الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية

مقدمة المؤلف:
قوله: " باب الالف الممدودة: الاباء: القصب، ويقال: رؤوس القصب ". ثم يقول الجاسر: " ثم أورد كلمات على هذا الوزن وكلمات أخرى مثل: الاقواء، والانحناء، والاستخذاء، والحوباء، والاهواء، وآخر الباب: " الاغواء: يقال: أغواه يغويه إغواء إذا حمله على الغي، ويقال: غوي الفصيل يغوي شديدا، إذا شرب من اللبن حتى يكاد يسكر " إلخ. وهذا كتاب التقفية ومنهج تأليفه ومؤلفه كما ذكر الجاسر، وكله برهان على أن دعواه بسبق أبي بشر البندنيجي الجوهري ليست أهلا للاخذ بها، إذا أريد منها انتزاع راية الابتكار من الجوهري صاحبها الاصيل وإعطائها غيره. فالجوهري إمام هذه المدرسة دون منازع وغير مدافع وإن كان مسبوقا في الزمن والتأليف من قبل البندنيجي أو الفارابي، لان البندنيجي وكتابه مغموران باعتراف الجاسر، ولان البندنيجي لم يقصد أن يؤلف معجما لغويا، وليس كتابه إياه، وقد فطن لعمله فذكره في مقدمة كتابه إذ يقول: " هذا كتاب التقفية إملاء أبي بشر وسماه بذلك لانه مؤلف على القوافي والقافية والبيت من الشعر ". فما ادعاه له الجاسر لم يزعمه المؤلف لنفسه، لانه كان فاهما ومدركا حقيقة عمله، هذه الحقيقة التى جهلها الجاسر جهلا مطبقا. ولو اطلع الجوهري على " كتاب التقفية " لما جرؤ إنسان يعرف الحق ويتبعه أن ينتزع راية الابتكار من الجوهري ويعطيها البندنيجي. فكيف والامام الجوهري لم يطلع عليه، إذ لو اطلع عليه لذكره وأشار إليه، ولم أجد في معجمات العربية في عصر الجوهري ولا في المعجمات التي أعقبته أي إشارة إلى كتاب البندنيجي، وقد اعترف الجاسر أن البندنيجي وكتابه مغموران. ولهذا لا يمكن أن ننفي ابتكار الجوهري طريقة تأسيس معجمه، وما كان السبق في الزمن نافيا الابتكار ما دام من يوصف به لم يطلع على عمل من سبقه، فكيف وعمل البندنيجي - بعد أن عرف وظهر - لا يعد سبقا بالنسبة للجوهري لاختلاف منهجه عن منهج البندنيجي كل الاختلاف الذي جهله الجاسر جهلا. ولو ادعى الجاسر أن الفارابي في معجمه " ديوان الادب " سبق الجوهري في الابتكار والتأليف لكان في دعواه نظر، أما دعواه في نفي الابتكار عن الجوهري أن البندنيجي سبقه فمردودة، ولا يمكن أن تجوز دعوى الجاسر على إنسان يفهم المعجم فهما سليما. وقد سبق باحث هو العلامة المستشرق الالماني فريتس كرنكو (1872 - 1953 م) حمد

(1/1)


الجاسر في إنكار الابتكار على الجوهري، وقد رددنا عليه إنكاره في مقدمة الصحاح، وفندنا زعمة كرنكو إذ ادعى أن الجوهري سرق في صحاحه مواد كتاب الفارابي وقلنا في صفحة 80 - 81: " ولقد أسرف الاستاذ كرنكو في دعواه، ولا سند له، فديوان الادب للفارابي وصحاح الجوهري موجودان، ومنهما نسخ كثيرة صحيحة، والفارق بين المعجمين كبير، وبعد كل هذا نجد عمل الجوهري أصح وأكمل وأعظم من عمل خاله الفارابي. " ونحن لا نشك في أن الفارابي يعد واضع بعض أساس منهج الصحاح، وفوق هذا أربى الجوهري على خاله وأتى بنظام دقيق بذه فيه، وكان نظامه آية بينة. " ولعل مما أثار وهم كرنكو حتى زعم ما زعم أن ياقوتا يقول: " رأيت نسخة من كتاب ديوان الادب بخط الجوهري، وقد ذكر فيها أنه قرأها على أبي إبراهيم بفاراب ". ولا يبعد أن يكون الجوهري قد اطلع على كتاب خاله، ولكن عبارة ياقوت غير دقيقة، وينفيها أن الفارابي ألف كتابه في زبيد وتوفي بها، وهذا يمنع الجوهري من القراءة على خاله، ولا يمنعه من الاطلاع عليه واستنساخه. " وإذا قلنا: إنه اطلع على " ديوان الادب " وقرأه على مؤلفه فإن ذلك لا يوجب اتهام الجوهري بسرقة كتاب خاله، فالفارق بينهما كبير في المنهج والترتيب والنظام وعدد المواد. والتقاء الفارابي والجوهري في نقطة أو نقاط ليس دليلا على أن الثاني سطا على الاول، وإلا لعد الامام الازهري سارقا كتاب العين للخليل، وعد كل تابع مدرسة معجمية سارقا من الرائد، ولكن أحدا لا يستطيع - في مثل هذه الاحوال - أن يتهم عالما إماما بالسرقة إذا اتفق مع غيره في المنهج وأكثر المواد ". وقلنا في مقدمة الصحاح صفحة 103: " ولم ننسب هذه المدرسة إلى الفارابي مع تقدمه ومع أن الجوهري يلتقي معه في بعض النقاط، لان الفارابي ألمع إلماعا إلى بعض منهج الجوهري، ولكن الجوهري جاء بما وفى على الغاية، ووصل فيه إلى النهاية، وأحكم النظام، وضبط المنهج، فانتسبت المدرسة إليه، وهو بهذه النسبة جدير، لانه إمامها الفاذ، وعلمها الذي لا تخطئه العين مهما ابتعدت عنه ". هذا ما قلناه في الفارابي والجوهري ومعجميها مع شهرة " ديوان الادب " للفارابي ومع تقدمه على الصحاح. وسبق كتاب التقفية للبندنيجي لا يغير من الامر شيئا، فتقدم الزمن بأبي بشر البندنيجي وبمؤلفه لا يجعله إمام هذه المدرسة ورائدها، وإذا كنا لم نرض بالامامة للفارابي

(1/2)


الامام المشهور فإننا لا نرضى أن نحكم بالسبق للبندنيجي المغمور الذي لم يؤلف معجما لغويا وإنما ألف كتابا في التقفية. والمحاكاة في عمل الجوهري لعمل البندنيجي غير واردة، ولم يدعها أحد، ولا يمكن أن يدعيها، فالجوهري لم يطلع هو ومعاصروه من مؤلفي المعجمات على كتاب البندنيجي، لانهما مغموران كما قرر الجاسر نفسه، ومع هذا ادعى الدعوى الباطلة المردودة. فالامام الجوهري مبتكر منهجه ابتكارا، وقد انتهى إليه ابتداء وإن ظهر في هذا العصر على يد الجاسر أن " كتاب التقفية " تقدم معجم الصحاح بزمن غير يسير. ونحن - ومعنا الحق والعلم والتاريخ والواقع - نؤكد أن الجوهري قد انتهى إلى منهجه دون أن يكون بين يديه مثال سبقه فتأساه، وإنما انتهى إليه بعد دراسة واعية شاملة لمناهج رواد المعجمات العربية الذين سبقوه، فهو قد رأى وعورة منهج الخليل فلم يأخذ به، كما لم يأخذ بمنهج أبي عبيد القاسم بن سلام الذي بنى معجمه " الغريب المصنف " على المعاني والموضوعات، ولم يأخذ بمنهج أبي عمرو بن العلاء الذي أسس معجمه المسمى " كتاب الجيم " على أوائل الكلمات متخذا ترتيب حروف الهجاء، مبتدئا بالهمزة منتهيا بالياء، وسبب انصرافه عن منهج أبي عمرو أن الجوهري رأى فاء الكلمة غير ثابتة في موضعها، وكذلك الحرف الذي يليها وهو العين، فاتخذ منهجا جديدا يخالف ما عرف من مناهج المعجمات، وخرج عليهم بمنهج غير معروف، وأشار الجوهري نفسه إلى منهجه في مقدمة الصحاح قائلا: " على ترتيب لم أسبق إليه، وتهذيب لم أغلب عليه ". والجوهري صدوق، وقوله هذا حق كله، فهو لم ينهج نهج الفارابي في كتابه " ديوان الادب " مع أن منهجيهما يلتقيان في بعض النقاط. وكلمة الجوهري: " على ترتيب لم أسبق إليه " تدل على أنه لم يطلع على كتاب التقفية للبندنيجي المغمور هو وكتابه، وما دام الجوهري الامام الحجة الثبت الصدوق يقول: إن ترتيبه لم يسبق إليه فالقول قوله، لان الحق معه، ولا يلتفت إلى قول الجاسر الذي لا يعرف الفارق بين المعجم وغيره. ومن آيات صدقه أن منهج الجوهري يختلف عن منهج البندنيجي اختلافا واضحا مشهودا في تأسيس كل منهما كتابه بحيث لا تخطئه عين عالم، وسبب كل منهما في التأليف غير سبب الآخر، فالبندنيجي أراد من تأليفه تيسير القافية على راغبيها من الشعراء، وهو مطلب خاص بفئة من الناس هي ندرة نادرة فيهم، وليس الشاعر الفحل المطبوع بحاجة إليه. ولهذا نجد البندنيجي حشد المادة في بابها دون مراعاة الترتيب المعجمي السليم، فهو

(1/3)


لم ينظر إلا إلى حرف القافية في آخر الكلمة، فلم يراع ترتيب الكلمات، بل حشدها وساقها كما اتفق له، فذكر ما كان منتهيا بالهمزة في باب واحد دون أن يراعي الاعلال الصرفي، ودون أن يراعي الحرف الثاني والثالث، بل دون أن يراعي الحرف الاول، ولم يفطن إلى الترتيب الهجائي في ترتيب الكلمات، بل لا حاجة له إلى هذه الفطنة، لانه لا يؤلف معجما لغويا. فالبندنيجي يفتتح كتابه بباب الالف الممدودة، ويذكر أول كلمة في كتابه " الآباء " مع أن الهمزة الاخيرة منقلبة عن ياء، وهذا ما حمل الجوهري على أن يضعها في الياء، لان آخر حرف في الكلمة الياء، والفصل فصل الهمزة لان الكلمة مبدوءة بها. ولكن البندنيجي لم يكن عليما بالصرف، ولم يكن يقصد إلى تأليف معجم لغوي، وإنما أراد أن يؤلف في " التقفية " ليكون كتابه عونا للشعراء في كلمات القافية، ولهذا لم يكن في حسابه الاعلال الصرفي، بل كان كل همه صورة الكلمة، فذكر الآباء في باب الهمزة ولم يذكرها في موضعها الاصيل وهو باب الياء. ولم يكن البندنيجي آخذا نفسه بالترتيب المعجمي، بل يذكر الكلمات كما تتفق له دون أن ينظر إليه، فيقدم ما حقه التأخير، ويؤخر ما حقه التقديم. وأصدق شاهد الصفحتان الاخيرتان من الكتاب اللتان صورهما الجاسر ونشرهما، فقد جاءت فيهما هذه الكلمات على هذا الترتيب: الدالية، الناحية، البادية، الجابية الكراهية، الرفاهية، الرفاغية، المسائية، الهاوية، القارية، الجامية، النهاية، العناية، الراية، الولاية، السانية، الناجية، الحاوية. وهذا ليس ترتيبا معجميا، ولا يطلب من البندنيجي ذلك في كتاب التقفية، لانه لم يرد أن يؤلف معجما لغويا، وإنما أراد أن يؤلف كتابا في التقفية، والاسم والعمل يدلان على مراده. والترتيب المعجمي لتلك الكلمات بحسب صورتها الظاهرة هكذا: البادية، الجابية، الجامية، الحاوية، الدالية، الراية، الرفاغية، الرفاهية، السانية، المسائية (لانها من ساء) العناية، القارية، الكراهية، الناجية، الناحية، النهاية، الهاوية، الولاية. وهذا ترتيب غير صحيح في فن المعجمات، لانه اعتمد على الصورة الظاهرة للكلمة دون أن يرجع إلى أصولها. ومع أن البندنيجي ألف كتابه في التقفية فإن الكلمات التي ذكرها لا تصلح في قافية

(1/4)


قصيدة واحدة، ولا يمكن أن تأتي فيها لاختلاف تفعيلات البحور، ولو جاءت قوافي قصيدة واحدة لكان الميزان مضطربا، والخلل كريها، وكان حريا بمن يريد من كتاب يؤلفه لاصحاب القوافي أن يضمن لهم اليسر، مع أن الامر بين، ولو اهتدى بهدي الشعراء في قصائدهم لادرك ذلك، ولكنه لم يفطن للقافية في القصيدة الواحدة، فحشد الكلمات وحشرها كما اتفق له. والاختلاف واضح بين منهجي البندنيجي والجوهري وعمليهما وقصد كل منهما في عمله. وإن سبق البندنيجي في الوجود وسبق كتابه لا ينفيان ابتكار الجوهري منهجه، بل يثبتان له الابتكار الذي يؤكده أن البندنيجي نفسه وكتابه معه مغموران، وليس نهجه نهج الجوهري الذي يختلف كله عن نهج البندنيجي في تأسيس المنهج وطريقته. وما دام الجاسر نفسه يثبت ذلك ويذكره فلا يصح أن ينفي عن الجوهري ابتكاره لمنهجه المعجمي الذي لم يسبق إليه. ومن الثابت المؤكد أن البندنيجي لم يرد من كتابه تأليف معجم لغوي، وإنما أراد تيسير القافية على الشعراء، ولم يرد غيره، وأما الجوهري فلم يرد خدمة الشعراء وإنما أراد أن يقدم معجما فقدم أصح معجم عربي خطا بالتأليف المعجمي أوسع خطوة عرفها تاريخ المعجمات العربية. وقد وهم بعض الباحثين فذكروا سبب ترتيب الجوهري صحاحه على أواخر الكلمات وزعموا أن أراد تيسير القافية على الشعراء والسجع على الكتاب، ورأينا نحن رأيا غير ما رأوا، وقلنا في " مقدمة الصحاح " صفحة 121 - 122: " وقد ذكر بعض الباحثين العلماء أن سبب اختيار الجوهري - أو من تبعه - ترتيب معجمه على أواخر الكلمات: التيسير على الشعراء والكتاب والنظم والنثر، فالكتاب كانوا يلتزمون السجع، والشعراء القوافي، فهم في حاجة إلى كلمات باعتبار أواخرها، أو أن غلبة السجع أو نظم القوافي هديا مؤلفي المعجمات - وعلى رأسهم الجوهري - إلى هذه الطريقة. " ونحن لا نقبل هذا الرأي ونراه غير علمي، وإذا صح هذا السبب فما أهون شأن مؤلفي المعجمات وما أضأل القصد! " والذي نراه أن منهج الجوهري في ترتيب صحاحه باعتبار أواخر الكلمات غير مقصود منه تيسير الامر على الشعراء والكتاب، حتى يجدوا السجع وكلمات القوافي دون عناء، بل أراد الجوهري أن يؤلف معجما للناس جميعا دون أن ينظر إلى طائفة واحدة

(1/5)


يؤثرها بعمله العظيم. " أما المنهج الذي اتبعه فهو من ابتكاره، وهداه إليه علمه الواسع بالصرف واشتغاله به، فهو قد رأى أن ميزان الكلمة الفاء والعين واللام، والتغيير يلحق ما قبل لام الكلمة، وتنقلب " فعل " بين أحوال كثيرة وتأتي في صور شتى، وهي: أفعل وفعل وفاعل وانفعل وافتعل وافعل وتفاعل وتفعل واستفعل وافعوعل وافعول وافعال. " وهذه - هي - أوزان مزيد الفعل المجرد، ويظهر منها أن التغيير تناول الفاء والعين، فتارة يتقدم الفاء حرف وتارة حرفان، وتارة ثلاثة، أما العين فقد تنفصل عن الفاء وقد تنفصل عن اللام، وقد تضعف. " أما لام الكلمة فثابتة لا تتغير مهما اختلفت صورة الكلمة إلا في حالات قليلة، ومتى لحقها التغيير أو زيد بعدها حرف أو حرفان فإن الكلمة تنتقل إلى أوزان أخرى، ولا تعتبر من الثلاثي، بل تصير رباعية، أو خماسية (1) . " رأى الجوهري أن الفاء والعين لا تثبتان في موضع، ولا تبقيان على حال، أما اللام فثابتة، فترك ترتيب الكلمات على أوائل الحروف لان فيه متيهة الباحث الذي لا يعرف التصريف والمجرد والمزيد، فكلمة " أكرم " واستنوق وترهل ومحجة تضلل الباحث الشادي، بل رأيت بعض العلماء يضلون في الكشف عن مواضعها من المعجم، ولا يعرف في أي حرف هي. " أما طريقة الجوهري فمأمونة هادية، فيجد الباحث " أكرم " وكل ما تفرع من مادة " كرم " في باب الميم، واستنوق في باب القاف، وترهل في باب اللام، ومحجة في باب الجيم، وإذا كان الباحث عارفا بالمجرد والمزيد فإنه سيجد أكرم في فصل الكاف، واستنوق في فصل النون، وترهل في فصل الراء، والمحجة في فصل الحاء. " وأعتقد أن ما ذكرته هو الذي حمل الجوهري على اتباع منهجه الذي ابتكره ابتكارا، أما السبب الذي رآه بعض العلماء - وذكرناه - فهو رأي لا قيمة له علميا. " وأعانه على هذا الابداع في نظامه علمه الواسع بالنحو والصرف حتى قيل في وصفه: إنه " خطيب المنبر الصرفي، وإمام المحراب اللغوي، وإنه أنحى اللغويين ". وما نزال عند رأينا وهو أن الجوهري سابق متفرد، وإمام هذه المدرسة دون منازع، ومبتكر فإذ، ومبتدع منهجه ابتداء لم ينظر فيه إلى مثال سبقه.
_________
(1) استدراك: ليس هذا تغييرا في لام الكلمة، فهي ثابتة لا تغيير، وإن زيد بعدها حرف فهو من جنسها، وأما الضمائر التي تأتي في أواخر الافعال فلا تغير من بناء الكلمة.

(1/6)


وترتيب البندنيجي " كتاب التقفية " على أواخر الكلمات من ابتكاره، فقد سبقه إليه الشعراء منذ عرف الشعر العربي الذي يجئ في آخر كل بيت منه حرف القافية الموحدة في القصيدة كلها. ورأى البندنيجي كلمات القافية فأخذها كما اتفق له وشرح بعض معانيها، وفضله أنه جمع من هذه الكلمات " ما قدر عليه وبلغه حفظه " دون أن يراعي الترتيب المعجمي، لانه لم يرده، أو لم يفطن له، ولم يأخذ في حسابه إلا الكلمة في صورتها الظاهرة المنطوقة دون أن ينظر إلى أصل الكلمة وصرفها وما لحق بها من إعلال، ودون أن ينظر إلى أوائل الكلمات، بل حشدها حشدا، وحشرها حشرا كما اتفق له، منتهجا في ذلك نهج الشعراء، فهم لا يرتبون كلمات القافية ترتيبا معجميا، فقوافي الشعراء غير خاضعة لمنهج المعجميين ولا تتفق معه. أما نظام الجوهري فهو النظام المحكم، ومنهجه هو المنهج الحق الذي ابتكره ابتكارا، وسبق به كل من سار على نهجه. وإذا كنا لم نعد الفارابي الذي اتفق الجوهري معه في بعض نقاط منهجه إمام هذه المدرسة مع تبحره في اللغة فإن مما لا يصح أن يعد البندنيجي رائد هذه المدرسة وإمام الجوهري ومن اتبع نظامه الدقيق المحكم، لان البندنيجي: أولا - مغمور، وثانيا - لان كتابه نفسه مغمور، وثالثا - لان الجوهري وقبله الفارابي لم يطلعا على كتاب البندنيجي، ورابعا - لان الجوهري يقول في مقدمة صحاحه: " على ترتيب لم أسبق إليه "، وهو صادق يؤيده واقع التاريخ، وخامسا - لان منهج الجوهري يختلف كل الاختلاف عن منهج البندنيجي، وسادسا - لان قصد كل منهما في كتابه يغاير قصد الآخر، وسابعا - لان عمل الجوهري عمل معجمي صحيح تتوافر كل شروط المعجم فيه، وثامنا - لان عمل البندنيجي ليس عملا معجميا، وتاسعا - لان كتاب البندنيجي ليس معجما. وخلاصة القول: إن تقدم البندنيجي في الوجود وسبقه في تأليف كتابه لا يمكن أن ينفيا عن الجوهري الابتكار ويسلباه إياه. والبندنيجي لم يفطن للتأسيس المعجمي الذي فطن له الجوهري ابتداء، وكان فيه رائدا وإماما، فهو لم يقتصر في الترتيب على الحرف الاخير من الكلمة، بل نظر إلى الحرف الاول منها، ثم وضع في حسابه الحرف الثاني ثم الثالث في الرباعي، ثم الحرف الرابع في الخماسي. والبندنيجي لم يفطن لهذا النظام المعجمي الدقيق، لانه لم يقصد إلى تأليف معجم لغوي، ولم يدر بخلده ذلك. والجوهري لا يذكر مادة " حبب " بعد " حدب " لان الباء أسبق من الدال في

(1/7)


الترتيب، أما البندنيجي فلم يفطن لهذا النظام الذي لا يكون المعجم معجما تاما إلا به، وكتابه ليس في حاجة إلى هذا النظام المعجمي الدقيق الذي أسسه الجوهري قبل كل رواد المعجمات ومؤلفيها. والحكم للجوهري بالسبق والابتكار والتفرد حقه وحده في هذا المنهج الذي سار عليه في صحاحه، ولا يعد البندنيجي ممن أدركوا منهج الصحاح، وكل ما اتفقا فيه أن البندنيجي اعتمد أواخر الكلمات، وكذلك الجوهري، ولكنهما يفترقان في هذه المزية أيضا، فالبندنيجي اعتمد على الحرف الاخير في الكلمة وإن لم يكن لام الكلمة، أما الجوهري فلم يعتمد إلا على لام الكلمة وحدها. ولو كان عمل البندنيجي ومنهجه عمل الجوهري نفسه ومنهجه عينه دون أن يطلع اللاحق على عمل السابق لكان كلاهما مبتكرا وسابقا، أما وأن عمل البندنيجي ونهجه يختلفان كل الاختلاف عن منهج الجوهري وعمله فإن راية السبق والابتكار والاجتهاد والريادة والامامة تبقى بيد الجوهري وحده دون منازع فهيم. وليس من الحق في شئ عقد مقارنة بين البندنيجي والجوهري، بل من الاسراف في الظلم الحكم للبندنيجي على الجوهري، ولكنه حكم غير مقبول، بل يرده كل ذي معرفة بمناهج المعجمات العربية. وآخر كلمة نقولها: ليس كل سابق في الزمن إماما، وما أشبه الجوهري بالامام في الصلاة، يتأخر حضوره إلى المسجد عمن سبقوه إليه فيتقدمهم إلى محراب الامامة دون نزاع أو جدال. وكذلك الجوهري الامام الفذ المبتكر السابق على كل من سار على نهجه، بل هو الامام السابق الفاذ على التحقيق. تكملة وصلة عند ما كتبت البحث الذي نشرته بين مقدمات الطبعة الثانية من " الصحاح " " لم يكن العلامة البحاثة المحقق الكبير الدكتور إبراهيم السامرائي قد نشر بحثه العظيم في " صحاح " الجوهري و " تقفية " البندنيجي تحت عنوان " لا قياس بين صحاح الجوهري وتقفية البندنيجي ". ولما كان من المتعذر على كل قارئ شراء " الصحاح " فقد رأيت نشر رأيي في ابتكار الجوهري صحاحه ليقف القارئ على الحق الذي خفي على حمد الجاسر الذي لم يفرق بين

(1/8)


عمل الجوهري وعمل البندنيجي، وظنهما من حزب واحد، وهو من الجهل الذي لا يقع فيه أهل البصر بالمعجمات وتأسيسها. ولو سبق إلي بحث العلامة السامرائي لاستشهدت به، ولذكرته في بحثي المنشور في مقدمات " الصحاح " ولكني لم أطلع عليه إلا بأخرة، وهو جدير بإعادة نشره خاتمة لبحثي لانه شاهد صدق على أن عمل الجوهري غير عمل البندنيجي، ولان العلامة السامرائي حكم عدل وشاهد صدق. وها نحن أولاء ننشر بحث الدكتور السامرائي، فلعل الدكتور خليل العطية المختدع بزعمات حمد الجاسر وغيره يعودون إلى الحق.
أحمد عبد الغفور عطار مكة المكرمة

(1/9)


لا قياس بين " صحاح " الجوهري و " تقفية " البندنيجي بقلم الدكتور ابراهيم السامرائي عنيت العربية بالكلام المقفى، منذ أقدم عصورها، وهي في ذلك بدع بين اللغات السامية، فلم نعرف لغة منها كان فيها للقافية ما كان لها في العربية، وليس أدل على هذا ما حفلت به لغة التنزيل العزيز من أفانين السجع والمزاوجة. وليس أدل على ذلك - أيضا - مما أثر من هذا الضرب من الكلام في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحديث الصفوة من رجاله الاكرمين. وليس لقائل يقول لنا إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر على بعضهم أن يسجع في كلامه، فقال: أسجعا كسجع الكهان؟ ومن هنا كان استعماله غير حسن والرد على ذلك أن الرسول أراد أن لا يتخذ سجع الكهان في الجاهلية وصدر الاسلام مادة تحاكي وأسلوبا يتبع. لقد عني الرسول الكريم بكلامه، فجاء من نماذج البلاغة العالية، وكان من اهتمامه أن عني بالكلم، فتعرض له السجعة، فتحل في محلها عناية بجودة البناء واحكاما له، وادراكا للمعنى المراد. ألا ترى أن من عنايته بهذا اللون أنه عدل بالكلمة عن وجهها، لتجئ على نمط أخواتها، فقال للحسن بن علي بن أبي طالب - عليهما السلام: " أعيذه من الهامة والسامة، وكل عين لامة " وأراد: " ملمة " من الرباعي ألم. ويندرج في هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ارجعن مأزورات غير مأجورات "، وإنما أراد " موزورات " من الوزر، فقال: " مأزورات " مكان موزورات، طلبا للتوازن والسجع. وحسبك أنك لا تجد سورة من سور القرآن قد خلت من الكلم المسجوع، أو مما دخله ضرب من العناية كالمزاوجة مثلا، وإنك لتجد السورة كلها مسجوعة على نحو ما كان في سورة الرحمن، وإنك تقرأ قوله تعالى في سورة طه: طه (1) ما أنزلنا عليك القرءان لتشقى (2) إلا تذكرة لمن يخشى (3) تنزيلا ممن خلق الارض والسموات العلى (4) الرحمن على العرش استوى (5) له ما في السموات وما في الارض وما بينهما وما تحت الثرى (6) وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى (7) الله لا إله إلا هو له الاسماء الحسنى (8)

(1/10)


فتشعر أن التزام الالف في هذه الآيات في أواخر الفواصل قد جعل من هذا النظم العالي أدبا عاليا وفنا رفيعا، هذا شئ من دلائل الاعجاز في لغة التنزيل العزيز، وبمثل هذا يشعر قارئ سورة الشمس حين يقرأ من قوله تعالى: والشمس وضحها (1) والقمر إذا تلها (2) والنهار إذا جلها (3) واليل إذا يغشها (4) أو يقرأ في سورة الضحى: والضحى (1) واليل إذا سجى (2) ما ودعك ربك وما قلى (3) وإنك لتقف الموقف نفسه، حين تنتقل إلى سورة تلتزم فيها القافية، على نحو محكم أشد الاحكام، كما في سورة المدثر، في قوله تعالى: يأيها المدثر (1) قم فأنذر (2) وربك فكبر (3) وثيابك فطهر (4) والرجز فاهجر (5) ولا تمنن تستكثر (6) ولربك فاصبر (7) وقد يتأتى الغرض الفني في الاسلوب القرآني بغير هذه الفواصل المسجوعة، وذلك أن يقصد إلى ضرب من التناسب الذي يحقق الغرض، ألا ترى في قوله تعالى في سورة الانسان: إنآ أعتدنا للكفرين سلسلا وأغللا وسعيرا (4) أنهم قرأوا " سلاسلا " بالتنوين، فقال المفسرون: قرئ بتنوين (سلاسل) ووجهه أن تكون هذه النون بدلا من ألف الاطلاق ... ولا أرى أن هذا التوجيه النحوي مقنع مفيد، والذي أراه أن حرص المعربين على الاخذ بالتناسب سهل عليهم تنوين غير المنون، إخضاعا له ليكون مناسبا لقوله " أغلالا وسعيرا " وكلاهما منون، وأن تجئ الآية على هذا النسق من التنوين أوقع لدى طائفة من القراء. ومن هذا ما جاء في السورة نفسها: وأكواب كانت قواريرا (15) قواريرا لقد قرئت بترك تنوينها، وهو أمر يخدم التناسب الذي أشرنا إليه، وهو الاصل - أيضا - وقرئ تنوين الاول خاصة بدلا من ألف الاطلاق، لانها فاصلة، وتنوين الثانية كالاولى إتباعا لها، ولم يقرأ أحد بتنوين الثانية وترك الاولى. وهذه القراءات تثبت أن الحرص على التناسب أساس فيها. ومن المفيد أن أشير أن الجهابذة البلغاء قد درجوا على هذا النهج في أدبهم، فكانت لهم عناية بالقافية والفواصل والتناسب، وإليك مما كتبه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - إلى عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - فقال: " أما بعد فإن الانسان يسره درك ما لم يكن ليفوته، ويسوءه فوت ما لم يكن ليدركه، فلا تكن بما نلت دنياك فرحا، ولا بما فاتك منها ترحا، ولا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل، ويؤخر التوبة بطول أمل، وكأن قد، والسلام ".

(1/11)


ثم إنك لتجد في نثر العباقرة من كتاب العربية، كالجاحظ، وأبي حيان، وغيرهما عناية بالاسلوب، دون أن يكون قصد منهم أن يفيدوا من السجع، فقد عزفوا عن ذلك لانهم شعروا أن جمهرة أهل الكتابة قد أغرقوا في استعمال هذا اللون حتى استهلكوه، فكانت السجعة هدفا لهم على حساب المعنى، ثم إنهم توسعوا فيه، فكان منه السجع المعروف، والسجع المرصع، وغير ذلك. وقد يضيق القارئ ذرعا، وهو يقرأ طائفة من المقامات الحريرية أو خطب ابن نباتة، وذلك لغلوهما في استعمال هذا الضرب من فن الكتابة. ولقد أدى غلو أهل هذه القرون المتأخرة، باستعمال السجع في الكتابة، والتزام من خلفهم به إلى مطلع عصرنا هذا، إلى أن يتجنبه المتأدبون في عصرنا. لقد وجد أدباؤنا أن موضوعات الادب في هذا العصر غيرها في عصور سلفت، وأن للحضارة المعاصرة مواد كثيرة ينبغي للاديب أن تكون له أدوات جديدة للاعراب عنها، وعلى هذا لا يكون للاسلوب الملتزم بالسجع مكان في هذا الادب الجديد. ثم جاء شعراؤنا الجدد وجلهم شباب متطلع للجديد، مأخوذ بما في الحضارة المعاصرة من فكر جديد مفيد، ولكنه لم يتزود بالزاد الكافي من هذه الالوان الجديدة، وكلها غريب وافد إلينا، قد نحس فينا حاجة إلى هذا الجديد، وقد نحس أن ليس لنا غنى عن الاخذ بالالوان الادبية في مغرب الدنيا ومشرقها، ولكننا في الوقت نفسه لم نهتد إلى معرفة ما نملك من إرث سخي قديم، وما أظن أن الاخذ بالوافد الجديد يفرض علينا أن نقطع صلتنا بأصول عزت أرومة وطابت مغرسا. ولعل إخواننا هؤلاء قد فاتهم أن يعرفوا أن للحضارة مسيرة، وأن الجديد النافع لا بد له أن يقوم على قديم مفيد. ذهب الشعراء الشبان إلى أن الشعر، بأوزانه المعروفة. وقوافيه شئ عتيق لا بد أن يصار منه إلى نماذج جديدة - يرى هؤلاء أن الوعاء القديم لا يتسع للفكر الجديد، ولكنك تتلمس أوعيتهم الجديدة فلا تستطيع أن تلمس شيئا من جدة الفكر، ونصاعته، فأين الموضوع؟ أن كثيرا من هذه النماذج التي لا يريد أصحابها أن تسمى قصائد غامض مبهم، غير أن هذا الغموض وذاك الابهام لا يترشح منه شئ مما يقال عنه إنه فكر جديد. وقد شاء أصحابنا من الشبان المتأدبين أن يدعوا شعرهم ب‍ " الحر " وأن ما كان موزونا مقفى ب‍ " العمودي " وأنهم أساءوا فهم " العمود الشعري " فصار عندهم الالتزام بالوزن والقافية، ولم يكن " عمود الشعر " عند النقاد الاقدمين شيئا من هذا، ولو أنهم رجعوا إلى ما كتبه المرزوقي في الموضوع لاهتدوا إلى ذلك، وإلى ما كتبه ابن طباطبا العلوي في " عيار الشعر ". كأنهم شعروا أن التزام الوزن والقافية الواحدة عقبة تحول دون إدراك ما يبتغون من صيرورة أدبهم الجديد مادة جديدة في موضوعها، ولم يتأت لهم هذا، وأنى لهم، والبضاعة

(1/12)


قليلة، والزاد غث لا غناء فيه؟ ثم إنك لتجد في هذا الادب الحر الجديد ميلا إلى التزام قواف ورجوعا إليها ما أمكنهم السبيل، وقد تجد القطعة التي " كتبها " صاحبها ذات وزن وقافية واحدة، ولكنه كتبها بصورة أبعدتها عن أن تكون صدورا وأعجازا لقصيدة مألوفة. ثم إن صاحبها ليعمد إلى خرم في الوزن، ومجافاة للمألوف فيه، وكأن ذاك متعمد مقصود ليشهد على نفسه أنه جديد مجدد، وأن أدبه " حر " طليق، وأن " فنا " وحيلة في رسم أشطاره ليكفي أن يكون نمطا جديدا. وأنا أسأل طائفة من أصحابنا أهل " الحر " الجديد الآخذين به، العائبين على القصيدة في أوزانها المعروفة وقوافيها أنها أدب ميت قاصر، أو مومياء محنطة، وليس خيالا " مجنحا " جديدا فأقول: لم يعمد هؤلاء المجد دون إلى اللون القديم الذي دعوه " العمودي " حين ينظمون في " مناسبة " وطنية؟ ألم يقولوا: إن " العمودي " قاصر لا غناء فيه، وإن " العمودي " لا يمكن أن يكون وعاء للجديد من الفكر، ألم تكن " المناسبة الوطنية " موحية لفكر جديد وأدب جديد ولون جديد؟ هذه سؤالات لم أتبين لها جوابا. أنا لا أنكر أن الكثير من الشعر الذي التزم فيه الوزن والقافية صناعة غثة وبضاعة بائرة، وأنه رصف ميت مفتقر إلى كثير من عناصر الحياة، غير أني أشعر - أيضا - أن شيئا كثيرا من جديد القوم مما يدعى " حرا " ضرب من كلام خلا من ظلال للمعاني، بله الجديدة منها. ولا بد لي من أن أعود إلى القافية فأشير إلى أن غير العرب من الامم السامية قد حاولوا أن يصنعوا صنيعهم، فيكتبوا نثرهم مسجوعا. ثم إن اللغويين الاقدمين لما رأوا ما للقافية من مكان في نثر العرب وشعرهم، عمدوا إلى تصنيف المصنفات في الموضوع، فكانوا يجمعون الاسجاع في الاقوال المأثورة والامثال وغيرها، منوهين بهذا الضرب من فن النثر. وقد بلغ الامر إلى أن يصنعوا معجمات تشتمل على الالفاظ التي تنتهي بقافية واحدة، مثل: الصغير، والكبير، والقدير، والحقير، وصدور، ومصدور، ومثل: جناب، وإياب ورباب، وعذاب، هكذا استوفوا جل أبينة العربية، ولم يكن غرضهم إلا جمع الاشباه والنظائر من الالفاظ التي جاءت على قافية واحدة. وعلى رأس هذه المصنفات كتاب (التقفية في اللغة) لابي بشر بن أبي اليمان البندنيجي (المتوفى سنة 284 هـ‍) والكتاب من سلسلة إحياء التراث التي تصدرها وزارة الاوقاف في الجمهورية العراقية. وقد حققه وبذل فيه الوسع الدكتور خليل إبراهيم العطية، وقد دبجه بتعليقات

(1/13)


مفيدة، ولقد أشار السيد المحقق في مقالة له - لعلها كانت من مادة الدراسة التي اشتملت عليها المقدمة، والتي لم تنشر مع الكتاب، إلى أن البندنيجي المصنف قد سبق إسماعيل بن حماد الجوهري في صنعة " الصحاح " وذلك لان كتاب " التقفية " اشتمل على القوافي وهي أواخر الكلمات، وعلى هذا كان المصنف، وهو من علماء القرن الثالث الهجري سابقا لصاحب (الصحاح) في ابتداع هذه الطريقة المعجمية، وهي تصنيف الكلم بحسب الحرف الاخير فيها. ولقد سبق السيد المحقق إلى هذا الرأي الاستاذ الفاضل حمد الجاسر، صاحب مجلة (العرب) فقد نشر مقالة في المجلة نفسها، منذ أكثر من ثماني سنوات، ذهب فيها هذا المذهب، حين عثر على المخطوطة التي اعتمد عليها الدكتور خليل العطية في التحقيق، وهي مخطوطة فريدة. وقد حسبت الامر حقيقة، حين ظهرت مقالة الاستاذ الجاسر، ثم مقالة الدكتور العطية، غير أنني حين قرأت الكتاب بعد نشره تبينت أن لا قياس بين (الصحاح) وكتاب (التقفية) ! أقول: كأن صاحب كتاب (التقفية) كان يرمي إلى أن يصنف كتابا يجمع فيه ما (تيسر) جمعه من الالفاظ التي تشترك في قافية واحدة، ويقسمها تقسيما يتساهل فيه مع الابنية، فهو يجمع الكلمات: صغير، وكبير، ومقدور، ومثير، في مكان واحد، لمجئ الراء قافية فيها، بصرف النظر عن أن صغير وكبير على " فعيل " ومقدور على " مفعول " ومثير على " مفعل " وهذا مما تسمح القوافي به في نظم الاشعار. وهو يجمع: إهاب، وجناب، ورغاب، وضباب، في مكان واحد، مع أن كل واحدة من هذه الكلمات من بناء يختلف عن نظائره، فهو فعال في الاول بكسر الفاء، فعال في الثاني بفتحها، وهما مفردان، وفعال في الثالث، والرابع، وهما جمعان ل‍ " رغبة " و " ضب ". وهكذا جرى صاحب (التقفية) ، ومن غير شك أن هذه الطريقة لا يمكن أن تستوفي ألفاظ العربية، وعلى هذا لا يمكن أن يكون كتاب (التقفية) معجما يضم العربية على نحو (العين) و (الصحاح) ونحو ذلك. إن هذا الغرض من الكتاب من شأنه أن يجعل المؤلف مضطرا أن يأتي بما يحقق له الغرض، وهو جمع الالفاظ ذات القافية الواحدة. فأين هذا من (الصحاح) الذي أراد له صاحبه أن يأتي شاملا للصحاح الفصاح من العربية؟ ثم إن صاحب (التقفية) لما كان غرضه جمع الالفاظ ذات القافية الواحدة، مقسمة على ما يشبه الابنية مما يتساهل معه في أن يأتي قافية لشعر أو كلمة مسجوعة في نثر، لم يعن بأوائل الكلمات.

(1/14)


أما الجوهري فقد عني بأواخر الكلمات وأوائلها من غير اهتمام لاوزانها أو ما هو قريب من أوزانها، وصنف الكلمات المنتهية بقافية واحدة، أي بحرف من الحروف الهجائية بحسب أوائلها، وهو يصنف مثلا في حرف الباء فصل الكاف الالفاظ الآتية: كأب، كبب، كتب، كثب، كحب، تاركا " كجب " لعدمه في العربية وهكذا يفعل في سائر الحروف، فهل شئ من هذا جاء في كتاب (التقفية) ؟ من غير شك لا. وبعد، أليس أن نتجنب العمل فنقول: إن صاحب (التقفية) أصل في ابتداع هذا النظام المعجمي، وإن " الجوهري " قد قلده، وأخذ منه الطريقة؟ ولم يكن صاحب (التقفية) بمعني بأوائل الالفاظ، وهي التي دعيت فصولا في " الصحاح ". أقول: ليس هذا من ذاك فكتاب (التقفية) ليس. إلا معجما خاصا نظير كتب " القلب والابدال " و " الهمز " و " المقصور والممدود " وغيرها من المواد اللغوية. وهذه الكتب هي معجمات خاصة - أقول: " خاصة " لانها ترمي إلى غرض معين، وهو جمع طائفة كبيرة من الالفاظ ذات صفات خاصة، وليس من غرض مصنفيها استيفاء معاني الالفاظ. إن نظرة مع موازنة بين هذه الكتب والمعجمات المطولة تثبت ما ذهبت إليه، ومن غير شك أن ليس شئ من ذلك يقربها من كتاب " الصحاح " وهو المعجم اللغوي الشامل. ولا يهمني ولا يهم العلم أن يكون هذا سابقا لذاك، ولكني وددت أن أشير إلى أن الكتابين مختلفان، لكل منهما منهج وطريقة وهدف، فليس هذا من ذاك في شئ. ولا بد من عودة إلى كتاب (التقفية) لاسجل - هنا - أن الكتاب أصابه من التصحيف والخطأ ما ذهب بنضارته، وما حمل الضيم على جهد المجقق السخي. ومن المؤلم - حقا - أن يساء إخراج كتاب جليل ينشر أول مرة على هذا النحو، ذلك أن إعادة نشره عسيرة لا سبيل إليها، بل قل أشبه بالمستحيلة. ولقد تهيأ لي فيه من المآخذ قدر كبير يطمع في تأليف كتيب صغير، مع إقراري أن عمل المحقق جيد، وأن جهده كبير، وأني لم آخذ عليه إلا مسائل يسيرة. إبراهيم السامرائي

(1/15)


الاثر الخالد معجم الصحاح تهذيبه ومقدمته بقلم الدكتور بكري شيخ أمين أعوذ بالله أن أكون مبالغا إذا قلت: إن التصدي لانشاء معجم لغوي، أو العكوف على تحقيقه عمل كبير، وجهد عظيم، وسهر طويل، وبذل لنور العينين سخي.. بل هو إلى الخطر أقرب، إذا كان القائم به ذا هوى متبع، أو ذا عداوة لمذهب، أو رأي، أو دين ... إن أقل ما يجب أن يتضلع به هذا المقدم على مثل هذا العمل الكبير هو المعرفة العريضة، الشاملة، والمحيطة، والصحيحة لكتاب الله: تاريخا، وعلوما، وتفسيرا، وقراءات، وسواها، والاطلاع الكامل على حديث سيد البشر صلى الله عليه وسلم وما يدور حوله من علوم وفنون وآداب، وعلى أيام العرب ولغاتها وتاريخها وآدابها وأعلامها وأشعارها وأقوالها، وعلى المكتبة العربية والاسلامية وما تضم وتحتوي، وعلى الاعمال المعجمية وما فيها من حسنات وسيئات، وعلى قدر طيب من اللغات الاخرى، وفوق هذا أن يكون ذا عقل راجح، وحكم عادل، وحياد علمي مبين. لخير لنا أن نوجز الشروط فنقول: على من يقدم على مثل هذا العمل أن يكون دائرة معارف حية، تتنفس، وتأكل وتشرب، وتمشي بين الناس. ولعمري إن هذا مطلب عسير، وشرط يكاد يقتل صاحبه، لا يبلغه إلا من آتاه الله قوة، ومتعه بالصبر والايمان العميق. وإذا كان لنا - نحن العرب - أن نباهي بمن توافرت فيهم تلك

(1/16)


الشمائل، وخرجوا علينا بالاعمال الباهرة التي يفاخر بها الزمان خلال تاريخنا، فإن لنا أن نفخر - كذلك - بالخلف الذي أخذ على نفسه تسلم هذا اللواء، وسار فيه قدما متابعا طريق الخلود. قلة حملة هذا اللواء، وطبيعي أن يكونوا قلة، فأفذاذ الرجال قليلون على طول المدى ككرام الناس. من هذه الفئة القليلة العلامة الاستاذ الشيخ أحمد عبد الغفور عطار، ابن البلد الامين، ومؤلف الكتب التي قاربت الثمانين. عمل هذا الرجل حينا من الدهر في الصحافة، فأصدر جريدة " عكاظ "، ثم " دعوة الحق "، وآثر بعد ذلك أن يعكف على التأليف، والتحقيق، والتعريب، وترك الصحافة والوظيفة والعمل التجاري.. آخر كتبه التي أصدرها " حجة النبي " صلى الله عليه وآله وسلم، وقد كتبت المجلة العربية عنه في عددها الرابع، من السنة الثانية. إن الذي يعنينا في هذه الدراسة الحديث عن الجانب اللغوي الذي خاض فيه الاستاذ العطار، ونضرب الذكر صفحا عن تحقيقه كتاب " ليس في كلام العرب " (1) لابن خالويه، ونركز البحث في التحقيق اللغوي المعجمي وحده، أملا في أن نعود إلى الجوانب الاخرى عنده في يوم من الايام، إن شاء الله وقدر. * * * للاستاذ العطار ثلاثة أعمال جليلة في مجال اللغة، اثنان في التحقيق، والثالث في التأليف. حقق أولا " تهذيب الصحاح " للزنجاني، ثم أتبعه بتحقيق " الصحاح " نفسه للجوهري. وألحق بهذين العملين عملا ثالثا أسماه " مقدمة الصحاح "
_________
(1) صدر كتاب " ليس في كلام العرب " منذ شهرين محققا تحقيقا علميا رائعا بقلم محقق " الصحاح " نفسه، مذيلا بفهارس. دار العلم للملايين.

(1/17)


وهو شبيه ب‍ " مقدمة ابن خلدون " المسهبة الرائعة. والزنجاني من علماء القرن السابع الهجري / الثالث عشر للميلاد (ت 656 هـ‍ / 1258 م) ، اسمه عبد الوهاب بن ابراهيم بن عبد الوهاب الخررجي الزنجاني، وهو من علماء العربية لغة ونحوا ونظما. شهد له بالفضل السيوطي في بغية الوعاة، وتبعه في هذه الشهادة كثير. لو ألقينا نظرة إلى طريقة تحقيق " تهذيب الصحاح " استطعنا أن نعرف الخطة الرئيسة التي يسير عليها هذا العالم في كتبه التي حققها جميعا. ولا بد أن نشير قبل الخوض في شرح هذه الخطة إلى أن تحقيق " تهذيب الصحاح " تم بالمشاركة مع محقق كبير آخر هو الاستاذ عبد السلام هارون. * * * استهل العطار كتابه بمقدمة عامة عن ثروة اللغة العربية اللفظية، ثم تطرق إلى تاريخ التأليف في هذه اللغة، وظهور المعاجم حتى وصل إلى " تهذيب الصحاح "، ولقد أعاد هذا الكلام ذاته تقريبا في " مقدمة الصحاح " لكنه لم يقف عند " تهذيب الصحاح " وإنما تابع الحديث عن التأليف المعجمي الذي دار حول الصحاح والقاموس المحيط. حكى لنا العطار في مقدمة " التهذيب " كيف أن نسخة مخطوطة نادرة المثال وقعت في يد المرحوم محمد سرور الصبان - الامين العام لرابطة العالم الاسلامي - سابقا - كتبت بخط يشبه خط أبناء القرن التاسع الهجري (الخامس عشر للميلاد) ولم يكن عليها اسم الكتاب، ولا اسم مؤلفه، فقدمها إلى العطار ليعمل فيها تحقيقا، ويعرف ما تكون، فأخذها، وانفتل إلى المراجع باحثا عن اسم الكتاب ومؤلفه. وأول خيط دله على اسم المؤلف ما ورد في مقدمة المخطوط جاءت بالحرف الواحد في كتاب " البلغة في أصول اللغة " لمحمد صديق حسن خان بهادر، ملك مملكة بهوبال، وفي الفصل الذي عقده عن " صحاح الجوهري " وعزاها إلى الزنجاني في كتابه الذي اختصر فيه كتابه الآخر " ترويح الارواح في تهذيب الصحاح ". وعزز ما جاء في " كشف الظنون " لحاجي خليفة القول ذاته.

(1/18)


أما تسمية هذا الكتاب، فقد اقتبسه المحققان " العطار وهارون " من الكتاب الاصيل ذاته " ترويح الارواح في تهذيب الصحاح " فأسمياه: " تهذيب الصحاح "، إلا أن المستشرق الالماني كارل بروكلمان ذكر اسم هذا المختصر " تنقيح الصحاح " وذلك في كتابه " تاريخ الادب العربي " المشهور ب‍ ". " G. A. L ولعل بروكلمان مصيب. المنهج المتبع في تحقيق هذا " التهذيب " يمكن أن أن نجمله بالنقاط التالية: لقد حافظ فيه المحققان على نص المؤلف، دون أن يزيدا عليه، أو يحذفا منه شيئا، كما حافظا على ترتبيه، وطريقته، وأسلوبه. وكانا يعارضان ما فيه ب‍ " الصحاح " المطبوع، والنسخة المخطوطة بمكتبة شيخ الاسلام عارف حكمت بالمدينة المنورة، ومخطوطة دار الكبت المصرية. واهتما بتقييد الضبط المهمل بالنص عليه، وببيان اللغات التي وردت في الضبط. واستطاعا أن ينجياه من التفسير الدائري الذي تقع فيه كثير من المعاجم العربية، مثل " القلام " بالتشديد تفسر ب‍ " القاقلي ". والمعاجم تفسر " القاقلي " ب‍ " القلام " فيخرج القارئ منهما دون أن يعرف القلام أو القاقلي. كان الزنجاني يأتي إلى تفسير لفظ فيقول: " إنه معروف "، وهو في عصرنا هذا غير معروف، فيفسره ويشرحه. كذلك انصب الاهتمام على جموع المفردات، ومصادر الافعال التي أهملها المؤلف، وبيان المذكر والمؤنث، وما يستوي فيه التأنيث والتذكير، وعقد مقابلات وتنظيرات لما ورد في العامية الحجازية والنجدية والمصرية متفقا وما ورد في الفصيح، وكأنهما يريدان من ذلك أمرين: أولهما: أن يسجلا تسجيلا لغويا هذه اللغة التي ربما شردت أو ندت في عبارة بعض الكتاب المعاصرين لمعرفة مدلولها حين يتقادم بها العهد. وثانيهما: غرض علاجي، وهو التنبيه إلى وجوه العدول عن الصورة اللغوية المغلوطة إلى الصورة الفصيحة الصحيحة، وقديما صنع أسلافنا اللغويون في كتبهم ومعاجمهم ذلك بغية الاصلاح والارشاد.

(1/19)


ومن منهج التحقيق في التهذيب تأصيل الالفاظ المعربة والدخيلة على العربية، وبيان أصلها الذي انحدرت منه إلى مستوى التعريب أو الاقحام، وكان الاعتماد في هذه النقطة على نصوص الاقدمين والمعاجم الاجنبية الحديثة، وعلى كل وسيلة تؤدي إلى المعنى. من ذلك قول " التهذيب ": " الفلذ: كبد البعير، والجمع أفلاذ ". وجاء في التعليق على " أفلاذ " قولهما: " وأفلاذ كبد الارض: كنوزها، وأفلاذ كبد البلد: رجاله. والفولاذ: الحديد الذكر النقي من الخبث، وهو معرب بولاد أو فولاذ، كما في المعجم الفارسي ص 260 و 942 ". ولم يكن يمر علم إلا وأتيا على ترجمته بإيجاز، دون أن يغفلا مصادر هذه الترجمة، كما كانا يعنيان بتحقيق أسماء القبائل، وبيان الفرق، والطوائف الدينية، والاجناس البشرية، وتحقيق مواضع البلدان التي وردت في المعجم، وتعيين مواقعها، والكلام على أيام العرب التي ورد ذكرها فيه، ومراجع الشرح والتعليق. وتجلت ثقافة الرجلين الدينية ببيان القراءات للايات التي وردت في " التهذيب " وتحقيقها، مع الرجوع إلى كتب التفسير والقراءات الصحيحة والشاذة. وكان إذا ورد بيت شعر عمدا إلى تحقيقه، ونسبته إذا لم يكن منسوبا إلى قائل، وتصحيح ما نسب إلى غير صاحبه خطأ أو وهما، وإيراد أصح الروايات لهذه الشواهد. وتمر - أحيانا - كلمات في غير أبوابها، مثل " حانوت " إذ جاءت في " حين " وحققها أن تذكر في " حنت " وقد نبها إلى ذلك. الامر الجدير بالذكر - كذلك - أن المحققين وقفا موقف الحكم العادل بين الجوهري - صاحب الصحاح - واللغويين، فبينا أوهامه، كما بينا أوهام غيره، وميزا صواب القول من خطئه، معتمدين على الروايات الصحيحة والمعاجم، وعلى رأيهما. وانتبها إلى ما زاده الزنجاني على " الصحاح " الاصيل، وتتبعا مواضع الزيادة بدقة، وأثبتاها في الحواشي.

(1/20)


وأخيرا، نظما في آخر الكتاب فهرسا كاملا للغة، والاعلام، والقبائل. وقد قصدا بفهرس اللغة تيسير البحث على طلبة العلم في هذا المعجم، لعله يعثر في سهولة ويسر على ضالته، واتبعا الترتيب الحديث للمعاجم " الالفبائي ". كان من الطبيعي أنهما يستطيعان أن يتخذا هذا الاسلوب في " تهذيب الصحاح " نفسه، فيرتباه الترتيب الحديث - كما فعل نديم المرعشلي ويوسف الخياط في لسان العرب - ولكن الامانة العلمية والحرص على تقديم الكتاب بالصورة التي ورد بها منعاهما من هذا السلوك - في اجتهادنا -. يمكن أن نقول مطمئنين: إن " تهذيب الصحاح " ليس كتابا واحدا، بل ثلاثة كتب: أحدهما قديم نصا، والثاني حديث يتمثل في الحواشي التي تعادل الاصل بل تزيد عليه، والثالث معجم حديث يتمثل في الفهرس اللغوي الملحق الذي جمع فيه مواد التهذيب والحواشي فيه مع الاشارة إلى رقم الصفحة التي ورد فيها كل لفظ. وبعد، فالمنهج العلمي ميز هذا المعجم. ولمحققيه العالمين: العطار وهارون أجزل الشكر، ومثله لناشره الذي أغدق عليه بسخاء، هو المرحوم محمد سرور الصبان، رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه. * * * التحقيق الكبير الثاني كان لمعجم " الصحاح " للجوهري. ولقد شهد ياقوت الحموي في كتابه " إرشاد الاريب إلى معرفة الاديب " والمشهور ب‍ " معجم الادباء " شهادة رائعة إذ قال: " كان الجوهري من أعاجيب الزمان ذكاء وفطنة، وأصله من بلاد الترك، من فاراب، وهو إمام في علم اللغة والادب " ... تلقى الجوهري علم العرب من شيخين عظيمين هما: أبو علي الفارسي (ت 356 هـ‍ / 966 م) وأبو سعيد السيرافي (ت 368 هـ‍ / 978 م) واستكمل تحصيله من علماء الحجاز، والعرب العاربة في ديارهم، وطوف ببلاد ربيعة

(1/21)


ومضر، ثم عاد إلى خراسان، واستقر فيها حقبة، ثم ارتحل عنها إلى نيسابور فأقام فيها مدرسا ومؤلفا ومعلما للخط. في نيسابور ألف إسماعيل بن حماد الجوهري " الصحاح " وصنفه لابي منصور عبد الرحيم البيشكي، وكان هذا أديبا واعظا أصوليا مقدرا بين الناس. ويبدو أن ثمن العبقرية غال على طول الزمن، فلقد دفع الجوهري ثمنها باهظا، تحدثنا كتب التراجم أنه " اعترت الجوهري وسوسة، فمضى إلى الجامع القديم بنيسابور وصعد إلى سطحه محاولا الطيران، وأنه قال بعد أن صعد إلى السطح: أيها الناس! إني عملت في الدنيا شيئا لم أسبق إليه، فسأعمل للاخرة أمرا لم أسبق إليه. وضم إلى جنبيه مصراعي باب وتأبطهما بحبل، وزعم أنه يطير، فألقى بنفسه من أعلى مكان في الجامع فمات. ويرجح الباحثون أن وفاته سنة 393 هـ‍ / 1002 م. * * * من حسن حظ اللغة العربية أن عوامل الدمار التي مرت على هذه الامة فقضت على كثير من تراثها وروائعها، لم تصل إلى " صحاح " الجوهري، وظل بنجوة منها. وصل هذا الاثر إلينا - كما يقول العطار - من ثلاث طرق: أولا: طريق البيشكي الذي ألف الجوهري الصحاح له. ثانيا: طريق ابن عبدوس الذي سمع عليه الهروي. ثالثا: الوراق الذي بيض من الصحاح ما كان على سواده بعد موت مؤلفه. وهناك طريق أخرى هي طريق " محمد بن تميم البرمكي " الذي نقل " الصحاح " واستبدل بترتيب مؤلفه ترتيبا آخر جديدا، سنتحدث فيه حين نفصل القول في " المقدمة ". إضافة إلى هذا فإن عددا من النساخين نسخ الصحاح، وكانت هذه

(1/22)


النسخ في مكتبات كثير من العلماء. أما النسخة التي اعتمدها الاستاذ العطار ووثق بها فهي مخطوطة شيخ الاسلام عارف حكمت في المدينة المنورة، ويعود تاريخها إلى سنة 686 هـ‍ / 1287 م، وكانت أساسا، وإلى جانبها مخطوطة القاضي البصري، ويعود تاريخها إلى منتصف القرن الخامس الهجري / الحادي عشر للميلاد، وقد وجدها في خزانة الاستاذ محمد خليل عناني من أهل مكة المكرمة. ولم تكن نسخة دار الكتب المصرية بعيدة عنه أيام كان يقوم بالتحقيق. والعطار يعرف أن في مكتبات العالم نسخا كثيرة مخطوطة من " الصحاح " وفي بعض هذه المكتبات أكثر من نسخة واحدة. كان الاستاذ العطار واعيا مهمته حين شرع يعمل في " الصحاح "، مدركا أنه مسلح بالاسلحة اللازمة لمثل هذا التحقيق الكبير، مطلعا على ما جاء في المعاجم السابقة واللاحقة، متملكا العقل الواعي، والذوق السليم، والقدرة على الحكم العادل. لقد أدرك أن في الصحاح مزايا، وأن فيه هنات. ذكر أن مزاياه تتجلى في التماس الجوهري الصحيح الذي لا خلاف فيه، وسهولة تناول ما جاء فيه، واختصاره في الشرح والتفصيل، وتركه الفضول الذي لا غناء فيه، وجمال أسلوبه في الشرح، وذكره شواهده من الشعر الرفيع وكلام العرب غير المصنوع، وتجاوزه ذكر أسماء من ينقل عنهم - غالبا - رغبة في الايجاز، وعنايته بمسائل النحو والصرف، وإشارته إلى الضعيف والمنكر والمتروك والردئ المذموم من اللغات، وإلى العامي والمولد، والمعرب، والاتباع والازدواج والمشترك والمفاريد والنوادر، والالفاظ التي لم تأت في الشعر الجاهلي وذكرها في الاسلام، وإلى الاضداد ... كذلك عني الصحاح بالاشتقاق الكبير - أو المقاييس كما يسميه ابن فارس - وهو دوران المادة حول معنى أو معان تشترك فيها المفردات المتولدة من مادة واحدة، وهو في الصحاح جد كثير.

(1/23)


أما هنات الصحاح فمتعددة، منها: اقتصاره على الصحيح، وطرحه ما لم يصح عنده، وإذا كانت هذه الملاحظة محسوبة من المزايا لدى فريق من الناس، فإنها في نظر الاستاذ العطار إحدى هنواته، لانه طرح ألفاظا ظنها غير صحيحة وهي في الحقيقة صحيحة، ولو لم يلتزم الجوهري هذا المقياس لقدم لنا ثروة لغوية كبيرة، دليل ذلك أن الصغاني في " التكملة والذيل والصلة " حشد أكثر من ستين ألف مادة لغوية، أكثرها من صحيح اللغة، في حين أن الجوهري لم يأت إلا بأربعين ألف مادة. ومن هناته: التصحيف والتحريف لبعض الشعر أو المواد اللغوية أو الاعلام، أو نسبته قول إمام إلى إمام آخر، ونقله أقوال العلماء بغير دقة، وأحيانا ينسب الحديث الشريف إلى غير صاحبه عليه السلام، أو جعله بعض أقوال الناس حديثا نبويا، وهو كثيرا ما يخطئ في رواية الشعر ويغير أشطره، ويخلط في نسبة الشعر إلى أصحابه، أو يغفل نسبته.. أو في ترتيب المواد من ذلك أنه وضع كلمة " الثيب " في " ثوب " وحقها أن تكون في " ثيب ". ومع أن الجوهري كان أنحى اللغويين، وخطيب المنبر الصرفي، فقد وقع في كتابه بعض الخطأ في الاعلال الصرفي وقواعد النحو. والامثلة على ذلك كثيرة. * * * هذا الوعي الكامل للصحاح مدعاة للثقة بعمل محققه، ولعمري إن من يعمل في تحقيق كتاب واحد، وهو مسلح بالعلم والعقل والذوق، ويقضي زهرة شبابه مخلصا فيما يعلم لجدير بالانحناء والتقدير والتكريم. الرائع في الصحاح أن محققه دقق في كل صغيرة وكبيرة وردت فأعمل فيها النظر والبحث، ولم يسمح لها بالمرور إلا بعد أن استوثق منها، أو وثقها. قرن كثيرا من المفردات بما جاء فيها في المعاجم الاخرى، وبين الصحيح وغيره، وكذلك رد الشعر إلى أصحابه، وأعاد ترتيب أشطره كما ورد في

(1/24)


مصادره الاصلية، وصحح وزنه إذا روي فيه مكسورا أو محرفا أو مصحفا، وكذلك وثق الاحاديث النبوية وبين أماكن ورودها في كتب الحديث، ومثلها فعل في الآيات القرآنية الكريمة، والامثال العربية، والاسماء، والاعلام، والمواطن، والقبائل، واللغات المختلفة. نستطيع أن نقول: إن شخصية العطار تجاه الجوهري نامية وقوية، فلا هو يقبل كل ما يأتي به، ولا هو يرفضه، وإنما يناقش كل شئ، فيصحح ما يصح عنده، ويخطئ ما يراه ناشزا أو غير صحيح. لهذا كله نال هذا التحقيق ثقة العلماء، وتقديرهم، وظفرت العربية بكنز ثمين لا يعدله ذهب أو جوهر.. * * * أما العمل الثالث فهو تأليف " مقدمة الصحاح ". لقد شبهت هذه المقدمة ب‍ " مقدمة ابن خلدون " لتاريخه الذي سماه " كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر، في أخبار العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الاكبر "، ويختصره الناس فيقولون: تاريخ ابن خلدون. وكثير من العلماء من فضل مقدمة ابن خلدون على تاريخه ذاته، وعدها فتحا جديدا في علم الاجتماع، والعمران، وأحوال الممالك، وأدار حولها كثيرا من الدراسات الجادة. أما نحن فلا نستطيع أن نقول: أن مقدمة الصحاح خير من الصحاح نفسه، كما قال فريق عن ابن خلدون، ولكنا نقول: إنهما بمثابة العينين من الانسان، فلا اليمنى تفضل اليسرى، ولا اليسرى تفضل اليمنى، كلتاهما غالية. هذه المقدمة دفعت أديب العربية الكبير المرحوم " عباس محمود العقاد " أن يكتب فيها تقريظا، دونه أرفع وسام في العالم، ومثله كتب المرحوم ورئيس هيئة الامر بالمعروف الشيخ عمر بن حسن آل الشيخ، والامير فهد ابن عبد العزيز يوم كان وزيرا للمعارف.

(1/25)


تتضمن المقدمة التي استغرقت مائتين واثنتي عشرة صفحة عددا من الموضوعات، لعل أبرزها دراسة العطار للمدارس المعجمية وهي التي نريد تفصيل الحديث عنها، لانها أثارت جدلا كبيرا، وكانت موطن خلاف بين العلماء. ابتدأ العطار بحثه بقوله: " ان مؤلفي المعجمات الاول هم رواد التأليف المعجمي في العربية، ومعاجمهم الطلائع الاولى، وهي التي وضعت كل قواعد المعجم العربي، ومعاجم هؤلاء الرواد لم تبق لمن بعدهم جديدا في ترتيب المواد، إلا في حالات لا تعد جدتها ابتكارا، وإن كان فيها تيسير على الشداة، مثل معجم الشيخ محمد البخاري (ت 1332 هـ‍ / 1913 م) الذي جمع " اللسان " و " القاموس " ورتب موادهما ترتيبا اتبع فيه طريقة البرمكي، وخالفه أنه لم يراع الاشتقاق والتجريد، كما فعل فلوجل الالماني قبله. " ... ويلتقي هؤلاء الرواد في كثير من النقاط، ويتفق بعضهم في المنهج، ولكن لكل منهم سماته وخصائصه.. " وهذه المدارس أربع في رأينا، إلا أن في وسعنا أن نجعل مرد أصولها إلى نبعين مختلفين ... وهما: مدرسة المعاني، ومدرسة الالفاظ. أما مدرسة المعاني، فهي التي اتخذت معاجم رتبتها حسب المعاني والموضوعات، كالغريب المصنف لابي عبيد، والمخصص لابن سيده، ويدخل في فصول هذه المدارس كل الرسائل والكتب اللغوية التي اتخذت المعاني وسيلتها في ذكر الكلمات. أما مدرسة الالفاظ، فهي التي بنت قواعدها على علم الاصوات اللغوية، ورتبت المعجم حسب الحروف التي تبتدئ بها أوائل الكلمات على اختلاف في ترتيب الحروف.... وهذه المدارس الاربع هي: 1 - مدرسة الخليل 2 - مدرسة أبي عبيد 3 - مدرسة الجوهري

(1/26)


4 - مدرسة البرمكي 1 - مدرسة الخليل وصاحبها الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 170 هـ‍ / 786 م) ومعجمه يدعى: " كتاب العين " وقد رتب المواد على الحروف حسب مخارجها، ولما كانت العين أبعد الحروف مخرجا من الحلق فقد سمى الكتاب كله باسمها من قبيل تسمية الكل باسم الجزء. ويدافع العطار عن الخليل الذي ابتكر هذه الطريقة، فيرد عنه زعم من زعم أنه اقتبسها من اليونانية عن طريق حنين بن إسحاق، أو زعم من ادعى أنه اقتبسها من الهنود، أو زعم من قال إن الخليل لم يكتب إلا جزءا من كتابه وأكمله عنه الليث بن المظفر، واتهامات أخرى، ويثبت أن الكتاب للخليل، وأنه مبتكر هذه الطريقة. 2 - مدرسة أبي عبيد وصاحبها أبو عبيد القاسم بن سلام (ت 224 هـ‍ / 838 م) وقاعدته في بناء المعجم تقوم على المعاني والموضوعات، وذلك بعقد أبواب وفصول للمسميات التي تتشابه في المعنى أو تتقارب، فلقد كتب كتبا صغيرة، كل كتاب في موضوع مثل: كتاب الخيل، وكتاب اللبن، وكتاب العسل، وكتاب الذباب، وكتاب الحشرات، وكتاب النخيل، وكتاب خلق الانسان، ثم جمعها في كتاب واحد سماه " الغريب المصنف " واتبعه ابن سيده في " المخصص ". 3 - مدرسة الجوهري وصاحبها إسماعيل بن حماد الجوهري (393 هـ‍ / 1002 م) ومعجمه " الصحاح " بناه على حروف الهجاء، والاعتماد على آخر الكلمة - بدلا من أولها - ثم النظر إلى ترتيب حروف الهجاء عند ترتيب الفصول، وقد سمى الحرف الاخير " بابا " والحرف الاول " فصلا " فكلمة " بسط " يبحث عنها في باب الطاء، لانها آخر حرف فيها، وتقع في فصل الباء، لانها مبدوءة بها. ولم يقف الجوهري عند الحرف الاخير، بل نظر إلى الحرف الاول، ثم

(1/27)


تجاوز ذلك إلى الحرف الثاني في الثلاثي، والحرف الثالث في الرباعي، والحرف الرابع في الخماسي، حتى يكون الترتيب دقيقا. وصف العطار الجوهري بأنه إمام هذه المدرسة، ودفع عنه تهمة الذين قالوا: إن الفارابي سبق الجوهري إلى هذه الطريقة، وهو متقدم في الزمن على الجوهري.. فقال العطار: " ولم تنسب هذه المدرسة إلى الفارابي مع تقدمه ومع أن الجوهري يلتقي معه في بعض النقاط، لان الفارابي ألمع إلماعا إلى بعض منهج الجوهري، ولكن الجوهري جاء بما وفى الغاية، ووصل فيه إلى النهاية، وأحكم النظام، وضبط المنهج، فانتسبت المدرسة إليه، وهو بهذه النسبة جدير، لانه إمامها الفاذ، وعلمها الذي لا تخطئه العين مهما ابتعدت عنه ". ومنذ مدة ليست ببعيدة نشر الاشتاذ العلامة حمد الجاسر في مجلته " العرب " في السنة الاولى صفحة 577 وص 1156 بحثا ضافيا أنكر فيه على الجوهري أن يكون مبتكر التقفية في المعجم العربي، وأثبت أن " أبا بشر اليمان بن أبي اليمان البندنيجي " هو صاحب الطريقة، وهو سابق للجوهري بمائة سنة حيث توفي سنة 284 هـ‍ / 897 م وتوفي الجوهري سنة 393 هـ‍ / 1002 م. ولم نطلع على رد الاستاذ العطار على هذه النقطة، ولعله كتب ولم نصل إلى ما كتب، أو لعله آثر عدم الرد معتقدا أن المنهج المتكامل للجوهري يخوله حق إمامة هذه المدرسة وادعائها. 4 - مدرسة البرمكي وصاحبها أبو المعالي محمد بن تميم البرمكي، معاصر للجوهري، لم يؤلف معجما، ولكنه أخذ صحاح الجوهري، ورتبه على حروف الالفباء، وزاد فيه، أشياء قليلة. ثم جاء الزمخشري (ت 538 هـ‍ / 1143 م) وصنف كتابه " أساس البلاغة " وفق ترتيب البرمكي، معترفا بهذا في مقدمته التي جاء فيها: " وقد رتب الكتاب على أشهر ترتيب متداولا ". ويؤكد العطار أن البرمكي إمام هذه المدرسة، ويستشهد على صحة ما

(1/28)


يقول بالجزء المخطوط الموجود في المكتبة الخاصة بإبراهيم الخربوطلي أمين مكتبة شيخ الاسلام عارف حكمت بالمدينة المنورة، وبالاوراق الست المخطوطة من هذا المعجم البرمكي الموجودة بمكتبة كوبريللي بتركيا. بمدرسة البرمكي خالف العطار جميع الذين كتبوا في تأريخ المعاجم، إذ اتفقوا أن الزمخشري مبتكر الطريقة ورائد هذه المدرسة، وكأنهم توهموا أن معنى قوله في مقدمة أساس البلاغة ... يهجم الطالب على طلبته موضوعة على طرف الثمام وحبل الذراع " تعني أنه مبتكر هذه الطريقة، ولذلك فقد درجوا على عد الزمخشري سيد هذه المدرسة الرابعة. ويخيل إلينا أن مؤرخي المعاجم سوف يستدركون تصنيفهم، ويعدلون ما كتبوا بعد أن بين العطار لهم وجه الحق، بالبرهان القاطع. وبعد، فهذه صورة من الدراسات العلمية الجادة ينهض بها أبناء هذه المملكة السعيدة، لا تقل أو تقصر عن دراسات إخوانهم في البلاد العربية الشقيقة رصانة وموضوعية وعمقا.

(1/29)


الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية

(1/31)


بسم الله الرحمن الرحيم
الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية
قال الشيخ أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري رحمه الله:
الحمد لله شكرا على نواله، والصلاة على محمد وآله. أما بعد فإنى قد أودعت هذا الكتاب ما صح عندي من هذه اللغة، التى شرف الله منزلتها، وجعل علم الدين والدنيا منوطا بمعرفتها، على ترتيب لم أسبق إليه، وتهذيب لم أغلب عليه، في ثمانية وعشرين بابا، وكل باب منها ثمانية وعشرون فصلا: على عدد حروف المعجم وترتيبها، إلا أن يهمل من الابواب جنس من الفصول، بعد تحصيلها بالعراق رواية، وإتقانها دراية، ومشافهتي بها العرب العاربة، في ديارهم بالبادية، ولم آل في ذلك نصحا، ولا ادخرت وسعا، نفعنا الله وإياكم به.

(1/33)