أسرار العربية الباب الخامس: باب
التثنية والجمع
إن قال قائل: ما التثنية؟ قيل: التثنية صيغة مبنية للدلالة على
الاثنين؛ وأصل التثنية العطف؛ تقول: قام الزيدان، وذهب العمران؛
والأصل: قام زيد وزيد، وذهب عمرو وعمرو إلا أنهم حذفوا أحدهما، وزادوا
على الآخر زيادة دالة على التثنية للإيجاز والاختصار، والذي يدل على أن
الأصل هو العطف، أنهم يفكون التثنية في حال الاضطرار، ويعدلون عنها إلى
التكرار؛ كقول الشاعر1: [الرجز]
كأن بين فكها والفك ... فارةَ مسك ذبحت في سُكّ2
وقال الآخر3: [الرجز]
كأن بين خلفها والخلف ... كشة أفعى في يبيس قُفّ4
__________
1 لم ينسب إلى قائل معين.
2 المفردات الغريبة: الفكُّ: اللَّحي، وفي الرأس فَكَّان؛ أعلى وأسفل.
القاموس المحيط: مادة "فكك"، ص 855. فارة المسك: وعاؤه. السُّكُّ: ضرب
من الطيب.
موطن الشاهد: "فكها والفك". وجه الاستشهاد: الأصل أن يقول: كأن بين
فكيها، ولكنه عدل عن تثنية الفك مراعاة للوزن؛ وهذا كثير شائع.
3 لم ينسب إلى قائل معين.
4 المفردات الغريبة: كشة أفعى: يقال: كشكشت الحية، إذا صاتت من جلدها
لا من فيها. يبيس قُفّ: يقال: قف العشب قفوفًا إذا يبس. وقفّ: إذا انضم
بعضه إلى بعض حتى صار كالقُفَّة. والقُفّ: ما ارتفع من الأرض. ويطلق
على الشجرة اليابسة البالية. القاموس المحيط: مادة "قفف"، ص 761.
موطن الشاهد: "كأن بين خلفها والخلف" وجه الاستشهاد: فكّ الشاعر
التثنية للضرورة الشعرية -كما في الشاهد السابق- لأن الأصل في هذا
الاستعمال: كأن بين خِلْفَيها.
(1/61)
وقال الراجز1: [الرجز]
ليث وليث في مجال ضنك2
أراد "ليثان" إلا أنه عدل إلى التكرار في حالة الاضطرار؛ لأنه الأصل.
فإن قيل: ما الجمع؟ قيل: صيغة مبنية للدلالة على العدد الزائد على
الاثنين، والأصل فيه -أيضًا- العطف كالتثنية، إلا أنهم لَمّا عدلوا عن
التكرار في التثنية طلبًا للاختصار، كان ذلك في الجمع أولى.
فإن قيل: فَلِمَ كان إعراب التثنية والجمع بالحروف دون الحركات؟ قيل:
لأن التثنية والجمع فرع على المفرد، (والإعراب بالحروف فرع على
الحركات، فكما أعرب المفرد) 3 الذي هو الأصل بالحركات التي هي الأصل،
فكذلك، أعرب التثنية والجمع اللذان هما فرع بالحروف التي هي فرع، فأعطي
الفرع الفرع، كما أعطي الأصل الأصل؛ وكانت الألف والواو والياء أولى من
غيرها؛ لأنها أشبه الحروف بالحركات. فإن قيل: فَلِمَ خصوا التثنية في
حال الرفع بالألف، والجمع السالم بالواو، وأشركوا بينهما في الجر
والنصب؟ قيل: إنما خصوا التثنية بالألف، والجمع بالواو؛ لأن التثنية
أكثر من الجمع؛ لأنها تدخل على من يعقل، وعلى ما لا يعقل، وعلى
الحيوان، وعلى غير الحيوان من الجمادات والنبات، بخلاف الجمع السالم،
فإنه في الأصل لأولي العلم خاصة، فلما كانت التثنية أكثر، والجمع أقل؛
جعلوا الأخف، وهو الألف للأكثر، والأثقل وهو الواو للأقل؛ ليعادلوا بين
التثنية والجمع؛ وإنما أشركوا بينهما في النصب والجر؛ لأن التثنية
والجمع لهما ستة أحوال وليس إلا ثلاثة أحرف، فوقعت الشركة ضرورة.
__________
1 ينسب الشاهد إلى واثلة بن الأسقع، أو لجحدر بن مالك، كما في خزانة
الأدب 7/ 461-464.
2 المفردات الغريبة: الليث: الأسد. وعني بالليث الأول -هنا- نفسه،
وبالليث الثاني بطريقًا من بطارقة الروم؛ إذا كان الشعر لواثلة.
موطن الشاهد: "ليث وليث" وجه الاستشهاد: ترك التثنية والعدول عنها إلى
التكرار؛ كما في الشاهدين السابقين. وفي الشاهد دليل على أن أصل المثنى
العطف بالواو.
3 سقط من "س" ما بين القوسين.
(1/62)
الإعراب، وذهب أبو الحسن الأخفش1، وأبو
العباس المبرد2، ومن تابعهما، إلى أنها تدل على الإعراب، وليست بإعراب،
ولا حروف إعراب، وذهب أبو عمر الجرمي3 إلى أن انقلابها هو الإعراب،
وذهب قُطْرُب4، والفرّاء5، والزيادي إلى أنها هي الإعراب، والصحيح هو
الأول؛ وأما من ذهب إلى أنها تدل على الإعراب، وليست بحروف إعراب
ففاسد؛ لأنه لا يخلو إما أن تدل على الإعراب في الكلمة، أو في غيرها؛
فإن كانت تدل على الإعراب في الكلمة، فلا بد من تقديره فيها، فيرجع هذا
القول إلى القول الأول، وهو مذهب سيبويه، وإن كانت تدلّ على إعراب في
غير الكلمة، فليس بصحيح؛ لأنه يؤدي إلى أن يكون التثنية والجمع مبنيين،
وليس بمذهب لقائل هذا القول، وإلى أن يكون إعراب الكلمة ترك إعرابها،
وذلك محال، وأما من ذهب إلى أن انقلابها هو الإعراب، فقد ضعفه بعض
النحويين؛ لأنه يؤدي إلى أن يكون التثنية والجمع مبنيين في حالة الرفع؛
لأنه لم ينقلب عن غيره، إذ أوّل أحوال الاسم الرفع، وليس من مذهب هذا
القائل بناء التثنية والجمع في حال من الأحوال؛ وأما من ذهب إلى أنها
أنفسها هي الإعراب فظاهر الفساد وذلك؛ لأن الإعراب لا يخل سقوطه ببناء
الكلمة، ولو أسقطنا هذه الأحرف؛ لبطل6 معنى التثنية والجمع، واختل معنى
الكلمة، فدل ذلك على أنها ليست بإعراب، وإنما هي حروف إعراب على ما
بينا.
__________
1 الأخفش: هو الأخفش الأوسط، سعيد بن مسعدة المجاشعي البلخي، أخذ النحو
عن سيبويه؛ صنف كتبًا، وزاد في العروض بحر "الخبب" فصار مجموع مجموعها
ستة عشر بحرًا. مات سنة 215هـ.
2 المبرِّد: أبو العباس، محمد بن يزيد، إمام أهل البصرة في العربية؛ من
آثاره: "الكامل في اللغة والأدب والنحو التصريف" و "المقتضب في النحو"،
وغيرهما، مات سنة 285هـ. بغية الوعاة 1/ 269-270.
3 الْجَرْميُّ: أبو عمر، صالح بن إسحاق الجرمي، أخذ النحو عن الأخفش،
ويونس بن حبيب، وغيرهما. مات سنة 225هـ. بغية الوعاة 2/ 8.
4 قُطْرُب: هو محمد بن المستنير، لقَّبه أستاذه سيبويه بقطرب -دويبة
تبكِّر في السعي طلبًا للرزق- لنشاطه في تحصيل العلم والسعي إليه قبل
غيره. كان عالِمًا في اللغة، والنحو، والأدب، وهو أول من وضع المثلثات
اللغوية؛ من آثاره: معاني القرآن، والنوادر، والأزمنة، وغريب الحديث،
وغيرها. مات سنة 206هـ. إنباه الرواة 3/ 219.
5 الفراء: سبقت ترجمته.
6 في "س" بطل والصواب ما أثبت في المتن؛ لوقوع بطل في جواب "لو".
(1/64)
[سبب فتح ما قبل ياء التثنية]
فإن قيل: فَلِمَ فتحوا ما قبل ياء التثنية دون ياء الجمع؟ قيل لثلاثة
أوجه:
الوجه الأول: أن التثنية أكثر من الجمع على ما بَيّنّا، فلمَّا كانت
التثنية أكثر من الجمع، والجمع أقل، أعطوا الأكثر الحركة الخفيفة، وهي
الفتح، والأقل الحركة الثقيلة، وهي الكسرة.
والوجه الثاني: أن حرف التثنية لما زيد على الواحد للدلالة على
التثنية، أشبه تاء التأنيث التي تزاد على الواحد للدلالة على التأنيث،
وتاء التأنيث يفتح ما قبلها، فكذلك ما أشبهها، وكانت التثنية أولى
بالفتح، لهذا المعنى من الجمع؛ لأنها قبل الجمع.
والوجه الثالث: أن بعض علامات التثنية الألف، والألف لا يكون ما قبلها
إلا مفتوحًا، ففتحوا ما قبل الياء لئلا يختلف، إذ لا علة -ههنا- توجب
المخالفة.
فإن قيل: فلم أدخلت النون في التثنية والجمع؟ قيل: اختلف النحويون في
ذلك؛ فذهب سيبويه إلى أنها بدل من الحركة والتنوين؛ وذهب بعض النحويين
إلى أنها تكون على ثلاثة أضرب، فتارة تكون بدلاً من الحركة والتنوين،
وتارة بدلاً من الحركة دون التنوين، وتارة تكون بدلاً من التنوين دون
الحركة، فأما كونها بدلاً من الحركة والتنوين ففي نحو: رجلان، وفرسان،
وأما كونها بدلاً من الحركة دون التنوين ففي نحو: الرجلان، والفرسان،
وأما كونها بدلاً من التنوين فقط ففي نحو: رحيان، وعصوان. وذهب بعض
الكوفيين إلى أنها زيدت للفرق بين التثنية، والواحد المنصوب في نحو
قولك: رأيت زيدًا.
[انكسار نون التثنية وانفتاح نون الجمع]
فإن قيل: فَلِمَ كسروا نون التثنية، وفتحوا نون الجمع؟ قيل: للفرق
بينهما.
فإن قيل: فما الحاجة إلى الفرق بينهما مع تباين صيغتيهما؟ قيل: لأنهم
لو لم يكسروا نون التثنية، ويفتحوا نون الجمع؛ لالتبس جمع المقصور في
حالة الجر والنصب، بتثنية الصحيح، ألا ترى أنك تقول في جمع مصطفى: رأيت
مصطفَيْنَ، ومررت بمصطفَيْنَ؛ قال الله تعالى: {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا
لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ
(1/65)
الأَخْيَار} 1 فلفظ مطصفَيْنَ؛ كلفظ:
زيدَينِ، فلو لم يكسروا نون التثنية، ويفتحوا نون الجمع؛ لالتبس هذا
الجمع بهذه التثنية.
فإن قيل: فهلَّا عكسوا، ففتحوا نون التثنية، وكسروا نون الجمع، وكان
الفرق حاصلاً؟ قيل: لثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن نون التثنية تقع بعد ألف، أو ياء مفتوح ما قبلها، فلم
يتسثقلوا الكسرة فيها، وأما نون الجمع، فإنها تقع بعد واو مضموم ما
قبلها، أو ياء مكسور ما قبلها، فاختاروا لها الفتحة؛ ليعادلوا خفة
الفتحة ثقل الواو والضمة، والياء والكسرة، ولو عكسوا ذلك؛ لأدى ذلك إلى
الاستثقال، إما لتوالي الأجناس، وإما للخروج من الضم إلى الكسر.
والوجه الثاني: أن التثنية قبل الجمع، والأصل في التقاء الساكنين
الكسر، فحركت نون التثنية بما وجب لها في الأصل، وفتحت نون الجمع؛ لأن
الفتح أخف من الضم.
والوجه الثالث: أن الجمع أثقل من التثنية، والكسر أثقل من الفتح،
فأعطوا الأخف الأثقل، والأثقل الأخف؛ ليعادلوا بينهما.
[الأصل في الجمع السالم لمن يعقل]
فإن قيل: فَلِمَ قلتم: إن الأصل في الجمع السالم أن يكون لمن يعقل؟
قيل: تفضيلاً لهم؛ لأنهم المقدمون على سائر المخلوقات بتكريم الله
تعالى لهم، وتفضيله إياهم؛ قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي
آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ
الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا
تَفْضِيلاً} 2.
[ألفاظ العقود الملحقة بجمع المذكر السالم]
فإن قيل: فَلِمَ جاء هذا الجمع في الأعداد من العشرين إلى التسعين؟
قيل: إنما جاء هذا الجمع في الأعداد من العشرين إلى التسعين؛ لأن
الأعداد لَمّا كان يقع على من يعقل نحو: "عشرين رجلاً" على ما لا يعقل
نحو: "عشرين ثوبًا" وكذلك إلى التسعين، غلب جانب من يعقل على ما لا
يعقل، كما يغلب جانب المذكر على المؤنث في نحو: أخواك هند وزيد، وما
أشبه ذلك.
__________
1 س: 38 "سورة ص: 47، مك".
2 س: 17 "الإسراء: 70، مك".
(1/66)
فإن قيل: فمن أين جاء هذا الجمع في قوله
تعالى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا
قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِين} 1؟ قيل: لأنه لَمّا وصفها بالقول؛
والقول من صفات من يعقل، أجراهما مجرى من يعقل؛ وعلى هذا قوله تعالى:
{إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِين} 2 لأنه لَمّا وصفها بالسجود، وهو من صفات
من يعقل، أجراها مجرى من يعقل؛ فلهذا، جمعت جمع من يعقل.
[قولهم في جمع أرض وسنة]
فإن قيل: فَلِمَ جاء هذا الجمع في قولهم في جمع أرض: "أرضون" وفي جمع
سنة "سنون"؟ قيل: لأن الأصل في أرض: "أرضة" بدليل قولهم في التصغير:
أُرَيْضَةَ، وكان القياس يقتضي أن تجمع بالألف والتاء، إلا أنهم لما
حذفوا التاء من أرض؛ جمعوه بالواو والنون تعويضًا عن حذف التاء،
وتخصيصًا له بشيء، لا يكون في سائر أخواته؛ وكذلك الأصل في سنة: "سنوة"
بدليل قولهم في الجمع: "سنوات" و"سنهة" على قول بعضهم، إلا أنهم لما
حذفوا اللام، جمعوه بالواو والنون تعويضًا من حذف اللام، وتخصيصًا له
بشيء لا يكون في /الأمر/3 التام، وهذا التعويض تعويض جوازٍ، لا تعويض
وجوب، لأنهم لا يقولون في جمع: شمس شمسون، ولا /في/4 جمع غد غدون
فلهذا، لما كان هذا الجمع في أرض، وسنة، على خلاف الأصل، أدخل فيه ضرب
من التكثير، ففتحت5 الراء من "أرضَون" وكسرت السين من "سنون" إشعارًا
بأنه جمع جمع السلامة على خلاف الأصل؛ فاعرفه /تصب/6 إن شاء الله
تعالى.
__________
1 س: 41 "فصلت -حم السجدة- ن: 11، مك".
2 س: 12 "يوسف، ن: 4، مك".
3 سقطت من "س".
4 سقطت من "س".
5 في "ط" وفتحت، وما أثبتناه من "س" وهو الأفضل.
6 سقطت من "س".
(1/67)
الباب السادس: باب
جمع التأنيث
[زيادة الألف والتاء في جمع التأنيث]
إن قال قائل: لِمَ زادوا في آخر هذا الجمع ألفًا وتاء؛ نحو: مسلمات
وصالحات؟ قيل: لأن أولى ما يزاد حروف المد واللين، وهي الألف والياء
والواو، وكانت الألف أولى من الياء والواو، لأنها أخف منهما، ولم تجز
زيادة أحدهما معها؛ لأنه كان يؤدي إلى أن ينقلب عن أصله؛ لأنه كان يقطع
طرفًا وقبله ألف زائدة فينقلب همزة، فزادوا التاء بدلاً عن الواو؛
لأنها تبدل منها كثيرًا؛ نحو: تراث، وتجاه، وتهمة، وتخمة، وتكلة، وما
أشبه ذلك، والأصل في مسلمات وصالحات: مسلمتات، وصالحتات، إلا أنهم
حذفوا التاء لئلا يجمعوا بين علامتي تأنيث في كلمة واحدة، وإذا كانوا
قد حذفوا التاء مع المذكر في نحو قولهم: رجل بصريّ وكوفيّ، في النسب
إلى البصرة والكوفة، والأصل: بصرتي وكوفتي؛ لئلا يقولوا في المؤنث:
امرأة بصرتيّة، وكوفتيّة، فجمعوا بين علامتي تأنيث، فلأَن يحذفوا
-ههنا- مع تحقق الجمع، كان ذلك من طريق الأولى.
فإن قيل: فَلِمَ كان حذف التاء الأُولَى أَوْلَى؟ قيل: لأنها تدل على
التأنيث فقط، والثانية تدل على الجمع والتأنيث، فلما كان في الثانية
زيادة معنى، كان تبقيتها، وحذف الأُولى أَولى.
فإن قيل: فَلِمَ لم يحذفوا الألف في جمع: حبلى، كما حذفوا التاء،
فيقولوا: حبلات، كما قالوا مسلمات؟ قيل: لأن الألف تنزل منزلة حرف من
نفس الكلمة؛ لأنها صيغت الكلمة عليها في أول أحوالها، وأما التاء فليست
كذلك؛ لأنها ما صيغت الكلمة عليها في أول أحوالها، وإنما هي بمنزلة اسم
ضُمَّ إلى اسم؛ كحضرموت، وبعلبك، وما أشبه ذلك. فإن قيل: فَلِمَ وجب
قلب الألف؟ قيل: لأنها لو لم تقلب؛ لكان ذلك يؤدي إلى حذفها؛ لأنها
(1/68)
ساكنة، وألف الجمع بعدها ساكن1، وساكنان لا
يجتمعان؛ فيجب حذفها لالتقاء الساكنين. فإن قيل: فَلِمَ قلبت الألف
ياء؛ فقيل: حبليات، ولم تقلب واوًا؟ قيل لوجهين:
أحدهما: أن الياء تكون علامة للتأنيث، والواو ليست كذلك، فلما وجب قلب
الألف إلى أحدهما، كان قلبها إلى الياء أولى من قلبها إلى الواو.
والوجه الثاني: أن الياء أخف من الواو، والواو أثقل، فلما وجب قلبها
إلى أحدهما؛ كان قلبها إلى الأخف أولى من قلبها إلى الأثقل.
فإن قيل: فَلِمَ قلبوا الهمزة واوًا في جمع صحراء، فقالوا: صحراوات؟
قيل: لوجهين:
أحدهما: أنهم لما أبدلوا من الواو همزة في نحو: أُقِّتَتْ، وأجوه،
أبدلت الهمزة -ههنا- واوًا من النّقاض والتعويض.
والوجه الثاني: أنهم /إنما/2 أبدلوها واوًا، ولم يبدلوها ياء؛ لأن
الواو أبعد من الألف، والياء أقرب إليه منها، فلو أبدلوها ياء؛ لأدى
ذلك إلى أن تقع ياء بين ألفين، فكان أقرب إلى اجتماع الأمثال، وهم إنما
قلبوا الهمزة فرارًا من اجتماع الأمثال؛ لأنها تشبه الألف، وقد وقعت
بين ألفين، وإذا كانت الهمزة إنما وجب قلبها فرارًا من اجتماع الأمثال،
وجب قلبها واوًا؛ لأنها أبعد من الياء في اجتماع الأمثال.
فإن قيل: فَلِمَ حمل النصب على الجر في هذا الجمع، قيل: لأنه لما وجب
حمل النصب على الجر في جمع المذكر الذي هو الأصل؛ وجب -أيضًا- حمل
النصب على الجر في جمع المؤنث الذي هو الفرع، حملاً للفرع على الأصل،
وإذا كانوا قد حملوا: أعد، ونعد، وتعد، على بعد في الاعتدال، وإن لم
يكن فرعًا عليه، فلأَن يحمل جمع المؤنث على جمع المذكر وهو فرع عليه؛
كان ذلك من طريق الأولى، فاعرفه تصب، إن شاء الله تعالى.
__________
1 في "س" ساكنة؛ وكلاهما صحيح.
2 سقطت من "س".
(1/69)
الباب السابع: باب
جمع التكسير
[جمع التكسير وسبب تسميته]
إن قال قائل: لِمَ سُمِّيَ جمع التكسير تكسيرًا1؟ قيل: إنما سمي بذلك
على التشبه2 بتكسير الآنية؛ لأن تكسيرها إنما هو إزالة التئام أجزائها؛
فلما أزيل نظم الواحد فك نضده3 في هذا الجمع؛ فَسُمِّي جمع التكسير.
وهو على أربعة أضرب:
[أضرب جمع التكسير]
أحدها: أن يكون لفظ الجمع أكثر من لفظ الواحد.
والثاني: أن يكون لفظ الواحد أكثر من لفظ الجمع.
والثالث: أن يكون مثله في الحروف دون الحركات.
والرابع: أن يكون مثله في الحروف والحركات؛ فأمّا ما لفظ الجمع أكثر من
لفظ الواحد؛ فنحو: رجل ورجال، ودرهم ودراهم، وأما ما لفظ الواحد أكثر
من لفظ الجمع؛ فنحو: كتاب وكتب، وإزار وأزر، وأما ما لفظ الجمع كلفظ
الواحد في الحروف (دون الحركات) 4؛ فنحو: أَسَد وأُسُد، ووَثَن ووثُن،
وأما ما لفظ الجمع مثل /لفظ/5 الواحد في الحروف والحركات؛ فنحو: الفلك،
فإنه يكون واحدًا، ويكون جمعًا، فأما كونه واحدًا؛ فنحو قوله
__________
1 في "س" لِمَ سُمّي جمعَ التكسير.
2 في "س" على التشبيه؛ وكلاهما صحيح.
3 نضده: النَّضد -محرَّكةً- ما نُضِدَ من متاع؛ والمراد -هنا-
الالتئام؛ أي فلما أزيل التئام الحروف واتساقها في هذا الجمع؛ سُمّي
جمع تكسير.
4 سقطت من "س".
5 سقطت من "ط".
(1/70)
تعالى: {فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُون} 1
فأراد به الواحد؛ ولو أراد به الجمع؛ لقال: المشحونة، وأما كونه جمعًا؛
فنحو قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ
بِهِم} 2. وقال تعالى: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ
بِمَا يَنفَعُ النَّاس} 3 فأراد به الجمع؛ لقوله: وجرين، والتي تجري؛
غير أن الضمة فيه إذا كان واحدًا، غير الضمة فيه إذا كان جمعًا، وإن
كان اللفظ واحدًا؛ لأن الضمة فيه إذا كان واحدًا كالضمة في: قُفل،
وقُلب4، وإذا كان جمعًا؛ كانت الضمة فيه كالضمة في: كُتُب، وأُزُر؛
وكذلك قولهم: هِجان ودِلاص، يكون واحدًا ويكون جمعًا؛ تقول: ناقة
هِجان، ونوق هِجان، ودِرع دِلاص، ودروع دِلاص، فإذا كان واحدًا؛ كانت
الكسرة فيه كالكسرة في: كِتاب، وإذا كان جمعًا؛ كانت الكسرة فيه؛
كالكسرة في: كِلام؛ والْهِجان: الكريم من الإبل، والدِّلاص: الدروع
البراقة، ويقال: دِلاص، ودُلَامِص، ودمالص ودملص،، ودُلمص، بمعنى واحد؛
فاعرفه تُصب، إن شاء الله تعالى.
__________
1 س: 36 "يس، ن: 41، مك".
2 س: 10 "يونس، ن: 22، مك".
3 س: 2 "البقرة، ن: 164، مد".
4 القُلب: سِوَار المرأة، والحيّة البيضاء، وشحمة النّخل أو أجود
خوصها. القاموس المحيط: "مادة قلب" ص 117.
(1/71)
الباب الثامن: باب
المبتدأ
[تعريف المبتدأ]
إن قال قائل: ما المبتدأ؟ قيل: كل اسم عرّيته من العوامل اللفظية لفظًا
وتقديرًا؛ فقولنا: اللفظية احتزازًا1؛ لأن العوامل تنقسم إلى قسمين؛
إلى عامل لفظيّ، وإلى عامل معنويّ، فأما اللفظي؛ فنحو: كان وأخواتها،
وإن وأخواتها، وظننت وأخواتها؛ وقولنا: تقديرًا، احترازًا من تقدير
الفعل في نحو قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّت} 2 وما أشبه ذلك؛
وأما المعنويّ، فلم يأتِ إلا في موضعين عند سيبويه3، وأكثر البصريين؛
هذا أحدهما، وهو الابتداء؛ والثاني وقوع الفعل المضارع موقع الاسم
/في/4 نحو: مررت برجل يكتب، فارتفع "يكتب" لوقوعه موقع "كاتب". وأضاف
أبو الحسن الأخفش5 إليهما موضعًا ثالثًا، وهو عامل الصفة، فذهب إلى أن
الاسم يرتفع؛ لكونه صفة لمرفوع، وينتصب لكونه صفة لمنصوب، وينجرُّ
لكونه صفة لمجرور، وكونه صفة في هذه الأحوال معنى يعرف بالقلب، ليس
للفظ فيه حظ. وسيبويه وأكثر البصريين يذهبون إلى أن العامل في الصفة هو
العامل في الموصوف؛ ولهذا، موضع نذكره فيه، إن شاء الله تعالى.
[علة ارتفاع المبتدأ عند البصريين]
فإن قيل: فبماذا يرتفع الاسم المبتدأ؟ قيل: اختلف النحويون في ذلك؛
فذهب سيبويه ومن تابعه من البصريين إلى أنه يرتفع بتعريه من العوامل
اللفظية. وذهب بعض البصريين إلى أنه يرتفع بما في النفس من معنى
الإخبار عنه، وقد ضَعَّفَه بعض النحويين، وقال: لو كان الأمر كما زعم؛
لوجب ألا ينتصب إذا
__________
1 في "س" احتراز.
2 س: 84 "الانشقاق: 1، مك".
3 سيبويه: سبقت ترجمته.
4 سقطت من "س".
5 سبقت ترجمته.
(1/72)
دخل عليه عامل النصب؛ لأن دخوله عليه، لم
يغيِّر معنى الإخبار عنه، ولوجب ألا يدخل عليه مع بقائه، فلما جاز ذلك؛
دل على فساد ما ذهب إليه.
[علة ارتفاع المبتدأ عند الكوفيين]
وأما الكوفيون، فذهبوا إلى أنه يرتفع بالخبر1، وزعموا أنهما يترافعان،
وأن كل واحد منهما يرفع الآخر، وقد بينا فساده في مسائل الخلاف بين
البصريين والكوفيين.
[علة جعل التَّعَرِّي عاملاً]
فإن قيل: فَلِمَ جعلتم التعري عاملاً، وهو عبارة عن عدم العوامل؟. قيل:
لأن العوامل اللفظية، ليست مؤثرة في المعمول حقيقة، وإنما هي أمارات
وعلامات فإذا ثبت أن العوامل في محل الإجماع إنما هي أمارات وعلامات؛
فالعلامة تكون بعدم الشيء، كما تكون بوجود شيء، ألا ترى أنه لو كان معك
ثوبان، وأردت أن تميز أحدهما عن2 الآخر؛ لكنت تصبغ أحدهما مثلاً، وتترك
صبغ الآخر، فيكون عدم الصَّبغ في أحدهما كصبغ الآخر؛ فتَبَيَّنَ3 بهذا
أن العلامة تكون بعدم شيء، كما تكون بوجود شيء، وإذا ثبت هذا؛ جاز أن
يكون التعري من العوامل اللفظية عاملاً.
[اختصاص المبتدأ بالرفع]
فإن قيل: فَلِمَ خص المبتدأ بالرفع دون غيره؟ قيل: لثلاثة أوجه:
أحدهما: أن المبتدأ وقع في أقوى أحواله، وهو الابتداء، فأعطِيَ أقوى
الحركات، وهو الرفع.
والوجه الثاني: أن المبتدأ أول، والرفع أول، فأعطي الأوّلُ الأوّلَ.
والوجه الثالث: أن المبتدأ مُخْبَر عنه، كما أن الفاعل مخبر عنه،
والفاعل مرفوع، فكذلك ما أشبهه.
فإن قيل: لماذا لا يكون المبتدأ في الأمر العام إلا معرفة؟ قيل: لأن
المبتدأ مخبر عنه، والإخبار عمّا4 لا يعرف لا فائدة منه5.
__________
1 راجع: "الإنصاف في مسائل الخلاف" ص 25.
2 في "ط" على، والصواب ما أثبتنا من "س".
3 في "ط" فيتبين؛ وكلاهما صحيح.
4 في "س" عمن.
5 في "س" فيه.
(1/73)
[تقديم خبر المبتدأ عليه]
فإن قيل: فهل يجوز تقديم خبر المبتدأ عليه؛ نحو: قائم زيد؟ قيل: اختلف
النحويون فيه1؛ فذهب البصريون إلى أنه جائز، وذهب الكوفيون إلى أنه غير
جائز، وأنه إذا تقدم عليه الخبر، يرتفع به ارتفاع الفاعل بفعله2،
وقالوا: لو جوزنا تقديم خبر المبتدأ عليه؛ لأدّى ذلك إلى تقديم ضمير
الاسم على ظاهره، وذلك لا يجوز، وهذا الذي ذهبوا إليه فاسد، وذلك لأن
اسم الفاعل أضعف من الفعل في العمل؛ لأنه فرع عليه، فلا يعمل حتى
يعتمد، ولم يوجد -ههنا- فوجب ألا يعمل. وقولهم: إن هذا يؤدي إلى تقديم
ضمير الاسم على ظاهره فاسد -أيضًا- لأنه وإن كان مقدمًا لفظًا، إلا أنه
مؤخر تقديرًا، وإذا كان مقدمًا في اللفظ، مؤخرًا في التقدير3، كان
تقديمه جائزًا؛ قال الله تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً
مُوسَى} 4 فالهاء في "نفسه" ضمير موسى، وإن كان في اللفظ مقدمًا على
موسى، إلا أنه لَمّا كان موسى مقدمًا في التقدير؛ والضمير في تقدير 5
التأخير؛ كان ذلك جائزًا، فكذلك ههنا، والذي يدل على /جواز/6 ذلك وقوع
الإجماع على جواز؛ ضَرَبَ غلامه زيد؛ وهذا بيّن؛ وكذلك اختلفوا في
الظرف إذا كان مقدّمًا على المبتدأ؛ نحو: عندك زيد فذهب البصريون إلى
أنه في موضع الخبر، كما لو كان متأخرًا، وذهب الكوفيون إلى أن المبتدأ
يرتفع بالظرف7، ويخرج عن كونه مبتدأ، ووافقهم على ذلك أبو الحسن الأخفش
في أحد قوليه؛ وفي هذه المسألة كلام طويل بيناه في: مسائل الخلاف بين
البصريين والكوفيين، لا يليق ذكره8 بهذا المختصر.
__________
1 في "س" في ذلك.
2 والصواب: يرتفع بالضمير العائد إليه من الخبر قائم لا بالخبر.
3 في "ط" مقدّمًا في التقدير، مؤخَّرًا في اللفظ، وما أثبتناه من "س"
وهو الصّواب.
4 س: 20 "طه: 67، مك".
5 في "ط" تقديم، وما أثبتناه من "س" وهو الصواب.
6 سقطت من "ط".
7 أي من غير اعتماد على الاستفهام، أو النفي، ويكون إعراب الاسم في مثل
قولنا: "في البستان ثمرٌ" فاعلاً للظرف في مذهبهم.
8 في "ط" ذكرها، والصّواب ما أثبتناه من "س".
(1/74)
|