 23 و 26، وعبد الرزاق (190)، والطيالسي (2761)، والحميدي (486)، وابن أبي شيبة 8/ 378، وأحمد 1/ 219 و 270 و 279 و 280 و 343، والدارمي (1991) و (1992)، وأبو عوانة 1/ 212، وأبو يعلى (2385)، والطحاوي 1/ 469، وفي شرح المشكل (3243)، وابن حبان (1287)، والطبراني في الصغير (668)، والدارقطني 1/ 46، والبيهقي 1/ 16 و 17.

(1/175)