مقدمة ابن الصلاح معرفة أنواع علوم الحديث ت فحل

النَّوْعُ الثَّامِنُ والعِشْرُونَ
مَعْرِفَةُ آدَابِ طَالِبِ الحدِيْثِ (2)
وقَدِ انْدَرَجَ طَرَفٌ منهُ في ضِمْنِ ما تَقَدَّمَ.
فأوَّلُ ما عليهِ: تحقيقُ الإخْلاَصِ، والحَذَرُ مِنْ أنْ يَتَّخِذَهُ وُصْلَةً إلى شيءٍ مِنَ الأغراضِ الدُّنيويَّةِ. رُوِّيْنا عَنْ حَمَّادِ بنِ سَلَمَةَ - رضي الله عنه - أنَّهُ قالَ: ((مَنْ طَلَبَ الحديثَ لغيرِ اللهِ مُكِرَ بهِ)) (3)، وروِّيْنا عَنْ سُفْيانَ الثَّورِيِّ - رضي الله عنه - قالَ (4): ((ما أعلمُ عَمَلاً هُوَ أفضلُ مِنْ طَلَبِ الحديثِ لِمَنْ أرادَ اللهَ بهِ)) (5). ورُوِّيْنا نحْوَهُ عِنِ ابنِ المبارَكِ - رضي الله عنه - ومِنْ أقربِ الوجوهِ في إصلاحِ النِّيَّةِ فيهِ ما رُوِّيْنا عَنْ أبي عَمْرٍو إسْماعِيلَ بنِ نُجَيْدٍ أنَّهُ سَأَلَ أبا جَعفَرٍ أحمدَ بنِ حَمْدانَ، وكانا عَبْدَيْنِ صالِحَيْنِ، فقالَ لهُ: ((بأيِّ نِيَّةٍ أكْتُبُ الحديثَ؟ فقالَ: ألَسْتُمْ تَرْوونَ (6) أنَّ عِنْدَ ذِكْرِ الصالِحِينَ تَنْزِلُ الرَّحْمَةُ؟ قالَ: نَعَمْ. قالَ: فرسُول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسُ الصَّالِحينَ)).
__________
(1) بعد هذا في (ع): ((المعين))، ولم ترد في النسخ ولا (م).
(2) انظر في ذلك:
الإلماع: 45 وما بعدها، والإرشاد 1/ 521 528، والتقريب: 146 - 149، والاقتراح: 280 - 284، والمنهل الروي: 108، واختصار علوم الحديث: 157 - 158، والشذا الفياح: 1/ 400 - 418، والمقنع 1/ 407 - 418، وشرح التبصرة 2/ 332، ونزهة النظر: 204، وفتح المغيث 2/ 311 - 346، والتدريب 2/ 140 - 158، وفتح الباقي 2/ 223، وقواعد التحديث: 233 - 236.
(3) أخرجه أبو نعيم في الحلية 6/ 251، وابن عبد البر في الجامع 1/ 191، والخطيب في الجامع (19).
(4) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 1/ 59، والخطيب في الجامع (14)، وفي شرف أصحاب الحديث: 81 بمعناه.
(5) انظر: نكت الزركشي 3/ 661 - 663.
(6) في الشذا والتقييد: ((ترون أنَّ عِنْدَ)).

(1/353)


وليسْأَلِ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى التَّيْسِيْرَ والتَّأييدَ والتَّوْفيقَ والتَّسْديدَ، وليَأْخَذْ نَفْسَهُ بالأخلاقِ الزَّكِيَّةِ والآدابِ الرْضِيَّةِ (1). فَقَدْ رُوِّيْنا عَنْ أبي عاصِمٍ النَّبيلِ قالَ: ((مَنْ طَلَبَ هذا الحديثَ فقدْ طلبَ أعلى أمورِ الدِّينِ، فيجبُ أنْ يكونَ خَيْرُ النَّاسِ)) (2).
وفي السِّنِّ الذي يُسْتَحَبُّ فيهِ الابتداءُ بسماعِ الحديثِ وبِكِتْبتِهِ (3) اخْتِلافٌ سَبَقَ بيانُهُ في أوَّلِ النَّوعِ الرَّابِعِ والعِشْرِينَ. وإذا أخذَ فيهِ فَلْيُشَمِّرْ عَنْ ساقِ جُهْدِهِ واجْتِهادِهِ، ويَبْدأْ بالسَّماعِ مِنْ أسْنَدِ شُيوخِ (4) مِصْرِهِ ومِنَ الأوْلَى فَالأَوْلَى مِنْ حيثُ العِلْمُ أو الشُّهْرَةُ أو الشَّرَفُ أوْ غيرُ ذَلِكَ. وإذا فَرَغَ مِنْ سَماعِ العَوالِي والمهمَّاتِ التي ببلَدِهِ فَلْيَرْحَلْ إلى غيرِهِ.
رُوِّيْنا عَنْ يَحْيَى بنِ مَعِيْنٍ أنَّهُ قالَ: ((أربَعَةٌ لاَ تُؤْنِسْ مِنْهُم رُشْداً: حارسُ الدَّرْبِ، ومُنادِي القاضي، وابنُ المحدِّثِ، ورجلٌ يَكْتُبُ في بلدِهِ ولا يَرْحَلُ في طَلَبِ الحديثِ)) (5). ورُوِّيْنا عَنْ أحمدَ بنِ حَنْبَلٍ - رضي الله عنه - أنَّهُ قيلَ لهُ: ((أيَرْحَلُ الرجلُ في طَلَبِ العِلُوِّ؟ فقالَ: بَلَى واللهُ شديداً، لقَدْ كانَ علقَمةُ والأسْودُ يَبْلُغُهُما الحديثُ عَنْ عُمَرَ - رضي الله عنه - فلا يُقْنِعُهُما حَتَّى يَخْرُجا إلى عُمَرَ فيَسْمعانَهُ (6) منهُ))، واللهُ أعلمُ.
وعنْ إبراهيمَ بنِ أدْهَمَ - رضي الله عنه - أنَّهُ قالَ: ((إنَّ اللهَ تَعَالَى يَدْفَعُ البلاءَ عَنْ هذهِ الأُمَّةِ برحلةِ أصْحابِ الحديثِ)) (7).
ولا يَحْمِلَنَّهُ الحرصُ والشَّرَهُ عَلَى التَّسَاهُلِ في السماعِ والتَّحَمُّلِ والإخلاَلِ بما يُشْتَرَطُ عليهِ (8) في ذَلِكَ عَلَى ما تَقَدَّمَ شَرْحُهُ.
__________
(1) في (ع) والتقييد: ((المرضية)).
(2) أخرجه الخطيب في الجامع (6)
(3) في (جـ) و (م) والشذا: ((بكتبه)).
(4) انظر: نكت الزركشي 3/ 663 - 664.
(5) أخرجه الحاكم في معرفة علوم الحديث: 9، والخطيب في الجامع (1685)، وفي الرحلة، له: 47.
(6) هكذا في جميع النسخ.
(7) أسنده الخطيب في الرحلة: 47، وفيه: ((يرفع)) مكان: ((يدفع)).
(8) انظر: الجامع 2/ 245 (740).

(1/354)


ولْيَسْتَعْمِلْ ما يَسْمَعُهُ مِنَ الأحَادِيثِ الوارِدَةِ بالصَّلاةِ والتَّسْبيحِ وغيرِهِما مِنَ الأعمالِ الصَّالِحَةِ فذَلِكَ زَكاةُ الحديثِ عَلَى ما رُوِّيْناهُ (1) عَنْ العَبْدِ الصالِحِ بِشْرِ بنِ الحارِثِ
الحافِي (2) - رضي الله عنه -، ورُوِّيْنا عنهُ أيضاً أنَّهُ قالَ: ((يا أصحابَ الحديثِ! أدُّوا زكاةَ هذا الحديثِ، اعْمَلُوا مِنْ كُلِّ مِئَتَي حديثٍ بِخَمْسةِ أحاديثَ)) (3). ورُوِّيْنا عَنْ عَمْرِو بنِ قَيْسٍ الْمُلائِيِّ (4) - رضي الله عنه - قالَ: إذا بَلَغَكَ شيءٌ مِنَ الخيرِ فاعْمَلْ بهِ - ولوْ مَرَّةً - تَكُنْ مِنْ أهلِهِ)) (5). ورُوِّيْنا عَنْ وكِيعٍ، قالَ: ((إذا أردْتَ أنْ تَحفظَ الحديثَ فاعْمَلْ بهِ)) (6). وَلْيُعَظِّمْ شَيخَهُ ومَنْ يَسْمَعُ (7) منهُ، فذَلِكَ مِنْ إجْلالِ الحديثِ والعِلْمِ، ولاَ يُثْقِلُ عليهِ ولاَ يُطَوِّلُ بحيثُ يُضْجِرُهُ، فإنَّهُ يُخْشَى عَلَى فاعِلِ ذَلِكَ أنْ يُحْرَمَ الانْتِفاعَ. وقَدْ رُوِّيْنا عَنِ الزُّهْرِيِّ أنَّهُ قالَ: ((إذا طالَ المجْلِسُ، كانَ لِلشَّيْطانِ فيهِ نَصِيبٌ)) (8).
ومَنْ ظَفِرَ مِنَ الطَّلَبةِ بِسَماعِ شَيْخٍ فَكَتَمَهُ غيرَهُ لِيَنْفردَ بهِ عَنْهُم، كانَ جَدِيْراً بأنْ لا يَنْتَفِعَ بهِ، وذَلِكَ مِنَ اللُّؤْمِ الذي يَقَعُ فيهِ جَهَلَةُ الطَّلَبَةِ الوُضَعاءِ. ومِنْ أوَّلِ فائِدَةِ طَلَبِ الحديثِ الإفادةُ. رُوِّيْنا عَنْ مالِكٍ - رضي الله عنه - أنَّهُ قالَ (9): ((مِنْ بَرَكَةِ الحديثِ إفادَةُ بَعضِهِمْ بَعْضاً)) (10). ورُوِّيْنا عَنْ إسْحاقَ بنِ إبراهِيمَ بنِ راهَوَيْهِ أنَّهُ قالَ لبعضِ مَنْ سَمِعَ منهُ في
__________
(1) في (ع): ((روينا))، وما أثبتناه من النسخ و (م).
(2) هو الإمام العالم، والعبد الصالح، أبو نصر بشر بن الحارث بن عبد الرحمان المروزي المشهور بـ ((بشر الحافي))، كَانَ من كبار الصالحين والأتقياء والورعين، ولد سنة (150 هـ‍)، وقيل: (152 هـ‍)، وتوفي سنة (227 هـ‍). تاريخ بغداد 7/ 69، وسير أعلام النبلاء 10/ 471، وتهذيب التهذيب 1/ 444.
(3) الجامع لأخلاق الراوي 1/ 144 رقم (181)، وأدب الإملاء: 110.
(4) بضم الميم وتخفيف اللام والمد. التقريب (5100)، وانظر: الأنساب 5/ 318.
(5) أخرجه أبو نعيم في الحلية 5/ 102، والخطيب في الجامع (182).
(6) أخرجه الخطيب في الجامع (1788) و (1789).
(7) في (جـ): ((سَمِعَ)).
(8) أسنده الخطيب في الجامع (1385)، وانظر: أدب الإملاء: 68.
(9) انظر: نكت الزركشي 3/ 664.
(10) انظر: الجامع للخطيب 2/ 150.

(1/355)


جماعَةٍ: ((انْسَخْ مِنْ كِتابِهِم ما قدْ قَرَأْتُ، فقالَ: إنَّهُمْ لا يُمَكِّنُونَني، قالَ إذَنْ واللهِ
لاَ يُفْلِحُونَ (1)، قدْ رأيْنا أقْواماً مَنَعُوا هذا السَّماعَ فواللهِ ما أفْلَحُوا ولا أنْجَحُوا)).
قُلْتُ: وقَدْ رأيْنا نحنُ أقواماً مَنَعُوا السَّماعَ فما أفْلَحُوا ولا أنْجَحُوا، ونَسْأَلُ اللهَ العافيةَ، واللهُ أعلمُ.
ولاَ يَكُنْ مِمَّنْ يَمْنَعُهُ الحياءُ أو الكِبَرُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الطَلَبِ. وقدْ رُوِّيْنا (2) عَنْ مُجَاهِدٍ - رضي الله عنه - أنَّهُ قالَ: ((لا يَتَعَلَّمْ مُسْتَحِيٍ (3) ولا مُسْتَكْبِرٌ)).
ورُوِّيْنا عَنْ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ وابنِهِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - أنَّهُما قالا: ((مَنْ رَقَّ وَجْهُهُ رَقَّ عِلْمُهُ)) (4). ولا يأْنَفُ مِنْ أنْ يَكْتُبَ عَمَّنْ (5) دُونَهُ (6) ما يَسْتَفِيدُهُ منهُ. رُوِّيْنا عَنْ وكيعِ بنِ الجرَّاحِ - رضي الله عنه - أنَّهُ قالَ: ((لا يَنْبُلُ الرجُلُ مِنْ أصحابِ الحديثِ حَتَّى يَكْتُبَ عَمَّنْ هوَ فَوْقَهُ وعَمَّنْ هوَ مِثْلُهُ، وعَمَّنْ هوَ دُونَهُ)) (7)، وليسَ بِمُوَفَّقٍ مِنْ ضَيَّعَ شيئاً مِنْ وَقْتِهِ في الاسْتِكْثارِ مِنَ الشُّيُوخِ لِمُجَرَّدِ اسمِ الكَثْرَةِ وصِيْتِها. وليسَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ أبي حاتِمٍ الرَّازِيِّ: ((إذا كَتَبْتَ فَقَمِّشْ (8)، وإذا حَدَّثْتَ فَفَتِّشْ)) (9).
__________
(1) في (أ): ((لا يفلحون أبداً)).
(2) صحيح البخاري 1/ 44 عقيب (129) مجزوماً بهِ. قال الحافظ: ((وصله أبو نعيم في الحلية من طريق علي بن المديني، عن ابن عيينة، عن منصور، عنه، وهو إسناد صحيح على شرط البخاري))
(الفتح عقيب 130).
قلنا: وهو في سنن الدرامي (557)، وحلية الأولياء 3/ 287، والفقيه والمتفقه 2/ 144. والمدخل للبيهقي (410).
(3) في (م): ((لا يَتَعَلَّمْ العِلْمَ مُسْتَحِيٍ ولا مُسْتَكْبِرٌ)).
(4) أسنده إليه الدارمي 1/ 137 رقم (556)، والبيهقي في المدخل (408). وتفسير قول بعضهم:
((من رق وجهه عِنْدَ السؤال رق علمه عِنْدَ الرجال))، ومنه قول علي: ((قرنت الهيبة بالخيبة والحياء بالحرمان)). نكت الزركشي 3/ 666.
(5) في (أ): ((عمن هو)).
(6) انظر: نكت الزركشي 3/ 666 - 667.
(7) أخرجه الخطيب في الجامع (1655).
(8) القَمْش: جمع الشيء من هاهنا وهاهنا، وكذلك التقميش. انظر: الصحاح 3/ 1016، وتاج العروس 17/ 340.
(9) أخرجه الخطيب في الجامع (1670).

(1/356)


وَلْيَكْتُبْ وَلْيَسْمَعْ ما يَقَعُ إليهِ مِنْ كِتابٍ أوْ جُزْءٍ عَلَى التمامِ، ولاَ يَنْتَخِبْ، فقدْ قالَ ابنُ المبارَكِ - رضي الله عنه -: ((ما انْتَخَبْتُ عَلَى عالِمٍ قَطُّ إلاَّ نَدِمْتُ)) (1).
ورُوِّيْنا عنهُ أنَّهُ قالَ: ((لا يُنْتَخَبُ عَلَى عالِمٍ إلاَّ بِذَنْبٍ)). ورُوِّيْنا أو بَلَغَنا عَنْ يَحْيَى بنِ مَعِينٍ أنَّهُ قالَ: ((سَيَنْدَمُ المنْتَخِبُ في الحديثِ حينَ لا تَنْفَعُهُ النَّدامةُ)) (2).
فإنْ ضاقَتْ بهِ الحالُ عَنِ الاستِيعابِ، وأُحْوِجَ إلى الانتِقَاءِ والانْتِخابِ تَوَلَّى ذَلِكَ بنفسِهِ إنْ كانَ أهْلاً مُمَيِّزاً عارِفاً بما يَصْلُحُ للانْتِقاءِ والاخْتِيارِ. وإنْ كانَ قاصِراً عَنْ ذَلِكَ اسْتَعانَ ببعْضِ الْحُفَّاظِ لِيَنْتَخِبَ لهُ. وقدْ كانَ جماعَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ مُتَصَدِّيْنَ للانْتِقاءِ عَلَى الشُّيُوخِ والطَّلَبَةِ تَسْمَعُ وتَكْتُبُ بانْتِخابِهِمْ، مِنْهُم: إبراهيمُ بنُ أرُومَةَ (3) الأصْبَهانِيُّ، وأبو عبدِ اللهِ الْحُسَيْنُ بنُ مُحَمَّدٍ المعروفُ بِعُبَيْدٍ العِجْلِ (4)، وأبو الحسَنِ الدَّارقطْنيُّ، وأبو بكرٍ الجِعَابِيُّ (5) في آخَرِينَ. وكانتْ العَادَةُ جارِيَةً برَسْمِ الحَافِظِ علامةً في أصْلِ الشَّيْخِ
__________
(1) أسنده الخطيب في الجامع (1471).
(2) انظر: الجامع 2/ 187.
(3) في (أ) و (ب) و (م) و (ع) والتقييد والشذا الفياح ومطبوع الجامع 2/ 157: ((أرمة)). وكذا في (جـ) وكتب فوقها: ((أورمة))، ولكن في مصادر ترجمته: ((أورمة)). انظر: الجرح والتعديل 2/ 88، وتاريخ بغداد 6/ 42، وتذكرة الحفاظ 2/ 628، والسير 13/ 145، وذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل للذهبي: 180، وطبقات الحفاظ: 281، وشذرات الذهب 2/ 151، وانظر: تعليقنا عَلَى شرح التبصرة 2/ 346.
(4) كلمة ((العجل)) نعت لعبيد، وليس مضافاً إليه، فهو لقب له عَلَى النعت لا الإضافة كما ضبطه ابن الصلاح في إملائه عَلَى مقدمته. انظر: النوع الثاني والخمسين: 529 هامش (1) طبعة بنت الشاطئ، وذكر من يعتمد قوله: 187 مع تعليق محققه.
(5) في (م) و (ع) والتقييد: ((الجعاني)) بالنون، وهو خلاف لما جاء في النسخ الخطية والشذا، وما في النسخ الخطية موافق لما جاء في مصادر ترجمته. انظر: تاريخ بغداد 3/ 26، وتذكرة الحفاظ 3/ 925، والسير 16/ 88، وميزان الاعتدال 3/ 670، وشذرات الذهب 3/ 17، وتاج العروس 2/ 164. قال في الأنساب 2/ 91: ((بكسر الجيم وفتح العين المهملة، وفي آخرها الباء الموحدة))، فقطعت جهيزة قول كل خطيب.

(1/357)


عَلَى ما يَنْتَخِبُهُ، فكانَ النُّعَيْمِيُّ (1) أبو الحسَنِ يُعَلَّمُ بِصَادٍ مَمْدُودَةٍ، وأبو مُحَمَّدٍ الخلاَّلُ (2) بِطاءٍ ممدودةٍ، وأبو الفَضْل الفَلَكيُّ (3) بصورةِ همزتينِ، وكُلُّهُم يُعلِّمُ بِحِبْرٍ في الحاشيةِ اليُمنى من الورقةِ، وَعَلَّمَ الدارقطنيُّ في الحاشيةِ اليُسرى بِخَطٍ عريضٍ بالحمرةِ. وكانَ أبو القاسمِ اللالكائيُّ (4) الحافظُ يُعلِّمُ بخطٍّ صغيرٍ بالحُمرةِ عَلَى أوَّلِ إسنادِ الحديثِ (5) ولا حَجْرَ في ذلكَ ولِكُلٍ الخيارُ.
ثُمَّ لاينْبَغِي لطالبِ الحديثِ أن يقتصرَ عَلَى سَماعِ الحديثِ وكَتْبِهِ دونَ مَعْرِفَتِهِ وَفَهْمِهِ، فيكونَ قد أتعبَ نَفْسَهُ مِنْ غيرِ أن يظفرَ بطائلٍ، وبغيرِ أنْ يحصلَ في عدادِ أهلِ الحديثِ، بل لَمْ يَردْ عَلَى أنْ صارَ مِنَ المتشبِهينَ المنقوصينَ المُتَحَلّينَ بما هُمْ منهُ عاطِلونَ.
قُلْتُ: أنْشَدَنِي أبو المُظَفَّرِ بنُ الحافظِ أبي سعْدٍ السمعانيِّ - رَحِمَهُ اللهُ - لَفْظاً بمدينةِ مَرْوَ، قالَ: أنْشَدَنا والدِي لَفْظاً أو قِراءةً عليهِ، قالَ: أنْشَدَنا مُحَمَّدُ بنُ ناصرٍ السَّلاميُّ (6) منْ لفظِهِ، قالَ: أنْشَدَنا الأديبُ الفاضلُ فارسُ بنُ الحُسينِ لِنَفْسِهِ:
يا طَالبَ العِلْمِ الذي ... ذهبَتْ بِمُدَّتِهِ الرِّوايهْ
كُنْ في الرِّوايةِ ذَا العِنا ... يَةِ بالروايةِ والدِّرايهْ
وَاروِ القليلَ وراعِهِ ... فالعِلمُ لَيسَ لَهُ نِهَايهْ
__________
(1) بضم النون وفتح العين المهملة وسكون الياء المنقوطة باثنتين من تحتها، هذه النسبة إلى نعيم، وهو اسم لبعض أجداده. الأنساب 5/ 408، وترجمته في تاريخ بغداد 11/ 331، والسير 17/ 445.
(2) بفتح الخاء المعجمة، وتشديد اللام ألف، هذه النسبة إلى عمل الخل أو بيعه. الأنساب 2/ 482، وترجمته في تاريخ بغداد 7/ 425، والسير 17/ 593.
(3) بفتح الفاء واللام، وفي آخرها الكاف، هذه النسبة إلى الفلك ومعرفته وحسابه، وترجمته في تذكرة الحفاظ 3/ 1125، والسير 17/ 502.
(4) بفتح اللام ألف واللام والكاف بعدها الألف، وفي آخرها الياء آخر الحروف، هذه النسبة إلى بيع اللوالك، وهي التي تلبس في الأرجل. الأنساب 5/ 584، وترجمته في تاريخ بغداد 14/ 70، والسير 17/ 419.
(5) انظر هذه العلامات في الجامع 2/ 158 - 159.
(6) بفتح السين المهملة واللام ألف المخففة وبعدها ميم، هذه النسبة إلى مدينة السلام بغداد. انظر: الأنساب 3/ 374، ووفيات الأعيان 4/ 294، والسير20/ 265.

(1/358)


وليُقَدِّمِ (1) العنايَةَ بـ" الصَحِيحَينِ "، ثُمَّ بـ" سُنَنِ أبي داودَ "، و" سُنَنِ النَّسائِيِّ " و " كتابِ التِّرمذِيِّ "، ضَبْطَاً لِمُشْكِلِها وَفَهْماً لِخَفيِّ مَعانيها، ولا يُخْدَعَنَّ عنْ كتابِ " السُنَنِ الكَبيرِ " للبيهقيِّ فإنا لا نعلمُ مِثْلَهُ في بابِه.
ثُمَّ بِسائرِ ما تَمَسُّ حاجةُ صاحِبِ الحديثِ إليهِ منْ كُتُبِ المساندِ (2)، كـ" مُسْنَدِ أحمدَ "، ومنْ كُتبِ الجوامِعِ المُصَنَّفةِ في الأحكامِ المشتمِلةِ عَلَى المسانيدِ وغيرها. و" مُوَطَّأُ مالكٍ " هوَ المُقَدَّمُ (3) منها. ومِنْ كتبِ عِللِ الحديثِ ومنْ أجودِها: كتابُ " العللِ " عَنْ أحمدَ بنِ حَنْبلٍ، وكتابُ " العللِ " عنِ الدارَقُطْنيِّ. ومنْ كُتُبِ معرفةِ الرجالِ وتواريخِ المُحَدِّثينَ، ومِنْ أفْضَلِها: " تاريخُ البخاريِّ الكبيرِ "، و " كتابِ الجرحِ والتعديلِ " لابن أبي حاتِمٍ.
ومِنْ كُتُبِ الضَبْطِ لِمُشْكِلِ الأسماءِ، ومنْ أكملِها " كتابُ الإكمالِ " لأبي نَصْرِ بنِ مَاكُوْلا.
وليكُنْ كلّما مَرَّ بهِ اسمٌ مُشْكِلٌ، أو كلمةٌ منْ حديثٍ مشْكِلَةٌ بَحَثَ عنهاوأودعَها قَلْبَهُ، فإنهُ يجتمِعُ لهُ بذلكَ عِلْمٌ كثيرٌ فيُ يُسْرٍ. وليَكُنْ تحفُّظُهُ (4) للحديثِ عَلَى التدريجِ، قَليلاً قليلاً معَ الأيامِ والليالي فذلكَ أحرى بأنْ يُمَتَّعَ بِمحفوظهِ.
وممنْ وَرَدَ ذلكَ عنهُ منْ حُفَّاظِ الحديثِ المُتقدِّمينَ: شُعبةُ، وابنُ عُلَيَّةَ، ومَعْمَرٌ. ورُوِّينا عنْ مَعْمَرٍ، قالَ: سَمِعْتُ الزُّهريِّ يقولُ: ((منْ طلَبَ العِلْمَ جُمْلَةً، فاتهُ جُملةً، وإنَّما يُدْرَكُ العِلمُ حديثاً وحديثينِ)) (5).
__________
(1) في (ع) والتقييد: ((ولتقدم)).
(2) في (ب) و (جـ): ((المسانيد)).
(3) في (جـ): ((المتقدم)).
(4) في (ب): ((حفظه))، والمثبت من باقي النسخ، جاء في أساس البلاغة: 133: ((احتفظ بالشيء، وتحفّظَ به: عُني بحفظه)).
(5) أخرجه الخطيب في الجامع (450).

(1/359)


وليكنِ الإتقانُ منْ شأنهِ، فقدْ قالَ عبدُ الرحمانِ بنِ مَهْدِيٍّ: ((الحِفْظُ: الإتقانُ)) (1).
ثُمَّ إنَ المُذاكرةَ بما يتحفَّظُهُ منْ أقوى أسبابِ الإمتاعِ بهِ. رُوِّينا عنْ عَلْقمةَ النَّخَعيِّ قالَ: ((تَذَاكَروا الحديثَ، فإنَّ حياتَهُ ذِكرُهُ)) (2)، وعن إبراهيمَ النَّخَعيِّ قالَ: ((مَنْ سَرَّهُ أن يَحْفَظَ الحديثَ فليُحدِّثْ بهِ، وَلَوْ أنْ يُحَدِّثَ بهِ مَنْ لايَشْتهيهِ)) (3).
وليَشْتَغِلْ بالتخريجِ والتأليفِ والتَّصنيفِ إذا استعدَّ لِذَلِكَ وتأهَّلَ لهُ، فإنهُ كما قالَ الخطيبُ الحافظُ: يُثَبِّتُ الحِفْظَ، ويُذَكِّي القلبَ، ويشْحَذُ الطَّبعَ، ويجيدُ البيانَ، ويكشِفُ المُلْتَبِسَ، ويُكسِبُ (4) جميلَ الذكرِ، ويخلِّدُهُ إلى آخرِ الدهرِ (5)، وقَلَّما يَمْهَرُ في عِلْمِ الحديثِ وَيَقِفُ عَلَى غوامِضِهِ ويَسْتَبينُ الخَفِيَّ مِنْ فوائِدهِ إلاَّ مَنْ فَعَلَ ذلكَ. وَحَدَّثَ الصُّوريُّ (6) الحافِظُ مُحَمَّدُ بنُ عليٍّ قالَ: رأيتُ أبا مُحَمَّدٍ عبدَ الغنيِّ بنَ سعيدٍ الحافظَ في المنامِ، فقالَ: يا أبا عبدِ اللهِ! خَرِّجْ وصَنِّفْ قَبْلَ أنْ يُحَالَ بَيْنَكَ وبَيْنَهُ. هذا أنا تَرانِي قَدْ حِيْلَ بَيْنِي وبينَ ذَلِكَ (7).
ولِلْعلماءِ بالحديثِ في تَصْنيفِهِ طَرِيقتانِ:
إحْداهُما: التَّصْنيفُ عَلَى الأبوابِ، وهو تَخريجُهُ عَلَى أحكامِ الفقهِ وغيرِها، وتَنْوِيْعُهُ أنواعاً، وجمعُ ما وَرَدَ في كُلِّ حُكْمٍ وكُلِّ نوعٍ في بابٍ فبابٍ.
__________
(1) أخرجه الخطيب في الجامع (1037).
(2) أخرجه الرامهرمزي في الْمُحَدِّث الفاصل: 546، وابن عبد البر في بيان جامع العلم 1/ 101، والخطيب في الجامع لأخلاق الراوي (1821).
(3) أخرجه الخطيب في الجامع (1822)، وابن عبد البر 1/ 101 من جامع بيان العلم.
(4) في (أ): ((يكتب)).
(5) الجامع لأخلاق الراوي 2/ 280.
(6) توفي سنة (441 هـ‍). انظر: تاريخ بغداد 3/ 103، والأنساب 3/ 570، والسير 17/ 127.
(7) أخرجه الخطيب في الجامع (1861).

(1/360)


والثَّانِيَةُ: تَصنيفُهُ عَلَى المسانِيدِ، وجمعُ حديثِ كُلِّ صَحابيٍّ وَحْدَهُ وإنِ اخْتَلَفتْ أنواعُهُ، ولِمَنِ اخْتارَ ذَلِكَ أنْ يُرَتِّبَهُمْ (1) عَلَى حروفِ المعجمِ في أسْمائِهِمْ، ولهُ أنْ يُرَتِّبَهُم عَلَى القبائِلِ، فَيَبْدأَ ببني هاشِمٍ ثُمَّ بالأقْرَبِ نَسَباً مِنْ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ولهُ أنْ يُرَتِّبَ عَلَى سَوَابِقِ الصَّحابَةِ، فَيَبْدأَ بالعَشَرَةِ، ثُمَّ بأهْلِ بَدْرٍ، ثُمَّ بأهلِ الْحُديْبِيَةِ، ثُمَّ بِمَنْ أسْلَمَ وهَاجَرَ بينَ الْحُديْبِيَةِ وفَتْحِ مَكَّةَ، ويَخْتِمُ بأصَاغِرِ الصَّحَابَةِ كأبي الطُّفَيْلِ ونِظرائِهِ، ثُمَّ بالنِّسَاءِ، وهذا أحْسَنُ، والأوَّلُ أسْهلُ. وفي ذَلِكَ مِنْ وُجوهِ التَّرْتيبِ غيرُ ذَلِكَ.
ثُمَّ إنَّ مِنْ أعلى المراتِبِ في تَصنيفِهِ تَصنيفَهُ مُعَلَّلاً (2)، بأنْ يَجْمَعَ في كُلِّ حديثٍ طُرُقَهُ واخْتِلافَ الرواةِ فيهِ، كما فَعَلَ يَعْقُوبُ بنُ شَيْبَةَ في " مُسندِهِ ". ومِمَّا يَعْتَنُونَ بهِ في التَّأليفِ جَمْعُ الشُّيُوخِ، أي: جَمْعُ حديثِ شُيوخٍ مَخْصُوصِينَ كُلُّ واحِدٍ مِنْهُم عَلَى انفرَادِهِ. قالَ عُثمانُ بنُ سَعِيدٍ الدارميُّ: ((يُقَالُ مَنْ لَمْ يَجْمَعْ حديثَ هَؤُلاءِ الخمسَةِ فهوَ مُفْلِسٌ في الحديثِ: سُفْيَانُ، وشُعْبَةُ، ومالِكٌ، وحَمَّادُ بنُ زَيْدٍ، وابنُ عُيينةَ، وهمْ أصُولُ الدينِ)) (3).
وأصْحابُ الحديثِ يَجْمَعُونَ حديثَ خَلقٍ كثيرٍ غيرَ الذينَ ذَكَرَهُمُ الدارميُّ، مِنْهُم: أيُّوبُ السّختيانيُّ، والزُّهْرِيُّ، والأوْزاعِيُّ، ويَجْمَعُونَ أيضاً التَّراجِمَ، وهيَ أسانِيدُ يَخصُّونَ (4) ما جاءَ بها بالجمْعِ والتأليفِ، مثلُ: تَرْجَمةِ مالِكٍ عَنْ نافِعٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ، وتَرْجَمةِ سُهَيْلِ بنِ أبي صَالِحٍ، عَنْ أبيهِ، عَنْ أبي هُرَيْرَةَ، وتَرجَمةِ هِشَامِ بنِ عُرْوةَ، عَنْ أبيهِ، عَنْ عائشَةَ، في أشباهٍ لِذَلِكَ كثيرةٍ، ويَجْمَعُونَ أيْضاً أبواباً مِنْ أبوابِ الكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ الجامِعَةِ للأحْكامِ فَيُفْرِدونَها بالتَّأْلِيفِ، فَتَصِيْرُ كُتُباً مُفْرَدَةً، نحوُ: بابِ رُؤْيةِ اللهِ - عَزَّوَجَلَّ -، وبابِ رَفْعِ اليدينِ، وبابِ القراءةِ خَلْفَ الإمامِ، وغيرِ ذَلِكَ. ويُفْرِدونَ
__________
(1) في الشذا: ((يرتبه))، وكذا ما بعدها.
(2) في (أ) و (ع): ((في تصنيفه معللاً)).
(3) أخرجه الخطيب في الجامع (1907).
(4) في (ب): ((يحصون)).

(1/361)


أحاديثَ فَيَجْمَعُونَ طُرُقَها في كُتُبٍ مُفْرَدةٍ، نحوُ: طُرُقِ حديثِ قَبْضِ العِلْمِ، وحديثِ الغُسْلِ (1) يَومَ الْجُمُعَةِ، وغيرِ ذَلِكَ. وكثيرٌ مِنْ أنواعِ كِتابنا هذا قَدْ أفرَدُوا أحاديْثَهُ بالْجَمْعِ والتَّصْنِيفِ.
وعليهِ في كُلِّ ذَلِكَ، تَصْحِيحُ القَصْدِ والْحَذَرُ مِنْ قَصْدِ المكاثَرَةِ ونَحْوِهِ. بَلَغَنا عَنْ حَمْزَةَ بنِ مُحَمَّدٍ الكِنانِيِّ (2) أنَّهُ خَرَّجَ حديثاً واحِداً مِنْ نَحوِ مِئتَي طريقٍ، فأعْجبَهُ ذَلِكَ، فرأى يَحْيى بنَ مَعينٍ في مَنامِهِ، فَذَكَرَ لهُ ذَلِكَ، فقالَ لهُ: ((أخْشَى أنْ يَدْخُلَ هذا تَحْتَ: {ألْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} (3))) (4).
ثُمَّ لِيحذَرْ أنْ يُخرِجَ إلى الناسِ ما يُصَنِّفُهُ إلاَّ بَعْدَ تَهْذِيْبِهِ وتَحْريرِهِ وإعادةِ النَّظَرِ فيهِ وتَكْرِيْرِهِ (5). وليتَّقِ أنْ يَجْمَعَ ما لَمْ يَتَأَهَّلْ بَعْدُ لاجْتِناءِ ثَمَرَتِهِ واقْتِنَاصِ فائِدةِ جَمْعِهِ؛ كَيْلا يَكونَ حُكْمُهُ مَا رُوِّيْناهُ (6) عَنْ عليِّ بنِ المدينِيِّ، قالَ: إذا رأيْتَ الْحَدَثَ أوَّلَ مَا يَكْتُبُ الحدِيثُ يجمعُ حديثَ ((الغُسْلِ)) وحديثَ: ((مَنْ كَذَبَ))؛ فاكْتُبْ عَلَى قَفَاهُ لا يُفْلِحُ)) (7).
ثُمَّ إنَّ هذا الكتابَ مَدْخَلٌ إلى هذا الشَّأنِ، مُفْصِحٌ عَنْ أُصُولِهِ وفُروعِهِ، شارِحٌ (8) لمصطلحاتِ أهلهِ ومقاصِدِهم ومُهمَّاتهِم التي ينْقُصُ المُحَدِّثُ بالجهلِ بها نقْصاً فاحِشَاً، فهو إن شاءَ اللهُ جديرٌ بأنْ تُقَدَّمَ العنايةُ بهِ، ونسألُ اللهَ سبحانَهُ فَضْلَهُ العظيمَ، واللهُ أعلمُ.
__________
(1) في (جـ): ((غسل)).
(2) في (ب) و (جـ): ((الكتاني)) بالتاء، وهو خلاف ما جاء في (أ) و (ع) و (م) والتقييد والشذا الفياح، ومصادر ترجمته. انظر: تاريخ دمشق 15/ 239، وتذكرة الحفاظ 3/ 932، والسير 16/ 179، وشذرات الذهب 3/ 23.
(3) التكاثر: 1.
(4) أخرجه ابن عبد البر في بيان جامع العلم 2/ 132، وهو في تذكرة الحفاظ 3/ 933، والسير 16/ 180.
(5) انظر: الجامع لأخلاق الراوي 2/ 283.
(6) في (ب): ((روينا)).
(7) أخرجه الخطيب في الجامع 2/ 301 (1912).
(8) في (م): ((شارع)).

(1/362)


النَّوْعُ التَّاسِعُ والعِشْرُونَ
مَعْرِفَةُ الإسْنَادِ العَالِي والنَّازِلِ (1)
أصْلُ الإسْنادِ أوَّلاً خَصِيصَةٌ (2) فاضِلةٌ مِنْ خَصَائِصِ هذهِ الأُمَّةِ (3)، وسُنَّةٌ بالِغَةٌ مِنَ السُّنَنِ المؤَكَّدةِ. رُوِّيْنا مِنْ غيرِ وَجْهٍ عَنْ عبدِ اللهِ بنِ المبارَكِ - رضي الله عنه -، أنَّهُ قالَ: ((الإسْنادِ مِنَ الدِّيْنِ، لَوْلاَ الإسْنادُ لَقَالَ مَنْ شَاءَ ما شَاءَ)) (4).
وطَلَبُ العُلُوِّ فيهِ سُنَّةٌ أيضاً، ولِذَلِكَ اسْتُحِبَّتِ الرِّحْلَةُ فيهِ - عَلَى ما سَبَقَ ذِكْرُهُ (5) -. قالَ أحمدُ بنُ حَنْبَلٍ - رضي الله عنه -: ((طَلَبُ الإسْنادِ العالِي سُنَّةٌ عَمَّنْ سَلَفَ)) (6).
وقَدْ رُوِّيْنا أنَّ يَحْيَى بنَ مَعِينٍ - رضي الله عنه - قيلَ لهُ في مَرَضِهِ الذي ماتَ فيهِ: ((ما تَشْتَهِي؟ قالَ بيتٌ خالي وإسْنادٌ عالِي)) (7).
__________
(1) انظر في ذلك:
معرفة علوم الحديث: 5 - 14، والجامع لأخلاق الراوي 1/ 115 وما بعدها، وجامع الأصول 1/ 110 - 115، والإرشاد: 529 - 537، والتقريب: 150 - 152، والاقتراح: 301 - 308، واختصار علوم الحديث: 159 - 164، والشذا الفياح 2/ 419 - 434، والمقنع 2/ 421 - 426، وشرح التبصرة 2/ 360، ونزهة النظر: 156، وفتح المغيث 3/ 3 - 26، وتدريب الراوي 2/ 159 - 172، وفتح الباقي 2/ 256، وتوضيح الأفكار 2/ 395 - 401.
(2) بفتح الخاء وكسر الصاد المخففة بوزن فعيلة كما ضبطها الحافظ الدمياطي في تعليقه عَلَى علوم الحديث لابن الصلاح. وللسيوطي رسالة " ألوية النصر في أن خِصِّيْصى بالقصر - بكسر الخاء والصاد المشددة - يرد بها عَلَى السخاوي، كما في حاشية تدريب الراوي 2/ 159، وانظر: لسان العرب 7/ 24، وتاج العروس 17/ 550، والمعجم الوسيط 1/ 238.
(3) انظر: شرف أصحاب الحديث: 40 - 43، والملل والنحل 2/ 81 - 84، والإرشاد 2/ 529 للنووي، وتدريب الراوي 2/ 159، وفتح المغيث 3/ 4، والباعث الحثيث: 159.
(4) أسنده إليه مسلم في مقدمة صحيحه 1/ 15، والرَّامهرمزي في الْمُحَدِّث: 209، والحاكم في معرفة علوم الحديث: 6، والخطيب في الجامع (1643)، وفي شرف أصحاب الحديث: 41، وابن عبد البر في التمهيد 1/ 56.
(5) راجع: محاسن الاصطلاح: 379.
(6) أخرجه الخطيب في الجامع (117).
(7) هكذا رسم في النسخ الخطية و (ع) و (م) والتقييد والشذا ومجموعة من المصادر التي أوردته بإثبات ياء المنقوص من (خالي، وعالي).

(1/363)


قلتُ: العُلُوُّ يُبْعِدُ الإسْنادَ مِنَ الخللِ؛ لأنَّ كُلَّ رَجُلٍ مِنْ رِجالِهِ يحتملُ أنْ يَقَعَ الخللُ مِنْ جِهَتِهِ سَهْواً أوْ عَمْداً، ففي قِلَّتِهِمْ قِلَّةُ جِهاتِ الخللِ، وفي كَثْرَتِهِمْ كَثْرَةُ جِهاتُ الخللِ، وهذا جَلِيٌّ واضِحٌ.
ثُمَّ إنَّ عُلُوَّ المطلوبِ في رِوايةِ الحديثِ عَلَى أقْسامٍ خَمْسَةٍ (1):
أوَّلُها: القُرْبُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِإِسْنادٍ نظيفٍ غيرِ ضعيفٍ، وذَلِكَ مِنْ أجَلِّ أنواعِ العُلُوِّ. وقَدْ رُوَّيْنا عَنْ مُحَمَّدِ بنِ أسْلَمَ الطُّوسِيِّ الزَّاهِدِ (2) العَالِمِ - رضي الله عنه - أنَّهُ قالَ:
((قُرْبُ الإسْنادِ قُرْبٌ أو قُرْبَةٌ إلى اللهِ عَزَّوَجَلَّ)) (3). وهذا كما قالَ؛ لأنَّ قُرْبَ الإسْنادِ قُرْبٌ إلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، والقُرْبُ إليهِ قُرْبٌ إلى (4) اللهِ عَزَّوَجَلَّ.
الثَّاني: - وهوَ الذي ذَكَرَهُ الحاكمُ أبو عبدِ اللهِ الحافِظُ (5) -: القُرْبُ مِنْ إمامٍ مِنْ أئِمَّةِ الحديثِ وإنْ كَثُرَ العددُ مِنْ ذَلِكَ الإمامِ إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. فإذا وُجِدَ ذَلِكَ في إسْنادٍ، وُصِفَ بالعُلُوِّ نَظَراً إلى قُرْبِهِ مِنْ ذَلِكَ الإمامِ وإنْ لَمْ يَكُنْ عالياً بالنسْبَةِ إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. وكلامُ الحاكِمِ يُوهِمُ أنَّ القُرْبَ مِنْ رَسُولِ اللهِ لا يُعَدُّ مِنَ العُلُوِّ المطلوبِ أصْلاً؛ وهذا غَلَطٌ مِنْ قائِلِهِ؛ لأنَّ القُرْبَ منهُ - صلى الله عليه وسلم - بإسْنادٍ نَظِيْفٍ غيرِ ضَعِيْفٍ أوْلَى بذلكَ. ولا يُنازِع في هذا مَنْ لهُ مُسْكَةٌ (6) مِنْ مَعرفةٍ، وكأنَّ الحاكِمَ أرادَ بكلامِهِ ذَلِكَ إثباتَ
__________
(1) كما قسمه أبو الفضل مُحمد بن طاهر في جزء له اسمه: " العلو والنزول " ص 57، وتبعه في ذَلِكَ المصنف كما أشار إلى ذَلِكَ الحافظ العراقي في شرح التبصرة والتذكرة 2/ 362.
(2) هو الإمام أبو الحسن مُحمد بن أسلم بن سالم بن يزيد الكندي الطوسي الزاهد، صاحب المسند والأربعين، توفي سنة 242 هـ‍، حلية الأولياء 9/ 238، وشذرات الذهب 2/ 100، والرسالة المستطرفة: 64.
(3) أخرجه الخطيب في الجامع (115).
(4) في (م) والشذا: ((من)).
(5) معرفة علوم الحديث: 11.
(6) يُقال: رجلٌ ذو مُسْكَةٍ ومُسْكٍ، أي: رأي وعقل يُرجَعُ إليهِ، وفُلانٌ لا مُسْكَةَ لهُ، أي: لا عَقْل له، ويقال: ما بفلانٍ مُسْكَة، أي: ما به قوة ولا عقل، ويُقَال: فيهِ مُسْكَةٌ مِنْ خَيْرٍ، أي: بقيَّة، وليسَ لأمرِهِ مُسْكَةٌ، أي: أثر أو أصل يُعَوَّلُ عليهِ. انظر: اللسان 10/ 488، والمعجم الوسيط 2/ 870.

(1/364)


العُلُوِّ للإسْنادِ بِقُرْبِهِ (1) مِنْ إمامٍ، وإنْ لَمْ يكُنْ قَريباً إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، والإنكارَ عَلَى مَنْ يُراعي في ذَلِكَ مُجَرَّدَ قُرْبِ الإسنادِ إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وإنْ كانَ إسناداً ضَعِيْفاً، ولهذا مَثَّلَ ذَلِكَ بحديثِ أبي هُدْبةَ، ودِينارٍ، والأشَجِّ، وأشْبَاهِهِمْ (2)، واللهُ أعلمُ.
الثَّالِثُ: العُلُوُّ (3) بالنِّسبةِ إلى روايةِ " الصحيحينِ "، أو أحدِهِما، أو غيرِهِما مِنَ الكُتُبِ المعروفةِ المعتمَدةِ، وذَلِكَ ما اشتهرَ آخِراً مِنَ الموافَقاتِ، الأبدالِ، والمسَاواةِ، والمصافحةِ. وقَدْ كَثُرَ اعْتِناءُ المحدِّثينَ المتأخِّرينَ بهذا النوعِ، ومِمَّنْ وجدْتُ هذا النوعَ في كَلامِهِ أبو بكرٍ الخطيبُ الحافِظُ وبعضُ شُيُوخِهِ، وأبو نَصْرِ ابنُ ماكُولا (4)، وأبو عبدِ اللهِ الْحُمَيْدِيُّ، وغيرُهُمْ مِنْ طَبَقَتِهِمْ ومِمَّنْ جاءَ بَعْدَهُمْ.
أمَّا الموافَقَةُ: فهيَ أنْ يَقَعَ لكَ الحديثُ عَنْ شَيْخِ مُسْلِمٍ فيهِ مَثَلاً عالياً بعددٍ أقَلَّ مِنَ العدَدِ الذي يَقَعُ لكَ بهِ ذَلِكَ الحديثُ عَنْ ذَلِكَ الشَّيْخِ إذا رَوَيْتَهُ عَنْ مُسْلِمٍ عنهُ.
وأمَّا البَدَلُ: فَمِثْلُ أنْ يَقَعَ لكَ هذا العُلُوُّ عَنْ شيخٍ غَيْرِ شَيْخِ مُسْلِمٍ، هوَ مِثلُ شيخِ مُسْلِمٍ في ذَلِكَ الحديثِ. وقدْ يُرَدُّ البَدَلُ إلى الموافَقَةِ، فيُقَالُ فيما ذكَرْناهُ: إنَّهُ موافقةٌ عالِيةٌ في شَيْخِ شَيْخِ مُسْلِمٍ وَلَوْ لَمْ يكُنْ ذَلِكَ عالياً فهوَ أيضاً مُوافقةٌ وبَدَلٌ، لَكِنْ لاَ يُطْلَقُ عليهِ اسمُ الموافقةِ والبدَلِ لِعَدَمِ الالتِفاتِ إليهِ.
وأمَّا المسَاواةُ: فهيَ في أعْصارِنا أنْ يقلَّ العدَدُ في إسْنادِكَ لا إلى شَيْخِ مُسْلِمٍ وأمثالِهِ، ولا إلى شَيْخِ شَيْخِهِ، بلْ إلى مَنْ هوَ أبعدُ مِنْ ذَلِكَ كالصَّحَابِيِّ أوْ مَنْ قارَبَهُ، ورُبَّما كانَ إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بحيثُ يَقَعُ بَيْنَكَ وبَيْنَ الصَّحابيِّ مَثَلاً مِنَ العَدَدِ مِثْلُ ما وقَعَ مِنَ العدَدِ بَيْنَ مُسْلِمٍ وبَيْنَ ذَلِكَ الصَّحابيِّ فَتَكُونُ (5) بذلكَ مُسَاوِياً لِمُسْلِمٍ مَثَلاً في قُرْبِ الإسْنادِ وعدَدِ رِجَالِهِ.
__________
(1) في (م): ((لقربه)).
(2) انظر: محاسن الاصطلاح: 382 - 384، وشرح التبصرة 2/ 362.
(3) انظر: التقييد والإيضاح: 258 - 259.
(4) بفتح الميم وبعد الألف كاف مضمومة، وبعدها واو ساكنة ثُمَّ لام ألف. وفيات الأعيان 3/ 306، وترجمته في السير 18/ 569.
(5) في (جـ): ((فيكون)).

(1/365)


وأمَّا المصَافَحَةُ (1): فهيَ أنْ تَقَعَ هذهِ المساواةُ - التي وصَفْناها - لشَيخِكَ لا لكَ فيقعَ ذَلِكَ لكَ مُصَافحَةً، إذْ تَكُونُ كَأَنَّكَ لَقِيْتَ مُسْلِماً في ذَلِكَ الحديثِ وصَافحتَهُ بهِ، لِكَوْنِكَ قدْ لَقِيْتَ شَيْخَكَ المساوي لِمُسْلِمٍ. فإنْ كانتْ المساواةُ لِشَيْخِ شَيْخِكَ كانتِ المصَافَحةُ لِشَيْخِكَ، فَتَقُولُ: كأنَّ شَيْخِي سَمِعَ مُسْلِماً وصَافَحَهُ. وإنْ كانَتِ المسَاواةُ لِشَيْخِ شَيْخِ (2) شَيْخِكَ، فالمصَافَحةُ لِشَيْخِ شَيْخِكَ، فتقولُ فيها: كأنَّ شَيْخَ شَيْخِي سَمِعَ مُسْلِماً وصَافَحَهُ، ولكَ (3) ألاَّ تَذكرَ لكَ في ذَلِكَ نِسْبَةً، بلْ تَقُولُ: كأنَّ فُلاناً سَمِعَهُ مِنْ مُسْلِمٍ، مِنْ غيرِ أنْ تَقُولَ فيهِ: شَيْخِي أو شَيْخُ شَيْخِي.
ثُمَّ لا يخفَى عَلَى المتأَمِّلِ أنَّ في المساواةِ والمصَافَحةِ الواقِعَتَينِ لكَ لا يَلْتَقِي إسْنادُكَ وإسْنادُ مُسْلِمٍ أو نحوِهِ إلاَّ بَعيداً عَنْ شَيْخِ مُسْلِمٍ، فيلْتَقِيانِ في الصحابيِّ أو قَرِيْباً منهُ، فإنْ كَانتِ المصَافَحَةُ التي تَذْكُرُها ليستْ لكَ بلْ لِمَنْ فَوقَكَ مِنْ رِجالِ إسْنادِكَ أمْكَنَ الْتِقَاءُ الإسْنادَيْنِ فيها في شَيْخِ مُسْلِمٍ أو أشْباهِهِ وداخَلَتِ المصَافَحةُ حِيْنَئذٍ الموافقةُ، فإنَّ مَعْنَى الموافقةِ راجِعٌ إلى مُسَاواةٍ ومصَافَحةٍ مَخْصُوصَةٍ؛ إذْ حاصِلُها أنَّ بعضَ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ رواةِ إسْنادِكَ العالِي سَاوَى أو صَافَحَ مُسْلِماً أو البخَارِيَّ؛ لِكَونِهِ سَمِعَ مِمَّنْ سَمِعَ مِنْ شَيْخِهِما مَعَ تَأَخُّرِ طَبَقَتِهِ عَنْ طَبَقَتِهِما. ويوجدُ في كثيرٍ منَ العوالي المخرَّجةِ لِمَنْ تَكَلَّمَ أوَّلاً في هذا النوعِ وطَبَقَتِهِمْ: المصافَحَاتُ مَعَ الموفَقَاتِ والأبدالِ لِمَا ذَكَرْناهُ. ثُمَّ اعْلَمْ أنَّ هذا النوعَ مِنَ العُلُوِّ عُلُوٌّ تابِعٌ لِنُزولٍ؛ إذْ لولا نُزُولُ ذَلِكَ الإمامِ في إسنادِهِ لَمْ تَعْلُ أنتَ في
إسْنادِكَ (4). وكُنْتُ قَدْ قَرَأْتُ بِمَرْوَ عَلَى شَيخِنا المكْثِرِ أبي المظَفَّرِ عبدِ الرحيمِ بنِ الحافِظِ المصَنِّفِ أبي سَعْدٍ السَّمعانيِّ - رَحِمَهُما اللهُ - في أرْبِعِي (5) أبي البركاتِ الفَرَاوِيِّ حديثاً
__________
(1) سميت مصافحة؛ لأن العادة جرت في الغالب في المصافحة بَيْنَ المتلاقيين. انظر: نزهة النظر: 159، وفتح المغيث 3/ 18.
(2) لَمْ ترد في (ب).
(3) في (أ): ((وذلك)).
(4) راجع: محاسن الاصطلاح: 386.
(5) في نسخة (ب): ((أربعين))، وفي حاشية (م) تعليق نصه: ((لعلها من أربعين حديثاً رواها أبو البركات، حذفت النون للإضافة)).

(1/366)


ادَّعَى فيهِ أنَّهُ كأنَّهُ سَمِعَهُ هوَ أو شَيْخُهُ مِنَ البُخَارِيِّ، فقالَ الشَّيْخُ أبو الْمُظَفَّرِ: ((ليسَ لكَ بعالٍ، ولكِنَّهُ للبُخارِيِّ نازِلٌ)). وهذا حَسَنٌ لَطِيْفٌ يَخْدِشُ وَجْهَ هذا النَّوعِ مِنَ العُلُوِّ، واللهُ أعلمُ.
الرَّابِعُ: مِنْ أنواعِ العُلُوِّ العُلُوُّ المسْتَفادُ مِنْ تَقَدُّمِ وَفَاةِ الراوي، مِثالُهُ ما أروِيهِ عنْ شيخٍ أخبرَنِي بهِ عَنْ واحدٍ عَنِ البَيْهَقِيِّ الحافِظِ عَنِ الحاكِمِ أبي عبدِ اللهِ الحافِظِ أعلى مِنْ روايتي لِذَلِكَ عَنْ شيخٍ أخبرَنِي بهِ عَنْ (1) واحدٍ عَنْ أبي بكرِ (2) بنِ خَلَفٍ عَنِ الحاكِمِ وإنْ تَسَاوَى الإسْنادانِ في العددِ لِتَقَدُّمِ وَفَاةِ البَيْهَقِيِّ عَلَى وفاةِ ابنِ
خَلَفٍ؛ لأنَّ البَيْهَقِيَّ ماتَ سنةَ ثَمانٍ وخَمْسِينَ وأربَعِ مئةٍ، وماتَ ابنُ خَلَفٍ
سنةَ سَبْعٍ وثَمانِينَ وأربعِ مِئةٍ. ورُوِّيْنا عَنْ أبي يَعْلَى الخليلِ بنِ عبدِ اللهِ الخليليِّ الحافِظِ
- رَحِمَهُ اللهُ - قالَ: ((قَدْ يَكونُ الإسْنادُ يَعْلُو عَلَى غيرِهِ بِتَقَدُّمِ موتِ راويهِ وإنْ كانا مُتَسَاوِيَينِ في العدَدِ)) (3)، ومَثَّلَ ذَلِكَ مِنْ حديثِ نفسِهِ بمِثْلِ مَا ذَكَرْناهُ. ثُمَّ إنَّ هَذَا كَلامٌ (4) في العُلُوِّ المنبني (5) عَلَى تَقَدُّمِ الوفاةِ المستفادِ مِنْ نِسْبَةِ شيخٍ إلى شيخٍ، وقياسِ راوٍ براوٍ. وأمَّا العُلُوُّ المستفادُ مِنْ مُجَرَّدِ تَقَدُّمِ وفاةِ شيخِكَ مِنْ غيرِ نَظَرٍ إلى قياسِهِ براوٍ آخَرَ، فقدْ حَدَّهُ بعضُ أهلِ هَذَا الشأْنِ بِخَمْسِينَ سنةً، وذلكَ مَا رُوِّيْناهُ عَنْ أبي عليٍّ الحافِظِ النَّيْسابوريِّ، قالَ: سَمِعْتُ أحمدَ بنَ عُميرٍ الدِّمَشْقِيَّ (6) - وكانَ مِنْ أركانِ
__________
(1) سقطت من (م).
(2) في (ع): ((أبي بكر عبد الله بن خلف))، وكلمة: ((عبد الله))، لَمْ ترد في شيء من النسخ الخطية ولا (م) ولا التقييد ولا الشذا، وهو مخالف لما في مصادر ترجمته فقد ذكرت المصادر أنّه: الإمام، أبو بكر، أحمد بن علي بن عبد الله بن عمر بن خلف الشيرازي، ثُمَّ النيسابوري، توفي سنة (487 هـ‍). انظر: سير أعلام النبلاء 18/ 478، وشذرات الذهب 3/ 379.
(3) الإرشاد 1/ 179.
(4) في (ب): ((الكلام)).
(5) في (ب): ((المبتنى)).
(6) كتب في نسخة (جـ) فوقه: ((هو ابن جَوْصَا الحافظ)). انظر: ترجمته في تاريخ دمشق 5/ 109، وسير أعلام النبلاء 15/ 15.

(1/367)


الحديثِ - يَقُولُ: ((إسْنادُ خَمْسِينَ سنةً مِنْ موتِ الشَّيْخِ إسْنادُ عُلُوٍّ)) (1). وفيما نروي عَنْ أبي عبدِ اللهِ بنِ مَنْدَه الحافِظِ قالَ: ((إذا مَرَّ عَلَى الإسنادِ ثَلاثُونَ سَنَةً فهوَ عالٍ)). وهذا أوسَعُ مِنَ الأوَّلِ، واللهُ أعلمُ.
الخامِسُ: العُلُوُّ المستفادُ مِنْ تَقَدُّمِ السَّماعِ. أَنْبَؤُنا (2) عَنْ مُحَمَّدِ بنِ ناصِرٍ الحافِظِ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ طَاهِرٍ الحافظِ قالَ: ((مِنَ العُلُوِّ تَقَدُّمُ السَّماعِ)) (3).
قُلْتُ (4): وكثَيْرٌ مِنْ هذا يَدْخُلُ في النوعِ المذكورِ قَبْلَهُ، وفيهِ ما لا يدخُلُ في ذَلِكَ بلْ يَمْتازُ عنهُ. مِثْلُ أنْ يَسْمَعَ شَخْصانِ مِنْ شَيْخٍ واحدٍ، وسماعُ أحَدِهِما مِنْ سِتِّينَ سنةً مَثَلاً، وسَماعُ الآخَرِ مِنْ أربَعِينَ سنةً. فإذا تساوى السندُ إليهما في العَدَدِ، فالإسنادُ إلى الأوَّلِ الذي تقدمَ سماعُهُ أعلى.
فهذِهِ أنواعُ العلوِّ عَلَى الأستقصاءِ والأيضاحِ الشافي، وللهِ سبحانَهُ وتعالى الحمدُ كُلُّهُ.
وأما مارُوِّيناهُ عنِ الحافظِ أبي الطّاهرِ (5) السِّلفيِّ رَحِمَهُ اللهُ مِنْ قولِهِ في أبياتٍ لهُ:
بل عُلُوُّ الحديثِ بَيْنَ أُولي الحِفْ ... ظِ والإتقانِ صِحَّةُ الإسنادِ (6)
وما رُوِّيناهُ عنِ الوزيرِ نِظامِ المُلكِ (7) مِن قولِهِ: ((عندي أنَّ الحديثَ العالي: ماصحَّ عنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وإن بلغَتْ رواتُهُ مِئةً)). فهذا ونحوُهُ ليسَ مِنْ قبيلِ المتعارَفِ إطلاقُهُ بينَ أهلِ الحديثِ، وإنما هُوَ عُلُّوٌّ منْ حيثُ المعنى فَحَسْبُ، واللهُ أعلمُ.
__________
(1) أسنده إليه ابن عساكر في تاريخه 5/ 113.
(2) في (م): ((أُنبئنا)).
(3) في مسألة العلو والنزول: 76.
(4) في (أ): ((قال المملي)).
(5) في (م) والتقييد والشذا الفياح: ((طاهر)).
(6) أوردها الامام الذهبي في السير 21/ 37 هكذا:
بل علو الحديث عِنْدَ أولي الإتـ ... قانِ والحفظ صِحَّة الإسناد
(7) انظر ترجمته في السير 19/ 64.

(1/368)


فَصْلٌ
وأما النُّزولُ فهوَ ضِدُّ العُلُوِّ. وما منْ قسمٍ مِنْ أقسامِ العُلُوِّ الخمسةِ إلا وضِدُّهُ قسمٌ منْ أقسامِ النزولِ.
فهوَ إذن خمسةُ أقسامٍ، وتَفْصيلُها يُدْرَكُ مِنْ تفصيلِ أقسامِ العُلوِّ عَلَى نحوِ ما تَقَدَّمَ شرحُهُ.
وأما قولُ الحاكمِ أبي عبدِ اللهِ: ((لعَلَّ قائلاً يقولُ: النزولُ ضِدُّ العُلُوِّ. فَمَنْ
عَرَفَ العُلوَّ فَقَدْ عرفَ ضِدَّهُ، وليسَ كذلكَ؛ فإنَ للنزولِ مراتبَ لا يَعْرِفُها إلا أهلُ الصَّنْعَةِ (1) ... إلى آخرِ كلامهِ. فهذا ليسَ نَفْياً لكونِ النُّزولِ ضِدَّاً (2) للعُلُوِّ عَلَى الوجهِ الذي ذكرتُهُ، بل نَفْياً لكَوْنِهِ يُعْرَفُ بِمَعْرِفةِ العُلُوِّ. وذلكَ يَليقُ بما ذَكَرَهُ هوَ في مَعرِفَةِ العُلُوِّ، فإنَّهُ قَصَّرَ في بيانِهِ وتَفْصِيلِهِ، وليسَ كذلكَ ما ذكرنَاهُ نحنُ في العُلُوِّ؛ فإنَّهُ مُفَصَّلٌ تَفْصيلاً مُفْهِماً لِمَرَاتِبِ النُّزُولِ، والعِلْمُ عندَ اللهِ تباركَ وتَعالَى.
ثُمَّ إنَّ النُّزُولَ مَفْضُولٌ مَرْغُوبٌ عنهُ، والفضيلةُ لِلْعُلُوِّ عَلَى ما تَقَدَّمَ بيانُهُ ودَليلُهُ. وحَكَى ابنُ خَلاَّدٍ عَنْ بعضِ أهلِ النَّظَرِ أنَّهُ قالَ: ((التَّنَزُّلُ (3) في الإسنادِ أفضَلُ)) (4)، واحْتجَّ لهُ بما مَعْناهُ أنَّهُ يجبُ الاجْتِهادُ والنَّظَرُ في تَعْدِيلِ كُلِّ راوٍ وتَخْريجِهِ (5)، فَكُلَّما زادُوا كانَ الاجْتِهادُ أكثَرَ وكانَ الأجْرُ أكثرَ. وهذا مَذْهَبٌ ضَعِيفٌ، ضَعِيفُ الْحُجَّةِ.
وَقَدْ رُوِّيْنا عَنْ عَلِيِّ بنِ المدينِيِّ، وأبي عمرٍو المستَمْلِي النَّيْسابوري، أنَّهَما قالا: ((النُّزُولُ شُؤْمٌ)) (6)، وهذا ونحوُهُ مِمَّا جاءَ في ذمِّ النُّزُولِ مَخْصُوصٌ ببعضِ النُّزُولِ، فإنَّ النُّزُولَ إذا تَعَيَّنَ دُونَ العُلُوِّ طريقاً إلى فائدةٍ راجِحَةٍ عَلَى فائدَةِ العُلُوِّ فَهوَ مُختارٌ غيرُ مَرذولٍ، واللهُ أعلمُ.
__________
(1) معرفة علوم الحديث: 12.
(2) في (ب): ((ضد العلو)).
(3) في (أ): ((النزول)).
(4) المحدّث الفاصل: 216.
(5) في (أ) و (جـ) و (م): ((تجريحه)).
(6) أخرجه الخطيب في الجامع (119).

(1/369)