مقدمة ابن الصلاح معرفة أنواع علوم الحديث ت فحل النَّوعُ السَّادِسُ والعِشْرُونَ
في صِفَةِ رِوَايَةِ الْحَدِيْثِ وشَرْطِ أدَائِهِ، ومَا
يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ (1)
وَقدْ سَبَقَ بَيَانُ كثيرٍ مِنْهُ في ضِمْنِ النَّوْعَيْنِ
قَبْلَهُ.
شَدَّدَ قَومٌ في الرِّوايةِ فأفْرَطُوا، وتَسَاهَلَ فيها
آخَرُونَ فَفَرَّطُوا، ومِنْ مَذَاهِبِ التَّشْدِيدِ مَذهبُ
مَنْ قَالَ: ((لاَ حُجَّةَ إلاَّ فيما رَواهُ الراوي مِنْ
حِفْظِهِ وتَذَكُّرِهِ))، وذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ مالِكٍ (2)،
وأبي حنيفَةَ (3) - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -. وذَهَبَ إليهِ
مِنْ أصحابِ الشَّافِعِيِّ أبو بَكْرٍ الصَّيْدَلاَنِيُّ (4)
الْمَرْوَزِيُّ.
ومِنها: مَذْهَبُ مَنْ أجازَ الاعتِمَادَ في الروايةِ عَلَى
كِتابِهِ، غيرَ أنَّهُ لو أعارَ كِتابَهُ وأخْرَجَهُ مِنْ
يَدِهِ لَمْ يَرَ الروايَةَ منهُ لغَيْبَتِهِ عنهُ.
وقَدْ سَبَقَتْ حِكَايَتُنا لِمَذَاهِبَ عَنْ أهْلِ
التَّسَاهُلِ، وإبْطَالُها في ضِمْنِ ما تَقَدَّمَ مِنْ شَرْحِ
وُجُوهِ الأخْذِ والتَّحَمُّلِ.
ومِنْ أهْلِ التَّسَاهُلِ قَوْمٌ سَمِعُوا كُتُباً مُصَنَّفَةً
وتَهَاوَنُوا، حَتَّى إذا طَعَنُوا في السِّنِّ واحْتِيْجَ
إليهِمْ، حَمَلَهُمُ الجهْلُ والشَّرَهُ عَلَى أنْ رَوَوْهَا
مِنْ نُسَخٍ مُشْتَراةٍ أوْ مُسْتَعارةٍ
غيرِ (5) مُقَابَلَةٍ، فَعَدَّهُمُ الحاكِمُ أبو عبدِ اللهِ
الحافِظُ في طَبَقَاتِ الْمَجْرُوحينَ. قَالَ: ((وهُمْ
__________
(1) انظر في صفة مَن تقبل روايته ومَنْ تُرَدُّ:
إرشاد طلاب الحقائق 1/ 273 - 333، والتقريب: 90 - 100، والمنهل
الروي: 63، والخلاصة: 88، واختصار علوم الحديث: 92، ومحاسن
الاصطلاح: 218، وشرح التبصرة 2/ 1، والتقييد والإيضاح: 136،
ونزهة النظر: 185 - 199، والمختصر: 155، وفتح المغيث 1/ 262،
وألفية السيوطي: 96 - 112، وفتح الباقي 1/ 292، وتوضيح الأفكار
2/ 114، وظفر الأماني: 78.
(2) الكفاية: (337 ت، 227 هـ)، والإلماع: 136.
(3) الكفاية: (342 ت، 231 هـ).
(4) في (أ): ((الصديق))، وهو خطأ، والصيدلاني توفي نحو سنة
(427 هـ). انظر: ترجمته في: طبقات الشافعية لابن هداية الله:
152.
(5) في (م): ((غير صحيحة ولا مقابلة)).
(1/317)
يَتَوَهَّمُونَ أنَّهُمْ في روَايَتِها
صَادِقُونَ)). قالَ (1): ((وهذا مِمَّا كَثُرَ في الناسِ
وتَعَاطَاهُ قَومٌ مِنْ أكابِرِ العُلَماءِ والمعْرُوفينَ
بالصَّلاَحِ)) (2).
قُلْتُ: ومِنَ المتَسَاهِلينَ عبدُ اللهِ بنُ لَهِيْعَةَ (3)
المصريُّ، تُرِكَ الاحْتِجَاجُ بروايَتِهِ مَعَ جَلاَلَتِهِ؛
لِتَسَاهُلِهِ (4). ذُكِرَ عَنْ يَحْيَى بنِ حَسَّانَ (5)
أنَّهُ رَأَى قَوْماً مَعَهُمْ جُزْءٌ سَمِعُوهُ مِنِ ابنِ
لَهِيْعَةَ، فَنَظَرَ فيهِ فإذا ليسَ فيهِ حديثٌ واحِدٌ مِنْ
حديثِ ابنِ لَهِيْعَةَ، فجاءَ إلى ابنِ لَهِيْعَةَ فأخْبَرَهُ
بذلكَ، فَقَالَ: ((ما أصْنَعُ، يَجِيئونِي بِكتابٍ فَيَقُولونَ
هذا مِنْ حدِيْثِكَ؛ فَأُحَدِّثُهُمْ بهِ)) (6).
ومِثْلُ هذا واقِعٌ مِنْ شُيُوخِ زَمَانِنا (7)، يَجِيءُ إلى
أحَدِهِمْ الطَّالِبُ بِجُزْءٍ أوْ كِتابٍ فَيَقُولُ: هذا
رُوايَتُكَ (8)، فَيُمَكِّنُهُ مِنْ قِرَاءتِهِ عليهِ
مُقَلِّداً لهُ مِنْ غيرِ أنْ يَبْحَثَ بحيثُ يَحْصُلُ (9) لهُ
الثِّقَةُ بِصِحَّةِ ذلكَ.
__________
(1) في (أ) و (م) والشذا: ((وقال)).
(2) المدخل إلى الإكليل: 57، ونقله عنه ابن الأثير الجزري في
جامع الأصول 1/ 143.
(3) بفتح اللام وكسر الهاء، عَلَى وزن (شريعة). انظر: التقريب
(3563)، وتاج العروس 22/ 177.
(4) انظر: طبقات ابن سعد 7/ 204، تاريخ البُخَارِيّ الصغير 2/
207، والجرح والتعديل 5/ 145، والكامل لابن عدي 5/ 237، وجامع
الأصول 1/ 144، وتهذيب الكمال 4/ 252، والكاشف 1/ 590، ولسان
الميزان 7/ 268.
(5) نقل الزركشي في نكته 3/ 600 عن المزي قوله: ((هذه الحكاية
فيها نظر؛ لأن ابن لهيعة من الأئمة الحفاظ لا يكاد يخفى عليه
مثل هذا، وإنما تكلم فيه من تكلم بسبب من الرواة عنه فمنهم من
هو عدل كابن المبارك ونحوه، ومنهم من هو غير عدل)).
(6) المجروحين 2/ 13.
(7) قال الزركشي في نكته 3/ 601: ((إلحاقه شيوخ زماننا بمن سلف
فيه نظر؛ لأن المقصود منهم بقاء السلسلة فقط، وأما الإسناد
فغير منظور إليه في هذا الزمان)).
(8) في (ب): ((من روايتك)).
(9) في (م) والشذا: ((تحصل)).
(1/318)
والصَّوابُ ما عليهِ الجمهُورُ، وهوَ
التَّوَسُّطُ بَيْنَ الإفْرَاطِ والتَّفْرِيطِ، فإذا قامَ (1)
الراوي في الأخْذِ والتَّحَمُّلِ بالشرطِ الذي تَقَدَّمَ
شَرْحُهُ، وقابَلَ كِتابَهُ وضَبَطَ سَماعَهُ عَلَى الوجهِ
الذي سَبَقَ ذِكْرُهُ جازَتْ لهُ الروايةُ منهُ. وإنْ أعارَهُ
وغابَ عنهُ إذا كان الغالبُ مِنْ أمرِهِ سَلامَتَهُ مِنَ
التَّغْييرِ والتَّبْدِيْلِ (2)، لاَ سِيَّما إذا كانَ مِمَّنْ
لاَ يَخْفَى عليهِ في الغالبِ
- لَوْ غُيِّرَ شيءٌ مِنْهُ وبُدِّلَ - تَغييرُهُ وتَبْديلُهُ؛
وذَلِكَ لأنَّ الاعتِمَادَ في بابِ الروايةِ عَلَى غالبِ
الظَّنِّ، فإذا حَصَلَ أجْزَأَ، ولَمْ يُشْتَرَطْ مَزِيْدٌ
عليهِ، واللهُ أعلمُ.
تَفْرِيْعَاتٌ
أحدُهَا: إذا كانَ الراوي ضَرِيراً ولَمْ يَحْفَظْ حَدِيْثَهُ
مِنْ فَمِ مَنْ حَدَّثَهُ، واسْتَعَانَ بالمأْمُونينَ في
ضَبْطِ سَمَاعِهِ وحِفْظِ كِتَابِهِ، ثُمَّ عِندَ روايتِهِ في
القراءةِ منهُ عليهِ، واحْتَاطَ في ذلكَ عَلَى حَسَبِ حالِهِ
بحيثُ يحصُلُ معهُ الظَّنُّ بالسلامةِ مِنَ التَّغييرِ صَحَّتْ
روايتُهُ، غيرَ أنَّهُ أَوْلَى بالخِلاَفِ والمنْعِ مِنْ
مِثْلِ ذلكَ مِنَ البَصِيْرِ (3).
قال الخطيبُ الحافِظُ: ((والسَّماعُ مِنَ البَصِيرِ الأُمِّيِّ
والضَّريرِ اللذينِ لَمْ يَحْفَظا مِنَ المحدِّثِ ما سَمِعَاهُ
منهُ لَكِنَّهُ كُتِبَ لَهُما بِمَثَابَةٍ واحدَةٍ، قَدْ (4)
مَنَعَ منهُ غيرُ واحِدٍ مِنَ العُلَماءِ ورَخَّصَ فيهِ
بعضُهُمْ)) (5)، واللهُ أعلمُ.
__________
(1) في (ع): ((قاهم)).
(2) ما أثبتناه من النسخ و (م)، وفي (ع): ((من التبديل
والتغيير)).
(3) قال البلقيني في المحاسن: 328: ((قد يمنع الأولوية من جهة
تقصير البصير، فيكون الأعمى أولى بالجواز؛ لأنه أتى
باستطاعته)).
(4) في (ع) والتقييد: ((وقد)).
(5) الكفاية: (338 ت، 228 هـ)، قال الزركشي في نكته 3/ 601:
((هما وجهان لأصحاب الشَّافِعِيّ حكاهما الرافعي في كتاب
الشهادات، وقال: إن الجمهور عَلَى القبول، قال: وهذا الخلاف
فيما سمعه بعد العمى، فأمّا ما سمعه قبله فله أن يرويه بلا
خلاف، وذكر الخطيب أن علة المانعين هي جواز الادخال عليهما ما
ليس من حديثهما، قال: وهي العلة التي ذكرها مالك فيمن له كتب
وسماعه صحيح فيها غير أنَّهُ لا يحفظ ما تضمنت)).
(1/319)
الثانِي: إذا سَمِعَ كِتاباً ثُمَّ أرادَ
روايَتَهُ مِنْ نُسْخَةٍ ليسَ فيها سَمَاعُهُ (1)، ولاَ هيَ
مُقابلةٌ بِنُسْخةِ سَماعِهِ، غيرَ أنَّهُ سُمِعَ منها عَلَى
شَيْخِهِ، لَمْ يَجُزْ لهُ ذلكَ. قَطَعَ بهِ الإمامُ أبو
نَصْرِ (2) بنُ الصَّبَّاغِ الفقيهُ (3) فيما بَلَغَنا عنهُ.
وكذلكَ لوْ كانَ فيها سَماعُ شَيْخِهِ أوْ رَوَى منها ثِقَةٌ
عَنْ شَيْخِهِ، فَلاَ تَجُوزُ (4) لهُ الروايةُ منها
اعْتِماداً عَلَى مجرَّدِ ذلكَ، إذا لاَ يُؤْمَنُ أنْ تَكُونَ
(5) فيها زَوَائِدُ ليسَتْ في نسخَةِ سَماعهِ. ثُمَّ وَجَدْتُ
الخطيبَ (6) قَدْ حَكَى مِصْدَاقَ (7) ذلكَ عَنْ أكْثَرِ أهْلِ
الحديثِ، فَذَكَرَ فيما إذا وجَدَ أصْلَ المحدِّثِ ولَمْ
يُكْتَبْ فيهِ سَماعُهُ، أوْ وجَدَ نُسْخَةً كُتِبَتْ عَنِ
الشَّيْخِ تَسْكُنُ نَفسُهُ إلى صِحَّتِها أنَّ عَامَّةَ
أصحابِ الحديثِ مَنَعُوا مِنْ روايتِهِ مِنْ ذَلِكَ. وجاءَ
عَنْ أيُّوبَ (8) السِّخْتيانِيِّ، ومُحَمَّدِ بنِ بكرٍ
البُرْسَانِيِّ (9) التَّرَخُّصُ فيهِ.
قُلْتُ: اللَّهُمَّ إلاَّ أنْ تَكُونَ (10) لهُ إجازةٌ مِنْ
شَيْخِهِ عامَّةٌ لِمَرْوِيَّاتِهِ أوْ نحوُ ذَلِكَ، فَيَجُوزُ
لهُ حِيْنَئذٍ الروايةُ منها؛ إذْ ليسَ فيهِ أكْثَرُ مِنْ
روايةِ تِلْكَ الزِّيَاداتِ بالإجازةِ بلَفْظِ: أَخْبَرَنَا أو
حَدَّثَنا مِنْ غيرِ بَيانٍ للإجازةِ فِيْهَا، والأمْرُ في
ذلكَ قريبٌ يَقَعُ مِثْلُهُ في مَحَلِّ التَّسَامُحِ. وقدْ
حَكَيْنا فِيْمَا تَقَدَّمَ أنَّهُ لاَ غِنَى (11) في كُلِّ
سَمَاعٍ عَنِ الإجازَةِ؛ لِيَقَعَ ما
__________
(1) انظر: التقييد والإيضاح: 222.
(2) في (ع): ((النصر)).
(3) سقطت من (ع)، وهي من جميع النسخ و (م).
(4) في (أ) و (ب) و (جـ) والشذا: ((يجوز))، وما أثبتناه من (ع)
والتقييد.
(5) في النسخ و (م): ((يكون)).
(6) الكفاية: (376 - 377 ت، 257 هـ).
(7) انظر: نكت الزركشي 3/ 602.
(8) في (ع): ((أيوبي)).
(9) بضم الباء الموحدة، وسكون الراء، بعدها السين المهملة، وفي
آخرها النون، هذه النسبة إلى بني برسان، وهم بطن من الأزد.
الأنساب 1/ 335.
(10) في (أ) و (جـ) و (م) والشذا: ((يكون))، وما أثبتناه من
(ب) و (ع) والتقييد.
(11) في (ع) والتقييد: ((لا غناء)).
(1/320)
يَسْقُطُ في السَّماعِ عَلَى وجهِ
السَّهْوِ وغيرِهِ مِنْ كَلِماتٍ أوْ أكْثَرَ، مَرْوِيّاً
بالإجازةِ وإنْ لَمْ يُذْكَرْ لَفْظُها. فإنْ كانَ الذي في
النُّسْخَةِ سَمَاعُ شَيْخِ شَيْخِهِ، أو هِيَ مَسْمُوعَةٌ
عَلَى شَيْخِ شَيْخِهِ، أوْ مَرْوِيَّةٌ عَنْ شَيْخِ شَيْخِهِ
فَيَنْبَغِي لهُ حِيْنَئذٍ في روايتِهِ منها أنْ تَكُونَ (1)
لهُ إجازةٌ شامِلَةٌ مِنْ شَيْخِهِ، ولِشَيْخِهِ إجازَةٌ
شَامِلةٌ مِنْ شَيْخِهِ، وهذا تَيْسِيْرٌ (2) حَسَنٌ هَدَانا
اللهُ لهُ -ولهُ الحمدُ- والحاجَةُ إليهِ مَاسَّةٌ في
زَمَانِنا جِدّاً، واللهُ أعلمُ.
الثَّالِثُ: إذا وجَدَ الحافظُ في كتابهِ خلافَ ما يَحْفَظُهُ
(3) نَظَرَ: فإنْ كانَ إنَّما حَفِظَ ذَلِكَ مِنْ كِتابِهِ
فلْيَرْجِعْ إلى ما في كِتابِهِ، وإنْ كانَ حَفِظَهُ مِنْ فَمِ
المحدِّثِ فَلْيَعْتَمِدْ حِفْظَهُ دُونَ ما في كِتابهِ إذا
لَمْ يَتَشَكَّكْ، وحَسَنٌ أنْ يَذْكُرَ الأمرينِ في روايتِهِ،
فَيَقُولَ: حِفْظِي كذا، وفي كِتابِي كذا، هَكَذا فَعَلَ
شُعْبَةُ (4) وغيرُهُ، وهَكَذا إذا خالَفَهُ فيما يَحفظُهُ
بعضُ الحفَّاظِ، فَلْيَقُلْ: حِفْظِي كذا وكذا، وقالَ فيهِ
فُلاَنٌ أو قالَ فيهِ غيري كذا وكذا، أوْ شِبْهَ هذا مِنَ
الكَلامِ. كذَلِكَ فَعَلَ سُفيانُ الثَّوْرِيُّ وغيرُهُ (5)،
واللهُ أعلمُ.
الرَّابِعُ: إذا وَجَدَ سَماعَهُ في كِتابِهِ وهوَ غيرُ ذاكرٍ
(6) لسماعِهِ ذلكَ، فَعَنْ أبي حَنِيْفَةَ وبَعضِ أصحابِ
الشَّافِعِيِّ (7): أنَّهُ لاَ يَجُوزُ (8) لهُ روايتُهُ.
ومَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وأكْثَرِ أصْحابِهِ، وأبي يُوسُفَ،
ومُحَمَّدٍ أنَّهُ يَجُوزُ لهُ روايتُهُ (9).
__________
(1) في (ب) و (جـ): ((يكون)).
(2) في الشذا: ((تبيين)).
(3) راجع نكت الزركشي 3/ 602.
(4) انظر الرواية عن شعبة في الكفاية: (333 - 334 ت، 224 هـ).
(5) انظر: الكفاية (334 ت، 225 هـ).
(6) راجع: نكت الزركشي 3/ 603 - 606.
(7) مذهب أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافِعي حكاه القاضي عياض في
الإلماع: 139.
(8) في (ع) والتقييد: ((لا تجوز))، وما أثبتناه من (أ) و (ب) و
(جـ) و (م) والشذا.
(9) حكاه القاضِي عِيَاض في الإلماع: 139، ونسبه الْخَطِيْب في
الكفاية: (539 ت، 380 هـ) إلى عامة أصحاب الْحَدِيْث والفقهاء
من أصحاب مالك والشّافعي وجمهور المتكلمين.
(1/321)
قُلْتُ: هذا الخِلاَفُ يَنْبَغِي أنْ
يُبْنَى عَلَى الخِلاَفِ السَّابِقِ قَرِيباً في جَوازِ
اعْتِمادِ الراوي عَلَى كتابِهِ في ضَبْطِ ما سَمِعَهُ، فإنَّ
ضَبْطَ أصْلِ السَّماعِ كَضَبْطِ المسمُوعِ، فَكَما كانَ
الصحيحُ وما عليهِ أكثَرُ أهلِ الحديثِ: تَجْوِيْزَ
الاعْتِمادِ عَلَى الكتابِ الْمَصُونِ في ضَبْطِ المسمُوعِ
حَتَّى يَجوزَ لهُ أنْ يَرويَ ما فيهِ، وإنْ كانَ لا يَذْكُرُ
أحاديثَهُ حَدِيثاً حَدِيثاً.
كَذَلِكَ لِيَكُنْ هذا إذا وُجِدَ شَرْطُهُ، وهوَ: أنْ يَكونَ
السَّماعُ بخَطِّهِ أوْ بِخَطِّ مِنْ يَثِقُ بهِ (1) والكِتابُ
مَصُونٌ بِحَيْثُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ سَلامةُ ذَلِكَ مِنْ
تَطَرُّقِ التَّزْوِيرِ والتَّغْييرِ إليهِ عَلَى نحوِ ما
سَبَقَ ذِكْرُهُ في ذَلِكَ.
وهذا إذا لَمْ يَتَشَكَّكَ فيهِ وسَكَنَتْ نفسُهُ إلى
صِحَّتِهِ، فإنْ تَشَكَّكَ فيهِ لَمْ يَجُزِ الاعْتِمادُ عليهِ
(2)، واللهُ أعلمُ.
الخامِسُ: إذا أرادَ رِوايَةَ ما سَمِعَهُ عَلَى معناهُ دونَ
لَفْظِهِ (3)، فإنْ لَمْ يَكُنْ عالِماً عارفاً بالألْفَاظِ
ومَقَاصِدِها، خَبيراً بِما يُحِيْلُ مَعَانِيها، بَصِيْراً
بِمَقَاديرِ التَّفَاوِتِ بَيْنَهَا، فلاَ خِلاَفَ (4) أنَّهُ
لاَ يَجُوزُ لهُ ذَلِكَ، وعليهِ أنْ لاَ يَرْوِيَ ما سَمِعَهُ
إلاَّ عَلَى اللفظِ الذي سَمِعَهُ مِنْ غيرِ تَغْييرٍ.
فأمَّا إذا كَانَ عَالِماً عَارِفاً بذَلِكَ فَهَذا مِمَّا
اخْتَلَفَ فيهِ السَّلَفُ وأصْحابُ الحديثِ وأرْبَابُ الفِقْهِ
والأصُولِ، فَجَوَّزَهُ أكْثَرُهُمْ، ولَمْ يُجَوِّزْهُ (5)
بعضُ المحدِّثِينَ، وطَائِفَةٌ مِنَ الفُقَهَاءِ
والأصُولِيِّيْنَ مِنَ الشَّافِعِيَّينَ وغَيْرِهِمْ.
ومَنَعَهُ بَعضُهُمْ في حديثِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه
وسلم - وأجَازَهُ في غيرِهِ.
__________
(1) انظر: نكت الزركشي 3/ 606 - 607.
(2) انظر: نكت الزركشي 3/ 607 - 608.
(3) انظر: نكت الزركشي 3/ 608 - 611.
(4) وممن نقل مثل هذا الخطيب في الكفاية: (300ت، 198هـ)،
والقاضي عياض في الإلماع: 174.
(5) عبارة: ((أكثرهم، ولم يجوزه)) سقطت من (م).
(1/322)
والأصَحُّ جَوَازُ ذلكَ في الجميعِ إذا
كانَ عالِماً بِمَا وَصَفْناهُ، قَاطِعاً بأنَّهُ أدَّى
مَعْنَى اللَّفْظِ الذي بَلَغَهُ؛ لأنَّ ذلكَ هُوَ الذي
تَشْهَدُ (1) بهِ أحْوَالُ الصَّحَابَةِ والسَّلَفِ
الأوَّلِينَ وكَثيراً مَا كَانُوا يَنْقُلُونَ مَعْنًى واحِداً
في أمْرٍ واحِدٍ بألْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ (2)، وما ذلكَ إلاَّ
لأَنَّ مُعَوَّلَهُمْ كَانَ عَلَى المعنى دُونَ اللَّفْظِ.
ثُمَّ إنَّ هذا الاخْتِلاَفَ لاَ نَرَاهُ جارِياً (3)، ولاَ
أجْرَاهُ النَّاسُ - فيما نَعْلَمُ - فِيْما تَضَمَّنَتُهُ
بُطُونُ الكُتُبِ، فليسَ لأحدٍ أنْ يُغَيِّرَ لفظَ شيءٍ مِنْ
كِتَابِ مُصَنِّفٍ ويُثْبِتَ بَدَلَهُ فيهِ لَفْظاً آخَرَ
بِمَعْناهُ، فإنَّ الروايةَ بالْمَعْنَى رَخَّصَ فيها مَنْ
رَخَّصَ لِمَا كانَ عليْهِمْ في ضَبْطِ الألْفَاظِ والجمُودِ
عليها مِنَ الْحَرَجِ والنَّصَبِ، وذَلِكَ غيرُ مَوْجُودٍ فيما
اشْتَمَلَتْ عليهِ بُطُونُ الأوْرَاقِ والكُتُبِ؛ ولأنَّهُ إنْ
مَلَكَ تَغْييرَ اللَّفْظِ فليسَ يَمْلكَ تغْييرِ تَصْنِيفِ
غيرِهِ، واللهُ أعلمُ.
السَّادِسُ: يَنْبَغِي لِمَنْ رَوَى (4) حَدِيْثاً بالمعْنَى
أنْ يُتْبِعَهُ بأنْ يَقُولَ: أوْ كَما قالَ، أوْ نَحْوِ هذا،
وما أشْبَهَ ذلكَ مِنَ الألْفَاظِ.
رُوِيَ ذَلِكَ مِنَ (5) الصَّحابةِ عَنِ ابنِ مَسْعُودٍ، وأبي
الدَّرْداءِ وأنَسٍ - رضي الله عنهم - (6). قالَ الخطيبُ:
((والصحابَةُ أربابُ اللِّسَانِ وأَعْلَمُ الخلْقِ بِمَعَانِي
الكَلامِ، ولَمْ يَكُونُوا يَقُولونَ ذَلِكَ إلاَّ تَخَوُّفاً
مِنَ الزَّلَلِ لِمَعْرِفَتِهِمْ بما في الروايةِ عَلَى المعنى
مِنَ الخطَرِ)) (7).
قُلْتُ: وإذا اشْتَبَهَ عَلَى القارئِ فيما يَقْرَؤهُ لَفْظَةٌ
فَقَرَأَها عَلَى وجهٍ يَشُكُّ فيهِ، ثُمَّ قالَ: أوْ كما
قالَ؛ فهذا حَسَنٌ، وهوَ الصَّوابُ في مِثْلِهِ؛ لأنَّ قولَهُ:
((أوْ كما قالَ))، يَتَضَمَّنُ إجازَةً مِنَ الراوي وإذْناً في
روايةِ صَوابِهَا عنهُ إذا بانَ. ثُمَّ لاَ يُشْتَرَطُ
إفْرَادُ ذَلِكَ بلَفظِ الإجازةِ لِمَا بَيَّنَّاهُ قريباً،
واللهُ أعلمُ.
__________
(1) في (أ) و (ب): ((يشهد)).
(2) انظر: شرح التبصرة والتذكرة 2/ 264 - 266.
(3) انظر: نكت الزركشي 3/ 611 - 612.
(4) في (ع) والتقييد: ((يروي)).
(5) في (أ): ((عن)).
(6) الروايات عنهم خرجناها في التقريب للنووي.
(7) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 2/ 34، قال البلقيني في
المحاسن 333: ((ليس في النقل عن هؤلاء، أنهم جَوَّزوا نقل
الحديث بالمعنى كما فهمه بعض من لا يصح فهمه)).
(1/323)
السَّابِعُ: هَلْ يَجُوزُ اخْتِصَارُ
الحديثِ الواحدِ (1) وروايةُ بعضِهِ دُونَ بعضٍ؟
اخْتَلَفَ أهلُ العِلْمِ فيهِ:
- فَمِنْهُمْ: مَنْ مَنَعَ مِنْ (2) ذَلِكَ مُطْلَقاً بِنَاءً
عَلَى القَوْلِ بالمنْعِ مِنَ النَّقْلِ بالمعنى مُطْلَقاً،
ومِنْهُم مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ مَعَ تَجْوِيزِهِ النَّقْلَ
بالمعنى إذا لَمْ يكُنْ قدْ رواهُ عَلَى التَّمامِ مَرَّةً
أُخْرَى ولَمْ يَعْلَمْ أنَّ غيرَهُ قدْ رواهُ عَلَى
التَّمامِ.
- وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ وأطْلَقَ ولَمْ يُفَصِّلْ.
وقَدْ رُوِّيْنا عَنْ مُجَاهِدٍ أنَّهُ قالَ: انْقُصْ مِنَ
الحديثِ ما شِئْتَ ولاَ تَزِدْ فيهِ (3).
والصحيحُ التَّفْصِيلُ، وأنَّهُ يجوزُ ذَلِكَ مِنَ العَالِمِ
العَارِفِ، إذا كانَ ما تركَهُ مُتَميِّزاً عَمَّا نَقَلَهُ،
غيرَ مُتَعَلِّقٍ بهِ بحيثُ لاَ يَخْتَلُّ البَيَانُ ولاَ
تَخْتَلِفُ الدلاَلَةُ فيما نَقَلَهُ بتَرْكِ ما تَرَكَهُ (4)،
فهذا يَنْبَغِي أنْ يُجَوَّزَ وإنْ لَمْ يَجُزِ النَّقْلُ
بالمعنى؛ لأنَّ الَّذِي نَقَلَهُ والذي تَرَكَهُ - والحالَةُ
هذهِ - بِمَنْزِلَةِ خَبَرَيْنِ مُنْفَصِلَينِ في أمْرَيْنِ
لاَ تَعَلُّقَ لأحَدِهِما بالآخَرِ (5).
ثُمَّ هذا إذا كانَ رفيعَ المنْزِلَةِ بحيثُ لاَ يَتطرَّقُ
إليهِ في ذلكَ تُهْمَةُ نَقْلِهِ أوَّلاً تَماماً (6) ثُمَّ
نَقْلِهِ ناقِصاً، أوْ نَقْلِهِ أوَّلاً نَاقِصاً ثُمَّ
نَقْلِهِ تامّاً. فأمَّا إذا لَمْ يَكُنْ كذلكَ، فَقَدْ ذَكَرَ
الخطيبُ الحافِظُ أنَّ مَنْ رَوى حديثاً عَلَى التمامِ، وخافَ
إنْ رواهُ مَرَّةً أُخْرَى عَلَى النُّقْصانِ أنْ يُتَّهَمَ
بأنَّهُ زادَ في أوَّلِ مرَّةٍ مَا لَمْ يَكُنْ سَمِعَهُ، أو
أنَّهُ نَسِيَ في الثاني باقِيَ الحديثِ لِقِلَّةِ ضَبْطِهِ
وكَثْرَةِ غَلَطِهِ، فَوَاجِبٌ عليهِ أنْ يَنْفِيَ هذهِ
الظِّنَّةَ عَنْ نَفْسِهِ (7).
__________
(1) راجع: نكت الزركشي 3/ 612.
(2) سقطت من (م).
(3) أسنده الخطيب في الكفاية: (289 ت، 189 هـ).
(4) انظر: محاسن الاصطلاح: 334.
(5) انظر: المصدر السابق.
(6) في (م): ((تامّاً)).
(7) الكفاية: (293 ت، 193 هـ).
(1/324)
وذَكَرَ الإمامُ أبو الفتْحِ سُلَيْمُ (1)
بنُ أيُّوبَ الرَّازِيُّ الفقيهُ: ((أنَّ مَنْ رَوَى بعضَ
الخبرِ، ثُمَّ أرادَ أنْ يَنْقُلَ تَمَامَهُ وكَانَ مِمَّنْ
يُتَّهَمُ بأنَّهُ زادَ في حديثِهِ، كانَ ذلكَ عُذْراً لهُ في
تَرْكِ الزيادةِ وكِتْمانِها)) (2).
قُلْتُ: مَنْ كَانَ هذا حالَهُ فليسَ لهُ مِنَ الابْتِدَاءِ
أنْ يَرْوِيَ الحديثَ غيرَ تامٍّ، إذا كانَ قَدْ تَعَيَّنَ
عليهِ أداءُ تَمَامِهِ؛ لأنَّهُ إذا رواهُ أوَّلاً نَاقِصاً
أخْرَجَ باقِيَهُ عَنْ (3) حَيِّزِ الاحْتِجاجِ بهِ، ودارَ
بَيْنَ ألاَّ يَرْوِيَهُ (4) أصْلاً فَيُضَيِّعَهُ رَأْساً،
وبَيْنَ أنْ يَرْويَهُ مُتَّهَماً فيهِ، فَيُضَيِّعَ
ثَمَرَتَهُ؛ لِسُقُوطِ الْحُجَّةِ فيهِ، والعِلْمُ عندَ اللهِ
تَعَالَى.
وأمَّا تَقْطِيعُ الْمُصَنِّفِ مَتْنَ الحديثِ الواحِدِ (5)
وتَفْرِيْقُهُ في الأبْوابِ، فَهُوَ إلى الجوازِ أقْرَبُ،
ومِنَ المنْعِ أبْعَدُ. وقَدْ فَعَلَهُ مالِكٌ، والبخَارِيُّ
وغيرُ واحِدٍ مِنْ أئِمَّةِ الحديثِ ولاَ يَخْلُو مِنْ
كَرَاهِيَةٍ (6)، واللهُ أعلمُ.
الثَّامِنْ: يَنْبَغِي لِلْمُحَدِّثِ ألاَّ يَرْوِيَ
حَدِيْثَهُ بِقِرَاءةِ لَحَّانٍ (7) أوْ مُصَحِّفٍ. رُوِّيْنا
عَنِ النَّضْرِ بنِ شُمَيْلٍ أنَّهُ قالَ: ((جَاءتْ هذهِ
الأحاديثُ عَنِ الأصْلِ مُعربةً)). وأخْبَرَنا أبو بكرِ
__________
(1) بالتصغير، انظر ترجمته في: وفيات الأعيان 2/ 397، وطبقات
الشافعية لابن هداية: 147.
(2) البحر المحيط 4/ 362.
(3) في (ب) و (م): ((من)).
(4) في (ع) بعد هذا: ((إذاً))، ولم ترد في شيء من النسخ ولا في
الشذا ولا التقييد.
(5) انظر: نكت الزركشي 3/ 617 - 620.
(6) خالفه النووي في التقريب: 135 فقال: ((وما أظنه يوافق
عليه))، وقد عقد الخطيب في الكفاية: (294 - 295 ت، 193 - 194
هـ) باباً سمّاه: ((ما جاء في تقطيع المتن الواحد وتفريقه في
الأبواب)). نقل فيه آثاراً عن الأئمة في جواز ذلك.
(7) قال الزركشي في نكته 3/ 620: ((وتعبيره باللّحّان بصيغ:
((فَعَّال)) يقتضي تصويره بالكثير، وهو كذلك؛ إذ لَمْ يسلم من
اللحن أحد)).
وقال ابن فارس: ((اللَّحْنُ - بسكون الحاء - إمالة الكلام عن
جهته الصحيحة في العربية، يقال: لَحَنَ لَحْناً ... )). مقاييس
اللغة 5/ 239.
وفي الصحاح 6/ 2193: ((اللَّحْنُ: الخطأ في الإعراب، يقال:
فلان لَحَّانٌ ولَحَّانَةٌ، أي: كثير الخطأ)).
(1/325)
ابنُ أبي المعالِي الفَرَاويُّ قِراءةً
عليهِ، قالَ: أخْبَرَنا الإمامُ أًبُو (1) جَدِّي أبو عبدِ
اللهِ مُحَمَّدُ ابنُ الفَضْلِ الفَرَاوِيُّ، قالَ أخْبَرَنا
أبو الحسَيْنِ (2) عبدُ الغَافِرِ بنُ مُحَمَّدٍ الفارسِيُّ،
قالَ: أخْبَرَنا الإمامُ أبو سُلَيمانَ حَمْدُ (3) بنُ
مُحَمَّدٍ الخَطَّابِيُّ (4)، قالَ حَدَّثَني مُحَمَّدُ بنُ
مُعاذٍ، قالَ: أخْبَرَنا بعضُ أصحابِنَا، عَنْ أبي دَاوُدَ
السِّنْجِيِّ (5). قالَ: سَمِعْتُ الأصْمَعِيَّ يَقُولُ:
((إنَّ أَخْوَفَ ما أَخَافُ (6) عَلَى طالبِ العِلْمِ إذا لَمْ
يَعْرِفِ النَّحْوَ أنْ يَدْخُلَ في جُمْلَةِ (7) قولِ النبيِّ
- صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ كَذَبَ عليَّ فَلْيَتَبَوَّأْ
مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)) (8)؛ لأنَّهُ - صلى الله عليه وسلم
- لَمْ يَكُنْ يَلْحَنُ، فَمَهْمَا رَوَيْتَ عنهُ وَلَحَنْتَ
فيهِ، كَذَبْتَ عليهِ (9).
قلتُ: فحقٌّ عَلَى طالبِ الحديثِ أنْ يَتعلَّمَ منَ النحوِ
واللُّغةِ ما يتخلَّصُ بهِ منْ شَيْنِ اللَّحْنِ والتحريفِ
ومَعَرَّتِهما.
__________
(1) ((أبو))، ساقطة من (أ) و (ع). وانظر: السير 4/ 494.
(2) في (ع) و (م): ((الحسن)) خطأ، وانظر: ترجمته في: سير أعلام
النبلاء 18/ 19.
(3) بفتح الحاء وسكون الميم عَلَى صورة المصدر، وفي نسخة (ب):
((أحمد))، قال ابن خلكان: ((وقد سمع في اسم أبي سليمان حَمْدٍ
المذكور أحمد أيضاً - بإثبات الهمزة - والصحيح الأول ... )).
وفيات الأعيان 2/ 215، وانظر: سير أعلام النبلاء 17/ 26،
والرسالة المستطرفة: 44.
(4) بفتح الخاء المعجمة وتشديد الطاء المهملة. انظر: الأنساب
2/ 535.
(5) هذه النسبة إلى سنج - بكسر السين المهملة وسكون النون، وفي
آخرها جيم، وهي قرية كبيرة من قرى مرو. الأنساب 3/ 342.
(6) قال الصنعاني: ((وإنما قال الأصمعي: ((أخاف))، ولم يجزم؛
لأن من لَمْ يعلم بالعربية وإن لحن لَمْ يكن متعمداً الكذب)).
توضيح الأفكار 2/ 394.
(7) جاء في حاشية (ب) عبارة نصها: ((قال المصنف: ((قوله: في
جملة، أي: في عموم)). وكذا في حاشية (م) عن نسخة (غ).
(8) حديث صحيح متواتر، خَرَّجناه بتوسع في التعليق عَلَى شرح
التبصرة 1/ 175.
(9) أخرجه ابن حبان في روضة العقلاء (223)، والخطابي في غريب
الحديث 1/ 63، والقاضي عياض في الإلماع: 183 - 184.
(1/326)
رُوِّيْنا (1) عنْ شُعبةَ قالَ: ((مَنْ
طلبَ الحديثَ وَلَمْ يُبْصِرِ العربيَّةَ فَمَثَلُهُ مَثَلُ
(2) رَجلٍ عليهِ بُرْنُسٌ (3) ليسَ لهُ رأسٌ))، أو كما قالَ.
وعنْ حمَّادِ بنِ سَلَمَةَ، قالَ: ((مَثَلُ (4) الذي يطلُبُ
الحديثَ ولاَ يَعْرِفُ النَّحْوَ، مَثَلُ الحمارِ عليهِ
مِخْلاَةٌ (5) لاَ شعيرَ فيها)) (6).
وأمَّا التصحيفُ فسبيلُ السلامةِ منهُ، الأخْذُ مِنْ أفواهِ
أهلِ العِلْمِ والضَّبْطِ (7)، فإنَّ مَنْ حُرِمَ ذَلِكَ وكانَ
أخْذُهُ وتعلُّمُهُ مِنْ بُطُونِ الكُتُبِ كانَ مِنْ شَأْنِهِ
التَّحريفُ، ولَمْ يُفْلِتْ مِنَ التَّبديلِ والتَّصحيفِ،
واللهُ أعلمُ.
التاسِعُ: إذا وقعَ في روايتِهِ لَحْنٌ أو تحريفٌ، فقدِ
اخْتلفُوا؛ فمنهم مَنْ كانَ يَرَى أنَّهُ يرويهِ عَلَى الخطأ
كما سَمِعَهُ، وذهبَ إلى ذَلِكَ مِنَ التَّابعينَ مُحَمَّدُ
بنُ سيرينَ، وأبو مَعْمَرٍ عبدُ اللهِ بنُ سَخْبَرَةَ (8).
وهذا غُلُوٌّ في مذهبِ اتِّباعِ اللَّفْظِ والمنعِ مِنَ
الروايةِ بالمعنى. ومنهمْ مَنْ رَأَى تَغييرَهُ وإصلاحَهُ
وروايتَهُ عَلَى الصوابِ، رُوِّيْنا ذَلِكَ عَنِ الأوزاعيِّ
(9)، وابنِ المباركِ (10) وغيرِهِما (11)، وهوَ مذهبُ
الْمُحَصِّلِينَ (12) والعلماءِ منَ المحدِّثينَ،
__________
(1) رواه عنه الخطيب في الجامع 2/ 36 رقم (1073).
(2) في (ب): ((كمثل)).
(3) البُرْنُس: كل ثوب رأسه منه ملتزق به. اللسان 6/ 26
(4) سقطت من (أ).
(5) المخلاة: ما يجعل فيه الحشيش ونحوه. الصحاح 6/ 2332.
(6) أخرجه الخطيب في الجامع 2/ 36 رقم (1074).
(7) في (م) والتقييد: ((أو الضبط)).
(8) بفتح المهملة وسكون المعجمة وفتح الموحدة. التقريب (3341)،
والخلاصة: 199، وانظر: الروايات عنهم في الكفاية: (285 ت، 186
هـ).
(9) انظر: الكفاية (296 ت، 195 هـ)، والجامع 2/ 23.
(10) انظر: الكفاية (297 ت، 196 هـ)
(11) وإليه ذهب الأعمش، والشعبي، وحماد بن سلمة، ويحيى بن
معين، وأحمد بن صالح، والحسن بن مُحَمَّد الزعفراني، وعلي بن
المديني، وغيرهم. انظر: الكفاية (295 - 300 ت، 194 - 197 هـ).
(12) في (ب): ((المخلصين)).
(1/327)
والقولُ بهِ في اللَّحْنِ الذي لا يختلِفُ
بهِ المعنى وأمثالِهِ، لاَزمٌ عَلَى مذهبِ تجويزِ روايةِ
الحديثِ بالمعنى (1). وقدْ سَبَقَ أنَّهُ قولُ الأكثرينَ (2).
وأمَّا إصْلاحُ ذَلِكَ وتغييرُهُ (3) في كتابِهِ وأصْلِهِ،
فالصوابُ تَرْكُهُ، وتقريرُ ما وقَعَ في الأصْلِ عَلَى ما هوَ
عليهِ معَ التَّضْبيبِ عليهِ، وبيانِ الصوابِ خارجاً في
الحاشيةِ، فإنَّ ذَلِكَ أجمعُ للمصلحةِ وأنْفَى للمَفْسَدةِ.
وقدْ رُوِّيْنا أنَّ بعضَ أصحابِ الحديثِ رُئِيَ في المنامِ،
وكأنَّهُ قدْ مَرَّ منْ شَفَتِهِ أو لسانِهِ شيءٌ، فقيلَ لهُ
في ذَلِكَ، فقالَ: ((لفظةٌ مِنْ حديثِ رسولِ اللهِ -صَلَّى
اللهُ تَعَالَى عليهِ وعلى آلهِ وسَلَّمَ - غَيَّرْتُها
برأْيِي فَفُعِلَ بي هذا)) (4).
وكثيراً ما نَرَى ما يتوهَّمُهُ كثيرٌ منْ أهلِ العِلْمِ خطأ -
ورُبَّما غيَّرُوهُ - صَوَاباً ذا وجهٍ صحيحٍ، وإنْ خَفِيَ
واسْتُغْرِبَ لاَ سِيَّما فيما يَعُدُّونَهُ خطأً مِنْ جِهَةِ
العربيَّةِ؛ وذلكَ لِكَثْرَةِ لُغَاتِ العربِ وتَشَعُّبِها.
ورُوِّيْنا عنْ عبدِ اللهِ بنِ أحمدَ بنِ حنبلٍ، قالَ: ((كانَ
إذا مَرَّ بأبي لَحْنٌ فاحشٌ غَيَّرَهُ، وإذا كانَ لَحْناً
سَهْلاً تَرَكَهُ، وقالَ: كذا قالَ الشَّيْخُ!)) (5).
وأخْبَرَنِي بعضُ أشْياخِنا عَمَّنْ أخْبَرَهُ عَنِ القاضِي
الحافِظِ عياضٍ بِمَا مَعْناهُ
واخْتِصَارُهُ (6): أنَّ الذي اسْتَمَرَّ عليهِ (7) عَمَلُ
أكْثَرِ الأشْيَاخِ، أنْ يَنْقُلُوا الروايَةَ كما وَصَلَتْ
إليهِمْ، ولاَ يُغَيِّرُوها في كُتُبِهِمْ، حَتَّى في أحرفٍ
مِنَ القُرْآنِ استَمَرَّتِ (8) الرواية فيها في الكُتُبِ
عَلَى خِلافِ التلاوةِ الْمُجْمِعِ عليها ومنْ غيرِ أنْ يجيءَ
ذَلِكَ في الشَّواذِّ.
__________
(1) راجع: محاسن الاصطلاح: 338.
(2) المصدر السابق.
(3) راجع: نكت الزركشي 3/ 623.
(4) انظر: المقنع 1/ 379.
(5) أخرجه الخطيب بسنده إلى الإمام أحمد. الكفاية: (286 - 287
ت، 187 هـ).
(6) في (ب): ((واختاره)).
(7) في (م): ((عليه استمر)).
(8) في (جـ): ((واستمرت))، وفي الشذا: ((واشتهرت)).
(1/328)
ومنْ ذَلِكَ ما وَقَعَ في " الصحيحينِ " و
" الموطّأِ " وغيرِهَا، لكِنَّ أهلَ المعرفةِ مِنهُمْ
يُنَبِّهُونَ عَلَى خَطَئِها عِندَ السَّماعِ (1) والقِرَاءةِ،
وفي حواشي الكُتُبِ، مَعَ تَقْرِيرِهِمْ ما في الأُصُولِ عَلَى
ما بَلَغَهُمْ.
ومِنْهُمْ مَنْ جَسَرَ عَلَى تغييرِ الكُتُبِ وإصْلاَحِها،
مِنْهُمْ: أبو الوليدِ هِشامُ بنُ أحمدَ الكِنانِيُّ
الوَقَّشِيُّ (2)؛ فإنَّهُ لِكَثرةِ مُطالَعَتِهِ وافْتِنانِهِ
وثُقُوبِ فَهْمِهِ وحِدَّةِ ذِهْنِهِ جَسَرَ عَلَى الإصلاحِ
كثيراً، وغَلِطَ في أشْيَاءَ مِنْ ذَلِكَ. وكذلكَ غيرُهُ
مِمَّنْ سَلَكَ مَسْلَكَهُ.
والأَوْلَى سَدُّ بابِ التَّغْييرِ والإصْلاحِ؛ لِئَلاَّ
يَجْسُرَ عَلَى ذَلِكَ مَنْ لاَ يُحْسِنُ، وهوَ أسْلمُ (3)
مَعَ التَّبيينِ فيذكُرُ ذَلِكَ عندَ السماعِ كما وقعَ، ثُمَّ
يذكُرُ وجهَ صوابِهِ: إمَّا مِنْ جِهَةِ العربيَّةِ، وإمَّا
مِنْ جِهَةِ الروايةِ، وإنْ شَاءَ قَرَأَهُ أوَّلاً عَلَى
الصَّوابِ ثُمَّ قالَ: ((وَقَعَ عندَ شَيْخِنا، أو في
روايتِنا، أو مِنْ طريقِ فُلانٍ كذا وكذا)). وهذا أَوْلَى مِنَ
الأوَّلِ كَيْلاَ يُتَقَوَّلَ عَلَى رسولِ اللهِ - صلى الله
عليه وسلم - ما لَمْ يَقُلْ.
وأصْلَحُ ما يُعْتَمَدُ عليهِ في (4) الإصْلاحِ أنْ يَكُونَ ما
يُصْلَحُ بهِ الفَاسِدُ قَدْ
وَرَدَ في (5) أحاديثَ أُخَرَ، فإنَّ ذاكِرَهُ آمِنٌ مِنْ أنْ
يَكُونَ مُتَقَوِّلاً عَلَى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم
- ما لَمْ يَقُلْ (6)، واللهُ أعلمُ.
العاشِرُ: إذا كانَ الإصْلاحُ بزِيادَةِ شيءٍ قَدْ سَقَطَ فإنْ
لَمْ يَكُنْ في ذَلِكَ مُغَايرةٌ في المعنى فالأمْرُ فيهِ
عَلَى ما سَبَقَ، وذلكَ كَنحوِ ما رُوِيَ عَنْ مالكٍ - رضي
الله عنه - أنهُ قيلَ لهُ: ((أرأيْتَ حديثَ النبيِّ - صلى الله
عليه وسلم - يُزَادُ فيهِ الواوُ والألِفُ، والمعنى واحدٌ؟))،
فقالَ: ((أرجو أنْ يَكُونَ خَفِيْفاً)) (7).
__________
(1) في (ع) والتقييد: ((عِنْدَ الرواية والسماع و ... )).
(2) نسبة إلى وَقَّشَ - بالفتح وتشديد القاف - مدينة بالأندلس.
انظر: السير 19/ 135، ومراصد الاطلاع 3/ 1442.
(3) في (م): ((والطريق الأول أسلم)).
(4) في (م): ((من)).
(5) في (م): ((من)).
(6) الإلماع: 185 - 187.
(7) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 1/ 80 - 81
بإسْناده إلى الإمام مالك، والخطيب في الكفاية: (368ت،
250هـ)، وفي كفاية الخطيب: (288 - 289ت، 188 - 189هـ) روايات
أُخْرَى عن مالك، ليس فيها موضع الشاهد، والسائل هو - أشهب -
كما في جامع بيان العلم، والكفاية.
(1/329)
وإنْ كانَ الإصْلاحُ بالزِّيادَةِ
يَشْتَمِلُ عَلَى معنًى مُغايرٍ لِمَا (1) وقَعَ في الأصْلِ
تأكَّدَ فيهِ الحكْمُ بأنَّهُ يَذكُرُ ما في الأصْلِ مَقْروناً
بالتنبيهِ عَلَى ما سَقَطَ ليسْلَمَ مِنْ مَعَرَّةِ (2)
الخطأِ، ومِنْ أنْ يَقولَ عَلَى شيخِهِ ما لَمْ يَقُلْ.
حَدَّثَ أبو نُعَيمٍ الفَضْلُ بنُ دُكَيْنٍ عَنْ شَيْخٍ لهُ
بحديثٍ قالَ فيهِ: ((عَنْ بُحَيْنَةَ))، فقالَ أبو نُعَيمٍ:
إنَّما هُوَ ((ابنُ بُحَيْنَةَ))، ولكنَّهُ قالَ:
((بُحَيْنَةَ)) (3).
وإذا كانَ مَنْ دُونَ موضِعِ الكلامِ الساقِطِ معلوماً أنَّهُ
قدْ أُتِيَ بهِ وإنَّما أسْقطَهُ مَنْ بعدَهُ ففيهِ وَجْهٌ
آخَرُ، وهوَ أنْ يُلحَقَ الساقِطُ في موضِعِهِ مِنَ الكِتابِ
مَعَ كَلِمَةِ ((يعني)) كما فَعَلَ الخطيبُ الحَافِظُ (4)؛ إذْ
رَوَى عَنْ أبي عُمَرَ (5) بنِ مَهدِيٍّ، عَنِ القاضِي
الْمَحَامِلِيِّ بإسْنادِهِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَمْرةَ بنتِ
عبدِ الرَّحمانِ - يَعْنِي (6) - عنْ عائشةَ أنَّها قالتْ:
((كانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُدْنِي إليَّ
رأْسَهُ فأُرَجِّلُهُ)) (7).
قالَ الخطيبُ (8): ((كانَ في أصْلِ ابنِ مَهديٍّ: ((عَنْ
عَمْرَةَ أنَّها قالتْ: كانَ رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه
وسلم - يُدْنِي إليَّ رأسَهُ))، فأَلْحَقْنا فيهِ ذِكْرَ
عائِشةَ إذْ لَمْ يَكُنْ منهُ بُدٌّ، وعَلِمْنا أنَّ
الْمَحَامِلِيَّ كذلكَ رواهُ، وإنَّمَا سَقَطَ مِنْ كتابِ
شيخِنا أبي عُمَرَ (9)، وقُلْنا فيهِ: ((يعني (10):
__________
(1) في (ب): ((كما)).
(2) في (ب): ((معرفة))، ومن معاني المعرّة، الجناية والمسبَّة،
والإثم، والأمر القبيح والمكروه. انظر: تاج العروس 13/ 5 - 20.
(3) أخرجه الخطيب في الكفاية: (369 ت، 251 هـ).
(4) الكفاية: (371 - 372 ت، 252 - 253 هـ).
(5) في (أ): ((عَمْرو)).
(6) في (أ) والتقييد: ((تعني))، والضمير فيه لأبي عمر بن مهدي.
(7) أخرجه مالك في الموطأ (866) عن ابن شهاب، عن عروة بن
الزبير، عن عمرة عن عائشة، به. ومن طريق ما لك أخرجه أحمد 6/
104 و 181 و 282، ومسلم 1/ 167، وأبو داود (2467)، والبيهقي 4/
315، وابن عبد البر في التمهيد 8/ 317.
(8) الكفاية: (371 ت، 253 هـ).
(9) في (ب): ((عمرو)).
(10) في (ب) والتقييد: ((تعني)).
(1/330)
عَنْ عائشةَ - رضِيَ اللهُ عَنْهَا -))؛
لأجْلِ أنَّ ابنَ مَهْدِيٍّ لَمْ يَقُلْ لنا ذَلِكَ، وهكذا
رأيْتُ غيرَ واحدٍ مِنْ شُيُوخِنا يَفْعَلُ في مِثْلِ هذا.
ثُمَّ ذَكَرَ بإسْنادِهِ عَنْ أحمدَ بنِ حَنْبَلٍ - رضي الله
عنه - قالَ: ((سَمِعْتُ وَكِيعاً يقُولُ: أنا أسْتَعِينُ في
الحديثِ بـ ((يَعْني)) (1).
قلتُ: وهذا إذا كانَ شَيخُهُ قَدْ رواهُ لهُ عَلَى الخطأِ.
فأمَّا إذا وجَدَ ذَلِكَ في كتابِهِ وغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ
أنَّ ذَلِكَ مِنَ الكِتابِ لاَ مِنْ شَيخِهِ فَيَتَّجِهُ هاهنا
إصلاحُ ذَلِكَ في كِتابِهِ وفي روايتِهِ عندَ تَحْديثِهِ بهِ
معهُ ذَكَرَ أبو دَاوُدَ (2) أنَّهُ قالَ لأحمدَ بنِ حنبلٍ:
((وجدْتُ في كِتابي: حَجَّاجٌ، عَنْ جُرَيْجٍ، عَنْ أبي
الزُّبيرِ، يَجوزُ لي أنْ أُصْلِحَهُ: ابنُ جُرَيْجٍ؟ فقالَ:
أرجو أنْ يَكونَ هذا لاَ بأْسَ بهِ، واللهُ أعلمُ)) (3).
وهذا مِنْ قبيلِ ما إذا دَرَسَ (4) مِنْ كِتابِهِ بعضُ
الإسْنادِ أو المتنِ فإنَّهُ يجوزُ لهُ اسْتِدْراكُهُ مِنْ
كِتابِ غيرِهِ إذا عَرَفَ صِحَّتَهُ وسكَنَتْ نفسُهُ إلى أنَّ
ذَلِكَ هوَ الساقِطُ مِنْ كِتابِهِ، وإنْ كانَ في المحدِّثينَ
مِنْ لاَ يستجيزُ ذَلِكَ. ومِمَّنْ فَعَلَ ذَلِكَ نُعَيْمُ بنُ
حمَّادٍ فيما رُوِيَ عَنْ يحيى بنِ مَعينٍ عنهُ (5). قالَ
الخطيبُ الحافِظُ: ((ولوْ بَيَّنَ ذَلِكَ في حالِ الروايةِ
كانَ أَوْلَى)) (6).
وهكذا الحكمُ في اسْتِثْباتِ (7) الحافِظِ ما شَكَّ مِنْ
كِتابِ غيرِهِ أو مِنْ حِفْظِهِ، وذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ غيرِ
واحدٍ من أهلِ الحديثِ، منهُمْ: عاصِمٌ (8)، وأبو عَوانَةَ
(9)،
__________
(1) الكفاية: (371 - 372 ت، 253 هـ).
(2) الكفاية: (369 - 370 ت، 251 هـ).
(3) جملة: ((والله أعلم)) سقطت من (ع)، هي من جميع النسخ و
(م).
(4) درس هنا بمعنى: بلي وانمحى. انظر: اللسان 6/ 79، والمعجم
الوسيط 1/ 279.
(5) روايته في الكفاية: (373 ت، 254 هـ).
(6) الكفاية: (373 ت، 254 هـ).
(7) فعله أبو داود في سننه عقب حديث الحكم بن حزن الكلفي
(1096)، فقال: ((ثَبَّتَنِي في شيء منه بعض أصحابنا))، قال
الزركشي في نكته 3/ 624: ((هذا مما تفترق فيه الرواية
والشهادة)).
(8) الكفاية: (324 ت، 216 هـ).
(9) المصدر السابق.
(1/331)
وأحمدُ بنُ حنبلٍ (1). وكانَ بعضُهُمْ (2)
يُبَيِّنُ ما ثَبَّتَهُ فيهِ غيرُهُ، فيقولُ: ((حدَّثنا
فُلاَنٌ وثَبَّتَنِي فُلانٌ)) كما رُوِيَ عَنْ يَزيدَ بنِ
هارونَ (3) أنَّهُ قالَ: ((أخبرنا عاصِمٌ وثَبَّتَنِي شُعْبَةُ
عَنْ عبدِ اللهِ بنِ سَرْجِسَ)) (4).
وهكذا الأمرُ فيما إذا وَجَدَ في أصْلِ كِتابِهِ كَلِمَةً مِنْ
غريبِ العربيَّةِ (5) أوْ غيرِها غيرَ مُقَيَّدَةٍ وأشْكَلَتْ
عليهِ، فجائِزٌ أنْ يَسْأَلَ عنها أهلَ العِلْمِ بها ويَرْويها
عَلَى ما يُخْبِرُونَهُ بهِ. رُوِيَ مثلُ ذَلِكَ عنْ إسحاقَ
بنِ راهَوَيْهِ (6)، وأحمدَ بنِ حَنْبَلٍ (7) وغيرِهِما (8) -
رضي الله عنهم -،
واللهُ أعلمُ.
الحادي عَشَرَ: إذا كانَ الحديثُ عندَ (9) الراوي عنِ اثْنَينِ
(10) أو أكثَرَ، وبَيْنَ روايَتِهما تَفاوتٌ في اللفظِ،
والمعنى واحدٌ، كانَ لهُ أنْ يَجْمَعَ بينَهُما في الإسْنادِ،
ثُمَّ يَسُوقَ الحديثَ عَلَى لَفْظِ أحدِهِما خاصَّةً،
ويقُولَ: أخبرنا فُلانٌ وفلاَنٌ، واللَّفْظُ لفُلاَنٍ، أو وهذا
لَفْظُ فُلاَنٍ قالَ أو قالا: أخبرنا فُلانٌ، أو ما أشبهَ
ذَلِكَ مِنَ العِباراتِ.
__________
(1) الكفاية: (325 ت، 217 هـ).
(2) قال الخطيب في الكفاية: (325 ت، 217 هـ): ((وكان بعض
السلف يبين ما ثبّته فيه غيره، فيقول: حدّثني فلان، وثبَّتني
فلان)).
(3) الكفاية: (326 ت، 218 هـ).
(4) بفتح المهملة وسكون الراء وكسر الجيم بعدها مهملة. التقريب
(3345)، والخلاصة: 199.
(5) في (أ): ((غريب الحديث والعربية)).
(6) انظر: الكفاية (374 - 375 ت، 255 هـ).
(7) انظر: ما أورده الخطيب عنه بسنده في الكفاية: (375 ت، 256
هـ).
(8) مِنْهُم: الأوزاعي، وابن المبارك، وعفان بن مُسْلِم وسفيان
بن عيينة، انظر: الكفاية: (347 - 376 ت، 255 - 256 هـ).
(9) في (م): ((عن)).
(10) انظر: نكت الزركشي 3/ 624 - 625.
(1/332)
ولِمُسْلِمٍ (1) صاحبِ "الصحيحِ" معَ هذا
في ذَلِكَ عبارةٌ أُخْرَى حَسَنةٌ، مثلُ قولِهِ: ((حَدَّثَنا
أبو بَكْرِ بنُ أبي شَيْبَةَ، وأبو سَعيدٍ الأشَجِّ؛ كِلاهُما
عَنْ أبي خالدٍ، قالَ أبو بكرٍ: حَدَّثَنا أبو خالِدٍ
الأحْمَرُ، عَنِ الأعمشِ وساقَ الحديثَ)). فإعادتُهُ ثانياً
ذِكْرَ أحدِهِما خاصَّةً إشْعارٌ (2) بأنَّ اللَّفْظَ المذكورَ
لهُ.
وأمَّا إذا لَمْ يَخُصَّ لَفْظَ أحدِهِما بالذِّكْرِ، بلْ
أخَذَ مِنْ لَفْظِ هذا ومِنْ لَفْظِ ذاكَ (3)، وقالَ: ((أخبرنا
فُلاَنٌ وفُلاَنٌ -وتَقَارَبا في اللفْظِ- قالا: أخبرنا
فُلانٌ))، فهذا غيرُ مُمْتَنِعٍ عَلَى مذهبِ تَجويزِ الروايةِ
بالمعنى.
وقولُ أبي داودَ صاحِبِ " السُّنَنِ ": ((حَدَّثَنا مُسَدَّدٌ،
وأبو تَوْبَةَ - المعنى -
قالا (4): حَدَّثَنا أبو الأحْوصِ)) (5) معَ أشْباهٍ (6) لهذا
في كِتابِهِ، يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ مِنْ قَبيلِ الأوَّلِ،
فيكونَ اللفْظُ لِمُسَدَّدٍ ويُوافِقُهُ أبو تَوبَةَ في
المعنى، ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ مِنْ قَبيلِ الثاني، فلا
يكونُ قدْ أورَدَ لَفْظَ أحَدِهِما خاصَّةً، بلْ رواهُ بالمعنى
عَنْ كِلَيْهِما، وهذا الاحْتِمالُ يَقْرُبُ (7) في قولِهِ:
((حَدَّثَنا مسلمُ بنُ إبراهِيمَ، ومُوسَى بنُ إسْماعِيلَ -
المعنى واحدٌ - قالا: حَدَّثَنا أبانُ)).
__________
(1) صحيح مسلم 2/ 133 ط إستانبول، و 1/ 465 (673)، ط مُحَمَّد
فؤاد عبد الباقي.
(2) في (ب): ((إشعاراً)).
(3) في (ب) و (جـ): ((ذَلِكَ)).
(4) في (ع): ((قال)).
(5) سنن أبي داود (375).
(6) انظر: لهذه الأشباه عَلَى سبيل المثال (603) و (1094).
(7) عقّب عليه الزركشي 3/ 626 بقوله: ((هذا الاحتمال الثاني،
عجيب إذ يلزم منه ألا يكون رواه بلفظ لواحد من شيخيه، وهو
بعيد، ولذلك قال: ((أنا فلان وفلان))، وتقاربا في اللفظ، فليس
هو منحصراً في أن روايته عن كل منهما بالمعنى وأن المأتي به
لفظ ثالث غير لفظيهما، والأحوال كلها آيلة في الغالب إلى
أنَّهُ لا بدَّ أن يسوق الحديث عَلَى لفظ روي له برواية واحد،
والباقي بمعناه)).
(1/333)
وأمَّا إذا جَمَعَ بَيْنَ جماعةِ رواةٍ قدِ
اتَّفَقُوا (1) في المعْنَى، وليسَ ما أوْرَدَهُ لَفْظَ كُلِّ
واحدٍ منهم، وسَكَتَ عَنِ البيانِ لذلكَ، فهذا مِمَّا عِيْبَ
بهِ البخاريُّ أوْ غيرُهُ (2)، ولاَ بأسَ بهِ عَلَى مُقْتَضَى
مذهبِ تَجْويزِ الروايةِ بالمعنى.
وإذا سَمِعَ كِتاباً مُصَنَّفاً (3) مِنْ جماعَةٍ، ثُمَّ
قابَلَ نُسْخَتَهُ بأصْلِ بَعْضِهِمْ دُونَ بعضٍ، وأرادَ أنْ
يَذْكُرَ جَمِيعَهُمْ في الإسنادِ ويقولَ: ((واللفظُ
لِفُلانٍ)) كما سَبَقَ، فهذا يَحْتَمِلُ أنْ يجوزَ كالأوَّلِ؛
لأنَّ ما أوْرَدَهُ قدْ سَمِعَهُ بنَصِّهِ مِمَّنْ ذَكَرَ
أنَّهُ بلَفْظِهِ، ويَحْتَمِلُ أنْ لا يجوزَ؛ لأنَّهُ لاَ
عِلْمَ عندَهُ بكَيْفِيَّةِ روايةِ الآخرينَ حَتَّى يُخْبِرَ
عنها، بخلافِ ما سَبَقَ فإنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى روايةِ غيرِ
مَنْ نَسَبَ اللَّفْظِ إليهِ، وعَلَى مُوافَقَتِها (4) مِنْ
حيثُ المعنى فأَخْبَرَ بذلكَ (5)، واللهُ أعلمُ.
الثاني عَشَرَ: ليسَ لهُ أنْ يَزيدَ في نَسَبَ مَنْ فوقَ
شيخِهِ مِنْ رِجَالِ الإسْنادِ عَلَى ما ذكَرَهُ شيخُهُ
مُدْرَجاً (6) عليهِ مِنْ (7) غيرِ فَصْلٍ مُمَيَّزٍ، فإنْ
أتَى بِفَصْلٍ (8) جَازَ، مثلُ أنْ يَقُولَ: ((هُوَ ابنُ
فُلانٍ الفُلانِيُّ)) أو ((يَعْنِي: ابنَ فُلاَنٍ))، ونحوَ
ذلكَ. وذَكَرَ الحافِظُ الإمامُ أبو بكرٍ البَرْقَانِيُّ -
رَحِمَهُ اللهُ - في كِتابِ " اللُّقَطِ " (9) لهُ بإسنادِهِ
عنْ عليِّ بنِ المدينِيِّ، قالَ: إذا حَدَّثَكَ الرجلُ فقالَ:
حَدَّثَنا فُلانٌ، ولَمْ يَنْسُبْهُ فأحبَبْتَ أنْ تَنْسُبَهُ
فقُلْ: ((حَدَّثَنا فُلانٌ أنَّ فُلانَ بنَ فُلانٍ حدَّثَهُ))
(10)، واللهُ أعلمُ.
__________
(1) انظر: نكت الزركشي 3/ 626.
(2) في الشذا: ((وغيره)) بالواو.
(3) انظر: نكت الزركشي 3/ 627 - 628.
(4) في (ع) و (م) والتقييد: ((موافقتهما)) بالتثنية.
(5) راجع: المحاسن: 345 ففيها تفصيل.
(6) راجع محاسن الاصطلاح هامش (1).
(7) في (ع): ((عَلَى)).
(8) في (ب): ((بلفظ)).
(9) في (أ) و (ب): ((اللفظ)) بالفاء، وفي (جـ) و (ع) و (م)
والتقييد والشذا الفياح ونكت الزركشي: ((اللقط)) بالقاف، وراجع
شرح التبصرة والتذكرة 2/ 285 هامش (4).
(10) أسنده الخطيب في الكفاية: (323 ت، 215 هـ).
(1/334)
وأمَّا إذا كانَ شيخُهُ قدْ ذَكَرَ نَسَبَ
شيخِهِ أوْ صِفَتَهُ في أوَّلِ كِتابٍ أوْ جُزْءٍ عندَ أوَّلِ
حديثٍ منهُ، واقْتَصَرَ فيما بَعْدَهُ مِنَ الأحاديثِ عَلَى
ذِكْرِ اسمِ الشَّيْخِ أوْ بَعضِ نَسَبِهِ. مِثالُهُ: أنْ
أروِيَ جُزْءاً عَنِ الفَراوِيِّ وأقُولَ (1) في أوَّلِهِ:
((أخبرنا أبو بكرِ منصُورُ بنُ
عبدِ المنعِمِ بنِ عبدِ اللهِ الفَرَاوِيُّ، قالَ: أخْبَرَنا
(2) فُلانٌ)). وأقُولَ في باقِي أحاديثِهِ:
((أخبرنا (3) منصورٌ، أخبرنا منصورٌ)) فهلْ يجوزُ لِمَنْ
سَمِعَ ذلكَ الجزءَ مِنِّي أنْ يَرْوِيَ عَنِّي الأحاديثَ التي
بعدَ الحديثِ الأوَّلِ مُتَفَرِّقَةً، ويقُولَ في كُلِّ واحِدٍ
منها: ((أخبرنا فُلانٌ قالَ: أخبرنا أبو بكرٍ منصورُ بنُ عبدِ
المنعِمِ بنِ عبدِ اللهِ الفَراوِيُّ، قالَ: أخبرنا فُلانٌ))،
وإنْ لَمْ أذْكُرْ (4) لهُ ذَلِكَ في كُلِّ واحدٍ منها
اعْتِماداً عَلَى ذِكْري لهُ أوَّلاً. فهذا قدْ حَكَى الخطيبُ
الحافِظُ عَنْ أكْثَرِ أهلِ العِلْمِ أنَّهُمْ أجازُوهُ. وعَنْ
بَعْضِهِمْ أنَّ الأَوْلَى أنْ يَقولَ: ((يعني: ابنَ فُلانٍ))
(5). ورَوَى بإسْنادِهِ عَنْ أحمدَ بنِ حَنْبَلٍ - رضي الله
عنه - أنَّهُ كانَ إذا جاءَ اسمُ الرجُلِ (6) غيرَ مَنْسُوبٍ
قالَ: ((يَعْنِي: ابنَ فُلانٍ)) (7).
ورَوَى عَنِ البَرْقَانِيِّ بإسْنادِهِ عَنْ عليِّ بنِ
المدينيِّ ما قَدَّمْنا ذِكْرَهُ عنهُ، ثُمَّ ذَكَرَ أنَّهُ
هكذا رأى أبا بكرٍ أحمدَ بنَ عليٍّ الأصبهانِيَّ نَزِيْلَ
نَيْسابورَ يَفْعَلُ - وكانَ أحَدَ الْحُفَّاظَ
الْمُجَوِّدِيْنَ ومِنْ أهلِ الوَرَعِ والدِّيْنِ - وأنَّهُ
سَأَلَهُ عَنْ أحاديثَ كَثِيْرَةٍ رَوَاها لهُ قالَ فيها:
((أخبرنا أبو عَمْرِو بنُ حَمْدانَ أنَّ أبا يَعْلَى أحمدَ بنَ
عليِّ بنِ الْمُثَنَّى الموصِلِيَّ أخْبَرَهُمْ، وأخْبَرنا أبو
بكرِ بنُ الْمُقْرِئِ أنَّ إسْحاقَ بنَ أحمدَ بنِ نافِعٍ؛
حَدَّثَهُمْ، وأخبرنا أبو أحمدَ
__________
(1) في (ع): ((فأقول)).
(2) في (م): ((أنبأنا)).
(3) في (م): ((أنبأنا))، وكذا ما بعدها. وكأنه سهو من المحققة
الفاضلة إذ لَمْ تميز بَيْنَ: ((أخبرنا))
و ((أنبأنا)) في أن الأولى تختصر والثانية لا تختصر.
(4) في (جـ): ((يذكر)).
(5) الكفاية: (323 ت، 215 هـ).
(6) كلمة: ((الرجل)) لَمْ ترد في (ب).
(7) أخرجه الخطيب في الكفاية: (323 ت، 215 هـ).
(1/335)
الحافِظُ أنَّ أبا يوسُفَ مُحَمَّدَ بنَ
سُفْيانَ الصَّفَّارَ أخبرهُمْ))، فذَكَرَ لهُ أنَّهَا أحاديثُ
سَمِعَهَا قراءةً عَلَى شُيُوخِهِ في جُمْلَةِ نُسَخٍ نَسَبُوا
الذينَ حَدَّثُوهُمْ بها في أوَّلِها، واقْتَصَرُوا في
بقيَّتِها عَلَى ذِكْرِ أسْمائِهِمْ (1).
قالَ: وكانَ غيرُهُ يقُولُ في مِثْلِ هذا: ((أخبرنا فُلانٌ،
قالَ: أخبرنا فُلانٌ، هوَ ابنُ فُلانٍ)) (2)، ثُمَّ يَسُوقُ
نَسَبَهُ إلى مُنْتَهَاهُ. قالَ (3): ((وهذا الذي
أسْتَحِبُّهُ؛ لأنَّ قَوْماً مِنَ الرواةِ كانُوا يَقُولُونَ
فيما أُجِيْزَ لهمْ: ((أخبرنا فُلانٌ أنَّ فُلاناً
حَدَّثَهُمْ)) (4).
قُلتُ: جميعُ هذهِ الوجوهِ جائِزٌ، وأوْلاَها أنْ يَقُولَ:
((هوَ ابنُ فُلانٍ أو يعني: ابنَ فُلانٍ))، ثُمَّ أنْ يَقُولَ:
((إنَّ فُلاَنَ بنَ فُلانٍ))، ثُمَّ أنْ يَذْكُرَ المذكُورَ في
أوَّلِ الجزْءِ بعَيْنِهِ مِنْ غيرِ فَصْلٍ، واللهُ أعلمُ.
الثَّالِثَ عَشَرَ: جَرَتِ العادةُ بحذْفِ ((قالَ)) (5)
ونَحْوِهِ فيما بَيْنَ رجالِ الإسْنادِ خَطّاً (6)، ولا بُدَّ
مِنْ ذِكْرِهِ حالَةَ القراءةِ لَفظاً. ومِمَّا قَدْ يُغْفَلُ
عنهُ مِنْ ذَلِكَ ما إذا كان في أثناءِ الإسْنادِ: ((قُرِئَ
عَلَى فُلانٍ: أأخْبَرَكَ فُلانٌ؟)) فَيَنبَغِي للقَارِئِ أنْ
يَقُولَ فيهِ:
((قيلَ لهُ: أخبركَ فُلانٌ)). وَوَقَعَ في بعضِ ذَلِكَ:
((قُرِئَ عَلَى فُلانٍ: حَدَّثَنا فلانٌ))، فهذا يُذْكَرُ
فيهِ: ((قالَ))، فَيُقَالُ: ((قُرِئَ عَلَى فُلانٍ، قالَ:
حَدَّثنا (7) فلانٌ))، وقدْ جاءَ هذا مُصَرَّحاً بهِ خَطّاً
هكذا في بعضِ ما رُوِّيْناهُ (8).
__________
(1) الكفاية: (323 ت، 216 هـ).
(2) الكفاية: (323 ت، 216 هـ).
(3) الضمير في (قال) للخطيب البغدادي.
(4) الكفاية: (323 ت، 215 - 216 هـ).
(5) انظر: نكت الزركشي 3/ 628.
(6) في (أ): ((خطأ)) بالهمزة.
(7) في (م): ((أخبرنا)).
(8) في (أ): ((روينا)).
(1/336)
وإذا تَكَرَّرَتْ كَلِمَةُ: ((قالَ)) كما
في قولِهِ في كِتابِ البخاريِّ: ((حَدَّثَنا صالِحُ بنُ
حَيَّانَ، قالَ: قالَ عامِرٌ الشَّعْبِيُّ)) (1)، حذفُوا
إحْداهُما (2) في الخطِّ وعلى القارِئِ أنْ يَلْفِظَ بهِمَا
جميعاً، واللهُ أعلمُ.
الرَّابِعَ عَشَرَ: النُّسَخُ المشْهُورَةُ المشْتَمِلَةُ
عَلَى أحاديثَ بإسْنادٍ واحِدٍ، كَنُسْخَةِ: هَمَّامِ بنِ
مُنَبِّهٍ، عَنْ أبي هُرَيْرَةَ))، رِوايةِ عبدِ الرَّزَّاقِ،
عَنْ مَعْمَرٍ، عنهُ، ونحْوِها مِنَ النُّسَخِ والأجْزَاءِ.
مِنْهُمْ مَنْ يُجَدِّدُ ذِكْرَ الإسْنادِ في أوَّلِ كُلِّ
حديثٍ منها، ويُوجَدُ هذا في كثيرٍ مِنَ الأُصُولِ القدِيْمةِ،
وذلكَ أحْوَطُ. ومِنْهُمْ مَنْ يَكْتَفِي بذِكْرِ الإسْنادِ في
أوَّلِها عندَ أوَّلِ حديثٍ منها، أو في أوَّلِ كُلِّ مَجْلِسٍ
مِنْ مَجالِسِ سَماعِها، ويُدْرِجُ الباقِيَ عليهِ، ويقولُ في
كُلِّ حديثٍ بَعْدَهُ ((وبالإسْنادِ)) أو ((وبهِ))، وذلكَ هوَ
الأغْلَبُ الأكْثَرُ، وإذا أرادَ مَنْ كَانَ سَمَاعُهُ عَلَى
هذا الوجْهِ تَفريقَ تِلْكَ الأحاديثِ ورِوايةَ كُلِّ حديثٍ
منها بالإسنادِ المذكورِ في أوَّلِها، جازَ لهُ ذلكَ عندَ
الأكْثَرِينَ، مِنْهُمْ: وكِيعُ بنُ الجرَّاحِ (3)، ويحيى بنُ
مَعِيْنٍ (4)، وأبو بَكْرٍ الإسْماعِيْلِيُّ (5). وهذا؛ لأنَّ
الجميعَ مَعطوفٌ عَلَى الأوَّلِ، فالإسْنادُ المذكورُ أوَّلاً
في حُكْمِ المذكورِ في كُلِّ حديثٍ، وهوَ بِمَثَابةِ تقطِيعِ
المتنِ الواحِدِ في أبوابٍ بإسْنادِهِ المذكورِ في أوَّلِهِ،
واللهُ أعلمُ.
ومِنَ المحدِّثِينَ مَنْ أبى إفْرَادَ شَيءٍ مِنْ تِلْكَ
الأحادِيثِ الْمُدْرَجَةِ بالإسْنادِ المذكورِ أوَّلاً ورَآهُ
تَدلِيْساً. وسَأَلَ بعضُ أهلِ الحديثِ الأسْتاذَ أبا إسْحاقَ
الإسْفرايينِيَّ الفقيهَ الأصُولِيَّ عَنْ ذَلِكَ؟ فقالَ: ((لا
يَجُوزُ)) (6).
__________
(1) صحيح البُخَارِيّ 1/ 35 (97).
(2) في (ع): ((إحديهما)).
(3) الكفاية: (322 ت، 214 - 215 هـ).
(4) المصدر السابق.
(5) الكفاية: (322 ت، 215 هـ).
(6) قال السخاوي في فتح المغيث 2/ 252: ((ومنع منه الأستاذ أبو
إسحاق الإسفراييني في الأسئلة التي سأله عنها الحافظ أبو سعد
بن عليك، وقال: إنه لا يجوز أن يذكر الإسناد في كل حديث منها
لمن سماعه عَلَى هذا الوصف)).
(1/337)
وعلى هَذَا مَنْ كانَ سماعُهُ عَلَى هَذَا
الوجْهِ فَطَرِيْقُهُ أنْ يُبَيِّنَ ويَحْكِيَ ذَلِكَ كَمَا
جَرَى، كَمَا فَعَلَهُ مُسْلِمٌ في "صحيحِهِ" (1) في ((صحيفةِ
هَمَّامِ بنِ مُنَبِّهٍ))، نحوُ قَولِهِ:
((حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بنُ رافِعٍ، قالَ: حَدَّثَنا عبدُ
الرَّزَّاقِ، قالَ: أخبرنا مَعْمَرٌ، عنْ هَمَّامِ بنِ
مُنَبِّهٍ، قالَ: هذا ما حَدَّثَنا أبو هُرَيرةَ وذَكَرَ
أحادِيْثَ، مِنْها: ((وقالَ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم
-: إنَّ أدْنَى مَقْعَدِ أحدِكُمْ في الجنَّةِ أنْ يَقُولَ
لهُ: تَمَنَّ ... الحديثَ)). وهكذا فَعَلَ كَثيرٌ مِنَ
المؤَلِّفِينَ (2)، واللهُ أعلمُ.
الخامِسَ عَشَرَ: إذا قَدَّمَ ذِكْرَ المتنِ عَلَى الإسنادِ أو
ذِكْرَ المتنِ وبعضِ الإسنادِ ثُمَّ ذَكَرَ الإسْنادَ
عَقِيْبَهُ (3) عَلَى الاتِّصَالِ، مِثلُ أنْ يَقولَ: ((قالَ
رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا))، أو يقولَ:
((رَوَى عُمَرُ بنُ دِينارٍ، عَنْ جابِرٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ
- صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا))، ثُمَّ يقولَ: ((أخبرنا بهِ
فُلانٌ، قالَ: أخبرنا فلانٌ))، ويَسُوقَ الإسنادَ حَتَّى
يَتَّصِلَ بِما قَدَّمَهُ، فهذا يَلْتَحِقُ بما إذا قَدَّمَ
(4) الإسْنادَ في كونِهِ يَصِيْرُ بهِ مُسْنِداً للحديثِ لا
مُرْسِلاً لهُ، فلَوْ أرادَ مَنْ سَمِعَهُ منهُ هكذا أنْ
يُقَدِّمَ الإسْنادَ ويُؤَخِّرَ المتنَ ويُلَفِّقَهُ كذلكَ
فقدْ وَرَدَ عَنْ بَعْضِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ المحدِّثِينَ
أنَّهُ جَوَّزَ ذَلِكَ.
قُلتُ: يَنْبَغِي أنْ يَكونَ فيهِ خِلافٌ نحوُ الخِلافِ في
تَقْدِيْمِ (5) بعضِ مَتْنِ الحديثِ عَلَى بعضٍ. وقدْ حَكَى
الخطيبُ المنعَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى القولِ بأنَّ الرِّوَايةَ
عَلَى المعنَى
لا تَجوزُ، والجوازَ عَلَى القولِ بأنَّ الروايةَ عَلَى المعنى
تجوزُ، ولا فَرْقَ بينَهُما في ذَلِكَ،
واللهُ أعلمُ.
وأمَّا ما يَفْعلُهُ بعضُهُمْ مِنْ إعادَةِ ذِكْرِ الإسْنادِ
في آخِرِ الكِتابِ أو الجزْءِ بعدَ ذِكْرِهِ أوَّلاً، فهذا لا
يَرْفَعُ الخِلاَفَ الذي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ في إفْرَادِ كُلِّ
حديثٍ بذلكَ الإسْنادِ عندَ
__________
(1) صحيح مسلم 1/ 114 عقيب (182).
(2) انظر: نكت الزركشي 3/ 629 - 630، ومحاسن الاصطلاح: 349.
(3) في الشذا: ((عقبه)).
(4) في بعض النسخ ضبط مبنياً للمجهول.
(5) راجع: نكت الزركشي 3/ 630 - 631.
(1/338)
روايَتِها؛ لِكَونِهِ لاَ يَقَعُ
مُتَّصِلاً بِكُلِّ واحدٍ منها، ولَكِنَّهُ يُفِيْدُ (1)
تأكِيْداً واحْتِياطاً ويَتَضَمَّنُ إجازَةً بالِغَةً مِنْ
أعلى أنواعِ الإجازاتِ، واللهُ أعلمُ.
السَّادِسَ عَشَرَ: إذا رَوَى الْمُحَدِّثُ الحديثَ بإسْنادٍ
ثُمَّ أتْبَعَهُ بإسْنادٍ آخَرَ، وقالَ عندَ انتِهَائِهِ:
((مِثْلَهُ)) فأرادَ الراوي عنهُ أنْ يَقْتَصِرَ عَلَى
الإسْنادِ الثاني ويَسُوقَ لَفْظَ الحديثِ المذكورِ عَقِيبَ
الإسْنادِ الأوَّلِ، فالأظْهَرُ المنْعُ مِنْ ذَلِكَ (2).
ورُوِّينا عَنْ أبي بكرٍ الخطيبِ الحافِظِ - رَحِمَهُ اللهُ -
قالَ: ((كانَ شُعْبَةُ لاَ يُجِيزُ ذَلِكَ. وقالَ بعضُ أهلِ
العِلْمِ: يجوزُ ذَلِكَ إذا عُرِفَ (3) أنَّ المحدِّثَ ضَابِطٌ
مُتَحَفِّظٌ يذهبُ إلى تَمييزِ الألفاظِ وعدِّ الحروفِ. فإنْ
لَمْ يُعْرَفْ ذَلِكَ منهُ، لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ. وكانَ غيرُ
واحدٍ مِنْ أهلِ العِلْمِ إذا (4) رَوَى مِثلَ هذا يُورِدُ
الإسْنادَ ويَقُولُ: ((مِثْلُ حديثٍ قَبْلَهُ، مَتْنُهُ كذا
وكذا))، ثُمَّ يَسُوقُهُ. وكذلكَ إذا كانَ المحدِّثُ قدْ قالَ
نحوَهُ، قالَ: ((وهذا هوَ الذي أختارُهُ)) (5).
أخبرنا أبو أحمدَ عبدُ الوهابِ (6) بنُ أبي منصورٍ عليِّ بنِ
عليٍّ البغدادِيُّ شيخُ الشُّيوخِ بها بقراءَتي عليهِ بها،
قالَ: أخبرنا والدِي - رَحِمَهُ اللهُ -، قالَ: أخبرنا أبو
مُحَمَّدٍ عبدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدٍ الصَّرِيْفِينِيُّ (7)،
قالَ: أخبرنا أبو القاسِمِ بنُ حَبَابَةَ (8)، قالَ: حَدَّثَنا
أبو القاسِمِ عبدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدٍ البغويُّ، قالَ:
حَدَّثَنا عَمْرُو بنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ،
__________
(1) في (جـ): ((يقيد)).
(2) انظر: نكت الزركشي 3/ 631، ومحاسن الاصطلاح 352.
(3) في نسخة (أ) حاشية نصها: ((كذا ضبط في الأصل الذي فيه
السماع عَلَى الخطيب))، يعني: بضم العين، ومثلها في الشذا
الفياح.
(4) في (ع): ((إذا إذا)).
(5) الكفاية: (319 ت، 212 هـ).
(6) في (ب): ((أحمد بن عبد الوهاب))، وهو خطأ، والصواب ما
أُثْبِت كما في باقي النسخ ومصادر ترجمته. انظر: السير 21/
502.
(7) بفتح الصاد المهملة وكسر الراء وسكون الياء المنقوطة من
تحتها باثنتين والفاء بَيْنَ الياءين، وفي آخرها النون، هذه
النسبة إلى صريفين. انظر: الأنساب 3/ 545، وترجمته في السير
18/ 330.
(8) بفتح الحاء، واسمه عبيد الله. تاج العروس 2/ 227.
(1/339)
قالَ: حَدَّثَنا وكيعٌ قالَ: قالَ
شُعْبَةُ: ((فُلانٌ عنْ فُلانٍ، مِثْلَهُ لا يُجْزِئُ، قالَ
وكيعٌ: وقالَ سُفيانُ الثَّوْرِيُّ: يُجْزِئُ)) (1).
وأمَّا إذا قالَ: نحوَهُ، فهوَ في ذَلِكَ عِنْدَ بعضِهِمْ كما
إذا قالَ: مِثْلَهُ. نُبِّئْنا بإسْنادٍ عَنْ وكيعٍ، قالَ:
قالَ سُفْيانُ: ((إذا قالَ: نحْوَهُ، فهوَ حديثٌ. وقالَ
شُعْبَةُ: ((نَحْوَهُ)) شَكٌّ (2). وعَنْ يحيى بنِ مَعينٍ
أنَّهُ أجازَ ما قَدَّمنا ذِكْرَهُ في قَوْلِهِ: ((مِثْلَهُ))،
ولَمْ يُجِزْهُ في قَوْلِهِ: ((نحوَهُ)) (3). قالَ الخطيبُ:
((وهذا القولُ عَلَى مذهبِ مَنْ لَمْ يُجِزْ الروايةَ عَلَى
المعنى فأمَّا عَلَى مذهبِ مَنْ أجازَها فلا فَرْقَ بَيْنَ:
مِثْلَهُ ونحْوَهُ)) (4). واللهُ أعلمُ.
قلتُ: هذا لهُ تَعَلُّقٌ بما رُوِّيْناهُ (5) عَنْ مسعودِ بنِ
عليٍّ السِّجْزِيِّ (6) أنَّهُ سَمِعَ الحاكِمَ أبا عبدِ اللهِ
الحافِظَ يَقُولُ: ((إنَّ مِمَّا يَلْزمُ الحَدِيْثِيَّ مِنَ
الضَّبْطِ والإتْقَانِ أنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ أنْ يَقُولَ:
مِثْلَهُ، أو يَقُولَ: نَحْوَهُ، فلا يَحِلُّ لهُ أنْ يَقُولَ:
مِثْلَهُ إلاَّ بَعْدَ أنْ يَعْلَمَ أنَّهُما عَلَى لَفْظٍ (7)
واحدٍ، ويَحِلُّ لهُ أنْ يَقُولَ: نَحْوَهُ إذا كانَ عَلَى
مِثْلِ مَعَانيهِ))، واللهُ أعلمُ.
السَّابِعَ عَشَرَ: إذا ذَكَرَ الشَّيْخُ إسنادَ الحديثِ،
ولَمْ يَذْكُرْ مِنْ مَتْنِهِ إلاَّ طَرَفاً ثُمَّ قالَ:
((وذكرَ الحديْثَ)) أو قالَ: ((وذكرَ الحَديثَ بِطولِهِ))
فأرادَ الراوي عنهُ أن يرويَ عنهُ الحديثَ بكمالِهِ وبطُولهِ
فهذا أولى بالمنعِ مما سبقَ ذِكْرُهُ في قولِهِ: ((مِثْلَهُ))
أو ((نَحْوَهُ)). فطريقُهُ أنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ بأنْ
يَقْتَصَّ ما ذكرَهُ الشَّيْخُ عَلَى وجهِهِ، ويَقولَ (8):
((قال: وذكرَ الحديثَ بطُولِهِ)). ثُمَّ يَقُولَ: ((والحديثُ
بطُولِهِ هوَ كذا وكذا))، ويسوقَهُ إلى آخرِهِ.
__________
(1) أخرج الخطيب معناه في الكفاية: (319 ت، 213 هـ).
(2) أسنده الخطيب في الكفاية: (320 ت، 213 هـ).
(3) أسنده الخطيب في الكفاية: (320 - 321 ت، 213 - 214 هـ).
(4) الكفاية: (321 ت، 214 هـ).
(5) في (ب) و (ج): ((روينا)).
(6) سؤالات مسعود: 123.
(7) في (أ): ((معنى)).
(8) في (ع) والتقييد: ((فيقول)).
(1/340)
وسألَ بعضُ أهلِ الحديثِ أبا إسْحاقَ
إبراهِيمَ بنَ مُحَمَّدٍ الشَّافِعِيَّ المقَدَّمَ في الفقهِ
والأُصُولِ عَنْ ذَلِكَ، فقالَ: ((لاَ يَجوزُ لِمَنْ سَمِعَ
عَلَى هذا الوصفِ أنْ يرويَ الحديثَ بما فيهِ مِنَ الألفاظِ
عَلَى التفصيلِ)).
وسألَ أبو بكرٍ البَرْقانِيُّ الحافِظُ الفقيهُ أبا بكرٍ
الإسْماعِيْلِيَّ الحافِظَ الفَقيهَ عَمَّنْ قَرَأَ إسْنادَ
حديثٍ عَلَى الشَّيْخِ، ثُمَّ قالَ: ((وذكرَ الحديثَ))، هلْ
يَجوزُ أنْ يُحَدِّثَ بجميعِ الحديثِ؟ فقالَ: إذا عَرَفَ
المحدِّثُ والقارئُ ذَلِكَ الحديثَ فأرْجُو أنْ يَجُوزَ ذَلِكَ
والبيانُ أَوْلَى أنْ يَقُولَ كما كَانَ (1).
قلتُ: إذا جَوَّزْنا ذَلِكَ، فالتحقيقُ فيهِ أنَّهُ بطريقِ
الإجازَةِ فيما لَمْ يَذْكُرْهُ الشَّيْخُ، لكنَّها إجازَةٌ
أكِيدةٌ قَويَّةٌ مِنْ جِهاتٍ عديدةٍ، فجازَ لهذا مَعَ كونِ
أوَّلِهِ سماعاً إدراجُ الباقي عليهِ من غيرِ إفرادٍ لهُ بلفظِ
الإجازَةِ (2)، واللهُ أعلمُ.
الثَّامِنَ عَشَرَ: الظَّاهِرُ أنَّهُ لا يَجُوزُ تَغييرُ
((عَنِ النبيِّ)) إلى ((عَنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم
-))، وكذا بالعكسِ، وإنْ جازَتِ الروايةُ بالمعنى، فإنَّ
شَرْطَ ذَلِكَ ألاَّ يَخْتَلِفَ المعنى، والمعنى في هذا
مختلِفٌ (3). وثبتَ عَنْ عبدِ اللهِ بنِ أحمدَ بنِ حَنْبَلٍ
أنَّهُ رأَى أباهُ إذا كانَ في الكِتابِ ((النبيُّ)) فقالَ
المحدِّثُ: ((عَنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -))،
ضَرَبَ وكَتَبَ: ((عَنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -))
(4) وقالَ الخطيبُ أبو بكرٍ: ((هذا غيرُ لازمٍ، وإنَّما
اسْتَحَبَّ أحمدُ اتِّباعَ المحدِّثِ في لفظِهِ، وإلاَّ
فمذهبُهُ الترخيصُ في ذَلِكَ)) (5)، ثُمَّ ذكرَ بإسْنادِهِ
عَنْ صالِحِ بنِ أحمدَ بنِ حَنْبَلٍ، قالَ: ((قلتُ لأبي: يكونُ
في الحديثِ: قالَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فيجعلُ
الإنسانُ: قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: أرجو
ألاَّ يكونَ بهِ بأسٌ)) (6). وذكرَ الخطيبُ بسَنَدِهِ (7) عَنْ
حمَّادِ بنِ سَلَمَةَ
__________
(1) الكفاية: (445 ت، 311 هـ).
(2) قال البلقيني في المحاسن: 355: ((وعلى تقدير الإجازة، لا
يكون أولى بالمنع من: مثله، ونحوه، إذا كان الحديث بطوله
معلوماً لهما كما ذكر ((الإسماعيلي))، بل يكون أولى بالجواز)).
(3) راجع: نكت الزركشي 3/ 633، والتقييد والإيضاح: 239.
(4) أسنده الخطيب في الكفاية: (360 ت، 244 هـ).
(5) الكفاية: (360 ت، 244 هـ).
(6) أسنده الخطيب في الكفاية: (360 ت، 244 هـ).
(7) في (جـ): ((سنده)).
(1/341)
أنَّهُ كانَ يُحَدِّثُ وبينَ يديهِ
عَفَّانُ وبَهْزٌ، فجَعَلا يُغَيِّرانِ: ((النبيَّ - صلى الله
عليه وسلم -)) مَنْ ((رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -))،
فقالَ لهما حمَّادٌ: أمَّا أنتُما فلا تَفْقَهانِ أبداً)) (1)،
واللهُ أعلمُ.
التاسعَ عَشَرَ: إذا كانَ سَمَاعُهُ عَلَى صفةٍ فيها بعضُ
الوَهْنِ (2) فَعَليهِ أنْ يَذْكُرَها في حالَةِ الروايةِ،
فإنَّ في إغفالِها نوعاً من التَّدْلِيسِ، وفيما مَضَى لنا
أمثِلَةٌ لذلكَ. ومِنْ أمْثِلَتِهِ ما إذا حَدَّثَهُ المحدِّثُ
مِنْ حِفْظِهِ في حالةِ المذاكَرَةِ فَلْيَقُلْ: حَدَّثَنا
فُلانٌ مُذَاكَرَةً، أو حَدَّثَناهُ في الْمُذاكَرةِ، فقدْ
كانَ غيرُ واحدٍ مِنْ مُتَقدِّمي العلماءِ يَفْعَلُ ذَلِكَ.
وكانَ جماعَةٌ مِنْ حُفَّاظِهِمْ يمنعونَ مِنْ أنْ يُحمَلَ
عَنْهُمْ في الْمُذاكَرةِ شيءٌ، مِنْهُم: عبدُ الرحمانِ بنُ
مَهديٍّ (3) وأبو زُرْعَةَ الرازِيُّ (4). رُوِّيْناهُ عَنِ
ابنِ المبارَكِ (5) وغيرِهِ. وذلكَ لِمَا يَقَعُ فيها مِنَ
المساهَلَةِ مَعَ أنَّ الحِفْظَ خَوَّانٌ، ولذلكَ امْتَنَعَ
جَمَاعَةٌ مِنْ أعلامِ الحفَّاظِ مِنْ روايةِ ما يَحْفَظونَهُ
إلاَّ مِنْ كُتُبِهِمْ، مِنْهُم: أحمدُ بنُ حَنْبَلٍ - رضي
الله عنهم - أجمعينَ (6)، واللهُ أعلمُ.
العِشرونَ: إذا كانَ الحديثُ عَنْ رَجلينِ أحدُهُما مَجروحٌ،
مثلُ أنْ يكونَ عَنْ ثابِتٍ البُنَانِيِّ (7)، وأبانَ بنِ أبي
عَيَّاشٍ (8)، عَنْ أنسٍ فلا يُسْتَحْسَنُ إسْقاطُ المجروحِ
مِنَ الإسْنادِ والاقْتِصارُ عَلَى ذِكْرِ الثِّقَةِ، خوفاً
مِنْ أنْ يَكُونَ فيهِ عَنِ المجروحِ شيءٌ لَمْ يَذْكُرْهُ
__________
(1) أخرجه الخطيب في الكفاية: (361 ت، 244 - 245 هـ)، وانظر:
محاسن الاصطلاح 356.
(2) فال الزركشي في نكته 3/ 634: ((ظاهره الوجوب، وعبارة
الخطيب: أستحب أن يقول: حدثناه في المذاكرة)). وانظر: الجامع
لأخلاق الراوي 2/ 37.
(3) انظر: بعض الآثار الواردة عنه في ذَلِكَ مسندة في الجامع
لأخلاق الراوي وآداب السامع (1110)
و (1111).
(4) انظر: ما أسنده الخطيب في الجامع (1112) و (1113).
(5) انظر: بعض الآثار الواردة عنه في هذا الموضوع في الجامع
(1112).
(6) لذلك قال الإمام علي بن المديني: ((ليس في أصحابنا أحفظ من
أبي عبد الله أحمد بن حَنْبَلٍ، وبلغني أنَّهُ لا يحدث إلا من
كتاب، ولنا فيه أسوة)). وانظر: مزيداً من ذَلِكَ في الجامع 2/
12 - 13.
(7) انظر ترجمته في: تهذيب الكمال 1/ 402 (797).
(8) انظر ترجمته في: تهذيب الكمال 1/ 95 (138).
(1/342)
الثِّقَةُ، قالَ نحواً مِنْ ذَلِكَ أحمدُ
بنُ حَنْبَلٍ (1)، ثُمَّ الخطيبُ أبو بكرٍ (2). قالَ الخطيبُ:
((وكانَ مسلمُ بنُ الحجَّاجِ (3) في مثلِ هذا رُبَّما أسْقَطَ
المجروحَ مِنَ الإسْنادِ ويَذْكُرُ الثِّقَةَ، ثُمَّ يَقُولُ:
((وآخرُ)) كِنايَةً عَنِ المجروحِ)). قالَ: ((وهذا القولُ لا
فائدةَ فيهِ)) (4).
قلتُ: وهكذا يَنْبَغِي إذا كانَ الحديثُ عَنْ رَجلَينِ
ثِقَتَيْنِ ألاَّ يُسْقِطَ أحدَهُما منهُ؛ لِتَطَرُّقِ مثلِ
الاحْتِمالِ المذكورِ إليهِ، وإنْ كانَ محذورُ الإسْقاطِ فيهِ
أقَلَّ، ثُمَّ لاَ يَمتنعُ ذَلِكَ في الصورتينِ امْتِناعَ
تحريمٍ؛ لأنَّ الظاهِرَ اتِّفَاقُ الروايتينِ (5)، وما ذُكِرَ
مِنَ الاحْتِمالِ نادِرٌ بعيدٌ فإنَّهُ مِنَ الإدْراجِ الذي لا
يجوزُ تَعَمُّدُهُ كما سَبَقَ في نوعِ المدرجِ، واللهُ أعلمُ.
الحادي والعِشْرونَ: إذا سَمِعَ بَعْضَ حديثٍ مِنْ شيخٍ،
وَبَعْضَهُ مِنْ شيخٍ آخرَ فَخَلَطَهُ ولَمْ يُمَيِّزْهُ
وعَزَى الحديثَ جُملةً إليهِما مُبَيِّناً أنَّ عَنْ أحدِهِما
بعضَهُ، وعَنِ الآخَرِ بَعْضَهُ فذلكَ جائِزٌ كما فعلَ
الزُّهْرِيُّ (6) في حديِ الإفْكِ حيثُ رواهُ عَنْ عُرْوَةَ،
وابنِ الْمُسَيِّبِ، وعلقمةَ بنِ وقَّاصٍ اللَّيْثِيِّ،
وعُبَيْدِ اللهِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عُتبةَ، عَنْ عائِشَةَ
- رَضِيَ اللهُ عَنْها - وقالَ: ((وكُلُّهُمْ حَدَّثَني طائفةً
مِنْ حديثِها قالوا: قالتْ: ... الحديثَ (7). ثُمَّ إنَّهُ ما
مِنْ شيءٍ مِنْ ذَلِكَ الحديثِ إلاَّ وهوَ في الحكْمِ كأنَّهُ
رواهُ عَنْ أحَدِ الرجلَينِ عَلَى الإبهامِ، حتَّى إذا كانَ
أحدُهُما مجروحاً لَمْ يَجُزْ الاحْتِجاجُ بشيءٍ من ذَلِكَ
الحديثِ، وغيرُ جائِزٍ لأحَدٍ بعدَ اخْتِلاطِ ذَلِكَ، أنْ
يُسْقِطَ ذِكْرَ أحَدِ الراويَينِ (8) ويَرْويَ
__________
(1) الكفاية: (537 ت، 378 هـ).
(2) انظر: الكفاية (537 - 538 ت، 377 - 378 هـ).
(3) وكذلك صنع الإمام البخَاري والنسائي، انظر: تهذيب الكمال
4/ 255 - 256 ترجمة عبد الله بن لهيعة.
(4) الكفاية: (378 هـ، 537 ت)، قلنا: وقد تعقبه الزركشي في
نكته 3/ 634 فقالَ: ((بل له فائدةٌ وهو الإعلام بأنه رواه عن
رجلين، وأن المذكور لم ينفرد، وفيه تتبع الطرق)). وانظر: محاسن
الاصطلاح: 257.
(5) في (أ) و (ب) والشذا والتقييد: ((الراويين)).
(6) قال الزركشي في نكته 3/ 635: ((ما ذكره في حديث الإفك قد
تقدم أن الزُّهْرِيّ قال فيه - بعد أن ذكر ما ذكر: الذي
حَدَّثَني عروة عن عائشة. وساقه من طريق عروة -، وقد تقدم
مافيه)).
(7) صحيح البخاري 3/ 219 و 4/ 40 و 5/ 110 و 148 و 6/ 95 و 96
و 8/ 112 و 118 و 168 و 172 و 9/ 139 و 176.
(8) في (جـ): ((الرِّوَايَتَيْنِ)).
(1/343)
الحديثَ عَنِ الآخَرِ وَحْدَهُ، بلْ يَجِبُ
ذِكْرُهُما جميعاً مَقْرُوناً بالإفصاحِ بأنَّ بعضَهُ عَنْ
أحدِهِما، وبعضَهُ عَنِ الآخَرِ، واللهُ أعلمُ.
النَّوْعُ السَّابِعُ والعِشْرُونَ
مَعْرِفَةُ آدَابِ الْمُحَدِّثِ
وقَدْ مَضَى طَرَفٌ مِنها اقْتَضَتْهُ الأنْواعُ التي
قَبْلَهُ.
عِلْمُ الحديثِ عِلْمٌ شَريفٌ، يُناسِبُ مَكارِمَ الأخْلاَقِ
ومَحَاسِنَ الشِّيَمِ (1)، ويُنافِرُ مَسَاوِئَ (2) الأخلاقِ
ومَشَايِنَ الشِّيَمِ، وهوَ مِنْ عُلُومِ الآخِرَةِ لا مِنْ
عُلُومِ الدنيا (3). فَمَنْ أرادَ التَّصَدِّي لإسْماعِ
الحديثِ أو لإفادَةِ شيءٍ مِنْ عُلُومِهِ، فَلْيُقَدِّمْ
تَصْحِيْحَ النِّيَّةِ وإخْلاَصَها وليُطَهِّرْ قَلْبَهُ مِنَ
الأغراضِ الدُّنْيَوِيَّةِ وأدناسِها، وليَحْذَرْ بَلِيَّةَ
حُبِّ الرِّيَاسَةِ ورُعُوناتِها.
وَقَدِ اخْتُلِفَ في السِّنِّ الذي إذا بلغَهُ اسْتُحِبَّ لهُ
التَّصَدِّي لإسْماعِ الحديثِ والانْتِصَابِ لرِوايتِهِ.
والذي نَقُولُهُ إنَّهُ متى احْتِيجَ إلى ما عِنْدَهُ (4)،
اسْتُحِبَّ لهُ التَّصَدِّي لرِوايتِهِ ونَشْرِهِ في أيِّ
سِنٍّ كانَ. ورُوِّيْنا عَنِ القاضِي الفاضِلِ أبي مُحَمَّدِ
بنِ خَلاَّدٍ -رَحِمَهُ اللهُ- أنَّهُ قالَ (5): ((الذي
يَصِحُّ عِنْدِي مِنْ طريقِ الأثَرِ والنَّظَرِ في الحدِّ الذي
إذا بلَغَهُ الناقِلُ حَسُنَ بهِ أنْ يُحَدِّثَ، هُوَ أنْ
يَسْتَوفِيَ الخمسينَ؛ لأنَّها انْتِهاءُ الكُهُولَةِ وفيها
مُجْتَمَعُ الأشُدِّ.
__________
(1) قال الزركشي 3/ 636: ((هذه مقالة معنوية، إلا فالذي يقابل
الشين الزين لا المحاسن، قال في الصحاح: الشين خلاف الزين،
يقال: شانه يشينه، والمشاين: المعايب والمقابح ... انتهى. وقد
كرّر الشيم ثلاث مرات، مرتين باللفظ، ومرة بالمعنى، وهو
الأخلاق، لكن قيل: الشيم: الطبائع)).
وانظر: الصحاح 5/ 1964، 2147.
(2) في (أ) و (ب): ((مساوي)) بلا همز، قال الزركشي في نكته 3/
637: ((قال صاحب تثقيف اللسان: ويقولون: ظهرت مساويه، والصواب:
مساوئه بالهمز. وقد استدرك أبو إسحاق الأجدابي عليه، قال:
الأصل الهمز كما ذكرته، وترك الهمز جائز عَلَى لغة من يقول في
الخاطئين: الخاطين، وهي لغة معروفة)).
(3) قال الزركشي في نكته 3/ 637: ((مراد أنَّهُ عبادة لذاته لا
صناعة)).
(4) في (جـ): ((إلى طلب ما عنده ... )).
(5) المحدّث الفاصل: 352، ونقله عنه القاضي في الإلماع: 200،
والخطيب في الجامع 1/ 323 (716).
(1/344)
قالَ سُحَيْمُ بنُ وُثَيْلٍ (1):
أخُو خَمْسِيْنَ مُجْتَمِعٌ أَشُدِّي ... ونَجَّذَنِي
مُدَاوَرَةُ الشُّؤُونِ (2)
قالَ: ((وليسَ بِمُنْكَرٍ أنْ يُحَدِّثَ عِندَ اسْتِيْفاءِ
الأرْبَعينَ؛ لأنَّها حَدُّ الاسْتواءِ ومُنْتَهى الكَمالِ؛
نُبِّئَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وهوَ ابنُ
أربعينَ، وفي الأربعينَ تَتَناهَى عَزِيْمَةُ الإنْسَانِ
وقُوَّتُهُ ويَتَوَفَّرُ عَقْلُهُ ويَجُودُ رَأْيُهُ)) (3).
وأنْكَرَ القاضِي عِيَاضٌ ذَلِكَ عَلَى ابنِ خَلاَّدٍ، وقالَ:
((كَمْ مِنَ السَّلَفِ الْمُتَقَدِّمِينَ ومَنْ بَعْدَهُمْ (4)
مِنَ المحدِّثِينَ مِنْ لَمْ يَنْتَهِ إلى هذا السِّنِّ (5)
وماتَ قَبلَهُ، وقدْ نَشَرَ مِنَ الحديثِ والعِلْمِ ما لاَ
يُحْصَى. هذا عُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ تُوفِّيَ وَلَمْ
يُكْمِلِ الأرْبَعينَ، وسَعيدُ بنُ جُبيرٍ لَمْ يَبلُغِ
الخمْسِينَ. وكذلكَ إبراهيمُ النَّخَعِيُّ، وهذا مالِكُ بنُ
أنسٍ جلَسَ للنَّاسِ ابنَ نَيِّفٍ وعِشْرينَ، وقيلَ: ابنُ
سَبْعَ عَشْرَةَ، والنَّاسُ مُتَوَافِرُونَ وشُيُوخُهُ أحياءٌ.
وكذلكَ مُحَمَّدُ بنُ إدْريسَ الشَّافِعِيُّ قَدْ أُخِذَ عنهُ
العِلْمَ في سِنِّ الحدَاثَةِ وانتَصَبَ لِذَلِكَ)) (6)،
واللهُ أعلم.
__________
(1) هو سحيم بن وثيل - بالمثلثة مصغّر - الرياحي، شاعر مخضرم،
قال ابن دريد: عاش في الجاهلية أربعين وفي الإسلام ستين. انظر:
الإصابة 2/ 110.
(2) هو في الكامل 1/ 304، والصحاح 2/ 571، وأساس البلاغة: 619،
واللسان 3/ 513، وتاج العروس 9/ 485. وقوله: ((أخو خمسين))،
أي: أنا أخو خمسين سنة، واجتماع الأشد: عبارة عن كمال القوى في
البدن والعقل، ومعنى: نجذني، أي: جعلني ذا تجربة وخبرة، يقال:
رجل منجِّذ
- بضم الميم وفتح الجيم أو كسرها - الذي جَرَّب الأمور وعرفها
وأحكمها، وهو المجرّب، قال اللحياني: المنجذ هو الذي أصابته
البلايا. والمداورة: المعالجة والمزاولة، والشؤون: الأمور،
يعني: مداولة الأمور ومعالجتها. انظر: اللسان 3/ 513، وحاشية
الإلماع: 200.
(3) المحدّث الفاصل: 352، ونقله عنه الخطيب في الجامع لأخلاق
الراوي وآداب السامع (716)، والقاضي عياض في الإلماع: 200.
(4) عبارة: ((ومن بعدهم)) سقطت من (م).
(5) في الشذا: ((الشيء)).
(6) الإلماع: 20 - 204.
(1/345)
قلتُ: ما ذكرَهُ ابنُ خَلاَّدٍ غيرُ
مُسْتَنْكَرٍ، وهوَ مَحمولٌ عَلَى أنَّهُ قالَهُ فِيْمَنْ
يَتَصَدَّى للتَّحْدِيثِ ابْتِداءً مِنْ نَفْسِهِ مِنْ غَيرِ
بَراعَةٍ (1) في العِلْمِ تَعَجَّلَتْ لهُ قَبْلَ السِّنِّ
الذي ذَكَرَهُ. فهذا إنَّما يَنْبَغِي لهُ ذَلِكَ بعدَ
اسْتِيْفاءِ السِّنِّ المذكُورِ فإنَّهُ مِظَنَّةُ الاحتياجِ
إلى ما عِنْدَهُ.
وأمَّا الذينَ ذَكَرَهُمْ عياضٌ مِمَّنْ حَدَّثَ قَبْلَ
ذَلِكَ، فالظَّاهِرُ أنَّ ذَلِكَ لبراعَةٍ مِنْهُم في العِلْمِ
تَقَدَّمَتْ، ظَهَرَ لهُمْ مَعَها الاحْتِياجُ إليهِمْ
فَحَدَّثُوا قبلَ ذَلِكَ، أو لأنَّهُم سُئِلُوا ذَلِكَ إمَّا
بصريحِ السُّؤَالِ، وإمَّا بقَرِيْنَةِ الحالِ.
وأمَّا السِّنُّ الذي إذا بلَغَهُ المحدِّثُ انْبَغَى (2) لهُ
الإمْسَاكُ عَنِ التَّحْدِيْثِ فَهُوَ السِّنُّ الذي يُخْشَى
عليهِ فيهِ مِنَ الْهَرَمِ والْخَرَفِ، ويُخافُ عليهِ فيهِ أنْ
يُخَلِّطَ (3)، ويروى ما ليسَ مِنْ حديثِهِ والنَّاسُ في
بُلُوغِ هذا السِّنُّ يَتَفاوتُونَ بحسبِ اخْتِلافِ
أحْوَالِهِمْ، وهكذا إذا عَمِيَ وخَافَ أنْ يُدْخَلَ عليهِ ما
ليسَ مِنْ حَدِيْثِهِ فليُمْسِكْ عَنِ الروايةِ. وقالَ ابنُ
خَلاَّدٍ: ((أعْجَبُ إليَّ أنْ يُمْسِكَ في الثمانينَ؛ لأنَّهُ
حَدُّ الْهَرَمِ؛ فإنْ كانَ عَقْلُهُ ثَابِتاً ورَأْيُهُ
مُجْتَمِعاً يَعْرِفُ حديثَهُ ويَقُومُ بهِ وتَحرَّى أنْ
يُحَدِّثَ احْتِسَاباً رَجَوْتُ لهُ خَيْراً)) (4).
ووَجْهُ ما قالَهُ أنَّ مَنْ بَلَغَ الثَّمَانِينَ ضَعُفَ
حَالُهُ في الغالِبِ، وخِيفَ عليهِ الاخْتِلالُ والإخْلالُ أوْ
أنْ لاَ يُفْطَنَ لهُ إلاَّ بعدَ أنْ يَخْلِطَ كما اتُّفِقَ
لِغَيْرِ واحِدٍ مِنَ الثِّقَاتِ، مِنْهُم: عبدُ الرَّزَّاقِ،
وسَعيدُ بنُ أبي عَرُوبةَ. وقدْ حدَّثَ خَلْقٌ بَعْدَ
مُجاوزَةِ هذا السِّنِّ فَسَاعَدَهُمُ التَّوْفِيقُ
وصَحِبَتْهُمْ السَّلامَةُ، مِنْهُم: أنَسُ بنُ مالِكٍ وسَهْلُ
بنُ سَعْدٍ، وعبدُ اللهِ بنُ أبي أوْفَى مِنَ الصحابةِ،
ومالِكٌ، واللَّيثُ، وابنُ عُيينةَ، وعليُّ ابنُ الجعْدِ (5)،
في عددٍ جَمٍّ مِنَ المتَقَدِّمينَ والمتَأَخِّرينَ. وفيهم (6)
غيرُ واحدٍ حَدَّثُوا بعدَ اسْتِيْفاءِ مئةِ سَنَةٍ، مِنْهُم:
__________
(1) في (أ): ((من غير براعة له ... )).
(2) في (أ) و (ب): ((ابتغى)).
(3) قال القاضي عياض في الإلماع: 204: ((الحد في ترك الشَّيْخ
التحديث التغير، وخوف الهرم)).
(4) المحدّث الفاصل: 354 رقم (289).
(5) في (جـ): ((الجعدي)).
(6) في (جـ): ((ومنهم)).
(1/346)
الحسَنُ بنُ عَرَفةَ، وأبو القاسمِ
البَغَويُّ، وأبو إسحاقَ الْهُجَيْمِيُّ (1)، والقاضي أبو
الطَّيِّبِ الطَّبَريُّ (2) - رضي الله عنهم - أجمعينَ، واللهُ
أعلمُ.
ثُمَّ إنَّهُ لا يَنْبَغِي للمُحَدِّثِ أنْ يُحَدِّثَ
بِحَضْرَةِ مَنْ هوَ أوْلَى منهُ (3) بذلكَ. وكانَ (4)
إبراهيمُ والشَّعْبيُّ إذا اجْتَمعا لَمْ يَتَكَلَّمْ إبراهيمُ
بشيءٍ (5). وزادَ بعضُهُمْ فَكَرِهَ الروايةَ ببلَدٍ فيهِ مِنَ
المحدِّثينَ مَنْ هوَ أوْلَى منهُ لِسِنِّهِ أو لغيرِ ذَلِكَ.
رُوِّيْنا عَنْ يحيى بنِ مَعينٍ، قالَ:
((إذا حدَّثْتُ في بلدٍ فيهِ مثلُ أبي مُسْهِرٍ (6) فيجبُ
لِلِحْيَتِي أنْ تُحْلَقَ)) (7). وعنهُ أيضاً:
((إنَّ الذي يُحَدِّثُ بالبَلْدَةِ وفيها مَنْ هوَ أوْلَى
بالتحديثِ منهُ (8) أحْمَقُ)) (9).
ويَنْبَغِي للمحدِّثِ إذا التُمِسَ منهُ ما يَعْلَمُهُ عندَ
غيرِهِ في بَلَدِهِ أوْ غيرِهِ بإسنادٍ أعلى مِنْ إسنادِهِ،
أوْ أرْجَحَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أنْ يُعْلِمَ الطَّالِبَ بهِ
ويُرْشِدَهُ إليهِ، فإنَّ الدينَ النصيحةُ. ولاَ يَمْتَنِعُ
(10) مِنْ تَحْدِيثِ أحَدٍ لِكَوْنِهِ غيرَ صحيحِ النِّيَّةِ
فيهِ؛ فإنَّهُ يُرجَى لهُ حُصُولُ النِّيَّةِ مِنْ بَعْدُ.
رُوِّيْنا عَنْ مَعْمَرٍ (11) قالَ كانَ يُقَالُ: ((إنَّ
الرجلَ لَيَطْلُبُ العِلْمَ لغيرِ اللهِ فَيَأْبَى
__________
(1) انظر قصته في: نكت الزركشي 3/ 641، وشرح التبصرة والتذكرة
2/ 309.
(2) انظر: نكت الزركشي 3/ 638 - 642.
(3) قال الزركشي في نكته 3/ 642: ((سُئِل أين ابن المبارك
وسفيان بن عيينة حاضر، فقال: نهينا أن نتكلم عِنْدَ أكابرنا،
فقلت - القائل هو الزركشي -: إلاَّ بإذنه، وقد بوّب ابن عبد
البر باباً في فتوى الصغير بَيْنَ يدي الكبير بإذنه)).
(4) في (أ) و (جـ): ((كان)) بلا واو.
(5) انظر: الجامع لأخلاق الراوي 1/ 320 وفيه زيادة كلمة:
((لسنه)).
(6) هو الإمام عبد الأعلى بن مسهر بن عبد الأعلى الدمشقي (ت
218 هـ)، انظر: طبقات ابن سعد 7/ 473، وتاريخ بغداد 11/ 72،
والسير 10/ 228.
(7) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (701).
(8) بعد هذا في (ع) زيادة: ((فهو))، وهي لَمْ ترد في النسخ ولا
(م).
(9) أخرجه الخطيب في الجامع (700)، وفي التاريخ 11/ 74.
(10) انظر: نكت الزركشي 3/ 642 - 645.
(11) بفتح الميم وإسكان العين، كَمَسْكَن، هو الإمام الحافظ
أبو عروة مَعْمَرُ بن راشد الأزْدي البصري ثم اليماني
الصَّنعاني، ولد سنة (95 هـ) بالبصرة، وسكن اليمن ومات فيها
سنة (153 هـ). انظر: تهذيب الأسماء واللغات 2/ 107، والسير 7/
5، والتاج 13/ 145.
(1/347)
عليهِ العِلمُ حَتَّى يكونَ للهِ عَزَّ
وجَلَّ)) (1).
وليكُنْ حريصاً عَلَى نَشْرِهِ مُبْتَغِياً جَزِيْلَ أجْرِهِ.
وقدْ كانَ في السَّلَفِ - رضي الله عنهم - مَنْ
يَتألَّفُ (2) الناسَ عَلَى حديثِهِ، مِنْهُم: عُرْوةُ بنُ
الزبيرِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- واللهُ أعلمُ (3).
وليقتَدِ بِمَالِكٍ - رضي الله عنه - فيما أخْبَرَناهُ أبو
القاسِمِ الفَرَاويُّ بِنَيْسَابورَ، قالَ: أخْبَرَنا (4) أبو
المعالِي الفارِسِيُّ، قالَ: أخبرنا أبو بكرٍ البَيْهَقِيُّ
الحافِظُ، قالَ: أخبرنا أبو عبدِ اللهِ الحافِظُ، قالَ: أخبرني
إسماعيلُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ الفَضْلِ بنِ مُحَمَّدٍ
الشَّعْرَانِيُّ، قالَ: حَدَّثَنا جَدِّي، قالَ: حَدَّثَنا
إسماعيلُ بنُ أبي أُوَيْسٍ، قالَ: ((كانَ مالكُ بنُ أنسٍ إذا
أرادَ أنْ يُحَدِّثَ تَوَضَّأَ (5)، وجَلَسَ عَلَى صَدْرِ
فِراشِهِ وسَرَّحَ لِحْيَتَهُ، وتَمَكَّنَ في جُلُوسِهِ
بِوَقارٍ وهَيْبَةٍ، وحدَّثَ))، فقِيلَ لهُ في ذَلِكَ؟ فقالَ:
أُحِبُّ أنْ أُعَظِّمَ حديثَ رسُولِ اللهِ - صلى الله عليه
وسلم - (6) ولاَ أُحَدِّثُ إلاَّ عَلَى طَهَارَةٍ
مُتَمَكِّناً. وكانَ يَكْرَهُ أنْ يُحَدِّثَ في الطريقِ، أو
هوَ قائِمٌ، أو يَسْتَعْجِلَ. وقالَ: أُحِبُّ أنْ أتَفَهَّمَ
ما أُحَدِّثُ بهِ عَنْ رسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -)).
ورُوِيَ أيضاً عنهُ أنَّهُ كانَ يَغْتَسِلُ لِذَلِكَ
ويَتَبَخَّرُ، ويَتَطَيَّبُ، فإنْ رَفَعَ أحدٌ صَوْتَهُ في
مَجْلِسِهِ زَبْرَهُ (7)، وقالَ: قالَ اللهُ تَعَالَى: {يَا
أيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أصْواتَكُمْ فَوْقَ
صَوْتِ النَّبِيِّ} (8)، فَمَنْ رَفَعَ صَوتَهُ عِنْدَ حديثِ
رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فكأنَّما رَفَعَ صَوْتَهُ
فوقَ صَوتِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - (9).
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه 11/ 256 رقم (20475)، والخطيب
في جامعه (775).
(2) روى الخطيب في جامعه1/ 340 (778) عن الزُّهْرِيّ قال، قال:
((كان عروة يتألف الناس عَلَى حديثه)).
(3) جملة: ((والله أعلم)) سقطت من (ع)، وهي من النسخ و (م).
(4) في (م): ((حَدَّثَنا)).
(5) انظر: نكت الزركشي 3/ 645.
(6) في (جـ) بعد هذا زيادة: ((بذلك)).
(7) في (م): ((زجره))، والمعنى واحد، فالزبر: الانتهار، يقال:
زَبَرَهُ عن الأمر زَبْراً انتهره، والزَّبر أيضاً: الزَّجْرُ
والمنع والنَّهْي، يقال: زَبَرَهُ عن الأمر زَبْراً: نهاه
ومنعه. انظر: اللسان 4/ 315، وتاج العروس 11/ 399.
(8) الحجرات: 2.
(9) أخرجه الخطيب في الجامع (961)، وانظر: تفسير الطبري 26/
74، والدر المنثور 7/ 547.
(1/348)
ورُوِّيْنا أو بَلَغَنا عَنْ مُحَمَّدِ بنِ
أحمدَ بنِ عبدِ اللهِ الفقيهِ (1) أنَّهُ قالَ: ((القارئُ
لِحَدِيثِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا قامَ لأحَدٍ
فإنَّهُ تُكْتَبُ عليهِ خَطِيئةٌ)). ويُسْتَحَبُّ لهُ مَعَ
أهلِ مَجْلِسِهِ ما وَرَدَ عَنْ حَبِيْبِ بنِ أبي ثابِتٍ
أنَّهُ قالَ: ((إنَّ مِنَ السُّنَّةِ إذا حَدَّثَ الرجلُ
القومَ أنْ يُقْبِلَ عَلَيْهِمْ جَمِيعاً)) (2)، واللهُ أعلمُ.
ولاَ يَسْرُدُ الحديثَ سَرْداً يَمْنَعُ السامِعَ مِنْ إدْراكِ
بَعْضِهِ. وليَفْتَتِحْ مَجْلِسَهُ ولْيخَتَتِمْهُ بذِكْرٍ
ودُعاءٍ يَليقَ بالحالِ. ومِنْ أبْلَغِ (3) ما يَفْتَتِحُهُ
بهِ أنْ يقُولَ: الحمدُ للهِ رَبِّ العالمينَ أكملُ الحمدِ
عَلَى كُلِّ حالٍ، والصلاةُ والسلامُ الأتَمَّانِ عَلَى
سَيِّدِ المرسلينَ، كُلَّما ذَكرَهُ (4) الذاكِرُونَ، وكُلَّما
غَفَلَ عَنْ ذِكْرِهِ (5) الغافِلُونَ، اللَّهُمَّ صَلِّ عليهِ
وعلى آلِهِ وسائِرِ النَّبيِّينَ وآلِ كُلٍّ، وسائِرِ
الصَّالِحينَ، نِهايَةَ ما يَنْبَغِي أنْ يَسْأَلَهُ
السَّائِلُونَ.
ويُسْتَحَبُّ لِلْمُحَدِّثِ العارِفِ عَقْدُ مَجْلِسٍ لأملاءِ
(6) الحديثِ، فإنَّهُ مِنْ أعلى مَراتِبِ الرَّاوِينَ (7)،
والسماعُ فيهِ مِنْ أحْسَنِ وُجُوهِ التَّحَمُّلِ وأقْواهَا،
ولْيَتَّخِذْ مُسْتَمْلِياً يُبَلِّغُ عنهُ إذا كَثُرَ الجمعُ،
فذلكَ دَأْبُ أكابِرِ المحدِّثِيْنَ المتَصَدِّيْنَ لِمِثْلِ
ذَلِكَ. ومِمَّنْ رُوِيَ عنهُ ذَلِكَ: مالِكٌ، وشُعْبَةُ،
ووكِيْعٌ، وأبو عاصِمٍ، ويَزِيدُ بنُ هارونَ في عددٍ كثيرٍ
مِنَ
__________
(1) هو الإمام أبو زيد المروزي، راوي صحيح البخاري، عن
الفربري، توفي سنة (371 هـ). انظر:
السير: 16/ 313.
(2) أخرجه الخطيب في الجامع (981).
(3) قال الزركشي مُعَقِّباً عَلَى هذا الكلام: ((اعلم أن
المأثور في التحميد والصلاة أفضل من هذا، وقد ورد في التحميد
سنن مشهورة فينبغي اتِّباعها، وكذلك تتبع السنة الصحيحة في
الصلاة عَلَى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد نبّه عَلَى
هذا النووي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - ... )). نكت الزركشي
3/ 646، وانظر: روضة الطالبين 11/ 65 - 66.
(4) في (جـ): ((ذكرك))، وفي (م): ((ذكر)).
(5) في (جـ): ((ذكرك)).
(6) انظر: نكت الزركشي 3/ 646 - 649.
(7) في (جـ): ((الراويين)).
(1/349)
الأعلامِ السَّالِفينَ (1). وليَكُنْ
مُسْتَمْلِيهِ مُحَصِّلاً مُتَيَقِّظاً، كَيْلا يَقَعَ في
مِثْلِ ما رُوِّينا أنَّ يَزِيدَ بنَ هارونَ (2) سُئِلَ عَنْ
حديثٍ، فقالَ: ((حَدَّثَنا بهِ عِدَّةٌ، فصاحَ بهِ
مُسْتَمْلِيهِ: يا أبا خالدٍ! عِدَّةُ ابنُ مَنْ؟ فقالَ لهُ:
عِدَّةُ ابنُ فَقَدْتُكَ!)) (3).
وليَسْتَمْلِ عَلَى موضِعٍ مُرْتَفَعٍ (4) مِنْ كُرْسِيٍّ أو
نَحْوِهِ، فإنْ لَمْ يجدْ اسْتَمْلَى قائِماً. وعليهِ أنْ
يَتْبَعَ لَفْظَ المحدِّثِ فَيُؤَدِّيَهُ عَلَى وجْهِهِ (5)
مِنْ غيرِ خِلاَفٍ. والفائِدَةُ في اسْتِمْلاءِ
الْمُسْتَمْلِي، توصُّلُ مَنْ يَسْمَعُ لَفْظَ الْمُمْلِي
عَلَى بُعْدٍ منهُ إلى تَفَهُّمِهِ وتَحَقُّقِهِ بإبْلاَغِ
الْمُسْتَمْلِي. وأمَّا مَنْ لَمْ يَسْمَعْ إلاَّ لَفْظَ
الْمُسْتَمْلِي، فليسَ يستفيدُ بذلكَ جَوازُ روايتِهِ لذلكَ
عَنِ الممْلِي مُطْلَقاً مِنْ غيرِ بيانٍ للحالِ فيهِ، وفي هذا
كلامٌ قدْ تَقَدَّمَ في النوعِ الرابِعِ والعِشْرينَ.
ويُسْتَحبُّ افْتِتاحُ المجلسِ بقراءةِ قارئٍ لشيءٍ مِنَ
القُرآنِ العظيمِ (6)، فإذا فَرَغَ اسْتَنْصَتَ الْمُسْتَملِي
أهلَ المجلِسِ (7) إنْ كانَ فيهِ لَغْطٌ (8) ثُمَّ يُبَسْمِلُ،
ويَحْمدُ اللهَ تَبَارَكَ
__________
(1) الجامع لأخلاق الراوي 2/ 55 - 56.
(2) انظر: نكت الزركشي 3/ 649.
(3) أخرجه الخطيب في الجامع 2/ 67 (1201)، وابن السمعاني في
أدب الإملاء: 90.
(4) قيّد ابن السمعاني ذَلِكَ بما إذا كثر عدد من يحضر السماع،
وكانوا بحيث لا يرون وجه المستملي، فيستحب أن يجلس عَلَى منبر
أو غيره حَتَّى ترى الجماعة وجهه ويبلغهم صوته. وانظر: أدب
الإملاء: 50، ونكت الزركشي 3/ 650.
(5) قال الزركشي: ((عبارة الخطيب: ويستحب له ألا يخالف، وكذا
قال ابن السمعاني في أدب الإملاء، ثم صرّح بالوجوب فقال:
ويستحب للمستملي ألا يخالف لفظ المملي في التبليغ عنه، بل
يلزمه ذَلِكَ، خاصة إذا كان الراوي من أهل الدراية والمعرفة
بأحكام الرواية)). نكت الزركشي 3/ 650، وانظر: الجامع لأخلاق
الراوي 2/ 67، وأدب الإملاء: 105.
(6) انظر: أدب الإملاء: 98، ونكت الزركشي 3/ 650 - 651، وشرح
التبصرة 2/ 317.
(7) انظر: نكت الزركشي 3/ 651.
(8) جاء في حاشية نسخة (جـ) مقالة نصها: ((لفظ: بالتسكين أفصح،
وبالتحريك أشهر، وكل كلمة عَلَى ثلاثة أحرف، ووسطها حرف حلق؛
فإنه يجوز فيه التسكين والفتح إلا في النحو، العلم عَلَى علم
العربية، فلا يجوز إلا بالتسكين))، وبنحوها في حاشية (م).
والمراد باللفظ: الأصوات المبهمة المختلطة، والجَلَبة لا
تُفْهم. انظر اللسان 7/ 391، وتاج العروس20/ 74.
(1/350)
وتَعَالَى، ويُصَلِّي (1) عَلَى رسولِهِ
(2) ويَتَحَرَّى الأبْلَغَ في ذَلِكَ ثُمَّ يقبلُ عَلَى
المحدِّثِ ويَقُولُ: مَنْ ذَكَرْتَ أو ما ذَكَرْتَ رَحِمَكَ
(3) اللهُ أو غَفَرَ اللهُ لك أو نحوَ ذَلِكَ. وكُلَّما
انتَهَى إلى ذِكْرِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى
عليهِ. وذَكَرَ الخطيبُ أنَّهُ يَرْفَعُ صَوتَهُ بذلكَ (4)،
وإذا انتَهَى إلى ذِكْرِ الصحابيِّ قالَ: - رضي الله عنه -.
ويحسُنُ بالمحدِّثِ الثَّناءُ عَلَى شيخِهِ في حالةِ الروايةِ
عنهُ بما هو أهلٌ لهُ فقدْ فَعَلَ ذَلِكَ غيرُ واحدٍ مِنَ
السَّلَفِ والعلماءِ كما رُوِيَ عَنْ عطاءِ بنِ أبي رَباحٍ
أنَّهُ كانَ إذا حدَّثَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ
عَنْهُمَا - قالَ: ((حَدَّثَني البَحْرُ)) (5). وعنْ وكيعٍ
أنَّهُ قالَ: ((حَدَّثَنا سُفيانُ أميرُ المؤمنينَ في
الحديثِ)) (6). وأهمُّ مِنْ ذَلِكَ الدعاءُ لهُ عِنْدَ
ذِكْرِهِ، فلا يَغْفَلَنَّ عنهُ.
ولا بأسَ بذِكْرِ مَنْ يَرْوِي عنهُ بما يُعْرَفُ بهِ:
- مِنْ لَقَبٍ: كَغُنْدَرٍ لَقَبُ مُحَمَّدِ بنِ جَعْفَرٍ -
صاحِبِ شُعْبَةَ -، ولُوَيْنٌ (7) لَقَبُ مُحَمَّدِ بنِ
سُليمانَ المِصِّيْصِيِّ (8).
- أو نِسْبةٍ إلى أُمٍّ عُرِفَ بها: كَيَعْلَى بنِ مُنْيَةَ
(9) الصحابيِّ، وهوَ ابنُ أُمَيَّةَ، ومُنْيَةُ: أُمُّهُ،
وقيلَ: جَدَّتُهُ أُمُّ أبيهِ.
__________
(1) ينظر: الجامع 2/ 69، وأدب الإملاء: 98.
(2) في (ع): ((رسول الله)).
(3) انظر: نكت الزركشي 3/ 652 - 653.
(4) الجامع لأخلاق الراوي 2/ 103، وكذا قال السمعاني في أدب
الإملاء: 63.
(5) أخرجه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع
(1245).
(6) أخرجه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع
(1250).
(7) لُوَيْن: بالتصغير. التقريب (5925). وانظر: سبب هذه
التسمية في الجامع 2/ 75، والسير 11/ 501، ونكت الزركشي 3/
654.
(8) بكسر الميم - وقيل: بفتحها - وكسر الصاد وتشديدها، وياء
ساكنة، وبعدها صاد ثانية مهملة، وقيل: بتخفيف الصادين، هذه
النسبة إلى بلدة كبيرة عَلَى ساحل بحر الشام، يقال لها:
المصيصة. انظر: الأنساب 5/ 201، ووفيات الأعيان 1/ 127، ومراصد
الاطلاع 3/ 1280، والتاج 18/ 161. وقال الزركشي في نكته 3/
655: ((والمصيصي بالتشديد والتخفيف، فمن فتح الميم خفّف
الصاد)).
(9) بضم الميم وسكون النون بعدها تحتانية مفتوحة. التقريب
(7839)، وانظر: نكت الزركشي 3/ 655.
(1/351)
- أو وَصْفٍ بِصَفَةِ نَقْصٍ في جَسَدِهِ
عُرِفَ بها: كَسُليمانَ الأعْمَشِ، وعاصِمٍ الأحْوَلِ، إلاَّ
ما يكرهُهُ مِنْ ذَلِكَ، كما في إسماعيلَ بنِ إبراهيمَ
المعروفِ بابنِ عُلَيَّةَ وهيَ أُمُّهُ، وقيلَ: أمُّ أُمِّهِ.
رُوِّيْنا عَنْ يحيى بنِ مَعِيْنٍ أنَّهُ كانَ يَقُولُ:
((حَدَّثَنا إسْماعِيلُ بنُ عُلَيَّةَ، فَنَهاهُ أحمدُ بنُ
حَنْبَلٍ، وقالَ: قُلْ: إسْماعيلُ بنُ إبراهيمَ، فإنَّهُ
بَلَغَنِي أنَّهُ كانَ يَكرهُ أنْ يُنْسِبَ إلى أُمِّهِ،
فقالَ: قدْ قَبِلْنا مِنْكَ يا مُعَلِّمَ الخيْرِ)) (1).
وقَدِ اسْتُحِبَّ للمُمْلِي أنْ يَجْمَعَ في إمْلائِهِ بينَ
الروايةِ عَنْ جماعَةٍ مِنْ شُيُوخِهِ مُقَدِّماً للأعْلَى
إسْناداً أو الأولى مِن وَجْهٍ آخَرَ. ويُمْلي عَنْ كُلِّ
شَيْخٍ مِنْهُم حديثاً واحداً ويَختارُ ما علا سَنَدُهُ
وقَصُرَ مَتْنُهُ فإنَّهُ أحسَنُ وألْيَقُ، ويَنْتَقِي ما
يمليهِ ويَتَحَرَّى المستفادَ منهُ، ويُنَبِّهُ عَلَى ما فيهِ
مِنْ فائِدَةٍ وعُلُوٍّ وفَضيلةٍ، ويَتَجَنَّبُ ما لاَ
تَحْتَمِلُهُ عُقُولُ الحاضِرِينَ، وما يُخْشَى فيهِ مِنْ
دُخُولِ الوَهَمِ عليْهِمْ في فَهْمِهِ. وكانَ مِنْ عادةِ غيرِ
واحدٍ مِنَ المذكُورينَ خَتْمُ الإمْلاَءِ بشيءٍ مِنَ
الحِكَاياتِ والنَّوادِرِ والإنشاداتِ بأسَانِيدِها وذَلِكَ
حسَنٌ. (2)
وإذا قَصَّرَ المحدِّثُ عَنْ تَخْريجِ ما يُمْليهِ فاستعانَ
ببعضِ حُفَّاظِ وَقْتِهِ فَخَرَّجَ لهُ فلا بأسَ بذلكَ. قالَ
الخطيبُ: ((كانَ جماعةٌ مِنْ شُيوخِنا يفعلونَ ذَلِكَ)) (3).
وإذا نَجِزَ (4) الإملاءُ فلا غِنًى (5) عَنْ مُقَابلتِهِ
وإتْقانِهِ وإصْلاحِ (6) ما فَسَدَ منهُ بِزَيْغِ القَلَمِ
وطُغْيانِهِ.
__________
(1) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (1237).
(2) وقد عقد الخطيب في جامعه 2/ 129 - 131 باباً سمّاه ((ختم
المجلس بالحكايات ومستحب النوادر والإنشادات)) ساق فيه عدداً
من الآثار، وانظر لزاماً: محاسن الاصطلاح: 366، ونكت الزركشي
3/ 657.
(3) الجامع لأخلاق الراوي 2/ 88.
(4) في نسخة (ب) حاشية نصها: ((قال المصنف - رَحمه الله تَعالى
-: نجز -بكسر الجيم- بمعنى انقضى، فأما بالفتح كما تقول العامة
فمعناه حضر، وليس هذا موضعه))، وكذا في حاشية نسخة (جـ) و (م).
وانظر: الصحاح 3/ 897، واللسان 5/ 413 ونكت الزركشي 3/ 660،
والتقييد: 250.
(5) في (أ) و (ع) والتقييد: ((غناء)).
(6) في (م): ((إصلاح)) بلا واو.
(1/352)
هذهِ عُيُونٌ مِنْ آدابِ المحدِّثِ اجْتَزَأنا بها مُعرضينَ
عَنِ التَّطويلِ بما ليسَ مِنْ مهمَّاتِها أو هوَ ظاهِرٌ ليسَ
مِنْ مشْتَبهاتِها، واللهُ الموفِّقُ (1)، وهوَ أعلمُ. |