المجلد الأول
التلخيص الحبير ط العلمية - مقدمة
التحقيق
تقديم
...
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
حمداً للَّه على نعمه، حمداً يكافئ مزيد فضله، حمداً
كثيراً عظيماً طيباً مباركاً فيه وأشهد أن لا إله إلاّ
اللَّه، أوّل بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء، لا يفنى ولا
يبيد ولا يكون إلاّ ما يريد وأشهد أن محمداً عبده ورسوله
[من الكامل]:
كل القلوب إلى الحبيب تميل ... ومعي بذلك شاهد ودليل
أما الدليل إذا ذكرت محمداً ... صارت دموع العارفين تسيل
فإن خير الهمم العالية ما جانفت الرمم البالية وإنما تعلو
الهمة بعلوّ ما تهتم به، ولا أجل من علوم الشريعة عقلاً
ونقلاً ولا غرو فكتاب الله وسنّة رسوله هما قطبا رحى
الإسلام وطنباً فسطاطه، فحبذا الاشتغال بهما وبئس التشاغل
عنهما. قال ابن القيم في نونيته [من الكامل]:
والعلم قال الله قال رسوله ... قال الصحابة هم أولو
العرفان
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة ... بين الرسول وبين رأي فلان
(1/3)
شرف علم الحديث وأهله
وعلم الحديث هو العلم الأصيل الذاخر، وهو تاج العلوم الفاخر حسبك أنه
كلام النبي بوحي من ربه العلي: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ
هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4] وقد ابتعث اللَّه محمداً
فأنقذ به الورى، وأنفذهم به إلى الإمام من الورا وأهل الحديث هم عصابة
الرحمن، فبهم تصان الشريعة، وتعلم الأوامر والنواهي وهم أعلام الهدى
ومنارات الدّجى، وهم الذين عناهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:
"ستفترق أمتي من بعدي إلى ثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا
واحدة..." الحديث.
قال الإمام أحمد: هم أهل الحديث.
وقد صدق فيما نطق وباء بالحق وما اختلق، إذ أهل الحديث هم نقلة الشريعة
وحفظتها والقائمون عليها وسدنتها، فبهم يستبين الصحيح من الفاسد
والرابح من الكاسد من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاصة بعدما
التبس الحق بالباطل ورتع في وضع الحديث كل عاطل.
وهيهات فإن حفظ الله قائم لشرعه ويدُ اللَّه تحمل في الخفاء لحفظه
{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: 31].
وصدق الله إذ يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ
لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] والسنّة شقيقة
(1/3)
كتاب الله وصنوه، وبنت قوله وهي محفوظة باللَّه على يد أجناد الله،
جهابذ النقدة السفرة البررة من أهل الحديث رضي الله عنهم ورحمهم وتوجهم
بكل فضل وذخر. [من الطويل]:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جمعتنا يا جرير المجامع
وهاك نبذاً نيرة ومسائل متآزرة خيرة هي ثمار علمائنا الأكابر من أهل
الحديث، تكشف لك جهدهم وتنير دربك لتلحق بهم وتستقي من غيثهم. [من
الرجز]:
خذها إليك مسلمة ... موسومة ومعلمة
من جازها نال العلى ... حاز الفخار على الملا
- جولة بين الرواية والرواة.
- تعريفات وتقريرات.
-حكم قبول الحديث الضعيف في الفضائل.
- العناية بالرواية والحفظ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- الرحلة في طلب الحديث.
- من فوائد الترحال والتنقل إلى البلدان والأقطار.
- مرتبة السنّة من الكتاب.
- حجية السنة.
- آراء بعض المستشرقين في السنّة ونقدها.
- مكانة السنّة في القرن الثالث.
- جهود العلماًء في تدوين الحديث.
- السنّة في القرن الرابع الهجري.
- علم الجرح والتعديل.
- نبذة عن المؤرخين.
- المتكلمون في الرجال ومن يعتد بقوله منهم.
- جهود الصحابة والتابعين في مقاومة الوضاعين.
- ألفاظ تدل على الصحة أو الحسن.
- مبحث في ألفاظ خاصة عند أهل الجرح والتعديل.
- ألفاظ الأداء.
- تعريف التخريج.
(1/4)
- الكتب المصنفة في التخريج.
- ترجمة الرافعي.
- ترجمة ابن حجر.
- تلخيص الحبير.
- وصف النسخ.
(1/5)
جولة بين الرواية والرواة
لا سبيل إلى معرفة شيء من معاني كتاب الله ورسوله إلا من جهة النقل بعد
الحفظ فإنهما الطريقاًن الأمثلاًن للحفاظ على التراث وهو ما يسمى
"بالصدور والسطور"، ولذا وجب أن نميز بين عدول النقلة والرواة وثقاتهم،
وأهل الحفظ والتثبت والإتقان منهم، وبين أهل الغفلة والوهم وسوء الحفظ
والكذب واختراع الأحاديث الكاذبة؛ ليعرف أهل الصدق من أهل النفاق،
وليميز الله الخبيث من الطيب، فينكشف حال أهل الكذب والغفلة والنسيان
والغلط ورداءة الحفظ، وهؤلاء هم أهل الجرح فيسقط حديث من وجب أن يسقط
حديثه ولا يعبأ به، ولا يعول عليه، ويكتب حديث من وجب كتابة حديثه منه.
وطبقات الرواة يمرون بمراحل ثلاث:
الصحابة1: أولئك الذين شهدوا الوحي والتنزيل، وعرفوا التفسير والتأويل،
وفقهوا دين الله وعرفوا أوامره ونواهيه فنصروه، وأقاموا مبانيه،
وحافظوا على مراميه ومعانيه، سماهم اللَّه عدولاً كما قال: {وَكَذَلِكَ
جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [سورة البقرة: 143].
التابعون2: خلفوا بعد الصحابة، وحفظوا عنهم، ونهلوا من دقيق أفهامهم،
ونشروا ما تلقوه منهم من الأحكام والسنّة والآثار، وذكرهم الله في محكم
التنزيل فقال: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [سورة
التوبة:100].
أتباع التابعين: وهم الخلف الأخيار، وأعلام الأقطار والأمصار، وأعلم
الناس بالحلال والحرام: سكت الصحابة عن تأويل المتشابه فسلموا، وتأوله
هؤلاء لحمايته من زيغ
__________
1 المحققون من أهل الحديث، كالبخاري وأحمد بن حنبل على أن الصحابي هو
"من لقي النبي صلى الله عليه وسلم وهو مميز مؤمن به، ومات على الإسلام،
طالت مجالسته له أو قصرت، روى عنه أو لم يرو، غزا معه أو لم يغز".
وانظر بحثنا في مقدمة "الإصابة" للحافظ ابن حجر العسقلاني.
2 قال الخطيب: التابعي من صحب صحابياً، ولا يكتفي فيه بمجرد اللقى،
بخلاف الصحابي مع النبي صلى الله عليه وسلم... ولذلك ذكر مسلم وابن
حبان "الأعمش" في طبقة التابعين لأن له لقيا وحفظاً، رأي أنس بن مالك،
وإن لم يصح له سماع "المسند" عنه... وانظر بحثنا في مقدمة "الإصابة".
(1/5)
الزائغين، وانتحال المبطلين، بيد أن الأولى ما سلكه السلف1، ولقد أنجبت
المدرسة المحمدية على مر الأزمان والعصور تلاميذ ذكرهم الله بعد
تلاميذه المقربين وأتباعهم المخلصين فقال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ
بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا
الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا
غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [سورة
الحشر: 10].
أما المصنفون في علم الحديث فقد رتبوا الرواة من حيث القبول والرد إلى
طبقات خمس:
الطبقة الأولى: الثبت الحافظ الورع المتقن والجهبذ الناقد للحديث. فهذا
لا يختلف فيه أو عليه. يعتمد على جرحه وتعديله، ويحتج بأحاديثه وكلامه
في الرجال.
الطبقة الثانية: العدل في نفسه، الثبت فى روايته، الصدوق في نقله،
والورع في دينه، الحافظ لحديثه، المتقن فيه؛ فذلك العدل الذي يحتج
بحديثه، ويوثق في نفسه.
الطبقة الثالثة: الصدوق الورع الثبت الذي يهم أحياناً، وقد قبله
الجهابذة النقاد، وهذا بحديثه2.
الطبقة الرابعة: الصدوق الورع المغفل "كثير النسيان" الغالب عليه الوهم
والخطأ والغلط والسهو، فهذا يكتب من حديثه الترغيب والترهيب والزهد
والآداب، ولا يحتج بحديثه في الحرام والحلال.
الطبقة الخامسة: والخامس بعد هؤلاء من ألصق نفسه بهم وليس منهم وليس من
أهل الصدق والأمانة ظهر للنقاد والعلماء بالرجال أولي المعرفة متهم
بالكذب سماه الله بالزنيم "والزنمة قطعة بارزة في الجسم وليست منه" فهو
مناع للخير "معتد أثيم "، فإن الروايات التي يذكرها هؤلاء المندسون من
الزنادقة والملاحدة لم يذكروا سندها ولا أسندوها إلى أحد من المخرجين،
وقبول الحديث الذي لا سند له ليس من شأن أولي الألباب وأرباب العقول
وذوي الحجا، لذلك كان لا بد من تحقيق أحوال الوسائط وتشخيصهم وكشف
عدالتهم ليكتسب الحديث صفة القبول أو الرد وبدون ذلك فالإستناد به
والتعويل عليه لا يليق بمن له أدنى خبرة بهذا الفن.
وخلاصة المرام في تحقيق المقام: أن الأمور الدينية بأسرها محتاجة إلى
بروز سندها،
__________
1 نقول: وباللَّه التوفيق: "وإنما يجب أن يسلك في هذا المقام مذهب
السلف الصالح: مالك والأوزاعى، والثوري، والليث بن سعد، والشافعي،
وأحمد بن حنبل، واسحاق بن راهويه وغيرهم، وهو إمرارها كما جاءت من غير
تكييف، ولا تشبيه، ولا تعطيل، ولا تمثيل...". انظر تعليقنا على "تفسير
الوسيط" الواحدي النيسابوري تفسير سورة الأعراف آية 55 جـ2/375.
2 "الأجوبة الفاضلة"/64 بتحقيق عبد الفتاح أبو غدة.
(1/6)
واتصالها إلى منبعها أو تصريح من يعتمد عليه بها، ولا يستثنى من ذلك
شيء منها. غاية الأمر أن منها ما يشدد ويحتاط في طريق ثبوتها، ومنها ما
يتساهل أدنى تساهل في طريقها.
(1/7)
تعريفات وتقريرات
علم الحديث علم جليل وفريد اختص اللَّه سبحانه به الأمة الإسلامية من
أجل تثبيت دينها وصيانتها من الانحراف والضياع.
فالحديث: أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وتقريراته، والسنة: أفعال
الرسول وصفاته زيادة على أقواله وتقريراته.
والمتواتر من الحديث من بلغ رواته كثرة يستحيل تواطؤهم على الكذب،
والآحاد خبر الواحد لا ينطبق عليه حد التواتر، فإن رواه اثنان عن اثنين
فهو مشهور، وإن ثلاثة أو أربعة عن مثلهم إلى آخرين فهو مستفيض.
والجمهور على أن المتواتر يفيد العلم ضرورة، وخالف في إفادته العلم
مطلقاً السمتيَّة والبراهمة.
وخالف في إفادته العلم الضروري- الكعبي، وأبو الحسين من المعتزلة،
وإمام الحرمين من الشافعية؛ وقالوا: إنه يفيد العلم نظراً.
وذهب المرتضى من الرافضة، والآمدي من الشافعية إلى التوقف في إفادته
العلم، هل هو نظري، أم ضروري؟.
وقال الغزالي: إنه من قبيل القضايا التى قياساتها معها، فليس أولياً
وليس كسبياً.
وحجة الجمهور: أنه ثابت بالضرورة، وإنكاره بهت ومكابرة، وتشكيك في أمر
ضروري، فإنا نجد من أنفسنا العلم الضروري بالبلدان النائية والأمم
الخالية، كما نجد العلم بالمحسوسات، لا فرق بينها فيما يعود إلى الجزم،
وما ذاك إلا بالإخبار قطعاً.
ولو كان نظرياً، لافتقر إلى توسط المقدمتين في إثباته، واللازم باطل؛
لأننا نعلم قطعاً علمنا بالمتواترات، من غير أن نفتقر إلى المقدمات
وترتيبها، ولو كان نظرياً، لساغ الخلاف فيه؛ ككل النظرياًت، واللازم
باطل؛ فثبت أن المتواتر يفيد العلم، وأن العلم به ضروري كسائر
الضروريات.
وخبر الواحد الصحيح يفيد الظن الغالب فإن تلقاه المسلمون وأهل الحديث
بالقبول فهو العلم اليقيني، ويجزم بأنه صدق، ويجب العمل به كالمتواتر
سواء في العقائد أو العبادات أو المعاملات، وإنكاره إثم لقوله تعالى:
{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ
بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا
قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة
(1/7)
النساء: 65]. ولقوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ
أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
[النور: 63].
والحديث القدسي: ما أضيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسنده إلى
ربه سبحانه.
والفرق بين القرآن والحديث القدسي أن القرآن ما كان لفظه ومعناه من عند
الله بوحي جلي، والحديث القدسي ما كان لفظه من عند الرسول صلى الله
عليه وسلم ومعناه من عند الله بالإلهام أو المنام1.
والحديث النبوي: إما مرفوع أو موقوف، وكلاهما إما صحيح أو حسن أو ضعيف
أو موضوع.
فالصحيح2: ما اتصل سنده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه،
ولا يكون شاذاً ولا معللاً.
والحسن 3: كالصحيح، إلا أن بعض رواته حفظه أقل من حفظ راوي الحديث
الصحيح. والحسن ينقسم إلى قسمين:
حسن لذاته، وحسن لغيره.
فالحسن لذاته ما انطبق عليه التعريف المتقدم.
والحسن لغيره: ما ورد من طريقين فأكثر، لا يخلو واحد منها من ضعف إلا
أنها بمجموعها ترقى بالحديث إلى درجة الحسن لغيره بشرط أن يكون الضعف
غير شديد.
أما الضعيف4: فهو ما قصر عن درجة الحسن، وتتفاوت درجاته ضعفاً بحسب
بعده من شروط الصحة.
وليس للضعيف مرتبة واحدة، بل هو قسمان.
قسم يجبر بتعدد الطرق، وقسم لا يجبر بهذا التعدد، فالذي يجبر بتعدد
الطرق يكون ناشئاً عن سوء حفظ رواته لا من تهمة فيهم.
أما الضعيف الذي لا يجبر ضعفه فهو ما كان بعض رواته متهماً بالكذب أو
الفسق وقد يرتقي بمجموعه عن كونه منكراً أو لا أصل له.
__________
1 وهناك فروق أخرى كثيرة، وليس هذا موضعها.
2 انظر: "قواعد التحديث" /79.
3 ينظر: "مقدمة ابن الصلاح" ص 103، واختصار علوم الحديث ص 37، و"شرح
التبصرة والتذكرة" 1/84، و"تقريب النواوي" 1/153- 154، و"توجيه النظر"
ص 145.
4 "مقدمة ابن الصلاح" ص117، و "اختصار علوم الحديث" ص 44، "تدريب
الراوي" 1/179،. و "فتح المغيث" 1/93.
(1/8)
والضعيف أقسام:
مرسل، و مقطوع، ومنقطع، ومعضل، و معلق، ومدلس، وغريب، وشاذ، ومضطرب،
وموضوع، ومعلل، ومدرج، وغير ذلك.
فالمرسل1: ما رفعه التابعي إلى النبي مسقطاً الصحابي.
والمقطوع2: ما جاء عن تابعي من قوله، أو فعله موقوفاً.
والمنقطع3: ما سقط من رواته واحد قبل الصحابي، وكذا بعده من مكان، بحيث
لا يزيد الساقط عن راوٍ واحد.
المعضل 4: ما سقط من رواته قبل الصحابي اثنان فأكثر بشرط التوالي.
المعلق: ما حذف من أول إسناده لا وسطه.
المدلس ثلاثة أقسام:
الأول: أن يسقط شيخه، ويرتقى إلى شيخ شيخه أو من فوقه فيسند عنه ذلك
بلفظ لا يقتضي الاتصال بل بلفظ موهم؛ كأن يقول عن فلان أو قال فلان.
الثاني: تدليس التسوية: بأن يسقط ضعيفاً بين ثقتين فيستوي الإسناد
ويصير كله ثقات؛ وذلك شر التدليس وكان بقية بن الوليد من أفعل الناس
له.
والثالث: تدليس الشيوخ بأن يسمى شيخه الذي سمع منه بغير اسمه المعروف
أو ينسبه، أو يصفه بما لم يشتهر به، وحكم من ثبت عنه التدليس إذا كان
عدلاً ألا يقبل منه إلا ما صرح فيه بالتحديث5.
__________
1 "مقدمة ابن الصلاح" ص130، و"شرح التبصرة والتذكرة" 1/144، و "تقريب
النواوي" 1/295، و"فتح المغيث" 1/128، و"الخلاصة" ص65، و"تنقيح
الأنظار"، وشرحه "توضيح الأفكار" 1/283.
2 "تقريب النواوي"، ومعه "التدريب" 1/194، و "فتح المغيث للسخاوي"
1/100، و"اختصار علوم الحديث" ص47، و "تنقيح الأنظار" معه "توضيح
الأفكار" 1/265.
3 "الكفاية" ص258، و "مقدمة ابن الصلاح" ص 144، و "فتح المغيث للسخاوي"
1/149، و"معرفة علوم الحديث" ص 27، و"توضيح الأفكار" 1/323.
4 "فتح المغيث للسخاوي" 1/151، و"تدريب الراوي" 1/211، و"الاقتراح"
لابن دقيق العيد ص192.
5 انظر: الحديث عن "المدلس" في: "محاسن الاصطلاح" ص167، و"التقييد
والإيضاح" ص95، و"الخلاصة" ص74، و"فتح الباقي" 1/179، و"تدريب الراوي"
1/223، و"فتح المغيث للسخاوي" 1/169.
(1/9)
الغريب1: ما انفرد راوٍ بروايته أو برواية زيادة فيه عمن يجمع حديثه،
وينقسم إلى:
غريب صحيح كالأفراد المخرجة في "الصحيحين".
وغريب ضعيف: وهو الغالب على الغرائب.
وغريب حسن وفي "جامع الترمذي" منه الكثير.
الشاذ2: ما خالف الراوي الثقة فيه من هو أوثق منه بزيادة أو نقص،
والشدوذ يكون في السند، ويكون في المتن.
المنكر3: الذي لا يعرف متنه من غير جهة راويه، فلا تابع له ولا شاهد.
المضطرب4: ما روي من أوجه مختلفة متدافعة على التساوي في الاختلاف من
راوٍ واحد.
الموضوع5: هو الذي في إسناده راوٍ واحد أو أكثر ثبت عليه أنه يكذب على
رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسمى المختلق، وتحرم روايته مع العلم به
إلا مبيناً.
والمعلل: هو حديث ظاهره الصحة، ولكن تدخله علة، وهي عبارة عن سبب غامض
خفي قادح مع أن الظاهر السلامة منه.
والمدرج: وهو ما يدخله الراوي على الأصل المروي متصلاً به، سواء كان
الاتصال بآخر المروي، أو بأوله، أو في أثنائه دون فصل بذكر قائله، بحيث
يلتبس على من لم يعرف الحال، فيتوهم أن الجميع من ذلك الأصل المروي.
وها هنا مسألة هامة تحرض لها أصحاب هذا الفن، فطال فيها نزاعهم، ألا
وهي: "قبول الحديث الضعيف في فضائل الأعمال".
قال الحافظ العراقي في "شرح ألفية الحديث"6.
__________
1 "التقييد والإيضاح" ص273، و"تدريب الراوي" 2/180، و "اختصار علوم
الحديث" ص166، و"الخلاصة" ص51، و"نزهة النظر" ص27.
2 "معرفة علوم الحديث" ص 119، و"التقييد والإيضاح" ص 100، و "فتح
المغيث للسخاوي" 1/185، و"تدريب الراوي" 1/232، و"توضيح الأفكار"
1/377.
3 "اختصار علوم الحدث، ص58، و"شرح التبصرة والتذكرة" 1/197، و"فتح
المغيث للسخاوي" 1/190، و"تدريب الراوي" 1/238، و"توضيح ا لأفكار"،
2/3.
4 "شرح التبصرة والتذكرة" 1/240، و"اختصار علوم الحديث والباعث الحثيث"
ص72، و "فتح المغيث للسخاوي" 1/221، وتوضيح الأفكار 2/34.
5 "التقييد والإيضاح" ص130، و"فتح المغيث للسخاوي" 1/234، و"تدريب
الراوي" 1/274، و"مقدمة ابن الصلاح" ص212.
6 2/291 ط فارس.
(1/10)
أما غير الموضوع فجوزوا التساهل في إسناده، وروايته من غير بيان ضعفه
إذا كان في غير الأحكام والعقائد، بل في الترغيب والترهيب من المواعظ
والقصص وفضائل الأعمال ونحوها، أما إذا كان في الأحكام الشرعية من
الحلال والحرام وغيرهما أو في العقائد؛ كصفات الله تعالى وما يجوز في
حقه وما يستحيل عليه ونحو ذلك فلم يروا التساهل في ذلك، وممن نص على
ذلك من الأئمة، عبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل، وعبد اللَّه بن
المبارك وغيرهم، انتهى.
وقال النووي في "التقريب" قريباً من ذلك.
وذكر له شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر العسقلاني ثلاثة شروط:
أحدها: أن يكون الضعيف غير شديد، فيخرج من انفرد من الكذابين والمتهمين
بالكذب ومن فحش غلطه.
والثاني: أن يندرج تحت أصل معمول به.
والثالث: ألا يعتقد قبل العمل به ثبوته، بل يعتقد الاحتياط، وقيل: لا
يجوز العمل به مطلقاً1، وقيل: يعمل به مطلقاً2 ا هـ.
قال ابن حجر الهيثمي3: قد اتفق العلماء على جواز العمل بالحديث الضعيف
في فضائل الأعمال؛ لأنه إن كان صحيحاً في نفس الأمر فقد أُعطي حقه من
العمل به، وإلا لم يترتب على العمل به مفسدة تحليل ولا تحريم، ولا ضياع
حق للغير.
وقد احتج بعضهم بالحديث الضعيف إذا لم يوجد في الباب غيره كأحمد بن
حنبل، وتبعه أبو داود، وقدماه على الرأي والقياس. ويقال عند أبي حنيفة
أيضاً ذلك، وإن الشافعي يحتج بالحديث المرسل إذا لم يجد غيره، وكذلك
إذا تلقت الأمة الحديث الضعيف بالقبول يعمل به على الصحيح وجوباً حتى
إنه ينزل منزلة المتواتر في أنه ينسخ المقطوع به، ولهذا قال الشافعي في
حديث: "لا وصية لوارث" 4: إنه لا يثبته أهل الحديث، ولكن
__________
1 وممن ذهب إلى هذا المذهب القاضي أبو بكر ابن العربي المالكي.
2 نقله السخاوي في "القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع" ص195.
3 "الفتح المبين في شرح الأربعين" ص 32.
4 أخرجه: من حديث أبي إمامة أخرجه أبو داود في "السنن" 3/290، 291،
وكتاب الوصايا: باب ما جاء في الوصية للوارث "2870" وأخرجه الترمذي في
"السنن" 4/432، كتاب الوصايا: باب ما جاء "لا وصية لوارث" 2120" وأخرجه
ابن ماجة في "السنن" 2/905 كتاب الوصايا: باب لا وصية لوارث "2713"،
وأخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" 8/159، 160 "7615"، وأخرجه البيهقي
في "السنن الكبرى" 6/264 كتاب الوصايا: باب نسخ الوصية للوالدين،
وأخرجه أبو داود الطيالسي في "المسند" ص154، وأخرجه عبد الرزاق في
"المصنف" 9/48، 49، كتاب الولاء: باب تولي غير مواليه "16306"، وأخرجه
أحمد في "المسند" 5/267. وأخرجه سعيد بن منصور في سننه 428، وذكره
الحافظ ابن حجر في "المطالب العالية" "2908".
(1/11)
العامة تلقته بالقبول وعملوا به حتى جعلوه ناسخاً لآية الوصية1.
__________
1 قال الإمام اللكنوي بعد حكاية الخلاف المذكور: "هذه العبارات ونحوها
الواقعة في كتاب "الثقات" تشهد بتفرقهم في ذلك، فمنهم من منع الحمل
بالضعيف مطلقاً، وهو مذهب ضعيف، ومنهم من جوزه مطلقاً، وهو توسع سخيف.
ومنهم من فصل وقيد، وهو المسلك المسدد". من "الأجوبة الفاضلة" ص 53.
(1/12)
قول الصحابي: أمرنا، أو نهينا، أو من السُّنة
الصحابة: هم الذين تلقوا السنّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
مباشرة، فإذا أخبر أحدهم بأنهم أُمروا، أو نُهوا، أو من السنة كذا،
فإما أن يصرح بالآمر، والناهي، وصاحب السنة، وحينئذٍ فلا إشكال ولا
خفاء.
ومثاله في الأمر: ما أخرجه الترمذي "عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه
قال: لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم عام "الفتح" "مر الظهران"
فآذننا بلقاء العدو، فأمرنا بالفطر، فأفطرنا أجمعون... ".
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
ومثاله في النهي: ما أخرجه الترمذي، عن علي بن أبي طالب قال: نهاني
النبي صلى الله عليه وسلم عن التختم بالذهب، وعن لباس القسي، وعن
القراءة في الركوع والسجود، وعن لبس المعصفر... " قال أبو عيسى: هذا
حديث حسن صحيح.
ومثاله في السنة: قول ابن عباس في متعة الحج: سنّة أبي القاسم.
وقول عمرو بن العاص في عدة أم الولد: لا تلبسوا علينا سنّة نبينا... .
رواه أبو داود.
وقول عمر في المَسْحِ: أصبت السُّنة... صححه الدَّار قطني في "سننه".
وهذه مراتب متفاوتة في قربها من الرفع- بعضها من بعض- فأقربها: سنة أبي
القاسم: ويليها سنة نبينا، ويليها: أصبت السنة.
غاية الأمر: أنه اختلف في الأمر والنهي، إذا صرح بأنه أمر الرسول
ونهيه، هل يكون حجة أَوْ لا؟
فقال الجمهور: نعم.
وحكي عن أبي داود، وبعض المتكلمين: إنه لا يكون حجة؛ حتى ينقل لفظه.
وحجة الجمهور: أن الصحابي عدل عارف باللسان؛ فلا يطلق الأمر والنهي إلا
بعد التحقق منه.
(1/12)
وقال المانعون: إنه يتطرق إليه احتمالات ثلاثة:
الأول: في سماعه؛ كما في قوله قال: والرد عليه أنه مرسل الصحابي حجة
كسماعه.
الثاني: في الأمر والنهي: إذ ربما يرى ما ليس بأمر أمراً، وما ليس بنهي
نهياً.
والجواب: أنه لا يظن بالصحابي إطلاق ذلك، إلا إذا علم تحقيقاً أنه أمر
بذلك، أو نهى عنه، وينضم إليه من القرائن ما يعرف كونه أمراً أو نهياً،
ويدرك ضرورة قصده إلى الأمر والنهي.
أما احتمال بنائه على الغلط والوهم، فلا يصح أن يتطرق إنى الصحابة بغير
ضرورة، بل يحمل قولهم وفعلهم على السَّلامة ما أمكن.
الثالث: في المأمور والمنهي؛ هل هو فرد بعينه، أو طائفة بعينها، أو
سائر الأمة؟
والجواب: أن ذلك لا يخفى على الصَّحابي، وذكره في مقام الاحتجاج يرفع
الاحتمال.
أما إذا لم يصرح الصحابي بالآمر، والناهي، ولا بصاحب السنة- فهناك يأتي
الاحتمال الرابع، وهو: هل الآمر، أو الناهي، أو صاحب السنة- هو رسول
الله صلى الله عليه وسلم مرفوعاً، أو غيره؛ فلا يكون مرفوعاً؟.
فقال الجمهور: هو مرفوع.
وقال فريق منهم أبو بكر الإسماعيلي: ليس بمرفوع.
وقيل: محل الخلاف إذا لم يكن القائل هو الخليفة الأول: أبو بكر رضي
الله عنه.
قول الصحابي: كنا نفعل كذا، أو نقول كذا، أو نرى كذا.
قول الصحابي ذلك: إما أن يضيفه لعهد رسول صلى الله عليه وسلم أو لا؟.
فإن أضافه لعهد الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يخلو: إما أن يكون هناك
تصريح بإطلاعه أولاً:
فإن كان هناك تصريح بإطلاعه؛ كما رواه الطبراني في "الكبير" من حديث
ابن عمر: كما نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم حيٌّ: "أفضل هذه
الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر وعثمان"، ويسمع ذلك رسول الله صلى الله
عليه وسلم فلا ينكره، فمرفوع إجماعاً، والحديث في "الصحيح" بدون
التصريح المذكور.
وإن لم يكن هناك تصريح بإطلاعه؛ كحديث جابر: كنا نعزل على عهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم- أخرجه الشيخان.
وكقوله: كُنا نأكل لحوم الخيل على عهد رسول صلى الله عليه وسلم رواه
النسائي وابن ماجة -فثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: أنه مرفوع؛ وهو مذهب الجمهور.
المذهب الثاني: أنه موقوف؛ وهو مذهب الإمام أبي بكر الإسماعيلي.
المذهب الثالث: فإن كان ذلك الفعل مما لا يخفى غالباً- كان مرفوعاً،
وإلا كان موقوفاً؛ وبهذا قطع أبو إسحاق الشيرازي.
(1/13)
العناية بالرواية والحفظ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول خالد بن يزيد فيما رواه البيهقي: حرمة أحاديث رسول الله صلى الله
عليه وسلم كحرمة كتاب الله وكان أبو سعيد الخدري يقول: مذاكرة الحديث
أفضل من قراءة القرآن.
تال السيوطي في "مفتاح الجنة": وهذا كما قال الشافعي: "طلب العلم أفضل
من صلاة النافلة، لأن قراءة القرآن نافلة، وحفظ الحديث فرض كفاية.
وقال ابن المبارك في حديث: "لا تزال طائفة من أمتي على أمر اللَّه... "
الحديث1: "هم عندي أصحاب الحديث".
وقد صدق هؤلاء فيما قالوه: إن أصحاب الحديث خير الناس وكيف لا يكونون
كذلك، وقد نبذوا الدنيا بأسرها وراءهم، وجعلوا غذاءهم الكتابة وسحرهم
المعارضة، واسترواحهم المذاكرة، وخلوقهم "أي طيبهم الذي يتطيبون به"
المداد، ونومهم السهاد يصطلون الضياء، ويتوسدون الحصى، الشدة عندهم مع
علو الإسناد رخاء، أولئك هم العلماء الحكماء، كادوا من فقههم أن يكونوا
أنبياء.
__________
1 أخرجه: البخاري 1/197 كتاب العلم: باب "من يرد به الله خيراً" "71"،
وفى 6/250 كتاب الخمس باب قول الله {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ}
[الأنفال: 41] 3116، وفي 13/306، كتاب الاعتصام باب قول النبي صلى الله
عليه وسلم: "لا تزال من أمتي ظاهرين على الحق.."، "7312"، ومسلم
2/718-719، كتاب الزكاة: باب النهي عن المسألة "98/1037".
(1/14)
الرحلة في طلب الحديث
يعتبر الحديث النبوي الشريف المصدر الثاني للإسلام، لذلك أعطاه العلماء
غاية اهتمامهم، وبذلوا من أجل الحديث وأسانيده كل ما في وسعهم حتى
رحلوا المسافات البعيدة على بعد الشقة وعظم المشقة، طلباً للحديث،
وبحثاً عن أسانيده؛ بل عن إسناد الحديث الواحد. امتثالاً لأمر الله
تعالى، وتحقيقاً لما حث عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من كتاب
الله وسنة نبيه.
فمن الكتاب قوله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ
طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ
إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] ومن
الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "من سلك
(1/14)
طريقاً يلتمس فيه علماً سهل له به طريقاً إلى الجنة" 1 وقبل أن أبين
أهداف الرحلة عند المحدثين يجدر بي أن أقف عند قوله صلى الله عليه
وسلم: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد
الأقصى ومسجدي هذا" ووجه الاستدلال أن هذه المساجد الثلاثة مساوية
لسائر المساجد في المسجدية، فما ميزها عن سائر المساجد بشد الرحال
إليها، وطلب زيارتها للعبادة فيها إلا أنها مباني النبيين ومعاهدهم،
وأمكنة غالب عبادتهم وإرشاداتهم عليهم الصلاة والسلام، فإذا طلبت
زيارتها بهذا الحديث كانت زيارة أصحابها أولى2 بالطلب وأحق بشد الرحال
إليها، وهذا الاستدلال من قبيل الاستدلال بمفهوم الموافقة الذي هو أولى
كما يقول الأصوليون، وذلك أمر واضح لمن نور الله بصيرته، ومن فهم من
هذا الحديث منع شد الرحال لزيارة المصطفى صلى الله عليه وسلم أو زيارة
القبور فقد وهم وما فهم. ويدخل تحت "شد الرحال" طلب العلم والرحلة لطلب
الحديث للتأكد من صحة متنه أو لعلو إسناده أو لمثانته، ويدخل تحت هذا
المعنى الهجرة لهذه الأسباب لقوله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ
بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ
الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100] كما أن
الاستثناء المفرغ كما في هذا الحديث يجب أن يكون فيه المستثنى من جنس
المستثني منه القريب أو البعيد والقريب أولى بالتقدير؛ فالمعنى لا تشد
الرحال إلى مسجد أو إلى أي مكان، والزيارة أو الرحلة في طلب العلم لا
تدخل في واحد منهما حتى يتوجه النفي إليها.
وقال الحافظ العراقي: من أحسن محامل هذا الحديث أن المراد منه حكم إلى
مساجد فقط، وأنه لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد غير هذه الثلاثة أي
لكونها أبنية الأنبياء. وأما قصد غير المساجد من الرحلة في طلب العلم
وزيارة الصالحين والإخوان والتجارة والتنزه ونحو ذلك فليس داخلاً فيه،
وقد ورد ذلك مصرحاً به في رواية أحمد ولفظه: "لا ينبغي للمطي أن تشد
رحاله إلى مسجد ينبغي فيه الصلاة غير المسجد الحرام والمسجد الأقصى
ومسجدي هذا" 3.
وقال الشيخ تقي الدين السبكي: ليس في الأرض بقعة لها فضل لذاتها حتى
تشد الرحال إليها لذلك الفضل غير البلاد الثلاثة، وأما غيرها من
البلاد؛ فلا تشد إليها لذاتها بل لزيارة أو
__________
1 من حديث أبي هريرة أخرجه مسلم 4/2074 في كتاب الذكر والدعاء: باب
"فضل الاجتماع على تلاوة القرآن"، حديث "38/2699"، وابن ماجة باب
"فضائل العلماء والحث على طلب العلم" حديث "225".
2 الزيارة الشرعية المنصوص عليها في الكتب الصحيحة- معاذ الله!- أن
نبيح الطواف بالقبور والتبرك بها وشد الرحال إليها تعبداً.
3 من حدث أبي سعيد الخدري أخرجه أحمد في "المسند" 1/64، وانظر كلام
الشيخ الألباني على الحديث في "إرواء الغليل" 3/230.
(1/15)
جهاد أو علم أو نحو ذلك من المندوبات أو المباحات. إذا فهمت ذلك، تجلت
لك أهداف الرحلة عند المحدثين، واتضحت لك فيما يلي:
1- تحصيل الحديث: وذلك من أهم أسباب الرحلة خصوصاً في العهود الأولى
للإسلام، ومنه جاءت رحلات الصحابة والتابعين وتفرقهم في الأمصار.
وقد كان الخلفاء رضي الله عنهم يرسلونهم إلى البلاد دعاة ومعلمين كابن
مسعود في العراق وأبى الدرداء في الشام.
وانتشر علم الصحابة في التابعين، وتفرق بينهم فاحتاج العلماء إلى
تحصيله من صدور حملته مباشرة استكمالاً لعلم السنّة النبوية فضربوا
المثل العليا حتى رحلوا في طلب الحديث الواحد.
2- التثبت من الحديث: وهو مقصد الصحابة رضي اللَّه عنهم في رحلاتهم
والتابعين، وقد يكون عند المحدث أحاديث يرويها فإذا رحل سمع أحاديثه
بأسانيد تلتقي مع إسناده وتتفق مع رواياته أو معناها فيطمئن المحدث،
ويتقوى الحديث عنده إن كان فيه ضعف بتعدد الطرق أو يزداد صحة إن كان من
قبل صحيحاً أو يسقط حديثاً كان يظن قبل رحلته صحيحاً.
3- طلب العلو في السند: ومعنى العلو قلة الوسائط في سند الحديث مع
اتصال السند، وكيفية حصول العلو بأن يسمع المحدث حديثاً من راوٍ عن شيخ
موجود فيذهب المحدث إلى الشيخ ويسمعه منه مشافهة فيقل بذلك عدد وسائط
النقل في السند1.
4- البحث عن أحوال الرواة: معرفة أداء الراوي للحديث هو المقصد الأسمى
الذي عليه مدار هذا العلم، ومن أجله بذلت كل الجهود، ووضعت قواعد النقد
فكان لا بد من تقصي أحوال الرواة وأخبارهم حتى يتميز المقبول من
المردود.
5- مذاكرة العلماء في نقد الأحاديث وعللها: وهو فن جليل يحتاج إلى عمق
النظر، وتقصي الأسانيد والروايات وذلك لا يتم إلا بالمجالسة والمدارسة،
ولقاء أساتذة هذا الفن وأساطينه.
قال الخطيب البغدادي: ولو كان المتصل والمرسل واحداً لما ارتحل كتبة
الحديث، ولما تكلفوا مشقة الأسفار، وشد الرحال إلى ما بَعُدَ من
الأمصار والأقطار للقاء العلماء والسماع منهم.
__________
1 انظر: "الرحلة في طلب الحديث" بتحقيق نور الدين عز 12 وما بعدها.
(1/16)
من فوائد الترحال التنقل إلى البلدان والأقطار
يقول العلامة ابن خلدون في مقدمته: "الرحلة في طلب العلم، ولقاء
المشيخة مزيد كمال في التعلم"1.
ولعل في هذه العبارة الموجزة ما يفيد أن الرحلة تزيد في المعارف، ومنها
تكتسب الأخلاق، وتنتحل المذاهب والآراء إما علماً وتعليماً، وإما
محاكاة وتلقيناً، ولعل أقوى مثال في ذلك ما وافانا به الإمام الشافعي
في رحلته من العراق إلى مصر من مذهب جديد يختلف في مسائل جوهرية كثيرة
عن مذهبه القديم؛ فالرحلة لا بد منها في طلب العلم لاكتساب الفوائد،
والكمال بلقاء المشايخ، وتكوين الشخصية العلمية المستقلة التي يمكن أن
تتجدد وتبتكر في إطار الهدف المنشود، والغرض المقصود.
كما أن من أسمى غايات الرحلة نشر العلم فليس الغرض منها الاستفادة من
الغير فحسب، وإنما إفادة الغير أيضاً فيعلم من يلقاهم مما أفاض الله
عليهم من الفن الذي تخصص فيه فتعظم مكانته بينهم، ويكثر الانتفاع
بحكمته، بل إن أحدهم ليستصغر البلد الذي ينزل فيه على علمه فيرحل إلى
بلد يسعه علمه الغزير؛ كما فعل العز بن عبد السلام فرحل من الشام إلى
مصر.
وقد تكون الرحلة للالتقاء بأحد الصالحين الذين ذاع صيتهم وانتشر في
الآفاق كرحيل موسى إلى الخضر، ولا يفوتنا في هذا المقام مالك بن أنس
إمام دار الهجرة التي كانت تضرب إليه أكباد الإبل بالمدينة المنورة
للتلمذة على يديه وعلى رأسهم الشافعي بن إدريس المطلبي ابن عم رسول
الله صلى الله عليه وسلم.
كما أن من فوائد الرحلة كسب صداقات جديدة قائمة على تبادل الخبرات
والثقافات؛ كالتقاء الشافعي بابن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة
بالعراق.
ومن آداب الترحال تزود المترحل من علماء بلده قبل أن يخرج إلى بلد غير
بلده، فإذا فرغ من التلقي من علماء بلده سلك السبيل إلى غيرهم في
الآفاق.
كما أن من آدابها اختيار الأماكن، واستشارة علماء بلده في هذه الأماكن
قبل الرحيل إليها والتعرف على الفضلاء من علمائها.
وألا يكون عاصياً بالسفر2 إلى هذه البلاد فإن البلاد فإن ذلك مما يحرم
عليه الرخص، التي أباح الله له من قصر الصلاة وجمعها والفطر بدلاً من
الصوم وغير ذلك.
__________
1 "مقدمة ابن خلدون" ص 632.
2 لأن الرخص لا تناط بالمعاصي، هذا عند الشافعي، بل يرى الأحناف ومن
وافقهم إباحة الترخص له، ولكن عند الشافعي نقول للعاصي: تب وارجع إلى
ربك ثم ترخص.
(1/17)
مرتبة السنة من الكتاب
الذي لا يختلف عليه اثنان أن الكتاب يتميز عن السنة لفظاً وإعجازاً
وتعبداً بالتلاوة، لكنها تساويه من حيث الحجية والاستدلال بأنها تبيان
الكتاب؛ فلا تتأخر عنه في هذا المقام. وكيف لا، وهي وحي مثله لأنها قد
نزلت على من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم وهي المعنية بقوله
صلى الله عليه وسلم: "أوتيت القرآن ومثله معه" يعدد ومثله معه مرات
عديدة.
إن إهدار حجية السنة إهدار للآيات التي نصبت على حجيتها: {وَمَا
آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}
[سورة الحشر: الآية 7].
وخلاصة القول في ذلك: أن كلاًّ منهما معضد للآخر، مساوٍ له في أنه وحي
من عند الله، وفي قوة الاحتجاج به قال صلى الله عليه وسلم: "نزلت فيكم
ما إن تمستكم به لن تضلوا بعده كتاب الله وسنتي، ولن يفترقا حتى يردا
على الحوض" 1 والله أعلم.
__________
1 انظر بحثنا عن هذا الموضوع في كلامنا على "فتح العلام " للشيخ زكريا
الأنصاري. والحديث أخرجه: ابن ماجة مقدمة باب 16، والحاكم في
"المستدرك" 1/91، من حديث العرباض بن سارية.
(1/18)
حجية السنة
لا نزاع في أن صحة الاستدلال بحديث مروي عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم على عقيدة دينية أو حكم شرعي يتوقف على أمرين أساسيين:
أولهما: ثبوت أن السنة حجة وأصل من أصول التشريع.
ثانيهما: ثبوت ورود هذا الحديث بطريق من طرق الرواية المعتمدة.
ثم إن العلماء اختلفوا بالنسبة للأمر الثاني في الطريق التي تعتمد في
إثبات صدور الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلافاً كبيراً.
فمن الناس من أنكر العمل بكل ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم لا
من حيث صدورها عنه، وأن ما صدر ليس بحجة، ولكن من حيث عدم ثبوت هذا
الصدور من طريق يصح الاعتماد عليه والاطمئنان إليها.
وهذا الفريق من الناس ذكره السيوطي في كتابه "مفتاح الجنة في الاحتجاج
بالسنة"1. ومنهم من قال: إنما يثبت بالتواتر فقط ورد جميع أخبار
الآحاد.
__________
1 ص 3 من الكتاب المذكور، وانظر بحثنا عن "حجية السنة" في "فتح العلام"
للشيخ زكريا الأنصاري.
(1/18)
وفريق ثالث: أثبته بكل منهما "التواتر والآحاد" وهذا الفريق اختلف في
شروط خبر الواحد اختلافاً كثيراً.
وأما الأمر الأول: وهو حجية السنة بعد التثبت من صدورها عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم فهل وقع فيه خلاف.
الذي لا شك فيه أن موجبات الخلاف اختلاف الملل والنحل وتفاوت العقول؛
فهذا قد قصر عقله عن إدراك ما يقال وما يفعل، وهذا قد اتخذ إلهه هواه
وأضله الله على علم، وثالث قد مرق من الدين مروق السهم من الرمية، وبين
هؤلاء وهؤلاء الغارقين في ظلمات الجهل وعماية الفهم يشق النور طريقه
مخترقاً ذلك الظلام الدامس، فسرعان ما يبدده بتفنيد هذه الآراء
والتمييز بين المتعالمين والعلماء بحجج قاطعة وبراهين ساطعة يرتاح
إليها المصنفون، وينزعج لتبيانها المبطلون.
فحجية السنة ليس المراد منها أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله
وتقريراته لذاتها، بل من حيث صدورها ممن ثبتت رسالته وعصمته.
فإذا قلنا: إنها ضرورة دينية أي إنها أصبحت معلومة للخاص والعام:
العالم والجاهل، ولكل أفراد الأمة الإسلامية: لا ينكرها منكر، ولا يشك
فيها شاك حتى يطالبنا ببيان دليلها وأصلها، فلما لم نحتج إلى بيان دليل
لمنكر لها كصلاة الظهر مثلاً وأنها أربع ركعات صارت بمنزلة القضايا
الضرورية حقيقة؛ ولذلك كان الحكم على منكرها أو الشاك فيها بالردة لما
تقرر من أن الإيمان هو التصديق القلبي في جميع ما علم مجيئه على يد
النبي صلى الله عليه وسلم بالضرورة.
وخلاصة القول أن الأئمة قاطبة مجمعون على اتّخاذ الحديث الصّحيح قاعدةً
أساسيّة بعد كتاب الله تعالى، وأنّه يجب العمل به في القضاء والإفتاء،
ولو خالف مذاهبهم.
كان بعضهم يعتصم بالحديث حتى كاد يُقصر اجتهاده عليه، وبعضهم أسّس
مذهبه على ظاهره، وأنكر ما عداه، ولا غرابة، فإنّه المعين الذي لا ينضب
بعد كتاب الله، فيه يجد المجتهد مجالاً واسعاً لاستنباط الأحكام، وهو
مفتاح القرآن، ومرقاة الوصول إلى فهمه على وجهه، فقد فضّل ما أجمل
وأحكم ما تشابه، وكمّل ما سكت عنه، وإذا كان الحديث بهذه المثابة فلا
بأس أن نسرد أقوال الأئمّة فيه، ونبيّن مقدار تمسّكهم به في تشريعهم
فها هو الإمام الشافعي- رضي الله عنه- يقول: إذا صح الحديث، فهو مذهبي،
وإذا وجدتم في كتابي خلاف سنّة رسول الله، فدعوا قولي، وقولوا بسنّة
رسول الله، وقد سلك أصحابه هذا المَسلك، فكانوا يُفتون بالحديث، بل كان
بعضهم إذا رأى مسألة تعارض فيها الحديث ومذهب الشافعيّ، أخذ بالحديث
وأفتى به قائلاً: "هكذا مذهب الشافعي".
(1/19)
وجاء في "شرح الهداية" لابن الشحنة: "إذا صحّ الحديث، وكان مخالفاً
للمذهب عمل بالحديث، ويكون ذلك مذهب من صحّ عنده". ثم قال: ولا يخرج
مقلّده عن كونه حنفيّاً بالعمل به؛ لما رُوي عن أبي حنيفة أنه قال:
"إذا صحّ الحديث، فهو مذهبي"، وقد حكى ذلك ابن عبد البَرِّ عن أبي
حنيفة وغيره من الأئمة.
(1/20)
آراء بعض المستشرقين في السنّة ونقدها
يرى جولد تسهير أن أكثر الأحاديث النبوية موضوعة؛ لأنها نتيجة للتطور
الإسلامي السياسي والاجتماعي، وأن الصحابة والتابعين لهم يد في وضع هذه
الأحاديث.
كما يرى أن أصحاب المذاهب ينتحلون أحاديث لدعم مذهبهم، بل إن بعضهم عزز
آراءه الفقهية حتى في العبادات بأحاديث باطلة.
وأخيراً يصور الكتب الستة الصحاح بأنها ضم لأنواع من الأحاديث التي
كانت مبعثرة رأى جامعوها أنها صحيحة.
كما يظن اختلاف وجهات نظر النقاد المسلمين والأجانب في التسليم بصحة
الأحاديث من عدمها.
تلك هي النقاط الخمسة التي خرجت رجيعاً من الأمعاء السبعة التي يأكل
فيها هذا الكافر الحاقد، وهي أتفه من أن أفندها أو أناقشها، فإن مثل
هذا الحاقد ومن على شاكلته خير من إجابته السكوت؛ لأن أصل فريتهم
يتناول جانبين أساسيين:
أحدهما: أن النبي محمداً أحد المصلحين الذين كانوا لهم تأثير في
مجتمعهم، وما زالت يده الإصلاحية ممتدة على مر السنين والأيام، فكل ما
أتى به من اختراعه وابتكاره ليس وحياً إليه من ربه.
والأمر الثاني: أن أصحابه كانوا من خيرة معاونيه على تدعيم وجهات نظره
واستكمال منهجه حتى مكن الله لهم في الأرض، وأن السيف كان أداتهم في
تدعيم آرائهم ومعتقداتهم.. تلك هي خلاصة ما يروونه في الإسلام ونبي
الإسلام فيما يبدونه من آراء، ولكن الحق أن هؤلاء إن لم يكونوا من
اليهود فهم على كل حال من سلالة القردة والخنازير {يَعْرِفُونَهُ كَمَا
يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ
الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [سورة البقرة: 146] وهذا هو باطنهم الذي
لم يستطيعوا أن يجهروا به حتى لا يفلت زمام السيطرة والجاه الزائف
والسلطان الكاذب من بين أيديهم.
ولعلك توافقني أيها القارىء الكريم بعد أن عرفت هذه الحقيقة الدامغة أن
نسكت معاً عن الخوض في قضية تقوم المناقشة فيها على المصادرة على
آرائنا والكبر والمعاندة والمجادلة
(1/20)
والجواب الجدلي السفسطائي من جهتهم.
وقد تبع هؤلاء بعض المسلمين من أمثال أحمد أمين صاحب "فجر الإسلام"
الذي إن صح التعبير قلت: هو "غروب شمس الإسلام" على يد هذا المؤلف
البالغ الجرأة على الله ورسوله، وغيره ممن يظن أنهم لهم قدم وباع في
التجديد والتطوير والتنوير، وأقل ما يقال في مثل هؤلاء [من البسيط]:
إن التطور في شيئين منحصر ... الفسق أوله والكفر آخره
(1/21)
مكانة السنّة في القرن الثالث
1
كان لظهور الاعتزال في القرن الثالث الهجري على يد واصل بن عطاء أثر
كبير في نشأة الخلاف بين هذه الفرقة وأهل السنّة تناول كثيراً من
الجوانب العقدية التي قررت أصولاً هي أبعد ما تكون عن مذهب الحسن
البصري وغيره من السلف، وكانت أشهر قضايا هذه الفرقة القول بنسبة خلق
أفعال العباد لأنفسهم لا لله، فوجب على الله إثابتهم أو عقابهم خلافاً
لما قاله أهل السنّة من أن الله خالق الأفعال وليس للخلق منها إلا
الكسب أو الاكتساب بناء على اختيارهم.
والثانية: تنزيه الله عن ثبوت صفات قائمة لذاته- في نظرهم- كالسمع
والبصر والحياة والقدرة والكلام؛ خوفاً من تعدد القدماء ولم يعلموا
أنها صفات قائمة بذاته تعالى ليست هي عين ذاته ولا غيرها.. مما أدى إلى
قولهم بخلق القرآن.
ولقد كان سلطان المقل هو القوة المسيطرة عليهم في كثير من العقائد
والأحكام حتى تجرأوا على الأحاديث النبوية بردها إذ لم يجدوا لها
تأويلاً تستسيغه عقولهم.
والحق أن ظهورهم على الساحة الإسلامية كان في وقت ظهرت فيه موجات من
الإلحاد، وبدا فيه اللسان الأعجمي بعد كثرة الفتوحات في الدولتين
الأموية والعباسية وظهور الشعوبية وثورة الموالي إلى غير ذلك مما جعل
الفكر الإسلامي يأخذ طريقاً يكاد يحيد عن الجادة في ظل هذه الظروف
الجديدة.
وجاء القرن الثالث ليتيح فرصة لهؤلاء المتكلمين على يد الخليفة المأمون
"198-218" للدخول في معركة وحشية بينهم وبين المحدثين.
كما أن حب المأمون للعلم وذكاؤه الخارق كان سبباً في جمع العلماء على
مائدة العلم وإن
__________
1 ونخص هذا القرن والذي يليه بالحديث نظراً لانقراض عصر الصحابة
والتابعين، وظهور البدع وانتشار الكذب في حديث سيدنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وقيام علماء الحديث بالذب عن المصدر الثاني للتشريع.
(1/21)
تنافرت أفكارهم وتعددت آراؤهم حتى صار عصره أزهى عصور العلم في خلافة
بني العباس.
كان يعقد مجالس المناظرة بين الطرفين المتخاصمين تجلت فيها المصادرة
والمكابرة لا لإظهار الصواب وإلزام الخصم ولكن لبيان الفضل، كما ظهرت
المعاندة والمجادلة والأجوبة الجدلية، وكان المأمون ينحاز إلى المعتزلة
في بعض آرائهم كالقول بخلق القرآن... تلك الفتنة التي أثارها مثلث
الاعتزال وهم الجعد بن درهم وجهم بن صفوان وبشر المريسي.
وظن المأمون بذلك أن رأيه سيكون موضع استجابة من العلماء والفقهاء وكان
جاء الأمر على غير ما توقع من رميه بالخداع حتى وصل الأمر في بعض
المغالين بتكفير من يرى أن القرآن مخلوق، وتأول آيات "الجعل" في القرآن
أنها تفيد الخلق، وما على تعدد معاني هذا اللفظ الذي قد يرد بمعنى
التسمية كذباً كقوله تعالى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ}
[الحجر: 91] أي سموه كذباً. وقوله: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ
الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً} [الزخرف: 19] وقوله:
{إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ
الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى} [النجم: 27] وقد تأتي بمعنى
"أوجد" وتتعدى إلى مفعول واحد، والفرق بينها وبين الخلق أن الخلق فيه
معنى التقدير، ويكون ذلك عن عدم سابق حيث لا يتقدم سبب محسوس ولا مادة؛
كخلاف الجعل بمعنى الإيجاد. قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ}
[الأنعام:1] وإنما الظلمات والنور توجد بوجودها وتعدم بعدمها.
وقد ترد بمعنى النقل من حال إلى حال والتصيير، فتعدى إلى مفعولين إما
حساً؛ كقوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً}
[البقرة: 22] وإما عقلاً، كقوله تعالى: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً
وَاحِداً} [ص: 5].
وقد تؤدى معنى الاعتقاد؛ كقوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ
الْجِنَّ} [لأنعام: 100].
وقد تفيد الحكم بالشيء على الشيء حقاً كان أو باطلاً فالحق كقوله:
{إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:
7] والباطل؛ كقوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ
وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً} [الأنعام: 136] 1.
تبنى المأمون محنة القول بخلق القرآن وجند لها أخاه المعتصم الذي كان
يطلب إلى المعلمين أن يعلموا الصبيان أن القرآن مخلوق وقتل فيها من
العلماًء من قتل، وأهين من أهل الحديث من أهين لا سيما الإمام أحمد بن
حنبل، وروج لسوق الفتنة الواثق بعد المعتصم الذي كان يختبر الأئمة
والمؤذنين في القول بخلق القرآن، ويظهر الغلظة لمن قال
__________
1 انظر: "مناع القطان/مباحث في علوم القرآن" 213 مؤسسة الرسالة الطبعة
الثانية 1981.
(1/22)
بغير هذا بل وقتل في ذلك بعض رجال الحديث، وإذا أراد الله بالأمير شراً
جعل له وزير سوء فكان عامل الواثق أحمد بن أبي دؤاد أحد رءوس الاعتزال
الذي خذله أحد رجال الحديث في مناظرة ألجمته عن التمادي في الباطل
وأرجعت الواثق عن رأيه بعد اقتناعه بوجهة نظر شيخ المحدثين وقتذاك.
وكان نصر الله للمحدثين على يد المتوكل بن المعتصم الذي استقدم
المحدثين، وأجزل عطاياهم وأطلق ألسنتهم، فتحدثوا بأحاديث الصفات
والرؤيا، فاستراح الناس لهذا الخليفة الذي أحيا السنّة وأمات البدعة1.
ولكن أقطاب الاعتزال لم تهدأ نفوسهم فما زالوا يطلقون ألسنتهم بالسوء
ويرمونهم بالنقائص والعيوب، وظهرت الفرق على الساحة الإسلامية فأطل
الخوارج برءوسهم يتأولون الأحاديث التي ينتصرون بها لمذهبهم، ومن عجب
أن زعماء الاستشراق ينقلون هذه الخلافات المذهبية دون أن يمحوها لأنهم
يحققون بذلك غرضاً أدناً في نفوسهم وهو الطعن على الإسلام ورجاله.
والحق أن رجال الحديث- رضي الله عنهم- كانوا على طريقة السلف من
الصحابة والتابعين ومن بعدهم يحتاطون لأمر دينهم ويتشددون في رواية
السنة، ويقفون مع ظواهر النصوص بمعنى إقرار المحكم والوقوف عند
المتشابه حتى لا يجرهم ذلك إلى تأويلات ربما تسرب إليها الفساد فيدخلون
تحت قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ
مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ
تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7].
وقد وجد منهم في هذا العصر أئمة كبار وحفاظ عظام عرفوا الأحاديث وميزوا
بين الصحيح والسقيم ونقدوا الرواة ووقفوا على أحوالهم، ووضعوهم في
أماكنهم ومن هؤلاء الإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وإسحاق بن
راهُويه وعليّ بن المديني وغيرهم.
والذي لا نستطع أن ننكره أنه قد يجتمع على مائدة الكرام قول لئام لم
يدعوا إليها ولكنهم يجلسون متطفلين عليها فيزاحمون أصحاب الدعوة، وقد
يدعون أنهم أقارب أصحاب الوليمة وقد يبالغون في دعواهم فيقولون بأنهم
أصحابها. ومن هؤلاء من تطفلوا على مائدة المحدثين فجلسوا عليها دون
رواية أو دراية، فكانوا وصمة عار في جبين المحدثين كالقصاص الملفقين
والمرتزقين المتكسبين، والجهلة بأحكام الشرع والدين فيبثون الغرائب
والمناكير فكان مثلهم كمثل الحمار يحمل أسفاراً.
وإنما سقت لك أيها القارىء الكريم هذا المثل من أدعياء الحديث الذين
ضاق بهم ذرعاً
__________
1 انظر: "البداية والنهاية" 10/272 وما بعدها- "تاريخ الخلفاء"
للسيوطي/204- "تاريخ الأمم الإسلامية" للخضري/279.
(1/23)
أرباب هذا الفن النادر حتى قال شعبة: كنت أفرح بهذه النخبة من الرجال
فصرت اليوم ليس شيء أبغض إليّ من أن أرى واحداً منهم، يقول ابن عتبة
موجهاً كلامه لهؤلاء: "لو رآنا عمر وإياكم لأوجعنا ضرباً".
وقد ضربت لك مثلاً من المبطلين لتعرف المحقين وليتميز الخبيث من الطيب
والغث من السمين، ولتعلم أن أعداء الإسلام يريدون أن يقبحوا وجه
الإسلام ويشوهوا صورته من خلال هذه الفئة الدخيلة على كل فن من فنون
العلم، وكل شعبة من شعب هذا الدين الذي اختاره اللَّه لإسعاد البشرية
في الدنيا والآخرة.
هذه عجالة فيما يقال عن أهل الحديث، أما المتكلمون الذين قدموا العقل
على الشرع حتى تطرفوا في تأويل النصوص متبعين ما تشابه منها، فقد
أعرضوا عن كتب السنّة والتهموا كتب الفلسفة اليونانية يعتبرون أرسطو
وأفلاطون وسقراط مثلاً عالياً لفكرهم حتى جرهم ذلك إلى طعن بعض الصحابة
منتهزين فرصة قربهم من الخلفاء، وأخذهم بزمام الوزارة والقضاء،
فانتقموا من جمهور الأمة عامة ومن أهل الحديث خاصة، ولا يغرنك ما ترى
من اجتماعهم في ظاهر صورتهم، فإن الباطل ظلمات متعددة والحق نور واحد
لا يتعدد كذلك تراهم مختلفين فيما بينهم فيكفر بعضهم بعضاً، ويفسق أو
يبدع كل منهم من خالفه {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى}
[الحشر: 14] وهكذا تراهم قد اكتالوا بالكيل الذي كالوا به لغيرهم فرد
الله كيدهم في نحورهم ولم تقم لهم قائمة من ذلك الوقت إلى يومنا هذا
ففي مثل هؤلاء وهؤلاء من الفرق المارقة قال النبي صلى الله عليه وسلم
لابن عمر عشرين مرة: "كلما خرج منهم قرن قطع" 1 يكررها على مسمع من هذا
الصحابي الجليل.
وخلاصة القول في قضية خلق القرآن أن ما بين دفتي المصحف مخلوق حيث
الطاعة والكتابة والقراءة بألسنة الخلق، والألفاظ التي تتلى بأصواتهم،
أما القرآن فهو كلام الله وكلام اللَّه صفة وصفته قديمة بقدمه سبحانه-
فكيف يخلق صفة من صفاته وقد اتصف بها ليست عين ذاته ولا هي غيره تعالى
الله عن ذلك كله علواً كبيراً، ولعلك أيها القارىء وقفت على رأي أهل
السنّة والجماعة فيما أوضحته لك بالبراهين الساطعة والأدلة القاطعة حتى
لا يلتبس عليك الأمر أو يغرنك قول خصم غرّ أرشدني اللَّه وإياك.
__________
1 أخرجه: ابن ماجة مقدمة 12/حدث 174، وأحمد في "المسند" 2/84.
(1/24)
ردة مقنعة
لا يفوتنك أيها القارىء المنصف أن الدولة العباسية قامت على أكتاف
الفرس موطن التشيع وظهور الملحدة وبروز الشعوبية وثورة الموالي، وكان
من هؤلاء من تطاول على
(1/24)
رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدث عنه ما لم يقل ولم يبال بقوله صلى
الله عليه وسلم: "من كذب عليّ معتمداً فليتبوأ مقعده من النار" 1 ومما
ساعد على فشو الزندقة في القرن الثالث شيوع الأبحاث الفلسفية، وكثرة
الجدل في المسائل الأساسية في الدين، وإسناد السلطة إلى الموالي من
الفرس الذين أظهروا مذاهبهم القديمة ومساندة من يتظاهر بها، وبدت
تعاليم المجوسية تطل برأسها، والمانوية والقول بالتجسيم على يد
الكرامية الذين زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن المجسم
المبتدع الراحل من خراسان إلى الشام محمد بن كرام: "يجيء في آخر الزمان
رجل يقال له: محمد بن كرام يحيي السنّة والجماعة هجرته من خراسان إلى
بيت المقدس كهجرتي من مكة إلى المدينة"2.
تلك هي آثار التعصب للجنس في وضع الحديث، وأظن أنه لا يخفى عليك ما
تلمحه من خلالها من معاني الإلحاد في الدين والدعوة إلى التحلل من قيود
الشريعة الإسلامية الغراء والتمرد على أحكامها تلك الملة الحنيفية
السمحاء.
والحق أن الخلفاء العباسيين قد قاوموا هذه الحركة المتمردة أو الردة
المقنعة فأخرسوا ألسنّة دعاتها ومنعوا تداول كتب الفلسفة، على يد
المعتضد الخليفة العباسي الذي بويع له سنّة 279 هـ فأصدر أوامره بمنع
القصاص والمنجمين من الجلوس في المساجد والطرقات.
بقول ابن قتيبة رحمه الله: الحديث النبوي الشريف تدخله الشوائب ويعتريه
الفساد من وجوه ثلاثة:
الزنادقة، والقصاص أرباب المناكير والغرائب والأكاذيب، والأخبار
الجاهلية القديمة. ا هـ ملخّصاً3.
__________
1 أخرجه: البخاري 3/191، كتاب الجنائز، باب ما يكره من النياحة على
الميت 291، ومسلم 1/10، المقدمة: باب تغليظ الكذب على رسول الله صلى
الله عليه وسلم4/4.
2 ذكره ابن الجوزي في "الموضوعات" 2/50، وابن عراق 2/30، وعزاه
للجوزقاني وابن النجار والشوكاني في "الفوائد" 420.
3 انظر: "الحديث والمحدثون" ص342.
(1/25)
جهود العلماء في تدوين الحديث قبل محنة القول بخلق القرآن
1- أحاديث ممزوجة بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين.
2- إفراد الأحاديث النبوية عن أقوال الصحابة وفتاوى التابعين بحد
المحنة.
1- جمع الطعون التي وجهها علماء الكلام إلى أهل الحديث سواء في الأشخاص
أو ألفاظ الحديث، والرد عليها بالإبطال وتنزيه أئمة الأحاديث، عن هذه
الطعون الزائفة وكان من
(1/25)
هؤلاء ابن قتيبة الدينوري.
2- جمع الحديث على المسانيد:
يجمع المحدث في ترجمة كل صحابي ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم من
الأحاديث صحيحة وسقيمة وإن اختلفت موضوعاتها، ولهم في ترتيب أسماء
الصحابة طرق مختلفة فمنهم من يرتبها على القبائل فيقدم بني هاشم ثم
الأقرب فالأقرب نسباً من النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يرتبها
على السابقة في الإسلام فيقدم العشرة المبشرين بالجنة ثم أهل بدر ثم
الحديبية ثم من أسلم وهاجر بين الحديبية والفتح ثم من أسلم يوم الفتح
ثم أصغر الصحابة سناً ثم النساء ومنهم من لم يراع شيئاً من ذلك.
وهذه الطريقة توقع المطلع على هذه المسانيد في حيرة حيث لا يستطع
الوقوف على درجة الحديث فيستوي عنده الصحيح والضعيف.
وهذا الأمر وإن كان أغلبياً إلا أنه لا يمنع من أن بعضهم جمع ترتيب
الأحاديث إلى جانب أسماء الصحابة الترتيب على أبواب الفقه كما في
المسند الكبير لبقي بن مخلد والمسند الكبير ليعقوب بن شيبة، فالأول رتب
حديث كل صحابي على أبواب الفقه والثاني ألف مسند معللاً فجمع في كل
حديث طرقه وائتلاف الرواية فيه.
الطريقة الثالثة: التصنيف على الأبواب: وهو التخريج على أحكام الفقه
وتنويعه، وجمع ما ورد في كل حكم وكل نوع في باب بحيث يسهل التمييز بين
ما يتعلق بالصلاة عما يتعلق بالصيام. ومنهم من اقتصر في الأحاديث على
"الصحيح" كالبخاري ومسلم وهما أصح الكتب بعد كتاب الله، ومنهم من لم
يقتصر على ذلك كأبي داود والترمذي والنسائي.
وكان رائد هذه الطريقة المثلى شيخ المحدثين محمد بن إسماعيل البخاري "ت
256هـ".
ويعتبر القرن الثالث الهجري من أجل عصور الحديث وأسعدها بتدوين الحديث
وتقريبه على طالبيه.
وما كاد ينتهي هذا القرن حتى وجدنا أن عمل العلماء أصبح قاصراً على
الجمع والترتيب أو التهذيب لكتب السابقين كالجمع بين "الصحيحين" أو بين
الكتب الستة أو الجمع بين أحاديث من كتب مختلفة كـ"مصابيح السنّة"
للبغوي "ت 516 هـ"، و"جامع المسانيد والألقاب" لأبي الفرج بن الجوزي "ت
957 هـ"، و"منتقى الأخيار" لابن تيمية "ت 458هـ".
ومن علماء هذا القرن من اهتم بأطراف الحديث كأطراف "الصحيحين" للحافظ
الدمشقي "400 هـ" وأطراف السنّة الأربعة لابن عساكر "ت 430هـ" وأطراف
الكتب الستة لمحمد ابن طاهر المقدسي "ت 507 هـ" الذي لخصه الحافظ شمس
الدين محمد بن علي بن الحسين الحسيني الدمشقي "ت 765 هـ" ورتبه أحسن
ترتيب.
(1/26)
السنة في القرن الرابع الهجري
كان للتدهور السياسي في مبدأ هذا القرن عامل كبير في جعل الخلافة
الإسلامية دويلات متناثرة فعبد الرحمن الناصر يلقب نفسه أمير المؤمنين
بالأندلس "325هـ" والفاطميون يستقلون بشمال إفريقية، والدولة الإخشيدية
بمصر، ودولة بني حمدان في الموصل وحلب والشام، والشيعة الزيدية باليمن
والدولة السامانية تسيطر على المشرق وعلى بلاد ما وراء النهر والدولة
البويهية تسيطر على بغداد، ولم يكن لبني العباس نصيب من هؤلاء إلا مجرد
الاسم.
كانت الحياة السياسية مضطربة مائجة لكن هذه الأحداث التي غيرت خريطة
الدولة الإسلامية كانت خيراً وبركة على الحركة العلمية التي انتشرت في
كل مكان على يد العلماء الذين أخذوا يرحلون من قطر إلى قطر ومن مصر إلى
مصر ويتلقى بعضهم عن بعض، ويعرضون الكتب والمسموعات على الشيوخ، وكان
لهم نشاط علمي في نقد الرجال وتمحيص الأحاديث، ومصنفات جياد في علل
الحديث وتاريخ الرواة وعلوم الحديث عامة، وبلغ التدوين في هذا الحصر
أشده فظهر الحاكم أبو عبد الله النيسابوري صاحب "المستدرك"، والدار
قطني إمام عصره في "الجرح والتعديل" وحسن التأليف واتساع الرواية، وابن
حبان "وصحيح" ابن خزيمة الذي قرظه العلماء بقولهم: "صحيح ابن خزيمة
يكتب بماء الذهب" فإنه أصح ما صنف في الصحيح المجرد بعد الشيخين:
البخاري ومسلم.
(1/27)
علم الجرح والتعديل
هذا هو ميزان الرجال، وهو ميزان توزن به معادنهم فيتميز الذهب من
النحاس والفضة من الرصاص، وهذا الفن هو عماد السنة إذ به يتميز الصحيح
من السقيم وبه ينكشف حال الضعفاء والكذابين من الرواة وإقامة النكير
عليهم صيانة للدين وهو أمر واجب على المسلمين، والحفاظ على الشريعة فرض
كفاية لقوله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ
طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ
إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة 122] وما
لا يتم الواجب إلا به فهو واجب وقد دخل على النبي ثلاثة أحدهم أقبل
عليه والآخر استحيا منه، والثالث أعرض عنه صلى الله عليه وسلم فقال لمن
حوله: "ألا أخبركم عن الثلاثة؟ أما الأول فقد أقبل فأقبل اللَّه عليه،
أما الثاني فاستحيا فاستحيا اللَّه منه، وأما الثالث فأعرض فأعرض الله
عنه" ومن هنا يتبين لنا من أين أتى وجوب الجرح والتعديل، ولقد تكلم في
هذا الفن خلائق لا يحصون منهم صاحبنا في كتابه "الكامل"
(1/27)
ابن عدي الجرجاني المتوفى سنّة "365".
وقل من جرح في القرن الأول لأن الصحابة كلهم عدول، ولا يكاد يوجد في
هذا القرن من الضعفاء إلا القليل.
أما القرن الثاني ففي أوساط التابعين وخيارهم وضعف جماعة منهم من قبل
تحملهم وضبطهم للحديث وكانوا يرسلون كثيراً ويرفعون الموقوف مما أوقعهم
في أغلاط، وقد انتدب في ذلك الزمان لنقد الرجال الحافظان: يحيى بن سعيد
القطان "189 هـ" وعبد الرحمن بن مهدي، وكانا محل ثقة من الناس فمن
وثقاه صار موثوقاً عندهم ومن جرحاه صار مجروحاً. ومن اختلفا فيه- وهو
قليل- رجع الناس فيه إلى ما ترجح عندهم ثم ظهرت طبقة أخرى يرجع إليهم
من هذا الفن منهم يزيد بن هارون "206 هـ" وأبو داود الطيالسي "204 هـ"
وعبد الرزاق بن همام "211 هـ" وأبو عاصم النبيل بن مخلد "212هـ".
ثم صنفت الكتب في "الجرح والتعديل" و"العلل"، وبينت فيها أحوال الرجال
وكان أقطاب الجرح والتعديل آنئذ جماعة منهم: يحيى بن معين "233 هـ" من
طبقة أحمد بن حنبل "241 هـ"، وكاتب الواقدي محمد بن سعد وأبو خيثمة
زهير بن حرب "234 هـ" وأبو جعفر النبيل وعلي بن المديني "234 هـ" وابن
نمير "234 هـ" وأبو بكر بن أبي شيبة صاحب المصنف والمعروف "235 هـ" وكل
هؤلاء من أئمة الجرح والتعديل وقد وضعوا في ذلك المؤلفات، فمنهم من
تكلم عن الضعفاء من الرواة وآخرون اقتصروا على الثقات وبعضهم جمع بين
النوعين.
وممن تفرد بالكتابة عن الثقات أبو حاتم بن حبان الذي قال في صفة العدل
من الرجال: "العدل من لم يعرف منه الجرح إذ الجرح ضد العدالة فمن لم
يعرف بجرح فهو عدل" ا هـ.
أما عن كتب الضعفاء فقد صنف فيها كثير من الحفاظ ككتاب الضعفاء لإمام
المحدثين أبي عبد اللَّه البخاري، وكتاب الضعفاء والمتروكين للنسائي،
وكتاب الضعفاء لصاحب كتاب الثقات أبي حاتم البستي، وكتاب الضعفاء للدار
قطني.
ومن الكتب المهمة في ذلك الكتاب المسمى بـ"الكامل" لأبي أحمد عبد الله
بن محمد ابن عدي بن عبد الله بن محمد بن المبارك الجرجاني الحافظ
الكبير أحد الجهابذة المرجوع إليهم في العلل والرجال ومعرفة الضعفاء
المتوفي سنّة "365 هـ" وهو كتاب جامع، وسفر وافٍ حيث ذكر فيه المصنف كل
من تكلم فيه وإن كان من رجال "الصحيحين"، وتفرد عن كتب الضعفاء بذكر
حديث أو أكثر من الغرائب والمناكير عند ترجمة كل راوٍ مسته يد الجرح أو
أشهر في وجهه سيف الذب عن عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذب أو
افتراء أو وضع أو نسيان من
(1/28)
أحد المغفلين أو ممن اختلط بآخره.
ومن عجيب أنك ترى هذا السفر الجليل قد ألف في مقدار ستين جزءاً في اثني
عشر مجلداً، ويعتبر هذا الكتاب أكمل كتب الجرح وعليه اعتماد العلماء
فرحمه الله تعالى وجزاه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ما جازى
عالماً من خواص علماء أمته.
(1/29)
جرح الضعفاء من النصيحة
قال صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة". قلنا: لمن يا رسول الله؟
قال: "للَّه ولكتابه ولعامة المؤمنين وخاصتهم" 1.
قلت: ومن الخاصة رواة الحديث، فجرحهم جائز بل واجب بالاتفاق للضرورة
الداعية إليه صيانة للشريعة المكرمة وليس هو من الغيبة المحرمة كما ثبت
ذلك في حديث الثلاثة الذين دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد
تحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المعرض الذي لم يكن حاضراً بين
القديم ولم يكن ذلك غيبة منه صلى الله عليه وسلم بل هو تحذير من فعله
للسامعين حتى لا يقعوا فيما وقع فيه من الإعراض عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم الذي قد يؤدي إلى الكفر والعياذ باللَّه، بل إن النبي صلى
الله عليه وسلم هو أول من جرح وعدل على الإطلاق، ألا ترى إليه وهو يقول
في رجل استأذن عليه يوماً: "ائذنوا له بئس أخو العشيرة".
وتسأله فاطمة بنت قيس عن رأيه في خطبها معاوية وأبي جهم، فيقول لها:
"أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأبو جهم لا يضع عصاه عن عاتقه" 2.
وأما تعديله صلى الله عليه وسلم فكقوله في عبد الله بن عمر: "نعم الرجل
لو كان يقيم الليل".
وقوله: "نعم الرجل خريم الأسدي" ... الحديث3.
ثم هب أنك إمام بئر مغطى، ومن مشى على غطائه وقع فيه فأرديَ قتيلاً، ثم
أراد مسلم أن يمشي على غطاء هذا البئر فهل تسكت فتكون آثماً أم تجذب
فتكون ناصحاً أميناً؟ وقد تركت لك الإجابة لتختر أيهما شئت أيها الناصح
للَّه ورسوله.
__________
1 أخرجه: مسلم في كتاب الإيمان باب بيان أن الدين النصيحة 95- 55
والنسائي في "السنن" 7/157، وأحمد في "المسند" 2/297، والدارمي في
"السنن" 2/311، وأبو عوانة 1/37، والطحاوي في "مشكل الآثار" 2/188،
والحميدي 837، والخطيب في "تاريخه" 14/207، وابن حجر في "المطالب
العالية" "1979" "3284" وذكر السيوطي في "الدر المنثور" 3/267.
2 أخرجه: مسلم 2/1114 في كتاب الطلاق: باب المطلقة ثلاثاً لا نفقة لها
36/1480.
3 أخرجه: أبو داود 4/348- 349، في كتاب اللباس: باب ما جاء في إسبال
الإزار "4089" وأحمد4/180.
(1/29)
وجمهور الأئمة على أن الجرح المفسر مقدم على التعديل ولو كان عدد
الجارح أقل من المعدل. وهذا النوع من السلوك يأخذ به مجمع اللغة
العربية بجمهورية مصر العربية حين يقدم لأعضائه كتاباً من الكتب لطبعه
ونشره فتكتب عنه اللجنة تقريراً كل على حدة فإذا عدله الجميع وجرحه
واحد رفض الكتاب وما أجمل أن تعيش سنّة نبينا هكذا.
وقال البعض: إذا زاد عدد المعدلين على المجروحين قدم التعديل، وهذا
القول وإن ضعف لكنه المتجه حتى الآن. وقال السبكي في قاعدته في الجرح
والتعديل: لا يفهم هذه القاعدة على إطلاقها فإننا لو أطلقنا تقديم
الجرح لما سلم لنا أحد من الأئمة إذ ما من إمام إلا وقد طعن فيه
طاعنون، وهلك فيه هالكون، اهـ1.
قلت: والأصل العدالة والجرح طارىء والعصمة محالة إلا في نبي أو أمة
مجتمعة لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على ضلالة" 2 وحتى لا
يذهب غالب أحاديث الشريعة، وإحسانك الظن بالراوي المستور أولى من
تجريحه، والحكمة من تضعيف بعض الأحاديث نوع من الرحمة بالأمة إذ لو صحت
كلها لوجب العمل بها وهو تكليف بما لا يطاق، واللَّه لم يكلفنا ذلك، ثم
إن الحديث الضعيف قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم لكن بسند ضعيف،
فالحديث يقوى نوره بصحة سنده، ويضعف نوره بضعف سنده، والله أعلم.
__________
1 قاعدة في الجرح والتعديل 13، 14.
2 أخرجه: الترمذي في أبواب الفتن: باب ما جاء في لزوم الجماعة 4/466
"2167"، قلت: وفي إسناده سليمان بن سفيان، وقد ضعفه الأكثرون، وقد رواه
أيضا الحاكم من حديث خالد بن يزيد، وقال: ولو حفظه خالد لحكمنا بصحته
انظر "مستدرك" الحاكم 1/115، ورواه ابن ماجة 2/1303 "3950" من حديث
الوليد بن مسلم وفيه معان بن رفاعة. وانظر: تخرجنا للحديث في تحقيقنا
على كتاب "نفائس الأصول في شرح المحصول".
(1/30)
قواعد في الجرح والتعديل
كثير من عامة العلماء، والذين لا يستنبطون الأمور منهم إذا رأوا الجرح
والتعديل ظنوا أن العمل على جرحه، والصواب أن من ثبتت عدالته وإمامته،
وكثر مادحوه، وقل قادحوه، وكان هناك قرينة دالة على سبب جرحه من تعصب
مذهبي أو غيره لا يلتفت إلى تجريحه وعمل فيه بالعدالة، ولو فتح هذا
الباب على مصراعيه لما سلم أحد من الأئمة؛ فكم من إمام طعن عليه
طاعنون، وهلك فيه هالكون1 من إفك الحديث عنه.
وانظرا إلى ابن عبد البر في كتاب العلم تراه يعقد باباً في حكم قول
العلماء بعضهم في بعض، وذكر فيه أحاديث مسندة مرفوعة وموقوفة ثم ينقل
من أقوال العلماء ما يفيد أنه لا تجوز
__________
1 ابن السبكي: قاعدة في الجرح والتعديل ص13، وما بعدها مكتبة الرشد،
الرياض ط 5/1984.
(1/30)
شهادة القارىء على القارىء- يعني العلماء- لأنهم أشد الناس تحاسداً
وتباغضاً.
ومن القائلين بذلك سفيان الثوري ومالك بن دينار وعبد الله بن وهب في
"مبسوطته".
واستدل ابن عبد البر بأن السلف تكلم بعضهم في بعض بكلام منه ما حمل
عليه الغضب أو الحسد، ومنه ما دعا إليه التأويل واختلاف الاجتهاد،
وانتهى إلى كلام أبو معين في الشافعي حتى قال الإمام أحمد: من أين يعرف
يحيى بن معين الشافعي؟ هو لا يعرف الشافعي ولا يعرف ما يقوله الشافعي
ومن جهل شيئاً عاداه.
كما ذكر ابن عبد السلام بن أبي ذئب وإبراهيم بن سعد بن مالك بن أنس،
كما تكلم فيه عبد العزيز أبي سلمة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، ومحمد
بن إسحاق، وابن أبى يحيى وابن أبي الزناد، وعابوا أشياء من مذهبه فبرأه
الله مما قالوا وكان عند الله وجيهاً.
ولا ابن معين في الشافعي، ولا النسائي في أحمد بن صالح "248 هـ" لأن
هؤلاء أئمة مشهورون فصار الجارح لهم كالآتي بخبر غريب لو صح لتوفرت
الدواعي على نقله.
ولكي يصح تطبيق القاعدة لا بد من تفقد حال الجارح والمجروح من اختلاف
عقدي أو تعصب مذهبي حتى لا يحيل الجارح ذلك على جرح عدل أو تزكية فاسق.
وكم من أئمة جرحوا بناء على معتقدهم وهم المخطئون والمجروح مصيب.
يقول ابن دقيق العيد: أعراض المسلمين حفرة من حفر النار وقف على شفيرها
طائفتان من الناس: المحدثون والحكام1.
وما يتفقد عند الجرح أيضاً: حال الجارح في الخبرة بمدلولات الألفاظ ولا
سيما الألفاظ العرفية التي تختلف باختلاف أعراف الناس، وتكون في بعض
الأزمنة مدحاً وفي بعضها ذماً.
كما ينبغي أن يتفقد حاله في العلم بالأحكام الشرعية، فرب جاهل ظن
الحلال حراماً فجرح به.
كما يجب أن يتفقد الخلاف الواقع بين كثير من الصوفية وأهل الحديث.
والجرح مقدم إن كان عدد الجارح أكثر من المعدل إجماعاً، وكذا إن
تساوياً أما إن كان الجارح أقل يطلب الترجيح2.
إذا ما عرفت هذا علمت أنه ليس كل جرح مقدماً.
ولنختم هذه القاعدة بفائدتين عظيمتين:
إحداهما: أن قولهم: لا يقبل الجرح إلا مفسراً إنما هو أيضاً في جرح من
ثبتت عدالته
__________
1 "الاقتراح في بيان الاصطلاح" ص 344 تحقيق قحطان الدوري- مطبعة
الإرشاد- بغداد 1982م.
2 ينظر: "جمع الجوامع" 2/172 بشرح الجلال المحلي وحاشية البناني.
(1/31)
واستقرت، فإذا أراد رافع رفعها بالجرح قيل له: ائت ببرهان على هذا أو
فيمن لم يعرف حاله، ولكن ابتدره جارحان ومزكيان؛ فيقال إذ ذاك
للجارحين: فسرا ما رميتماه به، أما من ثبت أنه مجروح فيقبل قول من أطلق
جرحه لجريانه على الأصل المقرر عندنا، ولا نطالبه بالتفسير إذ لا حاجة
إلى طلبه.
والفائدة الثانية: أنا لا نطلب التفسير من كل أحد، بل إنما نطلبه حيث
يحتمل الحال شكاً إما لاختلاف في الاجتهاد أو لتهمة يسيرة في الجارح أو
نحو ذلك مما لا يوجب سقوط قول الجارح، ولا ينتهي إلى الاعتبار به على
الإطلاق، بل يكون بين بين، أما إذا انتفت الظنون، واندفعت التهم، وكان
الجارح حبراً من أحبار الأمة مبرءاً عن مظان التهمة، أو كان المجروح
مشهوراً بالضعف، متروكاً بين النقاد، فلا نتلعثم عند جرحه، ولا نحوج
الجارح إلى تفسير، بل طلب التفسير منه- والحالة هذه- طلب لغيبة لا حاجة
إليها.
وعلى سبيل المثال لا الحصر نحن نقبل قول ابن معين في إبراهيم بن شعيب
المدني: إنه ليس بشيء، وفي إبراهيم بن يزيد المدني: إنه ضعيف، وفى
الحسين بن الفرج الخياط: إنه كذاب يسرق الحديث، وعلى هذا- وإن لم يبين
الجرح- لأنه إمام مقدم في هذه الصناعة1 جرح طائفة غير ثابتي العدالة
والثبت، ولا نقبل قوله في الشافعي ولو فسر وأتى بألف إيضاح لقيام
الدليل القاطع والبرهان الساطع على أنه غير محق بالنسبة إليه.
ولا يفوتني قبل إنهاء هذه القاعدة أن أنبهك أيها القارىء الواعي
والخبير بهذه الصناعة أن تسلك سبيل الأدب مع الأئمة الماضين، وأن لا
تنظر إلى كلامهم بعضهم في بعض فإن قدرت على التأويل القائم على حسن
الظن فدونك وإلا فغض الطرف، واضرب صفحاً عما شجر بينهم، فإنك إذا
اشتغلت بذلك خشيت عليك الهلاك فالقوم أئمة أعلام، ولأقوالهم محامل وليس
لي ولك إلا الترضي عنهم، والسكوت عما جرى بينهم كما يفعل فيما جرى بين
الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
__________
1 تاج الدين السبكي: قاعدة في الجرح والتعديل ص52.
(1/32)
نبذة عن المؤرخين
المؤرخون لهم كبير سلطان في تطويع أقلامهم حيثما شاؤوا وكيفما أرادوا
يضعون بها أناساً ويرفعون آخرين؛ إما لتعصب أو جهل أو لمجرد اعتماد على
نقل من لا يوثق به أو لغير ذلك من الأسباب.
والجهل والتعصب في المؤرخين أكثر منه في أهل الجرح والتعديل، ولذلك وضع
للمؤرخ شروط حتى يقبل مدحه وذمه.
(1/32)
أولها: الصدق.
ثانيها: النقل الذي يعتمد على اللفظ دون المعنى؛ لأن الناقل إذا اعتمد
اللفظ فقد بريء من العهدة، وأدى الأمانة كما تلقاها ورآها، أما إذا
اعتمد المعنى وأداه بلفظ من عنده؛ فقد يبعد تعبيره عن الواقع الذي عبر
عنه القائل الأول فيختلف الحكم بين عبارة القائل وعبارة الناقل.
ثالثها: ألا يكون ذلك الذي نقله أخذه في المذاكرة، وكتبه بعد ذلك.
رابعها: أن يسمى المنقول عنه.
خامسها: التحري منه فيما يراه من الكلام الذي يتضمن غمزاً أو لمزاً أو
جرحاً أو حطّاً على أحد المعتبرين من السلف الصالح لما أمرنا من
الإمساك عما كان بينهم، والتأويل بما لا يحط من أقدارهم.
كما يشترط فيه أيضاً عند ترجمته للأعلام ما يلي:
أولاً: معرفته بحال صاحب الترجمة علماً وديناً وغيرهما من الصفات.
ثانياً: أن يكون حسن العبارة عارفاً بمدلولات الألفاظ.
ثالثاً: أن يكون حسن التصور حتى يتصور جميع حال ذلك الشخص ثم يعبر عنه
بعبارة لا تزيد عليه ولا تنقص عنه.
رابعاً: ألا يغلبه الهوى.
خامساً: حضور التصور زائداً على حسن التصور والعلم؛ فهذه عشرة شروط في
المؤرخ، وأصعبها الإطلاع على حال الشخص في العلم فإنه يحتاج إلى
المشاركة في علمه، والقرب منه حتى تعرف مرتبته اهـ.
وبالجملة فلا بد أن يكون المؤرخ عالماً عادلاً عارفاً بحال من يترجم له
ليس بينه وبين الصداقة ما قد يحمله على التعصب له، ولا من العداوة ما
قد يحمله على الغض منه. والله أعلم.
(1/33)
المتكلمون في الرجال ومن يعتبر بقوله منهم
قال الحافظ السخاوي: وأما المتكلمون في الرجال فخلق من نجوم الهدى
ومصابيح الظلم، المستضاء بهم في دفع الرديء لا يتهيأ حصرهم في زمن
الصحابة رضي الله عنهم وهلم جراً1.
__________
1 ينظر: "المتكلمون في الرجال" ص84 للحافظ السخاوي بتحقيق أبي غدة.
و"فتح المغيث بشرح ألفية الحديث" ص479- 481.
(1/33)
سرد ابن عدي في مقدمة "كامله" منهم خلقاً إلى زمنه1 وفي عنوان هذا
الفصل قال: "ذكر من استجاز تكذيب من تبين كذبه من الصحابة والتابعين
وتابعي التابعين إلى يومنا هذا رجلاً عن رجل".
قال العلامة الشيخ أبو غدة: وقول ابن عدي من الصحابة والتابعين وتابعي
التابعين متعلق بمن استجاز لا بمن تبين كذبه؛ إذ الصحابة كلهم عدول
والتابعون أكثرهم ثقات.
وذكر ابن عدي رهطاً من الصحابة، وسرد من التابعين عدداً لم يظهر ضعف
فيهم إلا الواحد بعد الواحد كالحارث الأعور والمختار الثقفي الكذاب.
فلما مضى القرن الأول ودخل الثاني كان في أوائله من أوساط التابعين
جماعة من الضعفاء الذين ضعفوا غالباً من قبلهم وضبطهم للحديث، فتراهم
يرفعون الموقوف ويرسلون كثيراً، ولهم غلط كأبي هارون العبدي2.
فلما كان عند آخر عصر التابعين تكلم في التوثيق والتجريح طائفة من
الأئمة هم: أبو حنيفة الأعمش، وشعبة وغيرهم تكلم بعضهم في تكذيب البعض،
وتحدث بعضهم في التضعيف والتوثيق، ونظر بعضهم في الرجال، وكان هؤلاء
متثبتين لا يكادون يروون إلا عن ثقات.
وقد قسم الحافظ الذهبي من تكلم في الرجال أقساماً:
قسم تكلم في الرواة جميعهم كابن معين وأبي حاتم.
وآخر تكلم في كثير من الرواة كمالك وشعبة.
وثالث تكلم في الرجل بعد الرجل كابن عيينة والشافعي. وهذا الكل على
ثلاثة أقسام أيضاً:
متعنت في الجرح متثبت في التعديل يغمز الراوي بالغلطتين والثلاث.
فهذا الصنف إذا وثق شخصاً فعض عليه بنواجذك وتمسك بتوثيقه، وإذا ضعف
رجلاً فانظر ها هناك من شاركه في تضعيفه، فهو ضعيف، وإن وثقه أحد فارجع
إلى قولهم: لا يقال فيه الجرح إلا مفسراً "يعني مبيناً سبب تضعيفه" حيث
لا يكفي قول ابن معين مثلاً هو ضعيف من غير بيان السبب ثم يجيء البخاري
وغيره فيوثقونه.
قال الحافظ الذهبي: لم يجتمع اثنان "أي من طبقة واحدة" من علماء هذا
الشأن قط على توثيق ضعيف ولا على تضعيف ثقة، اهـ3.
__________
1 "مقدمة الكامل في الضعفاء" من ص 83- 227.
2 انظر: "تهذيب التهذيب" 7/412- 414.
3 "المتكلمون في الرجال" 123.
(1/34)
وقسم ثان متسمع كالترمذي والحاكم.
وثالث معتدل كأحمد والدار قطني وابن عدي.
فجزى اللَّه، الكل عن الإسلام والمسلمين خيراً فهم مأجورون إن شاء
اللَّه تعالى.
(1/35)
جهود الصحابة والتابعين في مقاومة الوضاعين
سئل عبد اللَّه بن المبارك رضي اللَّه عنه عن الأحاديث الموضوعة فقال:
تعيش لها الجهابذة ثم تلا قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا
الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
وإليك ما بذله هؤلاء الجهابذة في سبيل حفظ الحديث الشريف أوجزها لك على
النحو التالي:
أولاً:- التزام الإسناد:
لم يكن المسلمون في صدر الإسلام إلى خلافة عثمان يكذب بعضهم بعضاً،
فالثقة تملأ صدورهم، والإيمان يعمر قلوبهم حتى إذا ما وقعت الفتنة
العمياء التي تبناها عبد الله بن سبأ اليهودي، وتكونت على أثرها الفرق
والأحزاب وبدأ الكذب على رسول الله من ذوي الأغراض والأهواء وقف
الصحابة والتابعون لها وقفة قوية للحفاظ على الحديث الذي كان محفوظاً
في الصدور، ومكتوباً من بعض الصحابة في السطور وأصبحوا يشددون في طلب
الإسناد من الرواة، والتزموه في الحديث لأن السند للخبر كالنسب للمرء.
يقول محمد بن سيرين: "لم يكونوا -رضي الله عنهم- يسألون عن الإسناد،
فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم فينظر إلى أهل السنّة فيؤخذ
حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ عنهم"1. كان الصدق والإخلاص
والأمانة رائد هؤلاء فكان السند عندهم قائماً يرويه صحابي عن آخر إذا
لم يسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة، فكان البراء بن عازب
يحدث عن علي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك أبو أيوب الأنصاري
عن أبي هريرة، وقد حدث الصحابة بعضهم عن بعض.
ولقد عرفوا الإسناد قبل الإسلام ولعل خير دليل ما كانوا يسندونه من
القصص والأشعار في الجاهلية، وإنما التزموا التثبت من الإسناد بعد وقوع
الفتنة، وهكذا كان ابن عباس لا يأذن للبعض أثناء الحديث أي لا يعطي
المحدث أذنه ولا يصغي إليه حتى إذا ما سئل في ذلك أجاب: كنا إذا سمعنا
الرجل يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ابتدرناه بأبصارنا،
وأصغينا إليه بآذاننا؛ فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس
إلا ما نعرف2.
__________
1 "صحيح مسلم" بشرح النووي 1/84، سنن الدارمي 1/112.
2 "صحيح مسلم" 1/81.
(1/35)
والتزم الإسناد من بعدهم التابعون فكان الشعبي يتنقل من راوٍ إلى راو
حتى قال يحيى بن سعيد: "وهذا أول من فتش في الإسناد".
وقال أبو العالية: كنا نسمع الرواية بالبصرة عن أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فما رضينا حتى رحلنا إليهم فسمعناها من أفواههم1.
ويقول عبد الله بن المبارك: الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من
شاء ما شاء2.
وقد أتقن التابعون الإسناد وبرزوا فيه كما برزوا في غيره فها هو أبو
داود الطيالسي يقول: وجدنا الحديث عن أربعة: الزهري وقتادة وأبي إسحاق
والأعمش فكان قتادة أعلمهم بالاختلاف والزهري أعلمهم بالإسناد وأبو
إسحاق أعلمهم بحديث علي وابن مسعود، وكان عند الأعمش من كل هذا3.
ولا يطعن في التزام التابعين بالإسناد المتصل ما روي عن بعض التابعين
من المراسيل؛ لأن هناك روايات تؤكد أن هذا المرسل كان يذكر من حدثه
عندما يسأل عن الإسناد.
وهذا يؤكد أنهم كانوا على جانب كبير من العلم ومعرفة السند وإنما كانوا
يتركونه اختصاراً، وكان الجالسون يثقون فيهم، وكيف لا وهم أنفسهم سند؟.
ثانياً:- مضاعفة النشاط العلمي والتثبت من الحديث:
من نعم الله على المسلمين أن الصحابة قد تفرقت في الأمصار والأقطار،
وزاد الله لهم في الأعمار ليسهموا في حفظ السنّة عقب الفتنة وظهور
البدعة.
وكان التابعون وأتباع التابعين على نطاق واسع من التنقل والترحال في
سبيل تحمل الحديث عن الثقات ومذاكرة الأحاديث، يقول سعيد بن المسيب:
"إن كنت لأسير الليالي والأيام في طلب الحديث الواحد" وعن الزهري عن
ابن المسيب مثله4.
وكان أئمة الحديث في هذا العصر على جانب عظيم من الوعي والإطلاع، فقد
كانوا يحفظون الحديث الصحيح والضعيف والموضوع حتى لا يختلط عليهم
الحديث وليميزوا الخبيث من الطيب.
ثالثاً- تتبع الكذبة: وذلك بمحاربتهم على رؤوس الأشهاد ومنعهم من
التحديث ويستعدون عليهم الحكام فكان من نتيجة ذلك أن توارى كثير من
الكذابين وكفوا عن
__________
1 "مقدمة التمهيد" لابن عبد البر 15.
2 رواه مسلم في مقدمة صحيحه: 1/87.
3 "تذكرة الحفاظ" 1/108.
4 "جامع بيان العلم" 1/94، المحدث الفاضل 28: ب.
(1/36)
كذبهم بعد افتضاح أمرهم وكشف عوارهم.
رابعاً- بيان أحوال الرواة: كان لا بد للصحابة والتابعين ومن بعدهم من
معرفة الرواة معرفة تمكنهم من الحكم بصدقهم أو كذبهم فدرسوا حياتهم
وتواريخهم وأحوالهم. يقول ابن عدي في "كامله": قال الثوري: لما استعمل
الرواة الكذب استعملنا لهم التاريخ.
كانوا يبينون أحوالهم وينقدونهم حسبة للَّه، لا تأخذهم خشية، ولا
توجههم عاطفة فلا يحابون أباً ولا أخاً، ولا ولداً فهذا ابن أنيسة
يقول: لا تأخذوا عن أخي، وهذا علي بن المديني يقول عن أبيه: سلوا عنه
غيري.
بل إنهم كانوا يعينون أياماً للناس يحدثونهم فيها عن الكذابين. قال أبو
زيد الأنصاري النحوي: "أتينا شعبة يوم مطر فطلب الحديث فقال: ليس هذا
يوم الحديث، واليوم يوم غيبة، تعالوا نغتاب الكذابين"1.
قلت: وحاشاه- رضي الله عنه- أن يكون مغتاباً إذ لا غيبة لفاسق2 وأفسق
الفساق الكذابون. سئل صلى الله عليه وسلم: أيكذب المؤمن؟ قال: لا، ثم
تلا قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
لا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116].
وهكذا تكون علم الجرح والتعديل الذي وضع أصوله كبار الصحابة والتابعين
على ضوء الشريعة الغراء وسنّة خير الأنبياء فقد قال الله تعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ
فَتَبَيَّنُوا...} [الحجرات: 6] الآية.
وقوله صلى الله عليه وسلم في الجرح: "بئس أخو العشيرة" وفي التعديل:
"نعم الرجل عبد الله لو كان يقيم الليل".
وقد بين هؤلاء من تقبل روايته ومن لا تقبل، وتكلموا في العدالة
وموجباتها، وفي الجرح وأسبابه، وقد نص الخليفة عمر على العدالة ووضع
أول الأسس لذلك في كتاب له إلى أبي موسى الأشعري فقال: "والمسلمون عدول
بعضهم على بعض إلا مجرياً عليه شهادة زور أو مجلوداً في حد". وقال
الإمام مالك: لا يؤخذ العلم عن أربعة، ويؤخذ ممن سوى ذلك:
لا يؤمن من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه، ولا من سفيه معلن بالسفه وإن
كان من أروى الناس ولا من رجل يكذب في أحاديث الناس وإن كنت لا تتهمه
أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا من رجل له فضل وصلاح
وعبادة إذا كان لا يعرف ما يحدث.
__________
1 وينبغي التنبيه على ضعف هذا الحدث.
2 "الكفاية" 45، وانظر السنّة قبل التدوين: 233 مكتبة وهبة.
(1/37)
خامساً- وضع قواعد لمعرفة الموضوع من الحديث:
ومن هذه القواعد ما يدل على الوضع في السند، وما يدل عليه في المتن،
وذلك بعلامات هي:
1 - علامات الوضع في السند:
أ- أن يعترف الراوي بأنه كذاب والاعتراف سيد الأدلة وأن يقر باختلافه
فيما روى وفي مثل هذا يقول أبو جزي للجالسين حوله وهو مريض: "أشهدكم
أني وضعت من الحديث كذا وكذا وإني أستغفر الله منها وأتوب إليه" وهذا
أقوى دليل على كون الحديث موضوعاً.
ب- وجود قرينة تقوم مقام الاعتراف بالوضع كالرواية عن شيخ لم يلقه أو
يروي عن شيخ في بلد لم يرحل إليه، أو يروي عن شيخ ولد الراوي بعد وفاته
أو توفي هذا الشيخ والراوي صغير لا يدرك.
ب- أن ينفرد راوٍ معروف بالكذب برواية حديث ولا يرويه ثقة غيره فيحكم
على روايته بالوضع.
د- حال الراوي نفسه.
2- علامات الوضع في المتن:
أ- ركاكة اللفظ في المروي، ويعرف ذلك أهل اللغة والفصاحة من المحدثين.
ب.- فساد المعنى: كقولهم: ربيع أمتي العنب والبطيخ أو قولهم: الباذنجان
لما أكل له، أو الباذنجان شفاء من كل داء، أو كل حديث يشتمل على سخافات
لا تصدر عن العقلاء فضلاً عن سيد العلماء وخير الأنبياء الذي أوتي
جوامع الكلم واختصر له الكلام اختصاراً.
جـ- ومنها ما يناقض نص الكتاب أو السنّة المتواترة أو الإجماع القطعي.
د- ومنها ما يدعيه البعض من أن الصحابة عرفوا بعض الأحاديث ولكنهم
تواطئوا على كتمانها وللشيعة باع طويل في مثل هذه الدعاوى الكاذبة.
هـ- وكل حديث يخالف الحقائق التاريخية كحديث وضع الجزية عن أهل خيبر
وهو كاذب من عدة وجوه ذكرها ابن القيم في عشرة أدلة قوية منها:
أن فيه شهادة سعد بن معاذ وسعد توفي في غزوة الخندق فكيف شهد في خيبر؟.
ومنها أن الجزية لم تكن نزلت حتى ذلك الحين ولا يعرفها الصحابة ولا
العرب، وإنما فرضت بعد عام تبوك فأين خيبر منها؟
و- موافقة الحديث لمذهب الراوي المتعصب المغالي في تعصبه كالروافض
والمرجئة هؤلاء في أهل البيت، وهؤلاء في الإرجاء.
(1/38)
ز- ومنها اشتمال الحديث على مجازفات وإفراط في الثواب العظيم مقابل عمل
صغير.
(1/39)
ألفاظ تدل على الصحة أو الحسن
من هذه الألفاظ:
جيد- قوي- صالح- محفوظ- معروف- مجود- ثابت- مشبه.
الجيد:
جاء في عبارة المحدثين: جيد وأجود، وجوّده، فمثلاً: أخرج الترمذي في
باب "ما جاء في الصدق والكذب" قال: حدثنا يحيى بن موسى قال: قلت لعبد
الرحيم بن هارون الغساني: حدثكم عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع عن ابن
عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كذب العبد تباعد منه الملك
ميلاً من نتن ما جاء به" قال يحيى: وأقر به عبد الرحيم بن هارون، فقال:
نعم.
قال أبو عيسى: هذا حديث.- حسن جيد غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه،
تفرد به عبد الرحيم بن هارون.
ولما حكى ابن الصلاح عن أحمد بن حنبل أن أصح الأسانيد الزهري، عن سالم،
عن أبيه. قال شيخ الإسلام: عبارة أحمد أجود الأسانيد، وهذا يدل على أن
ابن الصلاح يرى التسوية بين الجيد والصحيح.
وعن علي- رضي الله عنه- قال: "جعت مرة جوعاً شديداً، فخرجت لطلب العمل
في عوالي المدينة، فإذا أنا بامرأة قد جمعت مدراً، فظننتها تريد بله،
فقاطعتها: كل ذنوب على تمرة، فعددت ستة عشر ذنوباً، حتى مجلت يداي، ثم
أتيتها، فعدت لي ست عشرة تمرة، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم
فأخبرته، فأكل معي منها" رواه أحمد.
قال الشوكاني: حديث علي عليه السلام جود الحافظ إسناده ا هـ.
قال البلقيني: من ذلك يعلم أن الجودة يعبر بها عن الصحة.
وقال بعضهم: لا مغايرة بين جيد وصحيح عندهم إلا أن الجهبذ منهم لا يعدل
عن صحيح إلى جيد إلا لنكتة، كأن يرتقي الحديث عنده عن الحسن لذاته،
ويتردد في بلوغه الصحيح، فالوصف به أنزل رتبة من الوصف بصحيح.
القوي: وهو عندهم مثل الجيد.
الصالح: قال أبو داود في شأن كتابه: "ذكرت الصحيح وما يشبهه وما
يقاربه، وما كان فيه من حديث وَهَنٌ شديد، فقد بينته. ومنه ما لا يصح
سنده، وما لم أذكر فيه شيئاً فهو صالح، وبعضها أصح من بعض".
(1/39)
فقد فهم من قوله: "وهن شديد بينته" أن الحديث الذي فيه وهن لكنه ليس
بشديد لا يبينه، ويكون عنده صالحاً للاحتجاج به بقوله بعد ذلك: "ما لم
أذكر فيه شيئاً فهو صالح".
قال النووي: فعلى هذا ما وجدناه في كتابه مطلقاً، ولم يصححه غيره من
المعتمدين ولا ضعفه فهو حسن عن أبي داود، وعلله السيوطي بأن الصالح
للاحتجاج لا يخرج عنهما، ولا يرتقي إلى الصحة إلا بنص، فالأحوط
الاقتصار على الحسن، وأحوط منه التعبير عنه بصالح.
وإذا كان أبو داود يخرِّج عن كل من لم يُجْمَع على تركه، ويخرِّج
الإسناد الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره- إلا أنه أقوى عنده من رأي
الرجال- و لا ينبه على الضعيف إلا إذا اشتد وهنه، فيحتمل أن يريد
بقوله: "صالح" الصالح للاعتبار دون الاحتجاج، فيشمل الضعيف أيضاً.
وقال ابن كثير: إنه روى عنه: "وما سكت عليه فهو حسن" فإن صح ذلك فلا
إشكال.
وبناء على ما تقدم يمكن أن نقول: إن التعبير بكلمة "صالح" صالحة لأن
تكون بمعنى صالح للاحتجاج، فتشمل الصحيح والحسن لذاتهما ولغيرهما، وأن
يكون بمعنى صالح للاعتبار، فتستعمل في الضعيف الذي يصلح أن تكون تابعاً
أو شاهداً.
وقال الشوكاني في مقدمة "نيل الأوطار": وقد اعتنى المنذري- رحمه الله-
في نقد الأحاديث المذكورة في "سنن أبي داود"، وبين ضعيف كثير مما سكت
عنه، فيكون ذلك خارجاً عما يجوز العمل به، وما سكتا عليه جميعاً فلا شك
أنه صالح للاحتجاج إلا في مواضع يسيرة قد نبهت على بعضها في هذا الشرح
– يريد "نيل الأوطار"- ولذلك كثيراً ما يقول فيه: سكت عنه أبو داود
والمنذري.
المحفوظ: قال ابن حجر: إن خولف راوي الصحيح والحسن بأرجح منه لمزيد
ضبطه أو كثرة عدده أو غير ذلك من وجوه الترجيحات، فالرجح يقال له:
المحفوظ، ومقابله، وهو المرجوح يقال له: الشاذ.
فالمحفوظ: هو حديث الثقة الذي رجحت روايته على حديث الثقة الذي كانت
روايته مرجوحة بأحد وجوه الترجيحات المعتبرة في الترجيح، ويقال
لمقابله: الشاذ.
المعروف: قال ابن حجر. فان وقعت المخالفة مع الضعف، فإن كان الراوي
المخالف ضعيفاً لسوء الحفظ أو الجهالة فالراجح من الحديثين يقال له:
المعروف، ومقابله يقال له: المنكر.
فالمعروف: هو حديث الثقة المخالف لحديث غير الثقة.
وهذا باعتبار الأغلب، وإلا فقد يطلق كل من المحفوظ والمعروف أحدهما على
الآخر.
والمجود والثابت: وهما يشملان عند المحدثين الصحيح والحسن.
(1/40)
المشبه:
قال السيوطي: من ألفاظهم المشبه، وهو يطلق على الحسن، وما يقاربه، فهو
بالنسبة إليه كنسبة الجيد إلى الصحيح.
قال أبو حاتم: أخرج عمرو بن حصين أول شيء أحاديث مشبهة حساناً، ثم أخرج
بعد أحاديث موضوعة، فأفسد علينا ما كتبنا، ا هـ.
(1/41)
مبحث في ألفاظ خاصة عند أهل الجرح والتعديل
لقد اعتنى علماء الحديث عناية خاصة بمصادر الأخبار التي تتوارد عليهم
وفتشوا في إسنادها، فالإسناد من الدين، ولولاه لقال من شاء ما شاء.
ومن لوازم معرفة الإسناد السؤال عن رجاله من حيث أمانتهم ومعتقداتهم
وعباداتهم وسلوكهم يقول شعبة بن الحجاج: ما كانوا يأخذون عن الرجل حتى
ينظروا إلى صلاته وهيئته وسمته.
قال الشعبي في الربيع بن خيثم: كان من معادن الصدق، وقال: حدثني الأعور
وكان كذاباً.
وفي ثوير بن أبي فاختة قال الثوري: كان من أركان الكذب وكان الأعمش
يروي عنه.
قلت: وكان الأعمش سليمان بن مهران من أمراء المؤمنين في الحديث وقال في
حجاج بن أرطأة: عليكم به فإنه ما لقي أحد أعرف بما خرج من رأسه منه.
وقال الأوزاعي في إسماعيل بن مهاجر الدمشقي: كان مأموناً على ما حدث.
تلك ألفاظ قد عرضناها لك أيها القارىء أطلقت في تجريح لعض الرواة
وتوثيقهم، ولكنها لم تكن منظمة ولا محددة حتى جاء القرن الثالث والرابع
الهجريين حيث التدوين لسائر المعارف والعلوم التي تخدم الكتاب والسنة،
ومنها وضع قواعد علم الجرح والتعديل حتى توثقت عراه واستقامت دعائمه،
ورسخت قواعده فبين المحدثون مرادهم في كثير من الألفاظ، وألفوا العديد
من المصنفات الخاصة بالثقات وأخرى خاصة كالضعفاء والمتروكين والكذابين
وثالثة جمعت بين الثقات والضعفاء إلى غير ذلك من كتب التواريخ المعنية
برجال الحديث بصفة رئيسية، وكذلك كتب الطبقات والأنساب، ورغم هذه
الجهود الطيبة الواعية والدقيقة إلا أنه ما من كمال إلا وهناك ما هو
أكمل منه، وما من قانون بشري إلا وتتفاوت فيه العقليات وتعتريه
المعضلات والمشكلات هي أشبه بالثغرات تخترق هذا الصرح الشامخ التليد.
ومن هذه المعضلات:
(1/41)
اختلاف مراد بعض الأئمة في اللفظة الواحدة كقولهم:"فلان ليس بشيء"
فأكثر النقاد يستعملونها ويقصدون بها غالباً الجرح الشديد الذي نزل عن
درجة الاعتبار إلى درجة الترك، بينما يذكر لنا ابن القطان أن مراد يحيى
بن معين من هذه اللفظة أن أحاديث هذا الراوي قليلة، أو اختلافهم في
الراوي الواحد كقول أبي زرعة في خطاب ابن القاسم الحراني: ثقة بينما
نقل سعيد اليرذعي عنه أنه قال عنه: منكر الحديث يقال: إنه اختلط قبل
موته.
كذلك تتجسم المشكلة حين تسمع بعض الألفاظ النادرة الاستعمال، وقد وردت
على لسان أحد النقاد وهو يستعملها في تجريح أحد الضعفاء أو تعديل أحد
الثقات فيصعب عليه معرفة مراده في بعض الأحيان هل أراد التوثيق أو قصد
التجريح؟ حتى إن الحافظ العراقي وهو إمام هذا الفن في وقته التبس عليه
مراد أبي حاتم في قوله: "هو على يدي عدل" حيث عدها في ألفاظ التوثيق
وهي في الحقيقة من ألفاظ التجريح.
قال ابن حجر العسقلاني: كنت أظن أنها من ألفاظ التوثيق حتى ظهر لي أنها
عند ابن أبي حاتم من ألفاظ التجريح، ومن وقف على عبارات القوم
ومصطلحاتهم فيها فهم مقاصدهم ومراميهم، ولكي أسهل لك مهمة التعرف على
بعض هذه العبارات التي استعملت في تجريح الرجال وتوثيقهم سأقوم بشرح
بعض ألفاظها مبسطاً لعلك بها تهتدي وبسلوك أهلها تقتدي1.
سِدَاد من عيسى
استعمل هذه العبارة أبو بكر الأعين في وصف حال سويد بن سعيد الهروي حيث
قال: "هو سداد من عيسى هو شيخ".
معنى اللفظ [بكسر السين] كل شيء سددت به خللاً هذا قول أبي عبيدة في
معناها.
وقال النضر بن شميل: أي ما يكفي حاجته.
كان فسلاً
هذا التعبير استعمله شعبة بن الحجاج في اثنين من الرواة ميمون البصري
الكندي، وسيف بن وهب التيمي.
قال أهل اللغة: الفسل: الرّذل النّذْل لا مروءة له ولا جلد.
وأخذوا من المعنى اللغوي المعنى الاصطلاحي الذي أراده، وهو أنه ضعيف
وأحاديثه ضعيفة ومعلة.
__________
1 وقد استفدنا هدا المبحث القيم من كتاب د. سعد الهاشمي.
(1/42)
جمال المحامل
استعملها المحدثون على معناها المجازي في تجريح الرواة وتعديلهم،
فقالوا: جمال المحامل أو جمازات المحامل، أو ليس من أهل القباب يعنون
به كمال الرجل في عقله وتجربته فتستعمل بالمعنى الاصطلاحي في التوثيق
كما تستعمل في التجريح إذا سبقت بـ "ليس" أي ليس هو من جمال المحامل،
وكذلك من أهل القباب أو ليس من أهل القباب.
وأول من استعمل هذا التعبير هو الإمام مالك حيث جرح به عطاف بن خالد بن
عبد الله بن العاص أبا صفوان المدني فقال عنه: ليس هو من جمال المحامل.
ونقل المزني عنه أنه قال: ليس من أهل القباب ومعنى القباب الهوادج وهي
مركب من مراكب النساء. قال صاحب المحكم: هو من العصي يجعل فوقه الخشب
ثم يقبب، وقال ابن الأثير: القبة من الخباء وبيت صغير مستدير وهو من
بيوت العرب.
وخلاصة القول فيه: أنه لا يقوى على تحمل الحديث.
ما أشبه حديثه بثياب نيسابور
هذا التشبيه استعمله الحافظ إبراهيم الجوزجاني لتضعيف رواية إسماعيل بن
عياش، وتجريحه مأخوذ من طريقة أهل نيسابور في بيعهم الثياب حيث يضعون
عليها الأثمان العالية في يغروا بها المشتري، ولعلهم اشتروها بأبخس
الأثمان.
قال الجوزجاني: قلت لأبي اليمان "ما أشبه إسماعيل بثياب نيسابور يرقم
بائعه على الثوب مائة، ولعله اشتراه بعشرة أو بدونها"، وكان إسماعيل من
أروى الناس عن الكذابين، وهو في حديث الثقات من الشاميين أحمدُ منه في
حديث غيرهم.
قال ابن عدي: إذا روى إسماعيل عن قوم من أهل الحجاز فلا يخلو من غلط
فيغلط؛ إما أن يكون حديثاً برأسه أو مرسلاً يوصله أو موقوفاً يرفعه.
في دار فلان شجر يحمل الحديث
هذا التعبير من مفردات علي بن المديني، وقد استعمله في تجريح اثنين من
الرواة: عبد الرحمن بن عمرو بن جبلة الذي روى عن سلام بن مطيع الخزاعي،
وخليفة بن خياط بن خليفة بن خياط العصفري أبو عمرو البصري.
أما الأول فقد اتفق الأئمة على تضعيفه، بل اتهمه بعضهم بالوضع.
وأما الآخر فقد غمزه ابن المديني ووثقه الكثير. قال ابن عدي: "وهو
مستقيم الحديث صدوق".
(1/43)
هو على يدي عدل
هذه العبارة من ألفاظ التجريح وأول من استعملها أبو حاتم الرازي، وكان
البعض يظنها من ألفاظ التعديل منهم الحافظ العراقي وقد نقل ذلك عنه
تلميذه الحافظ ابن حجر العسقلاني، والعبارة كما فرعها تلاميذ الحافظ
العراقي أنها كناية عن الهالك وهو تضعيف شديد.
وذكرها أبو حاتم الرازي في جبارة بن المغلس وشبهه بالقاسم بن أبي شيبة
وكلاهما ضعيف متروك الحديث.
وكانت طريقة أبي حاتم في تجريحه لبعض الرواة ينعتهم بأكثر من لفظ أو
يجمع ألفاظاً مترادفة، ويعقبها بلفظة شديدة قاسية.
فيذكر أحدهم مجرحاً له بقوله: ضعيف الحديث ليس بقوي هو على يدي عدل.
فقوله: ضعيف الحديث يعني من المنزلة الثالثة: أي لا يطرح حديثه بل
يعتبر به.
وقوله: ليس بقوي أي دون من قال فيه "لين الحديث" وهو الذي يكتب حديثه
وينظر فيه اعتباراً، وقد يراد بها الذي لم ي!لغ درجة القوي الثبت.
وقوله: هو على يدي عدل أي أنه متروك الحديث أراد بهذا المنهج في
عباراته التدرج في وصفه وبيان حاله حتى انتهى به إلى ترك حديثه والله
أعلم.
لا يكتب عنه إلا زحفاً
من مفردات أبي حاتم الرازي أيضاً، ولم يشاركه واحد من رجال الجرح
والتعديل فيه. وقد استعملها أبو حاتم في خمسة من الرواة:
خالد بن إلياس أو إياس بن صخر بن أبي الجهم بن حذيفة لم يوثقه أحد من
النقاد.
عبد الحكيم بن عبد الله القسملي، لم يوثقه أحد واتهمه البعض بالوضع.
قال البخاري:منكر الحديث.
عبد الخالق بن زيد بن واقد الدمشقي، ضعفه النقاد، ولم يعدله أحد منهم.
داود بن عطاء المزني: لم يوثقه أحد.
حمزة بن نجيح أبو عمارة: يكتب حديثاً زحفاً كسابقيه.
كان ممن أخرجت له الأرض أفلاذ أكبادها
تعبير استعمله ابن حبان البستي في تجريح الرواة، حيث قاله في محمد بن
عبد الرحمن البيلماني الذي كان ضعيفاً منكر الحديث مضطربه.
(1/44)
قال ابن عدي: وكل ما يرويه ابن البيلماني فالبلاء فيه منه وإذا روى عنه
محمد بن الحارث فهما ضعيفان.
قد عرفته
هذه اللفظة تفرد بها الإمام المجاهد عبد الله بن المبارك وإذا قال في
الراوي: قد عرفته فقد أهلكه.
وقد سئل عن عبد السلام بن حرب فقال: قد عرفته وقد عد الحافظ الذهبي هذه
العبارة في المرتبة الثالثة من مراتب التجريح، وعدها الحافظ العراقي في
المنزلة الثانية، ولعل ابن المبارك لا يقصد هلاكه لدرجة تركه فإن من
النقاد من وثقه، وأنه قصد بها مجرد التضعيف والله أعلم.
اتق حيات سلم لا تلسعك
لفظ تجريح استعمله ابن المبارك أيضاً في سلم بن سالم البلخي.
سئل عنه ابن المبارك فقال: اتق حيات سلم لا تلسعك.
وقال في موضع آخر: هذا من عقارب سلم، وكان ابن المبارك يكذبه.
قال الخطب البغدادي: كان رأساً من رءوس الإرجاء ومن دعاة هذا المذهب،
والذي أوقف ابن المبارك منه هذا الموقف أنه كان يروي الأحاديث الموضوعة
ويسندها له.
قال ابن الجوزي: اتفق المحدثون على تضعيف رواياته.
دجال من الدجاجلة
هذا التعبير استعمله اثنان من النقاد:
الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة.
وأبو حاتم محمد بن حبان البستي.
قال الأزهري في "تهذيب اللغة": كل كذاب فهو دجال.
وقد أطلق مالك هذه العبارة على محمد بن إسحاق صاحب المغازي والسير.
واحتاط الأئمة والحفاظ من المحدثين في قبول هذا التجريح من مالك لمحمد
بن إسحاق لأنهما من الأقران واستعمله ابن حبان "دجال من الدجاجلة" في
محمد بن أبي الزعيزعة وكان يروي الموضوعات.
(1/45)
يفتعل الحديث
هذا التعبير من استعمال أبي حاتم وأبي زرعة في تجريح: محمد بن أبان بن
عائشة القصراني.
قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي وأبا زرعة يقولان: هو كذاب كان يفتعل
الحديث وكان لا يحسن أن يفتعل، قال أبو زرعة: أول ما قدم ابن أبان
مدينة "الرّيّ" قال للناس: أي شيء يشتهي أهل "الري" من الحديث؟ فقيل
له: أحاديث في الإرجاء، فافتعل لهم جزءاً في الإرجاء.
كما استعمل هذه العبارة أبو حاتم في تجريح سهل بن عامر البجلي قال عنه
البخاري: منكر الحديث وكل ما قلت فيه: إنه منكر الحدث فلا تحل الرواية
عنه.
ولعلك ترى من خلق ابن أبان لأحاديث الإرجاء أنه كان كذاباً وضاعاً
يختلق الأسانيد والمتون كترويج بدعة الإرجاء وذلك من أقوى الأدلة على
أن عبارة "يفتعل الحديث" تعد من الألفاظ الصريحة الدالة على الوضع.
فلان يزرف الحديث
هذا التعبير نقله قرة بن خالد السدوسي البصري الثقة في تجريح محمد بن
السائب بن بشر الكلبي وكان يقول: كانوا يرون أن الكلبي يزرف أي كذب.
وفي قوله: يزرف أي أنه كان يزيد في الحديث مثل في يزلف. قال عنه ابن
حبان: كان شيئاً من أولئك الذين يقولون: إن علياً لم يمت، وإنه راجع
إلى الدنيا ويملؤها عدلاً كما ملئت جوراً، وإن رأوا سحابة قالوا: أمير
المؤمنين فيها.
كان يثبج الحديث
هذا القول استعمله معمر بن راشد الأزدي في تجريح إسماعيل بن شروس.
والثبج اضطراب الكلام وتفننه، يعني لم يؤت به على الوجه الصحيح، لكن
استعمال معمر بن راشد لهذا التعبير في إسماعيل بن شروس يفيد أنه كان
يضع الحديث لأن هذا التعبير كناية عن الوضع.
كان مجالدٌ يجلد في الحديث
هذا من قول الشافعي في تجريح الرواة وهو نوع من تخفيف الجرح وتجنب
الألفاظ الشديدة التي يستعملها بعض الأئمة النقاد.
قال إبراهيم المزني: سمعني الشافعي يوماً وأنا أقول فلان كذا، فقال: يا
إبراهيم اكسُ
(1/46)
ألفاظك أحسنها فلا تقل فلان كاذب ولكن قل: حديثه ليس بشيء. وقال عن
حرام: الرواية عنه حرام ولم يقل: كذاب وكان رضي الله عنه يدعو على بعض
الرواة ولم يصرح بتكذيبهم. ذكر له أبو جابر البياضي فقال: بيض الله
عيني من يروي عنه.
هو عصا موسى تلقف ما يأفكون
انفرد بهذا القول "مطين" حيث جرح به الحافظ محمد بن عثمان بن أبي شيبة،
وقد أوضح "مطين" هذا التعبير فقال عن ابن أبي شيبة المذكور: "كذاب ما
زلنا نعرفه بالكذب مذ هو صبي".
وهذا القول من مطين من المنافسة التي تقع بين الأقران. قال أبو: نعيم:
وقع بين ابن أبي شيبة ومطين كلام حتى خرج كل واحد منهما إلى الخشونة
والوقيعة في صاحبه.
حمالة الحطب، حاطب ليل
هذا من استعمالات الناقد يحيى بن معين في تجريح النضر بن منصور الباهلي
ويقال: العنزي، ويقال: الغنوي. قال عنه ابن معين: ليس بثقة، كذاب.
وحمالة الحطب أم جميل زوجة أبي لهب في سورة "المسد"يضرب بها المثل في
الخسران، فيقال: أخسر من حمالة الحطب.
كما استعمل تعبير "حاطب ليل" سعيد بن عبد العزيز بن أبي يحيى الدمشقي
الثقة الثبت في سعيد بن بشير الأزدي مولاهم أبو عبد الرحمن البصري، حيث
قال عنه: كان حاطب ليل، وإنما شبهه بحاطب الليل؛ لأنه ربما نهشته الحية
أو العقرب أثناء احتطابه ليلاً؛ فكذلك المكثر من الكلام ربما يتكلم بما
فيه هلاكه.
قال ابن عدي: له عند أهل دمشق تصانيف ولا أرى بما يرويه بأساً، ولعله
يهم في الشيء بعد الشيء ويغلط والغالب على حديثه الاستقامة والغالب
عليه الصدق.
قد فرغ منه منذ دهر
هذا التعبير استعمله الجوزجاني في تجريح حفص بن سليمان الأسدي أبو عمر
البزار الكوفي القارىء "ت 180 هـ" وهذا الحديث كناية عن تجريحه وترك
حديثه، ولم ينفرد الجوزجاني في تضعيفه لحفص بن ضعفه أيضاً معظم النقاد.
هذه بعض ألفاظ الجرح والتعديل وطولت في بعضها تطويلاً غير ممل، واختصرت
البعض الآخر اختصاراً غير مخل، لعلها تكون مناراً هادياً للمشتغلين
بعلوم الحديث راجياً الله أن يتقبلها بقبول حسن إنه على ما يشاء قدير.
(1/47)
ألفاظ الأداء
لقد تَعَرّضَتْ نسخ مخطوطات الكتاب لتبديل لفظ: "أخبرنا" للفظ "حدثنا"،
وبالعكس، وكذا لبعض ألفاظ الأداء
عند المحدثين من أجل ذلك آثرنا ذكر هذا الباب تعميماً للفائدة فللأداء
ألفاظ يؤدي بها مثل: سمعت، وسمعنا، حدثنا وحدثني، أخبرنا وخبرنا،
وأخبرني، أنبأنا وأنبأني، قال لنا فلان، وذكر لنا، عن وإن وقال، قرأت
على فلان أو قرئ على فلان وأنا أسمع فأقر به، حدثنا فلان قراءة عليه،
وأخبرنا قراءة عليه، حدثنا فلان إجازة، أو أخبرنا مناولة، أو حدثنا
مناولة أو أخبرنا إذناً أو في إذنه، أو فيما أطلق لي روايته عنه، أو
أنبأنا إجازة، أجاز لي فلان أو أجازني كذا وكذا، أو ناولني، وما أشبه
ذلك من العبارات، أخبرنا مشافهة، أو أخبرنا مكاتبة، أو أخبرنا فيما كتب
إليّ أو في كتابه، أو كتب إليّ، أخبرنا فلان بأن فلاناً حدثه، أو
أخبره، أخبرني مكاتبة أو كتابة، وجدت بخط، فلان أو قرأت بخط فلان، أو
في كتاب فلان بخطه، أخبرنا فلان بن فلان، ويذكر شيخه، ويسوق سائر
الإسناد والمتن، أو وجدت أو قرأت بخط فلان، بلغني عن فلان أو وجدت عن
فلان أو نحو ذلك من العبارات، أو قرأت في كتاب فلان بخطه، أو أخبرني
فلان أنه بخطه، أو وجدت في كتاب ظننته أنه بخط فلان، أو في كتاب ذكر
كاتبه أنه فلان ابن فلان، أو في كتاب قيل: إنه بخط فلان.
أما "سمعت وسمعنا": فمقتضى ما تفيده السماع من لفظ الشيخ، فلم يختلف
أحد في جوازها في أدائه، ولكن اختلف هل هي خاصة به أو تجوز في غيره؟
فجوزها بعضهم في القراءة على الشيخ، والصحيح: لا يجوز.
ووقع في عبارة السلفي في كتاب "التسميع": سمعت بقراءتي، وهو تسامح خاص
بالكتابة أو رأي يفصل بين التقييد والإطلاق.
وأما "حدثني وحدثنا": فلا خلاف أيضاً في جوازه في السماع من لفظ الشيخ،
وهل يستعمل في غيره؟.
مذهب يمنع، ومذهب يجيز، وهؤلاء هم الذين جعلوا القراءة على الشيخ
كالسماع من لفظه، ومنهم من أجازها في الرواية بالمناولة، وحكي عن قوم
جوازها في الرواية بالإجازة، كما ذهب غير واحد إلى جواز إطلاقها في
الرواية بالمكاتبة، بل أجازها بعضهم، فأطلق "حدثنا" في الوجادة، بل
أطلق بعضهم "حدثنا" في غير ما تحمله عن الشيخ.
والذي صححه ابن الصلاح، وحكى الاختيار عليه، وهو الذي عليه عمل
الجمهور، المنع من إطلاق استعمال "حدثنا" في الرواية بالمناولة فما
بعدها.
والفرق بين "سمعت" و"سمعنا"، و"حدثنا" أن السماع لا يقتضي قصد الشيخ له
(1/48)
بالتحديث، والتحديث يقتضيه، و"سمعت" و"حدثني" تقتضي أنه لم يكن معه
غيره، و"سمعنا" و"حدثنا" تقتضي أن يكون معه غيره.
وأما "أخبرنا" و"خبرنا" و"أخبرني" فكانت في الاستعمال الأول مثل:
"حدثنا" قبل أن يشيع تخصيص "أخبرنا" بما قرئ على الشيخ.
ومنع منها ومن "حدثنا" في القراءة على الشيخ- ابن المبارك في آخرين،
ومنهم من أجاز "أخبرنا"، ومنع "حدثنا" وفرق بينهما في ذلك.
وقال صاحب كتاب الإنصاف: إن ذلك مذهب الأكثرين من أصحاب الحديث الذين
لا يحصيهم أحد، وإنهم جعلوا "أخبرنا" علماً يقوم مقام قائله: "أنا
قرأته عليه" إلا إنه لفظ به لي.
قال ابن الصلاح: والفرق بينهما صار هو الغالب على أهل الحديث.
أما إطلاق "أخبرنا" والمناولة والمكاتبة والوجادة- فمن أجاز إطلاق
"حدثنا" أجازها، ومن منع منعها، غير أن بعضهم كان يخصص "حدثنا" في
السماع، و"أخبرنا" في الإجازة، وممن فعل ذلك أبو نعيم.
قال ابن الصلاح: والصحيح المختار الذي عليه عمل الجمهور، وإياه اختار
أهل التحري والورع، المنع في ذلك من إطلاق "حدثنا" و"أخبرنا" ونحوهما
من العبارات، وتخصيص ذلك بعبارة تشعر به، بأن يقيد هذه العبارات فيقول:
"أخبرنا" أو "حدثنا" فلان مناولة، أو إجازة، أو "أخبرنا" إجازة، أو
"أخبرنا" مناولة أو "أخبرنا" إذناً، أو في إذنه، أو فيما أذن لي فيه،
أو فيما أطلق لي روايته عنه، أو يقول: أجاز لي فلان، أو أجازني فلان،
كذا وكذا، أو ناولني فلان، وما أشبه ذلك من العبارات.
وأما الفرق بين "أخبرنا" و "أخبرني"، فما قرىء على المحدث وهو حاضر،
فإنه يقول: "أخبرنا" وأما ما قرأ على المحدث بنفسه، فيقول: "أخبرني"
فلان.
وخصص الأوزاعي الإجازة بقوله: "خبّرنا" بالتشديد، والقراءة عليه بقول:
"أخبرنا".
وأما "أنبأني" و"أنبأنا" فقد كان استعمالها مثل "أخبرني"، و"أخبرنا"
غير أن المتأخرين أطلقوا "أنبأنا" في الإجازة، وسار عليه عمل الناس.
وقال الحاكم: الذي أختاره وعَهِدْتُ عليه أكثر مشايخي، وأئمة عصري أن
يقول فيما عرض على المحدث، فأجاز له روايته شفاها: "أنبأني" فلان،
وفيما كتب إليه المحدث ولم يشافهه بالإجازة: كتب إليّ فلان.
وأما "قال لنا" و"ذكر لنا" فلان، فهو من قبيل "حدثنا" فلان؛ غير أنه
لائق بما سمعه في المذاكرة، وهو به أشبه من "حدثنا".
(1/49)
وقال بعضهم: متى قال البخاري: "قال لي" و"قال لنا"، فاعلم أنه إسناد لم
يذكره للاحتجاج به، وإن ذكر للاستشهاد به، وقال أبو جعفر النيسابوري:
كل ما قال البخاري: "قال لي" فلان فهو عرض ومناولة.
وقال ابن الصلاح: وكثيراً ما يعبر المحدثون بهذا اللفظ عما جرى بينهم
في المذاكرات والمناظرات، وأحاديث المذاكرة قَلَّمَا يحتجون بها.
وأما "عدا" و"أن"، و"قال" و"ذكر"، فإنها محمولة على السماع إذا عرف
اللقاء، وبرىء الراوي من وصمة التدليس عند البخاري.
فإذا ورد عمن عرف من حاله أنه لا يقول: "قال فلان"، إلا فيما سمعه منه
حمل عليه.
أما عند مسلم: فهي محمولة على السماع متى ثبتت المعاصرة، وأمكن اللقاء،
ولم يكن مدلساً.
واشترط أبو مظفر السمعاني طول الصحبة بينهما.
واشترط أبو عمرو الداني معرفته بالرواية عنه.
واشترط أبو الحسن القابسي أن يدركه إدراكاً بيناً.
قال شيخ الإسلام: "من حكم بالانقطاع مطلقاً شدد، ويليه من شرط طول
الصحبة، ومن اكتفى بالمعاصرة سهل، والوسط الذي ليس بعده إلا التعنت
مذهب البخاري، ومن وافقه". وكثر في الأعصار المتأخرة استعمال "عن" في
الإجازة، فإذا قال أحدهم: "قرأت على فلان" عن فلان فمراده أنه رواه عنه
بالإجازة، وكذلك "أن"، فيقولون في الإجازة: "أخبرنا فلان أن فلاناً"،
و"أنَّ" مثل "عن" عند الجمهور، وقال بعضهم: إنها محمولة على الانقطاع
حتى يتبين السماع.
وحقق الخطيب أن "قال" ليست مثل "عن" فإن الاصْطِلاَحَ فيها مختلفٌ،
فبعضهم يستعملها في السماع دائماً؛ كحجاج بن موسى المصيصي الأعور،
وبعضهم بالعكس، لا يستعملها إلا فيما لم يسمعه دائماً، وبعضهم تارة كذا
وتارة كذا كالبخاري، فلا يحكم عليها بحكم مطرد، ومثل "قال" "ذكر"،
واستعملها أبو قرة في "سننه" في السماع.
قال ابن الصَّلاح: وربما دلس بعضهم، فذكر الذي وجد خطه، وقال فيه: عن
فلان أو قال فلان، وذلك تدليس قبيح إذا كان بحيث يوهم سماعه منه.
وإذا وجدنا حديثاً في تأليف شيخ، فله أن يقول: "ذكر" فلان أو "قال"
فلان: "أخبرنا" فلان، أو "ذكر" فلان "عن" فلان، وهذا منقطع لم يأخذ
شطراً من الاتصال، وهذا إذا وثق بأنه كتابه.
(1/50)
وأما "قرأت" على فلان، أو "قرىء"على فلان، وأنا أسمع، فأقرّ به فهما
الأصل في أداء ما تحمله المحدث بالقراءة على الشيخ، الأولى فيما قرأه
بنفسه، والثانية فيما قرأ غيره وهو يسمع، ويليهما "أخبرنا" قراءة،
و"حدثنا" قراءة.
وأما "حدثنا" فلان إجازة، و"أخبرنا" إجازة، أو "أخبرنا" إذناً، أو في
إذنه، أو فيما أطلق لي روايته عنه، أو "أنبأنا" إجازة، فكل هذا خاص
بالإجازة؛ كأجازني، وأجاز لي.
وأما "حدثنا" مناولة، أو "أخبرنا" أو "ناولني" فهو خاص بالمناولة.
وأما "أخبرنا" مشافهة أو "أخبرنا" مكاتبة، أو فيما كتب إليّ، أو في
كتابته، فقد خصه قوم بالإجازة إذا كان قد أجاز بخطه، فهذا وإن تعارفه
في ذلك طائفة من المحدثين المتأخرين، فلا يخلو عن طرف من التدليس؛ لما
فيه من الاشتراك والاشتباه بما إذا كتب إليه ذلك الحديث بعينه، ومنع
منه -لذلك- أبو المظفر الهمداني.
ولكن بعد أن صار اصطلاحاً عرى من ذلك، فلا منع.
وأما "كتب إليّ فلان" فهذا خاص بالمكاتبة، وعليه "أخبرني" به مكاتبة،
أو في كتابه، أو نحو ذلك من العبارات.
وأما "وجدت" بخط فلان، أو "قرأت" بخط فلان، أو في كتاب فلان -فهذا وما
أشبهه هو الذي استمر عليه العمل قديماً وحديثاً فيما تحمل بطريق
الوجادة فيما إذا وثق بأنه خطه.
وأما "بلغني عن فلان" أو "وجدت عن فلان" وما أشبهه -فهو فيما إذا يثق
بأنه خطه أو كتابه.
هذه هي ألفاظ الأداء، ويمكنك أن تعلم مما تقدم أنها على مراتب في كل
نوع من أنواع التحمل الذي يجوز استعمالها فيه.
ما ينبغي أن يفعله الراوي عند الأداء:
جرت العادة أن يحذف كتاب الحديث لفظة "قال" أو "قيل له: أخبرك فلان"،
ولفظة "أنه" أو "أنه قال"، ينبغي في كل هذا أن يأتي بها المؤدي لفظاً،
وإن حذفت خطأ.
واختلفوا فيما إذا لم يأت بها، هل يبطل السماع؟
قال النووي: تركها خطأ، والظاهر صحة السماع.
وتأتي "قال" تفسيراً لكلمة "حدثنا" و"أخبرنا"، فإذا قال: "حدثنا فلان
حدثنا فلان" تقول أنت بعد حدثنا الأولى: "قال: حدثنا"، وكذلك "خبرنا"،
وكذلك "أنبأنا".
وتأتي "قيل له: أخبرك فلان" فيما إذا كان في أثناء الإسناد: "قرىء على
فلان: أخبرك فلان" فالمؤدي يقول: قرىء على فلان: قيل له: أخبرك فلان".
(1/51)
إما إذا كان "قرىء على فلان: حدثنا فلان"، فيقول المؤدي: قرىء على
فلان: قال: "حدثنا فلان".
وإذا تكررت "قال" حذفوا إحداهما في الكتابة، فينبغي للمؤدي الإتيان بها
مثل: "حدثنا صالح بن حيان قال الشعبي، فتقول: حدثنا فلان قال: قال".
وتحذف لفظة "أنه" بعد "عن" مثل: "عن عطاء بن ميمون سمع أنساً" فيقول
المؤدي: أنه سمع، أو أنه قال، مثل: حدثني مالك عن ابن شهاب عن حميد بن
عبد الرحمن، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول
المؤدي: حدثني مالك قال: عن ابن شهاب أنه قال: عن حميد بن عبد الرحمن
أنه قال عن أبي هريرة.
وتارة يقتصر على الرمز، فيؤديه المؤدي كاملاً، فحدثنا يرمز إليها "ثنا"
فيقرؤها "حدثنا"، ومنهم من يحذف الثاء، ويكتبها "نا" فيقرؤها المؤدي:
"حدثنا" وبعضهم يزيد أول الرمز "دثنا" فيقرؤها: "حدثنا"، ومثلها "ثني"،
و"دثني".
و"أخبرنا" يكتبها "أنا" فيقرؤها "أخبرنا"، وقد يزيدون راء بعد الألف:
"أرنا"، فتقرأ:"أخبرنا".
أما "أخبرني" و "أنبأنا" و"أنبأني" فلم يرمزوا إليها بشيء.
(1/52)
تعريف التخريج
معنى مادة "خ رج" في اللغة تدور حول معنى الظهور والبروز وإليك نقل أهل
اللغة في هذه المادة:
قال ابن منظور في "اللسان": خرجت خوارج فلان إذا ظَهَرَتْ نجابته.
وفيه أيضاً: خرجت السماء خروجاً إذا أصحت بعد إغامتها.
ومنه: خروج الأديب ونحوه: يقال: خرج فلان في العلم والصناعة.
خروجاً: نبغ، وخرّجه في الأدب تخريجاً: أي أدَّبه، كما يخرج المعَلِّم
تلميذَه كذا في "تاج العروس".
في "المعجم الوسيط": خَرَجَ يخرُجُ خروجاً: برز من مقره أو حاله
وانفصل.
وقال المناوي في "فيض القدير"1: التخريج من خرج العمل تخريجاً، واخترعه
بمعنى استخرجه.
__________
1 "فيض القدير" 1/20.
(1/52)
قال الزمخشري: ومن المجاز خرج فلان في العلم والصناعة خروجاً إذا نبغ
وخرجه واخترعه بمعنى استخرجه.
واصطلاحاً:
تطلق الكلمة على معنيين هما:
الأول: ذكر مؤلف الكتاب الحديث بإسناده إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فيقولون في هذا: "هذا الحديث خرّجه- أو: أخرجه- فلان".
قال القاسمي: كثيراً ما يقولون بعد سوق الحديث: خرّجه فلان، أو أخرجه
بمعنى ذكره. فيقولون: هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم.
وهذا المعنى هو المنطبق على الكتب الستة وأصحاب المعاجم والمسانيد
ونحوهم، وهي الكتب الأصلية المعتمدة في الحديث.
الثاني: يطلق على عزو الحديث إلى مصادره الأصلية مع الحكم عليه، وهو ما
عَرَّف به المناوي التخريج فقال: عزو الأحاديث إلى مخرجيها من أئمة
الحديث من الجوامع والسنن والمسانيد.
وهذا المعنى الأخير لم يعرف بين أهل العلم في هذا الفن إلا في مرحلة
متأخرة ولعل ذلك يرجع إلى أن السنّة أولاً قد دفنت واستقرت في بطون
الكتب ثم أصبح الناس بعد ذلك في حاجة إلى عزو الحديث إلى هذه الكتب
والمصادر الأساسية لعزو الحديث.
وأمر آخر وهو أن الكتب الشرعية كثرت وتنوعت وأصبح المؤلف يذكر الحديث
بدون عزوٍ ولا حكم على الحديث فتطلع الناس إلى معرفة المصدر الأساسي
للحديث والحكم عليه.
(1/53)
علم التخريج
لقد تنوعت وتعددت فوائد علم التخريج، ولقد أحسن جمعها الأستاذ الدكتور
الشيخ عبد المهدي في كتابه طرق تخريج حديث رسول اللَّه صلى الله عليه
وسلم فقال: فوائد التخريج كثيرة وكيف لا وبه يمكن الوصول إلى كنوز
السنة، وبدونه يحرم المرء من ذلك؟.
وسأذكر هنا- بمشيئة الله تعالى- أشهرها. وهي:
1- معرفة مصدر أو مصادر الحديث: فبالتخريج يستطيع الباحث أن يعرف مَنْ
أخرج الحديث من الأئمة، ومكان هذا الحديث في كتب السنّة الأصلية.
2- جمع أكبر عدد من أسانيد الحديث: فبالتخريج يتوصل الباحث إلى موضع أو
مواضع الحديث من الكتاب الواحد أو الكتب المتعددة، فيعرف مثلاً أماكن
وروده في "صحيح
(1/53)
البخاري"، وقد تكون متعددة، ويعرف أيضاً أماكن وروده عند غير البخاري،
وفي كل موضع يعرف الإسناد فيكون قد حصل على أسانيد متعددة للحديث.
3- معرفة حال الإسناد بتتبع الطرق: فبالوصول إلى طرف الحديث يمكن
مقابلتها ببعضها فيظهر ما فيها من انقطاع أو إعضال... إلخ.
4- معرفة حال الحديث بناء على كثير من الطرق: فقد نقف على الحديث من
طريق ما ضعيفاً، وبالتخريج نجد له طرقاً أخرى صحيحة. وقد نقف له على
إسناد منقطع فيأتي -بالتخريج- ما يزيل هذا الانقطاع.
5- ارتقاء الحديث بكثرة طرقه: فقد يكون معنا حديث ضعيف، وبالتخريج نجد
له متابعات وشواهد تقويه، فتحكم له بالحسن بدل الضعف.
6- معرفة حكم أو أحكام الأئمة على الحديث: وأقوالهم فيه، من حيث الصحة
وغير ها.
7- تمييز المهمل من رواة الإسناد: فإذا كان في أحد الأسانيد راوٍ مهمل،
مثل "عن محمد" أو "حدثنا خالد" فبتخريج الحديث والوقوف على عدد من
طرقه، قد يتميز هذا المهمل، وذلك بأن يذكر في بعضها مميزاً.
8- تعيين المبهم في الحديث: فقد يكون معنا راوٍ مبهم أو رجل في المتن
مبهم مثل "عن رجل" أو "عن فلان" أو "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه
وسلم" فبتخريج الحديث نقف على عدد من طرقه، وقد يكون في بعضها تعيين
هذا المبهم.
9- زوال عنعنة المدلس: وذلك بأن يكون عندنا حديث بإسناد فيه مدلس يروي
عن شيخه بالعنعنة -مما يجعل الإسناد منقطعاً- وبالتخريج يمكن أن نقف عن
طريق آخر، يروي فيه هذا المدلس عن شيخه بما يفيد الاتصال، كـ "سمعت"
و"حدثنا" و"أخبرنا". مما يزيل سمة الانقطاع عن الإسناد.
10- زوال ما نخشاه من الرواية عمن اختلط: فإذا كان معنا حديث في إسناده
من اختلط، ولا ندري هل الراوي عنه في إسنادنا هذا روى عنه قبل الاختلاط
أو بعده، فبالتخريج قد يتضح ذلك كأن يصرح في بعض الطرق بأن هذا الراوي
روى عنه قبل الاختلاط، أو أن يرويه عنه راوٍ لم يسمع منه إلا قبل
الاختلاط، مما يؤيد الحديث الذي معنا، ويفيد أنه ليس مما اختلط فيه.
11- تحديد من لم يحدد من الرواة: فقد يذكر الراوي في إسناد معنا بكنيته
أو لقبه أو نسبته، ويشاركه في هذه- الكنية أو اللقب أو النسبة- كثيرون
مما يجعل تحديده متعذراً، فبالتخريج قد نعرف اسمه، بأن يذكر في إسناد
أو أكثر باسمه صريحاً.
(1/54)
12- معرفة زيادة الروايات: فقد تكون الرواية التي معنا غير مشتملة على
ما يفيد الحكم صراحة، فبالتخريج نقف على بقية الروايات، وفي زياداتها
ما يفيد في الحكم أو يفيد الحكم صراحة، أو به يتضح المعنى.
13- بيان معنى الغريب: فقد يكون في حديث لفظة غريبة، وبتخريجه من
الروايات الأخرى تتضح هذه، بأن يأتي مكانها لفظة ليست غريبة، أو يشتمل
على بيانها.
14- زوال الحكم بالشذوذ: فقد يحكم على حديث أو لفظة بالشذوذ،
وبالتخريج- الذي يوقفنا على كثير من الروايات -يتضح لنا ورود هذا من
غير هذا الطريق الذي يظن تفرد راوٍ به، مما يدفع القول بالشذوذ.
15- بيان المدرج: فقد يدرج الراوي كلاماً في المتن، وبالتخريج يمكن
مقارنة الروايات، بما يبين الإدراج.
16- بيان النقص: فقد ينسى الراوي جزءاً من الحديث، أو يختصره،
وبالتخريج يمكننا الوقوف على ما نسيه، أو اختصره.
17- كشف أوهام وأخطاء الرواة: فقد يخطىء الراوي أو يهم، وبالتخريج
-الذي يوقفنا على عدد من الروايات- يتضح هذا.
18- معرفة الرواية باللفظ: فقد يروي راو الحديث بالمعنى، وبالتخريج نقف
على رواية من رواه باللفظ.
19- بيان أزمنة وأمكنة الأحداث: فبجمع روايات الحديث قد يمكننا معرفة
زمانه ومكانه إذ قد يذكر في بعضها ذلك.
20- بيان أعلام الحديث: فقد يردُ الحديث بسبب شخص أو أشخاص، وبالتخريج
يمكننا جمع روايات هذا الحديث، والتي قد يتضح منها الشخص- أو الأشخاص-
الذين ورد الحديث بسببهم.
21- معرفة أخطاء النساخ: فقد يخطىء الناسخ في الإسناد، أو في المتن،
وبالتخريج يمكننا الوقوف على الروايات، وبها يتضح هذا الخطأ. وهذه
الفائدة عظم شأنها في هذه الأيام لكثرة أخطاء النشر.
وبالجملة: فبالتخريج يمكن:
أ- جمع الطرق التي جاء الحديث منها.
ب- جمع ألفاظ متن الحديث.
وفي هذين من الفوائد الكثير والكثير. ولعله بعد ذكر هذا العدد من
الفوائد يكون قد
(1/55)
أتضح لك قدر التخريج وظهرت عظمة منزلته، وكبير فائدته، مما يجعلك تحرص
عليه فهو مفتاح كنوز السنّة بلا ريب، ودليل بحارها بلا شك. نسأل الله
الكريم من فضله أن يفتح لنا كنوز الكتاب والسنة، وأن يهدينا في
بحارهما. انتهى كامله بنصه.
(1/56)
الكتب المصنفة في تخريج الحديث :
خلّف لنا علماًء الإسلام تراثاً علميّاً ضخماً تزدان به المحافل
العلمية ودور الكتب في شتى أنحاء العالم، ويتنوع هذا التراث ليشمل شتى
الدراسات الإسلامية والعربية، من دراسات فقهية، وأحكام أصولية،
وتفسيرات متعددة للقرآن الكريم، ومؤلفات تهتم بالسيرة النبوية، إلى غير
ذلك من مجالات العلوم المختلفة، ومن هذه الدراسات تلك الكتب التي خطها
قدماؤنا، والتي تدور حول تخريج الأحاديث النبوية، وتتنوع كتب تخريج
الحديث لتشمل المؤلفات الفقهية، ومؤلفات أصول الفقه، والسيرة النبوية،
وتفسير كتاب الله عز وجل، وكتب الحديث النبوي نفسه وعلومه، وفي السطور
التالية نقدم عرضاً موجزاً للكتب التي قامت بتخريج الأحاديث:
1- تخريج أحاديث "الأم" للبيهقي المتوفى سنّة "458" وهو أحمد بن الحسين
بن علي بن موسى، الإمام الحافظ الكبير، أبو بكر البيهقي سمع الكثير
ورحل وجمع وصنف، مولده سنة "384"، تفقه على ناصر العمري، وأخذ علم
الحديث عن أبي عبد اللَّه الحاكم، وكان كثير التحقيق والإنصاف، قال
إمام الحرمين: ما من شافعي إلا وللشافعي عليه منة إلا البيهقي، فإن له
على الشافعي منة لتصانيفه في نصرة مذهبه، ومن تصانيفه أيضاً "السنن
الكبير"، و"السنن الصغير"، و"دلائل النبوة" وغيرها.
2- التحقيق في أحاديث التعليق لابن الجوزي المتوفى سنّة "744" هو: عبد
الرحمن بن على بن محمد الجوزي القرشي، البغدادي أبو الفرج: علامة عصره
في التاريخ والحديث، كثير التصانيف مولده ووفاته ببغداد.
قال عنه الذهبي: "وكان ذا حظ عظيم وصيت بعيد في الوعظ، يحضر مجالسه
الملوك والوزراء وبعض الخلفاء والأئمة والكبراء، لا يكاد المجلس ينقص
عن ألوف كثيرة". ومن تصانيفه الكتاب المذكور.
3- "نصب الراية" في تخريج أحاديث الهداية للزيلعي المتوفى سنّة 762 هـ.
هو الإمام- الفاضل البارع، المحدث المفيد، الحافظ المتقن، جمال الدين
أبو محمد عبد اللَّه بن يوسف بن محمد بن أيوب بن موسى الحنفي الزيلعي
رحمه الله.
قال تقي الدين بن فهد المكي في ذيل "تذكرة الحفاظ"- للذهبي: تفقه،
وبرع، وأدام النظر والاشتغال، وطلب الحديث، واعتنى به، فانتقى، وخرّج،
وألف، وجمع.
(1/56)
قال في "الدرر" يعني به الحافظ ابن حجر في "الدرر الكامنة": ذكر لي-
شيخنا العراقي- أنه كان يرافقه في مطالعة الكتب الحديثية، لتخريج الكتب
التي كنا قد اعتنيا بتخريجها، فالعراقي لتخريج أحاديث الإحياء،
والأحاديث التي يشير إليها الترمذي في الأبواب، والزيلعي لتخريج أحاديث
الهداية. والكشاف، فكان كل منهما يعين الآخر؛ ومن كتاب الزيلعي في
تخريج أحاديث الهداية استمد "الزركشي" في كثير مما كتبه من تخريج
أحاديث الرافعي. وهو مطوع متداول بين أهل العلم.
4- تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في "الكشاف" للزيلعي المتوفى سنّة
"762هـ" وقد تقدم.
5- تخريج أحاديث المنهاج للبيضاوي لتاج الدين السبكي المتوفى سنّة
"771هـ".
وهو: عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام بن يوسف بن موسى
بن تمام، العلاَّمة قاضي القضاة تاج الدين أبو نصر بن الشيخ الإمام شيخ
الإسلام تقي الدين أبي الحسن الأنصاري الخزرجي السبكي. مولده بالقاهرة
"727" واشتغل على والده وعلى غيره وقرأ على الحافظ المزي ولازم الذهبي.
قال ابن كثير: جرى عليه من المحن والشدائد ما لم يجر على قاض قبله وحصل
له من المناصب ما لم يحصل لأحد قبله. من تصانيفه أيضاً "رفع الحاجب عن
مختصر أبي الحاجب" "شرح المنهاج البيضاوي" و"الطبقات الصغرى"
و"الترشيح".
6- إرشاد الفقيه إلى أدلة "التنبيه" لابن كثير المتوفى سنّة "774".
وهو: إسماعيل بن كثير بن ضوء بن كثير بن ضوء بن ذرع، القرشي، البصري،
الدمشقي.
مولده سنة "701" وتفقه على الشيخين برهان الدين الفزاري وكمال الدين بن
قاضي شهبة، ثم صاهر الحافظ أبي الحجاج المزي ولازمه وأخذ عنه وقرأ
الأصول على الأصفهاني وصنف في صغره كتاب "الأحكام على أبواب التنبيه"
ومن تصانيفه أيضاً التأريخ المسمى بالبداية والنهاية والتفسير. ودفن
بمقبرة الصوفية عند شيخه ابن تيمية.
7- تحفة الطالب بمعرفة أحاديث مختصر ابن الحاجب لابن كثير المتوفى سنّة
"774" وقد تقدم، وهو كتاب مطوع متداول بين أهل العلم.
8- الذهب الإبريز في تخريج أحاديث "فتح العزيز" للزركشي المتوفى سنة
"794 هـ".
وهو: محمد بن بهادر بن عبد الله، العالم العلاّمة، المصنف المحرر، بدر
الدين أبو عبد الله المصري، الزركشي. مولده سنّة "45"، أخذ عنه، لشيخين
جمال الدين الإسنوي وسراج الدين البلقيني ورحل إلى حلب إلى شهاب الدين
الأذرعي وتخرج بمغلطاي في الحديث. كان فقيهاً أصولياً، أديباً، فاضلاً
في جميع ذلك.
(1/57)
ومن تصانيفه أيضاً تكملة "شرح المنهاج" للإسنوي.
9- المعتبر في تخريج أحاديث المنهاج والمختصر للزركشي المتوفى سنّة
"794 هـ". وقد تقدم، وهو كتاب مطبوع.
10- "كشف المناهيج والتناقيح في تخريج أحاديث المصابيح" للمناوي
المتوفى سنة "803هـ".
وهو: محمد بن إبراهيم بن إسحاق السلمي المناوي ثم القاهري، الشافعي،
صدر الدين، أبو المعالي: قاض، عالم بالحديث. من أهل القاهرة، ناب في
الحكم، وولي إفتاء دار العدل، ثم قضاء الديار المصرية استقلالاً سنّة
"791" وحمدت سيرته. وصرف بعد شهرين، وأعيد. ومن تصانيفه الكتاب
المذكور.
11- "البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير"
للرافعي لابن الملقن وهو أصل "تلخيص الحبير" وقد طبع من هذا الكتاب عدة
أجزاء ولم يكمل بعد.
وهو: عمر بن علي بن أحمد بن محمد بن عبد الله، عمدة المصنفين، سراج
الدين أبو حفص الأنصاري، المعروف بابن الملقن، كان أبوه نحوياً
معروفاً، ولد سنّة "723"، أخذ عن الإسنوي ولازمه، وعن غيره من شيوخ
العصر، وسمع الحديث الكثير، ومهر في الفنون. من تصانيفه أيضاً "شرح
زوائد مسلم" و"زوائد أبي داود" وغيرها، و"شرح منهاج البيضاوي"، وعمل
"الأشباه والنظائر".
12- "خلاصة البدر المنير" لابن الملقن المتوفى سنّة "854 هـ".
وقد تقدم ترجمته، وهو كتاب مطبوع متناول بين أهل العلم.
13- "تحفة المحتاج إلى أدلة المنهاج" لابن الملقن المتوفى سنّة "804
هـ" وهو كتاب مطبوع متداول بين أهل العلم.
14- تذكرة الأخيار بما في "الوسيط من الأخبار" لابن الملقن المتوفى
سنّة "804 هـ" وقد تقدم ترجمته.
15- "المحرر المذهب في تخريج أحاديث المهذب" لابن الملقن سنّة "804 هـ"
وقد تقدم ترجمته.
16- "تخريج تقريب الأسانيد" للعراقي المتوفى سنّة "826".
وهو: أحمد بن عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن، ولي الدين أبو زرعة
بن الحافظ زين الدين العراقي، ولد سنّة "762"، سمع من القلانسي،
واستجاز من أبي الحسن الفرضي وأسمعه أبوه من كثير من المسندين، ثم طلب
بنفسه وهو شاب، وقرأ
(1/58)
الكثير، وصاهر نور الدين الهيثمي، وهو مع ذلك ملازم للاشتغال بالفقه،
والعربية، والفنون، حتى مهر واشتهر، وصنف أيضاً: تحرير الفتاوى، وشرح
"جمع الجوامع" للسبكي، وله ذيل مطبوع على الكاشف للذهبي.
17- المغني عن حمل الأسفار في الأسفار للعراقي المتوفي سنة "826هـ" وقد
تقدم.
18- الكاف الشاف في تخريج أحاديث "الكشاف" لابن حجر المتوفي سنة
"852هـ"، وقد أفردنا له ترجمة خاصة.
19- الدراية في تخريج أحاديث الهداية لابن حجر المتوفى سنة "852هـ" وقد
أفردنا له ترجمة خاصة.
20- "هداية الرواة في تخريج أحاديث المصابيح والمشكاة" لابن حجر
المتوفى سنة "852هـ" وقد أفردنا له ترجمة خاصة.
21- "تخريج أحاديث الأذكار" لابن حجر المتوفى سنة "852هـ" وقد أفردنا
له ترجمة خاصة.
22- "التعريف والأخبار بتخريج أحاديث الاختيار" لابن قطلوبغا المتوفى
سنة "879".
هو: قاسم بن قطلوبغا، زين الدين أبو العدل السودوني الجمالي عالم بفقه
الحنفية، مؤرخ، باحث، مولده ووفاته بالقاهرة. قال السخاوي في وصفه:
"إمام علاّمة، طلق اللسان، قادر على المناظرة مغرم بالانتقاد".
ومن تصانيفه الكتاب المذكور.
23- "تخريج أحاديث أصول البزدوي" لابن قطلوبغا المتوفى "879هـ".
24- "تخريج أحاديث الشفا" لابن قطلوبغا المتوفى سنة "879" وقد تقدم.
25- "تخريج أحاديث تفسير السمر قندي" لابن قطلوبغا المتوفى سنة "879"
ذكره في الرسالة المستطرقة، وقد تقدم.
26- "نشر لاعبير في تخريج أحاديث الشرح الكبير" للسيوطي المتوفى سنة
"911".
وهو: عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد بن سابق الدين الخضيري السيوطي
جلال الدين: إمام حافظ مؤرخ أديب. له نحو "600" مصنف. منها: "الكتاب
الكبير" و "الرسالة الصغيرة" ومن مؤلفاته "نشر العبير" وهو الكتاب
المشار إليه.
(1/59)
29- "مناهل الصفا في تخريج أحاديث الشفا" للسيوطي المتوفى سنة "911"
وهو كتاب مطبوع في مصر.
30- "فلق الإصباح في تخريج أحاديث الصحاح" للسيوطي المتوفى سنة "911"
وقد تقدم.
31- "تخريج شرح العقائد النسفية" للسيوطي المتوفى سنة "911 هـ" وقد
تقدم.
32- "تخريج أحاديث شرح المواقف" للسيوطي المتوفى سنة "911 هـ" وقد
تقدم.
33- "تخريج أحاديث الكفاية" في فقه الشافعية للسيوطي المتوفى سنة
"911هـ" وقد تقدم.
34- "فرائد القلائد في تخريج أحاديث شرح العقائد" لملا علي القاري
المتوفى سنة "1014هـ".
هو: علي بن سلطان محمد، نور الدين الملاّ الهروي القاري: فقيه حنفي، من
صدور العلم في عصره. ولد في هراة وسكن مكة وتوفي بها. قيل: كان يكتب في
كل عام مصحفاً وعليه طرر من القراآت والتفسير فيبيعه فيكفيه قوته من
العام إلى العام. وصنف كتباً كثيرة منها الكتاب المذكور.
35- "تخريج الأحاديث والآثار" التي وردت في "شرح الكافية" لعبد القادر
البغدادي المتوفى سنة 1093 هـ.
وهو: عبد القادر بن عمر البغدادي: علامة بالأدب والتاريخ والأخبار. ولد
وتأدب ببغداد. وأولع بالأسفار، فرحل إلى دمشق ومصر وأدرنة. وجمع مكتبة
نفيسة. وتوفى في القاهرة. كان يتقن آداب التركية والفارسية.
36- "تخريج الأحاديث الواقعة في التحفة الوردية" لعبد القادر البغدادي
المتوفى سنة "1093 هـ" وقد تقدم.
37- "تحفة الراوي في تخريج أحاديث البيضاوي" لابن همات المتوفى "1175".
وهو: محمد بن حسن المعروف بابن همات أو محمد همات زادة، الدمشقي: من
علماء الحديث، تركماني الأصل، قسطنطيني، ولد في دمشق، ورحل إلى مكة،
فجاور بها، ثم سافر إلى القسطنطينية.
38- "إدراك الحقيقة في تخريج أحاديث الطريقة" "للبركوي" لعلي بن حسن
المصري.
(1/60)
ترجمة الإمام الرافعي 1 صاحب "الشرح الكبير"
اسمه ونسبه ومولده:
عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم بن الفضل بن الحسين بن الحسن الإمام
العلامة إمام الدين وشيخ الشافعية عالم العجم والعرب أبو القاسم
القزويني الرافعي.
القزويني2: نسبة إلى قزوين، وهي إحدى المدائن بأصبهان يقال: بها باب
الجنة.
والرافعي: هذه النسبة لرافعان: بلدة من بلاد قزوين، قال النووي.
قال الإسنوي: سمعت قاضي القضاة جلال الدين القزويني يقول: إن "رافعان"
بالعجمي مثل "الرافعي" بالعربي، فإن الألف والنون في آخر الاسم عند
العجم كياء النسبة في آخره عند العرب، فرافعان نسبة إلى رافع قال: ثم
إنه ليس بنواحي قزوين بلدة يقال لها: رافعان، ولا رافع، بل هو منسوب
إلى جد له يقال له: رافع.
قال الإسنوى: حكى بعض الفضلاء عن شيخه، قال سألت القاضي مظفر الدين
قاضي قزوين، إلى ماذا نسبه الرافعي؟ فقال: كتب بخطه، وهو عندي في كتاب
"التدوين في أخبار قزوين" إنه منسوب إلى رافع بن خديج رضي الله عنه.
وحكى ابن كثير قولاً إنه منسوب إلى أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه
وسلم.
هذا، رقد ولد الإمام الرافعي رحمه الله سنة خمس وخمسين وخمسمائة.
وللإمام الرافعي- رحمه الله- من الأولاًد ولد ذكر، اسمه: محمد. ولقبه:
عزيز الدين وبنت، ذكر أبو سعد المنسي، النسوي في "تاريخ خوارزم شاه":
أن الإمام أبا القاسم الرافعي كانت له بنت، تزوجها رجل من مشايخ
"قزوين" وأولدوها أولاداً كثيرة.
وقرأت على الشيخ صلاح الدين- أبقاه الله- قال: رأيت بدمشق سنة أربعين
وسبعمائة امرأة حضرت عند قاضي القضاة، تقي الدين السبكي، عجمية، فصيحة
اللسان، ذكرت أنها من نسل الإمام الرافعي، وكانت تحفظ "عقيدته" التي
صنفها، فقرأت منها قطعة، وهي عقيدة بديعة على
__________
1 تنظر ترجمته في: "سير أعلام النبلاء" 22/252 "139" و"طبقات السبكي"
8/281 و"طبقات ابن هداية" ص 218 و"طبقات ابن قاضي شهبة" 2/75 و "شذرات
الذهب" 5/108 و"تهذيب الأسماء واللغات" 2/264 و"العبر" 5/94 و"فوات
الوفيات" 2/7 و"مرآة الجنان" 4/56، و "النجوم الزاهرة" 6/266 و "تاريخ
ابن الوردي" 2/148 و"مفتاح السعادة" 1/443، 2/213، "طبقات الإسنوي"
1/281، "الأعلام" 4/55.
2 ينظر: "الأنساب" 4/493 "معجم البلدان" 5/389.
(1/61)
طريقة أهل السنة، بعبارة فصيحة على عادته- رحمة الله عليه-.
أما والده فهو1: أبو الفضل محمد بن عبد الكريم بن الفضل، الرافعي،
القزويني، يقال له: "بابويه".
سمع ببلده من: أبي علي، الحسن بن أحمد الهمذاني، قدم عليهم. ومن ملكداذ
بن علي بن أبي عمرو، وببغداد من: أبي منصور بن خيرون، وأبى الفضل
الأوموي، وأبي عبد الله بن الطرائفي، وسعد الخير الأنصاري. وبنيسابور
من: أبي الأسعد القشيري، وعبد الخالق بن زاهر الشحامي في آخرين.
وقال ولده: الإمام الرافعي في "أماليه": "والدي أبو الفضل، ممن خُصّ
بعفة الذيل، وحُسن السيرة، والجدِّ في العلم والعبادة، وذلاقة اللسان،
وقوة الجنان، والصلابة في الدين، والمهابة عند الناس، والبراعة في
العلوم: حفظاً، وضبطاً. ثم: إتقاناً، وبياناً، وفهماً ودراية. ثم: أداء
ورواية.
سمع الحديث، وتفقه بـ "قزوين" في صِباه، ثم سافر إلى الري، فسمع وتفقه،
ثم ارتحل إلى بغداد، فسمع، وتففه، وحج منها، ثم انتقل إلى نيسابور، فضل
على الإمام محمد بن يحيى، وسمع الحديث الكثير.
وكان مشايخه يوقرونه، لحسن سيره، وشمائله، ووفور فضله، وفضائله.
ولما عاد إلى "قزوين" أقبلت عليه المتفقهة، فدرّس، وأفاد، وذاكر وذكر،
وقسر، وروى، وصنف: في التفسير، والحديث، والفقه، وانتفع به الخواص
والعوام.
ثم استأثر الله- تعالى- به في شهر رمضان، سنّة ثمانين وخمسمائة. ولعل
الله يوفق لما في عزمي من جمع مختصر في مناقبه، أسميه بـ "القول الفصل
في فضل ابن الفضل" ا هـ.
وقال في المجلس الخامس من هذه "الأمالي": "والذي- رحمه الله- كان جيد
الحفظ، سمعته صبيحة بعض الأيام يقول: سهرت البارحة فأجلت الفكر فيما
أحفظه من الأبيات المفردة، والمقطعات فبلغت آلافاً".
وقال في المجلس العاشر منها: "سمعت عبد الرحيم بن الحسين المؤذن- وكان
رجلاً صالحاً يؤذن في مسجده- يحكي: أن والدي- رحمه الله- خرج في ليلة
مظلمة لصلاة العشاء، قال: وأنا على باب المسجد أنتظره، فحسبت أن في يده
سراجاً، وتعجبت منه، لأنه لم يكن من عادته استصحابُ السراج، فلما بلغ
المسجد لم أجد السراج، ودهشت وذكرت له ذلك من الغد فلم يعجبه وقوفي على
الحال، وقال: أقبل على شأنك".
وقال في المجلس العاشر منها: "كتب سعد بن الحسن الكرماني لوالدي،
رحمهما الله-
__________
1 "البدر المنير" 1/482.
(1/62)
وكان سعد من أهل العلم، والفضل، والبيوتات الشريفة-:
يا أبا الفضل قد تأخرت عنا ... قأسأنا بحسن عهدك ظنا
كم تمنت تفسي صديقاً صدوقاً ... فإذا أنت ذلك المتمني
قبغصن الشباب لما تثنى ... وبعهد الصبا وإن بان عنا
كن جوابي إذا قرأت كتابي ... ولا تفل للرسول: كان وكنا
فبلغت أنه كان جوابه".
وقال في المجلس الخامس عشر: "كتب إلى والدي أبو سليمان الزبيري- حين
عزم على السفر للتفقه-:
أبا الفضل هجرك لا يحمل ... ولست ملوماً بما تفعل
وإنك من حسنات الزمان ... وقدماً علينا بها يبخل
وقال الرافعي عن والدته في "أماليه"1:
"والدتي صفية بنت الإمام أسعد الركابي- رحمهما الله- كانت تروي الحديث
عن إجازة جماعة من مشايخ "أصبهان"، و"بغداد" و"نيسابور" عني بتحصيل
أكثرها: خالها أحمد بن إسماعيل".
قال: "لا أعرف امرأة في البلد كريمة الأطرافِ في العلم مثلها، فأبوها
كان حافظاً للمذهب، والأقوال، والوجوه فيه، المستقرب منها، والمستبعد،
ماهراً في الفتوى، مرجوعاً إليه.
وأما: زليخا بنت القاضي إسماعيل بن يوسف، كانت فقيهة يراجعها النساء،
فتفتي لهن لفظاً وخطاً، سيّما فيما ينوبهن، ويستحين منه، كالعدة
والحيض.
وأخواها: من معتبري الأئمة المشهورين في البلد: درج أكبرهما وأنساً في
أجل الآخر. وزوجها: الإمام، والدي: قد أشرت إلى جمل من أحواله فيما
تقدم.
وجدّها: القاضي إسماعيل بن يوسف: من أهل العلم، والحديث، والجدّ في
العبادة، وكان قد تفقه على القاضي، الشهيد: أبي المحاسن الروياني، وسمع
منه الحديث.
خالها: الإمام أحمد بن إسماعيل: مشهور في الآفاق.
قال في أثناء "أماليه"- بعد أن روى عنه حديثاً-: "هو أحمد بن إسماعيل
بن يوسف بن محمد بن العباس، الطالقاني، ثم القزويني، أبو الخير، إمام
كثير الخير، موقر الحظ من علوم الشرع: حفظاً، وجمعاً، ونشراً بالتعليم،
والتذكير، والتصنيف. وكان لا يزال لسانه رطباً من ذكر الله تعالى، ومن
تلاوة القرآن، وربما قرئ عليه الحديث وهو يصلي ويصغي إلى القارىء،
وينبهه
__________
1 "البدر المنير" 1/487.
(1/63)
إذا زل، واجتمع له من ذلك القبول التام، عند الخواص والعوام، والصيت
المنتشر، والجاه والرفعة.
وتولّى تدريس النظامية ببغداد مدة، محترماً في حريم الخلافة، مرجوعاً
إليه ثم آثر العودة إلى الوطن، واغتنم الناس رجوعه إليهم، واستفادتهم
من علمه، وتبركوا بأيامه.
وسمع الكثير من الفراوي، وفهرست مسموعاته متداول، وكان يعقد المجلس
للعامة في الأسبوع ثلاث مرات، إحداها: صبيحة يوم الجمعة، فتكلم على
عادته يوم الجمعة، الثاني عشر من المحرم سنة تسعين وخمسمائة في قوله
تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا
هُوَ} [التوبة:129].
وذكر أنها من أواخر ما نزل من القرآن، وعدد الآيات المنزلة آخراً منها:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ...} [المائدة:3]. ومنها: سورة
النصر. وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى
اللَّهِ} [البقرة: 281].
وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عاش بعد نزول هذه الآية إلا
سبعة أيام، ولما نزل من المنبر
حُم، وانتقل إلى رحمة اللَّه تعالى في الجمعة الأخرى، ولم يعش بعد ذلك
المجلس إلاَّ سبعة أيام، وهذا من عجيب الاتفاقات.
وكأنه أُعْلِمَ بالحال، وبأنه حان وقت الارتحال، ودُفن يوم السبت ولقد
خرجت من الدار بكرة ذلك اليوم، وأنا في شأنه متفكر، ومما أصابه منكسر،
إذ وقع في خلدي من غير نية، وفكر وروية:
بكت العلوم بويلها وعويلها ... لوفاة أحمدها بن إسماعيلها
كأن احداً يكلمني بذلك.
وكانت ولادته سنة: ائنتي عشرة وخمسمائة، وهو مع كونه خال والدتى، أبوها
من الرضاع أيضاً".
قال: "وابنها" المملي لهذه "الأمالي"- يعني الرافعي نفسه-: لا يخرج عن
زمرة أهل العلم، ويحشر فيهم إن شاء الله تعالى، وكذا سائر بنيها".
قال: "ثم هي- يعني والدته- في نفسها متدينة خائفة، وبما لا بد منه من
الفروض عارفة، قارئة لكتاب الله، كثيرة الخير، رقيقة القلب، سليمة
الجانب، تحمل الكل، وترغب في المعروف، وتحسن إلى اليتامى، تلي خيراً،
وتولي جميلاً ما استطاعت إليهما سبيلاً.
وكانت قد ابتليت بعدة بنات، أنفقت واسطة العمر عليهن، حتى استكملن من
أدبهن، مضين لسبيلهن فتركنها ثكلى بهن، وللَّه ما أخذ، وله ما أعطى،
ولا راد لما حكم وقضى".
(1/64)
ثم ذكر أحاديث وشعراً تسلية لوالدته- رضي الله عنها-.
وللإمام الرافعي أخ، اسمه: محمد، تفقه على أبي القاسم بن فضلان. وسمع
الحديث من أبيه. وأجاز له: ابن البَطي. ورحل إلى "أصبهان" و"الري"
و"أذربيجان" و"العراق". وسمع الحديث من: نصر الله القزاز، وابن الجوزي.
واستوطن بغداد، وولي مشارفة أوقاف "النظامية".
وكان فيه ديانة، وأمانة، وتوضع، وتودد وحسن خلق. كتب الكثير- مع ضعف
خطه-من التفسير، والحديث، والفقه. ومعرفته في الحديث تامة.
قال ابن النجار: "وكان يذاكرني بأشياء، وله فهم حسن، ومعرفة. مات في
ثامن عشرين جمادى الأولى، من سنة ثمان وعشرين وستمائة، وقد قارب
السبعين"1.
الكلام في صفاته وشيمه وأخلاقه وثناء العلماء عليه
لقد كان لهذا العالم الجليل الحظ الأكبر من ثناء العلماء عليه بذكر
صفاته وشيمه وأخلاقه، فلقد كان رحمه الله إماماً جامعاً بين العلم
والعمل، فحسنت من أجل ذلك سيرته. ودونك بعض ما يقوله عنه بعض المترجمين
له والمؤرخين لحياته. قال الإمام الذهبي في كتابه "سير أعلام النبلاء"2
هو شيخ الشافعية عالم العجم والعرب إمام الدين أبو القاسم عبد
الكريم.... الخ ثم قال: وكان من العلماء العاملين، يذكر عنه تعبد ونسك
وأحوال وتواضع، انتهت إليه معرفة المذهب.
قال النووي في "تهذيبه"3: الرافعي من الطالحين المتمكنين، كانت له
كرامات كثيرة ظاهرة.
قال أبو عمرو بن الصلاح: أظن أني لم أرَ في بلاد العجم مثله كان ذا
فنون حسن السيرة، جميل الأمر.
قال ابن السبكي في "طبقاته"4: كان الإمام الرافعي متضلعاً من علوم
الشريعة، تفسيراً، وحديثاً وأصولاً، مترفعاً على أبناء جنسه في زمانه،
نقلاً وبحثاً وإرشاداً وتحصيلاً، وأمَّا الفقه فهو
__________
1 ينظر: "البدر المنير" 1/489 وما بعدها.
2 22/252-253.
3 "التهذب" 2/264.
4 8/283.
(1/65)
فيه عُمدة المحققين وأُستاذ المصنفين، كأنما كان الفقه ميتاً فأحياه
وأنشره، وأقام عماده بعد ما أماته الجهل فأقبره، كان فيه بدراً يتوارى
عنه البدر إذا دارت به دائرته والشمس إذا ضمها أوجها، وجواداً لا يلحقه
الجواد إذا سلك طرقاً ينقل فيها أقوالاً ويخرخ أوجها فكأنما عناه
البحتري بقوله:
وإذا دجت أقلامه ثم انتحت ... برقت مصابيح الدجا في كتبه
باللفظ يقرب فهمه في بعده ... منا ويبعد نيله في قربه
حكم سحابتها خلال بيانه ... هطالة وقلبها في قلبه
كالروض مؤتلقا بحمرة نوره ... وبياض زهرته وخضرة عشبه
وكأنها والشمع معقود بها ... شخص الحبيب بدا لعين محبه
وكان رحمه الله ورعاً زاهداً تقياً نقياً طاهر الذيل مراقباً لله، له
السيرة الرضية المرضية والطريقة الزكية، والكرامات الباهرة.
قال أبو عبد الله محمد بن محمد الاشفرايني: هو شيخنا، إمام الدين،
وناصر السنة. كان أوحد عصره في العلوم الدينية، أصولاً وفروعاً، مجتهد
زمانه في المذهب، فريد وقته في التفسير، كان له مجلس بقزوين للتفسير
ولتسميع الحديث.
قال الإسنوي في "طبقاته"1: صاحب شرح "الوجيز" الذي لم يصنف في المذهب
مثله، تفقه على والده وعلى غيره، وكان إماماً في الفقه والتفسير،
والحديث والأصول، وغيرها. طاهر اللسان في تصنيفه، كثير الأدب، شديد
الاحتراز في المنقولات، ولا يطلق نقلاً عن أحد غالباً إلا إذا رآه في
كلامه، فإن لم يقف عليه فيه عبر بقوله: وعن فلان كذا، شديد الاحتراز
أيضاً في مراتب الترجيح.
قال الذهبي: يظهر عليه اعتناء قوي بالحديث وفنونه في شرح "المسند".
قال ابن قاضي شهبة2: صاحب الشرح المشهور كالعلم المنشور وإليه يرجع
عامة الفقهاء من أصحابنا في هذه الأعصار في غالب الأقاليم والأمصار،
ولقد برز فيه على كثير ممن تقدمه، وحاز قصب السبق، فلا يدرك شأوه الا
من وضع يديه حيث وضع قدمه.
قال ابن العماد... الإمام العلاّمة إمام الدين الشافعي صاحب الشرح
المشهور الكبير على المحرر..، انتهت إليه معرفة المذهب ودقائقه، وكان
مع براعته في العلم صالحاً زاهداً ذا أحوال وكرامات ونسك وتواضع.
__________
1 1/281.
2 "طبقاته" 2/75.
(1/66)
وبعد هذا يظهر ما كان عليه هذا العالم الجليل من علم وتبحر في شتى
العلوم وما كان عليه من زهد وتقى وصلاح وكرامات يحكى منها ما نقل
السبكي فقال: سمعت شيخنا شمس الدين محمد بن أبي بكر بن النقيب، يحكي أن
الرافعي فقد في بعض الليالي ما يسرجه عليه وقت التصنيف فأضاءت له شجرة
في بيته، فجلس يطالع ويكتب.
مصنفاته
فهي مصنفات شريفة عرف فضلها الأكابر، وكفر نورها المكابر، ورغم أنفه
فميسم العلاء يطوقها، ويد الأكابر تقرظها، وثناؤهم يلهج بفضلها وعلمها.
فقد بذل فيها مؤلفها جهده، ونمقها بعقله قبل يده فاقتصد ولم يسرف،
وأبدع فيها وأطرف، وأبان المبهم وعرف وهي:
1- "العزيز في شرح الوجيز" وقد قمنا بتحقيقه وإخراجه كاملاً لأول مرة.
2- "الشرح الصغير" وهي في الفقه دون "الشرح الكبير".
3- "شرح المسند" للشافعي: قال في أوله: ابتدأت في إملائه في رجب سنة
ثنتي عشرة وستمائة، وهو عقب فراغ "الشرح الكبير".
قال عنه الذهبي: يظهر عليه اعتناء قوي بالحديث وفنونه في شرح "المسند"
ونحن بصدد تحقيقه.
4- "المحمود في الفقه". لم يتمه، قال السبكي: ذُكر لي أنه في غاية
البسط، وأنه وصل فيه إلى أثناء الصلاة في ثمان مجلدات.
وقال: وقد أشار إليه الرافعي في "الشرح الكبير" في باب الحيض أظنه عند
الكلام في المتحيرة.
5- "الإيجاز في أخطار الحجاز": ذكر أنه أوراق يسيرة، ذكر فيها مباحث
وفوائد خطرت له في سفره إلى الحج.
قال السبكي: وكان الصواب أن يقول: خطرات، أو خواطر الحجاز. ولعله قال
ذلك، والخطأ من الناقل.
6- التذنيب: وهو مجلد يتعلق بالتعليق على "الوجيز" للغزالي.
7- "الأمالي الشارحة على مفردات الفاتحة": وهو ثلاثون مجلساً، أملاها
أحاديث بأسانيدها عن أشياخه على سورة الفاتحة وتكلّم عليها، ذكره صاحب
"كشف الظنون" وغيره.
(1/67)
8- "المحرر في فروع الشافعية": قال حاجي خليفة1: وهو كتاب معتبر مشهور
بينهم.
9- "التدوين في أخبار قزوين": وهو كتاب مطبوع متداول بين أهل العلم في
أربع مجلدات.
10- سواد العينين في مناقب الغوث أبي العلمين: أعني الرافعي2.
فوائد من "أمالي" الرافعي
نقل السبكي في "طبقاته" بعض ما تضمنه "أمالي" الرافعي من الفوائد،
فوجدنا من تمام الفائدة ذكرها فقال:
قال في قوله صلى الله عليه وسلم:" إن لله تسعة وتسعين اسماً، مائةً إلا
واحداً. من أحصاها دخل الجنة" إنما قال: "مائة إلا واحداً" لئلا يتوهم
أنه على التقريب، وفيه فائدة رفع الاشتباه، فقد يشتبه في الخط تسعة
وتسعون بسبعة وسبعين.
روى بسنده إلى أبي عبد الله المغربي: "من ادعى العبودية وله مراد باق
فهو كاذب في دعواه" إنما تصح العبودية لمن أفنى مراداته وقام بمراد
سيده، ليكون اسمه ما سمي به إذا دعي باسم أجاب عن العبودية، ولا يجيب
إلا من يدعوه بالعبودية، ثم أنشأ يقول:
يا عمرو ثاري عند أسماء ... يعرفه السامع والرائي
لا تدعني إلا بيا عبدها ... لأنه أشرف أسمائي
ثم أنشد الرافعي لنفسه:
سمني بما شئت وسم جبهتي ... باسمك ثم أسم بأسمائي
فسمني عبدك أفخر به ... ويستوي عرشي على الماء
وأنشد لنفسه أيضاً:
إن كنت في اليسر فاحمد من حباك به ... فليس حقا قضى لكنه الجود
أو كنت في العسر فاحمده كذلك إذ ... ما فوق ذلك مصروف ومردود
وكيفما دارت الأيام مقبلة ... وغير مقبلة فالحمد محمود
وقال: اعلم أن الناس في الرضا ثلاثة أقسام: يحسون بالبلاء، ويكرهونه،
ولكن يصبرون على حكمه، ويتركون تدبيرهم ونظرهم حبا لله تعالى؛ لأن
تدبير العقل لا ينطبق على رسوم المحبة والهوى، قال قائلهم:
__________
1 2/1611.
2 ينظر: "هدية العارفين" 5/609.
(1/68)
لن يضبط العقل إلا ما يدبره ... ولا ترى في الهوى للعقل تدبيرا
كن محسناً أو مسيئاً وابق لي أبداً ... وكن لديّ على الحالين مشكوراً
وقوم يضمون إلى سكون الظاهر سكون القلب، بالاجتهاد والرياضة، وإن أتى
البلاء على أنفسهم، بل:
يستعذبون بلاياهم كلهم ... لا ييأسون من الدنيا إذا قتلوا
ولذلك قال ذو النون الصمري: الرجاء سرور القلب بمرور القضاء، وقالت
رابعةُ: إنما يكون العبدُ راضياً إذا سرته البلية كما سرته النعمة.
وقوم يتركون الاختيار، ويوافقون الأقدار، فلا يبقى لهم تلذذ ولا
استعذاب، ولا راحة ولا عذاب، قال أبو الشيص، وأحسن:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخر عنه ولا متقدم
أجد الملامة في هواك لذيذة ... حبا لذكرك فليلمني اللوم
أشبهت أعدائي فصرت أحبهم ... إذ كان حظي منك حظي منهم
وأهنتني فأهنت نفسي عامداً ... ما من يهون عليك ممن يكرم
قال في "الإملاء"، على حديث عائشة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله رب العالمين: حمل الشافعي
ذلك فيما نقله أبو عيسى الترمذي وغيره، على التعبير على السورة، يذكر
أولها بعد آية التسمية المشتركة، كما يقال قرأت طه ويس، قال: ثم هذا
استدلال الخصوم، على أنها ليست من القرآن بهذا الحديث، لا يتضح على قول
من يذهب إلى أن التسمية في أوائل السور ليست من القرآن؛ لأن المراد من
قوله: "يستفتح القراءة" قراءة القرآن، لا مطلق القراءة، وحينئذ
فالافتتاح بالحمد للَّه رب العالمين لا ينافي قراءة البسملة أولاً، كما
لا ينافي قراءة التعوذ ودعاء الاستفتاح.
قال الرافعي: سبيل من أشرف قلبه ونور بصيرته على الضياع أن يستغيث
بالرحمن، رجاء أن يتدارك أمره بالرحمة والاصطناع، ويتضرّع بما أنشد عبد
الله بن الحسن الفقير:
لو شئت داويت قلبا أنت مسقمه ... وفي يديك من البلوى سلامته
إن كان يجهل ما في القلب من حرق ... فدمع عيني على خدي علامته
ثم روى بسنده أن سمنون كان جالساً على الشط، وبيده قضيب يضرب به فخذه
وساقه حتى تبدد لحمه، وهو يقول:
كان لي قلب أعيش به ... ضاع مني في تقلبه
رب فاردده علي فقد ... ضاق صدري في تطلبه
وأغث ما دام بي رمق ... يا غياث المستغيث به
(1/69)
وروى عن مسرور الخادم، قال: لما احتضر هارون أمير المؤمنين، أمرني أن
آتيه بأكفانه، فأتيته بها، ثم أمرني فحفرت له قبره، ثم أمر فحمل إليه،
وجعل يتأمله ويقول: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي
سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 28-29]. ثم أنشد الرافعي لنفسه:
الملك لله الذي عنت الوجو ... ه له وذلت عنده الأرباب
متفرد بالملك والسلطان قد ... خسر الذين تجاذبوه وخابوا
دعهم وزعم الملك يوم غرورهم ... فسيعلمون غداً من الكذاب
وقال في قوله صلى الله عليه وسلم: "إنه ليغان على قلبي فاستغفر الله في
كل يوم مائة مرة" : مم كان يتوب النبي صلى الله عليه وسلم؟ وعلى مَ
يحمل الغين في قلبه؟ افترق الناس فيه فرقتين: فرقة أنكرت الحديث،
واستعظمت أن يغان قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يستغفر مما
أصابه، وعلى ذلك جرى أبو نصر السراج، صاحب كتاب "اللمع" في التصوف،
فروى الحديث، وقال عقيبه: هذا حديث منكر.
وأنكر علماء الحديث استنكار السراج، وقالوا: الحديث صحيح، وكان من حقه
أن لا يتكلم فيما لا يتعلم. والمصححون له تحزبوا، فتحرج من تفسيره
متحرجون.
عن شعبة: سأل الأصمعي: ما معنى "ليغان على قلبي"؟ فقال: عمن يروى ذلك؟
قلت: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لو كان من غير قلب النبي صلى
الله عليه وسلم فسرته لك، وأما قلب النبي صلى الله عليه وسلم فلا أدري،
فكان شعبة يتعجب منه.
وعن الجنيد: لو لا أنه حال النبي صلى الله عليه وسلم لتكلمت فيه، ولا
يتكلم على حال إلا من كان مشرفاً عليها، وجلت حاله أن يشرف على نهايتها
أحد من الخلق وتمنى الصديق رضي الله عنه، مع علو مرتبته أن يشرف عليها،
فعنه: ليتني شهدت ما استغفر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذه طريقة المصححين، وتكلم فيه آخرون على حسب ما انتهى إليه فهمهم،
ولهم منهاجان: حمل الغين على حالة جميلة ومرتبة عالية، اختص بها النبي
صلى الله عليه وسلم، والمراد من استغفاره خضوعه وإظهار حاجته إلى ربه،
أو ملازمته للعبودية، ومن هؤلاء من نزل الغين على السكينة والاطمئنان.
وعن أبي سعيد الخزاز: الغين: شيء لا يجده إلا الأنبياء وأكابر
الأولياء، لصفاء الأسرار، وهو كالغين الرقيق الذي لا يدوم.
والثاني: حمل الغين على عارض يطرأ، غيره أكمل منه، فيبادر إلى
الاستغفار إعراضاً، وعلى هذا كثُرت التنزيلات والتأويلات، فقد كان سبب
الغين النظر في حال الأمة واطلاعه على ما يكون منهم، فكان يستغفر لهم.
وقيل: سببه ما يحتاج إليه من التبليغ ومشاهدة الخلق، فيستغفر منه ليصل
إلى صفاء وقته مع الله. وقيل: ما كان يشغله من تمادي قريش وطغيانهم.
وقيل: ما كان يجد في نفسه من محبة إسلام أبي طالب. وقيل: لم يزل رسول
الله صلى الله عليه وسلم مترقياً من رتبة إلى رتبة، فكلما رقي درجة
والتفت إلى ما خلفها وجد منها
(1/70)
وحشة لقصورها بالإضافة إلى التي انتهى إليها، وذلك هو الغين فيستغفر
اللَّه منها، وهذا ما كان يستحسنه والدي رحمه الله ويقرره. انتهى كلام
الرافعي، ثم أنشد لغيره هذا [البسيط]:
والله، ما سهري إلا لبعدهم ... ولو أقاموا لما عذبت بالسهر
عهدي بهم ورداء الوصل يشملنا ... والليل أطوله كاللمح بالبصر
والآن ليلي إذ ضنوا بزورتهم ... ليل الضرير فنومي غير منتظر
فوائد من شرح المسند للرافعي
ذكر فيه أن الأفضل لمن يشيع الجنازة أن يكون خلفها بالاتفاق، والذي
أوقعه في ذلك الخطابي، فإنه كذلك قال، وقد ذكر الرافعي نفسُه في شرحيه
أنه يكون أمامها، وحكى ما سبق ورواية عن أحمد.
ومن شعر الرافعي مما ليس في "الأمالي"، أنشدنا قاضي القضاة جلال الدين
محمد بن عبد الرحمن القزويني، في كتابه عن والده، عن أبي القاسم
الرافعي، رحمه الله، أنه أنشده لنفسه [الطويل]:
تنبه فحق أن يطول بحسرة ... تلهف من يستغرق العمر نومه
وقد نمت في عصر الشبيبة غافلا ... فهب نصيح الشيب قد جاء يومه
ومن شعر الرافعي أيضاً [الطويل]:
أقيما على باب الرحيم أقيما ... ولا تنيا في ذكره فتهيما
هو الرب من يقرع على الصدق بابه ... يجده رؤوفاً بالعباد رحيما
وذكر صاحب البدر المنير من شعره:
إلى رضى الربّ نسوق الرضا ... بالله ربا فارض فيما قضى
ولا تكن عن شأنه غافلاً ... فالوقت سيف صارم منتضى
ومنه أيضاً:
العالمون ضعيفهم وقويهم ... لجلال عزته سجود ركع
لو كلفوا أن يعبدوه عمرهم ... حق العبادة لحظة لتكعكعوا
ومنه:
سواد الشباب كليل مضى ... وقد نمت فيه لقى غافلاً
وصبح المشيب بدا فانتبه ... فعما قليل ترى آفلا
ومنه:
من يستعن بالله سبحانه ... ويطلب العوذة مما يعين
(1/71)
يعنه بالفضل على ما به ... يقر عينا ويفر اللعين
فحسبنا الله لما نابنا ... إياه ترجو وبه نستعين
ومنه:
ليس للدنيا استقامه ... ولمن فيها أقامه
هي إلمامة طيف ... وانتشاء من مدامه
هي مثل البرق يبدو ... من تجاويف غمامه
نائل ما أنت فيه ... من هوان وكرامه
حاصل المأمول منها ... تبعات وغرامه
تعب في الحال صعب ... ثم في العقبى ندامه
جاف عنها الجنب صفحا ... تنج منها بسلامه
ومنه:
أفدي الذين سقوني كأس حبهم ... وإن جفوني وإن جاروا وإن غدروا
أليس قد جعلوني أهل ودهم ... ففي فؤادي منه الورد والصدر
أليس لم يسلبوني ما ألذ به ... ذكرا وحبا، وإضمارا وقد قدروا
ومنه:
صافيتك لا تشب بمطل، وبلي ... ميعادك، واحتكم بما شئت علي
أتمم نعما أنت تطولت بها ... منك اليد، والقصور مني وإلي
ومنه:
تيممت بابك لا غيره ... فما الخير عندي سوى خيركم
لئن لم أصب منكم وابلا ... فما أرتجي الطل من غيركم
ومنه:
نفسي فدا لهم خيبوا أم تولوا ... تحولوا عن حالهم أو ثبتوا فخولوا
إن حرموا فطالما بفضلهم تطولوا ... فتحت عيني بهم، فما عنهم محول
إعراضهم إن أعرضوا وشددوا وهولوا ... وعرضوني للنوى بما علي طولوا
ليس بشان عنهم، إن الحبيب الأول ... عليهم في كل ما أقصده المعول
ومنه:
قولوا لهم ثم قولوا ... ما عنهم لي عدول
أحملوني أموراً ... تنهد منها العقول
أو تولوني بخير ... يطول فيه الفضول
(1/72)
لا أجعل القلب رهنا ... فالرهن مما يزول
وقف عليهم فؤادي ... والوقف ما لا يحول
ومنه:
قد ذل من منه ملا ... وبعد ذلك ضلا
وفاز من فيه يسعى ... وخاب من عنه ولى
من استقل سواه ... ففي هداه استقلا
والمعرض المتواني ... نوله ما تولى
وإن خضعت تراه ... بفضله يتجلى
يا رب عبدك يرجو ... من ظل فضلك ظلا
وأنت رب رحيم ... تسدي الجميل فهلا
ومنه:
عبد الكريم المرتجي رحمة ... تكنفه من كل أرجائه
أملى ثلاثين حديثا على ... ما وفق الله بنعمائه
ليس يزكيها ولكنه يقول ... قول الحائر التائه:
فاز أبو القاسم يا رب لو ... قبلت حرفين من إملائه
شيوخ الإمام الرافعي
أما شيوخه فإنهم خير سلف للخلف، فهم أعلام الهدى، ومصابيح الدجى،
ومنجاة من الروى، فبهم اشتهر الدين، وبه اشتهروا، وأقاموا بفضل الله
السنة، وهدموا البدعة، فسعت بذكرهم الركبان، وغشت مناقبهم البلدان،
فتهافت الناس عليهم، من كل صقع شاسع ومكان.. ولا غرو فالعالم الغزير،
والألمعي الكبير تمين أن تقوم له الدنيا فلا تقعد، ويرحم الله الألبيري
لما ذكر العلماء فقال:
إن أولي العلم بهذه الفتن ... تهيبوها من قديم الزمن
فاستعصموا الله وكان التقى ... أوفى لهم فيها من أوفى الخبن
فهم رعاة الله في أرضه ... حقا بهم تدفع عنا الفتن
فهنيئاً لعالمنا أن ينتسب إلى هالة النور من كوكبة العلماء هذه، وهي
الزاخرة الفاخرة ذات الشهرة السائرة.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جمعتنا يا جرير المجامع
ودونك سرداً لبعض من كوكبة العلماء الأخيار.
(1/73)
1- والد الرافعي 1
أبو الفضل، محمد بن عبد الكريم بن الفضل، والد الإمام الرافعي، تفقه
ببلده قزوين على ملكداد بن علي وغيره، ثم قدم بغداد فتفقه بالنظامية
إلى أبي منصور بن الرزاز، ثم رحل إلى نيسابور فتفقه بنظاميتها على:
والدي رحمه الله تعالى ممن خصّ بعفة الذيل، وحسن السيرة، والجد في
العلم والعبادة، وذلاقة اللسان، وقوّة الجنان والصلابة في الدين،
والمهابة عند الناس، والبراعة في العلم حفظاً وضبطاً.
توفي في شهر رمضان سنّة ثمانين وخمسمائة، وهو في عشر السبعين، انتهى
كلامه.
2- أبو الفتح بن البطي 2
أبو الفتح بن البطي الحاجب محمد بن عبد الباقي بن أحمد بن سليمان
البغدادي مسند العراق وله سبع وثمانون سنّة أجاز له أبو نصر الزينبي
وتفرد بذلك وبالرواية عن البانياسي وعاصم بن الحسن وعلي بن محمد بن
محمد الأنباري والحميدي وخلق وكان ديناً عفيفاً محباً للرواية صحيح
الأصول.
قال ابن النجار: كان حريصاً على نشر العلم، صدوقاً حصل أكثر مسموعاته
شراء ونسخاً، ووقفها.
توفي يوم الخميس سابع وعشرين جمادى الأولى سنّة أربع وستين وخمسمائة.
3- أبو سليمان الزبيري 3
أحمد بن حسنوية بن حاجي أبو سليمان الزبيري، وهو على ما رأيت بخطه أحمد
بن حسنوية بن حاجي بن الحسن، ويقال له: حسنوية بن القاسم بن عبد الرحمن
بن سهل بن السري بن سليمان بن عباد بن عبد الملك بن يحيى بن عباد بن
عبد الله بن الزبير بن العوام رضي الله عنه، إمام نسيب متفنن، فقيه
مناظر عارف بالعربية شاعر، سمع القاضي أبا الفتح إسماعيل بن عبد
الجبار، وإسماعيل بن محمد المخلدي والأستاذ الشافعي بن داؤد
__________
1 تنظر ترجمته في: "طبقات الإسنوي" 1/280 "2523" "طبقات الشافعية لابن
السبكي" 8/283، "الوافي بالوفيات" 3/280.
2 تنظر ترجمته في: "سير أعلام النبلاء" 20/481- 484، و"شذرات الذهب"
4/213- 214، و "المنتظم" 10/229، "العبر" 4/188، و"الوافي بالوفيات"
3/29.
3 تنظر ترجمته في: "التدوين في أخبار قزوين" 2/160- 163، و"طبقات
الشافعية لابن السبكي" 8/283.
(1/74)
وغيرهم.
روى سنن أبى عبد اللَّه بن ماجة عن أبي منصور المقومي بالإجازة، وقد
أجاز له رواية جميع مسموعاته، سنة ثلاث وثمانين، وأربعمائة، وعن جده
لأمه الواقد بن الخليل، وقد أجاز له إجازة مطلقة وهو يروي السنن عن أبى
الحسن علي بن الحسن بن إدريس عن أبي الحسن القطان، وروى كتاب يوم وليلة
لأبي بكر السني عن أبيه عن الأستاذ الشافعي بن داؤد المقرىء وعن
إسماعيل بن محمد المخلدي بروايتهم عن أبى حفص هبة الله بن زاذان، عن
عمه عنه.
توفي الإمام أبو سليمان الزبيري سنة أربع وستين وخمسمائة، وهو ابن ست
وثمانين، وكانت ولادته على ما حكى الحافظ علي بن عبيد الله بن بابويه
عنه في المحرم، سنة ثمانين وأربعمائة.
4- أبو العلاء الهمذاني 1
الحسن بن أحمد بن الحسن بن أحمد بن سهل العطار: شيخ همذان، وإمام
العراقيين في القراآت، وله باع في التفسير والحديث والأنساب والتواريخ،
كان لا يغشى السلاطين ولا يقبل منهم شيئاً. ولا مدرسة ولا رباطاً، ولا
تأخذه في الله لومة لائم، مع التقشف في الملبس. له تصانيف، منها: "زاد
المسير" في التفسير، خمسون جزءاً، و "الوقف والابتداء" في القراآت،
و"معرفة القراءة"، و"الهادي في معرفة المقاطع والمبادي".
وقد ولد سنة ثمان وثمانين وأربعمائة وتوفي سنة تسمع وستين وخمسمائة.
5- عبد الله بن أبي الفتوح 2
عبد الله بن أبي الفتوح بن عمران أبو حامد من الأئمة المذكورين من
أقرانه، وكان من شركاء والدي رحمه الله ببغداد وبنيسابور، تفقه عليه
جماعة، في أول عوده من خراسان، وفي آخر أمره وعمره حين تولى التدريس في
مدرسة القاضي عمر بن عبد الحميد الماكي، وسمع الكثير، بقزوين وبغداد
ونيسابور، وغيرهما.
قال الرافعي: وقرأتُ عليه جامع أبي عيسى الترمذي بتمامه، بروايته عن
أبي القاسم الكرخي
__________
1 تنظر ترجمته في: "الأعلام" 2/181، و"طبقات الشافعية لابن السبكي"
8/283، و"غاية النهاية" 1/204.
2 تنظر ترجمته في: "التدوين في أخبار قزوين" 3/233- 234، و"طبقات
الشافعية لابن السبكي" 8/283.
(1/75)
بإسناده، وسمع سنن عبد الرحمن النسائي من سعد الخير بن محمد الأنصاري،
وأبي الحسين علي بن أحمد بن محمويه اليزدي، بروايتهما عن الدوري وتوفي
سنّة خمس وثمانين وخمسمائة، في ذي القعدة.
تلاميذ الإمام الرافعي أحمد بن الخليل
أحمد بن الخليل بن سعادة بن جعفر بن عيسى المهلبي، قاضي القضاة شمس
الدين، أبو العباس، الخوبي، ولد بخوي في شوال سنة ثلاث وثمانين
وخمسمائة، ودخل خراسان وقرأ بها الأصول على القطب المصري صاحب الإمام
فخر الدين، وقيل: بل على الإمام نفسه.
قال السبكي في "الطبقات الكبرى": وقرأ الفقه على الرافعي، وقرأ علم
الجدل على علاء الدين الطوسي، وسمع الحديث من جماعة. وولي قضاء القضاة
بالشام. وله كتاب في الأصول، وكتاب فيه رموز حكمية، وكتاب في النحو،
وكتاب في العروض. وفيه يقول الشيخ شهاب الدين أبو شامة:
أحمد بن الخليل أرشده اللَّـ ... ـه كما أرشد الخليل بن أحمد
ذاك مستخرج العروض وهذا ... مظهر السر منه والعود أحمد
قال الذهبي: كان فقيهاً، وإماماً، مناظراً، خبيراً بعلم الكلام،
أستاذاً في الطلب والحكمة، ديناً، كثير الصلاة والصيام.
توفي في شعبان سنة سبع وثلاثين وستمائة.
المنذري
عبد العظيم بن عبد القويّ بن عبد الله، أبو محمد، زكيّ الدين المنذري:
عالم بالحديث والعربية، من الحفاظ المؤرخين له "الترغيب والترهيب"
و"التكملة لوفيات النقلة" أجزاء منه، و"أربعون حديثاً رسالة، و"شرح
التنبيه" و"مختصر صحيح مسلم" في الهند مع شرحه لصديق حسن خان، و"مختصر
سنن أبي داود" أصله من الشام، تولى مشيخة دار الحديث الكاملية
"بالقاهرة" وانقطع بها نحو عشرين سنة، عاكفاً على التصنيف والتخريج
والإفادة والتحديث.
مولده سنة 581 هـ، وتوفي سنة 656 هـ بمصر.
(1/76)
العزيز في شرح الوجيز المسمى بـ "الشرح الكبير" وثناء العلماء عليه
لقد اشتهر الرافعي بأنه صاحب الشرح، والمقصود منه الشرح الكبير، ولقد
سماه "العزيز" وتوزع بعضهم عن إطلاق لفظ "العزيز" مجرداً على غير كتاب
الله، فقال: "الفتح العزيز في شرح الوجيز" قاله الإمام السبكي في
"طبقاته" ولعله أشار بذلك لتسمية الذهبي له في "سير أعلام النبلاء"
الفتح العزيز في شرح الوجيز، وقد رأينا أن الأفضل تسمية الكتاب بما
سماه المصنف بـ "العزيز في شرح الوجيز".
قال النووي في كتابه "روضة الطالبين". وكانت مصنفات أصحابنا رحمهم الله
في نهاية من الكثرة فصارت منتشرات، مع ما هي عليه من الاختلاف في
الاختبارات، فصار لا يحقق المذهب من أجل ذلك إلا أفراد من الموفقين
الغواصين المطلعين أصحاب الهمم العاليات، فوفق الله سبحانه وتعالى- وله
الحمد- من متأخري أصحابنا من جمع هذه الطرق المختلفات، ونقّح المذهبَ
أحسن تنقيح، وجمع منتشره بعبارات وجيزات، وحوى جميع ما وقع له من الكتب
المشهورات، وهو الإمام الجليل المبرّز المتضلع من علم المذهب أبو
القاسم الرافعي ذو التحقيقات، فأتى في كتابه "شرح الوجيز" بما لا كبير
مزيد عليه من الاستيعاب مع الإيجاز والإتقان وإيضاح العبارات، فشكر
الله الكريم له سعيه، وأعظم له المثوبات، وجمع بيننا وبينه مع أحبابنا
في دار كرامته مع أولي الدرجات.
قال ابن قاضي شهبة: من تصانيفه: "العزيز في شرح الوجيز" الذي يقول فيه
النووي بعد وصفه: واعلم أنه لم يصنف في مذهب الشافعي رضي الله عنه ما
يحصل لك مجموع ما ذكرته أكمل من كتاب الرافعي ذي التحقيقات، بل اعتقادي
واعتقاد كل مصنف أنه لم يوجد مثله في الكتب السابقات ولا المتأخرات
فيما ذكرته من المقاصد المهمات.
قال ابن هداية الله: صاحب "العزيز" الذي لم يصنف مثله في المذهب.
هذا، وهو الكتاب الذي قام الحافظ بن حجر بتخريج أحاديثه في كتابه الذي
بين أيدينا "تلخيص الحبير".
وفاته
قال ابن خلكان: توفي في ذي القعدة سنة ثلاث وعشرين وستمائة، وكان عمره
حينئذ ست وستين سنة.
(1/77)
حياة ابن حجر العسقلاني رحمه الله
...
حياة ابن حجر 1
نسبه ومولده: هو شهاب الدين، أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن
علي
__________
1 استفدنا أكثر هذه الترجمة من الدراسة التي قدمها الدكتور شاكر محمود
عبد المنعم عن الحافظ ابن حجر فلتنظر وجزاه الله خيراً، وانظر "رفع
الإصر عن قضاة مصر" "73"، و"معجم المؤلفين" 2/20،"الرسالة المستطرفة
"121"، طبقات الحفاظ 547، حسن المحاضرة، 1/363 "ذيل تذكرة الحفاظ" 326،
"شذرات الذهب" 7/270، "الضوء اللامع" 2/36، "ذيل طبقات الحفاظ" 380،
"نظم العقيان" "45"، "التاريخ المكلل" 362، "طبقات الحفاظ" 547، "مقدمة
كتاب أبناء الغمر" "7"، "معجم طبقات الحفاظ" 55، 321، "فهرس الفهارس"
11/120، "الجامع في الرجال" 136، "الكنى والألقاب" 1/261، "البدر
الطالع" 1/87، "القلائد الجوهرية" 331، "مفتاح السعادة" 1/209،
"المؤرخين في مصر" 17، "عقود الجوهر" 188، "كشف الظنون" 7، 8، 12،....
"إيضاح المكنون" 1/13، "الأعلام" 1/179، "هدية العارفين" 1/128.
(1/77)
ابن محمود بن أحمد بن حجر الكناني، العسقلاني، الشافعي، المصري المولد
والمنشأ والدار، والوفاة، القاهري.
اختلفت المصادر في اسم جدّه الرابع، فتارة ذكر محمود، وتارة أحمد،
والراجح أحمد كما في الترجمة التي كتبها هو لنفسه، كما أن السخاوي أثبت
النسب المذكور وقال: هذا هو المعتمد في نسبه، ثم إن السّخاوي أشار إلى
الاختلاف في نسبه فقال: "لا أذكر أدناه... إلا ما قرأته بخط أصحابنا بل
وبخط المقريزي، وكان عمدته بعد أحمد أحمديل فإنني لا أعلمه، ثم رأيته
بخط صاحب الترجمة نفسه في أجزاء من نسخة من صفة النبي صلى الله عليه
وسلم كما وجد نسبه بخط قريبه الزين شعبان بإثبات أحمديل وإسقاط محمود.
وينسب إليه القول: "إن نسبه يقرأ طرداً وعكساً ولا يتهيأ إلا بتأخير
محمود عن أحمد وبإسقاطه".
فإن كان قال ذلك فهو على سبيل التندر لما هو معلوم بأن مفهوم النسب لا
يعني سبعة أسماء أو ثمانية لكي يقال: إنه يقرأ طرداً وعكساً.
وفي "الدررِ الكامنة" ذكر عم والده، فقال: عثمان بن محمد بن علي بن
أحمد بن محمود، وكذلك في كتابه "رفع الإصر" وفى أول كتابه "إنباء
الغمر" بزيادة أحمد بعد محمود بحيث صار محمود بين أحمدين، لكنه خالف
ذلك في كتابه "تبصير المنتبه بتحرير المشتبه" وكذلك في ترجمة والده في
القسم الثاني من معجم شيوخه، فإنه قال: علي بن محمد بن محمد بن علي بن
محمود بن أحمد بن حجر العسقلاني.
كما ورد اسم أبيه عبيد الله في موضع واحد وهذا وهم وأوضح البقاعي وابن
خليل أن الحافظ بن حجر ذكر طرفاً من نسبه في استدعاء فقال [من الكامل]:
من أحمد بن عليٍّ1 بن محمد بـ ... ـن محمد بن علي الكناني المحتد
ولجد جد أبيه أحمد لقبوا ... حجرا وقيل: بل اسم والد أحمد2
وبمصر مولده وأصل جدوده ... من عسقلان المقدسية قد بدي
__________
1 التنوين لضرورة الشعر.
2 الكسر لضرورة الشعر.
(1/78)
وكان يلقب "شهاب الدين" ويكنى "أبا الفضل" وكناه شيخه العراقي والعلاء
بن المحلّى "أبا العباس"، كما كني أبا جعفر، غير أن كنيته الأولى "أبو
الفضل"- وهي التي كناه بها والده- هي التي ثبتت وصار معروفاً بها.
نسبتاه:
1- الكناني: نقل السخاوي عن خط ابن حجر أنه كناني الأصل، نسبه إلى
قبيلة "كِنَانة".
وقال الحافظ ابن حجر عن والده: "رأيت بخطه أنه كِنَاني النسب وكان
أصلهم من عسقلان".
2- العسقلاني: نسبة إلى "عسقلان" وهي مدينة بساحل الشام من فلسطين،
والظاهر أن القبيلة التي ينتمي إليها الحافظ ابن حجر كانت قد استقرت في
عسقلان، وما جاورها إلى أن نقلهم "صلاح الدين الأيوبي" عندما خربها ما
بين "580- 583 هـ" على أثر الحروب الصّليبية.
وقال ابن حجر [من الكامل]:
وبمصر مولده وأصل جدوده ... من عسقلان المقدسية قد بدي
اشتهاره بابن حجر:
لقد اشتهر بـ "ابن حجر" واختلفت المصادر في اعتباره اسماً أو لقباً،
وإذا كان لقباً هل هو لقب أحد أجداده فطغى على الحائلة كلها؟ أم أنه
لقب أو مهنة أو صناعة؟.
قال السخاوي: هو لقب لبعض آبائه، وفي موضع آخر قال: هو لقب لأحمد
الأعلى في نسبه، وقيل: بل هو اسم لوالد أحمد المشار إليه. إن هذا الرأي
يستند إلى الاستدعاء الذي كتبه الحافظ ابن حجر بهيئة شعره السابق، وعلى
الرغم من الغموض الذي يكتنفه فهو الراجح. وذهب بعضهم إلى القول بأنه
نسبة إلى آل حجر وهم قوم يسكنون الجنوب الآخر على بلاد الجريد وأرضهم
قابس وفي شرح ابن سلطان القاري على "توضيح النّخبة" أن ابن حجر هو لقب
وإن كان بصيغة الكنية1.
مولده:
كان مولده في شعبان سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة على شاطىء النيل بمصر
القديمة وقال [من الكامل]:
شعبان عام ثلاثة من بعد سبع ... مائة وسبعين اتفاق المولد
__________
1 ابن حجر دراسة ص 63 وما بعدها.
(1/79)
وكان المنزل الذي ولد فيه يقع بالقرب من دار النحاس ولبث فيه إلى أن
تزوج بأم أولاده، فسكن بقاعة جدها منكوتمر المجاورة لمدرسته
"المنكوتمرية" داخل باب القنطرة بالقرب من حارة بهاء الدين واستمر بها
حتى مات.
وبينا نجده لا يشير إلى تاريخ يوم ولادته، نلاحظ اختلافاً بين مترجميه
في تحديدهم لتاريخ ذلك اليوم فذكره البقاعي والسيوطي في الثاني عشر من
شعبان، وذكر ابن فهد وابن طولون: في الثالث عشر من شعبان كما ذكره ابن
تغري بردي والسخاوي في الثاني والعشرين من شعبان على أن الشوكاني اعتبر
مولده في الثاني من شعبان وهذا بعيد الاحتمال بسبب كونه متأخراً أخذ عن
الذين سبقوه وفي هذه الحالة لا يؤمن التحريف.
ويظهر مما فات أن يوم مولد ابن حجر ينحصر ما بين الثاني عشر والثاني
والعشرين من شعبان سنّة 773هـ أي بين الثامن عشر من شباطو الثامن
والعشرين منه من سنّة 1372م.
نشأته وأسرته:
نشأ الحافظ ابن حجر يتيماً- كما عبر هو عن نفسه- إذ مات أبوه في رجب
سنة سبع وسبعين وسبعمائة، وماتت أمه قبل ذلك وهو طفل.
وقال: "تركني ولم أكمل أربع سنين، وأنا الآن أعقله كالذي يتخيل الشيء
ولا يتحققه، وأحفظ عنه أنه قال: كنية ولدي أحمد أبو الفضل"، ولم يكن من
يكفله، وكان والده قد أوصى قبل وفاته بولده اثنين من الّذين كانت بينه
وبينهم مودّة ويبدو أن علياً كان حفيّاً بولده أحمد، فهو الذي كناه
واصطحبه عندما حج وزار بيت المقدس وجاور، ويظن الحافظ ابن حجر أن أباه
أحضره في مجاورته مجالس الحديث وسمع شيئاً ما، غير أن المنية اخترمته
ولم يسعد بولده الذي صار له فيما بعد شأن عظيم.
وأصبح اليتيم في وصاية زكي الدين أبي بكر بن نور الدين علي الخروبي،ّ
وكان تاجراً كبيراً بمصر، وورث مالاً كثيراً وأصبح رئيساً للتجار، كما
أوصى به والده العلامة شمس الدين بن القطان الذي كان له بوالده
اختصاصاً لكنه لم ينصح له في تحفيظه الكتب وإرشاده إلى المشايخ
والاشتغال حتى أنه كان يرسل بعض أولاده إلى كبار الشيوخ... ولا يعلمه
بشيء من ذلك.
وقال عن ابن حجر: وكان له اختصاص بأبي فأسند إليه وصيته فلم يحمد
تصرفه.
وتشير المصادر إلى أن نشأة الحافظ ابن حجر كانت برغم ذلك- في غاية
العفة والصيانة والرياسة، وأن الخروبيّ المذكور لم يأل جهداً في رعايته
والعناية بتعليمه فكان يستصحبه معه عند مجاورته في مكة، وظل يرعاه إلى
أن مات سنّة 787هـ وكان الحافظ ابن حجر قد راهق ولم تعرف له صبوة ولم
تضبط له زلّة.
(1/80)
ولم يدخل الكُتّاب حتى أكمل خمس سنين فأكمل حفظ القرآن الكريم وله تسع
سنين ومن الذين قرأ عليهم في المكتب شمس الدين بن العلاف الذي ولي حسبة
مصر وقتاً وغيره.
وأكمل حفظه للقرآن على صدر الدين محمد بن محمد بن عبد الرزاق السفطي،
وكان الاتجاه الثقافي السائد آنذاك يقتضي من الذي يستظهر القرآن أن
يصلي بالناس إماماً في صلاة التراويح في ليالي شهر رمضان، غير أن هذه
الفرصة لم تتهيأ لابن حجر الصّبي النّابه الذي حفظ القرآن ولم يزل في
التاسعة من عمره، وهذه في الحقيقة مسألة شرعية حيث لا تجزىء صلاة
المؤتمين إن لم يكن إمامهم بالغاً، ومع الاختلاف النسبي في تحديد سن
البلوغ، فإن السنّة الثانية عشرة من عمر الصبي كانت تتيح له على ما
يظهر أن يصلي إماماً بالمسلمين إن هو حفظ القرآن الكريم، فكان عليه أن
ينتظر بلوغ هذه السن.
وفي أوّل سنة 783 اشتغل بالإعادة، وفي سنّة 785 أكمل الحافظ ابن حجر
اثنتي عشرة سنة من عمره، ومن حسن حظه أن يكون متواجداً حينئذ مع وصية
الزكي الخرّوبي في مكة في تلك السنة فصلى التراويح هناك.
ويمكن تصور بوادر نبوغه وشجاعته، فبقدر ما كانت مفخرة له كصبي يتقدّم
إماماً بالمسلمين في بيت الله الحرام فإنها كانت لحظة حاسمة وحرجة
اجتازها بثبات وحسن أداء، فكانت الخيرة له في ذلك كما قال، وكان الحج
يومئذ يوم الجمعة فحج وجاور في الحرم الشريف ثم صلّى بعد ذلك بالقدس.
ويظهر من استقراء تراجم الذين عاشوا في عصر الحافظ ابن حجر أن تقليداً
ثقافياً كان يسود بين أوساط التلاميذ الذين يدخلون بالكتّاب وذلك
بإلزام التلاميذ بالتدرج في حفظ بعض مختصرات العلوم والكتب وسماع بعضها
الآخر، وهي التي اتفق العلماء آنذاك اعتبارها أساساً في بناء ثقافة
طلاب العلم، وكان حفظها أو سماعها يتم بإشراف أساتذة كفاة بارزين في
حقول اختصاصهم أو ما يقرب منها.
وإذا كانت ثقافة الحافظ ابن حجر تقليدية في أسلوبها فهي ليست كذلك في
مكوّناتها، نظراً لقائمة الكتب المهمة التي كوّنت ثقافته بادىء ذي بدء.
وبعد أن حفظ القرآن الكريم ظهرت مخايل الذكاء الفطري جلية عليه ما لبث
أن استكملها بالتتبع والتحصيل حتى صار حافظ عصره وشيخ الإسلام.
وحفظ بعد رجوعه مع الخروبي إلى مصر سنّة 786 "عمدة الأحكام" للمقدسي،
و"الحاوي الصّغير" للقزويني و"مختصر ابن الحاجب" الأصلي في الأصول،
و"ملحة الإعراب" للهروي، و"منهج الأصول" للبيضاوي وألفيّة العراقي
وألفيّة ابن مالك، والتنبيه في فروع الشافعية للشيرازي وتميز بين
أقرانه بسرعة الحفظ فأشار مترجموه إلى أنه حفظ سورة
(1/81)
مريم في يوم واحد، وكان يحفظ الصحيفة من الحاوي الصغير في ثلاث مرات
يصححها ويقرؤها على نفسه ثم يقرؤها أخرى ثم يعرضها حفظاً، وكانت له
طريقته الخاصة في الحفظ، حدث عنها تلامذته فهو لم يكن يحفظ بالدرس،
وإنما بالتأمّل، وصرف همته نحو ما يروم حفظه، وقد وصف السّخاوي هذه
الطريقة بأنها طريقة الأذكياء.
وسمع "صحيح البخاري" سنة 785 على مسند الحجاز عفيف الدين عبد الله
النشاوري، وكأنه نسي تفاصيل سماعه منه، لكنه كان يتذكر أنه لم يسمع
جميع الصحيح، وإنما له فيه إجازة شاملة وقد بين ذلك ابن حجر بقوله:
"والاعتماد في ذلك على الشيخ نجم الدين المرجاني فإنه أعلمني بعد دهرٍ
طويل بصورة الحال فاعتمدت عليه وثوقاً به".
وقرأ بحثاً في عمدة الأحكام على الحافظ الجمال بين ظهيرة عالم الحجاز
سنة 785هـ، وكان عمره اثنتي عشرة سنة.
واجتهد في طلب العلم فاهتم بالأدب والتاريخ وهو ما يزال في المكتب فنظر
في التواريخ وأيام الناس، واستقر في ذهنه شيء من أحوال الرواة، وكان
ذلك بتوجيه رجل من أهل الخير سماه ابن حجر للسخاوي إلا أن السخاوي
نسيه.
وسمع في فتوته من المُسنِد نجم الدين أبي محمد عبد الرحيم بن رزين بن
غالب "صحيح البخاري" بقراءة الجمال بن ظهيرة سنة ست وثمانين وسبعمائة
بمصر، وفاته شيء يسير، كما سمع الصحيح أيضاً من أبي الفرج عبد الرحمن
بن أحمد بن المبارك الغزي وغيرهما.
وبلغ به الحرص على تحصيل العلم مبلغاً جعله يستأجر أحياناً بعض الكتب،
ويطلب إعارتها له، يبرز في هذا المجال من بين شيوخه بدر الدين البشتكي
الشاعر المشهور الذي أعاره جملة من الكتب منها كتاب "الأغاني" لأبي
الفرج الأصبهاني وغيره.
ويبدو من خلال الاستقراء أن فتوراً حصل في نشاطه الثقافي استمر إلى أول
سنة تسعين وسبعمائة، اشتغل في هذه المدة بالتجارة فنشأ في وسط تجاري
لأن جده وأعمامه كانوا تجاراً، وكان وصيه الخروبيّ رئيساً للتجار في
مصر.
ولعل لموت الخرّوبي سنة 787هـ أثراً في فتور ابن حجر واشتغاله بالتجارة
حيث فقد من كان يحثه على الاشتغال بالعلم، وهو في مرحلة يحتاج فيها إلى
ذلك، كما ترتب عليه أن يكفل نفسه وينهض بأعباء الحياة، وقد يتضح ذلك من
قول السخاوي، ولو وجد من يعتني به في صغره لأدرك خلقاً ممن أخذ عن
أصحابهم.
في سنة 790 هـ أكمل السّابعة عشرة من عمره، وحفظ فيها القرآن الكريم
وكتباً من مختصرات العلوم، وقرأ القراءات تجويداً على الشهاب أحمد
الخيوطي، وسمع صحيح
(1/82)
البخاري على بعض المشايخ كما سمع من علماء عصره البارزين واهتم بالأدب
والتاريخ.
وقد لازم حينئذ أحد أوصيائه العلامة شمس الدين محمد بن القطان المصري،
وحضر دروسه في الفقه والعربية والحساب وغيرها، وقرأ عليه شيئاً من
الحاوي الصغير فأجاز له ثم درس ما جرت العادة على دراسته من أصل وفرع
ولغة ونحوها وطاف على شيوخ الدراية.
ولما بلغ التاسعة عشرة من عمره نظر في فنون الأدب، ففاق أقرانه فيها
حتى لا يكاد يسمع شعراً إلا ويستحضر من أين أخذ ناظمه، وطارح الأدباء.
وقال الشعر الرّائق والنثر الفائق، ونظم المدائح النبوية والمقاطيع.
وتمثل سنة 793 منعطفاً ثقافياً في حياة ابن حجر، فمن هذه الثقافة
العامة والسعة، واجتهاده في الفنون التي بلغ فيها الغاية القصوى أحس
بميل إلى التخصص فحبّب الله إليه علم الحديث النبوي فأقبل عليه بكليته.
وأوضحت المصادر أن بداية طلبه الحديث كان في سنة 793 هـ وغير أنه لم
يكثر إلا في سنة 796هـ وكتب بخطه: ".... رفع الحجاب، وفتح الباب، وأقبل
العزم المصمم على التحصيل، ووفق للهداية إلى سواء السبيل" فكان أن
تتلمذ على خيرة علماء عصره.
وكان شيخه في الحديث زين الدين العراقي الذي لازمه عشر سنوات، وحمل عنه
جملة نافعة من علم الحديث سنداً ومتناً وعللاً واصطلاحاً، فقرأ عليه
ألفيته وشرحها فنون الحديث وانتهى منهما في رمضان سنة 798هـ بمنزل شيخه
المذكور بجزيرة الفيل على شاطىء النيل، كما قرأ عليه نكته على ابن
الصلاح في مجالس آخرها سنة 799هـ، وبعض الكتب الكبار والأجزاء القصار،
وحمل جملة مستكثرة من "أماليه" واستملى عليه بعضها وهو أول من أذن له
بالتدريس في علوم الحديث عام 797هـ.
وقرأ على مُسْنِدي القاهرة ومصر الكثير في مدة قصيرة فوقع له سماع متصل
عال لبعض الأحاديث.
أسرته:
كانت أسرة الحافظ ابن حجر تجمع بين الاشتغال بالتجارة والاهتمام
بالعلم، فكان عم والده فخر الدين عثمان بن محمد بن علي الذي عرف بابن
البزاز وبـ "ابن حجر" قد سكن ثغر الإسكندرية وانتهت إليه رئاسة الإفتاء
هناك على مذهب الإمام الشافعي وتفقه به جماعة منهم الدّمنهوري، وابن
الكويك، وكان له ولدان هما ناصر الدين أحمد، وزين الدين محمد، وكانا من
الفقهاء.
أما جده قطب الدين محمد بن محمد بن علي فلقد كان بارعاً رئيساً تاجراً،
حصل على إجازات من العلماء، وأنجب أولاداً منهم كمال الدين، ومجد
الدين، وتقيّ الدين وأصغرهم
(1/83)
وليّ الدين ثم نور الدين علي، وهو والد ابن حجر الذي انصرف من بينهم
لطلب العلم أما إخوته فكانوا تُجاراً.
ويبدو من خلال سيرة نور الدين على أنه مع اشتغاله بالتجارة عكف على
الدرس وتحصيل العلوم فتفقه على مذهب الإمام الشافعيّ وحفظ الحاوي
الصغير، وأخذ الفقه عن محمد بن عقيل وأجازه، وسمع من أبي الفتح بن سيد
الناس وطبقته وله استدراك على الأذكار للنووي فيه مباحث حسنة، وعدّة
دواوين شعر منها ديوان الحرم فيها مدائح نبوية، وكان معنياً بالنظم ذا
حظ جيّد في الأدب.
وقال ابن حجر عن أبيه: "لم يكن له بالحديث إلمام ونظمه كثير سائر"
ووصفته المصادر بالعقل والدّيانة والأمانة ومكارم الأخلاق، وصحبة
الصّالحين، ونوّهت بثناء ابن القطان وابن عقيل والوليّ العراقي عليه،
وناب في القضاء، وأكثر من الحج والمجاورة وصنف، وأجيز بالإفتاء
والتدريس والقراءات السبع وتطارح مع ابن نباتة المصري والقيراطي،
وتبادل معهما المدائح.
كان مولده في حدود سنة 820 هـ في رجب سنة 777 هـ.
أما والدته فهي تجار ابنة الفخر أبى بكر بن شمس محمد بن إبراهيم
الزفتاوي، أخت صلاح الدّين أحمد الزفتاوي الكارمي صاحب القاعة الكائنة
بمصر تجاه المقياس.
وكانت له أخت، ترجم لها في "إنباء الغمر" و"المجمع المؤسس" وهي ست
الركب بنت علي بن محمد بن محمد بن حجر، وكانت قارئة كاتبة أعجوبة في
الذكاء، أثنى عليها وقال: "كانت أمي بعد أمي، أصبت بها في جمادى الآخرة
من هذه السنّة" أي سنة 798هـ.
وذكر السّخاوي تحصيلها الثقافي وإجازتها، وزواجها، وأولادها كما ذكر
الحافظ ابن حجر شيوخها وإجازتها من مكة ودمشق وبعلبك ومصر وقال:
"وتعلّمت الخط وحفظت الكثير من القرآن، وأكثرت من مطالعة الكتب فمهرت
في ذلك جدّاً... وكانت بي برة رفيقة محسنة، وقد رثاها أخوها الحافظ ابن
حجر في قصيدة، وكان له أخ من أمه اسمه عبد الرحمن بن الشهاب أحمد بن
محمد البكري، ترجم له في إنبائه وقال: إنه مهر وحصّل مالاً أصله من قبل
أمه- وهي والدتي- فقدر اللَّه موته فورثه أبوه.
تزوّج الحافظ ابن حجر عند ما بلغ عمره خمساً وعشرين سنة، وذلك في سنّة
798 من أنس ابنة القاضي كريم الدين عبد الكريم بن عبد العزيز ناظر
الجيش، وتنتمي أنس إلى أسرة معروفة بالرئاسة والحشمة والعلم.
وكان ابن حجر حريصاً على نشر الثقافة والعلم بين أهل بيته وأقاربه
كحرصه على نشر العلم بين الناس، وسيتضح ذلك في دراسة جهوده في التدريس
وعقده لمجالس الإملاء.
(1/84)
فأسمع زوجته من شيخه حافظ العصر عبد الرحيم العراقي الحديث المسلسل
بالأولية، وكذا أسمعها إياه من لفظ العلامة الشرف ابن الكويك، وأجاز
لها باستدعاء عدد من الحفاظ فيهم أبو الخير بن الحافظ العلائي، وأبو
هريرة عبد الرحمن بن الحافظ الذهبي، ولم تكن الاستدعاءات بالإجازة لها
لتقتصر على المصريين بل من الشاميين والمكيين واليمنيين، وكان الحافظ
ابن حجر في حالة الاستدعاء لها بدون أسماء من ولدن من بناتها اللاتي
ولدن تباعاً.
وحجت صحبة زوجها في سنة 815 هـ كما حجت وجاورت بعد ذلك وحدثت بحضور
زوجها، وقرأ عليها الفضلاء، وكانت تحتفل بذلك وتكرم الحاضرين، وقد خرج
لها السخاوي أربعين حديثاً عن أربعين شيخاً، وقرأها عليها بحضور زوجها،
وكان الحافظ ابن حجر قد أسلف لها بالإعلام بذلك على سبيل المداعبة
بقوله: قد صرت شيخة إلى غير ذلك، وكانت كثيرة الإمداد للعلامة إبراهيم
بن خضر بن أحمد العثماني العلامة المنفس الذي كان يقرأ لها "صحيح
البخاري" في رجب وشعبان من كل سنة، وتحتفل يوم الختم بأنواع من الحلوى
والفاكهة، ويهرع الكبار والصغار لحضور ذلك اليوم قبيل رمضان بين يدي
زوجها الحافظ، ولما مات الحافظ ابن خضر قرأ لها سبطها يوسف بن شاهين،
ولم تضبط لها هفوة ولا زلّة.. وكان زوجها يكن لها الاحترام الكبير كما
كانت هي عظيمة الرعاية له. فولدت له عدة بنات زين خاتون وفرحة، وعالية،
ورابعة، وفاطمة، ولم تأت منه بذكر، وكانت كلّما حملت ذكراً ولد قبل
أوانه ميتاً.
وتمر السنوات ثقيلة متباطئة، وتتدافع في نفسه أمور متنافرة يحترم أم
أولاده ويرعاها، غير أنه شاء الله لها أن لا تلد إلا إناثاً، أما
الذكور فيموتون، بيد أنه أحب أن يكون له ولد، فاختار التسري، وكانت
لزوجته جارية يقال إن اسمها خاص نزل، فأظهر غيظاً بسبب تقصيرها، وأقسم
بأن لا تقيم بمنزله فبادرت أنس لبيعها، فأرسل شمس الدين بن الضياء
الحنبلي فاشتراها له بطريق الوكالة وتزوّجها في مكان بعيد عن منزله،
فحملت بولده الوحيد بدر الدين بن المعالي محمد المولود في الثامن عشر
من صفر سنة 815 هـ وكانت العقيقة في منزل أنس، ولم تشعر بذلك إلى قبل
انفصال الولد عن الرضاع، فلما علمت أنس ذهبت هي وأمها إلى مكان وجود
الولد وأمه وأحضرتها معها إلى منزلها وأخفت أمرهما. ولما حضر الحافظ
ابن حجر استجوبته زوجته أنس فما اعترف ولا أنكر بل روى بما يفهم منه
الإنكار، ثم قامت فأخرجت الولد وأمه فأسقط في يده.
وعاتبته عتاباً مرّاً، فاعتذر بميله للأولاد الذكور، ودعت عليه أن لا
يرزق ولداً عالماً، فتألم لذلك وخشي من دعائها، وقال لها: أحرقت قلبي
أو شيئاً من هذا القبيل؛ لأنها كانت مجابة الدّعاء.
وبعد وفاة الحافظ ابن حجر أرسل لها علم الدين البلقيني على يد ولده أبي
البقاء يطلب
(1/85)
الزواج منها، وقيل: إنها لم تكن تأبى ذلك لكن عصم الله- كما قال
السخاوي: ببركة شيخنا- فلم تتزوّجه.
كما تزوج الحافظ ابن حجر أرملة الزين أبي بكر الأمثساطي بعد وفاته،
وذلك عند مجاورة أم أولاده سنة 834هـ ورزق منها في رجب سنة 835 ابنة
سماها آمنة، لم تعش طويلاً حيث ماتت في شوال 836هـ، وبموتها طلقت أمها
لأنه علّق طلاقها عند سفره إلى آمد على موتها. ك
ما تزوج الحافظ ابن حجر من ليلى ابنة محمود بن طوعان الحلبية عندما
سافر مع الأشرف سنة 836هـ إلى آمد. وكان زواجه منها في حلب، واستمرت
معه إلى أن سافر من حلب ففارقها دون أن يعلمها بالطلاق، لكن أسرّه إلى
بعض خواصه، والتمس منه ألا يعلمها بذلك، وكان يريد أن يختبر ولاءها،
ولأنها قد لا تطيق أن تترك حلب وتسافر معه إلى مصر، ثم راسل بعض
أصدقائه الحلبيين في تجهيزها إن اختارت ويعلمها بأن الذي يحمله على
الطلاق هو الرفق بها لئلا تختار الإقامة بحلب أو يحصل لها نصيبها فلا
تتضرّر، وجاء في الكتاب الذي قرأه السخاوي بخطه وصفه لها بأنها نعم
المرأة عقلاً وحسن خلق وخُلق ويعدها بكل جميل وأنها إن قدمت ينزلها
أحسن المنازل... فامتثلت إشارته وتجهزت حتى قدمت عليه إلى مصر...
واستمرت معه حتى مات، وكان قد أسكنها في بيت خاص.. ويأتي إليها في يومي
الثلاثاء والجمعة من كل أسبوع، ولم يرزق منها أولاداً، وكان شديد الميل
إليها حتى قال فيها شعراً.
أما أولاده فهم خمس بنات وولد واحد، وهم: زين خاتون، وفرحة، وعالية،
ورابعة وفاطمة وبدر الدين محمد.
فكانت "زين خاتون" هي البكر، ومولدها في ربيع الآخر سنة 802، فاعتنى
بها واستجاز لها في سنة ولادتها وما بعدها خلقاً وأسمعها على شيوخه
كالعراقي والهيثمي وأحضرها على ابن خطيب داريا، ثم تزوّجها الأمير شاهي
العلائي الكركي الذي صار داوداراً عند المؤيد مدة، فولدت له عدة أولاد
ماتوا كلهم في حياة أمهم، ولم يتأخر من أولادها إلاَّ أبو المحاسن يوسف
بن شاهين المعروف كسبط ابن حجر، وكانت قد تعلمت القراءة والكتابة
وماتت- وهي حامل- بالطاعون سنة 833 هـ.
وأما "فرحة" فكان مولدها في رجب سنة 804، واستجيز لها مع أمها، وتزوجها
شيخ الشيوخ محب الدين بن الأشقر الذي ولي نظر الجيش وكتابة السّر، وكان
أحد الأعيان في الديار المصرية فولدت له ولداً مات صغيراً في حياة أمه
التي كانت وفاتها سنّة 828 هـ بعد أن رجعت من الحج مع زوجها موعوكة.
وأما "عالية" فكان مولدها سنة 807هـ واستجيز لها جماعة وماتت هي وأختها
فاطمة في الطّاعون سنة 819 مع من مات من أفراد أسرة أبويهما.
(1/86)
وأما "رابعة" فكان مولدها سنة 811 وأسمعها والدها علي المراغي بمكة سنة
815هـ وأجاز لها جمع من الشاميين والمصريين وتزوجها الشهاب أحمد بن
محمد بن مكنون، واستولدها بنتاً سماها "عالية" ماتت في حياتيهما، ومات
عنها زوجها سنّة 830 هـ فتزوجها المحب بن الأشقر حتى ماتت عنه في سنة
832هـ، وعمل صداقها في أرجوزة.
أما ولده الوحيد بدر الدين أبو المعالي محمد فكان والده حريصاً على
تعليمه وتهذيبه، فحفظ القرآن وصلّى بالناس كما كانت العادة جارية في
سنة 826، وأسمعه الحديث على الواسطي وجماعة وأجاز له باستدعاء والده
منذ مولده سنة 815هـ فما بعد عدد من كبار المسندين ذكرهم والده في معجم
شيوخه.
وبلغ من حرصه واهتمامه به بعد أن صنف كتابه:
"بلوغ المرام من أدلة الأحكام" لأجله، لكنه لم يحفظ إلا اليسير منه
وكتب عن والده كثيراً من مجالس الإملاء وسمع عليه شيئاً كثيراً واشتغل
بأمر القضاء والأوقاف مساعداً لوالده، حتى صارت له خبرة بالمباشرة
والحساب... واشتدت محبة والده له.
وولي في حياة أبيه عدة وظائف أجلها مشيخة البيبرسية وتدريس الحديث
بالحسنية ناب عنه فيهما والده، والإمامة بجامع طولون وغير ذلك.
وفد وصفه ابن تغري بردي بالجهل، وسوء السيرة، ولم يرض ذلك السخاوي فرد
عليه مُفيداً بأنه كان حسن الشكالة متكرّماً على عياله قل أن يكون في
معناه، لكن السخاوي أشار في موضوع آخر إلى محنة الحافظ ابن حجر بسبب
ولده وما نسب إليه من التصرف في أموال الجامع الطولوني بالاشتراك مع
آخرين، واحتجز رهن التحقيق، وكان والده في ضيق صدر زائد وألم شديد
بسببه وتأوّه كثيراً وكل يوم يسمع من الأخبار ما لم يسمعه بالأمس، وكان
يتوجه إليه في يوم الجمعة يوماً أو أكثر إلى المكان الذي يكون فيه
فيرجع.. وهو مسرور لما يرى من ثبات ولده وقوة قلبه وشجاعته وانتظام
كلامه ومهارته، إلى أن تبين أن ما أشيع عنه مجرد اتهام، ولذلك عمل
الحافظ ابن حجر جزءاً سماه "ردع المجرم عن سب المسلم" ويبدو أن القاضي
ولي الدين السفطي كان له دور مهم في محنة الحافظ ابن حجر بسبب ما كان
بينهما من المنافسة على القضاء فكانت هذه الحادثة سبباً في زهد الحافظ
ابن حجر في القضاء1.
ابن حجر المحدث وخطيب الأزهر
تولى ابن حجر الخطابة في عدة مساجد من أكبر المساجد بالقاهرة مثل
الجامع الأزهر وجامع عمرو وغيرهما من المساجد الكبرى بالقاهرة فقد كان
متبحراً في العديد من العلوم،
__________
1 ابن حجر دراسة ص 74 وما بعدها.
(1/87)
وكان يفد إليه طلاب العلم وأهل الفضل من سائر الأنحاء، وكان يتسم
بالحلم والتواضع والصبر كثير الصيام والقيام.
وكان مرجعاً في الحديث النبوي، حتى لقب بلقب "أمير المؤمنين" في الحديث
وهذا اللقب لا يظفر به إلا أكبر المحدثين الأفذاذ وقد حبب إلى ابن حجر
الحديث وأقبل عليه بكليته وطلبه من سنة ثلاث وتسعين ولكنه لم يلزم
الطلب إلا من سنة ست وتسعين فعكف على الزين العراقي وتخرج به وانتفع
بملازمته، وتحول إلى القاهرة فسكنها قبيل القرن وارتحل إلى البلاد
الشامية والمصرية والحجازية وأخذ عن الشيوخ والأقران وأذن له جل هؤلاء
في الإفتاء والتدريس.
وتصدر لنشر الحديث وقصر نفسه عليه مطالعة وقراءة وإقراء وتصنيفاً
وإفتاء وزادت تصانيفه التي معظمها في فنون الحديث وفيها من فنون الأدب
والفقه -على مائة وخمسين تصنيفاً وقد عرف ابن حجر بالحفظ وكثرة الاطلاع
والسماع وبرع في الحديث وتقدم في جميع فنونه وأثنى عليه شيوخه في هذا
الشأن وقد سبق أنه ولي تدريس الفقه بالمدرسة الشيخونية وتدريس الحديث
بالمدرسة الجمالية الجديدة ثم تدريس الشافعية بالمؤيدة الجديدة ومشيخة
البيبرسية في دولة المؤيد وتدريس الفقه بالمدرسة الصلاحية المجاورة
للإمام الشافعي، كما تولى الخطابة بالجامع الأزهر وبين التدريس
والإفتاء ولي منصب القضاء، وكانت أول ولايته القضاء في السابع والعشرين
من المحرم سنة سبع وعشرين وثمانمائة بعد أن امتنع أولاً لأنه كان لا
يؤثر على الاشتغال بالتأليف والتصنيف شيئاً غير أن ابن حجر كما يقول
السخاوي قد ندم على قبوله وظيفة القضاء ويقول ابن حجر: إن من آفة
التلبس بالقضاء أن بعضهم ارتحل إلى لقائي وأنه بلغه تلبسي بوظيفة
القضاء فرجع، وعزل عن القضاء وأعيد إليه مرات وكان آخر ولايته القضاء
إذ عزل نفسه في الخامس والعشرين من جمادى الآخرة سنة اثنتين وخمسين
وثمانمائة.
شيوخه:
بلغ عدد شيوخه بالسّماع وبالإجازة وبالإفادة على ما بين بخطه نحو
أربعمائة وخمسين نفساً، وإذا استثنينا الشيوخ الذين أجازوا عموماً فقد
ترجم في "المجمع المؤسس" لأكثر من ستمائة شيخ، وذكر بعضهم أن عدد شيوخه
بلغ ستمائة نفس سوى من سمع منه من الأقران.
واجتمع له من الشيوخ الذين يشار إليهم ويعول في حل المشكلات عليهم ما
لم يجتمع لأحد من أهل عصره؛ لأن كل واحد منهم كان متبحراً ورأساً في
فنه الذي اشتهر به "فالبلقيني في سعة الحفظ وكثرة الاطلاع وابن الملقن
في كثرة التصانيف والعراقي في معرفة علوم الحديث، ومتعلقاته، والهيثمي
في حفظ المتون، واستحضارها والمجد الشيرازي في حفظ
(1/88)
اللغة وإطلاعه عليها، والغماري في معرفة العربية ومتعلقاتها، وكذا
المحب ابن هشام كان حسن التصرف فيها لوفور ذكائه، وكان الغماري فائقاً
في حفظها، والإيناس في حسن تعليمه وجودة تفهيمه، والعز بن جماعة في
تفننه في علوم كثيرة بحيث كان يقول: أنا أقرأ في خمسة عشر علماً لا
يعرف علماء عصري أسماءها والتنوخي في معرفة القراءات وعلو سنده فيها1.
شيوخ القراءات:
1- إبراهيم بن أحمد بن عبد الواحد بن عبد المؤمن التنوخي الشيخ برهان
الدين الشامي "709هـ- 800هـ" بلغ عدد شيوخه ستمائة شيخ بالسماع
وبالإجازة يجمعهم معجمه الذي خرّجه له الحافظ ابن حجر ونزل أهل مصر
بموته درجة، قرأ عليه الحافظ ابن حجر من أول القرآن "الفاتحة" إلى قوله
"المفلحون" من سورة البقرة جامعاً للقراءات السبع ثم قرأ عليه الشاطبية
تامة بسماعه لها على القاضي بدر الدين بن جماعة كما قرأ عليه الخلاصة
للألفية من العربية نظم ابن عبد الله، فضلاً عن قراءته عليه "صحيح
البخاري"، وبعض المسانيد، والكتب والأجزاء، وخرج له المائة العشرية، ثم
الأربعين التالية لها، وأذن له بالإقراء سنة 796هـ.
2- محمد بن محمد بن محمد الدمشقي الجزري "751- 833" شيخ القراءات وأجاز
له ولوالده محمد وحثه على الرّحلة إلى دمشق، حدث بكتابه "الحصن الحصين"
في البلاد اليمنية، ومهر الجزري في الفقه إلا أن فنّه القراءات.
شيوخ الحديث:
1- عبد الله بن محمد بن محمد بن سليمان النيسابوري المعروف بالنشاوري
"705- 790هـ" وهو أول شيخ سمع عليه الحديث المسند فيما اتصل بعلمه، سمع
عليه "صحيح البخاري" مع فوت بقراءة شمس الدين السلاّوي سنّة 785هـ
بالمسجد الحرام بسماعه على الرضي الطبري على أنه شك في إجازته منه،
وترك التخريج والرواية بتلك الإجازة وقال: "وفي المصرح به غني عن
المظنون والله المستعان".
2- محمد بن عبد الله بن ظهيرة المخزوميّ المكيّ جمال الدين "751- 817
هـ" وهو أول من بحث عليه في فقه الحديث وذلك في مجاورته مع الخرّوبي
بمكة سنة 785 وهو ابن اثنتي عشرة سنة، حيث قرأ عليه بحثاً في عمدة
الأحكام للحافظ عبد الغني المقدسي، ثم كان أول من سمع بقراءته الحديث
بمصر سنة 786، وسمع عليه كتباً أخرى.
__________
1 ابن حجر دراسة ص 145، 146.
(1/89)
3- عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن العراقي أبو الفضل زين الدين
الحافظ الكبير "725-806هـ" وأول ما اجتمع به سنة 786 فقرأ عليه ثم فتر
عزمه، كما وضح فيما فات، ثم لازمه عشر سنوات وتخرج به وهو أوّل من أذن
له بالتدريس في علوم الحديث في سنّة 797هـ، وحضر مجالس إملائه، وقرأ
عليه كتابه "الأربعين العشارية "من جمعه واستملى عليه الحافظ ابن حجر
في غياب ولده أبي زرعة، وحمل عنه جملة مستكثرة من أماليه، وأذن له في
تدريس ألفيته من الحديث، وشرحها، والنكت على ابن الصلاح، وسائر كتب
الحديث وعلومه، ولقبه بالحافظ وعظمه ونوّه بذكره.
وللحافظ ابن حجر مع شيخه مراجعات كثيرة.
4- علي بن أبي بكر بن سليمان أبو الحسن الهيثمي "735- 807" لازم
العراقي أشد ملازمة وهو صهره، خرج زوائد مسند البزار ثم مسند أبي يعلى
الموصلي، ثم الطبرانيات، وجمع الجميع في كتاب واحد محذوف الأسانيد،
ورتب الثقات لابن حبان على حروف المعجم، و"حلية الأولياء" على الأبواب،
اقتصر منها على الأحاديث المسندة، ومات وهو مسودة فكمل ابن حجر ربعه،
وصار الهيثمي لشدة ممارسته أكثر استحضاراً للمتون من شيخه العراقي حتى
يظن من لا خبرة له أنه أحفظ منه، وليس كذلك؛ لأن الحفظ المعرفة. قال
ابن حجر: كان يودني كثيراً وبلغه أنني تتبعت أوهامه في "مجمع الزوائد"
فعاتبني فتركت ذلك "قرأ عليه قريناً لشيخه العراقي ومنفرداً.
شيوخ الفقه:
1- إبراهيم بن موسى بن أيوب برهان الدين الأنباسي الورع الزاهد "725-
802 هـ" سمع من الوادي آشي وأبي الفتح الميدومي ومسند عصره ابن أميلة
وطبقتهم، قال عنه ابن حجر: "سمعت منه كثيراً وقرأت عليه الفقه" وقال:
"اجتمعت به قديماً وكان صديق أبي ولازمته بعد التسعين، وبحثت عليه في
المنهاج وقرأت عليه قطعة كبيرة من أول الجامع للترمذي بسماعه على...
ابن أميلة" وله مصنفات، يألفه الصّالحون ويحبه الأكابر وفضله معروف.
2- عمر بن عليّ بن أحمد بن الملقن "723- 804هـ" كان أكثر أهل عصره
تصنيفاً فشرح المنهاج عدة شروح، وخرّج أحاديث الرافعي في ست مجلّدات،
وشرح "صحيح البخاري" في عشرين مجلدة انتقده ابن حجر عليه وعلى أشياء
أخرى. قرأ عليه قطعة من شرحه الكبير على المنهاج.
3- عمر بن رسلان بن نصير بن صالح البلقيني نزيل القاهرة أبو حفص، شيخ
الإسلام علم الأعلام مفتي الأنام "724- 805 هـ" أقدمه أبوه القاهرة وله
اثنتا عشرة سنة فبهرهم
(1/90)
بذكائه وكثرة محفوظه وسرعة إدراكه وعرض عليه محافظيه ورجع، غير أنه لم
يرزق ملكة في التصنيف قد لازمه الحافظ ابن حجر مدة، وقرأ عليه الكثير
من الروضة، ومن كلامه على حواشيها، وسمع عليه بقراءة البرماوي مختصر
المزني، وكتب له خطه بالإذن بالإعادة وهو أول من أذن له في التدريس
والإفتاء، وتبعه غيره.
4- محمد بن علي بن عبد الله القطان الفقيه "737- 813هـ" مهر في فنون
كثيرة، وتفقه عليه الحافظ ابن حجر، وقال عنه:
قرأت عليه وأجاز لي وذكر لي أنه قرأ الأصول على الشيخ نور الدين
الأسنائي وكان ماهراً في القراءات والعربية والحساب ولازمه في الفقه،
وقرأ عليه قسماً كبيراً من "الحاوي" وغيره.
5- عليّ بن أحمد بن أبي الآدمي الشيخ نور الدين، قال ابن حجر: قرأت
عليه في الفقه والعربية، وكان على طريقة مثلى من الدين والعبادة والخير
والانجماع ولازمه كثيراً.
شيوخ العربية:
1- محمد بن محمد بن علي بن عبد الرزاق الغماري المصري المالكي "720-
802هـ" وكان كثير الاستحضار واللغة مع مشاركة في الأصول والفروع، ودرس
القراءات في الشيخونية وهو خاتمة من كان يشار إليه في القراءات
العربية، سمع عليه الحافظ ابن حجر القصيدة المعروفة بالبردة بسماعه لها
على أبي حيان بسماعه من ناظمها، وأجاز له غير مرّة كما أجازه مروياته
عن غيره، وكان عارفاً بالعربيّة كثير الحفظ للشعر لا سيما الشواهد قوي
المشاركة في فنون الأدب.
2- محمد بن إبراهيم بن محمد الدمشقي الأصل بدر الدين البشتكي الأديب
الفاضل المشهور "748- 830 هـ".
حفظ كتاباً في فقه الحنفية ثم تحوّل شافعيّاً، ثم نظر في كتب ابن حزم،
واشتغل في فنون كثيرة، وعني الأدبيات فمهر فيها، لازمه ابن حجر بضع
سنين، وانتفع بفوائده وكتبه وأدبياته وطارحه بأبيات وسمع منه الكثير من
نظمه وأجاز له ولأولاده، وسبقت الإشارة إلى أنه كان يعيره بعض الكتب
الأدبية، وقرأ عليه مجلساً واحداً من مقدمة لطيفة في علم العروض استفاد
منه لمعرفة الفن بكماله، كما قرأ عليه البشتكى بعد ذلك في الحديث فهو
شيخه، وتلميذه في آن واحد.
3- محمد بن يعقوب بن محمد بن إبراهيم بن عمر الشيرازي الشيخ العلامة
مجد الدين أبو طاهر الفيروزأبادي "729- 817 هـ" نظر في اللغة فكانت جل
قصده في التحصيل فمهر فيها إلى أن فاق أقرانه، اجتمع به في زبيد، وفي
وادي الخصيب وناوله جل "القاموس المحيط" وأذن له مع المناولة بروايته
عنه وقرأ عليه من حديثه عدة أجزاء، وسمع منه المسلسل بالأولية
(1/91)
بسماعه عن السبكي، وكتب له تقريضاً على بعض تخريجاته أبلغ فيه شيخه في
أغلب العلوم.
هو محمد بن أبي بكر بن عبد العزيز بن جماعة الحموي الأصل ثم المصري
الشيخ عز الدين بن المسند شرف الدين "759- 819".
أتقن فنون المعقول إلى أن صار هو المشار إليه في الدّيار المصرية في
هذا الفن.. ولم يقرأ عليه كتاب من الكتب المشهورة إلا ويكتب عليه نكتاً
وتعقيبات واعتراضات بحسب ما يفتح له أخذ عنه في "شرح منهاج الأصول"،
و"جمع الجوامع"، و"مختصر ابن الحاجب" وفي "المطول" لسعد الدين وأجاز له
غير مرة ولأولاده، وقال البقاعي: وأجل من أخذ عنه المعقول والأدبيات
علامة الدنيا الشيخ عز الدين بن جماعة، ولازمه طويلاً، وأخذ عنه علماً
جزيلاً.
وقال السخاوي: إن ابن جماعة كان يقول: "أنا أقرأ في خمسة عشر علماً لا
يحرف علماء عصري أسماءها".
ولازمه الحافظ ابن حجر في غالب العلوم التي كان يقرؤها من سنة 790 هـ
إلى أن مات سنة 819هـ ولم يخلف بعده مثله كما قال في "إنباء الغمر".
مصنفاته:
قال الشمس السخاوي تلميذ الحافظ ابن حجر:
"وزادت تصانيفه التي معظمها في فنون الحديث وفيها من فنون الأدب
والفقه، والأصلين وغير ذلك على مائة وخمسين تصنيفاً رزق فيها من السعد
والقبول خصوصاً "فتح الباري بشرح البخاري" الذي لم يسبق نطره أمراً
عجباً"1.
بلغت مصنفاته أكثر من اثنين وثلاثين ومائة تصنيف، وها هي مرتبة على
حروف المعجم.
1- الآيات النيرات للخوارق المعجزات.
2- اتباع الأثر في رحلة ابن حجر.
3- إتحاف المهرة بأطراف العشرة.
4- الإتقان في فضائل القرآن.
5- الأجوبة المشرقة على الأسئلة المفرقة.
6- الأحكام لبيان ما في القرآن من إبهام.
7- أربعون حديثاً متباينة الأسانيد بشرط السّماع.
8- أسباب النزول.
__________
1 "الضوء اللامع" 2/38.
(1/92)
9- الأسئلة الفائقة بالأجوبة اللائقة.
10- الاستبصار على الطّاعن المُعثار.
11- الاستدراك على الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء.
12- الاستدراك على الكاف الشاف.
93- الإصابة على تمييز الصحابة.
14- أطراف المختارة.
95- أطراف الصحيحين.
16- أطراف المسند المعتلي بأطراف المسند الحنبلي.
17- الإعجاب ببيان الأسباب.
18- الإعلام بمن ذكر في البخاري من الأعلام.
19- الإعلام لمن ولي مصر في الإسلام.
20- الإفصاح بتكميل النكت على آبن الصلاح.
21- الإفنان في رواية القرآن.
22- إقامة الدلائل على معرفة الأوائل.
23- الألقاب.
24- أمالي ابن حجر.
25- الإمتاع بالأربعين المتباينة بشرط السماع.
26- الإنارة في الزيارة.
27- إنباء الغمر بأنباء العمر.
28- الانتفاع بترتيب الدار قطني.
29- انتقاض الاعتراض.
30- الأنوار بخصائص المختار.
31- الإيناس بمناقب العبّاس.
32- البداية والنهاية.
33- بذل الماعون بفضل الطّاعون.
34- البَسْط المبثوث في خبر البرغوث.
(1/93)
35- بلوغ المرام بأدلّة الأحكام.
36- بيان الفصل بما رجح فيه الإرسال على الوصل.
37- تبصير المنتبه بتحرير المشتبه.
38- تبيين العجب بما ورد في فضل رجب.
39- تجريد التفسير.
40- تحرير الميزان.
41- تحفة أهل التحديث عن شيوخ الحديث.
42- تحفة الظراف بأوهام الأطراف.
43- تخريج أحاديث الأذكار للنووي.
44- تخرج أحاديث الأربعين للنووي.
45- تخريج أحاديث مختصر ابن الحاجب.
46- تخريج الأربعين النووية بالأسانيد العليّة.
47- التعريج على التدريج.
48- ترجمة النووي.
49- تسديد القوس في مختصر مسند الفردوس.
50- التشويق إلى وصل المهم من التعليق.
51- تصحيح الروضة.
52- تعجيل المنفعة برواية رجال الأئمة الأربعة.
53- التعريف الأوحد بأوهام من جمع رجال المسند.
54- تعريف أولي التقدير بمراتب الموصوفين بالتدليس.
55- تعريف الفئة بمن عاش مئة.
56- تعقبات على الموضوعات.
57- تعليق التعليق.
58- تقريب التقريب.
59- تقريب التهذيب.
60- تقريب المنهج بترتيب المدرج.
(1/94)
61- تقويم السّناد بمدرج الإسناد.
62- التمييز في تخريج أحاديث الوجيز.
63- تهذيب التهذيب
64- تهذيب المدرج.
65- توالي التأسيس بمعالي ابن إدريس.
66- توضيح المشتبه للأزدي في الأنساب.
67- التوفيق بتعليق التعليق.
68- الجواب الجليل عن حكم بلد الخليل.
69- الجواب الشافي عن السؤال الخافي.
70- الخصال المكفرة للذنوب المقدّمة والمؤخرة.
71- الخصال الواردة بحسن الاتصال.
72- الدراية في منتخب تخريج أحاديث الهداية.
73- الدرر.
74- الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة.
75- ديوان شعر.
76- ديوان منظور الدرر.
77- ذيل الدرر الكامنة.
78- رد المحرم عن المسلم.
79- الرسالة العزية في الحساب.
80- رفع الإصر عن قضاة مصر.
81 – الزهر المطلول في بيان الحديث المعلول.
82- الزهر النضر في أنباء الخضر.
83- السبعة النيرات في سبعة أسئلة عن السيد الشريف في مباحث الموضوع.
84- سلوت ثبت كلوت: التقطها من ثبت أبي الفتح القاهري.
85- شرح الأربعين النووية.
86- شرح سنن الترمذي.
(1/95)
87- شرح مناسك المنهاج.
88- شرح منهاج النووي.
89- شفاء الغلل في بيان العلل.
90- الشمس المثيرة في معرفة الكبيرة.
91- طبقات الحفاظ.
92- عرائس الأساس في مختصر الأساس للزمخشري.
93- عشاريات الأشياخ.
94- عشرة أحاديث عشارية الإسناد.
95- عشرة العاشر.
96- فتح الباري بشرح البخاري.
97- فضائل شهر رجب.
98- فهرست مروياته.
99- فوائد الاحتفال في بيان أحوال الرجال، لرجال البخاري.
100- الفوائد الجمة فيمن يجدد الدين لهذه الأمة.
101- قذى العين من نظم غريب البين.
102- القصارى في الحديث.
103- القول المسدد في الذب عن المسند.
104- الكاف الشاف في تحرير أحاديث الكشاف.
105- كشف السحر عن حكم الصلاة بعد الوتر.
106- لذة العيش بجمع طرق الحديث "لأئمة من قريش".
107-لسان الميزان.
108- المجمع المؤسس في المعجم المفهرس.
109- مختصر البداية والنهاية لابن كثير.
110- مختصر تهذيب الكمال.
111- المرجمة الغيثية عن الترجمة الليثية.
112- مزيد النفع بما رجح فيه الوقف على الرفع.
(1/96)
113- المسلسل بالأولية بطرق علية.
114- المسند المعتلى بأطراف الحنبلي.
115- المشتبه.
116- المطالب العالية من رواية المسانيد الثمانية.
117- المطالب العالية في زوائد الثمانية.
118- المقترب في بيان المضطرب.
119- المقصد الأحمد فيمن كنيته أبو الفضل واسمه أحمد.
120- الممتع في منسك المتمتع.
121- المنحة فيما علق به الشافعي القول على الصحة.
122- منسك الحج.
123- النبأ الأنبه في بناء الكعبة.
124- نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر.
125- نزهة الألباب في الأنساب.
126- نزهة القلوب في معرفة المبدل عن المقلوب.
127- نزهة النظر بتوضيح نخبة الفكر.
128- النكت الحديثية على كتاب ابن الصلاح.
129- نهاية التقريب وتكميل التهذيب بالتذهيب.
130- النيرات السبعة، ديوان ابن حجر.
131- هداية الرواة إلى تخريج المصابيح والمشكاة.
132- هدي السّاري لمقدمة فتح الباري.
مرضه ووفاته:
بدأ المرض بحافظ الدنيا ابن جر طيب الله مثواه في ذي الحجة سنة 852هـ،
وفي الحادي عشر منه حضر مجلس الإملاء كما أملى في يوم الثلاثاء الخامس
عشر من الشهر المذكور مجلساً وهو متوعّك، ثم تغير مزاجه وأصبح ضعيف
الحركة.
وخشي الأطباء أن يناولوه مسهلاً لأجل سنّه فأشير "بلبن الحليب" فتناوله
فلانت الطبيعة قليلاً وأدى ذلك إلى نشاط.. وصار مسروراً بذلك، ولكنه لم
يشف من مرضه تماماً... ثم عاد إلى الكتمان وتزايد الألم بالمعدة وكان
يقول هذا بقايا الغبن من سنة تسع وأربعين وتوابعها، ولم
(1/97)
يستطع أن يؤدي صلاة الأضحى الذي صادف يوم الثلاثاء، وهو الذي لم يترك
صلاة جمعة ولا جماعة، وصلى الجمعة التي تلي العيد، ثم توجه إلى زوجته
الحلبية، وكأنه أحس بدنو أجله، فاعتذر عن انقطاعه عنها واسترضاها وكان
ينشد [البسيط]:
ثاء الثلاثين قد أوهت قوى بدني ... فكيف حالي وثاء الثمانينا1
وتردد إليه الأطباء، وهرع الناس من الأمراء والقضاة والمباشرين
لعيادته، وقبل منتصف شهر ذي الحجة من سنّة 852 هـ أشيع أن شيخ الإسلام
قد توعك فأنشأ يقول [من المجتث]:
اشكو إلى الله ما بي ... وما حوته ضلوعي
قد طال السقم2 جسمي ... بنزلة وضلوعي
وكان مرضه قد دام أكثر من شهر، حيث أصيب بإسهال ورمي دم "ديسانتري"،
غير أن السخاوي يقول: "ولا أستبعد أنه أكرم بالشهادة فقد كان طاعون قد
ظهر".
ثم أسلم الروح إلى بارئها في أواخر شهر ذي الحجة من سنّة اثنتين وخمسين
وثمانمائة. واختلف مترجموه في تحديد تاريخ يوم وفاته، كما اختلفوا في
تحديد يوم ولادته، على أنهم يتفقون جميعاً تقريباً على أنها- وفاته-
كانت في ليلة السبت من ذي الحجة، والاختلاف ينحصر في تحديدهم لأي سبت
منه، وهذا يرجع إلى أن الأرقام عرضة للتحريف أكثر من غيرها فجلعها
بعضهم في الثامن والعشرين من ذي الحجة، وجعلها آخرون في التاسع عشر
منه، على حين ذكرها فريق ثالث في ثامن عشر من ذي الحجة سنّة 852 هـ.
وترك وصيته التي نقل السخاوي نصها، مستقاة من سبطه يوسف بن شاهين، ومما
ورد فيها أنه أوصى لطلبة الحديث النبوي والمواظبين على حضور مجالس
الإملاء بجزء من تركته.
وفي أواخر أيامه عاده قاضي القضاة سعد الدين بن الديري الحنفي فسأله عن
حاله فأنشده أربعة أبيات من قصيدة لأبي القاسم الزمخشري هي [من
الكامل]:
قرب الرحيل إلى ديار الآخرة ... فاجعل إلهي خير عصري آخره
وارحم مبيتي في القبور ووحدتي ... وارحم عظامي حين تبقى ناخرة
فأنا المسيكين الذي أيامه ... ولت بأوزار غدت متواترة
فلئن رحمت فأنت أكرم راحم ... فبحار جودك يا إلهي زاخرة
وصلي عليه بمصلاة بكتمر المؤمن، حيث أمر السلطان جقمق بأن يحضر إلى
هناك ليصلي عليه، وتقدم في الصلاة عليه الخليفة بإذن من السلطان.
__________
1 تقطع الهمزة للضرورة.
2 تقطع الهمزة للضرورة.
(1/98)
وحضر الشيوخ وأرباب الدولة وجمع غفير من الناس، وازدحموا في الصلاة
عليه حتى حزر أحد الأذكياء من مشى في جنازته بأنهم نحو الخمسين ألف
إنسان.
ومن شدة حب الناس، وإكرامهم له تصور البعض أن الخضر صلى عليه كما ذكر
ذلك صاحب مفتاح السعادة، فقال: ومن جملة من صلّى عليه "الخضر عليه
السلام رآه عصابة من الأولياًء".
وكان يوم موته عظيماً على المسلمين وحتى على أهل الذمة، وشيعته القاهرة
إلى مدفنه في القرافة الصغرى، وتزاحم الأمراء الأكابر على حمل نعشه،
ومشى إلى تربته من لم يمش نصف مسافتها قط، فدفن تجاه تربة الديلمي
بتربة بني الخروبي بين مقام الشافعي ومقام سيدي مسلم السّلمي، وكانت
وصيته خلاف ذلك.
وقيل: إن السماء أمطرت على نعشه مطراً خفيفاً فعد ذلك من النوادر.
ذكر من رثاه
وما أحقه بقول ابن دريد في قصيدة طويلة [من البسيط]:
إن المنية لم تتلف بها رجلا ... بل أبلغت علما للدين منصوبا
كان الزمان به تصفو مشاربه ... والآن أصبح بالتكدير مقطوبا
كلا وأيامه الغر التي جعلت ... للعلم نورا وللتقوى محاريبا
وبقول غيره [من الكامل]:
ذهب العليم بعيب كل محدث ... وبكل مختلف من الإسناد
وبكل وهم في الحديث ومشكل ... يعنى به علماء كل بلاد
وبقول غيره [من الوافر]:
بكيت على فراقك كل يوم ... وأمليت الجوار من الجفون
ولو كان البكاء بقدر شوقي ... لملته العيون من العيون
وبقول غيره [من البسيط]:
رزءٌ ألم فقلب الدهر في وهج ... وأغفل الناس منسوب إلى الهوج
وللقلوب وجيب في مراكزها ... مهول فهو بتشقيق الصدور حجي
وللعيون انهمال كالغمام بكا ... فكل فج به عال من اللجج
يا واحد العصر يا من لا نظير له ... إذ كل شخص من الأمثال في لجج
يا شيخ الاسلام1 يا مولى لقد خضعت ... غلب الرجال لما تبدي من الحجج
__________
1 تسهل الهمزة للضرورة.
(1/99)
يا بر حلم بحور العلم قد تركت ... قلما سمعنا بداع، مقبل سمج
أصم أسماعنا لما تلا سحرا ... قد مات من تهزم الأهوال حين نجي
قاضي القضاة المفدى من بني حجر ... من خلقه ليس في شيء من الحرج
فلو رضي الدهر منا فدية عظمت ... وحقك، جدنا فيك بالمهج
ولو حميت بضرب السيف ما وجدت ... لها المنايا إليك الدهر من ولج
في حق عهدك ما زلنا ذوي شغف ... بعهد ود لكم بالروح ممتزوج
خفت سجاياك والألباب قد رجحت ... بها نهاك من الإحصاء بالثبج
ألفت يا حلو مر الصبر ترشفه ... فأنت للصبر صب بالغرام شجي
من للقيام بجنح الليل مجتهدا ... تبيت ترفعه آيات ذي الدرج
تعلي النحيب خضوعا والأسى قلقا ... كأنه في الدياجي بالحراب وجي
قد كان مصرك ليلا كالنهار به ... شهاب فضلك يغنيه عن السرج
واليوم بعدك مثل الليل في سدف ... يا لهف قلبي فما صبح بمنبلج
فقدك فقد الناس كلهم ... وفقد غيرك قد يلفى من الفرج
من للأحاديث يحييها ويحفظها ... فوقته ليس حمال إليه يجي
قد كنت للسنة الغرا شهاب علا ... حميت آفاقها عن ماردٍ علج
وأنت أزكى الورى قلبا وارئحة ... كأنما كنت مشكا طيب الأرج
لهفي عليك شهاب الدين من رجل ... لما ترحلت صار الناس في مرج
قد كنت حافظهم في كل معضلة ... فبعدك اليوم لا تسأل عن الهمج
كانوا إذا أوهموا معنى وأخرسهم ... فتحت كل عم منهم ومرتتج1
لما ركبت على الحدباء ما أحد ... إلا انحنى منه ظهر غير ذي عوج
روحي فداء لبال قد ظفرت بها ... لديك يا حبر بالآمال بالحجج
أروق سمعي بدر النطق منك وما ... طرفي بممتنع من وحيك البهج
كأنه لم يكن يوماً فيا ... ما كنت من بعد ما مرت بمنتهج
كلا لعمري وإني فالق كبدي ... حزني عليك وقلبي جد ملتعج
ولا أحب ديارا قد قبضت بها ... فنحوها بعد بعدٍ منك لم أعج
نعم وأبغضت والله الحياة بلا ... وجود أنسك فاعلم ذاك وابتهج
لهفي على مجلس الإملاء وحاضره ... من كل حبر لسبل الخير منتهج
__________
1 مرتتج: المرتتج: الذي استغلق عليه الكلام.
(1/100)
كم فيه من رأس رأس هز من عجب ... والجمع من شدة الإضعاء لم يمج
كأننا لم نكن يوماً لديك ولا ... بقولك العذب منا قط سر نجي
فيا دوام افتكاري للسرور بكم ... ويا بكائي طوال الدهر والأبج1
لأملاءن بسيط الأرض من أدب ... ركبت فيك معانيه من البرج
جمعت قلبا بحب فيك ممتلئاً ... إلى لسان بأنواع الرثا لهج2
عليك مني تحيات أرددها ... ما هيج الورق قلبا فيك ذا وهج
وجاد مهدك في صوب الرضا مزن ... يا بحر يحيي بقاع الأرض بالثبج
ومنهم العلامة الشهاب أبو الطيب أحمد بن محمد الحجازي، فأنشدني لفظه
لنفسه قوله [من الكامل]:
كل البرية للمنية صابرة ... وقفولها شيئا فشيئا سائره
والنفس إن رضيت بذا ربحت وإن ... لم ترض كانت عند ذلك خاسره
وأنا الذي راض بأحكام مضت ... عن ربنا البر المهيمن صارده
لكن سئمت العيش من بعد الذي ... قد خلف الأفكار منا حائره
هو شيخ إسلام المعظم قدره ... من كان أوحد عصره والنادره
قاضي القضاة العسقلاني الذي ... لم ترفع الدنيا خصيما ناظره
وشهاب دين الله ذو الفضل الذي ... أربى على عدد النجوم مكاثره
لا تعجبوا لعلوه فأبوه من ... قبل علي في الدنا والآخره
هو كيميا العلم وكم من طالب ... بالكسر جاء له فأضحى جابره
لا بدع أن عادت علوم الكيميا ... من بعد ذا الحجر المكرم بائرة
لهفي على من أورثتني حسرة ... درس3 الدروس عليه إذ هي حاسره
لهفي على المدح استحالت للرثا ... وقصور آيات غدت متقاصره
لهفي عليه عالماً بوفاته ... درست دروس والمدارس بائره
لهفي على الإلماء عطل بعده ... ومعاهد الأسماع إذ هي شاغره
لهفي عليه حافظ العصر الذي ... قد كان معدوداً لكل مناظره
لهفي على الفقه المهذب والمحر ... ر حاوي القصود عند محاوره
لهفي على النحو الذي تسهيله ... مغني اللبيب مساعد لمذاكره
__________
1 الآبج محركة الأبد: "القاموس المحيط" 1/100.
2 الرثا مقصورة ضرورة، والرثاء تعداد محاسن الميت.
3 انقطاع الدروس
(1/101)
لهفي على اللغة العربية كم أرا ... نا معربا بصحاحها المتظاهره
لهفي على علم العروض تقطعت ... أسبابه بفواصل متغايره
لهفي على خزانة العلم التي ... كانت بها كل الأفاضل ماهره
لهفي على شيخي الذي سعدت به ... صحب وأوجه ناظريه ناضره
لهفي على التقصير مني حيث كم ... أملا النواحي بالنواح مبادره
لهفي على عذري عن استيفاء ما ... تحوي وعجزي أن أعد مآثره
لهفي على لهفي وهل ذا مسعدي ... أو كان ينفعني شديد محاذره
لهفي على من كل عام للهنا ... تأتي الوفود إلى حماه مبادره1
والآن في ذا العام جاءوا للعزا ... فيه وعادوا بالدموع لهامره2
قد خلف الدنيا خرابا بعده ... لكنما الأخرى لديه عامره
وبموته شقى الفؤاد وأعلم الـ ... ـعين انثنت في حالتيها شاغره
ولي المحاجر طابقت إذ للرثا ... أنا ناظم وهي المدامع ناشره
فكأنه في قبره سر غدا ... في الصدر والأفهام عنه قاصره
وكأنه في اللحد من ذخيرة ... أعظم بها درر العلوم الفاخره
وكأنه في رمسه سيف ثوى ... في الغمد مخبوء ليوم الثائره
وكأنه كشف الغطاء له فإن ... قربت منيته أفاض محاجره
وغدا بأبيات الرثا متمثلا ... وحبا بها بعض الصحاب وسارره3
ونعى بها من قبل ذلك نفسه ... أكرم بها يا صاح نفسا طاهره
ولصاحب الكشاف يعزى نظمها ... والعد منها أربع متفاخره
وأنا الذي ضمنتها مرثيتي ... جهرا وأولها بغير مناكره
قرب الرحيل إلى الآخرة ... فاجعل إلهي خير عمري آخره
وارحم مبيتي فهي القبور ووحدتي ... وارحم عظامي حين تبقى ناخره
فأنا المسيكين الذي أيامه ... ولت بأوزار غدت متواتره
فلئن رحمت فأنت أكرم راحم ... فبحار جودك يا إلهي زاخره
هذا لعمري آخر الأبيات إذ ... هي أربع كملت تراها باهره
وأنا أعود إلى رثائي عودة ... تجلو لسامعها بغير منافره
__________
1 الهنا بمعنى التهنئة.
2 والعزا بمعنى التعزية.
3 من السرّ الذي أسر به إليه.
(1/102)
قهرتني الأيام فيه فليتني ... في مصر مت وما رأت القاهره
هجرتني الأحلام بعدك سيدي ... واحر قلب قد رمي بالقاهره
من شاء بعدك فليمت أنت الذي ... كانت عليك النفس قدما حاذره
وسهرت مذ صرخ النعي بزجرة ... فإذا هم من مقلتي بالساهره
ورزئت فيه فليت أني لم أكن ... أو ليت أني قد سكنت مقابره
رزء جميع الناس فيه واحد ... طوبى لنفس عند ذلك صابره
يا نوم، عيني لا تلم بمقلتي ... فالنوم لا يأوي لعين ساهره
يا دمع، واسقي تربه ولو أنها ... بعلومه جرت البحار الزاخرة
يا حبر، فارحل ليس قلبي فارغا ... سكنته أحزان غدت متكاثره
يا نار شوقي بالفراق ناججي ... يا أدمعي بالمزن كوني ساجره1
يا قبر، طب قد صرت بيت العلم أو ... عينا به إنسان قطب الدائره
يا موت، إنك قد نزلت بذي الندى ... ومذ استضفت حباك نفسا خاطره
يا رب، فارحمه وسق ضريحه ... بسحائب من فيض فضلك غامره
يا نفس صبرا فالتأسي كائن ... بوفاة أعظم شافع في الآخره
المصطفى زين النبيين الذي ... حاز العلا والمعجزات الباهره
صلى عليه الله ما صال الردى ... فينا وجرد للبرية باتره
وعلى عشيرته الكرام وآله ... وعلى صاحبته النجوم الزاهره
ومنه الشّهاب أحمد بن محمد بن علي المنصوري صاحب القصيدة الماضية ذكرها
في المدائح، فقال يوم وفاة صاحب الترجمة [من الزجر]:
قد بكت السحب على ... قاضي القضاة بالمطر
وانهدم الركن الذي ... كان مشيداً من حجر
ومنهم الفاضل أبو هريرة عبد الرحمن بن علي بن أحمد بن عثمان بن النقاش
الأصم [من البسيط]:
قفا نبك بالقاموس2 الغامض الزجر ... والمرسلات بماء الغيث والمطر
مذكراً لك بالأذكار ذا أسف ... على المعاهد والروضات والأثر
على ديار إذا صح الحديث ولي ... في الحسن معتقد والضعف للغير
على رباع خلا درس الحديث بها ... والربع عاف ومحتاج إلى الحجر
__________
1 وإذا البحار سجرت "فهي بالجيم وليست بالخاء".
2 تهمز الألف للضرورة.
(1/103)
وقل لذي عذل في عبيرة سمحت ... دعها سماوية تجري على قدر
وقل لعيني التي بالدمع قد نزحت ... يا عين، جودي ولا تبقي ولا تذري
وابكي بموج وما المقياس يحصره ... قاضي القضاة أمير المؤمنين في الأثر
قاضي القضاة أمير المؤمنين سمي ... بأحمد بن علي ذي الرحلة الحجر
أكرم بها مدحة ما حازها أحد ... في عصرنا غير نزر قل في العصر
وع الكتابة واحفظها وسق سندا ... وخل عنك سواد الطرس بالحبر
ياموت، ذكرتني موت النبي به ... الهاشمي المصطفى المبعوث من مضر
ذكرتني العمرين1 الصاحبين أبا ... بكر الصديق مع الفاروق من عمر!
يا خنس، لو نظرت عيناك لمته ... وما حوت من فخار العلم والخفر
يا خنس، لو سمعت أذناك منطقه ... من ثغر مبسمه المنظوم بالدرر
يا خنس، قد قلت في صخر مراثيه ... فحول الحزن بالإسناد للحجر
مصيبة عمت الدنيا بأجمعها ... رمي بها زحل بالقوس والوتر
بالبحر والنهر والبحرين إذ جمعا ... أبكيه من عبرة تجري بلا ضجر
إن ذكرتني بوقت صخرها غسقا ... أو نكرتني بوقت الصيف في السحر
فكل أوقاتي الغرا مسبلة ... جاها وعلماً وما يزرى من البدر
شبهته جالساً في الدرس في فئة ... هم النجوم ووجه الشيخ بالقمر
وهم طباق وهم يهدى السبيل بهم ... من حوله أنجم كالأنجم الزهر
هم الرجال ولكن شيخهم رجل ... رجاله سند في مسند الحبر
ساد الرجال وكم قد ساد من رجل ... يشوقه بعد تحويل من السطر
يملي الحديث ببيبرس حوى سندا ... عال إلى سيد الكونين والبشر
تالله، لو سمعت حذاق شرعتنا ... شوق الأسانيد في إملائه الجهر
ولو رأوا يده في فرع روضته ... أو فسرت آية في محكم السور
أو ما يوصله في الدين معتقدا ... أو رتبت سنداً من نخبة الفكر
أو أظهرت حكمة للشافعي خفت ... يستخرج الكل من خرم من الإبر
أثنوا عليه ومن أضحى يخالفه ... بمنزل دحض كقشعم الحجر
أبكى عليه وقد شالوا جنازته ... وقنطت مرنة من نسمة السحر
أنقى من الثلج إشراقا وريحتها ... أذكى من المسك والندا الذي العطر
وبشرت برضا الرحمن خالقه ... والحور قد زينت بالحلى في السرر
__________
1 يقال العمرين يعني أبا بكر وعمر.و
(1/104)
وعدته قائلاً للقلب منه عسى ... وهل يفيد "عسى" مع سابق القدر
ياقلب قد كنت تخشى الموت ذا حذر ... وليس ذو حذر ينجو من القدر
وأنت للعالم النقاش منتسب ... وكم معان خفت تأتيك في الصور
خفت المنون وما قد كنت تحسبه ... قد جاء منتقشا كالنقش في الحجر
إن غاب شخصك يا مولاي عن نظري ... وغيبوا وجهك المحبوب في القبر
وفي أساريرك الحسناء مشرقة ... سبط من الحسنيين الخلق والبشر
يا من مراحمه للخلق واسعة ... عمت نجيا ومن في دينه الخطر
إجعل على متن هذا القبر سابغة ... من لؤلؤ رطب عذب ذكي عطر
والسامعين ومن يعزى لمذهبهم ... تحدوا على سنة الهادي النبي المصري
وقل لمن سمع الأبيات يسترها ... فالله يستره في الورد والصدر
قدمتها سلعة مزجا وناظمها ... يعدها خجلا من أعظم الكبر
وأذن بسحب صلاة منك ثم رضا ... على نبي الهدى والبشر والبشر
وآله وجميع الصحب قاطبة ... بهم هديت أمم في البدو والحضر
ما غردت ورقه في الأيك آصرة ... بزورة المصطفى والبيت والحجر
موت الإمام شهاب الدين قد جزعت ... له العلوم وما يروى من الأثر
وقال ربع علوم الشرع مكتئبا ... به درست فما تلقون من أثر
[من الكامل]:
إن الحياة ذميمة من بعد ما ... قبض الإمام العسقلاني الشافعي
يا نفس، طيبي بالممات وحافظي ... أن تلحقي هذا الإمام وتابعي
[من المجتث]:
بكت سماء وأرض ... عليك يا عسقلاني
لكننا نتسلى ... إذ ما سوى الله فاني
[من الكامل]:
ألجفن قد حاكى السحاب وناظره ... فاعذر إذا فقد المتيم ناظره
لو أن عاذله رأى ما قد رأى ... لغدا له بعد الملامة عاذره
يا عاذلي، دعني فلي حزن على ... طول المدى لم يلق يوما آخره
ذاب الفؤاد وقد تقطع حسرة ... أسفا على قاضي القضاة النادرة
أعني شهاب الدين ذا الفضل الذي ... عن وصفه أفهام مثلي قاصره
ألعسقلاني الذي كانت إلى ... أبوابه تأتي الوفود مهاجره
يا عين، إني ناظم مرثيه ... فيه فكوني للمدامع ناثره
(1/105)
لله أياما به ولياليا ... سلفت وكانت بالتواصل زاهره
تالله، لم يأت الزمان بمثله ... أبدا ولم ير مثله من عاصره
شهدت له كل العقول بأنه ... ما مثله هو درة هي فاخره
دانت لفطنته العلوم فلم تزل ... أبدا إليه كل وقت سائره
يا أيها الشعراء، هذا سوقكم ... كانت له تأتي التجار مبادرة
واليوم أغلق بابه فلأجل ذا ... أضحت تجارتكم لديكم بائره
كم من حديث قد رواه مسلسلا ... ومدبجا وله معان ظاهره
وكذا غريبا مسندا ومصححا ... جملا وأخبارا غدت متواتره
إني لأعجز أن أعد فضائلا ... فيه وأعجز أن أعد مآثره
كم طالب أقلامه من بعده ... جفت ولم تمسك يداه محابره
أسفا عليه نقول يا نفس اصبري ... فتقول: ما أنا عند هذا صابره
درست دروس العلم بعد وفاته ... ومعاهد الإملاء أضحت دائره
أسفي على قاضي القضاة مؤبد ... زفرات قلبي كل وقت ثابره
أسفي على شيخ العلوم ومن غدت ... أفكار كل الخلق فيه حائره
أسفي على من كان بين صحابه ... كالبدر في وسط النجوم الزاهره
ولقد نعى قبل المنية نفسه ... إذ كل نفس للمنية صائره
لما رأى أجل الحياة قد انقضى ... أضحى يشير إلى الصحاب مبادره
ويقول أبياتا وليست نظمه ... لكن بلفظ منه أضحت فاخره
وزمخشري ناظم أبياتها ... هي أربع معدودة متواتره
كل الورى من بعده اشتلغوا بها ... فاسمع فأولها أقول مذاكره
قرب الرحيل إلى ديار الآخره ... فاجعل إلهي خير عمري آخره
وارحم مبيتي في القبور ووحدتي ... وارحم عظامي حين تبقى ناخره
فأنا المسيكين الذي أيامه ... ولت بأوزار غدت يا إلهي زاخره
ها آخر الأبيات قد أوردتها ... فيما نظمت تبركا ومكاثره
وأعود أذكر بعد ذلك حالتي ... وأبث أحزانا يقلبي حاضره
وأقول: مات أبو المكارم والندى ... ملقي الدروس وذو العلوم الباهره
ما كان أحسن لفظه وحديثه ... ما كان قط يمله من عاشره
ولو أنه يفدى لكنت له الفدا ... وأود لو أني سددت مقاصره
لهب بقلبي بعده لا ينطفي ... ودموع عيني لم تزل متقاطره
فالله يسقي قبره ماء الحيا ... أبدا ويورده سحابا ماطره
(1/106)
ثم الصلاة على النبي وصحبه ... وعلى جميع التابعين أوامره
يا درة فقدت وكانت فاخره ... في بدء خير حولت للآخره
من كل علم حاز أكبر فره ... عز الفخار تصل بحارا زاخره
شطن الرجا كانت لطالب بره ... من بعد أشجان بفضل ماخره
تعنو الرءُوس إلى وجوه بديعه ... وإذا عصته أتت إليه ذاخره
وهو المكرم والكريم بناته ... مع علمه لو أم كعبا فاخره
ليلى بعاذرها فشاغل قلبها ... ولمن سواه بذي الدعاوى شاجره
تجري عليه مودعا روحي ولن ... تشغل ولو صارت عظاما ناخره
قد كان أول شاغل قلبي هوى ... وبهونه فالصبر عدى آخره
[من الطويل]:
شهاب المعالي بينما هو طالع ... فعاجلنا فيه القضا والقوارع
إلى الله إنا راجعون وحسبنا ... ونعم الوكيل الله فيما نواقع
فقد أورت الآفاق حزنا وذلة ... وأظلمت الأكوان ثم المطالع
وأطلق دمع العين تجري سحائبا ... وأجرى عيون السحب فهي هوامع
وصير طرفي لا يمل من البكا ... وأحرق قلبا بالجوانح هالع
وفرق جمع الشمل من بعد إلفه ... وألف در الجمع في الخد لامع
فوجدي وصبري في الرثاء بيانيا ... فوجدي موجود وصبري ضائع
فصبرا لما قد كان في سابق القضا ... فليس لمقدور المنية دافع
وطلقت نومي والتلذذ والهنا ... وألزمت نفسي أنني لا أراجع
وصاحب سهدي والتأسف والأسى ... فواصلتها لما جفتني المضاجع
وإني غريب لو أقمت بمنزلي ... وإني وحيد لا معين أراجع
فلهفي على شيخ الحديث وعصره ... فمجلسه للعلم والفضل جامع
فلهفي على تلك المجالس بعده ... لفقد أولي التحقيق قفر بلاقع
فلهفي على جدي وشيخي وقدوتي ... وشيخ شيوخ العصر إذ لا منازع
فأوقاته مقسومة في عبادة ... وفضل لمحتاج ببر يتابع
فقد كان ظني أن تكون معاوني ... على كل خير مثل ما قيل مانع
فعند إلهي قد جعلت وديعتي ... كريم لديه لا يخيب الودائع
فرحب الفضا قد ضاق من بعد بعده ... علي وفيه بحر فكري واسع
فيا موت، زر إن الحياة ذميمة ... فمن بعد هذا الحبر إني راجع
إمام الهدى والعلم والحلم والتقى ... وحافظ هذا الوقت للحق خاضع
(1/107)
ففي النظم حسان وفي الجود حاتم ... وفي العلم ليث وهو في الثبت نافع
عفيف السجايا باسط اليد بالندا ... جزيل العطايا ناسك متواضع
بزهد له قد كان يحكي ابن آدم ... له ورع بالصبر للنفس قانع
فأيامه صوم وفي الليل هاجد ... مقيل خشوع ساجد الرأس راكع
فمنهاجه حاو لتنبيه غافل ... وبهجته زانت كما الروض نافع
وفتح لباريه حواه فوائدا ... يزيل التباسا فهو للشكل رافع
وتقريبه الأسما لتهذيب طالب ... وفي الجرح والتعديل كالسيف ساطع
فإن رمت إتقان الحديث فجمعه ... فعن حافظ الإسلام تروى الشرائع
[من الطويل]:
كأن لم يمت من سواه ولم تقم ... على أحد إلا عليه النوائح
[من البسيط]:
إني معزيك لا أني على طمع ... من الخلود ولكن سنة الدين
فما المعزى بباق بعد صاحبه ... ولا المعزي ولو عاشا إلى حين
[من الطويل]:
تعز بحسن الصبر عن كل فائت ... ففي الصبر مسلاة الهموم اللوازم
وليس يذود النفس عن شهواتها ... لعمرك إلا كل ماضي العزائم
[من الوافر]:
لعمرك ما الرزية هدم دار ... ولا شاة تموت ولا بعير
ولكن الرزية موت شخص ... يموت بموته علم كبير
(1/108)
تلخيص الحبير لابن حجر
من الكتب التي قامت بتخريج كتاب "العزيز في شرح الوجيز" كتاب "تلخيص
الحبير" لابن حجر العسقلاني؛ حيث أن كتاب "الوجيز" للغزالي قام بشرحه
الرافعي في شرحين، سمى أحدهما "الشرح الكبير" وهو المسمى بـ "العزيز"
وسمى الثاني "الشرح الصغير". أما بالنسبة لكتاب "العزيز" فقد قمنا
بتحقيقه وأما "الشرح الصغير" فنحن بصدد تحقيقه.
ولقد نال "العزيز" عناية العلماء من حيث تخريج حديثه وتعددت هذه
التخريجات؛ لذا يجدر بنا أن نشير إليها:
1- "تخريج أحاديث الرافعي".
لشهاب الدين أبي الحسين أحمد بن أيبك بن عبد الله الحسامي، الدمياطي،
الحافظ "ت 749 هـ".
(1/108)
2- "تخريج أحاديث الرافعي".
لمحمد بن علي بن عبد الواحد بن يحيى بن عبد الرحيم الدكالي، ثم المصري،
الشافعي أبو إمامة، المعروف بـ "ابن النقاش"، خطيب جامع ابن طولون،
"ت763 هـ".
3- "تخريج أحاديث الرافعي".
للقاضي أبي عمر عز الدين عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم بن سعد اللَّه
بن جماعة الكناني، الحموي الأصل، الدمشقي المولد، ثم المصري، الشافعي،
المتوفي بمكة سنة "767هـ".
4- "تخريج أحاديث الرافعي".
لبدر الدين محمد بن بهادر، الزركشى، المنهاجي، الشافعي، "ت 794 هـ".
5- "البدر المنير في تخريج أحاديث الشرح الكبير".
للإمام أبي حفص عمر بن علي بن أحمد، المعروف بابن المُلَقن "804 هـ"
وهذا الكتاب هو الذي اختصر منه الحافظ كتابه "تلخيص الحبير".
6- "شافي العي في تخريج أحاديث الرافعي".
لشهاب الدين أبي العباس أحمد بن إسماعيل بن خليفة بن عبد العال،
الدمشقي، الشافعي، المعروف بـ "ابن الحسباني" "ت 815 هـ".
7- "نشر العبير في تخريج أحاديث الشرح الكبير".
للحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي "ت 911 هـ".
هذا، ولقد وجد الحافظ ابن حجر أن الكتب التي صنفت في تخريج الأحاديث
عند كل مؤلف ما ليس عند الآخر من الفوائد، لذا قام بضم تلك الفوائد إلى
بعض وأودعها كتابه "تلخيص الحبير" فضلاً عما وجده في الأصل "البدر
المنير" من إطالة وتكرار يمكن الاستغناء عنها حتى إن مؤلفه نفسه لخصه
في كتاب سماه "خلاصة البدر المنير" وقد قام الحافظ في كتابه بالآتي:
أولاً: اختصار كتاب شيخه ابن الملقن "البدر المنير في تخريج الأحاديث
والآثار الواقعة في الشرح الكبير".
ثانياً: جمع في اختصاره بين الاختصار وعدم الإخلال بما اشتمل عليه
الأصل من الفوائد والمقاصد؛ فخرج كتابه اختصاراً ليس بمخل.
ثالثاً: يضيف على اختصاره بعضاً من تقريرات أئمة الحديث مثل الزيلعي في
"نصب الراية".
(1/109)
رابعاً: حذف الحافظ مقدمة كتابه "البدر المنير" ولعل ذلك يرجع لطولها
ولما اشتمل عليه كتابه من تخريج للرافعي فقط.
(1/110)
منهج ابن حجر في "تلخيص الحبير"
لقد سار الحافظ في كتابه "تلخيص الحبير" على خطوات أساسية التزمها من
أول كتابه إلى آخره وتتلخص هذه الخطوات فيما يلي:
1- كان يبدأ الحافظ أولاً بذكر الحديث بنصه في كتاب "العزيز" للرافعي
دون زيادة عليه ولا نقص، وبنفس لفظه.
2- ثم يعزو الحديث إلى المصادر الأصلية لتخريج الحديث مكتفياً بأسماء
أصحابها دون اسم المصدر نفسه غالباً وعلى سبيل المثال نجده قال في حديث
"الذهب والحرير: هذان حرامان على ذكور أمتي":
قال الترمذي والنسائي وأحمد والطبراني".
غير أنه في بعض المواضع يذكر المصدر، نحو قوله في حديث: "لا تلبسوا
الحرير" ... الخ قال: "رواه الحاكم في المستدرك".
3- كان يذكر الحكم على الحديث غالباً، وإذا كان فيه ضعيف بينه، ونقل
أقوال أهل الجرح والتعديل فيه.
4- يعزو الحديث بداية للصحابي ثم بعد ذلك يذكر عزو الحديث لأصحاب أخر
بقوله: "وفي الباب أيضاً عن.... ".
5- كان في بعض المواضع يذكر اختلاف الألفاظ والروايات في الحديث.
6- كان الحافظ يقول: "قلت" ولا يعني أن الكلام المذكور بعدها له، وإنما
هو لصاحب الأصل ابن الملقن غالباً، وكان في بعض المذكور بعد "قلت" من
كلامه كما قال في حديث "كانت حلقة قصعة رسول الله صلى الله عليه وسلم
من فضة"، الحديث في باب الأواني فراجعه.
7- يذكر في نهاية الحديث تنبيهاً مشتملاً على فوائد وتقريرات مهمة.
وصف النسخة الخطية
اعتمدنا في تحقيق الكتاب على النسخة المخطوطة بدار الكتب المصرية تحت
رقم "1449" حديث يشتمل على جزءين، الأول: ميكروفيلم "18086" "467" ق،
والجزء الثاني ميكروفيلم "48574" "378" ق، مكتوبة بخط نسخ.
هذا، وآخر دعوانا الحمد للَّه رب العالمين.
(1/110)
|