غريب الحديث للقاسم بن سلام صمم
وَقَالَ أَبُو عبيد: فِي حَدِيث النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه نهي
عَن لبستين: اشْتِمَال الصماء وَأَن يحتبى الرجل بِثَوْب لَيْسَ بَين
السَّمَاء وَبَين فرجه شَيْء. قَالَ أَبُو عبيد قَالَ الْأَصْمَعِي:
اشْتِمَال الصماء عِنْد الْعَرَب أَن يشْتَمل
(2/117)
الرجل بِثَوْبِهِ فيجلل بِهِ جسده [كُله -]
وَلَا يرفع مِنْهُ جانبا فَيخرج مِنْهُ يَده. وَقَالَ أَبُو عبيد:
وَرُبمَا اضْطجع فِيهِ على هَذِه الْحَال قَالَ أَبُو عبيد: كَأَنَّهُ
يذهب إِلَى أَنه لَا يدْرِي لَعَلَّه يُصِيبهُ شَيْء يُرِيد الاحتراس
مِنْهُ وَأَن يَقِيه بيدَيْهِ فَلَا يقدر على ذَلِك لإدخاله إيَّاهُمَا
فِي ثِيَابه فَهَذَا كَلَام الْعَرَب وَأما تَفْسِير الْفُقَهَاء فانهم
يَقُولُونَ: هُوَ أَن يشْتَمل بِثَوْب وَاحِد لَيْسَ عَلَيْهِ غَيره
ثمَّ يرفعهُ من أحد جانبيه فيضعه عَليّ مَنْكِبَيْه فيبدو مِنْهُ فرجه
وَالْفُقَهَاء أعلم بالتأويل فِي هَذَا وَذَاكَ أصح معنى الْكَلَام
وَالله أعلم. وَقَالَ أَبُو عبيد: فِي حَدِيث النَّبِي عَلَيْهِ
السَّلَام أَنه قَالَ: من الاختيال
(2/118)
مَا يحب اللَّه تَعَالَى وَمِنْه مَا يبغض
اللَّه فَأَما الاختيال الَّذِي يبغض اللَّه فالاختيال فِي الْفَخر
والرياء والاختيال الَّذِي يحب اللَّه فِي قتال الْعَدو وَالصَّدَََقَة
لَا أعلمهُ إِلَّا من حَدِيث ابْن علية.
خيل قَالَ أَبُو عبيد: وأما قَوْله:
الاختيال فَإِن أَصله التجبر والتكبر والاحتقار بِالنَّاسِ يَقُول:
فَالله يبغض ذَلِك فِي الْفَخر والرياء وَيُحِبهُ فِي الْحَرْب
وَالصَّدَََقَة وَالْخُيَلَاء فِي الْحَرْب أَن يكون هَذِه الْحَال من
التجبر [وَالْكبر -] على الْعَدو فيستهين بقتالهم وتقل هيبته لَهُم
وَيكون أجرأ لَهُ عَلَيْهِم وَمِمَّا يبين ذَلِك حَدِيث أبي دُجَانَة
أَن النَّبِي
(2/119)
عَلَيْهِ السَّلَام رَآهُ فِي بعض
الْمَغَازِي وَهُوَ يختال فِي مشيته فَقَالَ: إِن هَذِه المشية يبغضها
اللَّه تَعَالَى إِلَّا فِي هَذَا الْموضع وَأما الْخُيَلَاء فِي
الصَّدَقَة فَأن تعلو نَفسه وتشرف فَلَا يستكثر كثيرها وَلَا يُعْطي
مِنْهَا شَيْئا إِلَّا وَهُوَ مُسْتَقل لَهُ وَهُوَ مثل الحَدِيث
الْمَرْفُوع: إِن اللَّه يحب معالي الْأُمُور أَو قَالَ: معالي
الْأَخْلَاق شكّ أَبُو عبيد وَيبغض سفسافها. فَهَذَا تَأْوِيل
الْخُيَلَاء فِي الصَّدَقَة وَالْحَرب وَإِنَّمَا هُوَ فِيمَا يُرَاد
اللَّه بِهِ من الْعَمَل دون الرِّيَاء والسمعة. وَقَالَ أَبُو عبيد:
فِي حَدِيث النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: إِن أَبيض بن حمال المأربي
(2/120)
استقطعه / الْملح الَّذِي بمأرب الْيمن
فأقطعه إِيَّاه فَلَمَّا ولي قَالَ رجل: 54 / الف يَا رَسُول الله
أَتَدْرِي مَا أقطعته إِنَّمَا أقطعت لَهُ المَاء الْعد قَالَ: فرجعه
مِنْهُ.
عدد وَقَالَ أَبُو عبيد: وَسَأَلَهُ
أَيْضا مَاذَا يُحمي من الْأَرَاك قَالَ: مالم تنله أَخْفَاف الْإِبِل.
قَالَ الْأَصْمَعِي وَغَيره: أما قَوْله: المَاء العِدّ فَإِنَّهُ
الدَّائِم الَّذِي لَا انْقِطَاع لَهُ قَالَ: وَهُوَ مثل مَاء الْعين
وَمَاء الْبِئْر وَجمع العِد أعداد قَالَ ذُو الرمة يذكر امْرَأَة
تَنَجَعت مَاء عِدا وَذَلِكَ فِي الصَّيف إِذا نشّت مياه الْغدر
فَقَالَ: [الطَّوِيل]
(2/121)
دعتْ مَيّةَ الأعدادُ واستبدلتُ بهَا ...
خناطيلَ آجال من العِين خُذَّلِ
يَعْنِي منازلها الَّتِي تركتهَا فَصَارَت بهَا الْعين. وَفِي هَذَا
الحَدِيث من الْفِقْه أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أقطع
القطائع وَقل مَا يُوجد هَذَا فِي حَدِيث مُسْند وَفِيه أَنه لما قيل
لَهُ: إِنَّه مَا ترك إقطاعه كَأَنَّهُ يذهب بِهِ عَلَيْهِ السَّلَام
إِلَى أَن المَاء إِذا لم يكن فِي ملك أحد لِأَنَّهُ لِابْنِ السَّبِيل
وَأَن النَّاس فِيهِ جَمِيعًا شُرَكَاء وَفِيه أَنه حكم بِشَيْء ثمَّ
رَجَعَ عَنهُ وَهَذَا حجَّة للْحَاكِم إِذا حكم حُكما ثمَّ تبين لَهُ
أَن الْحق فِي غَيره أَن ينْقض حكمه ذَلِك وَيرجع عَنهُ وَفِيه أَيْضا
أَنه نهى أَيْن يُحمي مَا نالته أَخْفَاف الْإِبِل من الْأَرَاك.
وَذَلِكَ أَنه مرعي لَهَا فَرَآهُ مُبَاحا لِابْنِ السَّبِيل وَذَلِكَ
لِأَنَّهُ كلأ مَهْمُوز مَقْصُور وَالنَّاس شُرَكَاء فِي المَاء والكلأ
(2/122)
ومَا لم تنله أَخْفَاف الْإِبِل كَانَ لمن
شَاءَ أَن يُحْمِيه حماه.
كثب وَقَالَ أَبُو عبيد: فِي حَدِيث
النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام حِين أَمر بماعز ابْن مَالك أَن يُرْجم
فَلَمَّا ذهب بِهِ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: يَعْمِدُ أحدهم إِلَى
الْمَرْأَة المُغِيبَةَ فَيْخدَعُها بالكُثْبة وَالشَّيْء لَا أُوتى
بأحدٍ مِنْهُم فَعَلَ ذَلِك إِلَّا جعلته نكالا. قَالَ أَبُو عبيد:
وَهُوَ كَذَلِك فِي غير اللَّبن أَيْضا وكل مَا جمعته من طَعَام أَو
غَيره بعد أَن يكون قَلِيلا فَهُوَ كثبة وَجمعه كُثُبٌ قَالَ ذُو
الرُّمة يذكر أَرْطَاة عِنْد أبعار الصيران: [الْبَسِيط]
مَيْلاءَ مِن مَعْدنِ الصِّيران قاصية ... أبعارُهُنَّ على أهدافها كثب
(2/123)
وَيُقَال مِنْهُ: كَثَبتُ الشَّيْء أكِثبه
كَثْبا إِذا جمعته فَأَنا كاثِب وَقَالَ أَوْس بن حجر: [المتقارب]
لأصْبَحَ رَتْماً دُقاقُ الحَصَى ... مَكَان النَّبِي من الكاثِبِ
وَيُقَال: إِن النَّبِي والكاثب موضعان وَيُرِيد بِالنَّبِيِّ مَا نبا
من الحَصَى إِذا دُقَ فنَدَر والكاثِبُ: الْجَامِع لما نَدَر مِنْهُ.
وَقَالَ أَبُو عبيد فِي حَدِيث النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام إيَّاكم
والقُعُودَ بالصُّعُدات إِلَّا من أدّى حَقّهَا.
(2/124)
صعد
أُمَم قَالَ أَبُو عبيد: قَوْله: الصُعُدات يَعْنِي الطّرق وَهِي
مَأْخُوذَة من الصَّعِيد والصعيد: التُّرَاب وَجمع الصَّعِيد صُعْد
ثمَّ الصعدات جمع الْجمع كَمَا تَقول: طَرِيق وطُرُق ثمَّ طُرُقات.
قَالَ الله [تبَارك و -] تَعَالَى {فَتَيَمَّمُوْا صَعِيْداً طَيِّبًا}
فالتيمم فِي التَّفْسِير وَالْكَلَام: التعمّد للشَّيْء وَيُقَال
مِنْهُ: أمَّمت الشَّيْء أؤُمّه أمًّا وتأممته وتيممته وَمَعْنَاهُ
كُله تعمّدته وقصدت لَهُ قَالَ الْأَعْشَى: [المتقارب]
تَيَمَّمْتُ قيسا وَكم دونه ... من الأَرْض من مَهْمَهٍ ذِي شزن
(2/125)
وَقَوله تَعَالَى {فَتَيَمَّمُوْا
صَعِيُداً طَيِّباً} هَذَا فِي الْمَعْنى وَالله أعلم تعمدوا الصَّعِيد
أَلا ترى بعد ذَلِك يَقُول {فَاْمْسَحُوْا بِوُجُوْهِكُمْ
وَاَيْدِيْكُمْ مِّنْهُ} فَكثر هَذَا فِي الْكَلَام حَتَّى صَار
التَّيَمُّم عِنْد النَّاس هُوَ التمسح نَفسه وَهَذَا كثير جَائِز فِي
الْكَلَام أَن يكون الشَّيْء إِذا طَالَتْ صحبته للشَّيْء يُسمى بِهِ
كَقَوْلِهِم: ذهب إِلَى الْغَائِط وَإِنَّمَا الْغَائِط أَصله المطمئن
من الأَرْض وكالحديث الَّذِي يرْوى أَنه نهى عَن عسب 54 / ب الْفَحْل
وأصل العسب الْكرَى / فَصَارَ الضراب عِنْد النَّاس عسبا وَمثله فِي
الْكَلَام كثير. وَقَالَ أَبُو عبيد: فِي حَدِيث النَّبِي عَلَيْهِ
السَّلَام أَنه قَالَ: توضؤوا مِمَّا غيرت النارُ وَلَو من ثَوْر أقط.
(2/126)
ثَوْر قَالَ أَبُو عبيد: قَوْله: ثَوْر
أقِط فالثور: الْقطعَة من الأقِط وَجمعه أثوار ويروى أَن عَمْرو بن
معديكرب قَالَ: تضيفت بني فلَان فأتوني بثور
وقوس وَكَعب فَأَما قَوْله: ثَوْر فَهُوَ الَّذِي ذكرنَا فَأَما الْقوس
فالشيء من التَّمْر يبْقى فِي أَسْفَل الجلة وَأما الكعب فالشيء
الْمَجْمُوع من السّمن. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَأما حَدِيث عبد الله
بن عمر حِين ذكر مَوَاقِيت الصَّلَاة فَقَالَ: صَلَاة الْعشَاء إِذا
سقط ثَوْر الشَّفق فَلَيْسَ من هَذَا وَلكنه انتشار الشَّفق وثورانه
يُقَال مِنْهُ: قد ثار يثور ثورا وثورانا إِذا انْتَشَر فِي الْأُفق
فَإِذا غَابَ ذَلِك حلت صَلَاة
(2/127)
الْعشَاء وَقد اخْتلف النَّاس فِي الشَّفق
فيروى عَن عبَادَة بْن الصَّامِت وَشَدَّاد بْن أَوْس وَعبد اللَّه بْن
عَبَّاس وَابْن عمر أَنهم قَالُوا: هُوَ الحُمرة وَكَانَ مَالك بْن أنس
وَأَبُو يُوسُف يأخذان بِهَذَا وَقَالَ عمر بْن عبد الْعَزِيز: هُوَ
الْبيَاض وَهُوَ بَقِيَّة من النَّهَار وَكَانَ أَبُو حنيفَة يَأْخُذ
بِهِ.
غرر وَقَالَ أَبُو عُبَيْد: فِي
حَدِيث النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: لَا غِرار فِي صَلَاة وَلَا
تَسْلِيم. قَالَ: الغرار هُوَ النُّقْصَان يُقَال للناقة إِذا يبس
لَبنهَا: هِيَ مُغارٌ قَالَ الْكسَائي: وَفِي لَبنهَا غرار. وقَالَ
أَبُو عبيد عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن الزُّهْرِيّ
(2/128)
قَالَ: كَانُوا لَا يرَوْنَ بغرار النّوم
بَأْسا يَعْنِي أَنه لَا ينْقض الْوضُوء قَالَ الفرزدق فِي مرثية
للحجاج: [الْكَامِل]
إِن الرزية من ثَقِيف هَالك ... ترك الْعُيُون ونومهن غِرارُ
أَي قَلِيل فَكَأَن معنى الحَدِيث لَا نُقْصَان فِي صَلَاة يَعْنِي فِي
ركوعها وسجودها وطهورها كَقَوْل سلمَان [الْفَارِسِي -] : الصَّلَاة
مكيال فَمن وَفّي وُفي [لَهُ -] وَمن طفف فقد علمْتُم مَا قَالَ اللَّه
تَعَالَى فِي المطففين والْحَدِيث فِي مثل هَذَا كثير فَهَذَا الغرار
فِي الصَّلَاة. وَأما الغرار فِي التَّسْلِيم فنراه أَن يَقُول:
السَّلَام عَلَيْك أَو يرد. فَيَقُول: وَعَلَيْك وَلَا يَقُول:
وَعَلَيْكُم والغرار أَيْضا فِي أَشْيَاء من الْكَلَام أَيْضا سوى
هَذَا. يُقَال لحد الشَّفْرَة وَالسيف وكل شَيْء لَهُ حد: فحده عرار
والغرار أَيْضا: الْمِثَال الَّذِي يطبع عَلَيْهِ نصال السهْم قَالَهَا
الْأَصْمَعِي والغرار أَيْضا أَن يغر الطَّائِر الفرخ غرارا يَعْنِي
أَن يزقه. وَقد
(2/129)
رُوِيَ [عَن -] بعض الْمُحدثين هَذَا
الحَدِيث: لَا إغرار فِي صَلَاة بِأَلف وَلَا أعرف هَذَا فِي الْكَلَام
وَلَيْسَ لَهُ عِنْدِي وَجه وَيُقَال: لَا غِرار فِي صَلَاة وَلَا
تَسْلِيم أَي لَا نُقْصَان فِيهَا وَلَا تَسْلِيم فِيهَا فَمن قَالَ
هَذَا ذهب إِلَى أَنه لَا قَلِيل من النّوم فِي الصَّلَاة وَلَا
تَسْلِيم فِي الصَّلَاة أَي إِن الْمُصَلِّي لَا يسلَم وَلَا يسلم
عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو عبيد: فِي حَدِيث النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام
أَن حَكِيم بْن حزَام قَالَ: بَايَعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أَن لَا أخرّ إِلَّا قَائِما.
خرر قَالَ أَبُو عبيد: وَقد أَكثر
النَّاس فِي معنى هَذَا الحَدِيث وَمَاله عِنْدِي وَجه إِلَّا أَنه
أَرَادَ بقوله: لَا أخر لَا أَمُوت لِأَنَّهُ إِذا مَاتَ فقد خر وَسقط.
[وَقَوله -:] إِلَّا قَائِما إلَّا ثَابتا على الْإِسْلَام وكل من ثَبت
على
(2/130)
شَيْء وَتمسك بِهِ فَهُوَ قَائِم عَلَيْهِ
قَالَ اللَّه تَعَالَى / {لَيْسُوْا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
أمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُوْنَ آياتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْل وهم
يَسْجُدُونَ} وَإِنَّمَا هَذَا من الْمُوَاظبَة على الدَّين
وَالْقِيَام بِهِ وَقَالَ {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ أِنْ
تَامَنْهُ بِقِنْطَارِ يُّؤَدِّهَ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أِنْ
تَأمَنْهُ بِدِيْنَارِ لَا يُؤَدِّهِ إِليْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ
قَائِما} قَالَ أَبُو عبيد: قَوْله: إِلَّا مَا دمت عَلَيْهِ قَائِما
قَالَ: هُوَ مواكظا وَمِنْه قيل فِي الْكَلَام للخليفة: هُوَ الْقَائِم
بِالْأَمر وَكَذَلِكَ فلَان قَائِم بِكَذَا وَكَذَا إِذا كَانَ
حَافِظًا لَهُ متمسكا بِهِ وَفِي بعض هَذَا الحَدِيث أَنه لما قَالَ
النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: أُبَايِعك على
(2/131)
أَن لَا أخرّ إِلَّا قَائِما فَقَالَ: أما
من قِبَلنا فَلَنْ تخرّ إِلَّا قَائِما أَي لسنا ندعوك وَلَا نُبَايِعك
إِلَّا قَائِما أَي على الْحق. وَقَالَ أَبُو عبيد: فِي حَدِيث
النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام حِين ذكر مَكَّة فَقَالَ: لَا يُختلى
خَلاها وَلَا تحل لقطتهَا إِلَّا لِمُنْشِد. قَالَ أَبُو عبيد: أما
قَوْله: لَا تحل لُقطتها إِلَّا لِمُنْشِد فَقَالَ: إِنَّمَا مَعْنَاهُ
لَا تحل لقطتهَا كَأَنَّهُ يُرِيد أَلْبَتَّة فَقيل لَهُ: إِلَّا
لِمُنْشِد فَقَالَ: [إِلَّا -] لِمُنْشِد وَهُوَ يُرِيد الْمَعْنى
الأول
نَشد قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَمذهب عبد الرَّحْمَن فِي هَذَا
التَّفْسِير كَالرّجلِ يَقُول: وَالله لَا فعلت كَذَا وَكَذَا ثمَّ
يَقُول: إِن شَاءَ اللَّه وَهُوَ لَا يُرِيد الرُّجُوع عَن يَمِينه
وَلكنه
(2/132)
لقن شَيْئا فلقنه فَمَعْنَاه أَنه لَيْسَ
يحل للملتقط مِنْهَا [إِلَّا إنشادها فَأَما الِانْتِفَاع بهَا فَلَا.
وَقَالَ غَيره: لَا يَجْعَل لقطتهَا -] إِلَّا لِمُنْشِد يَعْنِي
طالبها الَّذِي يطْلبهَا وَهُوَ رَبهَا فَيَقُول: لَيست تحل إِلَّا
لِرَبِّهَا. فَقَالَ أَبُو عبيد: هَذَا حسن فِي الْمَعْنى وَلكنه لَا
يجوز فِي الْعَرَبيَّة [أَن -] يُقَال للطَّالِب: مُنشد إِنَّمَا
المنشد هُوَ الْمُعَرّف والطالب هُوَ الناشد يُقَال [مِنْهُ -] : نشَدت
الضَّالة أنشُدها [نشِدانا -] إِذا طلبتها فَأَنا نَاشد وَمن
التَّعْرِيف أنشدها إنشادا فَأَنا منشد وَمِمَّا يبين ذَلِك أَن الناشد
هُوَ الطَّالِب حَدِيث النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه سمع رجلا ينشد
ضَالَّة فِي الْمَسْجِد فَقَالَ: أَيهَا الناشد غَيْرك الْوَاجِد
مَعْنَاهُ لَا وجدت كَأَنَّهُ دَعَا عَلَيْهِ وَأما قَول أبي دؤاد
الأيادي وَهُوَ يصف الثور فَقَالَ:
[الْكَامِل]
(2/133)
ويصيخ أَحْيَانًا كَمَا اس ... تمع المضل
لصوت ناشدِ
قَالَ أَبُو عبيد: قَالَ الْأَصْمَعِي أَخْبرنِي عَن أبي عَمْرو بْن
الْعَلَاء أَنه كَانَ يعجب من هَذَا وَأَحْسبهُ قَالَ هُوَ أَو غَيره:
إِنَّه لما أَرَادَ بالناشد [أَيْضا -] رجلا أرمل قد ضلت دَابَّته
فَهُوَ ينشدها [أَي] يطْلبهَا ليتعزى بذلك وَفِي هَذَا الحَدِيث قَول
ثَالِث: إِنَّه أَرَادَ بقوله: إِلَّا لِمُنْشِد أَرَادَ بِهِ إِن لم
ينشدها فَلَا يحل لَهُ الِانْتِفَاع بهَا فَإِذا أنشدها فَلم يجد
طالبها حلت لَهُ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَلَو كَانَ هَذَا هَكَذَا لما
كَانَت مَكَّة مَخْصُوصَة بِشَيْء دون الْبِلَاد لِأَن الأَرْض كلهَا
لَا تحل لقطتهَا إِلَّا بعد الإنشاد إِن حلت أَيْضا وَفِي النَّاس من
لَا يستحلها وَلَيْسَ للْحَدِيث عِنْدِي وَجه إِلَّا مَا قَالَ عبد
الرَّحْمَن أَنه لَيْسَ للواجد مِنْهَا [شَيْء -] إِلَّا الإنشاد أبدا
وَإِلَّا فَلَا يحل لَهُ أَن يَمَسهَا.
(2/134)
وَكن مكن وَقَالَ أَبُو عبيد فِي حَدِيث
النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: أقرُّوا الطير عَليّ وُكناتِها
وَبَعْضهمْ يَقُول: مَكِناتها. قَالَ أَبُو زِيَاد الْكلابِي وَأَبُو
طيبَة الْأَعرَابِي وَغَيرهمَا من الْأَعْرَاب
(2/135)
ومن قَالَ مِنْهُم: لَا نَعْرِف للطير
مكنات وَإِنَّمَا هُوَ الوكنات قَالَ امْرُؤ الْقَيْس: [الطَّوِيل]
وَقد أغتدي وَالطير فِي وكناتها ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل
وَوَاحِد الوكنات وَسنة وَهِي مَوضِع عش الطَّائِر وَيُقَال لَهُ
أَيْضا: 55 / ب وكر - بالراء فَأَما الوكن بالنُّون فَإِنَّهُ الْعود
الَّذِي / يبيت عَلَيْهِ الطَّائِر. قَالُوا: فَأَما المكنات
فَإِنَّمَا هُوَ بيض الضباب وواحدتها مكنة يُقَال مِنْهُ: [قد -] مكنت
الضبة وأمكنت فَهِيَ ضبة مكون إِذا جمعت الْبيض وَمِنْه حَدِيث أبي
وَائِل: ضبة مكون أحب إِلَيّ من دجَاجَة سَمِينَة
(2/136)
وَأما الْمُحدث فَقَالَ: سمين قَالَ: أما
مَا كَانَ من نَفسهَا فِي النَّعْت فَلَا يكون إِلَّا بِالْهَاءِ وَمَا
كَانَ من غير نعتها مثل خضيب ودهين وَنَحْو ذَلِك فَيكون بِغَيْر هَاء
وَجمع المَكِنَة مِكن قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَهَكَذَا روى الحَدِيث
وَهُوَ جَائِز فِي كَلَام الْعَرَب وَإِن كَانَ المكن للضباب أَي
يَجْعَل للطير تَشْبِيها بذلك الْكَلِمَة تستعار فتوضع فِي غير موضعهَا
وَمثله كثير فِي كَلَام الْعَرَب كَقَوْلِهِم: مَشافر الْحَبَش
وَإِنَّمَا المشافر لِلْإِبِلِ وكقول زُهَيْر يصف الْأسد: [الطَّوِيل]
لَهُ لبد أَظْفَاره لم تقلّمِ
(2/137)
وَإِنَّمَا هِيَ المخالب وكقول الأخطل:
[الطَّوِيل]
وفَرْوَةَ ثَفْرَ الَّثورةِ المُتَضاجِمِ
وَإِنَّمَا الثفر للسباع. وَقد يُفَسر هَذَا الحَدِيث على غير هَذَا
التَّفْسِير يُقَال: أقرُّوا الطير على مكناتها يُرَاد على أمكنتها
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: إِلَّا أَنا لم أسمع فِي الْكَلَام أَن يُقَال
للأمكنة مكنة وَمَعْنَاهُ الطير الَّتِي يزْجر بهَا يَقُول: لَا تزجروا
الطير وَلَا تلتفتوا إِلَيْهَا أقروها على موَاضعهَا الَّتِي جعلهَا
اللَّه تَعَالَى بهَا أَي أَنَّهَا لَا تضر وَلَا تَنْفَع وَلَا تعدوا
ذَلِك إِلَى غَيره وَكِلَاهُمَا لَهُ وَجه وَمعنى وَالله أعلم إِلَّا
إِنَّا لم نسْمع فِي الْكَلَام الْأَمْكِنَة مكنة. وَقَالَ أَبُو عبيد:
فِي حَدِيث النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام مَا آذن الله لشَيْء
(2/138)
ك
أُذُنه لنَبِيّ يتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ أَن يجْهر بِهِ.
أذن غنا قَالَ أَبُو عُبَيْد: أما
قَوْله: كأذنه يَعْنِي مَا اسْتمع اللَّه لشَيْء كاستماعه لنَبِيّ
يتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ وعَن مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى {وَأذِنَتْ
لِرَبِّهَا وَحُقَّتَ} . قَالَ: سَمِعت أَو قَالَ: استمعت شكّ أَبُو
عبيد يُقَال: أَذِنت للشَّيْء آذن [لَهُ -] أذنا إِذا استمعته [و -]
قَالَ عدي بن زيد: [الرمل]
أَيهَا القلبُ تَعَللْ بدَدَنْ ... إِن همي فِي سَماع وَأذن
(2/139)
وَقَالَ أَيْضا: [الرمل]
فِي سَماع يَأْذَن الشيخُ لَهُ ... وَحَدِيث مثل ماذي مُشارِ
يُرِيد بقوله [يَأْذَن -] يستمع وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {وَأذِنَتْ
لِرَبِّهَا وَحُقَّتَ} أَي سَمِعت. وَبَعْضهمْ يرويهِ: كَإِذْنِهِ
لنَبِيّ يتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ بِكَسْر الْألف يذهب بِهِ إِلَى
الْإِذْن من الاسْتِئْذَان وَلَيْسَ لهَذَا وَجه عِنْدِي وَكَيف يكون
إِذْنه لَهُ فِي هَذَا أَكثر من إِذْنه لَهُ فِي غَيره وَالَّذِي أذن
لَهُ فِيهِ من توحيده وطاعته والإبلاغ عَنهُ أَكثر وَأعظم من الْإِذْن
فِي قِرَاءَة يجْهر بهَا. وَقَوله: يتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ إِنَّمَا
مذْهبه عندنَا تحزين الْقِرَاءَة وَمن ذَلِك حَدِيثه الآخر عَن عبد
الله بْن مُغفل أَنه رأى النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام
(2/140)
يقْرَأ سُورَة الْفَتْح فَقَالَ: لَوْلَا
أَن يجْتَمع النَّاس علينا لحكيت تِلْكَ الْقِرَاءَة وَقد رجّع
وَمِمَّا يبين ذَلِك حَدِيث يرْوى عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام
أَنه ذكر أَشْرَاط السَّاعَة فَقَالَ: بيع الحُكم وَقَطِيعَة الرَّحِم
وَالِاسْتِخْفَاف بِالدَّمِ وَكَثْرَة الشَّرْط وَأَن يتَّخذ الْقُرْآن
مَزَامِير يقدمُونَ أحدهم لَيْسَ بأقرئهم وَلَا أفضلهم إِلَّا
لِيُغنيَهُمْ بِهِ غناء. وعَن طاؤوس أَنه قَالَ: أَقرَأ النَّاس
لِلْقُرْآنِ أخشاهم لله تَعَالَى فَهَذَا تَأْوِيل حَدِيث النَّبِي
عَلَيْهِ السَّلَام: [مَا أذن اللَّه لشَيْء كأذنه لنَبِيّ -]
يتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ [أَن -] يجْهر بِهِ. وَهُوَ تَأْوِيل قَوْله:
زَينُوا الْقُرْآن بِأَصْوَاتِكُمْ وعَن / شُعْبَة قَالَ: 56 / الف
نهاني أَيُّوب أَن أتحدث بِهَذَا الْحَرْف: زَينُوا الْقُرْآن
بِأَصْوَاتِكُمْ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَإِنَّمَا كره أَيُّوب ذَلِك
مَخَافَة أَن يتَأَوَّل على غير وَجهه وَأما حَدِيث
(2/141)
النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: لَيْسَ منا
من لم يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ فَلَيْسَ [هُوَ -] عِنْدِي من هَذَا
إِنَّمَا هُوَ [من -] الِاسْتِغْنَاء وَقد فسرناه فِي مَوضِع آخر.
عفر وَقَالَ أَبُو عبيد: فِي حَدِيث
النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه كَانَ إِذا سجد جافى عضديه حَتَّى
يرى من خَلفه عفرَة إبطَيْهِ. قَالَ أَبُو زيد والأصمعي وَأَبُو زِيَاد
أَو من قَالَ مِنْهُم: العفرة الْبيَاض وَلَيْسَ بالبياض الناصع
الشَّديد وَلكنه لون الأَرْض وَمِنْه قيل للظباء: عُفر إِذا كَانَت
ألوانها كَذَلِك وَإِنَّمَا سميت بعَفَر الأَرْض وَهُوَ وَجههَا قَالَ
الْأَحْمَر: يُقَال: مَا على عفر الأَرْض مثله أَي على وَجههَا
وَكَذَلِكَ الشَّاة العفراء. يرْوى عَن أبي هُرَيْرَة أَنه قَالَ: لدم
عفراءَ فِي الْأُضْحِية أحب إليّ من دم سوداوين وَبَعْضهمْ يرويهِ
عَنهُ: لدم بَيْضَاء أحب إِلَيّ من دم سوداوين فَهَذَا تَفْسِير ذَلِك
وَيُقَال: عفرت الرجل وَغَيره فِي
(2/142)
التُّرَاب إِذا مرغته فِيهِ تعفيرا
والتعفير فِي غير هَذَا أَيْضا يُقَال للوحشية: هِيَ تعفر وَلَدهَا
وَذَلِكَ إِذا أَرَادَت فطامه قطعت عَنهُ الرَّضَاع يَوْمًا أَو
يَوْمَيْنِ فَإِن خَافت أَن يضرّهُ ذَلِك ردته إِلَى الرَّضَاع
أَيَّامًا ثمَّ أعادته إِلَى الْفِطَام تفعل ذَلِك مَرَّات حَتَّى
يسْتَمر عَلَيْهِ فَذَلِك التعفير وَهُوَ مُعَفَّر قَالَ لبيد يذكرهُ:
[الْكَامِل]
لمعفرقهد تنَازع شِلوَه ... غبسٌ كواسبُ مَا يُمن طعامُها
أَي لَا ينقص. وَقَالَ أَبُو عبيد: فِي حَدِيث النَّبِي عَلَيْهِ
السَّلَام: من أَدخل فرسا بَين فرسين فَإِن كَانَ يُؤمن أَن يسْبق
فَلَا خير فِيهِ وَإِن كَانَ لَا يُؤمن أَن يسْبق فَلَا بَأْس بِهِ.
سبق قَالَ أَبُو عبيد: سَمِعت
مُحَمَّد بْن الْحسن وَغير وَاحِد دخل تَفْسِير
(2/143)
بَعضهم فِي بعض قَالُوا: هَذَا فِي رهان
الْخَيل وَالْأَصْل فِيهِ أَن يسْبق الرجل صَاحبه بِشَيْء مُسَمّى على
أَنه إِن سبق لم يكن لَهُ شَيْء وَإِن سبقه صَاحبه أَخذ الرَّهْن
فَهَذَا هُوَ الْحَلَال لِأَن الرَّهْن إِنَّمَا هُوَ من أَحدهمَا دون
الآخر فَإِن جعل كل وَاحِد مِنْهُمَا لصَاحبه رهنا أَيهمَا سبق أَخذه
فَهَذَا الْقمَار الْمنْهِي عَنهُ فَإِن أَرَادَا أَن يدخلا بَينهمَا
شَيْئا ليحل لكل وَاحِد مِنْهُمَا رهن صَاحبه جعلا بَينهمَا فرسا
ثَالِثا لرجل سواهُمَا وَهُوَ الَّذِي ذكرنَا فِي أول الحَدِيث: من
أَدخل فرسا بَين فرسين وَهُوَ الَّذِي يُسمى الْمُحَلّل وَيُسمى الدخيل
فَيَضَع الرّجلَانِ الْأَوَّلَانِ رهنين مِنْهُمَا وَلَا يضع الثَّالِث
شَيْئا ثمَّ يرسلون الأفراس الثَّلَاثَة فَإِن سبق أحد الْأَوَّلين
أَخذ رَهنه وَرهن صَاحبه وَكَانَ طيبا لَهُ وَإِن سبق الدخيل [وَلم
يسْبق وَاحِد من هذَيْن أَخذ -] الرهنين جَمِيعًا وَإِن سُبِق هُوَ لم
يكن عَلَيْهِ شَيْء فَمَعْنَى قَوْله: إِن كَانَ لَا يُؤمن [أَن يسْبق
فَلَا بَأْس بِهِ يَقُول: إِذا كَانَ رَابِعا -] جوادًا لَا يأمنان أَن
يسبقهما فَيذْهب بالرهنين [فَهَذَا طيب لَا بَأْس بِهِ وَإِن كَانَ
بليدا بطيا قد أمنا -] أَن يسبقهما فَهَذَا قمار لِأَنَّهَا
كَأَنَّهُمَا لم يدخلا [بَينهمَا شَيْئا أَو كَأَنَّهُمَا إِنَّمَا
أدخلا حمارا أَو مَا أشبه ذَلِك -] مِمَّا لَا يسْبق. فَهَذَا وَجه
الحَدِيث وَهُوَ تَفْسِير قَول [جَابر بْن زيد حَدثنَا
(2/144)
سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عَمْرو قَالَ
قيل لجَابِر بْن زيد: إِن أَصْحَاب مُحَمَّد -] كَانُوا لَا يرَوْنَ
بالدخيل بَأْسا فَقَالَ: كَانُوا أعف من ذَلِك.
دهر وَقَالَ أَبُو عبيد فِي حَدِيث
النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: لَا تسبوا الدَّهْر فَإِن اللَّه هُوَ
الدَّهْر. 56 / ب قَوْله: / فَإِن اللَّه هُوَ الدَّهْر وَهَذَا لَا
يَنْبَغِي لأحد من أهل الْإِسْلَام أَن يجهل وَجهه. وَذَلِكَ أَن أهل
التعطيل يحتجون بِهِ على الْمُسلمين [قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: - وَقد
رَأَيْت بعض من يتهم بالزندقة والدهرية يحْتَج
(2/145)
بِهَذَا الحَدِيث وَيَقُول: أَلا ترَاهُ
يَقُول: فَإِن اللَّه هُوَ الدَّهْر فَقلت: وَهل كَانَ أحد يسب اللَّه
فِي آباد الدَّهْر وَقد قَالَ الْأَعْشَى فِي الْجَاهِلِيَّة الجهلاء:
[المنسرح]
اسْتَأْثر اللَّه بِالْوَفَاءِ وبال ... حمد وَولي الْمَلَامَة
الرجُلاَ
وَإِنَّمَا تَأْوِيله عِنْدِي وَالله أعلم أَن الْعَرَب كَانَ شَأْنهَا
أَن تذم الدَّهْر وتسبه عِنْد المصائب الَّتِي تنزل بهم من موت أَو هرم
أَو تلف مَال أَو غير ذَلِك فَيَقُولُونَ: أَصَابَتْهُم قوارع الدَّهْر
وأبادهم الدَّهْر وأتى عَلَيْهِم الدَّهْر فيجعلونه الَّذِي يفعل ذَلِك
فيذمونه عَلَيْهِ وَقد ذَكرُوهُ فِي أشعارهم قَالَ الشَّاعِر يذكر قوما
هَلَكُوا: [الْكَامِل]
فاستأثر الدَّهْر الغداةَ بهم ... والدهر يرميني وَلَا أرمي ... يَا
دهر قد أكثرت فجعتنا ... بسراتنا ووقرت فِي العظمِ ... وسلبتَنا مَا
لستَ تُعقبنا ... يَا دهر مَا أنصفت فِي الحكمِ
وَقَالَ عَمْرو بْن قميئة: [الطَّوِيل]
رمتني بَنَات الدَّهْر من حَيْثُ لَا أرى ... فَكيف بِمن يُرمي
وَلَيْسَ برام
(2/146)
فَلَو أَنَّهَا نبل إِذا لاتقيتها ...
ولكنَّما أُرمي بِغَيْر سهامِ
على الراحتين مرّة وعَلى الْعَصَا ... أنوء ثَلَاثًا بعدهن قيامي
فَأخْبر أَن الدَّهْر فعل بِهِ ذَلِك نصف الْهَرم. وَقد أخبر اللَّه
تَعَالَى بذلك عَنْهُم فِي كِتَابه [الْكَرِيم -] ثمَّ كذّبهم
بقَوْلهمْ فَقَالَ {وَقَالُوْا مَا هِيَ إلاَ حَيَاتُنَا الدُنْيَا
نَمُوْتُ وَنْحَيا وَمَا يُهْلِكُنَا إلاَّ الدَّهْرُ} قَالَ اللَّه عز
وَجل {ومَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّوْنَ}
فَقَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: لَا تسبّوا الدَّهْر على
تَأْوِيل لَا تسبوا الَّذِي يفعل بكم هَذِه الْأَشْيَاء ويصيبكم
بِهَذِهِ المصائب فَإِنَّكُم إِذا سببتم فاعلها فَإِنَّمَا يَقع السب
على اللَّه تَعَالَى لِأَنَّهُ عز وَجل هُوَ الْفَاعِل لَهَا لَا
الدَّهْر فَهَذَا وَجه الحَدِيث إِن شَاءَ الله
(2/147)
لَا أعرف لَهُ وَجها غَيره.
(2/148)
جوع
وَقَالَ أَبُو عبيد: فِي حَدِيث النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه دخل
على عَائِشَة رَضِي اللَّه عَنْهَا وَعِنْدهَا رجل فَقَالَت: إِنَّه
أخي من الرضَاعَة فَقَالَ: انظرن مَا إخوانكن فَإِنَّمَا الرضَاعَة من
المجاعة. قَوْله: فَإِنَّمَا الرضَاعَة من المجاعة يَقُول: إِن الَّذِي
إِذا جَاع كَانَ طَعَامه الَّذِي يشبعه اللَّبن إِنَّمَا هُوَ الصَّبِي
الرَّضِيع فَأَما الَّذِي يشبعه من جوعه الطَّعَام فَإِن أرضعتموه
فَلَيْسَ ذَلِك برضاع فَمَعْنَى الحَدِيث: إِنَّمَا الرَّضَاع مَا
كَانَ بالحولين قبل الْفِطَام وَهَذَا مثل حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَأم
سَلمَة رَضِي اللَّه عَنْهَا: إِنَّمَا الرَّضَاع مَا كَانَ فِي الثدي
قبل الْفِطَام
(2/149)
ومثلهَ حَدِيث عمر بْن الْخطاب رَضِي الله
عَنهُ: إِنَّمَا الرضَاعَة رضاعة الصغر وَكَذَلِكَ حَدِيث عبد الله
فِيهِ وَعَامة الْآثَار على هَذَا أَن الرضَاعَة بعد الْحَوْلَيْنِ لَا
تحرم شَيْئا.
سبت وَقَالَ أَبُو عبيد: فِي حَدِيث
النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه رأى رجلا يمشي بَين الْقُبُور فِي
نَعْلَيْنِ فَقَالَ: يَا صَاحب السِّبْتين اخلع سبتيك. قَوْله فِي
النِّعَال: السبتية قَالَ أَبُو عَمْرو: هِيَ المدبوغة بالقرظ [و -]
قَالَ الْأَصْمَعِي: فِي المدبوغة قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَإِنَّمَا
ذكرت السبتية لِأَن أَكْثَرهم فِي الْجَاهِلِيَّة كَانَ يلبسهَا غير
مدبوغة إِلَّا أهل السعَة مِنْهُم والشرف لأَنهم كَانُوا لَا يحسنون
وَلَا يلبسهَا إِلَّا أهل الْجدّة مِنْهُم كَانُوا يشترونها من الْيمن
والطائف وَنَحْو هَذَا قَالَ عنترة [يمدح رجلا -] :
(2/150)
[الْكَامِل]
بَطل كَأَن ثِيَابه فِي سرحة ... يُحذَى نِعالُ السِبتِ لَيْس بتوأمِ
... [وَقد زعم بعض -] النَّاس / أَن النِّعَال السبتية هِيَ محلوقة
الشّعْر 57 / الف وَالْأَمر عِنْدِي كَمَا قَالَ الْأَصْمَعِي وَأَبُو
عَمْرو. وَأما أَمر النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام إِيَّاه أَن يخلعهما
فَإِن بعض النَّاس يتأوله على الْكَرَاهَة للمشي بَين الْقُبُور فِي
النَّعْلَيْنِ وَهَذَا معنى يضيق على النَّاس وَلَو كَانَ [لبس -]
النَّعْل مَكْرُوها هُنَاكَ لَكَانَ الْخُف مثله قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ:
وَأما أَنا فَأرَاهُ أمره بذلك لقذر رَآهُ فِي نَعْلَيْه فكره أَن يطَأ
بهما الْقُبُور كَمَا كره أَن يحدث الرجل بَين الْقُبُور فَهَذَا وَجهه
عِنْدِي وَالله أعلم. وَيُقَال: إِنَّمَا كره ذَلِك لِأَن أهل
الْقُبُور يؤذيهم صَوت النِّعَال فَإِن كَانَ
(2/151)
هَذَا وَجه الحَدِيث فَالْأَمْر فِي خلعهما
كَانَ فيهمَا قذر أَو لم يكن.
أَدَم قفر وَقَالَ أَبُو عبيد: فِي حَدِيث النَّبِي عَلَيْهِ
السَّلَام: نعم الإدام الْخلّ. إِنَّمَا سَمَّاهُ إدَامًا لِأَنَّهُ
يصطبغ بِهِ وكل شَيْء يصطبغ بِهِ لزمَه اسْم الإدام يَعْنِي مثل الْخلّ
وَالزَّيْت والمزي وَاللَّبن وَمَا أشبهه قَالَ: فَإِن حلف حَالف أَن
لَا يَأْكُل إدَامًا فَأكل بعض مَا يصطبغ بِهِ فَهُوَ حانث وَفِي
حَدِيث آخر أَنه قَالَ: مَا أقفر بَيت أَو قَالَ: طَعَام فِيهِ خل [و
-] قَالَ أَبُو زيد [وَغَيره -] : هُوَ مَأْخُوذ من القفار وَهُوَ كل
طَعَام يُؤْكَل بِلَا أَدَم يُقَال: أكلت الْيَوْم طَعَاما قفارا إِذا
أكله غير مأدوم وَلَا أرى أَصله مأخوذا إِلَّا من القفر من الْبِلَاد
وَهِي الَّتِي لَا شَيْء فِيهَا.
(2/152)
خون
غَمْرٌ وَقَالَ أَبُو عُبَيْد: فِي حَدِيث النَّبِي عَلَيْهِ
السَّلَام: لَا تجوز شَهَادَة خائن وَلَا خَائِنَة وَلَا ذِي غمر على
أَخِيه وَلَا ظنين فِي وَلَاء وَلَا قرَابَة وَلَا القانع من أهل
الْبَيْت لَهُم. قَوْله: خائن وَلَا خَائِنَة فالخيانة تدخل فِي
أَشْيَاء كَثِيرَة سوى الْخِيَانَة فِي المَال مِنْهَا أَن يؤتمن على
فرج فَلَا يُؤَدِّي فِيهِ الْأَمَانَة وَكَذَلِكَ إِن استودع سرا يكون
إِن أفشاه فِيهِ عطب الْمُسْتَوْدع أَو يشينه وَمِمَّا يبين ذَلِك أَن
السِّرّ أَمَانَة حَدِيث يروي عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: إِذا
حدث الرجل بِالْحَدِيثِ ثمَّ الْتفت فَهُوَ أَمَانَة فقد سَمَّاهُ
رَسُول اللَّه صلي اللَّه عَلَيْهِ وَسلم أَمَانَة وَلم يستكتمه فَكيف
إِذا استكتمه وَمِنْه قَوْله: إِنَّمَا تتجالسون بالأمانة وَمِنْه
الحَدِيث الآخر: من أشاع فَاحِشَة فَهُوَ كمن أبدأها فَصَارَ هَهُنَا
كفاعلها لإشاعته إِيَّاهَا [هُوَ -] وَلم يستكتمها وَكَذَلِكَ إِن
اؤتمن
(2/153)
على حكم بَين اثْنَيْنِ أَو فَوْقهمَا فَلم
يعدل وَكَذَلِكَ إِن غل من الْمغنم فالغال فِي التَّفْسِير هُوَ الخائن
لِأَنَّهُ يُقَال فِي قَوْله {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أنْ يَّغُلَّ}
قَالَ: يخان فَهَذِهِ الْخِصَال كلهَا وَمَا ضاهاها لَا يَنْبَغِي أَن
يكون أَصْحَابهَا عُدُولًا فِي الشَّهَادَة على تَأْوِيل هَذَا
الحَدِيث. وَأما قَوْله: وَلَا ذِي غمر على أَخِيه فَإِن الْغمر
الشحناء والعداوة وَكَذَلِكَ الإحنة وَمِمَّا يبين ذَلِك حَدِيث عُمَر
رَضِيَ الله عَنْهُ: إِنَّمَا قوم شهدُوا على رجل بِحَدّ وَلم يكن
ذَلِك بِحَضْرَة صَاحب الْحَد فَإِنَّمَا شهدُوا عَن ضعن وَتَأْويل
هَذَا الحَدِيث [على -] الْحُدُود الَّتِي فِيمَا بَين النَّاس وَبَين
اللَّه تَعَالَى كَالزِّنَا وَشرب الْخمر [وَالسَّرِقَة.
ظنن قَالَ أَبُو عُبَيْد -] وَسمعت
مُحَمَّد بْن الْحسن يَجْعَل فِي [ذَلِك وقتالا -] أحفظه يَقُول: فَإِن
أَقَامُوا الشَّهَادَة بعد ذَلِك بطلت شَهَادَتهم فَأَما حُقُوق
النَّاس [فالشهادة -] فِيهَا جَائِزَة أبدا لَا ترد وَإِن تقادمت.
(2/154)
فَأَما الظنين فِي الْوَلَاء والقرابة
فَالَّذِي يتهم / بالدعاوة إِلَى غير 57 / ب أَبِيه وَالْمُتوَلِّيّ
غير موَالِيه قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَقد يكون أَن يتهم فِي شَهَادَته
لقريبه كالوالد للْوَلَد [وَالْولد للوالد -] وَمن وَرَاء ذَلِك وَمثله
حَدِيثه الآخر إِن رَسُول اللَّه صلي اللَّه عَلَيْهِ وَسلم بعث مناديا
حَتَّى انْتهى إِلَى الْبَيِّنَة أَنه لَا تجوز شَهَادَة خصم وَلَا
ظنين وَالْيَمِين على الْمُدَّعِي عَلَيْهِ فَمَعْنَى الظنين هَهُنَا
الْمُتَّهم فِي دينه. و [أما -] قَوْله: لَا القانع مَعَ أهل الْبَيْت
لَهُم فَإِنَّهُ الرجل يكون مَعَ الْقَوْم فِي حاشيتهم كالخادم لَهُم
وَالتَّابِع والأجير وَنَحْوه وأصل
(2/155)
القنوع: الرجل يكون مَعَ الرجل يطْلب فَضله
وَيسْأل معروفه فَيَقُول: هَذَا إِنَّمَا يطْلب معاشه من هَؤُلَاءِ
فَلَا يجوز شَهَادَته لَهُم قَالَ اللَّه عز وَجل {فَكُلُوْا مِنْهَا
وَاَطعِمُوا الُقَانِعَ وَالمْعَتَر} فالقانع فِي التَّفْسِير: الَّذِي
يسْأَل والمعتر: الَّذِي يتَعَرَّض وَلَا يسْأَل وَمِنْه قَول الشماخ:
[الطَّوِيل]
لمَال الْمَرْء يصلحه فيغنى ... مفاقره أعف من القنوعِ
يَعْنِي مَسْأَلَة النَّاس. وَقَالَ عدي بْن زيد: [الطَّوِيل]
وَمَا خُنْت ذَا عهد وأبت بعهده ... وَلم أحرم الْمُضْطَر إِذْ جَاءَ
قانعا
يَعْنِي سَائِلًا. وَيُقَال من هَذَا: قد قنع يقنع قنوعا وَأما القانع
الراضي بِمَا أعطَاهُ اللَّه [عز وَجل -] فَلَيْسَ من ذَلِك يُقَال
[مِنْهُ -] : قنعت أقنع قناعة فَهَذَا بِكَسْر النُّون وَذَلِكَ
بِفَتْحِهَا وَذَلِكَ من القنوع وَهَذَا من القناعة.
(2/156)
دور
وَقَالَ أَبُو عبيد: فِي حَدِيث النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فِي
خطبَته: إِن الزَّمَان قد اسْتَدَارَ كَهَيْئَته يَوْم خلق [اللَّه -]
السَّمَاوَات وَالْأَرْض السّنة اثْنَا عشر شهرا مِنْهَا أَرْبَعَة
حرم: ثَلَاثَة مُتَوَالِيَات ذُو الْقعدَة وَذُو الْحجَّة وَالْمحرم
وَرَجَب مُضر الَّذِي بَين جُمَادَى وَشَعْبَان. قَوْله: إِن الزَّمَان
قد اسْتَدَارَ كَهَيْئَته يَوْم خلق [اللَّه -] السَّمَاوَات
وَالْأَرْض يُقَال: إِن بَدْء ذَلِك [كَانَ -] وَالله أعلم إِن
الْعَرَب كَانَت تحرم هَذِه الْأَشْهر الْأَرْبَعَة وَكَانَ هَذَا
مِمَّا تمسكت بِهِ من مِلَّة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام 9 وعَلى
نَبينَا فَرُبمَا احتاجوا إِلَى تَحْلِيل
(2/157)
الْمحرم للحرب تكون بَينهم فيكرهون أَن
يستحلوه ويكرهون تَأْخِير حربهم فيؤخرون تَحْرِيم الْمحرم إِلَى صفر
فيحرمونه ويستحلون الْمحرم. وَهَذَا هُوَ النسيء الَّذِي قَالَ اللَّه
تَعَالَى {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ يُضلُّ بِهِ
الَّذِيْنَ كَفَرُوْا يُحِلُّوْنَهُ عَاماً وَّيُحَرَّمُوْنَهُ عَاماً}
إِلَى آخر الْآيَة وَكَانَ ذَلِك فِي كنَانَة هم الَّذين كَانُوا
ينسئون الشُّهُور على الْعَرَب والنسيء هُوَ التَّأْخِير وَمِنْه قيل:
بِعْت الشَّيْء نَسِيئَة فَكَانُوا يمكثون بذلك زَمَانا يحرمُونَ صفر
وهم يُرِيدُونَ بِهِ الْمحرم وَيَقُولُونَ: هَذَا أحد الصفرين [قَالَ
أَبُو عُبَيْدٍ -] وَقد تَأَول بعض النَّاس قَول النَّبِي عَلَيْهِ
السَّلَام: لَا صفر على هَذَا ثمَّ يَحْتَاجُونَ أَيْضا إِلَى تَأْخِير
صفر إِلَى الشَّهْر الَّذِي بعده كحاجتهم إِلَى تَأْخِير الْمحرم
فيؤخرون تَحْرِيمه إِلَى ربيع ثمَّ يمكثون بذلك مَا شَاءَ اللَّه ثمَّ
يَحْتَاجُونَ إِلَى مثله ثمَّ كَذَلِك [فَكَذَلِك حَتَّى -] يتدافع شهر
بعد شهر حَتَّى اسْتَدَارَ التَّحْرِيم على السّنة كلهَا فَقَامَ
الْإِسْلَام وَقد رَجَعَ الْمحرم إِلَى مَوْضِعه الَّذِي وَضعه اللَّه
[تبَارك وَتَعَالَى -] بِهِ وَذَلِكَ بعد دهر طَوِيل
(2/158)
فَذَلِك قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: إِن
الزَّمَان قد اسْتَدَارَ كَهَيْئَته يَوْم خلق [اللَّه -] السَّمَاوَات
وَالْأَرْض يَقُول: رجعت الْأَشْهر الْحرم إِلَى موَاضعهَا وَبَطل
النسيء وَقد زعم بعض النَّاس أَنهم كَانُوا يسْتَحلُّونَ الْمحرم عَاما
فَإِذا كَانَ من قَابل ردُّوهُ إِلَى تَحْرِيمه وَالتَّفْسِير الأول
أحب إليّ لقَوْل النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام إِن الزَّمَان قد
اسْتَدَارَ كَهَيْئَته يَوْم خلق [اللَّه -] السَّمَاوَات وَالْأَرْض
وَلَيْسَ فِي التَّفْسِير الآخر استدارة وعَلى هَذَا التَّفْسِير
[الَّذِي فسرناه -] قد / يكون قَوْله {يُحِلُّونَهُ عَامًا ويحرمونه
عَاما} 58 / الف مُصدقا لأَنهم إِذا حرمُوا الْعَام الْمحرم وَفِي
قَابل صفر ثمَّ احتاجوا بعد ذَلِك إِلَى تَحْلِيل صفر [أَيْضا -] أحلوه
وحرموا الَّذِي بعده. فَهَذَا تَأْوِيل قَوْله فِي هَذَا التَّفْسِير
{يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَاما} . قَالَ أَبُو عُبَيْد:
وَفِي هَذَا تَفْسِير آخر يُقَال: إِنَّه فِي الْحَج عَن مُجَاهِد فِي
قَوْله تَعَالَى {وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجَّ} قَالَ: قد اسْتَقر
الْحَج فِي ذِي الْحجَّة لَا جِدَال فِيهِ وعَن مُجَاهِد قَالَ: كَانَت
الْعَرَب فِي الْجَاهِلِيَّة يحجون عَاميْنِ فِي [ذِي -
(2/159)
الْقعدَة وعامين فِي ذِي الْحجَّة فَلَمَّا
كَانَت السّنة الَّتِي حج أَبُو بكر فِيهَا قبل حجَّة النَّبِيّ صلي
الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ الْحَج فِي السّنة الثَّانِيَة فِي ذِي
الْقعدَة فَلَمَّا كَانَت السّنة الَّتِي حج فِيهَا النَّبِي عَلَيْهِ
السَّلَام فِي الْعَام الْمقبل عَاد الْحَج إِلَى ذِي الْحجَّة فَذَلِك
قَوْله: إِن الزَّمَان قد اسْتَدَارَ كَهَيْئَته يَوْم خلق [اللَّه -]
السَّمَاوَات وَالْأَرْض يَقُول: قد ثَبت الْحَج فِي ذِي الْحجَّة.
حجز حجز وَقَالَ أَبُو عبيد: فِي
حَدِيث النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام لأهل الْقَتِيل أَن ينحجزوا
الْأَدْنَى فالأدنى وَإِن كَانَت امْرَأَة. وَذَلِكَ أَن يقتل
الْقَتِيل وَله وَرَثَة رجال وَنسَاء يَقُول: فَأَيهمْ عفى
(2/160)
عَن دَمه من الْأَقْرَب فَالْأَقْرَب من
رجل أَو امْرَأَة فعفوه جَائِز لِأَن قَوْله [أَن -] ينحجزوا يَعْنِي
يكفوا عَن الْقود وَكَذَلِكَ كل من ترك شَيْئا وكف عَنهُ فقد انحجز
عَنهُ وَفِي هَذَا الحَدِيث تَقْوِيَة لقَوْل أهل الْعرَاق إِنَّهُم
يَقُولُونَ: لكل وَارِث أَن يعْفُو عَن الدَّم من رجل أَو امْرَأَة
فَإِذا عُفيَ بَعضهم سقط الْقود عَن الْقَاتِل وَأخذ سَائِر الْوَرَثَة
حصصهم من الدِّيَة. وَأما أهل الْحجاز فَيَقُولُونَ: إِنَّمَا الْعَفو
والقود إِلَى الْأَوْلِيَاء خَاصَّة وَلَيْسَ للْوَرَثَة الَّذين
لَيْسُوا بأولياء من ذَلِك شَيْء يتأولون قَول اللَّه تَعَالَى {وَمَنْ
قُتِلَ مَظْلُوْماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَليِّه سُلْطانا} وَقَالَ
أَبُو عبيد: وَقَول أهل الْعرَاق فِي هَذَا أعجب إِلَيّ فِي الْقَتِيل.
يمن وَقَالَ أَبُو عبيد: فِي حَدِيث
النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: الْإِيمَان يمَان وَالْحكمَة يَمَانِية.
قَوْله: الْإِيمَان يمَان وَإِنَّمَا بَدَأَ الْإِيمَان من مَكَّة
لِأَنَّهَا مولد النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام ومبعثه ثمَّ هَاجر إِلَى
الْمَدِينَة فَفِي ذَلِك قَولَانِ: [أما -] أَحدهمَا فَإِنَّهُ يُقَال:
إِن مَكَّة من أَرض تهَامَة وَيُقَال: إِن تهَامَة من أَرض
(2/161)
الْيمن وَلِهَذَا سمي مَا وَالِي مَكَّة من
أَرض الْيمن واتصل بهَا التهائم فَكَانَ مَكَّة على هَذَا التَّفْسِير
يَمَانِية فَقَالَ: الْإِيمَان يمَان [على هَذَا -] وَالْوَجْه الآخر
أَنه يرْوى فِي الحَدِيث إِن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ هَذَا
الْكَلَام وَهُوَ يَوْمئِذٍ بتبوك نَاحيَة الشَّام وَمَكَّة
وَالْمَدينَة حِينَئِذٍ بَينه وَبَين الْيمن فَأَشَارَ إِلَى نَاحيَة
الْيمن وَهُوَ يُرِيد مَكَّة وَالْمَدينَة فَقَالَ: الْإِيمَان يمَان
أَي هُوَ من هَذِه النَّاحِيَة فهما وَإِن لم يَكُونَا من الْيمن فقد
يجوز أَن ينسبا إِلَيْهَا إِذا كَانَتَا من ناحيتها وَهَذَا كثير فِي
كَلَامهم فَاش أَلا تراهم قَالُوا: الرُّكْن الْيَمَانِيّ فنسب إِلَى
الْيمن وَهُوَ بِمَكَّة لِأَنَّهُ مِمَّا يَليهَا وأنشدني الْأَصْمَعِي
للنابغة يذم يزِيد بْن الصَّعق وَهُوَ رجل من قيس فَقَالَ:
[الوافر]
وكنتَ أمينَه لَو لم تخنه ... وَلَكِن لَا أَمَانَة لليمانيِ
وَذَلِكَ أَنه كَانَ مِمَّا يَلِي الْيمن وَقَالَ ابْن مقبل وَهُوَ رجل
من بني العجلان من بني عَامر بن صعصة: [الْبَسِيط]
طافَ الخيالُ بِنَا ركبًا يمانينا
فنسب نَفسه إِلَى الْيمن لِأَن الخيال طرقه وَهُوَ يسير ناحيتها
وَلِهَذَا قَالَ:
(2/162)
سُهَيْل الْيَمَانِيّ لِأَنَّهُ يرى من
نَاحيَة الْيمن. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَخْبرنِي هِشَام أبن
الْكَلْبِيّ أَن سُهَيْل بْن عبد الرَّحْمَن بْن عَوْف تزوج الثرياء /
بنت فلَان 58 / ب من بني أُميَّة من العَبَلات وَهِي أُميَّة
الصُّغْرَى فَقَالَ عمر بن أَبى ربيعَة أنشدنيه عَنهُ الْأَصْمَعِي:
[الْخَفِيف]
أَيهَا المنكح الثريا سُهيلا ... عمرك اللَّه كَيفَ يلتقيانِ
هِيَ شامية إِذا مَا استقلّت ... وَسُهيْل إِذا اسْتَقل يمانِ
قَالَ أَبُو عبيد: فَجعل لَهما النُّجُوم مِثَالا لِاتِّفَاق أسمائهما
للنجوم قَالَ ثمَّ قَالَ: هِيَ شامية فعنى الثريا الَّتِي فِي
السَّمَاء وَسُهيْل يمَان وَذَلِكَ أَن الثريا إِذا ارْتَفَعت اعترضت
نَاحيَة الشَّام مَعَ الجوزاء حَتَّى تغيب تِلْكَ النَّاحِيَة قَالَ:
وَسُهيْل إِذا اسْتَقل يماني لِأَنَّهُ يَعْلُو من نَاحيَة الْيمن.
فَسمى تِلْكَ شامية وَهَذَا يَمَانِيا وَلَيْسَ مِنْهُمَا شأم وَلَا
يمَان وَإِنَّمَا هما نُجُوم السَّمَاء وَلَكِن نسب كل وَاحِد
مِنْهُمَا إِلَى ناحيته فعلى هَذَا تَأْوِيل قَول
(2/163)
النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: الْإِيمَان
يمَان. وَيذْهب كثير من النَّاس فِي هَذَا إِلَى الْأَنْصَار يَقُول:
هم نصروا الْإِيمَان وهم يَمَانِية فنسب الْإِيمَان إِلَيْهِم على
هَذَا الْمَعْنى. وَهُوَ أحسن الْوُجُوه عِنْدِي [قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ
-] : وَمِمَّا يبين ذَلِك أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام لما قدم
[أهل -] الْيمن قَالَ: أَتَاكُم أهل الْيمن هم أَلين قلوبا وأرق
أَفْئِدَة الْإِيمَان يمَان وَالْحكمَة يَمَانِية وهم أنصار النَّبِي
عَلَيْهِ السَّلَام وَمِنْه أَيْضا قَول النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام:
لَوْلَا الْهِجْرَة لَكُنْت امْرأ من الْأَنْصَار.
نصف وَقَالَ أَبُو عبيد: فِي حَدِيث
النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: لَا تسبوا أَصْحَابِي فَإِن أحدكُم لَو
أنْفق مَا فِي الأَرْض مَا أدْرك مُد أحدهم وَلَا نصيفه. قَوْله: مُد
أحدهم وَلَا نصيفه يَقُول: لَو أنْفق أحدكُم مَا فِي الأَرْض مَا بلغ
مثل مُد يتَصَدَّق بِهِ أحدهم أَو يُنْفِقهُ وَلَا مثل نصفه وَالْعرب
تسمي النّصْف النصيف كَمَا قَالُوا فِي الْعشْر عشير وَفِي الْخمس
خَمِيس وَفِي
(2/164)
السُبُع سبيع وَفِي الثّمن ثمين قَالَهَا
أَبُو زيد والأصمعي وأنشدنا أَبُو الْجراح: [الطَّوِيل]
وألقيت سهمي بَينهم حِين أوخشوا ... فَمَا صَار لي فِي القَسْم إِلَّا
ثمينها ... وَاخْتلفُوا فِي السَّبع وَالسُّدُس وَالرّبع فَمنهمْ من
يَقُول: سَبيع وسَديس وربّيع وَمِنْهُم من لَا يَقُول ذَلِك وَلم أسمع
أحدا مِنْهُم يَقُول فِي الثُّلُث شَيْئا [من ذَلِك -] . وَقَالَ
الشَّاعِر فِي النصيف يذكر امْرَأَة:
(2/165)
[الرجز]
لم يغذها مُد وَلَا نصيف ... وَلَا تُميرات وَلَا تعجيفُ
لَكِن غذاها اللَّبن الخريف ... الْمَحْض والقارص والصريفُ
أَرَادَ أَنَّهَا منعمة فِي سَعَة لم تغذ بِمد تمر وَلَا نصيفه وَلَكِن
بألبان اللقَاح وَقَوله: تعجيف يَعْنِي أَن تدع طعامها وَهِي تشتهيه
لغَيْرهَا وَهَذَا لَا يكون إِلَّا من العَوَز والقلة. قَالَ أَبُو
عُبَيْدٍ: والنصيف فِي غير هَذَا الْخمار. وَمِنْه حَدِيث النَّبِي
عَلَيْهِ السَّلَام وَذكر حور الْعين قَالَ: ولنصيف إِحْدَاهُنَّ على
رَأسهَا خير من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا قَالَ النَّابِغَة:
[الْكَامِل]
سقط النصيف وَلم تُرد إِسْقَاطه ... فتناولته واتقتنا بِالْيَدِ
(2/166)
طلل
وَقَالَ أَبُو عبيد: فِي حَدِيث النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فِي الرجل
الَّذِي عض يَد رجل فَانْتزع يَده من فِيهِ فَسَقَطت ثناياه فخاصمه
إِلَى النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فطلها. قَوْله: طلها يَعْنِي أهدرها
وأبطلها قَالَ الْكسَائي وَأَبُو زيد قَوْله: طلها يَعْنِي أهدرها
وأبطلها قَالَ أَبُو زيد: يُقَال: [قد -] طُل دَمه وَقد طله الْحَاكِم
وَهُوَ دم مطلول قَالَ: وَلَا يُقَال: طل دَمه لَا يكون الْفِعْل للدم
وَأَجَازَ الْكسَائي: طُل دَمه أَي هدره وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَة
يَقُول: فِيهِ ثَلَاث لُغَات: طَل دَمه وطُل دَمه وأُطل دَمه قَالَ
أَبُو عُبَيْدٍ: وَفِي هَذَا / الحَدِيث من الْفِقْه أَنه من ابْتَدَأَ
رجلا يضْرب فأنفاه الآخر 59 / الف بِشَيْء يُرِيد [بِهِ -] دَفعه عَن
نَفسه فَعَاد الضَّرْب على البادي أَنه هدر لِأَن الثَّانِي إِنَّمَا
أَرَادَ دَفعه [عَن نَفسه -] ولم يرد غَيره وَهَذَا أصل لهَذَا الحكم.
(2/167)
كلب
وَقَالَ أَبُو عبيد: فِي حَدِيث النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه رخص
للْمحرمِ فِي قتل الْعَقْرَب والفأرة والغراب والحِدَأ وَالْكَلب
الْعَقُور. قَوْله: وَالْكَلب الْعَقُور بَلغنِي عَن سُفْيَان بْن
عُيَيْنَة أرَاهُ قَالَ: كل سبع يعقر وَلم يخص بِهِ الْكَلْب قَالَ
أَبُو عُبَيْدٍ: وَلَيْسَ عِنْدِي مَذْهَب إِلَّا مَا قَالَ سُفْيَان
لما رخص الْفُقَهَاء فِيهِ من قتل الْمحرم السَّبع العادي عَلَيْهِ
وَمثل قَول الشّعبِيّ وَإِبْرَاهِيم: من حل بك فاحلل بِهِ يَقُول: إِن
الْمحرم لَا يقتل فَمن عرض لَك فَحل بك فَكُن أَنْت أَيْضا بِهِ
حَلَالا فكأنهم إِنَّمَا اتبعُوا هَذَا الحَدِيث فِي الْكَلْب
الْعَقُور وَمَعَ هَذَا أَنه قد يجوز فِي
(2/168)
الْكَلَام أَن يُقَال للسبع: كلب أَلا ترى
أَنهم يروون فِي الْمَغَازِي أَن عتبَة ابْن أبي لَهب كَانَ شَدِيد
الْأَذَى للنَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ النَّبِي عَلَيْهِ
السَّلَام: اللَّهُمَّ سلّط عَلَيْهِ كَلْبا من كلابك فَخرج عتبَة
إِلَى الشَّام مَعَ أَصْحَاب [لَهُ -] فَنزل منزلا فطرقهم الْأسد فتخطى
إِلَى عتبَة بْن أبي لَهب من بَين أَصْحَابه حَتَّى قَتله فَصَارَ
الْأسد هَهُنَا قد لزمَه اسْم الْكَلْب وَهَذَا مِمَّا يثبت ذَلِك
التَّأْوِيل وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ
الْجَوَارحِ مُكَلِّبْينَ} فَهَذَا اسْم مُشْتَقّ من الْكَلْب ثمَّ دخل
فِيهِ صيد الفهد والصقر والبازي فَصَارَت كلهَا دَاخِلَة فِي هَذَا
الِاسْم فَلهَذَا قيل لكل جارح أَو عَاقِر من السبَاع: كلب عقور.
غنا وَقَالَ أَبُو عبيد: فِي حَدِيث
النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: لَيْسَ منا من لم يَتَغَنَّ
بِالْقُرْآنِ. كَانَ سُفْيَان بْن عُيَيْنَة يَقُول: مَعْنَاهُ من لم
يسْتَغْن بِهِ وَلَا يذهب بِهِ إِلَى الصَّوْت وَلَيْسَ للْحَدِيث
عِنْدِي وَجه غير هَذَا لِأَنَّهُ فِي حَدِيث
(2/169)
آخر كَأَنَّهُ مُفَسّر عَن [عبد الله -]
بْن نَهيك أَو ابْن أبي نهيك أَنه دخل على سعد وَعِنْده مَتَاع رَثّ
وَمِثَال رَثّ فَقَالَ قَالَ رَسُول الله صلي اللَّه عَلَيْهِ وَسلم:
لَيْسَ منا من لم يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ. قَالَ أَبُو عبيد: فَذكره
رثاثة الْمَتَاع والمثال عِنْد هَذَا الحَدِيث يبينك أَنه إِنَّمَا
أَرَادَ الِاسْتِغْنَاء بِالْمَالِ الْقَلِيل وَلَيْسَ الصَّوْت من
هَذَا فِي شَيْء وَيبين ذَلِك حَدِيث عبد الله
(2/170)
من قَرَأَ سُورَة آل عمرَان فَهُوَ غَنِي.
وَعنهُ قَالَ: نعم كنز الصعلوك سُورَة آل عمرَان يقوم بهَا من آخر
اللَّيْل.
مثل قَالَ أَبُو عبيد: فَأرى
الْأَحَادِيث كلهَا إِنَّمَا دلّت على الِاسْتِغْنَاء وَمِنْه حَدِيثه
الآخر: من قَرَأَ الْقُرْآن فَرَأى أَن أحدا أعْطى أفضل مِمَّا أعْطى
فقد عظم صَغِيرا وَصغر عَظِيما. وَمعنى الحَدِيث: لَا يَنْبَغِي لحامل
الْقُرْآن أَن يرى أحدا من أهل الأَرْض أغْنى مِنْهُ وَلَو ملك
الدُّنْيَا برحبها. وَلَو كَانَ وَجهه كَمَا يتأوله بعض النَّاس أَنه
الترجيع بِالْقِرَاءَةِ وَحسن الصَّوْت لكَانَتْ الْعقُوبَة قد عظمت
فِي ترك ذَلِك أَن يكون: من لم يرجع صَوته بِالْقُرْآنِ فَلَيْسَ من
النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام حِين قَالَ: لَيْسَ منا من لم يَتَغَنَّ
بِالْقُرْآنِ وَهَذَا لَا وَجه لَهُ وَمَعَ هَذَا أَنه كَلَام جَائِز
فَاش فِي كَلَام الْعَرَب وأشعارهم أَن
(2/171)
يَقُولُوا: تَغَنَّيْت تغَنِّيا
وَتَغَانَيْت تَغَانِيًا يَعْنِي اسْتَغْنَيْت قَالَ الْأَعْشَى:
[المتقارب]
وَكنت امْرأ زَمنا [بالعراق ... عفيفَ المناخِ] طويلَ التغنْ
يُرِيد الِاسْتِغْنَاء أَو الْغنى وَقَالَ الْمُغيرَة بْن حبناء
التَّمِيمِي يُعَاتب أَخا لَهُ:
[الطَّوِيل]
كِلَانَا غنى عَن أَخِيه حَيَاته ... وَنحن إِذا متْنا أَشد تَغَانِيًا
59 - / ب يُرِيد أَشد اسْتغْنَاء / هَذَا وَجه الحَدِيث وَالله أعلم.
وَأما قَوْله: وَمِثَال رث فَإِنَّهُ الْفراش قَالَ الْكُمَيْت:
[الطَّوِيل]
(2/172)
بِكُل طُوال الساعدين كَأَنَّمَا ... يرى
بسرى اللَّيْل الْمِثَال الممهدا
منن وَقَالَ أَبُو عبيد: فِي حَدِيث
النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: الكمْأة من الْمَنّ وماؤها شِفَاء للعين.
قَوْله: الكمأة من الْمَنّ يُقَال وَالله أعلم إِنَّه إِنَّمَا شبهها
بالمن الَّذِي كَانَ يسْقط على بني إِسْرَائِيل لِأَن ذَلِك كَانَ ينزل
عَلَيْهِم عفوا بِلَا علاج مِنْهُم إِنَّمَا كَانُوا يُصْبِحُونَ
وَهُوَ بأفنيتهم فيتناولونه وَكَذَلِكَ الكمأة لَيْسَ على أحد مِنْهَا
مُؤنَة فِي بذر وَلَا سقِِي وَلَا غَيره وَإِنَّمَا هُوَ شَيْء ينبته
اللَّه فِي الأَرْض حَتَّى يصل إِلَى من يجتنيه. وَقَوله: وماؤها
شِفَاء للعين يُقَال: إِنَّه لَيْسَ مَعْنَاهُ أَن يُؤْخَذ مَاؤُهَا
بحتا فيقطر فِي الْعين وَلكنه يخلط مَاؤُهَا بالأدوية الَّتِي تعالج
بهَا الْعين فعلى هَذَا يُوَجه الحَدِيث.
لوى وجد وَقَالَ أَبُو عبيد: فِي
حَدِيث النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: لي الْوَاجِد يحل
(2/173)
عُقُوبَته وَعرضه. قَوْله: ليّ هُوَ المطل
يُقَال: لويت دينه ألويه ليا وليانا قَالَ الْأَعْشَى: [الْكَامِل]
يلوينني دَيني النَّهَار وأقتضي ... دَيني إِذا وقذ النعاس الرّقدا
وَقَالَ ذُو الرمة: [الطَّوِيل]
تُطيلين لياني وأنتِ ملية ... وَأحسن يَا ذَات الوشاح التقاضيا
وَقَوله: الْوَاجِد يَعْنِي الْغَنِيّ الَّذِي يجد مَا يقْضِي [بِهِ]
دينه وَمِمَّا يصدقهُ حَدِيث النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام مطل
الْغَنِيّ ظلم. وَقَوله: يحل عُقُوبَته وَعرضه فَإِن أهل الْعلم
يتأولون بالعقوبة: الْحَبْس فِي السجْن وبالعرض: أَن يشد لِسَانه.
وَقَوله فِيهِ نَفسه وَلَا يذهبون فِي هَذَا إِلَى أَن يَقُول فِي
حَسبه شَيْئا وَكَذَلِكَ وَجه الحَدِيث
(2/174)
عِنْدِي وَمِمَّا يُحَقّق ذَلِك حَدِيث
النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: لصَاحب الْحق الْيَد وَاللِّسَان قَالَ:
وَسمعت مُحَمَّد بْن الْحسن يُفَسر الْيَد باللزوم وَاللِّسَان
بالتقاضي قَالَ أَبُو عُبَيْد: وَفِي [هَذَا -] الحَدِيث بَاب من الحكم
عَظِيم قَوْله: لَيّ الْوَاجِد فَقَالَ: الْوَاجِد فَاشْترط الوُجد
وَلم يقل: ليّ الْغَرِيم وَذَلِكَ أَنه قد [يجوز أَن -] يكون غريما
وَلَيْسَ بواجد وَإِنَّمَا جعل الْعقُوبَة على الْوَاجِد خَاصَّة
فَهَذَا يبين لَك أَنه من لم يكن واجدا فَلَا سَبِيل للطَّالِب
عَلَيْهِ بِحَبْس وَلَا غَيره حَتَّى يجد مَا يقْضِي وَهَذَا مثل
قَوْله الآخر فِي الَّذِي اشْترى أثمارا فأصيبت فَقَالَ عَلَيْهِ
السَّلَام للْغُرَمَاء: خُذوا مَا قدرتم عَلَيْهِ وَلَيْسَ لكم إِلَّا
ذَلِك. وَقَالَ أَبُو عبيد: فِي حَدِيث النَّبِيّ عَلَيْهِ السَّلَام
أَنه سُئِلَ عَن البِتع فَقَالَ: كل شراب أسكر فَهُوَ حرَام.
(2/175)
خمر سكر بتع سكرك قَالَ أَبُو عبيد: قد
جَاءَت فِي الْأَشْرِبَة آثَار كَثِيرَة بأسماء مُخْتَلفَة عَن
النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَأَصْحَابه وكل لَهُ تَفْسِير فأولها
الْخمر وَهِي مَا غلى من عصير الْعِنَب فَهَذَا مِمَّا لَا اخْتِلَاف
فِي تَحْرِيمه بَين الْمُسلمين إِنَّمَا الِاخْتِلَاف فِي غَيره
وَمِنْهَا السكر وَهُوَ نَقِيع التَّمْر الَّذِي لم تمسه النَّار
وَفِيه يرْوى عَن عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود أَنه قَالَ: السكر
خمر وَمنا البِتع وَهُوَ الَّذِي
جَاءَ فِيهِ الحَدِيث عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَهُوَ نَبِيذ
الْعَسَل وَمِنْهَا الجِعة وَهُوَ نَبِيذ الشّعير وَمِنْهَا المِزْر
وَهُوَ من الذّرة وعَن ابْن عمر أَنه فسر هَذِه الْأَشْرِبَة
الْأَرْبَعَة وَزَاد: وَالْخمر من الْعِنَب وَالسكر من التَّمْر قَالَ
أَبُو عُبَيْدٍ: وَمِنْهَا السكركة وَقد رُوِيَ فِيهِ عَن
الْأَشْعَرِيّ التَّفْسِير فَقَالَ: إِنَّه من الذّرة.
فضخ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَمن
الْأَشْرِبَة أَيْضا الفضيخ
(2/176)
وَهُوَ مَا افتضخ من البُسر من غير أَن تمسه النَّار وَفِيه يرْوى عَن
ابْن عمر: لَيْسَ بالفضيخ وَلكنه الفضوخ. |