أسرار العربية

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة التحقيق
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمّد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:
فقد أعز الله -تبارك وتعالى- هذه الأمة بأن جعل لغتها لغة القرآن المتعبد بتلاوته إلى يوم القيامة؛ فأكرم الله -عز وجل- هذه اللغة، وأعلى من شأنها، حيث صارت علومها من علوم الدين؛ ولذا انبرى سلفنا الصالح للقيام بالواجب تجاه هذه اللغة وقدسيتها، فقعدو قواعدها، وأرسوا أسس علوم نحوها، وصرفها، وبلاغتها، وآدابها، وما يتعلق بكل جانب من جوانبها، حتى تكامل بنياتها، وتشعبت ميادينها، وصار لكل علم من علومها ولكل فن من فنونها علماء متخصصون يدرسون ويؤلفون، ويتتلمذ على أيديهم طلاب علم مجدون، لا يلبثون أن يصبحوا بعد فترة من الزمن علماء عاملين مجددين ومحافظين، يتابعون طريق أساتذتهم وشيوخهم في مجال التصنيف والتدريس؛ وهكذا، تنتقل الأمانة من جيل إلى جيل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ولعلّ أهم ما يميز هذا العصر عما تقدمه من عصور هو التفات أبنائه إلى تراث الآباء والأجداد، والسعي الحثيث إلى بعثه وتحقيقه؛ لما فيه من ذخائر وكنوز، قل نظيرها عند غيرنا من الأمم مدفوعين إلى ذلك بدافع ديني، وهو الحفاظ على علوم الدين -ومنها علوم اللغة وآدابها- وبدافع قومي، وهو الحفاظ على اللغة العربية حية متجددة؛ لأنها العامل الموحد والأساس من عوامل الوحدة العربية؛ فالمحافظة عليها, وعلى تراثها، ضرورة ملحة، وواجب قويم يقع على عاتق أبنائها، إذا كانوا أمناء بحق وصدق على ما أولاهم الله -تعالى- واختصهم به من مقدرات هذه الأمة تسارعت أمم الأرض من كُلّ

(1/5)


حدب وصوب؛ لاستنزاف خيراتها، وتدمير ما خلّفه الأسلاف للأحفاد من أبنائها في مجالات الحضارة على اختلافها.
فحري بمثقفي هذه الأمة المتخصصين من أبنائها أن يحافظوا على تراث الآباء والأجداد، وأن يسعوا جاهدين لتجديده، وإحيائه، ودراسته، وفهمه، وشرحه، والزيادة عليه بما يتوصلون إليه من معارف وعلوم وفنون؛ لأنّ العلوم حلقات متصلة عبر مسيرة الحياة، وهكذا يتم التواصل بين الأجداد والأحفاد.
من هذا المنطلق، قررت أن يكون أحد تخصصاتي الجامعية في الدراسات العليا تحقيق أثر من آثار سلفنا الصالح، ثم تابعت السير على طريق البحث والتحقيق، لعلي أساهم مساهمة متواضعة في وضع لبنةٍ ما في صرح تراثنا الشامخ.
وأما اختياركتاب: أسرار العربية، لأبي البركات الأنباري، فلما يتسم به هذا الكتاب من جِدَّة في موضوعه، وبحثه عن علل الإعراب، وأسباب تسمية كثير من المصطلحات النحوية التي يعود إليه الفضل في جمعها، وإن كان النحاة قبله قد ذكروا شيئًا منها في ثنايا موضوعاتهم التي طرقوها.
ولم يكن أبو البركات في كتابه هذا جامعًا وحسب، وإنما كان يطرح التساؤلات، ثم يجيب عنها إجابة العالم الواثق، السريع البديهة، الحاضر الذهن، في الإتيان بالشواهد المناسبة، والحجج القاطعة التي يدعم بها آراءه. كيف لا؟ وهو العالم الحاذق الذي تتبع مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين1، وتعرّف أسس كلا المذهبين، وحججهما، فتبنّى ما رآه صوابا -وفق اعتقاده- وفند الحجج التي رآها بعيدة عن الصواب بأسلوب واضح، يَنِمُّ عن ذكاء خارق، وسعة اطلاع.
وما أريد أن أثير انتباه الدارسين والباحثين وطلاب الدراسات العليا إليه في هذه العجالة، هو أن ابن الأنباري وضع اللبنات الأولى لفنَّين اثنين في غاية الأهمية من خلال كتابيه: أسرار العربية، والإنصاف في مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين، ففي الأول -أسرار العربية- شق الطريق إلى إيجاد فن متكامل في مجال الدراسات النحوية، يمكن أن نطلق عليه اسم: الفلسفة النحوية.
__________
1 الإشارة إلى كتاب "الإنصاف في مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين" للمؤلف.

(1/6)


وفي الثاني -الإنصاف في مسائل الخلاف- مهد الطريق إلى إيجاد فن متكامل في المجال نفسه، يمكن أن نطلق عليه اسم: النحو المقارن؛ وكلا الفنين لما يتطرق إليه أحد حتى الآن. فعلى الباحثين والدارسين المعاصرين تقع مسئولية معالجة هذين الفنين وتكاملهما؛ لما فيهما من الأهمية بمكان على طريق تهذيب النحو العربي، وتسهيل قواعده، واعتماد الأسهل، والأنسب، والموافق للأسس التي قام عليها، وتجاوز الآراء الغريبة التي تعتمد أدلة وحججها واهية، لا داعي لأن نشحن أذهان ناشئتنا بها.
فلهذا الكتاب -أسرار العربية- أهمية خاصة، ينبغي الانتباه إليها، ولعلها أحد الأسباب التي دعتني إلى تحقيقه والتعليق عليه. وأما عملي فيه، فقد أوضحته في قسم التمهيد من هذا الكتاب الذي جاء في ثلاثة أقسام هي:
القسم الأول: قسم التمهيد: وفيه تناولت المباحث التالية:
أولا: تعريف موجز بأبي البركات الأنباري.
ثانيا: منهج أبي البركات النحوي في كتاب أسرار العربية.
ثالثا: عملنا في الكتاب.
القسم الثاني: الكتاب محققًا.
القسم الثالث: قسم المسارد الفنية.
وفي الختام لا بد من التقدم بأسمى آيات التقدير والاحترام إلى كل من ساهم في صف هذا الكتاب، وإخراجه، وطبعه، وتجليده، ونشره؛ وأخص بالذكر الصديق الحاج أحمد أكرم الطباع صاحب دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع ومديرها؛ لما يقوم به من عمل مشكور في ميدان إحياء التراث العربي والإسلامي من خلال قيامه بطباعة الكثير من الكتب التراثية النفيسة؛ فجزاه الله تعالى خير الجزاء، وجعل ذلك في صحيفة عمله يوم القيامة.
وأسأل الله -جل جلاله- أن يهيئ لهذا التراث من يقوم على خدمته بأمانة ونزاهة إلى يوم الدين. وأتضرع إليه -جل في علاه- أن يحف علينا جوارحنا وملكة تفكيرنا على الدوام، وأن يجعلها الوارثة منا، إنه هو الرحيم الرحمن.
{رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَه

(1/7)


عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286] .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
وكتبه: بركات يوسف هبود
بيروت في 15/ ذي القعدة/ 1419هـ
الموافق له 3/ آذار/ 1999م

(1/8)


القسم الأول: قسم التمهيد
ويشمل المباحث التالية:
أولا: تعريف موجز بالأنباريّ.
ثانيا: منهج الأنباري النحوي في كتاب أسرار العربية.
ثالثا: عملنا في الكتاب.

(1/9)


أولا: تعريف موجز بالأنباري
اسمه ونسبه: هو عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله بن أبي سعيد الأنباري1؛ لقبه كمال الدين، وكنيته أبو البركات2.
المولد والنشأة:
ولد في الأنبار، وسمع من أبيه فيها، ثم قدم بغداد في صباه، وسكن فيها إلى أن مات؛ وكانت ولادته سنة 513هـ على الأرجح.
شيوخه وطلبه العلم: سمع عن أبيه في صباه في بلدة الأنبار، ولما قدم إلى بغداد، قرأ اللغة على أبي منصور الجواليقي3، وصحب أبا السعادات، الشريف هبة الله ابن
__________
1 الأنباري: نسبة إلى "أنبار" وهي بلدة قديمة على الفرات؛ بينها وبين بغداد عشرة فراسخ. راجع معجم البلدان 1/ 305.
2 راجع ترجمته في: إنباه الرّواة على أنباه النحاة، للقفطي؛ تحق محمد أبي الفضل إبراهيم "القاهرة: دار الكتب المصرية، 1952م" مج2، ص169.
شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لابن العماد الحنبلي "القاهرة: مك القدسي، 1351هـ" مج4، ص258.
وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، لابن خلكان، تحق د. إحسان عباس "بيروت: دار صادر، 1978" مج3، ص139.
بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، للسيوطي؛ تحق محمد أبي الفضل إبراهيم القاهرة: مطبعة عيسى البابي الحلبي بمصر، 1964م؛ مج2، ص86، وغيرها.
3 الجواليقي: موهوب بن أحمد بن محمد بن الحسن الجواليقي؛ كان إمامًا بارعًا في اللغة والنحو والأدب. درس الأدب في المدرسة النظامية ببغداد بعد الخطيب التبريزي؛ من آثاره: شرح أدب الكتاب، وغيره. مات سنة 539هـ. راجع إنباه الرواة 3/ 335.

(1/13)


الشجري1 حتى برع في النحو. وأخذ الفقه على سعيد بن الرزاز2، وتفقه على مذهب الشافعي بالمدرسة النظامية. وسمع الحديث من أبي منصور، محمد بن عبد الملك بن خيرون3، وأبي البركات، عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي4، وغيرهما.
تلاميذه: لم تذكر كتب التراجم من تلاميذه أحدًا يُذكر سوى الحافظ أبي بكر الحازمي5 الذي روى عنه؛ والرواية غير التلمذة كما هو معلوم. ولعل سبب ذلك هو انصراف أبي البركات إلى التأليف؛ واعتزاله الناس أكثر أوقاته كما سنرى.
منزلته العلمية: كان ابن الأنباري إمامًا ثقة، غزير العلم في اللغة والأدب وتاريخ الرجال6، درس النحو في المدرسة النظامية ببغداد، وصار معيدًا فيها. وكان يعقد مجلس الوعظ، ثم قرأ الأدب، وحدّث باليسير، لكن روى الكثير من كتب
__________
1 ابن الشجري: هبة الله بن علي بن محمد الحسيني الشريف المعروف بابن الشجري؛ كان إمامًا في اللغة والأدب. مات ببغداد سنة 542هـ.
2 ابن الرزاز: سعيد بن محمد بن عمر بن منصور بن الرزاز، كان إمامًا في الفقه والأصول ومسائل الخلاف، وتفقه على الغزالي، وغيره. ودرس مدة في المدرسة النظامية، ثم عزل. مات سنة 539هـ.
3 ابن خيرون: أبو منصور، محمد بن عبد الملك بن خيرون، البغدادي، المقرئ؛ من آثاره: المفتاح، والموضح في القراءات. مات سنة 539هـ.
4 الأنماطيّ: أبو البركات، عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي الحنبلي، كان حافظًا، متقنًا، كثير السماع، ثقة، لم يتزوج في حياته، وكان واسع الرواية متفرغًا للحديث. مات سنة 538هـ.
5 أبو بكر الحازمي: محمد بن موسى المعروف بالحازمي، الهمذاني، الشافعي، الملقب زين الدين، كانا فقيهًا حافظًا، زاهدًا؛ من آثاره: الناسخ والمنسوخ، وغيره. مات سنة 581هـ.
6 راجع: الوسيط في تاريخ النحو العربي، د. عبد الكريم محمد الأسعد "ط. أولى الرياض: دار الشواف للنشر والتوزيع، 1413هـ/ 1992م"، ص 137.

(1/14)


الأدب. وصفه الشيخ موفق الدين البغدادي -629هـ قائلاً: لم أر في العباد والمنقطعين أقوى منه في طريقه، ولا أصدق منه في أسلوبه، جد محض لا يعتريه تصنع، ولا يعرف السرور، ولا أحوال العالم..1.
تدينه وورعه: كان أبو البركات الأنباري متدينًا ورعًا، تفقه في المدرسة النظامية على مذهب الشافعي -كما أسلفنا- ثم حدث فيها. وكان إمامًا ثقة صدوقًا، وفقيهًا مناظرًا غزير العلم، وعفيفًا لا يقبل عطايا الخلفاء والأمراء، وكان يرضى بالكفاف من العيش، ويلبس الخشن من الثياب. وكان يعيش حياة الزاهدين معتمدًا على أجرة دار وحانوت؛ مقدار أجرتهما نصف دينار في الشَّهر.
وذكر بعض من ترجم لأبي البركات أنَّ المستضيء2 أرسل إليه خمسمائة دينار، فردها؛ فقالوا له: اجعلها لولدك؛ فقال: إن كنت خلقته فأنا أرزقه.
وكان رحمه الله تعالى يلبس في بيته ثوبًا خَلَقًا، وكان له ثوب وعمامة من قطن يلبسهما يوم الجمعة.
وقيل: إنه انقطع في آخر عمره في بيته مشتغلًا بالعلم والعبادة، وترك الدنيا، ومجالسة أهلها، ولم يكن يخرج إلا لصلاة الجمعة3.
آثاره: صنف أبو البركات الأنباري كثيرًا من الكتب والكتيبات والرسائل في المجالات اللغوية، والنحوية، والفقهية، والأصولية، والكلامية، والتاريخية، وغيرها. وذكر بعضهم له ديوان شعر، والأرجح أن يكون نظم الأبيات أو المقطوعات على غرار العلماء والأدباء الذين ينظمون بعض القصائد أو المقطوعات في مناسبات مختلفة.
__________
1 أسرار العربية، لابن الأنباري؛ تحق محمد بهجة البيطار "دمشق: مطبوعات المجمع العلمي العربي، 1957م"، ص 12.
2 المستضيء: أبو محمد، الحسن بن يوسف المستنجد، ابن المقتفي كان خليفة محمود السيرة، توفي سنة 575هـ.
3 راجع المصادر المذكورة في ترجمته، والأعلام للزركلي الطبعة الثانية؛ مج4، ص104.

(1/15)


وأمّا مؤلفاته: فقد ذكر السبكي في كتابه: طبقات الشافعية الكبرى، أن لأبي البركات في اللغة والنحو ما يزيد على خمسين مصنفًا. وجاء بعده السيوطي، ليوصلها في كتابه: بغية الوعاة، إلى سبعين مصنفًا. وأما ابن العماد، فقد أوصلها في كتابه: شذرات الذهب، إلى ثمانين مصنفًا ومائة مصنف. وتجدر الإشارة -هنا- إلى أن المصنف قد يحتوي عددًا من الأوراق والصفحات، وقد يتجاوز ذلك إلى العشرات، والمئات. وسنكتفي في هذه العجالة بذكر أهم مصنفاته اللغوية والنحوية؛ وهي:
1- أسرار العربية.
2- الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين.
3- البلغة في أساليب اللغة.
4- تفسير غريب المقامات الحريرية.
5- الزاهر في اللغة.
6- شرح السبع الطوال.
7- كتاب اللمعة في صنعة الشعر.
8- نزهة الأَلبّاء في طبقات الأدباء.
شعره:
كان رحمه الله تعالى ينظم الشعر كغيره من العلماء الذين رزقوا قريحة شعرية وأغلب الظن أنه كان مقلًّا؛ لانشغاله بعلوم الدين واللغة والأدب من جهة، ولتورعه الذي يربأ به عن الانسياق وراء شيطان الشعر، وتضييع الوقت فيما لا فائدة تُرجى منه يوم المعاد من جهة ثانية؛ ومن شعره: [الكامل]
العلم أَوْفَى حلية ولباس ... والعقل أَوْقَى جُنَّة الأكياس
والعلم ثوب والعفاف طرازه ... ومطامع الإنسان كالأدناس
والعلم ثوب يُهتدى بضيائه ... وبه يسود الناس فوق الناس1
وذكر السيوطي في بغية الوعاة:
[البسيط]
إذا ذكرتك كاد الشوق يقتلني ... وأرقتني أحزان وأوجاع
وصار كُلِّي قُلوبًا فيك دامية ... للسقم فيها وللآلام إسراع
__________
1 فوات الوفيات "ط، مصر، 1299هـ"؛ مج1، ص262.

(1/16)


فإن نطقت فكُلِّي فيك ألسنة ... وإن سمعت فكلي فيك أسماع1
وفاته: توفي أبو البركات الأنباري -رحمه الله تعالى- ليلة الجمعة في التاسع من شعبان سنة سبع وسبعين وخمسمائة هجرية 577هـ، 1181م، ودفن بتربة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي2.
__________
1 بغية الوعاة "ط. مصر، 1326هـ"، ص 301 وما بعدها.
2 المصدر نفسه.

(1/17)


ثانيا: منهج الأنباري النحوي في كتاب أسرار العربية
يعد ابن الأنباري من متأخري النحاة، وهو أحد أعلام المدرسة البغدادية -كما هو معلوم- فطبعيّ أن يكون هذا الرجل -بتأخره، وذكائه، وإخلاصه في طلب العلم، وباستقامته التي عرف بها طول حياته- أن يتحرر من الأهواء، وأن ينهج النهج الذي يتفق مع قناعاته، واستنتاجاته التي توصل إليها بعد طول مدارسة ومعاناة. وقد رأينا ابن الأنباري في كتابه المشهور:
مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين، ذا عين بصيرة، وقوة في عرض حجج كل من البصريين والكوفيين، وغيرهم، ومن ثم تفنيد الحجج التي يراها بعيدة عن الصواب، وتأييد الحجج التي يقتنع بها، مبينًا في كثير من الأحيان سبب تبنيه لرأي دون رأي، ولحجة دون أخرى، بطريقة علمية موضوعية مقنعة. وهو إذ وافق البصريين في أكثر مسائل الخلاف، لا لانحيازه إليهم -كما يرى بعض الدارسين1؛ بل لأنه رأى آراءهم أكثر سدادًا، وحججهم أكثر إقناعًا؛ وعلى كل فإليه يعود الفضل في إظهار أسس كل مذهب من المذهبين؛ ولا يضيره بعد ذلك اقتناعه بآراء أحد الفريقين، ولا سيما إذا وجده الأنسب، والأقرب إلى الصواب وفق اعتقاده.
وقد سار أبو البركات في كتاب أسرار العربية على النهج نفسه من حيث العرض، والتفنيد، والتأييد، وإن كان في أكثر الأبواب يؤيد آراء البصريين؛ لكونها أكثر إقناعًا، وأقل تكلُّفًا.
وأما موضوع كتاب أسرار العربية بشكل عام، فهو العلل النحوية والإعرابية، وأسباب تسمية مسميات كثير من المصطلحات النحوية، وأسباب تسمية الحركات، وصيغ الجموع، وغير ذلك. وكان ابن الأنباريّ في منتهى
__________
1 راجع: الوسيط في تاريخ النحو العربي، ص 137.

(1/18)


الذكاء والعبقرية في توليد التساؤلات والإجابة عنها حتى يقرب المادة من نفوس الناشئة، وييسر سبيل دخولها إلى الأذهان.
وجاء هذا الكتاب في أربعة وستين بابًا، تناولت ما له صلة في موضوع بحثه في أبواب كتب النحاة. ولم يكن أبو البركات يستطرد على عادة النحاة، بل كان يطرح التساؤل، ثم يجيب عنه مباشرة بعبارات مركزة واضحة؛ كما جاء في باب: ما الكلم؟ على سبيل المثال: فما الفرق بين الكَلِم والكلام؟ قيل: الفرق بينهما أن الكَلِمَ ينطلق على المفيد، وعلى غير المفيد؛ وأما الكلام، فلا ينطلق إلا على المفيد خاصة1.
وأحيانًا، كان يولد التساؤلات التي قد تدور على ألسنة الناشئة والمتبحرين على حد سواء، ثم ينبري للإجابة عنها مستطردًا استطرادًا مركّزًا هو أقرب إلى التفريغ منه إلى الاستطراد؛ ليوضح الفكرة، ويعلل صحة ما ذهب إليه بشاهد من الشعر، أو النثر، كما جاء في باب التثنية على سبيل المثال:
إن قال قائل: ما التثنية؟ قيل: التثنية صيغة مبنية للدلالة على الاثنين؛ وأصل التثنية العطف؛ تقول: قام الزيدان، وذهب العمران؛ والأصل: قام زيد وزيد، وذهب عمرو وعمرو إلا أنهم حذفوا أحدهما، وزادوا على الآخر زيادة دالة على التثنية للإيجاز والاختصار؛ والذي يدل على أن الأصل هو العطف أنهم يفكون التثنية في حال الاضطرار، ويعدلون عنها إلى التكرار؛ كقول القائل:
كأنَّ بين فَكِّهَا والفَكّ ... فَارةَ مِسكٍ ذُبحت في سُكِّ2
وأحيانًا، كان يصل إلى التعليل من دون استشهاد يذكر بآية من القرآن الكريم، أو من الحديث الشريف، أو من الشعر، وإنما يلجأ إلى الاستنتاج والمنطق، كما نلحظ ذلك في باب: العطف، على سبيل الذكر لا الحصر:
إن قال قائل: كم حروف العطف؟ قيل: تسعة؛ الواو، والفاء، وأو، ولا، وثم، وبل، ولكن، وأم، وحتى. فإن قيل: فلم كان أصل حروف العطف الواو؟ قيل: لأن الواو لا تدل على أكثر من الاشتراك فقط، وأما غيرها من الحروف، فتدل على الاشتراك، وعلى معنى زائد على ما سنبين. وإذا كانت هذه الحروف تدل على زيادة معنى ليس في الواو؛ صارت الواو بمنزله الشيء
__________
1 أسرار العربية، ص 35.
2 أسرار العربية، ص 61.

(1/19)


المفرد، والباقي بمنزلة المركب، والمفرد أصل للمركب1.
وأما طرق كتاب: أسرار العربية، فقد استقى أبو البركات كثيرًا من مادته من كتابه: الإنصاف في مسائل الخلاف، الذي أشرنا إليه، ومن كتب البصريين والكوفيين على السواء؛ وكثيرًا ما كان يشير إلى ذلك بقوله: "وقد أوضحنا ذلك في مسائل الخلاف"2 أو "وقد أوضحنا ذلك في المسائل الخلافية"3، ونحو ذلك.
وأما أسلوبه في كتابه، فكان أسلوبًا سلسًا، سهلاً، واضحًا، بعيدًا عن التعقيد، شبيهًا إلى حد ما بأسلوب أبي محمد الحريري4 في كتابه: شرح ملحة الإعراب، فلا تحس بالجفاف النحوي والمنطقي الذي تجده في كثير من كتب النحو التي كتبت في ذلك العصر. والقارئ في كتاب أبي البركات الأنباري -أسرار العربية- لايشعر بالملل والسأم الذي يساور من يقرأ أكثر تلك الكتب المشار إليها، والمدونة في ذلك العصر وما قبله، وما بعده؛ لأنها محشوة بالغريب، متسمة بالتعقيد، متصفة بكثرة الاستطرادات التي تجعل القارئ بعيدًا عن التركيز والاستيعاب.
وخلاصة القول: إنَّ كتاب أسرار العربية كتاب متميز في موضوعه، متميز في طريقة عرضه لمادته، متميز، في وضوحه، وسهولته، متميز في حاجة المبتدئين والمتخصصين إليه -على حد سواء- نظرًا لأهميته. ويمكن أن يكون هذا الكتاب وما شابهه باكورة فن جديد يمكن أن يطلق عليه اسم: الفلسفة النحوية، قوامه البحث في العلل النحوية وتأويلاتها وتمحيصها وبيان الراجح من المرجوح من حجج النجاة، وإبداء الرأي في تلك العلل، وبيان الأسس التي قامت عليها، وهل هي أسس منطقية أو لغوية في ضوء الدراسات اللغوية المعاصرة. ويكون لهذا الفن من الفائدة ما فيه على طريق توحيد المصطلحات النحوية، وإزالة الخلافات القائمة بين أصحاب المذاهب النحوية بعد اعتماد الراجح، وتجاوز المرجوح، ولا سيما ونحن نسعى إلى خدمة لغتنا، وتسهيل سبل تعلمها وإتقانها على مختلف الأَصعدة.
__________
1 أسرار العربية، ص 219.
2 أسرار العربية، ص 73.
3 أسرار العربية، ص 105.
4 الحريري: هو القاسم بن علي الحريري البصري ولد سنة 446هـ؛ من آثاره: ملحة الإعراب، وشرح ملحة الإعراب، ودرة الغواص في أوهام الخواص، والمقامات، وغيرها. مات سنة 516هـ. نزهة الألبّاء 381، وإنباه الرواة 3/ 27.

(1/20)


ثالثا: عملنا في الكتاب
يتجلى عملنا في الكتاب في الجوانب التالية:
أولا: في المتن. ثانيا: في الحاشية. ثالثا: في المسارد الفنية، وسنلقي الضوء على كل منها بشيء من الإيجاز.
أولا: في المتن
أ- التحقيق والمقابلة:
حيث قمنا بمقابلة النسخة المطبوعة بدمشق بتحقيق الأستاذ محمد بهجة البيطار عضو مجمع اللغة العربية بدمشق؛ والنسخة من مطبوعات ذلك المجمع لعام 1957م، بنسخة خطية محفوظة في مكتبة الأسد الوطنية برقم: 1756عام.
وصف المخطوطة وأهميتها في التحقيق:
عدد أوراقها 90 ورقة؛ قياس الورقة: 21.5 × 15سم. وتتفاوت الصفحات في عدد الأسطر غير أنها تزيد على العشرين.
وكذلك يتفاوت عدد الكلمات في الأسطر غير أنها لا تقل عن تسع كلمات، ولا تزيد على ثلاث عشرة كلمة؛ والأغلب بين عشر إلى اثنتي عشرة كلمة في السطر الواحد.
أول المخطوط قوله: "الحمد لله كاشف الغطاء ومانح العطاء ذي الجود والأنداء والإعادة والإبداء ... ".
وآخر المخطوط قوله في شرح قول الشاعر:
غداة طغت علماء بكر بن وائل ... وعجبنا صدور الخيل نحو تميم
يريدون: على الماء، وهذا كله ليس بمطرد على القياس، وإنما دعاهم إلى ذلك كثرة الاستعمال وهو من الشاذ الذي لا يقاس عليه. يلي ذلك اسم

(1/23)


الناسخ محمد بن خلف بن راجح بن بلال المقدسي، فتاريخ الفراغ من النسخ سنة 616هـ، ولم يذكر مكانه.
وقد كتبت هذه النسخة بخط نسخي قديم جميل مقروء، أهمل الناسخ نقط بعض كلماتها. وقد كتبت كلمة: باب، في أول كل بحث بخط كبير. وترك للمخطوط هامش بعرض 5/ 2سم، ندر أن علق عليه. وقد أثرت الرطوبة فيه، فاحترق المداد في معظم الصفحات، فأثرت في المخطوط، واتّسخ.
وقد جاءت هذه النسخة كاملة، أفادتنا كثيرًا في تصويب بعض الهفوات والسقطات التي وقعت في النسخة المطبوعة سواء أكانت سهوًا من الناسخ، أو غلطًا من الطابع. وقد أثبتنا في المتن الكلمات الساقطة من المطبوعة والمستدركة من النسخة الخطية، وفي الوقت نفسه، أشرنا إلى مواضع الزيادة أو النقص في النسخة الخطية زيادة في الفائدة. وحاولنا قدر المستطاع أن نخرج نص المتن كما أراده مؤلفه، وبما تسمح به المنهجية العلمية في مجال التحقيق ومقابلة النصوص. وقد أشرنا إلى النسخة الخطية بحرف: س؛ كناية عن نسخة مكتبة الأسد، وبحرف: ط، للنسخة المطبوعة المعتمدة.
ب- وضعنا عناوين فرعية في أعلى المباحث، تيسر على الدارسين سبيل الوصول إلى مبتغاهم من دون عناء يذكر زيادة في الخدمة، وتوخيًّا للفائدة المرجوة؛ وأثبتنا هذه العناوين بين مركنين في منتصف السطر.
ج- ضبطنا من الحروف ما يجب ضبطه بالحركات المناسبة، ووضعنا علامات الترقيم في مواضعها المناسبة؛ لأن كثيرًا من الدارسين يعانون كثيرًا في أثناء دراسة النصوص، واستيعابها؛ سواء أكانت نحوية أو غير نحوية، إذا لم تكن علامات الترقيم مثبتة في مواضعها بشكل صحيح. وبات معلومًا لدى الدارسين أن علامات الترقيم تؤدي دورًا مهمًّا في ضبط المتن، وتسهل على الطالب فهمه واستيعابه من دون عناء يذكر إذا كان من ذوي الاختصاص.
د- قمنا بتبحير الأبيات الشعرية، وأثبتنا اسم البحر بين مركنين فوق البيت إلى جهة اليسار.
هـ- أكملنا الأبيات الشعرية التي لم يثبت المؤلف في المتن إلا صدرها، أو عجزها، وأثبتنا ذلك بين مركنين وأشرنا إلى ذلك في الحاشية.
ثانيا: في الحاشية
أ- قمنا بتخريج الآيات القرآنية تخريجًا كاملاً، ذاكرين رقم السورة، ثم اسمها، ثم رقم الآية، وهل هي كاملة أو جزء من آية، وأخيرًا مكية هي أم

(1/24)


مدنية واستعملنا الرموز التالية لمثل هذه الآية: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
س: 1 "الفاتحة: 1، مك": سورة: الفاتحة؛ الآية الأولى، مكية.
ب- قمنا بتخريج الأحاديث الشريفة الواردة في المتن، وذكرنا المصادر المعتمدة في التخريج.
ج- نسبنا الشواهد الشعرية إلى قائليها، إذا توصلنا إلى معرفة القائل، وإلا ذكرنا عبارة: لم ينسب إلى قائل معين.
د- ذكرنا ترجمة مختصرة للأعلام الواردة أسماؤهم في المتن؛ سواء أكانوا شعراء، أم أدباء أم نحاة، أم لغويين، أم مفسرين، أم إخباريين، وإذا لم نجد له ترجمة وافية، ذكرنا عبارة: لم نصطد له ترجمة وافية.
هـ- شرحنا المفردات الغريبة في الشاهد الشعري، ثم عقبنا بذكر موطن الشاهد -في البيت- فوجه الاستشهاد بشيء من الإيجاز الذي يفي بالغرض الذي قصد إليه المؤلف من دون التوسع في ذكر مختلف الآراء التي لا يتسع المقام -هنا- لسردها.
ثالثا: في المسارد الفنّيِّة:
صنعنا للكتاب عشرة مسارد؛ كل منها مختص بجانب محدد؛ لتمكن الباحث أو الدارس من العودة إلى ما هو بحاجة إليه، بسرعة وسهولة؛ وهذه المسارد هي:
أولاً: مسرد الآيات القرآنية الكريمة.
ثانيًا: مسرد الأحاديث النبوية الشريفة.
ثالثًا: مسرد الأمثال.
رابعًا: مسرد الأشعار.
خامسًا: مسرد الأعلام.
سادسًا: مسرد القبائل والجماعات.
سابعًا: مسرد البلدان
ثامنًا: مسرد المصادر والمراجع.
تاسعًا: مسرد الموضوعات.
عاشرًا: مسرد المسارد.

(1/25)


مصطلحات ورموز معتمدة في التحقيق والتعليق:
س: سورة، ورمزنا بها في الحاشية لنسخة مكتبة الأسد الخطية.
ط: رمزنا بها إلى النسخة المطبوعة المعتمدة في التحقيق.
تحق: اختصار لكلمة تحقيق.
مد: مدنية.
مك: مكية.
{} المزهران لحصر الآيات.
*** لحصر رقم الهامش، للتعليق عليه.
" " لحصر الأقوال والأمثال التوضيحية التي ذكرها المؤلف.
[] المركنان لحصر اسم البحر الشعري، والعناوين الفرعية.
/ / لحصر أي زيادة أو نقص في النسخة ط والنسخة س.
() لحصر أكثر من كلمتين زيادة أو نقصًا في النسختين المذكورتين.
[] لحصر زيادة عدة عبارات في النسختين المذكورتين أو نقصها.
وفي الختام أتضرع إلى الله -عز وجل- أن يوفقنا إلى ما فيه خيرنا وصلاحنا في الدنيا والآخرة، وأن يتقبل منا صالح أعمالنا خالصة ابتغاء مرضاته، وأن يمن علينا بدوان الصحة والعافية؛ لنتمكن من مواصلة المشوار على طريق تحقيق كنوز الآباء والأجداد وبعثها على أسس علمية، ومنهجية واضحة في زمن غدت فيه كتب التراث عرضة للتشويه، والتحريف، والتصحيف على أيدي كثيرم من المراهقين الذين يلهثون وراء الشهرة، أو يبتغون لقمة العيش بتكليف من بعض أصحاب دور النشر الذين يستغلون حاجتهم المادية، فيعبثون بهم، كما يعبثون هم بهذا التراث الخالد. فيسارعون إلى إعادة صف النسخ المطبوعة، أو المخطوطة منه صفًّا ممسوخًا مملوءًا بالأغلاط المطبعية، فضلاً عن التصحيف والتحريف اللذين يقعان في نسخهم التي تحمل أسماءهم، وهم يظنون أنهم يحسنون صنعًا؛ همهم القليل من المال الذي يحصلون عليه، ورؤية أسمائهم على أغلفة تلك الكتب التي ستكون شاهدة عليهم لا لهم يوم القيامة. والأمثلة على ما ذكرت أكثر من أن تحصى، ولا رأي لمن لا يطاع، والحمد لله أولاً وآخرًا.

(1/26)


الباب الأول: باب علم ما لاكلم؟
...

(1/29)


بسم الله الرحمن الرحيم
ربِّ يسر وتمم بالخير1
قال الشيخ الفقيه الإمام العالم2 كمال الدين (أبو البركات) 3 عبد الرحمن بن محمد بن أبي سعيد الأنباري النحوي (رحمه الله) 4: الحمد لله كاشف الغطاء، ومانح العطاء، ذي الجود والإيداء5، والإعادة والإبداء، المتوحد بالأحَدِيَّة القديمة المقدسة عن الحين6 والفناء، أهل7 الصفات الأزلية المنزهة عن الزوال والفناء، والصلاة على محمد سيد الأنبياء، وعلى آله، وأصحابه الأصفياء.
وبعد، فقد ذكرت في هذا الكتاب (الموسوم بـ: أسرار العربية) 8، كثيرًا من مذاهب النحويين المتقدمين والمتأخرين، من البصريين والكوفيين، وصححت ما ذهبت إليه منها بما يحصل به شفاء الغليل9، وأوضحت فساد ما عداه بواضح التعليل، ورجعت في ذلك كله إلى الدليل، وأعفيته من الإسهاب والتطويل وسهلته على المتعلم غاية التسهيل، والله تعالى ينفع به، وهو حسبي ونعم الوكيل.
__________
1 في "س" وأَعن.
2 تالفة في "س".
3 ما بين القوسين سقط في "س".
4 تالفة في "س".
5 الإيداء: المعونة.
6 الْحَين: الهلاك.
7 في "س" المتفرّد بالصفات.
8 سقطت من "س".
9 الغليل: شدة العطش؛ والمراد -هنا- ما يجد الإنسان فيه بغيته.

(1/33)


الباب الأول: باب علم: ما الكَلِم؟
إن قال قائل: ما الكَلِم؟ قيل: الكلم اسم جنس؛ واحده1 "كلمة"؛ كقولك: نبقة2 ونبق، وَلَبِنَة وَلَبِن وثَفِنة وثفِن، وما أشبه ذلك. فإن قيل: ما الكلام؟ قيل: ما كان من الحروف دالًّا بتأليفه على معنى يحسن السكوت عليه، فإن قيل: فما الفرق بين الكلم والكلام؟ قيل: الفرق بينهما أن الكَلِم ينطلق على المفيد، وعلى غير المفيد؛ وأما الكلام، فلا ينطلق إلا على المفيد خاصة، فإن قيل: فَلِمَ قلتم: إن أقسام الكلام ثلاثة، لا رابع لها؟ قيل: لأنَّا وجدنا هذه الأقسام /الثلاثة/3 يعبر بها عن جميع ما يخطر بالبال، ويتوهم في الخيال ولو كان ها هنا قسم رابع؛ لبقي في النفس شيء، لا يمكن التعبير عنه، ألا ترى أنه لو سقط أحد4 هذه الأقسام الثلاثة؛ لبقي في النفس شيء، لا يمكن التعبير عنه بإزاء ما سقط؟ فلما عبر بهذه الأقسام عن جميع الأشياء؛ دل على أنه ليس إلا هذه الأقسام الثلاثة.
فإن قيل: لِمَ سمي الاسم اسْمًا؟ قيل: اختلف فيه النحويون، فذهب البصريون إلى أنه سُمِّي اسْمًا لوجهين؛ أحدهما: أنه سما على مسماه، وعلا على ما تحته من معناه؛ فسمي اسمًا /لذلك/5. والوجه الثاني: أن هذه الأقسام الثلاثة، لها ثلاث مراتب؛ فمنها ما يخبر به، ويخبر عنه، وهو الاسم؛ نحو "زيد قائم"، ومنها ما يخبر به، ولا يخبر عنه، وهو الفعل؛ نحو "قام زيد"، ومنها ما لا يخبر به، ولا يخبر عنه، وهو الحرف؛ نحو "هل وبل" وما أشبه ذلك، فلما كان الاسم يخبر به، ويخبر عنه، والفعل يخبر به، ولا يخبر عنه،
__________
1 في "س" واحدته.
2 نبقة: مفرد نبق: وهو دقيق يخرج من لب جذع النخلة، وحمل السدر.
3 سقطت من "س".
4 في "ط" آخر، والصواب ما ذكرنا من "س".
5 سقطت من "س".

(1/35)


والحرف لا يخبر به، ولا يخبر عنه، فقد سما على الفعل والحرف؛ أي ارتفع.
والأصل فيه "سمو" إلا أنهم حذفوا الواو من آخره، وعوضوا الهمزة في أوله، فصار اسما وزنه "افْعٌ"؛ لأنه قد حذف منه لامه التي هي الواو في سمو. وذهب الكوفيون إلى أنه سمي اسمًا؛ لأنه سمة على المسمّى يعرف بها؛ والسمة العلامة؛ والأصل فيه1 "وسم" إلا أنهم حذفوا الواو من أوله، وعوضوا مكانها الهمزة، فصار اسمًا؛ وزنه "اِعْل"؛ قد حذف منه فاؤه التي هي الواو في وسم.
والصحيح ما ذهب إليه البصريون؛ وما ذهب إليه الكوفيون، وإن كان صحيحًا من جهة المعنى، إلا أنه فاسد من جهة التصريف، وذلك من أربعة أوجه:
الوجه الأول: إنك تقول في تصغيره "سُمَيّ"؛ نحو: (حِنْو2 وحُنَيّ، وقِنْو3 وقُنَيّ) ولو كان مأخوذًا من السمة؛ لوجب أن تقول: "وسيم" كما تقول في تصغيره "عدة": وعيدة، وفي تصغير "زنة": وزينة. فلما قيل "سُمَيّ" دل على أنه من السمو، لا من السمة، وكان الأصل فيه: "سُمَين" إلا أنه لما اجتمعت الياء والواو، والسابق منهما ساكن؛ قلبوا الواو ياء، وجعلوها مشددة، كما قالوا: سيّد وهيّن وميّت، والأصل فيه: سَيْوِد وهَيْوِن ومَيْوِت، إلا أنه لما اجتمعت الواو والياء، والسابق منهما ساكن؛ قلبوا الواو ياء، وجعلوهما ياء مشددة، وقلبوا الواو إلى الياء، ولم يقلبوا الياء إلى الواو؛ لأن الياء أخف، والواو أثقل، فلما وجب قلب أحدهما إلى الآخر، كان قلب الواو التي هي أثقل، إلى الياء التي هي أخف أولى.
والوجه الثاني: أنك تقول في تكسيره: "أسماء"؛ نحو: حِنْو وأحناء، وقِنْو وأقْنَاء، ولو كان مأخوذًا من السِّمَة؛ لوجب أن تقول في تكسيره: "أوسام" فلما قيل "أسماء" دل على أنه من السمو لا من السمة، وكان الأصل فيه: "أسماو" إلا أنه لما وقعت الواو طرفًا، وقبلها ألف زائدة؛ قلبت همزة، كما قالوا: حذاء، وكساء، وسماء؛ والأصل فيه: حذاو، وكساو، وسماو، إلا أنه لما وقعت الواو طرفًا، وقبلها ألف زائدة؛ قلبت همزة؛ وقيل: قلبت ألفًا؛ لأنها
__________
1 في "س" فيها.
2 حِنْو: كل ما فيه اعوجاج من البدن، ويجمع على أحناء، وحُنَيّ.
3 القِنْو: العِذق من النخل، وهو كالعنقود من العنب؛ ومثلها: القِناء.

(1/36)


لَمّا كانت متحركة؛ وقبل الألف فتحة لازمة، قدّروا أنها قد تحركت، وانفتح ما قبلها؛ لأن الألف لَمّا كانت خفية زائدة ساكنة؛ والحرف الساكن حاجز غير حصين لم يعتدوا بها، فقلبوا الواو ألفًا، فاجتمع ألفان؛ ألف زائدة، وألف منقلبة، والألفان ساكنان وهما لا يجتمعان، فقلبت المنقلبة همزة؛ لالتقاء الساكنين، وكان قلبها إلى الهمزة أولى؛ لأنها أقرب الحروف إليها.
والوجه الثالث: أنك تقول: أسميته، ولو كان مأخوذًا من السمة؛ لوجب أن تقول: وسمته1؛ فلما قيل: أسميته، دل على أنه من السمو، لا من السمة، وكان الأصل فيه: أسموت، إلا أنه لما وقعت الواو رابعة؛ قلبت ياء، وإنما قلبت ياء حملاً على المضارع؛ نحو: يُدعى، ويغزى، ويشقى؛ والأصل: يدعو، ويغزو، ويشقو، كما قالوا: أدعيت، وأغزيت، وأشقيت؛ والأصل: أدعوت، وأغزوت، وأشقوت، إلا أنه لما وقعت الواو رابعة؛ قلبت ياء، وإنما قلبت في المضارع ياء للكسرة قبلها، فأما: تغازيت وترجّيت، فإنما قلبت الواو فيهما ياء، وإن لم تقلب في لفظ المضارع؛ لأنَّ الأصل في تفاعلت: فاعلت، وفي تفعلت: فعلت، وفاعلت، وفعّلت يجب قلب الواو فيهما ياء وكذلك2 تفاعلت وتفعلت.
والوجه الرابع: أنك تجد في أوله همزة التعويض، وهمزة التعويض إنما تكون في ما حذف منه لامه لا فاؤه، ألا ترى أنهم لما حذفوا الواو التي هي اللام من "بنو" عوضوا الهمزة في أوله، فقالوا: "ابن"، ولما حذفوا الواو التي هي الفاء من "عِدة" ونحو ذلك، لم يعوضوا الهمزة في أوله، فلما عوضوا الهمزة في أوله، دل على أن الأصل فيه: "سمو" كما أن الأصل في ابن: بنو، إلا أنهم لما حذفوا الواو التي هي اللام عوضوا الهمزةفي أوله، فقالوا: اسم، فدل على أنه مشتق من السُّمُوِّ لا من السِّمَة.
ومما يؤيد أنه مشتق من السمو لا من السمة أنه قد جاء في "اسم": سُمَى على وزن "هدى" والأصل فيه: "سُمَوٌ" إلا أنه لما تحركت الواو، وانفتح ما قبلها، قلبوها ألفًا، وحذفوا الألف؛ لسكونها وسكون التنوين، فصار: "سُمًى".
وفي الاسم خمس لغات: "اِسْم"، و"اُسْم"، و"سِمٌ" و"سُم" و"سُمًى".
__________
1 في "س" أو سمته.
2 في "س" وكذلك في.

(1/37)


قال الشاعر 1: [الرجز]
باسم الذي في كل سورة سُمُهْ2
وقال الآخر3: [الرجز]
وعامنا أعجبنا مُقدَّمه ... يدعى أبا السمح وقرضابٌ سُمُهْ4
وقال الآخر 5: [الرجز]
والله أسماك سُمًى مباركًا ... آثركَ الله به إيثارَكَا6
وكسرت الهمزة في "اسم" لَمحًا لكسرة سينه في: "سِمْو"؛ لأنه الأصل، وضمت الهمزة في "اسم" لَمحًا لضمة سينه في "سُمْو"؛ لأنه أصل ثانٍ، والذي يدل على ذلك اللغتان الأخريان وهما "سِمٌ" و"سُمٌ" فإنهما حذفت لامهما، وبقيت فاؤهما على حركتها في الأصلين. ووزن "اسم" بضم الهمزة: اُفْع، ووزن "سِم": فِع، ووزن "سُم": فُع، ووزن "سُمًى": فُعَلٌ.
[تعريف الاسم]
فإن قيل: ما حدّ الاسم؟ قيل: كل لفظة دلت على معنى تحتها غير مقترن بزمان محصل7، وقيل: ما دل على معنى، وكان ذلك المعنى شخصًا، أو غير شخص، وقيل: ما استحق الإعراب أول وضعه. وقد ذكر فيه النحويون حدودًا كثيرة، تنيف على سبعين حدًّا؛ [وأحصرها أن تقول: "كل لفظ دل على معنى مفرد يمكن أن يفهم بنفسه وحده من غير أن يدل ببنيته لا بالعَرَض على الزمان
__________
1 رواه الكسائي عن رجل من بني قضاعة بضم السين، ويروى عن غير قضاعة سِمُه بكسر السين.
2 في "س" سِمُه.
3 لم ينسب إلى قائل معين.
4 القرضاب: اسم للسيف. ويقال: قرضب الرجل: إذا أكل شيئًا يابسًا، وهو قرضاب. راجع لسان العرب: مادة "قرضب".
موطن الشاهد: سمه. وجه الاستشهاد: مجيء "اسم" على صيغة "سُمُ" وهي لغة فيه.
5 نُسب البيت إلى أبي خالد القنائي الأسدي، والظاهر أنه هبان بن خالد الأسدي الملقب بالنواح لحسن مراثيه. راجع المقاصد النحوية: 1/ 154، وإصلاح المنطق: 134، ومعجم الشعراء: 30.
6 موطن الشاهد: "سُمًا". وجه الاستشهاد: مجيء "اسْمًا" على صيغة "سُمًى" وهي لغة فيه.
7 أي: غير مقترن بزمان معبّر عنه في الماضي والحاضر والمستقبل كالفعل.

(1/38)


المحصل الذي فيه ذلك المعنى"] 1. ومنهم من قال: لا حد له؛ ولهذا، لم يحده سيبويه، وإنما اكتفى فيه بالمثال؛ فقال: الاسم: "رجل وفرس".
[علامات الاسم]
فإن قيل: ما علامات الاسم؟ قيل: علامات الاسم كثيرة، فمنها الألف واللام؛ نحو: الرّجل والغلام، ومنها التنوين؛ نحو: رجل وغلام، ومنها حروف الجرِّ، نحو: من زيد إلى عمرو، ومنها التثنية؛ نحو: الزيدان والعمران، ومنها الجمع؛ نحو: الزيدون والعمرون، ومنها النداء؛ نحو: يا زيد، ويا عمرو ومنها الترخيم؛ نحو: يا حار ويا مالِ في ترخيم "حارث ومالك" وقد قرأ بعض السلف: (وَنَادَوا يَا مَالِ لِيَقْضِ عَلَينَا ربُّكَ) 2. ومنها التصغير؛ نحو: زُيَيد وعُمير في تصغير زيد وعمرو، ومنها النسب؛ نحو: زيديّ وعمريّ في النسب إلى زيد وعمرو، ومنها الوصف؛ نحو: زيد العاقل، ومنها أن يكون فاعلاً أو مفعولًا؛ نحو: ضرب زيد عمرًا، ومنها أن يكون مضافًا إليه؛ نحو: غلام زيد، وثوب خز، ومنها أن يكون مخبرًا عنه، كما بيناه؛ فهذه، معظم علامات الأسماء.
فإن قيل: لم سمي الفعل فعلاً؟ قيل: لأنه يدل على الفعل الحقيقيّ، ألا ترى أنك إذا قلت: "ضرب" دل على نفس الضرب الذي هو الفعل في الحقيقة، فلما دلّ عليه سُمِّي به؛ لأنهم يسمون الشيء بالشيء، إذا كان منه بسبب، وهو كثير في كلامهم.
[تعريف الفعل]
فإن قيل: فما حد الفعل؟ قيل: حد الفعل كُلُّ لفظة دلت على معنى تحتها مقترن بزمان محصل3؛ وقيل: ما أسند إلى شيء، ولم يسند إليه شيء، وقد حَدَّه النحويون أيضًا حدودًا كثيرة؛ فإن قيل: ما علامات الفعل؟ قيل: علامات الفعل كثيرة؛ فمنها: قد، والسين؛ نحو: قد قام، وسيقوم،
__________
1 سقط ما بين المركنين من "ط".
2 س: 43 "الزخرف، ن: 77، مك".
موطن الشاهد: "يا مالِ" وجه الاستشهاد: مجيء "مالك" مُرخّمًا في الآية الكريمة؛ ومجيء الأسماء مرخمة في النداء كثير شائع.
3 أي معين بخلاف الاسم، كما بينا.

(1/39)


وسوف يقوم؛ ومنها: تاء الضمير، وألفه وواوه؛ نحو: قمت، وقاما، وقاموا، ومنها تاء التأنيث الساكنة؛ نحو: قامت، وقعدت؛ ومنها أن الخفيفة المصدرية؛ نحو: أريد أن تفعل؛ ومنها إن الخفيفة الشرطية؛ نحو: إن تفعل أفعل؛ ومنها لم؛ نحو: لَمْ يفعل، وما أشبه ذلك؛ ومنها التصرف؛ نحو: فَعَلَ يَفْعَل وكلُّ الأفعال تتصرّف إلا ستة أفعال.
[الأفعال غير المتصرّفة]
وهي: نعم، وبئس، وعسى، وليس، وفعل التعجب، وحبذا؛ وفيها كلها خلاف، ولها كلها أبواب نذكرها1 فيها إن شاء الله تعالى.
[سبب تسمية الحرف]
فإن قيل: لم سُمِّي الحرف حرفًا؟ قيل: لأن الحرف في اللغة هو الطرف؛ ومنه يقال: حرف الجبل؛ أي طرفه؛ فسمي حرفًا؛ لأنه يأتي في طرف الكلام؛ فإن قيل: فما حده؟ قيل: ما جاء لمعنى في غيره، وقد حده النحويون -أيضًا- بحدود كثيرة، لا يليق ذكرها بهذا المختصر؛ فإن قيل: فإلى كم ينقسم الحرف؟ قيل: إلى قسمين؛ مُعْمَل ومُهْمَل.
[انقسام الحروف إلى معملة ومهملة]
فالمعمل: هو الحرف المختص؛ كحرف الجر، وحرف الجزم؛ والمهمل: غير المختص؛ كحرف الاستفهام، وحرف العطف.
[انقسام الحروف إلى ستة أقسام]
ثم الحروف المعملة، والمهملة كلها؛ تنقسم إلى ستة أقسام؛ فمنها: ما يغير اللفظ والمعنى؛ ومنها: ما يغير اللفظ دون المعنى؛ ومنها: ما يغير المعنى دون اللفظ؛ ومنها: ما يغير اللفظ والمعنى، ولا يغير الحكم؛ ومنها ما يغير الحكم، ولا يغير لا لفظًا، ولا معنى؛ ومنها ما لا يغير لا لفظًا، ولا معنى، ولا حكمًا.
فأما ما يغير اللفظ والمعنى؛ فنحو: "ليت" فتقول: ليت زيدًا منطلق؛ فليت قد غيرت اللفظ، وغيرت المعنى، أما تغيير اللفظ؛ فلأنها نصبت الاسم، ورفعت الخبر، وأما تغيير المعنى؛ فلأنها أدخلت في الكلام معنى التمني. وأما
__________
1 في "ط" نذكر ما فيها، والصواب ما أثبتناه من "س".

(1/40)


ما يغير اللفظ دون المعنى، فهو أن تقول: "إن زيدًا قائم" فـ (إنّ) قد غيرت اللفظ؛ لأنها نصبت الاسم، ورفعت الخبر، ولم تغير المعنى؛ لأن معناها التأكيد والتحقيق؛ وتأكيد الشيء لا يغير معناه. وأما ما يغير المعنى دون اللفظ؛ فنحو: "هل زيد قائم"؟ فـ "هل" قد غيرت المعنى؛ لأنها نقلت الكلام من الخبر الذي يحتمل الصدق والكذب، إلى الاستخبار الذي لا يحتمل صدقًا، ولا كذبًا، ولم يغير اللفظ؛ لأن الاسم بعد دخولها مرفوع بالابتداء، كما كان يرتفع به قبل دخولها. وأما ما يغير اللفظ والمعنى، ولا يغير الحكم؛ فنحو 1: اللام في قولهم: "لا يدي لزيد" فاللام -ههنا- غيرت اللفظ؛ لجرها الاسم، وغيرت المعنى؛ لإدخال معنى الاختصاص، ولم تُغيَّر الحكم؛ لأن الحكم حذف النون للإضافة، وقد بقي الحذف بعد دخولها -كما كان قبل دخولها- فلم تغير الحكم، وأما ما يغير الحكم، ولا يغير (لا) 2 لفظًا، ولا معنى؛ فنحو اللام في قوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} 3. فاللام -هنا- ما غيَّرت لا لفظًا، ولا معنى، ولكن غيرت الحكم؛ لأنها علقت الفعل عن العمل؛ وأما ما لا يغيِّر لا لفظًا، ولا معنى، ولا حكمًا؛ فنحو "ما" في قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُم} 4. فـ "ما" ههنا ما غيَّرت لا لفظًا، ولا معنى، ولا حكمًا؛ لأن التقدير: فبرحمة من الله لنت لهم.
[اختلافهم في اسميّة كيف]
فإن قيل: "كيف" اسم أو فعل أو حرف؟ قيل: اسم؛ والدليل على ذلك من وجهين؛ أحدهما: أنه قد جاء عن بعض العرب أنه قال: "على كيف تبيع الأحمرين"5؟ ودخول حرف الجر إنما جاء شاذًّا؛ والوجه الصحيح هو الوجه
__________
1 في "ط" نحو، والصواب ما ذكرنا من "س".
2 سقطت من "س".
3 س: 63 "المنافقون: 1، مد".
موطن الشاهد: "لرسوله". وجه الاستشهاد: مجيء اللام في الآية الكريمة مغيرة للحكم، ولكنها لم تغير اللفظ، أو المعنى.
4 س: 3 "آل عمران، ن: 159، مد".
موطن الشاهد: "فبما" وجه الاستشهاد: مجيء ما زائدة، لم تغير شيئًا يذكر كما جاء في المتن.
5 موطن الشاهد: "على كيف" وجه الاستشهاد: مجيء كيف اسْمًا؛ لدخول حرف الجرّ عليها؛ غير أنّ هذا دليل ضعيف؛ لأن دخول "على" على كيف شاذّ، يحفظ، ولا يقاس عليه. والأحمران: اللحم والخمر.

(1/41)


الثاني، وهو أنا نقول: لا تخلو كيف من أن تكون اسْمًا، أو فعلاً، أو حرفًا؛ فبطل أن يقال هي حرف؛ لأن الحرف لا يفيد مع كلمة واحدة، و"كيف" تفيد مع كلمة واحدة، ألا ترى أنك تقول: كيف زيد؟ فيكون كلامًا مفيدًا؛ فإن قيل: فقد أفاد الحرف الواحد مع كلمة واحدة في النداء؛ نحو: يا زيد، قيل: إنما حصلت الفائدة في النداء مع كلمة واحدة؛ لأن التقدير في قولك يا زيد: أدعو زيدًا، وأنادي زيدًا؛ فحصلت الفائدة باعتبار الجملة المقدرة، لا باعتبار الحرف مع كلمة واحدة، فبطل أن يكون حرفًا، وبطل -أيضًا- أن يكون فعلاً؛ لأنه لا يخلو إما أن يكون فعلاً ماضيًا، أو مضارعًا، أو أمرًا؛ فبطل أن يكون فعلاً ماضيًا؛ لأن أَمثلة الفعل الماضي لا تخلو إما أن تكون على مثال فَعَلَ كـ: "ضَرَبَ"، أو على فَعُلَ كـ "مكث" أو على فَعِلَ كـ "سَمِعَ" و"عَلِمَ" وكيف على وزن فَعْلَ؛ فبطل أن يكون فعلاً ماضيًا؛ وبطل أن يكون فعلاً مضارعًا؛ لأن الفعل المضارع ما كانت في أوله إحدى الزوائد الأربع؛ وهي الهمزة، والنون، والتاء، والياء، و"كيف" ليس في أوّله إحدى الزوائد الأربع؛ فبطل أن يكون فعلاً مضارعًا، وبطل أن يكون أمرًا؛ لأنه يفيد الاستفهام؛ وفعل الأمر لا يفيد الاستفهام؛ فبطل أن يكون أمرًا. وإذا بطل أن يكون فعلاً ماضيًا، أو مضارعًا، أو أمرًا؛ بطل أن يكون فعلاً؛ والذي يدل -أيضًا- على أنه ليس بفعل أنه يدخل على الفعل في نحو قولك: كيف تفعل كذا؟ ولو كان فعلاً لما دخل على الفعل؛ لأن الفعل، لا يدخل على الفعل. وإذا بطل أن يكون فعلاً، أو حرفًا؛ وجب أن يكون اسْمًا، فإن قيل: فعلامة الاسم لا تحسن فيه، كما لا يحسن فيه علامة الفعل والحرف، فلم جعلتموه اسْمًا، ولم تجعلوه فعلاً، أو حرفًا؟ قيل: لأنَّ الاسم هو الأصل، والفعل والحرف فرع، فلما وجب حمله على أحد هذه الأقسام الثلاثة؛ كان حمله على الاسم -الذي هو الأصل- أولى من حمله على ما هو فرع.
فإن قيل: فَلِمَ قُدِّم الاسم على الفعل، والفعل على الحرف؟ قيل: إنما قدم الاسم على الفعل؛ لأنّه الأصل، ويستغني بنفسه عن الفعل؛ نحو قولك: زيد قائم، وأُخِّر الفعل عن الاسم؛ لأنه فرع عليه، لا يستغني عنه، فلما كان الاسم، هو الأصل، ويستغني عن الفعل، والفعل فرع عليه، ومفتقر إليه؛ كان

(1/42)


الاسم مقدّمًا عليه، وإنما قُدّم الفعل على الحرف؛ لأن الفعل يفيد مع الاسم؛ نحو: قام زيد، وأُخّر الحرف عن الفعل؛ لأنه لا يفيد مع اسم واحد؛ لأنك لو قلت: يزيد، أو لزيد من غير أن تُعَلِّق الحرف بشيء، لم يكن مفيدًا؛ فلما كان الفعل يفيد مع اسم واحد، والحرف لا يفيد مع اسم؛ كان الفعل مُقَدَّمًا عليه، فاعرفه /تُصِب/1 إن شاء الله تعالى.
__________
1 سقطت من "س".

(1/43)


الباب الثاني: باب الإعراب والبناء
[لِمَ سُمِّيَ الإعراب إعرابًا]
إن قال قائل: لِمَ سُمِّي الإعراب إعرابًا، والبناء بناء؟ قيل: أما الإعراب ففيه ثلاثة أوجه؛
أحدها: أن يكون سُمِّي بذلك؛ لأنه يبين المعاني، مأخوذ من قولهم: أعرب الرجل عن حجته، إذا بينها؛ ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "الثَّيب تُعرب عن نفسها"؛1 أي تبين وتوضح، قال الشاعر2: [الطويل]
وجدنا لكم في آل حاميم آية ... تأولها منا تقيّ ومعرب
فلما كان الإعراب يبين المعاني، سُمِّي إِعرابًا.
والوجه الثاني: أن يكون سُمّي إعرابًا؛ لأنه تغير يلحق أواخر الكلم، من قولهم: "عربت معدة الفصيل" إذا تغيَّرت؛ فإن قيل: "العَرَبُ" في قولهم: عربت معدة الفصيل؛ معناه: الفساد؛ وكيف يكون الإعراب مأخوذًا منه؟ قيل: معنى قولك: أعربت الكلام؛ أي: أزلت عَرَبه، وهو فساده، وصار هذا؛ كقولك: أعجمت الكتاب، إذا أزلت عجمته، وأشكيت الرجل، إذا أزلت شكايته، وعلى هذا، حمل بعض المفسرين قوله تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} 3؛ أي: أزيل خفاءها؛ وهذه الهمزة تسمّى: همزة السَّلب. والوجه
__________
1 حديث: أخرجه أحمد وابن ماجه، ورواه مسلم والنسائي بلفظ: "الثيب أحق بنفسها من وليها". الجامع الصغير، للسيوطي، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد "ط. أولى. القاهرة: مك مصطفى محمد، 1352هـ"؛ مج1، ص 487.
2 الشاعر هو: أبو المستهل، الكميت بن زيد الأسدي، شاعر مقدم عالم بلغات العرب وأخبارها، وخطيب فارس. وكان متعصبًا لمضر ولأهل الكوفة ولآل البيت؛ من مختارات شعره الهاشميات. مات سنة 126هـ. الشعر والشعراء 2/ 581. ومعنى البيت واضح، لا لبس فيه.
3 س: 20 "طه، ن: 15، مك".

(1/44)


الثالث: أن يكون سُمِّي إعرابًا؛ لأن المعرب للكلام كأنه يتحبب إلى السامع بإعرابه؛ من قولهم: امرأة عروب، إذا كانت متحببة إلى زوجها، قال الله تعالى: {عُرُبًا أَتْرَابًا} 1؛ أي: متحببات إلى أزواجهن، فلما كان المعرب للكلام، كأنه يتحبب إلى السامع بإعرابه؛ سُمِّي إعرابًا.
[لِمَ سُمِّي البناء بناء]
وأما البناء: فهو منقول من هذا البناء المعروف، للزومه وثبوته.
[تعريف الإعراب]
فإن قيل: فما حَدّ الإعراب والبناء؟ قيل:
أمّا الإعراب، فحده اختلاف أواخر الكلم باختلاف العوامل لفظًا، أو تقديرًا.
وأما البناء: فحده لزوم أواخر الكلم بحركة وسكون.
[ألقاب الإعراب والبناء]
فإن قيل: كم ألقاب الإعراب والبناء؟ قيل: ثمانية /ألقاب/2؛ فأربعة للإعراب وأربعة للبناء.
[ألقاب الإعراب والبناء]
فألقاب3 الإعراب: رفع، ونصب، وجر، وجزم، وألقاب البناء: ضم، وفتح، وكسر، ووقف، وهي وإن كانت ثمانية في المعنى؛ فهي أربعة في الصورة؛ فإن قيل: فلم كانت أربعة؟ قيل: لأنه ليس إلا حركة، أو سكون فالحركة ثلاثة أنواع: الضم، والفتح، والكسر.
[مخارج الحركات]
فالضم من الشفتين والفتح من أقصى الحلق، والجر من وسط الفم، والسكون هو الرّابع.
[أصل الحركات وخلافهم في ذلك]
فإن قيل: هل حركات الإعراب أصل لحركات البناء، أو حركات البناء
__________
1 س: 56 "الواقعة: 37، مك".
2 سقطت من "ط".
3 في "ط" وألقاب.

(1/45)


أصل لحركات الإعراب؟ قيل: اختلف النحويون في ذلك؟ فذهب بعض النحويين إلى أن حركات الإعراب هي الأصل، وأن حركات البناء فرع عليها؛ لأن الأصل في حركات الإعراب أن تكون للأسماء، وهي الأصل؛ فكانت أصلاً؛ والأصل في حركات البناء أن تكون للأفعال، والحروف، وهي الفرع؛ فكانت فرعًا. وذهب آخرون إلى أن حركات البناء هي الأصل، /وأن/1 حركات الإعراب فرع عليها؛ لأن حركات البناء لا تزول ولا تتغير عن حالها، وحركات الإعراب تزول وتتغير، وما لا يتغير أولى بأن يكون أصلاً مما يتغير.
[هل الإعراب والبناء الحركات أو غيرها؟]
فإن قيل: هل الإعراب والبناء عبارة عن هذه الحركات، أو عن غيرها؟ قيل: الإعراب والبناء ليسا عبارة عن هذه الحركات، وإنما هما معنيان يعرفان بالقلب، ليس للفظ فيهما حظ، ألا ترى أنك تقول في حدّ الإعراب: هو اختلاف أواخر الكلم باختلاف العوامل، وفي حدّ البناء: لزوم أواخر الكلم بحركة أو سكون؟ ولا خلاف أن الاختلاف واللزوم ليسا بلفظين، وإنما هما معنيان يعرفان بالقلب، ليس للفظ فيهما حظ، والذي يدل على ذلك، أن هذه الحركات، إذا وجدت بغير صفة الاختلاف، لم تكن للإعراب، وإذا وجدت بغير صفة اللزوم، لم تكن للبناء؛ فدل على أن الإعراب: هو الاختلاف، والبناء: هو اللزوم، والذي يدل على صحة هذا إضافة هذه الحركات إلى الإعراب والبناء؛ فيقال: حركات الإعراب، وحركات البناء، ولو كانت الحركات أنفسها هي الإعراب، أو البناء؛ لما جاز أن تضاف2 إليه؛ لأن إضافة الشيء إلى نفسه، لا تجوز، ألا ترى أنك لو قلت: حركات الحركات لم يجز؟ غيرها3؛ فاعرفه تُصِب، إن شاء الله تعالى.
__________
1 سقطت من "ط".
2 في "ط" يضاف إليه، والصواب ما ذكرنا.
3 في "ط" أنهما غيرهما، والصواب ما ذكرنا؛ لأن ضميرهما يعود إلى الإعراب والبناء، وضمير "ها" يعود إلى الحركات. وفي "س" أنها غيرها.

(1/46)


الباب الثالث: باب المعرب والمبني
إن قال قائل: ما المعرب والمبني؟ قيل: أما المعرب، فهو ما تغير آخره بتغير العامل فيه لظفًا، أو محلّلاً؛ وهو على ضربين؛ اسم متمكن، وفعل مضارع؛ فالاسم المتمكن: ما لم يشابه الحرف، ولم يتضمن معناه، والفعل المضارع: ما كانت في أوله إحدى الزوائد الأربع، وهي: الهمزة، والنون، والتاء، والياء. فإن قيل: لِمَ زيدت هذه الحروف دون غيرها؟ قيل: الأصل أن تزاد حروف المد واللين، وهي الواو والياء والألف، إلا أن الألف لما لم يمكن زيادتها أولاً؛ لأن الألف لا تكون إلا ساكنة؛ والابتداء بالساكن محال، أبدلوا منها الهمزة؛ لقرب مخرجيهما؛ لأنهما هوائيان يخرجان من أقصى الحلق، وكذلك الواو -أيضًا- لما لم يمكن زيادتها أولاً؛ لأنه ليس في كلام العرب واو؛ زيدت أولاً، فأبدلوا منها التاء؛ لأنها تبدل منها كثيرًا، ألا ترى أنهم قالوا: تراث، وتجاه، وتخمة، وتهمة، وتيقور1، وتولج؛ قال الشاعر2: [الرجز]
متخذًا في ضَعَواتٍ تولجا ... [أردى بني مجاشع وما نجا] 3
وهو بيت الصائد، والأصل: وارث، ووجاه، ووخمة، ووهمة، وويقور؛ لأنه من الوقار، وولج؛ لأنه من الولوج؛ فأبدلوا التاء من الواو في هذه المواضع كلها، وكذلك ههنا. وأما الياء، فزيدت؛ لأنها لم يعرض فيها ما
__________
1 تيقور: "فيعول" الوقار؛ والتاء فيه مبدلة من الواو.
2 الشاعر: هو جرير بن عطية الخطفيّ، ثالث أشهر شعراء العصر الأموي، مع الفرزدق والأخطل، وكان أشدهما هجاء، وأكثر منهما عفة؛ له ديوان شعر مطبوع. مات سنة 110هـ.
3 البيت من قصيدة يهجو فيها البعيث المجاشعي.
المفردات الغريبة: ضعوات: جمع ضعة، وهي شجرة من شجر البادية. والتولج: في شرح ديوان جرير: التولج والدولج: ما انكرس فيه؛ أي: دخل. شرح ديوان جرير. موطن الشاهد: "تولج" وجه الاستشهاد: إبدال التاء من الواو في تولج؛ لأن تولج: ولج؛ لأنها من الولوج، أي: الدخول.

(1/47)


يمنع /من/1 زيادتها، كما عرض في الألف والواو، وأما النون فإنما زيدت؛ لأنها تشبه حروف المد واللين، وتزاد معها في باب: الزَّيدَين، /والزَّيدِين/2.
[ترتيب أحرف الزيادة]
والتحقيق في ترتيب هذه الأحرف أن تقدم الهمزة، ثم النون، ثم التاء، ثم الياء، وذلك؛ لأن الهمزة للمتكلم وحده، والنون للمتكلم، ولمن معه، والتاء للمخاطب، والياء للغائب، والأصل: أن يخبر الإنسان عن نفسه، ثم عن نفسه، وعمن معه، ثم المخاطب، ثم الغائب؛ فهذا هو التحقيق في ترتيب هذه الاحرف في أول الفعل المضارع.
[الفعل محمول على الاسم في الإعراب]
فإن قيل: هل الفعل المضارع محمول على الاسم في الإعراب أم هو أصل؟ قيل: لا بل هو محمول على الاسم في الإعراب، وليس بأصل فيه؛ لأن الأصل في الإعراب أن يكون للأسماء دون الأفعال والحروف، وذلك؛ لأن الأسماء تتضمن معاني مختلفة؛ نحو: الفاعلية، والمفعولية، والإضافة، فلو لم تعرب؛ لالتبست هذه المعاني بعضها بعض، يدلك على ذلك أنك لو قلت: ما أحسنَ زيدًا! لكنت متعجبًا، ولو قلت: ما أحسنَ زيدٌ؛ لكنت نافيًا، ولو قلت: ما أحسنُ زيدٍ؟ لكنت مستفهمًا (عن أي شيء منه حسن) 3، فلو لم تعرب في هذه المواضع؛ لالتبس التعجب بالنفي، والنفي بالاستفهام، واشتبهت هذه المعاني بعضها ببعض؛ وإزالة الالتباس واجب. وأما الأفعال والحروف: فإنها تدل على ما وضعت له بصيغها؛ فعدم الإعراب، لا يخل بمعانيها، ولا يورث لبسًا فيها، والإعراب زيادة، والحكيم لا يريد زيادة4 لغير فائدة.
[حمل المضارع على الاسم لمشابهته له]
فإن قيل: فإذا كان الأصل في الفعل المضارع أن يكون مبنيًّا، فَلِمَ حمل على الاسم في الإعراب؟ قيل: إنما حمل الفعل المضارع على الاسم في الإعراب؛ لأنه ضارع الاسم؛ ولهذا، سُمِّي مضارعًا؛ والمضارعة: المشابهة، ومنها سُمِّي الضّرع ضرعًا؛ لأنه يشابه أخاه.
__________
1 سقطت من "ط".
2 سقطت من "س".
3 سقطت من "س".
4 في "س" لا يزيد شيئًا؛ وكلاهما جائز.

(1/48)


[أوجه المشابهة بين الفعل المضارع والاسم]
ووجه المشابهة بين هذا الفعل والاسم من خمسة أوجه:
الوجه الأوّل: أنه يكون شائعًا فيتخصص1، كما أن الاسم /يكون/2 شائعًا، فيتخصص؛ ألا ترى أنك تقول: "يقوم" فيصلح للحال والاستقبال، فإذا أدخلت عليه السين، أو سوف، اختص بالاستقبال، كما أنك تقول: "رجل" فيصلح لجميع الرجال، فإذا أدخلت عليه الألف واللام اختص برجل بعينه؟ فلما اختص هذا الفعل بعد شياعه، كما أن الاسم اختص بعد شياعه؛ فقد شابهه من هذا الوجه.
الوجه الثاني: أنه تدخل3 عليه لام الابتداء، كما تدخل3 على الاسم، ألا ترى أنك تقول: إنّ زيدًا ليقوم كما تقول: إنّ زيدًا لقائم؟ ولام الابتداء تختص بالأسماء، فلما دخلت على هذا الفعل، دل على مشابهة بينهما؛ والذي يدل على ذلك أن فعل الأمر، والفعل الماضي لَمّا بَعُدَا عن شبه الاسم، لم تدخل هذه اللام عليهما4؛ ألا ترى أنك لو قلت: لأَكرِمْ زيدًا يا عمرو، أو إنّ زيدًا لقام؛ لكان /ذلك/5 خُلفًا من الكلام.
والوجه الثالث: أن هذا الفعل يشترك فيه الحال والاستقبال، فأشبه الأسماء المشتركة؛ كالعين تنطلق على العين الباصرة، وعلى عين الماء، وعلى غير ذلك.
والوجه الرابع: أن يكون صفة، كما يكون الاسم، كذلك؛ تقول: مررت برجل يضرب؛ كما تقول: مررت برجل ضارب؛ فقد قام يضرب مقام ضارب.
والوجه الخامس: /هو/6 أن الفعل المضارع يجري على اسم الفاعل في حركاته وسكونه، ألا ترى أنَّ "يضرب" على وزن "ضارب" في حركاته وسكونه؛ ولهذا يعمل اسم7 الفاعل عمل الفعل؛ فلما أشبه الفعل المضارع الاسم من هذه الأوجه؛ استحق جملة الإعراب الذي هو الرفع، والنصب، والجزم؛ ولكل واحد من هذه الأنواع عامل يختصّ به.
__________
1 في "س" فيختص.
2 سقطت من "س".
3 في "ط" يدخل، والصواب ما ذكرناه نقلاً عن نسخة مرموز لها بـ "ق" في حاشية النسخة المطبوعة.
4 في "س" عليها، وما أثبت هو الصواب.
5 سقطت من "ط".
6 سقطت من "س".
7 في "ط" الاسم الفاعل.

(1/49)


[عامل الرفع واختلاف النحاة فيه]
وأما عامل الرفع، فاختلف فيه النحويون؛ فذهب البصريون إلى أنه يرتفع لقيامه مقام الاسم؛ هو عامل معنوي لا لفظيّ، فأشبه الابتداء، فكما أن الابتداء يوجب الرفع، فكذلك ما أشبهه. فإن قيل: هذا ينقض بالفعل الماضي، فإنه يقوم مقام الاسم، ولا يرتفع؛ قيل: إنما لم يرتفع؛ لأنه لم يثبت له استحقاق جملة الإعراب، فلم يكن هذا العامل موجبًا له الرفع؛ لأنه نوع منه؛ بخلاف الفعل المضارع؛ فإنه يستحق جملة الإعراب للمشابهة التي ذكرناها قبل، فبان الفرق بينهما. وأما الكوفيون1 فذهبوا إلى أنه يرتفع بالزوائد التي في أوله؛ وهو قول الكسائي2، وذهب الفراء3 إلى أنه يرتفع لسلامته من العوامل الناصبة والجازمة؛ فأما قول الكسائي فظاهر الفساد؛ لأنه لو كان الزائد /في أوله/4 هو الموجب للرفع؛ لوجب ألا يجوز نصب الفعل، ولا جزمه مع وجوده؛ لأن عامل النصب والجزم، لا يدخل على عامل الرفع، فلما وجب نصبه بدخول النواصب، وجزمه بدخول الجوازم؛ دل على أن الزائد ليس هو العامل. وأما قول الفراء، فلا ينفك من ضعف، وذلك؛ لأنه يؤدي إلى أن يكون النصب والجزم قبل الرفع؛ لأنه قال: لسلامته من العوامل الناصبة والجازمة؛ والرفع قبل النصب والجزم؛ فلهذا كان هذا القول ضعيفًا. وأما عوامل النصب؛ فنحو: أن، ولن، وكي، وإذن، وحتى. وأما عوامل الجزم؛ فنحو؛ لم، ولما، ولام الأمر، ولا في
__________
1 ذهب الفراء وأكثر الكوفيين إلى أن الرافع للفعل هو تجرده من الناصب والجازم، وقد أخذ بهذا الرأي ابن هشام الأنصاري من المتأخرين. وأما البصريون فقالوا: يرتفع لوقوعه موقع الاسم؛ وما ذهب إليه الفراء والكوفيون ومن تابعهم من المتأخرين هو الصواب.
2 الكسائي: هو علي بن حمزة الأسدي الكوفي؛ مولده بالكوفة، وسكنه ببغداد، ووفاته بالرّيّ، وهو مؤدب الرشيد، وابنه الأمين. وهو أحد القرّاء السبعة، وأحد أشهر أئمة اللغة والنحو. مات سنة 189هـ البلغة في تاريخ أئمة اللغة 156- 157.
3 الفراء: هو يحيى بن زياد الأسلمي الديلمي، المعروف بالفرّاء، إمام نحاة الكوفة وأعلمهم في اللغة، وفنون الأدب. قال فيه ثعلب: "لولا الفراء ما كانت اللغة". مات سنة 207هـ. بغية الوعاة 2/ 333.
4 سقطت من "ط".

(1/50)


النهي؛ ولعوامل النصب والجزم موضع، نذكرها فيه إن شاء الله تعالى.
[تعريف المبني وأقسامه]
وأما المبني فهو ضد المعرب، وهو ما لم يتغير آخره بتغير العامل فيه؛ فمن ذلك: الاسم غير المتمكن، والفعل غير المضارع1؛ فأما الاسم غير المتمكن؛ فنحو: مَنْ، وكم، وقبل، وبعد، وأين، وكيف وأمسِ، وهؤلاء.
[الأسماء غير المتمكنة وعِلّة بنائها]
وإنما بنيت هذه الأسماء؛ لأنها أشبهت الحروف، وتضمنت معناها؛ فأما: "من" فإنها بنيت؛ لأنها لا تخلو: إما أن تكون استفهاميّة، أو شرطية، أو اسْمًا موصولاً، أو نكرة موصوفة، فإن كانت استفهامية فقد تضمنت معنى حرف الاستفهام، وإن كانت شرطية، فقد تضمنت معنى حرف الشرط، وإن كانت اسْمًا موصولاً، فقد تنَزّلت منزلة بعض الكلمة، وبعض الكلمة مبني، وإن كانت نكرة موصوفة، فقد تنزلت منزلة الموصوفة2. وأما "كم" فإنما بنيت؛ لأنها لا تخلو: إما أن تكون استفهامية، أو خبرية، فإن كانت استفهامية، فقد تضمنت معنى حرف الاستفهام، وإن كانت خبرية، فهي نقيضة "رب"؛ لأن "رب" للتقليل، و"كم" للتكثير، وهم يحملون الشيء على ضده كما يحملونه على نظيره. وأما "مَنْ" و"كم" فبنيت على السكون؛ لأنه الأصل في البناء، ولم يعرض فيهما ما يوجب بناءهما على حركة؛ فبقيا على الأصل. وأما: قَبْلُ وبَعْدُ فإنما بنيا؛ لأن الأصل فيهما أن يستعملا مضافين إلى ما بعدهما، فلما اقتطعا عن الإضافة -والمضاف مع المضاف إليه بمنزلة كلمة واحدة- تنزلا منزلة بعض الكلمة، وبعض الكلمة مبني؛ قال الله تعالى: {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذ} 3، وإنما بنيا على حركة؛ لأن كلّ واحد منهما كان له حالة إعراب قبل البناء؛ فوجب أن يُبْنَيَا على حركة تَمَيُّزًا لهما على ما بني، وليس له حالة إعراب؛ نحو: "من" و"كم"، وقيل: إنما بنيا على حركة؛ لالتقاء الساكنين؛ والقول الصحيح هو الأول. فإن قيل: فلم كانت الحركة ضمة؟ قيل: لوجهين؛ أحدهما: أنه لما حُذِفَ المضاف إليه بنيا على أقوى الحركات؛ وهي الضم4،
__________
1 في "س" والفعل المضارع، وهو سهو.
2 في "س" الموصولة.
3 س: 30 "الروم، ن: 4، مك".
4 في "س" وهو الضمة، وفي إحدى النسخ: وهو الضم -وهو الصواب- لأن حُذّاق النحاة يسمّون الضم والفتح عندما تكونان علامة بناء، والضمة والفتحة عندما تكونان علامة رفع ونصب؛ أي حين تكون الضمة علامة رفع، والفتحة علامة نصب.

(1/51)


تعويضًا عن المحذوف، وتقوية لهما؛ والوجه الثاني: إنما بنوهما على الضم؛ لأن النصب والجر يدخلهما؛ نحو: جئت قبلك ومن قبلك، وأما الرفع لا يدخلهما البتَّة؛ فلو بنوهما على الفتح والكسر؛ لالتبست حركة الإعراب بحركة البناء، فبنوهما على حركة، لا تدخلهما وهي الضمة؛ لئلا تلتبس حركة الإعراب بحركة البناء. وأما أين وكيف فإنما بنيا على الفتح؛ لأنهما تضمنا معنى حرف الاستفهام؛ لأن "أين" سؤال عن المكان، و"كيف" سؤال عن الحال، فلما تضمنا معنى حرف الاستفهام، وجب أن يبنيا، وإنما بنيا على حركة لالتقاء الساكنين، وإنما كانت الحركة فتحة؛ لأنها أخف الحركات. وأما "أمس" فإنما بنيت؛ لأنها تضمنت معنى لام التعريف؛ لأن الأصل في "أمس" الأمس، فلما تضمنت معنى اللام، تضمنت معنى الحرف؛ فوجب أن تبنى. وإنما بنيت على حركة لالتقاء الساكنين، وإنما كانت الحركة كسرة، لأنها الأصل في التحريك لالتقاء الساكنين. ومن العرب من يجعل "أمس" معدولة عن لام التعريف، فيجعلها غير مصروفة1؛ قال الشاعر2: [الرجز]
لقد رأيت عجبًا مُذْ أَمْسا ... عجائزًا مثل السعالي قُعْسَا
يأكُلْن ما في رَحْلِهِنَّ هَمْسَا ... لا تَرَكَ الله لَهُنَّ ضِرْسا3
وأما "هؤلاء" فإنما بنيت لتضمنها معنى حرف الإشارة وإن لم ينطق به؛ لأن الأصل في الإشارة أن تكون بالحرف كالشرط، والنفي، التمني، والعطف، إلى غير ذلك من المعاني، إلا أنهم لما لم يفعلوا ذلك؛ ضمنوا "هؤلاء" معنى حرف الإشارة، فبنوها، ونظير "هؤلاء" "ما" التي في التعجب، فإنها بنيت. لتضمنها معنى حرف التعجب، وإن لم يكن له4 حرف ينطق به؛ لأن الأصل في التعجب أن يكون بالحرف كغيره من المعاني، إلا أنهم لما لم يفعلوا ذلك،
__________
1 أي علامة الرفع فيها الضمة، وعلامة النصب والجر الفتحة.
2 لم ينسب هذان البيتان إلى شاعرٍ معيَّن.
3 السَّعالي: جمع سِعلاة؛ وهي الغول، أو ساحرة الجنِّ كما يزعمون. ورُوي: "خمسا" بدل "قعسا" في بعض الكتب النحوية.
موطن الشاهد: "أمسا" وجه الاستشهاد: مجيء "أمس" غير منصرفة، فكانت علامة الجر فيها الفتحة بدل الكسرة، والألف للإطلاق.
4 في "ط" لها، وما أثبتناه من "س" وهو الصَّواب.

(1/52)


الباب الرابع: باب إعراب الاسم المفرد
[الاسم المفرد على ضربين]
إن قال قائل: على كم ضربًا الاسم المفرد؟ قيل: على ضربين؛ صحيح، ومعتل؛ فالصحيح في عرف النحويين: ما لم يكن آخره ألفًا، ولا ياء قبلها كسرة؛ نحو: رجل، وفرس، وما أشبه ذلك؛ وهو على ضربين: منصرف. وغير منصرف.
[علامات الاسم المنصرف]
فالمنصرف: ما دخله الحركات الثلاث مع التنوين؛ نحو: هذا زيدٌ، ورأيت زيدًا، ومررت بزيدٍ؛ وهذا الضرب يسمى "الأمكن" وقد يسمى أيضًا "متمكنا".
[التنوين علامة الصرف]
فإن قيل: لِمَ جعلوا التنوين علامة للصرف دون غيره؟ قيل: لأنّ أولى ما يزاد حروف المد واللين؛ وهي الألف، والياء، والواو، إلا أنهم عدلوا عن زيادتها (إلى التنوين، لما يلزم من اعتلالها وانتقالها) 1، ألا ترى أنهم لو جعلوا الواو علامة للصرف؛ لانقلبت ياء في الجر؛ لانكسار ما قبلها؟ وكذلك، حكم الياء والألف في الاعتلال، والانتقال من حال إلى حال؛ وكان التنوين أولى من غيره؛ لأنه خفيف يضارع حروف العلة، ألا ترى أنه غنة في الخيشوم، وأنه لا معتمد له في الحلق، فأشبه الألف إذا كان حرفًا هوائِيًّا.
[خلافهم في أسباب دخول التنوين في الكلام]
فإن قيل: فلماذا دخل التنوين الكلام؟ قيل: اختلف النحويون في ذلك؛ فذهب سيبويه إلى أنه دخل الكلام علامة للأخف عليهم، والأمكن عندهم،
__________
1 سقطت من "ط" والزيادة من "س".

(1/54)


وذهب بعضهم إلى أنه دخل فرقًا بين الاسم والفعل، وذهب آخرون إلى أنه دخل فرقًا بين ما ينصرف وما لا ينصرف.
[علامات غير المنصرف]
وأما غير المنصرف: فما لم يدخله الجر مع التنوين، وكان ثانيًا من وجهين؛ نحو: مررت بأحمد وإبراهيم، وما أشبه ذلك. وإنما منع هذا الضرب من الأسماء الصرف؛ لأنه يشبه الفعل، فمنع من التنوين، ومن الجر تبعًا للتنوين لما بينهما من المصاحبة، وذهب بعضهم إلى أنه منع الجر؛ لأنه أشبه الفعل؛ والفعل لا يدخله جر، ولا تنوين، فكذلك ما أشبهه، وهذا الضرب سُمِّي "المتمكن" ولا يسمى "أمكن" وكل أمكن متمكن، وليس كل متمكن أمكن.
[دخول الجر على المعرّف]
فإن قيل: فلم يدخل الجر مع الألف واللام، أو الإضافة؟ قيل: للأمن من دخول التنوين مع الألف واللام والإضافة، وسترى هذا في موضعه إن شاء الله تعالى.
[تعريف الاسم المعتل]
والمعتل: ما كان آخره ألفًا، أو ياء قبلها كسرة.
[الاسم المعتل على ضربين]
وهو على ضربين؛ منقوص، ومقصور؛ فالمنقوص: ما كانت في آخره ياء خفيفة قبلها كسرة؛ وذلك نحو: القاضي، والداعي؛ فإن قيل: فلم سُمّي منقوصًا؟ قيل: لأنه نقص الرفع والجر؛ تقول: هذا قاضٍ يا فتى، ومررت بقاضٍ؛ والأصل: هذا قاضي، ومررت بقاضي، إلا استثقلوا الضمة والكسرة على الياء، فحذفوهما؛ فبقيت الياء ساكنة، والتنوين ساكنًا، فحذفوا الياء لالتقاء الساكنين، وكان حذف الياء أولى من حذف التنوين لوجهين؛
أحدهما: أن الياء إذا حذفت بقي في اللفظ ما يدل عليها، وهي الكسرة، بخلاف التنوين، فإنه لو حذف، لَمْ يبقَ في اللفظ ما يدل على حذفه، فلما وجب حذف أحدهما؛ كان حذف ما في اللفظ دلالة على حذفه أولى.
والثاني: أن التنوين دخل لمعنى وهو الصرف، وأما الياء، فليست كذلك، فلما وجب حذف أحدهما؛ كان حذف ما لم يدخل لمعنى أولى من حذف ما دخل لمعنى. وأما إذا كان منصوبًا، فهو بمنزلة الصحيح؛ لخفة الفتحة؛ فإن قيل: الحركات كلها تستثقل على حرف العلة؛ بدليل قولهم:

(1/55)


باب وناب، والأصل فيهما: بَوَب، ونَيَب، إلا أَنَّهم استثقلوا الفتحة على الواو والياء؛ فقلبوا كلّ واحدة منهما ألفًا؛ قيل: الفتحة في هذا النحو1 لازمة، ليست بعارضة، بخلاف الفتحة التي على ياء "قاض" فإنها عارضة وليست بلازمة؛ فلهذا المعنى، استثقلوا الفتحة /في/2 نحو: باب وناب ولم يستثقلوها في نحو: قاضٍ.
[الوقف على الاسم المنقوص]
فإن وقفت على المرفوع والمجرور من هذا الضرب، كان لك فيه مذهبان: إسقاط الياء، وإثباتها. واختلف النحويون في الأجود منهما؛ فذهب سيبويه إلى أن حذف الياء أجود إجراء للوقف على الوصل؛ لأن الوصل هو الأصل، وذهب يونس إلى أن إثبات الياء أجود؛ لأن الياء إنما حذفت لأجل التنوين، ولا تنوين في الوقف فوجب رد الياء، وقد قرأ بعض القراء قوله تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} 3 بغير ياء، وقد قرأ بعضهم بالياء فإن كان منصوبًا، أبدلت من تنوينه ألفًا كسائر الأسماء المنصرفة الصحيحة؛ فتقول: "رأيت قاضيًا" كما تقول: "رأيت ضاربًا". وإن كان فيه ألف ولام، كان حكمه في الوصل حكم ما ليس فيه ألف ولام في حذف الضمة والكسرة، ودخول الفتحة، وكان لك أيضًا في الوقف في حالة الرفع والجر إثبات الياء وحذفها، وإثباتها أجود الوجهين؛ لأن التنوين لا يجوز أن يثبت مع الألف واللام، فإذا زال علة اسقاط الياء؛ وجب أن تثبت؛ وكان بعض العرب يقف بغير ياء، وذلك أنه قدر حذف الياء في "قاضٍ" ونحوه، ثم أدخل عليه الألف واللام، وبقي الحذف على حاله؛ وهذا ضعيف جدًّا، وقد قرأ بعض القراء في قوله تعالى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} 4. فإن كان منصوبًا لم يكن الوقف عليه إلا بالياء، قال الله تعالى: {كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِي} 5، وذلك لأنه تنزل بالحركة منزلة الحرف الصحيح، فتحصن6 بها من الحذف.
[تعريف الاسم المقصور]
وأما المقصور فهور المختص بألف مفردة في آخره؛ نحو الهوى، والهدى، والدنيا، والأخرى، وسُمِّي مقصوًرا؛ لأن حركات الإعراب قصرت عنه؛ أي:
__________
1 في "ط" البحر وربما كان خطأً مطبعيًّا.
2 سقطت في "ط".
3 س: 16 "النحل، ن: 96، مك".
4 س: 2 "البقرة، ن: 186، مد".
5 س: 75 "القيامة، 26، مك".
6 في "ط" فيخص؛ والصواب ما أثبتنا من "س".

(1/56)


حُبست؛ والقصر: الحبس؛ ومنه يقال: امرأة مقصورة، وقصيرة، وقصورة؛ قال الله تعالى: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَام} 1؛ أي محبوسات؛
وقال الشاعر2: [الطويل]
وأنت التي حَبَّبت كل قصيرة ... إلَيَّ ولم تشعر بذاك القصائر
عنيت قصيرات الحجال ولم أرد ... قصار الخطا، شر النساء البحاتر3
ويروى: قصورة، والبهاتر: القصار بمعنى واحد.
[الاسم المقصور ضربان]
وهو على ضربين؛ منصرف، وغير منصرف؛ فالمنصرف: ما دخله التنوين؛ نحو: هذه عصًا ورحىً، ورأيت عصًا ورحىً، ومررت بعصًا ورحىً، والأصل فيه: عَصَوٌ، وَرَحَيٌ، إلا أن الواو والياء، لَمّا تحركا، وانفتح ما قبلهما؛ قلبا ألفين، وحذفت الألف منهما؛ لسكونها وسكون التنوين، وكان حذفها أولى لما ذكرناه في حذف الياء؛ نحو: قاضٍ.
[الوقف على الاسم المقصور]
فإن وقفت على شيء من هذا الضرب، فقد اختلف النحويون فيه على مذاهب؛ فهذب سيبويه4 إلى أنَّ الوقف في حالة الرفع والجر على الألف المبدلة من الحرف الأصلي، وفي حالة النصب على الألف المبدلة من التنوين حملاً 5 للمعتل على الصحيح، وذهب أبو عثمان المازني6 إلى أن الوقف في الأحوال
__________
1 س: 55 "الرحمن: 72، مد".
2 الشاعر: كثيِّر عزة؛ وهوكثير بن عبد الرحمن الخزاعي، صاحب عزّة، أحد الشعراء العشاق في العصر الأموي؛ له ديوان شعر مطبوع. مات سنة 105هـ. الشعر والشعراء 1/ 503.
3 المفردات الغريبة: القصائر: جمع قصيرة. الحِجال: إما جمع حَجَلَة، كالقبّة، وموضع يُزَيَّن بالثياب والستور للعروس. وإما الخلخال.
البحاتر: جمع بحتر، وهو القصير المجتمع الخلق؛ ويروى البهاتر -كما جاء في النسخة "س"- وهما بمعنى واحد. جاء في القاموس المحيط: والبُهتُرة -بالضم- القصيرة، كالبُهتر. وبالفتح الكذب. القاموس المحيط: مادة "بهتر" ص: 320.
4 سيبويه: عمرو بن قنبر، أخذ النحو عن الخليل بن أحمد، وكان من أعلم الناس به بعده؛ له "الكتاب" الذي سماه الناس لأهميته "قرآن النحو". مات بشيراز 180هـ. مراتب النحويين 64.
5 في "ط" عملاً؛ وربماكان غلطا مطبعيًّا.
6 المازني: أبو عثمان، بكر بن محمد، من متقدمي النحاة؛ أخذ عنه المبرّد، وغيره؛ من آثاره: التصريف الملوكي. مات سنة 249هـ. إنباه الرّواة 1/ 246، وبغية الوعاة 1/ 463.

(1/57)


الثلاثة، على الألف المبدلة من التنوين لأنهم إنما خصوا الإبدال بحال النصب في الصحيح؛ لأنه يؤدي إلى الألف التي هي أخف الحروف، ولم يبدلوا في حالة الرفع والجر؛ لأنه يفضي إلى الثقل واللبس؛ وذلك غير موجود هنا؛ لأن ما قبل التنوين -ههنا- لا يكون إلا مفتوحًا، فأبدلوا منه ألفًا؛ لأنه لا يجلب ثقلاً، ولا يجلب لبسًا؛ وذهب أبو سعيد السيرافي1 إلى أن الوقف في الأحوال الثلاثة على الألف المبدلة من الحرف الأصلي، وذلك؛ لأن بعض القراء يميلونها في قوله تعالى: {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} 2 ولو كانت مبدلة من التنوين؛ لما جازت -ههنا- إمالتها، ألا ترى أنك لو أملت الألف في نحو: رأيت عمرًا؛ لكان غير جائز؟ فلما جازت الإمالة -ههنا- دل على أنها مبدلة من الحرف الأصلي لا من التنوين.
[المقصور غير المنصرف]
وغير المنصرف: ما لم يلحقه التنوين، وذلك؛ نحو: حُبلى، وبشرى، وسكرى، وتثبت فيه الألف وصلاً ووقفًا، إذ ليس يلحقها تنوين، تحذف من أجله، فإن لقيها ساكن من كلمة أخرى؛ حذفت لالتقاء الساكنين.
[علة إعراب الأسماء الستة بالحروف]
فإن قيل: فَلِمَ أعربت الأسماء الستة المعتلة بالحروف وهي أسماء مفردة؟ قيل: إنما أعربت بالحروف توطئة لما يأتي من باب التثنية والجمع. فإن قيل: فَلِمَ كانت هذه الأسماء أولى بالتوطئة3 من غيرها؟ قيل: لأن هذه الأسماء منها ما تغلب عليه الإضافة؛ ومنها ما تلزمه الإضافة، فما تغلب عليه: أبوك، وأخوك، وحموك، وهنوك؛ وما تلزمه الإضافة: فوك، وذو مال؛ والإضافة فرع على الإفراد، كما أن التثنية والجمع فرع على المفرد، فلما وجدت المشابهة بينهما من هذا الوجه؛ كانت أولى من غيرها؛ ولما وجب أن تعرب بالحروف لهذه المشابهة، أقاموا كل حرف مقام ما يجانسه من الحركات؛ فجعلوا الواو علامة للرفع، والألف علامة للنصب، والياء علامة للجر؛ وذهب الكوفيون إلى أن الواو والضمة قبلها علامة للرفع، والألف والفتحة قبلها علامة للنصب، والياء والكسرة قبلها علامة للجر، فجعلوه معربًا من مكانين، وقد بينا فساده في
__________
1 السيرافي: أبو سعيد، الحسن بن عبد الله، نحوي متفقه، ورع؛ من مؤلفاته: أخبار النحويين البصريين، وشرح كتاب سيبويه. مات سنة 368هـ. البغية: 1/ 507-509.
2 س: 20 "طه، ن:10، مك".
3 في "س" بالتَّوطيد.

(1/58)


مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين. وذهب بعض النحويين إلى أن هذه الأسماء إذا كانت في موضع رفع؛ كان فيها نقل بلا قلب، وإذا كانت في موضع نصب، كان فيها قلب بلا نقل، وإذا كانت في موضع جرّ كان فيها نقل وقلب؛ ألا ترى أنك إذا قلت: هذا أبوك، كان الأصل فيه: هذا أبوك؛ فنقلت الضمة من الواو إلى ما قبلها، فكان فيه نقل بلا قلب، وإذا قلت: رأيت أباك، كان الأصل فيه: رأيت أبوك، فتحركت الواو، وانفتح ما قبلها، فقلبت الواو ألفًا، فكان فيه قلب بلا نقل، وإذا قلت: مررت بأبيك، كان الأصل فيه: مررت بأَبَوِكَ؛ فنقلت الكسرة من الواو إلى ما قبلها، وانقلبت الواو ياء؛ لسكونها وانكسار ما قبلها، فكان فيه نقل وقلب؛ وذهب بعض النحويين إلى أن الياء والواو والألف، نشأت عن إشباع الحركات كقول الشاعر1: [البسيط]
الله يعلم أنا في تَلَفُّتنا ... يوم الفِراق إلى إخواننا صُور
وأنني حيثما يثن الهوى بصري ... من حيث ما سلكو أدنوا فأنظورُ2
أراد: فأنظر، فأشبع الضمة؛ فنشأت الواو. وكما قال الآخر في إشباع الفتحة: [الوافر]
وأنت من الغوائل حين ترمي ... ومن ذم الرجال بمنتزاح4
أراد: بمنتزح، فأشبع الفتحة؛ فنشأت الألف؛ وقال الآخر5 في إشباع الكسرة: [البسيط]
تنفي يداها الحصى في كل هاجرة ... نفي الدراهيم تنقاد الصياريف6
__________
1 لم ينسب إلى قائل معين.
2 المفردات الغريبة: صور: جمع "أصور" وهو المائل العنق.
موطن الشاهد: "فأنظور" وجه الاستشهاد: أشبع الشاعر ضمة الظاء -مراعاة للوزن- فنشأت الواو؛ وهذا جائز في الشعر؛ لإقامة الوزن.
3 ينسب البيت إلى إبراهيم بن هرمة، وهو شاعر غزل من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية، وهو آخر من يحتج بشعره من الشعراء؛ له ديوان شعر مطبوع. مات حوالي 150هـ. الشعر والشعراء 2/ 7534.
4 المفردات الغريبة: الغوائل: نوازل الدهر. منتزاح: منتزح؛ وهو البعيد.
موطن الشاهد: "بمنتزاح". وجه الاستشهاد: أشبع الشاعر فتحة الزاي -مراعاة للوزن- فنشأت الألف؛ وحكم هذا الجواز في الشعر؛ لإقامة الوزن.
5 القائل: الفرزدق، وهو هَمَّام بن غالب التميمي، أحد ثالوث الشعر في العصر الأموي؛ جرير، والأخطل، والفرزدق، وكان أكثرهما فخرًا؛ له ديوان شعر مطبوع. مات سنة 110هـ.
6 المفردات الغريبة: تنفي: تدفع. الحصى: جمع حصاة. الهاجرة: وقت اشتداد الحر =

(1/59)


أراد: الصيارف، فأشبع الكسرة؛ فنشأت الياء، والشواهد على1 إشباع الضمة والفتحة والكسرة كثيرة جدًّا؛ وهذا القول ضعيف؛ لأن إشباع الحركات إنما يكون في ضرورة الشعر كهذه الأبيات؛ وأما في حالة الاختيار، فلا يجوز ذلك بالإجماع، فلما جاز -ههنا- في حالة الاختيار أن تقول: هذا أبوه، ورأيت أباه، ومررت بأبيه، دل على أن هذه الحروف ما نشأت عن إشباع الحركات. وقد حكي عن بعض العرب أنهم يقولون: "هذا أبك، ورأيت أبك، ومررت بأبك" من غير واو، ولا ألف، ولا ياء؛ ويحكى عن بعض العرب أنهم يقولون: "هذا أباك، ورأيت أباك، ومررت بأباك" بالألف في حالة الرفع والنصب والجر؛ كقوله2: [الرجز]
إن أباها وأبا أباها ... [قد بلغا في المجد غايتاها]
والذي يعتمد عليه هو القول الأول، وقد بينا ذلك مستقصى في كتابنا الموسوم: بـ: "الإسماء في شرح الأسماء".
__________
= عندما ينتصف النهار. تنقاد: مصدر نقد الدراهم -ميز رديئها من جيدها. الصياريف: جمع "صيرف"، وهو الخبير بالنقد الذي يبادل بعضه ببعض.
موطن الشاهد: "الدراهيم، الصياريف".
وجه الاستشهاد: الأصل فيهما: الدراهم والصيارف؛ فأشبع كسرة الهاء في الدراهم، وكسرة الراء في الصيارف؛ فتولدت عن كل إشباع منهما ياء؛ وحكم هذا الإشباع الجواز للضرورة الشعرية. وقيل: إن "دراهيم" جمع "درهام" لا جمع درهم، ولا شاهد فيه، حيث لا زيادة ولا حذف.
1 في "ط" في، والصواب ما أثبتنا من "س".
2 القائل أبو النجم العجلي؛ وهو الفضل بن قدامة، من بني بكر بن وائل، من أشهر الرجاز وأحسنهم إنشادًا للشعر. مات سنة 130هـ الأعلام: 5/ 357.
موطن الشاهد: "أبا أباها".
وجه الاستشهاد: ألزم قوله "أبا" وهو من الأسماء الستة الألف في حالة الجر على لغة من يلزمونه الألف في الحالات كلها؛ والذي عليه الجمهور، وما نقل إلينا بالتواتر: أبا أبيها؛ لأن الأسماء الستة علامة جرها الياء، كما هو معروف. وفي البيت شاهد آخر في "بلغا.. غايتاها" حيث ألزم المثنى الألف في حالة النصب على لغة من يلزمونه ذلك؛ والذي عليه الجمهور، وما نقل إلينا بالتواتر علامة نصب المثنى الياء.

(1/60)