الأصول في النحو

ذكر الأسماء المنصوبات
ذكر الأسماء المنصوبات
...
ذكر الأسماء المنصوبات:
الأسماء المنصوبات تنقسم قسمة أولى على ضربين:
فالضرب الأول هو العام الكثير: كل اسم تذكره بعد أن يستغني الرافع بالمرفوع وما يتبعه في رفعه إن كان له تابع, وفي الكلام دليل عليه فهو نصب.
والضرب الآخر: كل اسم تذكره لفائدة بعد اسم مضاف أو فيه نون ظاهرة أو مضمرة وقد تما بالإِضافة والنون, وحالت النون والإِضافة بينهما ولولاهما لصلح أن يضاف إليه فهو نصب.
والضرب الأول: ينقسم على قسمين: مفعول, ومشبه/ 161 بمفعول.
والمفعول ينقسم على خمسة أقسام: مفعول مطلق, ومفعول به, ومفعول فيه ومفعول له. ومفعول معه.

(1/159)


شرح الأول: وهو المفعول المطلق, ويعني به المصدر.
المصدر اسم كسائر الأسماء, إلا أنه معنى غير شخص. والأفعال مشتقة منه1 وإنما انفصلت من المصادر بما تضمنت معاني الأزمنة الثلاثة بتصرفها.
والمصدر: هو المفعول في الحقيقة لسائر المخلوقين, فمعنى قولك: قام زيد وفعل زيد. قيامًا سواء, وإذا قلت: ضربت فإنما معناه أحدثت ضربًا وفعلت ضربًا فهو المفعول الصحيح. ألا ترى أن القائل يقول: من فعل هذا القيام؟ فتقول: أنا فعلته, ومن ضرب هذا الضرب الشديد؟ فتقول: أنا فعلته. تريد: أنا ضربت هذا الضرب. وقولك ضربت هذا الضرب, وقولك
__________
1 هذا على مذهب البصريين الذين يرون أن الفعل مشتق من المصدر وفرع عليه بينما يرى الكوفيون أن المصدر مشتق من الفعل وفرع عليه، نحو: ضرب ضربا وقام قياما، ولكل منها حجج ذكرها ابن الأنباري في الإنصاف. انظر مسألة/ 28 الجزء الأول.

(1/159)


ضربت زيدًا لا يصلح أن تغيره بأن تقول: فعلت زيدًا لأنه ليس بمفعول لك/162 فإنما هو مفعول لله تعالى, فإذا قلت: ضربت زيدًا, فالفعل لك دون زيد, وإنما أحللت الضرب به وهو المصدر, فعلى هذا تقول: قمت قيامًا وجلست جلوسًا, وضربت ضربًا, وأعطيت إعطاءً, وظننت ظنا, واستخرجت استخراجًا, وانقطعت انقطاعًا, واحمررت احمرارًا, فلا يمتنع من هذا فعل منصرف البتة.
ومصدر الفعل الذي يعمل فعله1 فيه يجيء على ضروب: فربما ذكر توكيدًا نحو قولك: قمت قيامًا, وجلست جلوسًا, فليس في هذا أكثر من أنك أكدت فعلك بذكرك مصدره, وضرب ثانٍ تذكره للفائدة نحو قولك: ضربت زيدًا ضربًا شديدًا, والضرب الذي تعرف. وقمت قيامًا طويلًا, فقد أفدت في الضرب أنه شديد, وفي القيام أنه طويل, وكذلك إذا قلت: ضربت ضربتين وضربات, فقد أفدت المرار وكم مرة ضربت.
وقال سيبويه: تقول: قعد قِعْدةَ سوء وقعد قعدتين2 /163 لما عمل في الحدث -يعني المصدر- عمل في المرة منه والمرتين, وما يكون ضربًا منه وإن خالف اللفظ. فمن ذلك: قعد القرفُصاء3, واشتمل الصَمَّاء4, ورجع القهقرى؛ لأنه ضرب من فعله الذي أخذ منه5.
قال أبو العباس قولهم: القرفصاء واشتمل الصمّاء, ورجع القهقرى هذه حلى وتلقيبات لها وتقديرها: اشتمل الشمل التي تعرف بهذا الاسم
__________
1 نحو: ضرب ضربا.
2 انظر الكتاب 1/ 15.
3 قعود القرفصاء: أن يجلس الرجل على إليتيه ويلصق فخذيه ببطنه يحتبي بيديه.
4 اشتمال الصماء: أن يرد الرجل كساءه من قبل يمينه على يده اليسرى وعاتقه الأيسر ثم يرده ثانية من خلفه على يده اليمنى وعاتقه الأيمن فيغطيهما جميعا.
5 انظر الكتاب 1/ 15.

(1/160)


وكذلك أخواتها. قال: وجملة القول: إن الفعل لا ينصب شيئًا إلا وفي الفعل دليل عليه, فمن ذلك المصادر لأنك إذا قلت: قام ففي "قام" دليل على أنه: فعل قيامًا, فلذلك قلت: قام زيد قيامًا فعديته إلى المصدر, وكذلك تعديه إلى أسماء الزمان, لأن الفعل لا يكون إلا في زمان, وتعديه إلى المكان لأنه فيه يقع, وتعديه إلى الحال؛ لأنه لأفعل إلا في حال وأحق ذلك به المصدر, لأنه مشتق من لفظه ودال عليه.
واعلم/164: أنَّ "أنْ" تكون مع صلتها في معنى المصدر, وكذلك "ما" تكون مع صلتها في معناه وذلك إذا وصلت بالفعل خاصة إلا أن صلة "ما" لا بد من أن تكون فيها ما يرجع إلى "ما" لأنها اسم, وما في صلة "أن" لا يحتاج أن يكون معه فيه راجع؛ لأن "أن" حرف والحروف لا يكنى عنها ولا تضمر, فيكون في الكلام ما يرجع إليها, والذي يوجب أن "ما" اسم وأنها ليست حرفًا "كأنْ": أنها لو كانت "كأن" لعملت في الفعل كما عملت "أن" لأنا وجدنا جميع الحروف التي تدخل على الأفعال, ولا تدخل على الأسماء تعمل في الأفعال فلما لم نجدها عاملة حكمنا بأنها اسم, وهذا مذهب أبي الحسن الأخفش وغيره من النحويين1, فتقول: يعجبني أن يقوم زيد, تريد: قيام زيد, ويعجبني ما صنعت, تريد: صنيعك, إلا أن هذين وإن كانا
__________
1 انظر: المقتضب 3/ 200، والكتاب 1/ 367، و1/ 410.
الأخفش يقول: أعجبني ما صنعت، أي: ما صنعته، كما تقول: أعجبني الذي صنعته، ولا يجيز: أعجبني ما قمت، لأنه لا يتعدى، وقد خلط فأجاز مثله. قال المبرد: والقياس والصواب قول سيبويه. والذي يبدو أن رأي المبرد هنا واضح في أنه يرى أن "ما" المصدرية حرف لا اسم، فقد ارتضى مذهب سيبويه وجعله الصواب وضعف مذهب الأخفش ثم رماه بالتخليط. لكن بعد هذا ينسب الرضي والسيوطي إلى المبرد بأنه يرى أن "ما" المصدرية اسم كما يراه الأخفش. وفي شرح الكافية 2/ 51: و"ما" المصدرية حرف عند سيبويه واسم موصول عند الأخفش والرماني والمبرد. وفي الهمع: 1/ 48، الخامس: "ما" خلافا لقوم منهم المبرد والمازني والسهيلي وابن السراج والأخفش في قولهم: إنها اسم، مفتقرة إلى ضمير.

(1/161)


قد يكونان في معنى المصادر فليس يجوز أن يقعا موقع المصدر في/165 قولك: ضربت زيدًا ضربًا, لا يجوز أن تقول: ضربت زيدًا أن ضربت, تريد: ضربًا, ولا ضربت زيدًا ما ضربت, تريد: معنى "ضربًا", وأنت مؤكد لفعلك, ويجوز: ضربت ما ضربت, أي: الضرب الذي ضربت, كما تقول: فعلت ما فعلت, أي: مثل الفعل الذي1 فعلت, وتقول: فعلت ما فعل زيد, أي: كالفعل الذي فعل زيد, فإن لم ترد هذا المعنى فالكلام محال؛ لأن فعلك لا يكون فعل غيرك. قال الله تعالى: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} 2 والتأويل عندهم والله أعلم كالخوض الذي خاضوا.
__________
1 يرى ابن السراج: أن "ما" اسم مفتقر إلى ضمير. وأكثر النحاة يرى أنها إذا كانت بمعنى المصدر لا تحتاج إلى ضمير لأنها حرف، والدليل على أنها حرف: أنها تدخل على الفعل كدخول "أن" ولا خلاف أن "أن" لا تضمر ولا يعود إليها ضمير من صلتها, كذلك يلزم في "ما" لأنها بمنزلتها في دخولها على الفعل وكونها في تأويل المصدر، قال سيبويه 1/ 367: "وما إذا كانت والفعل مصدر بمنزلة إن". وقال: ومثل ذلك أيضا من الكلام فيما حدثنا أبو الخطاب: ما زاد إلا ما نقص وما نفع إلا ما ضر، "فما" مع الفعل بمنزلة اسم نحو: النقصان والضرر، كما أنك إذا قلت: ما أحسن ما كلم زيد فهو ما أحسن كلامه زيدا، ولولا "ما" لم يجز الفعل بعد "إلا" في ذا الموضع كما لا يجوز بعد ما أحسن بغير "ما" وانظر المقتضب 3/ 200.
2 التوبة: 69.

(1/162)


مسائل من هذا الباب:
تقول: ضربته عبد الله, تضمر الضرب, تعني: ضربت الضرب عبد الله ولو قلت ضربت عبد الله ضربًا وضربته زيدًا, ما كان به بأس على أن تضمر المصدر.
واعلم: أنه لا يجوز أن تعمل ضمير المصدر, لا تقول: سرني ضربك عمرًا وهو زيدًا, وأنت تريد: وضربك زيدًا, لأنه إنما يعمل إذا كان على لفطه الذي تشتق الأفعال منه, ألا ترى أن "ضرب" مشتق من الضرب فإنما

(1/162)


يعمل الضرب/ 166 وما أشبهه من المصادر إذا كان ظاهرًا غير مضمر, وإنما يعمل لشبهه بالفعل, فكما أن الفعل لا يضمر, فكذلك المصدر, لا يجوز أن يقع موقع الفعل وهو مضمر, وإنما جاز إضمار المصدر لأنه معنى واحد1, ولم يجز إضمار الفعل لأنه معنى وزمان, ولو أَضمر لصار اسمًا. وتقول: مررت بهم جميعًا, إذا عنيت أنك لم تترك منهم أحدًا, أو: مررت بهم كلًّا, قال الأخفش: كل وجميع ههنا بمنزلة المصادر كأنك قلت: مررت بهم عمًا ومررت بهم كلًّا, أي: مرورًا عمًا وكلًّا, فكل وجميع ههنا بمنزلة المصادر, كأنك قلت: مررت بهم عمًا ومررت بهم عمًا لهم, وكأنك قلت: طررتهم طرًا2 وليس الجميع والكل بالقوم, كما أن الطر والقاطبة ليس بالقوم, يعني إذا قلت: مررت بهم قاطبة وطرًا فكأنك قلت: جمعتهم/ 167 جمعًا, وكذلك في طر كأنك قلت: طررتم, أي: أتيت عليهم طرًا.
وذكر سيبويه: هذا في باب ما ينتصب لأنه حال وقع فيه الخبر وهو اسم. وقال: من ذلك: مررت بهم جميعًا وعامة وجماعة, وقال: هذه أسماء متصرفة ولا يجوز أن يدخل فيها الألف واللام3.
وزعم الخليل: أن قاطبة, وطرًا لا يتصرفان, وهما في موضع المصدر4.
واعلم: أن في الكلام مصادر تقع موقع الحال فتغني عنها وانتصابها انتصاب المصادر نحو قولك: أتاني زيد مشيًا, فقولك: مشيًا قد أغنى عن ماشٍ, ويمشي, إلا أن التقدير: أتاني يمشي مشيًا, فمن ذلك: قتلته صبرًا,
__________
1 لأن الفعل بصيغته يدل على شيئين: الحدث والزمان المحصل، والمصدر يدل بصيغته على شيء واحد وهو الحدث.
2 طرا: متفرقا.
3 الكتاب: جـ1/ 188-189.
4 الكتاب جـ1/ 189.

(1/163)


ولقيته فجأة ومفاجأة, وكفاحًا ومكافحة, [ولقيته] 1 عيانًا, وكلمته مشافهة, وأتيته ركضًا, وعدوًا, وأخذت عنه سماعًا وسمعًا2.
قال سيبويه: وليس كل مصدر يوضع هذا الموضع, ألا ترى أنه لا يحسن: أتانا سرعة ولا رجلة3, قال/ 168 أبو العباس: ليس يمتنع من هذا الباب شيء من المصادر أن يقع موقع الحال إذا كانت قصته هذه القصة4 وخالف سيبويه, وقد جاء بعض هذه المصادر يغني عن ذكر الحال بالألف واللام نحو: أرسلها العراك, والعراك لا يجوز أن يكون حالًا ولا ينتصب انتصاب الحال وإنما انتصب عندي على تأويل: أرسلها تعترك العراك5, فـ"تعترك" حال والمصدر الذي عملت فيه الحال هو العراك, ودل على "تعترك" فأغنى
__________
1 أضفت كلمة "لقيتة" لأن السياق يقتضيها.
2 كل هذه النصوص تشير إلى أن ابن السراج يعرب المصدر حالا بتأويله بوصف. ولكن قد يفهم من هذا النص أنه يعرب المصدر مفعولا مطلقا لفعل محذوف قال هنا: أتاني زيد مشيا "فقولك" مشيا قد أغنى عن ماش، ويمشي، إلا أن التقدير: أتاني يمشي مشيا.
3 انظر الكتاب 1/ 186، والرجلة: المشي راجلا.
4 المقتضب 3/ 244، قال المبرد: ولو قلت: جئته إعطاء لم يجز، لأن الإعطاء ليس من المجيء، ولكن جئته سعيا فهذا جيد، لأن المجيء يكون سعيا. قال الله عز وجل: {ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا} ، فهذا اختصار يدل على ما يرد مما يشاكلها ويجري مع كل صنف منها. وكلام المبرد هنا صريح في أن المصدر يقع بقياس حالا إذا كان نوعا من فعله، وكرر هذا في 3/ 269. انظر حاشية الخضري 1/ 230 والهمع 1/ 238، والأشموني 2/ 61.
5 يرى أن "العراك" نائب عن الحال وليس بحال، وإنما التقدير: أرسلها معتركة، ثم يجعل الفعل موضع اسم الفاعل لمشابهته له فصار "يعترك" ثم جعل المصدر موضع الفعل لدلالته عليه، لأن حقيقة الحال أن تكون بالصفات، ولو صرحت بالصفة لم يجز دخول الألف واللام، ولم تقل العرب: أرسلها المعتركة، ولا جاء زيد القائم لوجود لفظ الحال.

(1/164)


عنه وكذلك: طلبته جهدك1 وطاقتك, كأنك قلت: طلبته تجتهد جهدك, وتطيق طاقتك, أي: تستفرغهما في ذلك.
ومذهب سيبويه أن قولهم: مررت به وحده, وبهم وحدهم, ومررت برجل وحده, أي: مفرد, أقيم مقام مصدر "يقوم" مقام الحال, وقال: ومثل ذلك في لغة أهل الحجاز: مررت بهم ثلاثتهم وأربعتهم إلى العشرة2. وزعم الخليل: أنه إذا نصب3 فكأنه قال: مررت بهؤلاء/ 169 فقط, مثل وحده في معناه, أي: أفرقهم4. وأما بنو تميم فيجرونه على الاسم الأول ويعربونه كإعرابه توكيدًا له.
قال سيبويه: ومثل خمستهم قول الشماخ:
آتتني سُلَيمٌ قَضّها بقضيضِها5....
__________
1 في الكتاب 1/ 187: وهذا ما جاء منه مضافا معرفة. وذلك قولك: طلبته جهدك كأنه قال: اجتهادا وكذلك طلبته طاقتك، وفي المخصص 4/ 227، وأما ما جاء منه مضافا معرفة، فقولك: طلبته جهدك وطاقتك، وفعلته جهدي وطاقتي وهي في موضع الحال، لأن معناه: مجتهدا ولا يستعمل هذا مضافا، لا تقول: فعلته طاقة، ولا جهدا.
2 انظر الكتاب 1/ 187.
3 أي: ثلاثة.
4 انظر الكتاب 2/ 187، ونص الكتاب: وزعم الخليل: أنه إذا نصب ثلاثتهم فكأنه يقول: مررت بهؤلاء فقط ولم أجاوز هؤلاء وكما أنه إذا قال: "وحده فإنما يريد مررت به فقط لم أجاوزه".
5 من شواهد الكتاب 1/ 188. على نصب "قضها" على الحال وهو معرفة بالإضافة لأنه مصدر. وهذا صدر بيت وعجزه:
تمسح حولي بالبقيع سبالها
ورواية الديوان:
وجاءت سليم قضها بقضيضها ...
وسليم: قبيلة امرأة الشماخ.
والقض: أصله الكسر، وقد استعمل الكسر موضع الإنقضاض كقولهم: عقاب كاسر، أي: منقضة، ويروى "قضها بقضيضها" بالرفع والنصب فمن رفع جعله بمعنى التأكيد، ومن نصب جعله كالمصدر.
والبقيع: موضع بمدينة الرسول، والسبال: جمع سبلة وهي مقدمة اللحية، وأراد: أنهم يمسحون لحاهم وهم يهدودنه ويتوعدونه. وقيل: يمسحون لحاهم تأهبا للكلام. وانظر: المقتضب 3/ 363، وشرح السيرافي 3/ 113، والتمام في تفسير أشعار هذيل 72، والأغاني 8/ 100، وجمهرة الأمثال للعسكري 1/ 316، وابن يعيش 2/ 63.

(1/165)


كأنه قال: أنقض آخرهم على أولهم, وبعض العرب يجعل "قضهم" بمنزلة كلهم, يجريه على الوجوه فهذا مأخوذ من الإِنقضاض فقسه على ما ذكرت لك من قبل. وزعم يونس1: أن وحده بمنزلة عنده, وأن خمستهم وقضهم كقولك جميعًا, وكذلك طُرًا وقاطبة.
وجعل يونس نصب وحده كأنك قلت: مررت برجل على حياله فطرحت على2, فأما: "كلهم وجميعهم وعامتهم وأنفسهم وأجمعون" فلا يكون أبدًا إلا صفة إذا أضفتهن إلى المضمرات وتقول: هو نسيج وحدِهِ؛ لأنه اسم مضاف إليه3.
قال الأخفش: كل مصدر قام مقام الفعل ففيه ضمير فاعل وذلك إذا قلت: سقيًا لزيد, وإنما تريد: سقى الله زيدًا, ولو قلت/ 170: سقيا الله زيدًا, كان جيدًا, لأنك قد جئت بما يقوم مقام الفعل, ولو قلت: أكلًا زيد
__________
1 يونس: هو أبو عبد الرحمن الضبي يونس بن حبيب. من تلاميذ أبي عمرو بن العلاء والأخفش الأكبر قيل: إنه صنف كتاب القياس في النحو. مات سنة 182هـ وقيل 152هـ ترجمته في طبقات الزبيدي رقم 17 وابن خلكان رقم 823، والإرشاد لياقوت 7/ 310، ونزهة الألباء 56 وبغية الوعاة 424.
2 انظر الكتاب 1/ 189.
3 لأنه يخبر أنه ليس في مثاله أحد. فلو لم يضف إليه لقال: هذا نسيج إفرادا فالإضافة في الحقيقة إلى المصدر.

(1/166)


الخبز وأنت تأمره, كان جائزًا, كقوله1:
فَنَدْلًا زُريقُ المالَ ندل الثَّعالِبِ
وتقول: ضربتك ضربًا عمرو خالدًا, ومعناه: ضربتك ضرب عمرو خالدًا, فإذا قلت: ضربتك زيد خالدًا, فلا تقدم خالدًا قبل الضرب لأنه في صلته.
قال أبو بكر: وليس هذا مثل قولك: ضربًا زيدًا, وأنت تأمره, لأن ذاك قد قام مقام الفعل فيجوز أن يقدم المفعول فتقول: زيدًا ضربًا, وقد مضى تفسير هذا. وتقول: ضربتك ضرب زيد عمرًا وكذلك: ضربتك ضربك زيدًا, وضربًا أنت زيدًا, إذا جعلته فاعلًا, وضربتك ضربًا إياك زيدًا, إذا جعلته مفعولًا, تريد: ضربًا زيد إياك.
وقال الأخفش: من رد عليك ضربًا زيد عمرًا إذا كنت تأمره أدخلت عليه/ 171 سقيًا له, فقلت له: ألست, إنما تريد سقى الله زيدًا فإنه قائل: نعم فتقول. فكما جاز سقيا له حين أقمت السقي مقام "سقاه" فكذلك تقيم
__________
1 من شواهد سيبويه جـ1/ 59، على نصب "المال" بقوله "ندلا" لأنه بدل من قوله: أندل. كما تقول: ضربا زيدا، بمعنى أضرب زيدا، ويجوز أن تجعل الفعل المضمر هو العامل في "ندل" و"ندل" دال عليه مؤكد له. وإن شئت جعلت نصبه بفعل آخر، كأنه قال: أوقع ندلا ونحوه من التقدير، فيكون العامل فيه غير فعله. وهو عجز بيت صدره:
على حين ألهى الناس جل أمورهم ... فندلا زريق...................
نسبه صاحب فرحة الأديب رقم "40" إلى رجل من الأنصار، قال ذلك في النعمان بن العجلان الزرقي. وزريق من الخوارج. وكان ولاه الإمام علي عنه في البحرين وفي الشعر والشعراء آراء أخرى.
والندل: خطف الشيء بسرعة، وزريق منادى مبني على الضم، والتقدير ندلا يا زريق، وأجاز ابن عقيل رفعه "بندلا".
وقوله: حين ألهى الناس جل أمورهم: أي: حين اشتغل الناس بالفتن والحروب وانظر: شرح السيرافي 1/ 448, والخصائص 1/ 120، والحجة 1/ 108، والجمهرة 2/ 299، والكامل 104، ومعجم مقاييس اللغة 5/ 411.

(1/167)


الضرب مقام "ليضرب" وتقول: ضرب زيد ضربًا, وقتل عمرو قتلًا, فتعدى الفعل الذي بني للمفعول إلى المصدر, كما تعدى الفعل الذي بني للفاعل, لا فرق بينهما في ذلك, فأما المفعول الذي دخل عليه حرف الجر نحو: سيرا بعبد الله فأنت في المصادر والظروف بالخيار إن شئت نصبت المصادر نصبها قبلٌ, وأقمت المفعول الذي دخل عليه حرف الجر مقام الفاعل فقلت: سير بعبد الله سيرًا شديدًا, أقمت "بعبد الله" مقام الفاعل ونصبت "سيرًا" كما تنصبه إذا قلت: سار عبد الله سيرًا شديدًا, وكذلك يجوز في أسماء الزمان والمكان أن تنصبها نصب الظروف في هذه المسألة, ويجوز من أجل شغل حرف الجر بعبد الله أن تقيم المصادر والظروف1 معه مقام الفاعل فترفعها/ 172 إلا أن الأحسن ألا ترفع إذا نعتت أو أفادت معنى سوى التوكيد وقصد الإِخبار عنها, فإذا لم يكن فيها إلا التوكيد نصبت والرفع بعيد جدا تقول: سير بعبد الله سير شديد ومر بعبد الله المرور الذي علمته, وإن شئت نصبت وإنما حسن الرفع لأنك قد وصفت المصدر فصار كالأسماء المفيدة, فأما النصب: فعلى أنك أقمت "بزيد" مقام الفاعل فصار كقولك: ضرب عبد الله الضربَ الذي يعلمُ, وشتم عبد الله الشتمَ الشديد, وكذلك لو قلت: مر بعبد الله مروان, وسير بعبد الله سير شديد لكان مفيدًا. وقال الله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} 2, فإن قلت: سيرَ بعبد الله سيرٌ وسيرًا, وذهب إلى عبد الله ذهابًا, فالنصب الوجه, لأن المصادر موكدة, أما جواز الرفع على بعد إذا قلت: سير بعبد الله, لأنه ليس في قولك: سير
__________
1 ليس كل الظروف، وإنما المتصرف منها، أي: ما يصح وقوعه مسندا إليه، كيوم وليلة، وشهر، ودهر، وأمام، ووراء، ومجلس، وجهة. أما غير المتصرف، فلا يكون إلا ظرفا كحيث، وعورض، وقط، والآن.
2 الحاقة: 13، رفع لما نعت، فإذا أخبر عن "الصور" قال: المنفوخ فيه نفخة واحدة الصور وإن أخبر عن النفخة قال: المنفوخة في الصور نفخة واحدة. المقتضب 3/ 104.

(1/168)


من الفائدة إلا ما في "سير"1 وجوازه على أنك إذا قلتَ: سير بعبد الله سيرٌ, فمعناه: سيرَ بعبد الله ضرب من السير/ 173؛ لأنه لو اختلف لكان الوجه أن تقول: سير بعبد الله سيران أي: سيرٌ سريعٌ وبطيء أو: قديمٌ وحديثٌ وهذا قولُ أبي العباس -رحمه الله-2.
واعلم: أن قولهم ضرب زيد سوطًا, أن معناه: ضرب زيد ضربة بسوط فالسوط هنا قد قامَ مقامَ المصدر, ولذلك لم يجز أن تقيمَ السوطَ مقامَ الفاعلِ, لا يجوز أن تقول:
ضُرِبَ سوطٌ3 زيدًا, كما تقول: أعطى درهم4 عمرًا ...
__________
1 لأنك لم تفد بقولك "سيرا" شيئا لم يكن "سير" أكثر من التوكيد.
2 انظر: المقتضب 3/ 104 و4/ 51.
3 لا يجوز هذا, وذلك أن السوط -إذا قلت: ضربت زيدا سوطا- مصدر ومعناه: ضربت زيدا ضربة بالسوط. ويدلك على ذلك قولك: ضربت زيدا مائة سوط، لست تعني: أنك ضربته بمائة سوط، ولكنك تعني: أنك ضربته مائة ضربة بسوط، أو بأكثر من ذلك من هذا الجنس.
4 لما كان الدرهم مفعولا كعمرو جاز أن تقيمه مقام الفاعل.

(1/169)


شرح الثاني: وهو المفعول به.
قد تقدّم قولنا في المفعول على الحقيقة أنه المصدر, ولما كانت هذه تكون على ضربين: ضرب فيها يلاقي شيئًا ويؤثر فيه. وضرب منه لا يلاقي شيئًا ولا يؤثر فيه, فسمي الفعل الملاقي متعديًا وما لا يلاقي غير متعد. فأما الفعل الذي هو غير متعد فهو الذي لم يلاق مصدره مفعولًا نحو: قام وأحمرَ وطالَ. إذا أردت به ضد قصر خاصةً, وإن أردتَ بِه معنى علا كان متعديًا, والأفعال التي لا تتعدى هي ما كان منها خلقةً أو حركة للجسم/ 174 في ذاته وهيئةً له, أو فعلًا من أفعال النفس غير متشبث بشيء خارج عنها. أما الذي

(1/169)


هو خلقة فنحو: أسوَدَ وأحمرَ, وأعورَ, وأشهابَ, وطالَ وما أشبه ذلك. وأما حركة الجسم بغير ملاقاة لشيء آخر فنحو: قامَ وقعدَ, وسارَ وغارَ, ألا ترى أن هذه الأفعال مصوغة لحركة الجسم وهيئته في ذاته, فإن قال قائل: فلا بد لهذه الأفعال من أن تلاقي المكان وأن تكون فيه. قيل: هذا لا بدَّ منه لكل فعلٍ, والمتعدي وغير المتعدي في هذا سواء وإنما علمنا محيط بأن ذلك كذلك, لأن الفعل يصنع ليدل على المكان كما صيغ ليدل على المصدر والزمان.
وأما أفعال النفس التي لا تتعداها فنحو: كرُمَ, وظَرُفَ, وفَكَر, وغَضِبَ, وخَبرَ, وبَطُرَ, ومَلُحَ, وحَسُنَ, وسمحَ, وما أشبه ذلك. وأما الفعل الذي يتعدى, فكل حركة للجسم كانت ملاقيةً لغيرها وما أشبه ذلك من أفعال النفس وأفعال الحواس من الخمس كلها متعدية ملاقية نحو: نظرت/175 وشممت, وسمعت, وذقت, ولمست, وجميع ما كان في معانيهن فهو متعد, وكذلك حركة الجسم إذا لاقت شيئًا كان الفعلُ من ذلك متعديًا نحو: أتيتُ زيدًا ووطئتُ بلدكَ وداركَ وأما قولك: فارقته وقاطعتهُ, وباريتهُ, وتاركتهُ, فإنما معناه: فعلت كما يفعل وساويت بين الفعلين, والمساواة إنما تعلم بالتلاقي وتركتكَ في معنى تاركتكَ لأن كل شيء تركتهُ فقد ترككَ فافهم هذا فإن فيه غموضًا قليلًا.
وقد اختلف النحويون في: "دخلت البيت" هل هو متعد أو غير متعد, وإنما التبس عليهم ذلك لاستعمال العرب له بغير حرف الجر في كثير من المواضع وهو عندي غير متعد كما قدمناه وإنك لما قلت: دخلت إنما عنيت بذلك انتقالك من بسيط الأرض ومنكشفها إلى ما كان منها غير بسيط منكشف فالانتقال ضربٌ واحدٌ وإن اختلفت المواضع و"دخلت" مثل غرتُ إذا أتيت الغور/ 176 فإن وجب أن يكون "دخلت" متعديًا وجبَ أن يتعدى "غرتُ" ودليلٌ آخر: أنك لا ترى فعلًا من الأفعال يكون متعديًا إلا كان مضاده متعديًا وإن كان غير متعد كان مضادُهُ غير متعد, فَمن ذلك: تحركَ،

(1/170)


وسكنَ, فتحرك غير متعد, وسكنَ غير متعد, وأبيضَ وأسود كلاهما غير متعد, وخرج ضد دخل, وخرج غير متعد فواجب أن يكون دخل غير متعد, وهذا مذهب سيبويه1.
قال سيبويه: ومثل: ذهبت الشام, دخلت البيت2, يعني: أنه قد حذف حرف الجر من الكلام, وكان الأصل عنده: ذهبت إلى الشام ودخلت في البيت. وهما مستعملان بحروف الجر, فحذف حرف الجر, من حذفه اتساعًا واستخفافًا, فإذا قلت: ضربتُ وقتلتُ, وأكلتُ وشربت, وذكرتُ, ونسيتُ وأحيا وأماتَ فهذه الأفعال ونحوها هي المتعدية إلى /177 المفعولين, نحو: ضربتُ زيدًا, وأكلتُ الطعامَ, وشربتُ الشراب, وذكرتُ الله, واشتهيتُ لقاءك, وهويتُ زيدًا وما أشبه هذا من أفعال النفس المتعدية, فهذا حكمه, ولا تتمُ هذه الأفعال المتعدية, ولا توجد إلا بوجود المفعول, لأنك إن قلت: ذكرت, ولم يكن مذكور فهو محال, وكذلك. اشتهيت وما أشبههُ.
واعلم: أن هذا إنما قيل له مفعول به, لأنه لما قال القائل: ضَرَبَ وقتل قيل له: هذا الفعل بمنْ وقع؟ فقال: بزيدٍ أو بعمروٍ فهذا إنما يكون في المتعدي نحو ما ذكرنا, ولا يقال فيما لا يتعدى نحو: قام وقعد لا يقال هذا القيام بمن وقع؟ ولا هذا القعود بمن حل؟ إنما يقال: متى كان هذا القيام؟ وفي أي وقت؟ وأين كان؟ وفي أي موضع؟ والمكان والزمان لا يخلو فعلٌ منهما متعديًا كان أو غير متعد فمتى وجدتَ فعلًا حقه أن يكون غير متعد بالصفة التي ذكرتُ لك ووجدتَ العرب قد عدتهُ, فاعلمْ, أن ذلك اتساعٌ في اللغة واستخفاف/ 178 وأن الأصلَ فيه أن يكون متعديًا بحرف جر, وإنما حذفوه استخفافًا نحو ما ذكرت لك من: ذهبت الشام, ودخلت البيت وسترى هذا في مواضع من هذا الكتاب.
__________
1 انظر الكتاب 1/ 15.
2 انظر الكتاب: 1/ 15-16.

(1/171)


وهذه الأفعال المتعدية تنقسم ثلاثة أقسام: منها ما يتعدى إلى مفعول واحد ومنها ما يتعدى إلى مفعولين ومنها ما يتعدى إلى ثلاثة مفاعيل, فأما ما يتعدى إلى مفعول واحد فقد ذكرنا منه ما فيه كفاية, ونحن نتبعه بما يتعدى إلى مفعولين وإلى ثلاثة بعد ذكرنا مسائل هذا الباب إن شاء الله.

(1/172)


مسائل من هذا الباب:
اعلم: أن الأفعال لا تثنى ولا تجمع, وذلك لأنها أجناس كمصادرها, ألا ترى أنك تقول: بلغني ضربكم زيدًا كثيرًا, وجلوسكم إلى زيد قليلًا, كان الضربُ والجلوس قليلًا أو كثيرًا, وإنما يثنى الفاعل في الفعل, فإن قلت فإنك تقول: ضربتكَ ضربتين وعلمتُ علمتين, فإنما ذلك لاختلاف النوعين من ضرب يخالف ضربًا/ 179 في شدته وقلتِه أو علم يخالف علمًا, كعلمِ الفقهِ وعلمِ النحوِ, كما تقولُ: عندي تمور إذا اختلفت الأجناس, ومع ذلك فإن الفعل يدل على زمان, فلا يجوز أن تثنيه كما ثنيت المصدر وإن اختلفت أنواعه فالفعل لا بد له من الفاعل يليه بعده إما ظاهرًا وإما مضمرًا ولا يجوز أن يثنى ولا يجمع لما بينت لك فإذا قلت: الزيدان يقومان, فهذه الألف ضمير الفاعلين والنون علامة الرفع وإذا قلت: الزيدون يقومون فهذه الواو ضمير الجمع والنون علامة الرفع ويجوز: قاموا الزيدون ويقومون الزيدون على لغة من قال: أكلوني البراغيث1, فهؤلاء إنما يجيئون بالألف والنون وبالواو والنون في: يضربان ويضربون وبالألف والواو في: ضربا وضربوا فيقولون: ضربا الزيدان وضربوا الزيدون ليعلموا أن هذا الفعل لاثنين لا لواحد ولا لجميع ولا لاثنين ولا لواحد, كما أدخلت التاء في فِعلِ المؤنثِ لتفصل بين فعل المذكر والمؤنث, فكذلك هؤلاء زادوا بيانًا
__________
1 أي: أن الواو في "أكلوني" علامة تفيد الجمع وليست ضميرا للفاعل، بل إنها جاءت للفرق بين الواحد والجماعة.

(1/172)


ليفرقوا بين/ 180 فِعْلِ الاثنين وبين الواحد والجميع وهذا لعمري هو القياس على ما أجمعوا عليه في التاء من قولهم: قامت هند وقعدت سلمى, ولكن هذا أدى إلى إلباس إذ كان من كلامهم التقديم والتأخير, فكأن السامع إذا سمع قاموا الزيدون لا يدري هل هو خبر مقدم والواو فيه ضمير, أم الواو عمل الجمع فقط غير ضمير, وكذلك الألف في "قاما الزيدان" فلهذا وغيره من العلل ما جمع على التاء ولم يجمع على الألف والواو فجاز في كل فعل لمؤنث تقول: فعلت ولا يحسنُ سقوطها. إلا أن تفرق بين الاسم والفعل1, فإذا بعُد منه حسن نحو قولهم: حضر اليوم القاضي امرأة.
وقال أبو العباس -رحمه الله: إن التأنيث معنى لازم غير مفارق, إذا لزم المعنى لزمت علامته وليس كذا التثنية والجمع لأنه يجوز أن يفترق الاثنان والجمع فتخبر عن كل واحد منهما2 على حياله3, والتأنيث الحقيقي الذي لا يجوز فعله إلا بعلامة التأنيث هو كل مؤنث له/ 181 ذكر كالحيوان نحو قولك: قامت أمة الله ونتجت فرسك والناقة, إلا أن يضطر شاعر فيجوز له حذف العلامة على قبح, فإن كان التأنيث في الاسم ولا معنى تحته فأنت مخير إن شئت جئت بالتاء لتأنيث اللفظ وإن شئت حذفتها. قال الله عز وجل: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} 4 "قالوا" لأن الموعظة والوعظ سواء،
__________
1 المقتضب 2/ 148. قال المبرد: وأما: لقد ولد الأخيطل أم سوء فإنما جاز للضرورة في الشعر جوازا حسنا، ولو كان مثله في الكلام لكان عند النحويين جائزا على بعد، وجوازه للتفرقة بين الاسم والفعل بكلام، فتقديرهم أن ذلك الكلام صار عوضا من علامة التأنيث نحو: حضر القاضي اليوم امرأة، ونزل دارك ودار زيد جارية.
2 في الأصل "منهم".
3 انظر المقتضب جـ2/ 147.
4 البقرة: 275، وهي قراءة الجمهور، وقد قرأ أبي بن كعب والحسن البصري على الأصل: أي: فمن جاءته موعظة، انظر البحر المحيط جـ5/ 294.
قال سيبويه: إنما جاءوا بالتاء للتأنيث لأنها ليست علامة إضمار كالواو والألف، وإنما هي كتاء التأنيث في "كلمة" وليست باسم وقال بعض العرب: قال فلانة، وكلما طال الكلام فهو أحسن نحو قولك: حضر القاضي امرأة، لأنه إذا طال الكلام كان الحذف أجمل.

(1/173)


وقال تعالى: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} 1, لأن الصيحة والصوت واحد أما قوله تعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ} 2, فإنما جاء على تقدير جماعة فهو تأنيث الجمع ولا واحد لزمه التأنيث فجمع عليه, فلو كان تأنيث الواحد للزمه التاء كما تقول: قامت المسلمات, لأنه على "مسلمة" وتقول: قامت الرجال لأنه تأنيث الجمع.
واعلم: أن الفاعل لا يجوز أن يُقدم على الفعل إلا على شرط الابتداء خاصة, وكذلك ما قام مقامه من المفعولين الذين لم يسم من فَعَلَ بهم, فأما المفعول إذا كان الفعل متصرفًا فيجوز تقديمُه وتأخيره, تقول: ضربت/ 182 زيدًا, وزيدًا ضربتُ, وأكلت خبزًا, وخبزًا أكلت, وضَرَبَتْ هند عمرًا, وعمرًا ضَرَبَتْ هند, وغلامُك أخرج بكرًا, وبكرًا أخرج غلامك, وتقول: أشبع الرجلين الرغيفان, ويكفي الرجلين الدرهمان وتقول: حرق فاه الخل, لأن الخل هو الفاعل وتقول: أعجب ركوبك الدابة زيدًا فالكاف في قولك: "ركوبك" مخفوضة بالإِضافة وموضعها رفع والتقدير: أعجب زيدًا أن رَكِبت الدابة فالمصدر يجر ما أُضيف إليه فاعلًا كان أو مفعولًا ويجري ما بعده على الأصل فإضافته إلى الفاعل أحسن, لأنه له كقول الله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْض} 3. وإضافته إلى المفعول حسنة لأنه
__________
1 هود: 67.
2 يوسف: 30، "والنسوة اسم جمع عند سيبويه. قال 2/ 89" وليس نسوة بجمع كسر له واحد وانظر ص/ 142، وكذلك عند المبرد في المقتضب 2/ 292، قال: لأن نسوة من امرأة بمنزلة نفر من رجل. ويرى أبو حران: أنها جمع تكسير للقلة لا واحد له من لفظه. انظر البحر المحيط 5/ 299 وهذا مذهب ابن السراج كما ترى.
3 البقرة: 251.

(1/174)


به اتصل وفيه حل. تقول: أعجبني بناءُ هذه الدار, وما أحسن خياطةَ هذا الثوب, فعلى هذا يقول: أعجب ركوبُ الفرس عمرو زيدًا أردت: أعجب أن رَكِبَ الفرس عمرو زيدًا. فالفرس وعمرو وركب في صلة/ 183 أن وزيد منتصب بـ"أعجب" خارج عن الصلة تقدمه إن شئت قبل "أعجب" وإن شئت جعلته بين أعجب والركوب وكذلك: عجبت من دق الثوبِ القصارُ, فإن نونت المصدر أو أدخلت فيه ألفًا ولامًا امتنعت إضافته فجرى كل شيء على أصله, فقلت: أعجب ركوبٌ زيدٌ الفرس عمرًا, وإن شئت قلت: أعجب ركوبٌ الفرسَ زيدٌ عمرًا, ولا يجوز أن تقدم الفرس ولا زيدًا قبل الركوب, لأنهما من صلته فقد صارا1 منه كالياء والدال من زيد. وتقول: ما أعجب شيء شيئًا إعجاب زيدٍ ركوبُ الفرسِ عمرو نصبت "إعجاب", لأنه مصدر وتقديره: ما أعجب شيء شيئًا إعجابا مثل إعجاب زيد ورفعت الركوب بقولك: أعجب لأن معناه: كما أعجب زيدًا أن ركب الفرس عمروٌ. وتقول: أعجب الأكلُ الخبزَ زيدٌ عمرًا على ما وصفت لك وعلى ذلك قال الله تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ, يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَة} 2, التقدير: أو أن أُطعم. لقوله/ 184 وما أدراك. وتقول: أعجب بيعُ طعامِك رخصُه المشتريه فالتقدير: أعجب أن باع طعامك رخصه الرجل المشتريه. فالرخص هو الذي باع الطعام وتقول: أعجبني ضربُ الضارب زيدًا عبدَ الله رفعت الضرب, لأنه فاعل بـ"أعجبني" وأضفته إلى الضارب, ونصبت زيدًا لأنه مفعول في صلة الضارب, ونصبت عبد الله بالضرب الأول وفاعله "الضارب" المجرور وتقديره: أعجبني أن ضرب الضارب زيدًا عبد الله. وتقول: أعجب إعطاءٌ الدراهم أخاك غلامك أباك نصبت أباك بـ"أعجب" وجعلت غلامك هو الذي أعطى الدراهم أخاك. وتقول: ضَرْبَ الضاربِ عمرًا المكرم زيدًا أحبَّ أخواك نصبت ضرب الأول بـ"أحب" وجررت
__________
1 في الأصل "صار".
2 البلد: 14-15.

(1/175)


"الضارب" بالإِضافة وعديته إلى "عمرو" ونصبت المكرم زيدًا بضرب الأول, فإن أردت أن لا تعديه إلى عمرو قلت: ضرْبَ الضاربِ المكرمَ زيدًا أحبَّ أخواك, وهذا كله في صلة الضرب لأنك أضفته إلى الضارب/ 185 وسائر الكلام إلى قولك "أحب" متصل به. وتقول: سر دفعك إلى المعطي زيدًا دينارًا درهمًا القائم في داره عمرو1, نصبت القائم "بسر" ورفعت عمرًا بقيامه, ولو قلت: سرّ دفعكَ إلى زيدٍ درهمًا ضربكَ عمرًا كان محالًا, لأن الضرب ليس مما يسرُّ2, ولو قلت: وافق قيامُك قعود زيد, صلح, ومعناه أنهما اتفقا في وقت واحد ولو أردت "بوافق" معنى الموافقة التي هي الإِعجاب لم يصلح إلا في الآدميين.
__________
1 بيان هذه المسألة: أن يكون سر فعلا ماضيا ودفعك مصدرا مرفوعا لأنه فاعل سر، وإلى المعطي، من صلة المصدر والمعطي صلة وموصول وآخره قولك: دينارا، وقولك "درهما" من صلة الدفع وهو آخر صلته، والقائم مفعول سر وهو صلة وموصول، وقولك في "داره" من صلة القائم. وعمرو فاعل القائم وهو آخر صلته والهاء من داره تعود إلى الألف واللام. انظر المقتضب 1/ 20.
2 وكذلك لو قلت: أعجب قيامك قعودك، كان خطأ، انظر المقتضب 1/ 21.

(1/176)


باب الفعل الذي يتعدى إلى مفعولين:
الفعل الذي يتعدى على مفعولين ينقسم إلى قسمين: فأحدهما يتعدى إلى مفعولين ولك أن تقتصر على أحدهما دون الآخر. والآخر يتعدى إلى مفعولين وليس لك أن تقتصر على أحدهما دون الآخر, فأما الذي يتعدى إلى مفعولين ولك أن تقتصر على أحدهما دون الآخر فقولك: أعطى عبد الله زيدًا درهمًا, وكسا عبد الله بكرًا ثوبًا فهذا الباب الذي يجوز فيه الاقتصار على/ 186 المفعول الأول, ولا بد أن يكون المفعول الأول فاعلًا فيه في المعنى بالمفعول الثاني, ألا ترى أنك إذا قلت: أعطيت زيدًا درهمًا فزيد المفعول الأول. والمعنى: أنك أعطيته فأخذ الدرهم والدرهم مفعول في المعنى لزيد وكذلك: كسوت زيدًا ثوبًا المعنى: أنّ زيدًا اكتسى الثوب ولبسه.
والأفعال التي تتعدى إلى مفعول واحد كلها إذا نقلتها من "فَعلَ" إلى "أفْعَلَ" كانت من هذا الباب تقول: ضرب زيدًا عمرًا ثم تقول: أضربت زيدًا عمرًا أي: جعلت زيدًا يضرب عمرًا, فعمرو في المعنى مفعول لزيد فهذه هي الأفعال التي يجوز لك فيها الاقتصار على المفعول الأول, لأن الفائدة واقعة به وحده تقول: أعطيت زيدًا ولا تذكر ما أعطيته فيكون كلامًا تاما مفيدًا. وتقول: أضربت زيدًا ولا تقول لمن أضربته.
واعلم: أن من الأفعال ما يتعدى إلى مفعولين/ 187 في اللفظ وحقه أن يتعدى إلى الثاني بحرف جر, إلا أنهم استعملوا حذف حرف الجر فيه

(1/177)


فيجوز فيه الوجهان في الكلام. فمن ذلك قوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا} 1 وسميته زيدًا وكنيت زيدًا أبا عبد الله ألا ترى أنك تقول: اخترت من الرجال وسميته بزيد وكنيته بأبي عبد الله ومن ذلك قول الشاعر:
أستغفرُ اللَه ذَنْبًا لَسْتُ مُحصيهُ ... رَبَّ العبادِ إليهِ الوجهُ والعَملُ2
وقال عمرو بن معد يكرب:
أَمَرْتُكَ الخَيْرَ فَافعَلْ ما أُمِرْتَ بهِ ... فقدْ تركتُكَ ذَا مالٍ وذَا نَشَبِ3
__________
1 الأعراف: 155.
2 من شواهد سيبويه 2/ 17 على أنه سمع حذف الجار من ثاني مفعولي -استغفر- الذي تعدى إليه بوساطة الحرف. أراد من ذنب، فحذف الجار وأوصل الفعل فنصب.
والذنب: هنا اسم جنس بمعنى الجمع، فلذلك قال: لست محصية. والوجه: القصد، والمراد، وهو بمعنى التوجه.
ولم ينسب هذا البيت لقائل معين، وانظر المقتضب 2/ 321 و331، والخصائص 3/ 347، وابن يعيش 7/ 63 و8/ 51، والصاحبي لابن فارس 151، ومعاني القرآن 2/ 314، وأدب الكاتب/ 530، والكامل للمبرد/ 209، وأمالي السيد المرتضى 3/ 47.
3 من شواهد سيبويه 1/ 17، على حذف حرف الجر من "الخير". وروى: أمرتك الرشد.. والنشب: المال الثابت كالضياع وغيرها، وهو من نشب الشيء إذا ثبت في موضع ولزمه، وكأنه أراد بالمال هنا الإبل خاصة، فلذلك عطف عليه النشب وقيل: النشب: جميع المال، فيكون على هذا التقدير عطفه على الأول مبالغة وتوكيدا، وسوغ ذلك اختلاف اللفظين: وتركتك: إذا كانت بمعنى: صيرتك، كان "ذا مال" مفعولا ثانيا، وإذا كانت بمعنى: "خلفتك" كان حالا، وقد للتحقيق.
واختلف في نسبة هذا البيت، فسيبويه نسبه إلى معد يكرب كما فعل ذلك ابن السراج. وغيرهما نسبه إلى عدد من الشعراء، كإياس بن عامر وزرعة بن السائب وخفاف بن ندبة، والعباس بن مرداس، وأعشى طرود "بوزن مبرد" انظر المقتضب 2/ 36، 86، 321، 231، وأمالي ابن الشجري 1/ 365، 2/ 240، وابن يعيش 2/ 44، و8/ 50، والكامل/ 32، والمؤتلف والمختلف/ 17، وشروح سقط الزند 4/ 1833.

(1/178)


أراد: أستغفر الله من ذنب, وأمرتك بالخير ومن ذلك: دعوته زيدًا إذا أردت دعوته التي تجري مجرى سميته, وإن عنيت الدعاء إلى أمر لم يجاوز مفعولًا واحدًا فأصل هذا دخول الباء, فإذا حذف حرف الجر عمل الفعل ومنه: نبئت زيدًا تريد: عن زيد وأنشد سيبويه في حذف حرف الجر قول المتلمس:
آليتُ/ 188حَبَّ العراقِ الدَّهرَ أطعمُهُ ... والحَبُّ يأكلُهُ في القريةِ السُّوسُ1
وقال: تريد على حب العراق2. وقد خولف في ذلك.
قال أبو العباس: إنما هو: آليت أطعم حب العراق, أي: لا أطعم,
__________
1 من شواهد سيبويه 1/ 17 "على انتصاب" حب العراق ... على التوسع، إذ التقدير: على حب العراق فحذف الخافض ونصب ما بعده ولم يجعله من "باب زيدا ضربته" والتقدير: أطعمه. وهذه الجملة جواب لـ"آليت" فإن معناه. حلفت، و"لا" لها الصدر فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها، وما لا يعمل لا يفسر في هذا الباب عاملا. وضمير الخطاب في آليت عائد إلى عمرو بن هند الذي أقسم ألا يذوق المتلمس قمح العراق، أي لا يأتيها. ومعنى الشطر الثاني: أن القمح مبتذل ميسور والبخل به قبيح، وأراد بالقرية: الشام، وبالحب: البر. والمتلمس: هو جرير بن عبد المسيح.
انظر شرح السيرافي 1/ 28، والمغني 1/ 103، و2/ 152، والشعر والشعراء 1/ 182، وجمهرة أشعار العرب/ 113، وروايته: آكله بدلا من أطعمه. ورواية سيبويه والأعلم "بالقرية" والديوان/ 180 ط - ليبزك.
ورواية الديوان: بالقرية السوس، والهمع 1/ 162، والمفصل للزمخشري 2/ 291، وأمالي السيد المرتضى 1/ 130.
2 انظر الكتاب 1/ 17، جعل انتصاب حب العراق على التوسع وإسقاط الخافض وهو "على".

(1/179)


كما تقول: والله أبرح ههنا, أي: لا أبرح. وخالفه أيضًا في نبَّأْتُ زيدًا فقالَ: زيدًا معناهُ: أعلمتَ زيدًا ونبَّأْتُ زيدًا معناه: أعلمتُ زيدًا.
واعلم: أنه ليس كل فعل يتعدى بحرف جر لك أن تحذف حرف الجر منه وتعدي الفعل إنما هذا يجوز فيما استعملوه وأُخذ سماعًا عنهم ومن ذلك قول الفرزدق:
مِنَا الَّذي اخْتِيرَ الرِّجَالَ سَمَاحَةً ... وُجودًا إذا هَبَّ الرِّيَاحُ الزَّعَازعُ1
والقسم الثاني: وهو الذي يتعدى إلى معفولين وليس لك أن تقتصر على أحدهما دون الآخر هذا الصنف من الأفعال التي تنفذ منك إلى غيرك ولا يكون من الأفعال المؤثرة وإنما هي أفعال تدخل على المبتدأ والخبر فتجعل الخبر/ 189 يقينًا أو شكا, وذلك قولك: حسب عبد الله زيدًا بكرًا وظن عمروٌ خالدًا أخاك وخال عبد الله زيدًا أباك وعلمت زيدًا أخاك ومثل ذلك: رأى عبد الله زيدًا صاحبنا إذا لم ترد رؤية العين. ووجد عبد الله زيدًا ذا الحفاظ إذا لم ترد التي في معنى وجدان الضالة2. ألا ترى أنك إذا قلت: ظننت عمرًا منطلقًا فإنما شكك في انطلاق عمرو لا في عمروٍ, وكذلك إذا
__________
1 من شواهد الكتاب 1/ 81 على جواز نيابة ثاني مفعولي "اختار" والأصل: اختير زيد الرجال أو من الرجال، فنصب "الرجال" على نزع الخافض، والزعازع: جمع زعزع كجعفر، وهي الريح التي تهب بشدة، عني بذلك الشتاء. وسماحة وجودا: مصدران منصوبان على المفعول لأجله كأنه قيل: اختير من الرجال لسماحته وجوده، ويجوز أن يكونا حالين أو تمييزين. وأراد بقوله: منا أباه غالبا، فإنه كان جوادا. ورواية الديوان والمقتضب كرواية المصنف: "منا" بالخرم لحذف الواو. انظر المقتضب 4/ 330، والهمع 1/ 162، والكامل/ 21 ط ليبزك، والديوان/ 516.
2 في الكتاب 1/ 18 فإن قلت: رأيت فأردت رؤية العين أو وجدت فأردت وجدان الضالة فهو بمنزلة ضربت ولكنك إنما تريد بوجدت علمت وبرأيت ذلك أيضا.

(1/180)


قلت: علمت زيدًا قائمًا, فالمخاطب إنما استفاد قيام زيدٍ لا زيدًا لأنه يعرف زيدًا كما تعرفه أنت, والمخاطبُ والمُخاطِبُ في المفعول الأول سواء, وإنما الفائدة في المفعول الثاني, كما كان في المبتدأ والخبر الفائدة في الخبر لا في المبتدأ, فلما كانت هذه الأفعال إنما تدخل على المبتدأ والخبر والفائدة في الخبر والمفعول الأول هو الذي كان مبتدأ والمفعول الثاني هو الذي كان الخبرَ بقيَ موضعُ الفائدةِ على حالهِ.
واعلم: أن كل فعل متعد لك ألاّ تعديه وسواء عليك أكان يتعدى إلى مفعول واحد أو إلى مفعولين أو إلى ثلاثة/ 190 لك أن تقول: ضربت ولا تذكر المضروب لتفيد السامع أنه قد كان منك ضرب. وكذلك ظننت يجوز أن تقول: ظننت وعلمت إلى أن تفيد غيرك ذلك.
واعلم: أن ظننت وحسبت وعلمت وما كان نحوهن لا يجوز أن يتعدى واحد منها إلى أحد المفعولين دون الآخر لا يجوز: ظننت زيدًا وتسكت حتى تقول: "قائمًا" وما أشبه. من أجل أنه إنما يدخل على المبتدأ والخبر فكما لا يكون المبتدأ بغير خبر كذلك: "ظننت" لا تعمل في المفعول الأول بغير مفعول ثانٍ. فأما قولهم: ظننت ذاك, فإنما جاز السكوت عليه, لأنه كناية عن الظن يعني المصدر1 فكأنه قال: ظننت ذاك الظن فـ"ذاك": إشارة إلى المصدر تعمل الظن فيه كما تعمل الأفعال التي لا تتعدى في المصدر إذا قلت: قمت قيامًا ويجوز إذا لم تعد: ظننت أن تقول: ظننت به تجعله موضع ظنك, كما تقول: نزلت به ويجوز لك أن تلغي الظن إذا توسط الكلام أو تأخر وإن/ 191 شئت أعملته تقول: زيدٌ ظننت منطلق. وزيدٌ منطلقٌ ظننت فتلغي الظن إذا تأخر ولا يحسن الإِلغاء إلا مؤخرًا, فإذا ألغيت فكأنك قلت: زيدٌ منطلق في ظني ولا يحسن أن تلغيَهُ إذا تقدم.
__________
1 في الكتاب 1/ 18 "وأما ظننت ذاك" فإنما جاز السكوت عليه لأنك تقول: ظننت فتقتصر كما تقول: ذهبت، ثم تعمله في الظن كما تعمل ذهبت في الذهاب فـ"ذاك" ههنا هو الظن، كأنك قلت: ظننت ذاك الظن.

(1/181)


مسائل من هذا الباب:
تقول: ظننته أخاك قائمًا, تريد: ظننت الظن, فتكون الهاء كناية عن الظن كأنك قلت: ظننت أخاك قائمًا الظن, ثم كنيتَ عن الظن وأجاز بعضهم: ظننتها أخاك قائمًا يريد: الظنة, وكذلك إن جعلت الهاء وقتا أو مكانًا على السعة, تقول: ظننت زيدًا منطلقًا اليوم, ثم تكني عن اليوم فتقول: ظننت زيدًا منطلقًا فيه, ثم تحذف حرف الجر على السعة فتقول: ظننته زيدًا منطلقًا, تريد: ظننت فيه والمكان كذلك وإذا ولي الظن حروف الاستفهام وجوابات القسم بطل في اللفظ عمله وعمل في الموضع تقول: علمت أزيدٌ في الدار أم عمرو وعلمت إن زيدًا لقائم وأخال/ 192 لعمرو أخوك, وأحسب ليقومن زيد, ومن النحويين من يجعل ما ولا كـ"أَنْ" واللام في هذا المعنى فيقول: أظن ما زيد منطلقًا وأحسب لا يقوم زيد لأنه يقول: والله ما زيد محسنًا ووالله لا يقوم وزيد. وتقول: ظننته زيدٌ قائمٌ تريد ظننت الأمر والخبر وهذا الذي يسميه الكوفيون المجهول1. وتقول ظننته هند قائمة فتذكر لأنك تريد الأمر والخبر وظننته
__________
1 يطلق عند الكوفيون على الضمير الذي لم يتقدمه ما يعود عليه، ويسميه البصريون ضمير الشأن والقصة والحديث، ولا خلاف بين الفريقين في مأخذ التسمية فكلاهما يريد به ضميرا لا يعود على شيء تقدم عليه في الذكر، وإنما يعود على الجملة التالية له. ويرى البصريون أن ضمير الشأن إنما يتقدم جملة يكون هو كناية عنها، وتكون هي خبرا عنه، انظر شرح المفصل 3/ 114 ومؤدى هذا الكلام: أن خبره يكون جملة دائما، إلا أن الفراء وسائر الكوفيين يرون جواز الإخبار عنه بالمفرد فيجيزون نحو: كان قائما زيد، وكان قائما الزيدان، وكان قائما الزيدون، ولا يكون هذا الضمير عند الفراء مستأنفا به حتى يكون قبله "إن" أو بعض أخوات كان أو ظن، ولذلك كان يرد على الكسائي زعمه أن "هو" من قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} هو المجهول أو ضمير الشأن، وكان يرى أنه ضمير اسم الله تعالى، وكان يقول: قال الكسائي فيه قولا لا أراه شيئا، لأن الكسائي كان يوافق البصريين على أنه ضمير الشأن.
انظر معاني القرآن ورقة 222 وشرح المفصل 3/ 114.

(1/182)


تقوم هند, ويجوز في القياس: ظننتها زيد قائم, تريد: القصة1. ولا أعلمه مسموعًا من العرب. فأما الكوفيون فيجيزون تأنيث المجهول وتذكيره إذا وقع بعده المؤنث, يقولون: ظننته هند قائمة, وظننتها هند قائمة وتقول: ظننته قائم زيد والهاء كناية عن المجهول. والكوفيون يجيزون إذا ولي هذه الهاء فعل دائم2 النصب, فيقولون: ظننته قائمًا زيدٌ ولا أعرف لذلك وجهًا في القياس ولا السماع من العرب/ 193 وتقول: زيدٌ أظنُّ منطلقٌ فتلغي "أظنُّ" كما عرفتك. وتقول: خلفكَ أحسبُ عمروٌ قامَ وقائمٌ أظن زيد فتلغي, وإن شئت أَعملت والكوفيون لا يجيزون إذا تقدمه ماضٍ أو مستقبل أن يعملوا3. ويجيزون أن يعمل إذا تقدمه اسم أو صفة, والإِلغاء عندهم أحسن.
قال أبو بكر وذلك عندنا سواء. قال الشاعر:
أَبالأراجيزِ يابنَ اللُّؤمِ تُوعِدُني ... وفي الأَراجِيزِ خلتُ اللومُ والخورُ 4
__________
1 أي: ضمير المجهول أو الشأن.
2 المراد بالفعل الدائم: اسم الفاعل على رأي الكوفيين والبصريين معا.
3 في الأصل يعلموا فيها تقديم وتأخير في الحروف.
4 من شواهد سيبويه 1/ 61 "على رفع" اللؤم والخور "بعد" "خلت" لما تقدم عليها من الخبر ونوى فيها من التأخير. والتقدير: وفي الأراجيز اللؤم والخور خلت ذلك. والبيت: للعين المنقري، منازل ابن زمعة من بني منقر يهجو رؤبة بن العجاج، وقيل: يهجو العجاج نفسه. وبيت اللعين هذا من قصيدة رويها لام، وقبل الشاهد:
أني أنا ابن جلا إن كنت تعرفني ... يا رؤب والحية الصماء في الجبل
أبالأراجيز ... ... ........
على أن في بيت الشاهد إقواء وهو اختلاف حركة الروي. وهكذا رواه السيوطي في الهمع 1/ 153، وروى أيضا:
وفي الأراجيز رأس القول والفشل
وليس في هذه الرواية إقواء، ولكنها لا شاهد فيها. وقوله: يا رؤب، فإن أصله: يا رؤبة فرخم بحذف التاء، وهذا يؤيد ما ذهب إليه جماعة من أن اللعين يهجو بهذه الكلمة رؤبة لا أباه العجاج. وقوله: أبالأراجيز: فإنه يعني القصائد المرجزة الجارية على بحر الرجز. والخور: الضعف. وتوعدني: تتهددني. وانظر شرح السيرافي 1/ 253، وابن يعيش 7/ 84، والمفصل للزمخشري 261، وأمالي السيد المرتضى 4/ 90.

(1/183)


فألغى: "خلتُ" ويلغي المصدر كما يلغي الفعل, وتقول: عبد الله ظني قائم وفي ظني وفيما أظن وظنا مني, فهذا يلغي وهو نصب تريد: أظن ظنا وإذا قلت: في ظني "ففي" من صلة كلامك جعلت ذلك فيما تظن.
وحكي عن بعضهم: أنه جعله من صلة خبر عبد الله لأن قيامه فيما يظن, وتقول: ظننت زيدًا طعامَكَ آكلًا, وطعامكَ ظننت زيدًا آكلًا. ولا يجوز: ظننت طعامك زيدًا آكلًا, من حيث قبح: كانت زيدًا الحمّى تأخذ, وهذه/ 194 المسألة توافق: كانتْ زيدًا الحمى تأخذُ من جهة وتخالفها من جهة, أما الجهة التي تخالفها فإن "كانت" خالية من الفاعل وظننت معها الفاعل, والفعل لا يخلو من الفاعل. والتفريق بينه وبين الفاعل أقبح منه بينه وبين المفعول. والذي يتفقان فيه أن "كان" تدخل على مبتدأ وخبر وظننت تدخل على مبتدأ وخبر, فهما يستويان من هذه الجهة. وقد فرقت بينهما وبين ما عملا فيه بما لم يعملا فيه. فإن أعملت: "ظننت" في مجهول جاز كما جاز في "كان" ورفعت زيدًا وخبره فقلت: ظننته طعامك زيدٌ آكلٌ ويجوز: ظننته آكل زيد طعامك ويجوز في قول الكوفيين نصب آكل.
وقد أجاز قوم من النحويين: ظننت عبد الله يقوم وقاعدًا وظننت عبد الله قاعدًا ويقوم. ترفع "يقوم" وأحدهما نسق على الآخر. ولكن إعرابهما مختلف, وهو عندي قبيح من أجل عطف الاسم على الفعل, والفعل على الاسم لأن العطف أخو التثنية/ 195 فكما لا يجوز أن ينضم فعل إلى اسم في تثنية, كذلك لا يجوز في العطف ألا ترى أنك إذا قلت: زيدان, فإنما معناه: زيد وزيد فلو كانت الأسماء على لفظ واحد لاستغني عن العطف,

(1/184)


وإنما احتيج إلى العطف لاختلاف الأسماء, تقول: جاءني زيد وعمرو لما اختلف الاسمان ولو كان اسم كل واحد منهما عمرو لقلت: جاءني العمران, فالتثنية نظير العطف, ألا ترى أنه يجوز لك أن تقول: جاءني زيد وزيد فحق الكلم التي يعطف بعضها على بعض أن يكون متى اتفقت ألفاظها جاز تثنيتها, وما ذكروا جائز في التأويل لمضارعة "يَفْعَلُ" لفاعل وهو عندي قبيح لما ذكرت لك. وتقول: ظن ظانا زيدًا أخاك عمرو تريد: ظن عمرو ظانا زيدًا أخاك رفعت عمرًا وهو المفعول الأول إذ قام مقام الفاعل ونصبت "ظانا", لأنه المفعول الثاني فبقي على نصبه. ويجوز أن ترفع ظانا وتنصب عمرًا فتقول: ظن ظان زيدًا أخاك عمرًا كأنك قلت/ 196: ظن رجل ظان زيدًا أخاك عمرًا فترفع "ظانا" بأنه قد قام مقام الفاعل وتنصب زيدًا أخاك به وتنصب عمرًا, لأنه مفعول "ظن". وهو خبر ما لم يسم فاعله وتقول: ظن مظنون عمرًا زيدًا. كأنك قلت: ظن رجل مظنون عمرًا زيدًا فترفع "مظنون" بأنه قام مقام الفاعل وفيه ضمير رجل والضمير مرتفع بـ"مظنون" وهو الذي قام مقام الفاعل في مظنون وعمرًا منصوب بـ"مظنون" وزيدًا منصوب بـ"ظن". وتقول: ظن مظنون عمرو أخاه زيدًا كأنك قلت: ظن رجل مظنون عمرو أخاه زيدًا و"مظنون" في هذا وما أشبهه من النعوت يسميه الكوفيون خلفًا1, يعنون أنه خلف من اسم. ولا بد من أن يكون فيه راجع إلى الاسم المحذوف. والبصريون يقولون: صفة قامت مقام
__________
1 أقسام الكلمة عند الفراء أكثر من الثلاثة المعروفة، فقد جعل كلمة "كلا" ليست قسما خاصا بين الأسماء والأفعال، فهي ليست باسم، كما أنها ليست بفعل، وبالطبع ليست بحرف كما هو واضح من كلامه في طبقات الزبيدي 145، وقال صاحب التصريح 1/ 25: بأنها تمثل عند الفراء قسما مستقلا، وربما كان هذا القسم هو الذي أطلق عليه اسم الخالفة لأنه يطلق على ما يسمى عند البصريين باسم الفعل، وما اسم الفعل إلا كلمة هي بين الأسماء والأفعال لوجود علامات كل منهما فيهما، فكلمة "كلا" واسم الفعل يشتركان في هذه الصيغة ولهذا نرى أنهما قسم واحد هو الذي أطلق عليه الكوفيون اسم الخالفة.

(1/185)


الموصوف والمعنى واحد, فيرفع "مظنون" بأنه قام مقام الفاعل وهو ما لم يسم فاعله وترفع عمرًا بـ"مظنون" لأنه قام مقام الفاعل في مظنون. ونصبت أخاه بـ"مظنون"/ 197 ورجعت الهاء إلى الاسم الموصوف الذي "مظنون" خلف منه ونصبت زيدًا بـ"ظن" فكأنك قلت: ظن رجل زيدًا ولو قتل: ظن مظنون عمرو أخاك زيدًا لم يجز لأن التأويل: ظن رجل مظنون عمرو أخاك زيدًا فـ"مظنون" صفة لرجل ولا بد من أن يكون في الصفة أو فيما تشبثت به الصفة ما يرجع إلى رجل. وليس في هذه المسألة ما يرجع إلى رجل فمن أجل ذلك لم يجز ويجوز في قول الكوفيين: ظن زيد قائمًا أبوه على معنى أن يقوم أبوه. ولا يجيز هذا البصريون لأنه نقض لباب "ظن" وما عليه أصول الكلام وإنما يجيز هذا الكوفيون فيما عاد عليه ذكره. وينشدون:
أظنُّ ابنَ طُرثُوثٍ عُتيبةُ ذَاهِبًا ... بعَاديتي تكذابُهُ وجَعائلُه1
__________
1 العادية: البئر القديمة. والجعائل: جمع جعالة، وهي هنا الرشوة، والشاهد لذي الرمة. وكان قد اختصم هو وابن طرثوث في بئر فأراد أن يقضي له بها. ورواية الديوان: لعل ابن طرثوب: انظر معاني القرآن 1/ 415. والديوان 1/ 473.

(1/186)


باب الفعل الذي يتعدى إلى ثلاثة مفعولين:
اعلم: أن المفعول الأول في هذا الباب هو الذي كان فاعلًا في الباب الذي قبله فنقلته من فَعَلَ إلى "أفعلَ" فصار الفاعل مفعولًا, وقد بينت هذا فيما تقدم, تقول/ 198 رأى زيد بشرًا أخاك, فإذا نقلتها إلى "أفعل" قلت: أرى الله زيدًا بشرًا أخاك, وأعلم الله زيدًا بكرًا خير الناس. وقد جاء "فَعَلْتُ" في هذا النحو تقول: نبأت زيدًا عمرًا أبا فلان ولا يجوز الإِلغاء في هذا الباب, كما جاز في الباب الذي قبله لأنك إذا قلت: علمت وظننت وما أشبه ذلك فهي أفعال غير واصلة, فإذا قلت: "أعلمت" كانت واصلة فمن هنا حسن الإِلغاء في "ظننت وعلمت"ولم يجز إلغاء: "علمت" لأنك إذا "ظننت", فإنما هو شيء وقع في نفسك لا شيء فعلتَه. وإذا قلت: "أعلمت" فقد أثرت أثرًا أوقعته في نفس غيرك. ومع ذلك فإن: "ظننت وعلمت" تدخلان على المبتدأ والخبر فإذا ألغينا بقي الكلام تاما مستغنيًا بنفسه تقول: زيدًا ظننت منطلقًا, فإذا ألغيت: "ظننت" بقي زيد ومنطلق فقلت: زيد منطلق ثم تقول "ظننت" والكلام مستغن والملغى نظير المحذوف, فلا يجوز أن يلغى من الكلام ما إذا حذفته بقي الكلام غير تام ولو ألغيت: "أعلمت ورأيت" من/ 199 قولك: أريت زيدًا بكرًا خير الناس وأعلمت بشرًا خالدًا شر الناس -والملغى كالمحذوف- لبقي زيد بكر خير الناس فزيد بغير خبر والكلام غير مؤتلف ولا تام.

(1/187)


واعلم: أن هذه الأفعال المتعدية كلها ما تعدى منها إلى مفعول وما تعدى منها إلى اثنين وما تعدى منها إلى ثلاثة إذا انتهت إلى ما ذكرت لك من المفعولين, فلم يكن بعد ذلك متعدي, تعدت إلى جميع ما يتعدى إليه الفعل الذي لا يتعدى الفاعل إلى مفعول من المصدر والظرفين والحال1, وذلك قولك: أعطى عبد الله زيدًا المال إعطاء جميلًا, وأعلمت هذا زيدًا قائمًا العلم اليقين إعلامًا لما انتهت صارت بمنزلة ما لا يتعدى.
__________
1 في الكتاب 1/ 19 قال سيبويه: واعلم: أن هذه الأفعال إذا انتهت إلى ما ذكرت لك من المفعولين فلم يكن بعد ذلك متعدي تعدت إلى جميع ما تعدى إليه الفعل الذي لا يتعدى الفاعل وذلك قولك: أعطى عبد الله زيدا المال إعطاء جميلا.

(1/188)


مسائل من هذا الباب:
تقول: سرقت عبد الله الثوب الليلة1, فتعدى "سَرَقْتُ" إلى ثلاثة مفعولين, على أن لا تجعل "الليلة" ظرفًا, ولكنك تجعلها مفعولًا على السعة في اللغة كما تقول: يا سارق الليلة زيدًا الثوب. فتضيف "سارقًا" إلى الليلة وإنما تكون الإِضافة إلى الأسماء/ 200 لا إلى الظروف وكذلك حروف الجر, إنما تدخل على الأسماء لا على الظروف فكل منجر بجار عامل فيه فهو اسم وتقول: أعلمت زيدًا عمرًا هندٌ معجبها هو. كان أصل الكلام: علم زيدًا عمرًا هند معجبها هو. فزيد مرفوع بـ"عَلَم" وعمرو منصوب بأنه المفعول الأول وهند مرتفعة بالابتداء "ومعجبها" هو الخبر و"هو" هذه كناية عن عمرو وراجعة إليه فلم يجز أن تقول: معجبها ولا تذكر "هو", لأن أسماء الفاعلين إذا جرت على غير من هي له لم يكن بد من إظهار الفاعل. وقد بينا هذا فيما تقدم و"هند" وخبرها الجملة بأسرها قامت مقام المفعول الثاني وموضعها نصب فإذا نقلت "علم" إلى "أعلمت" صار زيد مفعولًا فقلت: أعلمت زيدًا عمرًا هند معجبها هو, فإن قيل لك أكن عن "هند معجبها هو"
__________
1 قال سيبويه 1/ 19 إذا قلت: سرقت عبد الله الثوب الليلة لا تجعله ظرفا ولكن كما تقول: يا سارق الليلة زيدا الثوب، لم تجعلها ظرفا.

(1/188)


قلت: أعلمت زيدًا عمرًا إياه, لأن موضع الخبر نصب. وهذا إذا كنيت عن معنى الجملة لا عن الجملة وتقول: أعلمته زيدًا أخاك قائمًا, تريد: أعلمت العلم فتكون الهاء كناية/ 201 عن المصدر كما كانت في "ظننته زيدًا أخاك" فإن جعلت الهاء وقتًا أو مكانًا على السعة جاز كما كان في "ظننته" وقد فسرته في باب مسائل "ظننت". ومن قال ظننته زيد قائم: فجعل الهاء كناية عن الخبر والأمر وهو الذي يسميه الكوفيون المجهول1, لم يجز له أن يقول في "أعلمت زيدًا عمرًا خير الناس" أعلمته زيدًا عمرو خير الناس لما خبرتك به من أنه يبقى زيد بلا خبر, وإنما يجوز ذلك في الفعل الداخل على المبتدأ والخبر, فلا يجوز هذا في "أعلمت", كما لا يجوز الإِلغاء لأنك تحتاج إلى أن تذكر بعد الهاء خبرًا تاما يكون هو بجملته تلك الهاء والأفعال المؤثرة لا يجوز أن يضمر فيها المجهول, إنما تذكر المجهول مع الأشياء التي تدخل على المبتدأ والخبر نحو: كان وظننت وأن وما أشبه ذلك2. ألا ترى أن تأويل: ظننته زيد قائم, ظننت الأمر والخبر زيد قائم وكذلك إذا قلت: إنَّه زيد قائم فالتأويل: أن الأمر زيد قائم وكذلك: كان زيد قائم إذا كان فيها مجهول التأويل/ 202 كان الأمر زيد قائم ولا يجوز أن تقول: أعلمت الأمر ولا أريت الأمر هو ممتنع من جهتين: من جهة أن زيدًا يكون بغير خبر يعود إليه, ولو زدت في المسألة أيضًا ما يرجع إليه ما جاز من الجهة الثانية. وهي أنه لا يجوز: أعلمت الخبر خبرًا إنما يعلم المستخبر وتقول: أعلمت عمرًا زيدًا ظانا بكرًا أخاك كأنك قلت: أعلمت عمرًا زيدًا رجلًا ظانا بكرًا أخاك. فإن رددت إلى ما لم يسم فاعله قلت: أعلم عمرو زيدًا ظانا بكرًا أخاك ولك أن تقيم "زيدًا" مقام الفاعل وتنصب عمرًا فتقول: أعلم زيد عمرًا ظانا بكرًا أخاك ولا يجوز: أعلم ظان بكرًا أخاك.
__________
1 يطلق الكوفيون على الضمير الذي لم يتقدمه ما يعود عليه ضمير المجهول الذي يسميه البصريون ضمير الشأن والقصة.
2 انظر معاني القرآن/ 222. ورقة.

(1/189)


عمرًا زيدًا. من أجل أن حق المفعول الثالث أن يكون هو الثاني في المعنى, إذ كان أصله المبتدأ والخبر وقد تقدم تفسير ذلك, فإن كان عمرو هو زيد له اسمان جاز وجعلته/ 203 هو على أن يغني غناه, ويقوم مقامه, كما تقول: زيد عمرو, أي: إن أمره وهو يقوم مقامه جازَ, وإلا فالكلام محالٌ, لأن عمرًا لا يكون زيدًا.

(1/190)


شرح الثالث: وهو المفعول فيه:
المفعول فيه ينقسم على قسمين: زمان ومكان, أما الزمان, فإن جميع الأفعال تتعدى إلى كل ضرب منه معرفة كان أو نكرة. وذلك أن الأفعال صيغت من المصادر بأقسام الأزمنة كما بينا فيما تقدم, فما نصب من أسماء الزمان فانتصابه على أنه ظرف, وتعتبره بحرف الظرف أعني. "في" فيحسن معه فتقول: قمت اليوم, وقمت في اليوم, فأنت تريد معنى "في" وإن لم تذكرها, ولذلك سميت -إذا نصبت- ظروفًا؛ لأنها قامت مقام "في" ألا ترى أنك إذا قلت: قمت اليوم, ثم قيل لك: أكن عن اليوم قلت: قمت فيه1, وكذلك: يوم الجمعة ويوم الأحد والليلة وليلة السبت وما أشبه ذلك وكذلك: نكراتها نحو قولك: قمت يومًا وساعة وليلة وعشيا وعشيةً وصباحًا ومساءً/ 204. فأما سحر إذا أردت به سحر يومك وغدوة وبكرة هذه الثلاثة الأحرف, فإنها لا تتصرف2, تقول: جئتك اليوم سحر وغدوة وبكرة يا هذا وسنذكرها في موضعها فيما يتصرف وما لا يتصرف إن شاء الله.
وكل ما جاز أن يكون جواب "متى" فهو زمان ويصلح أن يكون ظرفًا.
__________
1 قال المبرد في المقتضب 4/ 330 واعلم: أن هذه الظروف المتمكنة -يعني التي يصح أن تقع مسندا إليه يجوز أن تجعلها أسماء فتقول: يوم الجمعة قمته في موضع قمت فيه، والفرسخ سرته، ومكانكم جلسته، وإنما هذا اتساع، والأصل ما بدأنا به لأنها مفعول فيها، وليست مفعولا بها، وإنما هذا على حذف حرف الإضافة.
2 أي: إنها لا تقع مسندا إليه، فلا تكون إلا ظرفا.

(1/190)


للفعل. يقول القائل: متى قمت؟ فتقول: يوم الجمعة, ومتى صمت؟ فتقول: يوم الخميس, ومتى قدم فلان؟ فتقول: عام كذا وكذا, وكل ما كان جواب متى فالعمل يجوز أن يكون في بعضه وفي كله يقول القائل: متى سرت؟ فتقول: يوم الجمعة, فيجوز أن يكون سرت بعض ذلك اليوم, ويجوز أن يكون قد سرت اليوم كله "وكم". من أجل أنها سؤال عن عدد تقع على كل معدود والأزمنة مما يعد فهي يسأل بها عن عدد الأزمنة فيقول القائل: كم سرت؟ فتقول: ساعة أو يومًا أو يومين ولا يسأل "بكم" إلا عن نكرة "ومتى" لا يسأل بها إلا عن معرفة أو ما قارب المعرفة يقول القائل/ 205: كم سرت؟ فتقول: شهرين أو شهرًا أو يوما ولا يجوز أن تقول: الشهر الذي تعلم ولا اليوم الذي تعلم لأن هذا من جواب "متى". وأما قولهم: سار الليل والنهار والدهر والأبد فهو وإن كان لفظه لفظ المعارف فهو في جواب "كم", ولا يجوز أن يكون جواب "متى", لأنه إنما يراد به التكثير وليست بأوقات معلومة محدودة فإذا قالوا: سِيرَ عليه الليل والنهار فكأنهم قالوا: سِيرَ عليه دهرًا طويلًا وكذلك الأبد فإنما يراد به التكثير والعدد وإلا فالكلام محال.
وذكر سيبويه: أن المحرم وسائر أسماء الشهور أجريت مجرى الدهر والليل والنهار وقال لو قلت: شهر رمضان أو شهر ذي الحجة كان بمنزلة يوم الجمعة أو البارحة ولصار جواب "متى"1 فالمحرم عنده بلا ذكر "شهر" يكون في جواب "كم" فإن أضفت شهرًا إليه صار في جواب "متى" وحجته في ذلك استعمال العرب له لذلك قال: وجميع ما ذكرت لك مما يكون مجرى على "متى" يكون مجرى على "كم" ظرفًا2 / 206 وغير ظرف. وبعض ما يكون في "كم" لا يكون في "متى" نحو: الدهر والليل والنهار3.
__________
1 انظر الكتاب 1/ 111.
2 الكتاب 1/ 111. والنص: وجميع ما ذكرت لك مما يكون على "متى" يكون مجرى على كم ظرفا وغير ظرف.
3 انظر الكتاب 1/ 111.

(1/191)


واعلم: أن أسماء الأزمنة تكون على ضربين: فمنها ما يكون اسمًا ويكون ظرفًا ومنها ما لا يكون إلا ظرفًا, فكل اسم من أسماء الزمان فلك أن تجعله اسمًا وظرفًا إلا ما خصته العرب بأن جعلته ظرفًا وذلك ما لم تستعمله العرب مجرورًا ولا مرفوعًا. وهذا إنما يؤخذ سماعًا عنهم فمن ذلك: "سحر" إذا كان معرفة غير مصروف تعني به: سحر يومك لا يكون إلا ظرفًا وإنما يتكلمون به في الرفع والنصب والجر [و] 1 بالألف واللام2 أو نكرة وكذلك تحقير سحر إذا عنيت: سحر يومك لم يكن إلا ظرفًا. تقول: سير عليه سحيرًا وتصرفه لأن "فعيلًا" منصرف حيث كان. ومثله ضحى إذا عنيت: ضحى يومك وصباحًا وعشية وعشاء إذا أردت: عشاء يومك فإنه لم يستعمل إلا ظرفًا وكذلك: ذات مرة/ 207 وبعيدات بينَ3 وبكرًا4 وضحوة إذا عنيت ضحوة يومك وعتمة إذا أردت: عتمة ليلتك وذات يوم وذات مرة وليل ونهار إذا أردت: ليل ليلتك ونهار نهارك وذو صباح ظرف. قال سيبيويه: أخبرنا بذلك يونس إلا أنه قد جاء في لغة لخثعم: ذات ليلة وذات مرة5 أي: جاءتا مرفوعتين فيجوز على هذا أن تنصب نصب المفعول على السعة.
__________
1 أضيفت واوا لأن المعنى يحتاجها.
2 انظر الكتاب 1/ 115.
3 في اللسان: أبو عبيد، يقال: لقيته بعيدات إذا لقيته بعد حين، وقيل: بعيدات بين، أي بعيد فراق وذلك إذا كان الرجل يمسك عن إتيان صاحبه الزمان ثم يأتيه ثم يمسك عنه نحو ذلك أيضا ثم يأتيه.
4 البكر: بمعنى البكرة كما في اللسان.
5 انظر الكتاب 1/ 115 قال سيبويه: أخبرنا بذلك يونس عن العرب، إلا أنه قد جاء في لغة لخثعم مفارقا لذات مرة وذات ليلة، وأما الجيدة العربية فأن يكون بمنزلتها، وقال رجل من خثعم:
عزمت على إقامة ذي صباح ... لشيء ما يسود من يسود
فهو على هذه اللغة، يجوز فيه الرفع.

(1/192)


واعلم: أن العرب قد أقامت أسماء ليست بأزمنة مقام الأزمنة اتساعًا واختصارًا وهذه الأسماء تجيء على ضربين:
أحدهما: أن يكون أصل الكلام إضافة أسماء الزمان إلى مصدر مضاف فحذف اسم الزمان اتساعًا نحو: جئتك مقدم الحاج, وخفوق النجم وخلافة فلان وصلاة العصر1, فالمراد في جميع هذا: جئتك وقت مقدم الحاج ووقت خفوق النجم ووقت خلافة فلان ووقت صلاة العصر.
والآخر: أن يكون اسم الزمان موصوفًا فحذفا اتساعًا وأُقيم الوصف مقام الموصوف/ 208 نحو: طويل وحديث وكثير وقليل وقديم وجميع هذه الصفات إذا أقمتها مقام الأحيان لم يجز فيها الرفع ولم تكن إلا ظروفًا وجرت مجرى ما لا يكون إلا ظرفًا من الأزمنة فأما قريب فإن سيبويه أجاز فيه الرفع وقال: لأنهم يقولون: لقيته مذ قريب وكذلك ملى, قال: والنصب عندي عربي كثير2. فإن قلت: سير عليه طويل من الدهر, وشديد من السير فأطلقت الكلام ووصفته, كان أحسن وأقوى وجاز3.
قال أبو بكر: وإنما صار أحسن إذا وصف لأنه يصير كالأسماء, لأن الأسماء هي التي توصف وكل ما كان من أسماء الزمان يجوز أن يكون اسمًا, وأن يكون ظرفًا فلك أن تنصبه نصب المفعول على السعة تقول: قمت اليوم وقعدت الليلة فتنصبه نصب "زيد" إذا قلت: ضربت زيدًا ويتبين لك هذا في الكناية أنك إذا قلت: قمت اليوم فتنصبه نصب المفعول على
__________
1 قال سيبويه 1/ 114: هذا باب ما يكون فيه المصدر حينا لسعة الكلام والاختصار وذلك قولك: متى سير عليه، فيقول: مقدم الحاج وخفوق النجم وخلافة فلان وصلاة العصر، فإنما هو: زمن مقدم الحاج وحين خفوق النجم ولكنه على سعة الكلام والاختصار.
2 الكتاب 1/ 116. ونص سيبويه: وقد يحسن أن تقول: سير عليه قريب، لأنك تقول: لقيته مذ قريب، والنصب عربي كثير جيد.. ومن ذلك ملى من النهار والليل، تقول: سير عليه ملى والنصب فيه كالنصب في قريب.
3 انظر الكتاب 1/ 117.

(1/193)


السعة فكنيت/ 209 عنه قلت: قمته وإذا نصبته نصب الظروف قلت: قمت فيه. وإذا وقع موقع المفعول جاز أن يقوم مقام الفاعل فيما لم يُسَم فاعلُهُ. ألا تراهم قالوا: صِيد عليه يومان وولد له ستون عامًا1.
__________
1 انظر الكتاب 1/ 114.

(1/194)


مسائل من هذا الباب:
تقول: يوم الجمعة القتال فيه, فيوم الجمعة مرفوع بالابتداء, والقتال فيه الخبر, والهاء راجعة إلى يوم الجمعة وإذا أضمرته وشغلت الفعل عنه خرج من أن يكون ظرفًا, والظروف متى كني وتحدث عنها زال معنى الظرف, ويجوز: يوم الجمعة القتال فيه, على أن تضمر فعلًا قبل يوم الجمعة يفسره القتال فيه, كأنك قلت: القتال يوم الجمعة القتال فيه, هذا مذهب سيبويه1 والبصريين فلك أن تنصبه نصب الظروف ونصب المفعول.
وتقول: اليوم الصيام, واليوم القتال فترفع الصيام والقتال بالابتداء, واليوم خبر الصيام والقتال, واليوم منصوب بفعل محذوف, كأنك قلت: الصيام يستقر اليوم/ 210 أو يكون اليوم, وما أشبه ذلك, ولا يجوز أن تقول: زيدٌ اليوم, ويجوز أن تقول: الليلة الهلال2. وقد بينا هذا فيما تقدم عند ذكرنا خبر المبتدأ.
وتقول: اليوم الجمعة واليوم السبت, لأنه عمل في اليوم, فإن جعلته اسم اليوم رفعت. فأما: اليوم الأحد واليوم الاثنان إلى الخميس فحق هذا الرفع لأن هذه كلها أسماء لليوم ولا يكون عملًا فيها3 وإنما كان ذلك في الجمعة والسبت لأن الجمعة بمعنى الاجتماع والسبت بمعنى الانقطاع.
__________
1 انظر الكتاب 1/ 114 و208.
2 في الكتاب 1/ 208 وإن قلت: الليلة الهلال واليوم القتال نصبت، التقديم والتأخير في ذلك سواء، وإن شئت رفعت فجعلت الآخر الأول، وكذلك: اليوم الجمعة، واليوم السبت وإن شئت رفعت.
3 انظر الكتاب 1/ 208.

(1/194)


وتقول: اليومُ رأس الشهر, واليومَ رأس الشهر, أما النصب فكأنك قلت: اليوم ابتداء الشهر وأما الرفع فكأنك قلت: اليوم أول الشهر فتجعل اليوم هو الأول. وإذا نصبت فالثاني غير الأول.
واعلم: أن أسماء الزمان تضاف إلى الجمل وإلى الفعل1 والفاعل وإلى الابتداء والخبر, تقول: هذا يوم يقوم زيد, وأجيئك يوم يخرج الأمير, وأخرج يوم عبد الله/ 211 أمير وتقول: إن يوم عبد الله أمير زيدًا جالس, تريد: أن زيدًا جالس يوم عبد الله أمير, فإن جعلت في أول كلامك "فيه" قلت: إن يومًا فيه عبد الله خارج زيدًا مقيم فتنصب "زيدًا" بـ"أن" و"مقيم" خبره و"يومًا" منتصب بأنه ظرف لـ"مقيم" و"فيه عبد الله خارج" صفة ليوم فإن قلت: إن يومًا فيه عبد الله خارج زيد فيه مقيم, خرج اليوم من أن يكون ظرفًا وصار اسمًا لـ"أَنَّ" وإنما أخرجه من أن يكون ظرفًا: أنك جئت "بفيه" فأخبرت عنه: بأن إقامة زيد فيه, فـ"فيه" الثانية أخرجته عن أن يكون ظرفًا, لأنها شغلت مقيمًا عنه, ولم تخرجه "فيه" الأولى من أن يكون ظرفًا, لأنها من صلة الكلام الذي هو صفة "لليوم" فالصفة لا تعمل في الموصوف فيكون متى شغلتها خرج الظرف عما هو عليه, وإنما دخلت لتفصل بين يوم خرج فيه عبد الله وبين يوم لم يخرج فيه فقولك: يوم الجمعة قمت فيه بمنزلة قولك: زيد مررت به لا فرق في الإِخبار عنهما وتقول: ما اليوم خارجًا فيه عبد الله وما يوم خارج/ 212 فيه عبد الله منطلقًا فيه زيد. وتقول: ما يومًا خارجًا فيه زيد منطلق عمرو, فتنصب يومًا بأنك جعلته ظرفًا للانطلاق ونصبت "خارجًا", لأنه صفة لليوم, وأما "منطلق" فإنما رفعته لأنك قدمت خبر "ما".
ومن قال: يا سَارِقَ اللَّيلةِ أَهْلَ الدَّارِ2
__________
1 الكتاب 1/ 461، والمقتضب 2/ 347.
2 من شواهد سيبويه 1/ 89 على إضافة "سارق" إلى الليلة ونصب "أهل" للاتساع في الظروف فنصبت نصب المفعول به. وكان بعض النحويين ينصب "الليلة" ويخفض "أهل" فيقول: يا سارق الليلة أهل الدار
ونقل البغدادي عن ابن خروف: أن أهل الدار منصوب بإسقاط الجار ومفعوله الأول محذوف والمعنى: يا سارق الليلة لأهل الدار متاعا، فسارق متعد لثلاثة: أحدها: الليلة على السعة، والثاني: بعد إسقاط حرف الجر، والثالث: مفعول حقيقي. وجميع الأفعال متعديها ولازمها يتعدى إلى الأزمنة الثلاثة والأمكنة. قال البغدادي وفيه نظر. وهذا الرجز لم ينسبه أحد لقائل معين.
وانظر: الحجة لأبي علي 1/ 14، والمحتسب 2/ 295، وأمالي ابن الشجري 2/ 250، والمفصل للزمخشري/ 45، وشرح الحماسة/ 655، ومعاني الفراء 2/ 80، وابن يعيش 2/ 45.

(1/195)


فجر "الليلة" وجعلها مفعولًا بها على السعة, فإنه يقول: أما الليلة فأنت سارقها زيدا, وأما اليوم فأنتَ آكله خبزًا, وهذان اليومان أنا ظانهما زيدًا عاقلًا, لأنه قد جعله مفعولًا به على السعة ولا تقول: اليوم أنا معلمه زيدًا بشرًا منطلقًا, لأنه لا يكون فعل يتعدى إلى أربعة مفاعيل فيشبه هذا به, وقد أجازه بعض الناس. وتقول على هذا القياس: أما الليلة فكأنها زيدٌ منطلقًا, وأما اليوم فليسه زيد منطلقًا, وأما الليلة فليس زيد إياها منطلقًا, وأما اليوم, فكأنه زيد منطلقًا, وأما اليوم فكان زيد إياه منطلقًا تريد في جميع هذا: "في" فتحذف على السعة ولا تقول: أما اليوم فليته زيدًا منطلق/ 213 تريد: ليت فيه؛ لأن "ليت" ليست بفعل ولا هذا موضعَ مفعولٍ فيتسع فيهِ. وجميع هذا مذهب الأخفش.
وذكر الأخفش أنه يجوز: أما الليلة فما زيد إياها منطلقًا, لأن "ما" مشبه بالفعل قال: لم يجوزه في "ما" فهو أقيس؛ لأن "ما" وإن كانت شبهت بالفعل فليست كالفعل.
قال أبو بكر: وهو عندي لا يجوز البتة. وتقول: الليلة أنا أنطلقها,

(1/196)


تريد: أنا أن أنطلق فيها. وتقول: الليلة أنا منطلقها تريد: أنا منطلق فيها ولا يجوز: الليلة أنا إياها منطلق ولا: اليوم نحن إياه منطلقون تريد: نحن منطلقون فيه ولا يجوز: أما اليوم فالقتال إياه تريد فيه, وأما الليلة فالرحيل إياها تريد: فيها لأن السعة والحذف لا يكونان1 فيه, كما لا سعة فيه ولا حذف في جميع أحواله. قال الأخفش: ولو تكلمت به العرب لأجزناه.
__________
1 في الأصل "يكون".

(1/197)


ذكر المكان:
اعلم: أن الأماكن ليست كالأزمنة التي يعمل فيها كل فعل فينصبها نصب/ 214 الظروف, لأن الأمكنة: أشخاص له خلق وصور تعرف بها كالجبل والوادي, وما أشبه ذلك, وهن بالناس أشبه من الأزمنة لذلك وإنما الظروف منها التي يتعدى إليها الفعل الذي لا يتعدى ما كان منها مبهمًا خاصة, ومعنى المبهم أنه هو الذي ليست له حدود معلومة تحصره. وهو يلي الاسم من أقطاره نحو: خلف وقدام وأمام ووراء وما أشبه ذلك, ألا ترى أنك إذا قلت: قمت خلف المسجد لم يكن لذلك الخلف نهاية تقف عندها, وكذلك إذا قلت: قدام زيد. لم يكن لذلك حد ينتهي إليه فهذا وما أشبهه هو المبهم الذي لا اختلاف فيه أنه ظرف.
وأما مكة والمدينة والمسجد والدار والبيت فلا يجوز أن يكن ظروفًا, لأن لها أقطارًا محدودة معلومة تقول: قمت أمامك وصليت وراءك, ولا يجوز أن تقول: قمت المسجد/ 215 ولا قعدت المدينة ولا ما أشبه ذلك, والأمكنة تنقسم قسمين منها ما استعمل اسمًا يتصرف في جميع الإِعراب وظرفًا ومنها ما لا يرفع ولا يكون إلا ظرفًا. فأما الظروف التي تكون اسمًا فذكر سيبويه: أنها خلفك, وقدامك, وأمامك, وتحتك, وقبالتك, ثم قال:

(1/197)


وما أشبه ذلك, وقال: ومن ذلك: هو ناحيةً من الدار. ومكانًا صالحًا وداره ذات اليمين وشرقي كذا وكذا. قال: وقالوا: منازلهم يمينًا وشمالًا وهو قصدك وهو حلَةَ الغور, أي: قصده وهما خطان جنابتي أنفهما يعني الخطين اللذين اكتنفا أنف الظبية وهو موضعه ومكانه صددك ومعناه القصد وسقبك1 وهو قربك وقرابتك2 ثم قال: واعلم: أن هذه الأشياء كلها قد تكون اسمًا غير ظرف بمنزلة زيد وعمرو3.
وحكى: هم قريب منك وقريبًا4 منك وهو وزن الجبل أي: ناحية منه, وهو زنة الجبل أي: حذاءه, وقُرابَتك وقُربكَ/ 216 وحواليه بنو فلان, وقومك أقطار البلاد, قال: ومن ذلك قول أبي حية:
إذَا ما نَعَشْنَاهُ علَى الرَّحْلِ يَنثني ... مُسالَيْهِ عنهُ مِنْ وراءٍ ومُقدَمِ5
مسالاة: عطفاه6.
ومما يجري مجرى ما ذكره سيبويه من الأسماء التي تكون ظروفًا, فرسخ
__________
1 سقبك: قربك، يقال: سقبت الدار واسقبت إذا قربت.
2 يقال: هم قرابتك في العلم: أي: قريبا منك.
3 انظر الكتاب 1/ 204.
4 قال سيبويه: ومن ذلك قول العرب: هم قرابتك، أي: قربك يعني المكان، وهم قرابتك في العلم، أي: قريبا منك في العلم، فصار هذا بمنزلة قول العرب: هو حذاءه وإزاءه وحواليه بنو فلان. الكتاب 1/ 204.
5 نصب مساليه على الظرف والتقدير: ينثني في مساليه، أي: في عطفيه وناحيتيه، وسميا مسالين، لأنهم أسيلا، أي: سهلا في طول وانحدار فهما كمسيل الماء، وصف الشاعر راكبا أدام السرى حتى غشيه النوم، وغلبه، فجعل ينثني في عطفيه من مقدم الرحل ومؤخره. ومعنى: نعشناه رفعناه، ومنه سمي النعش نعشا لحمله على الأعناق والهاء في عنه راجعة على الرحل، أي: ينثني عن الرحل من وراه ومقدم.
انظر الكتاب 1/ 205، وشرح السيرافي 2/ 136.
6 الكتاب 1/ 204-205.

(1/198)


وميل. تقول: سرت فرسخًا وفرسخين وميلًا وميلين, فإن قال قائل: ففرسخ وميل موقت معلوم فلم جعلته مبهمًا؟ قيل له: إنما يراد بالمبهم ما لا يعرف له من البلاد موضع ثابت ولا حدود من الأمكنة, فهذا إنما يعرف مقداره. فالإِبهام في الفرسخ والميل بعد موجود, لأن كل موضع يصلح أن يكون من الفرسخ والميل فافهم الفرق بين المعروف الموضع والمعروف القدر, وكذلك ما كان من الأمكنة مشتقا من الفعل نحو: ذهبت المذهب البعيد, وجلست المجلس الكريم.
وأما الظروف التي لا ترفع: فعند وسوى, وسواء إذا أردت بهما معنى "غير" لم تستعمل إلا ظروفًا. قال سيبويه: إن/ 217 سواءك بمنزلة مكانك, ولا يكون اسمًا إلا في الشعر1. ودل على أن سواءك ظرف أنك تقول: مررت بمن سواءك, والفرق بين قولك: عندك وخلفك أن خلفك تعرف بها الجهة وعندك لما حضرك من جميع أقطارك, وكذلك سواءك لا تخص مكانًا من مكان فبعدًا من الأسماء لاستيلاء الإِبهام عليهما.
واعلم: أن الظروف أصلها الأزمنة والأمكنة ثم تتسع العرب فيها للتقريب والتشبيه, فمن ذلك قولك: زيد دون الدار وفوق الدار إنما تريد: مكانًا دون الدار ومكانًا فوق الدار ثم يتسع ذلك فتقول: زيد دون عمرو, وأنت تريد في الشرف أو العلم أو المال أو نحو ذلك, وإنما الأصل المكان. ومما اتسعوا فيه قولهم: هو مني بمنزلة الولد, إنما أخبرت أنه في أقرب المواضع وإن لم ترد البقعة من الأرض, وهو مني منزلة الشغاف ومزجر الكلب ومقعد القابلة ومناط الثريا2 ومعقد الإِزار.
__________
1 الكتاب 1/ 202-103. قال سيبويه: ومن ذلك أيضا: هذا سواءك، وهذا رجل سواءك، فهذا بمنزلة مكانك إذا جعلته في معنى بدلك ولا يكون اسما إلا في الشعر.
قال بعض العرب لما اضطر في الشعر جعله بمنزلة "غير" قال الشاعر:
ولا ينطق الفحشاء من كان منهم ... إذا قعدوا منا ولا من سوائنا
2 مناط الثريا: فإنما معناه: هذا أبعد البعد.

(1/199)


قال سيبويه1: أجرى مجرى: هو مني مكان كذا, ولكنه/ 218 حذف. ودرج السيول ورجع أدراجه وقال: إنما يستعمل من هذا الباب ما استعملت العرب. وأما ما يرتفع من هذا الباب فقولك: هو مني فرسخان وأنت مني يومان وميلان وأنت مني عدوة2 الفرس وغلوة3 السهم4 هذا كله مرفوع لا يجوز فيه إلا ذاك وإنما فصله من الباب الذي قبله أنك تريد: ههنا بيني وبينك فرسخان ولم ترد أنت في هذا المكان؛ لأن ذلك لا معنى له, فما كان في هذا المعنى فهذا مجراه نحو: أنت مني5 فوت اليد, ودعوة الرجل.
قال سيبويه: وأما أنت مرأى ومسمع, فرفع لأنهم جعلوه الأول6, وبعض الناس ينصب مرأى ومسمعًا, فأما قولهم: داري من خلف دارك فرسخًا فانتصب فرسخ لأن ما خلف دارك الخبر وفرسخًا على جهة التمييز فإن شئت قلت: داري خلف دارك فرسخان تلغي "خلف". قال سيبويه: وزعم يونس: أن أبا عمرو7 كان يقول8 / 219: داري من خلف دارك
__________
1 الكتاب 1/ 206.
2 عدوة الفرس: أن تجعل ذلك مسافة ما بينك وبينه.
3 غلوة السهم: يقال غلا السهم نفسه إذا ارتفع في ذهابه وجاوز المدى، وكذلك الحجر، وكل مرماة من ذلك غلوة.
4 انظر الكتاب 1/ 206، قال سيبويه: ومن ذلك قول العرب: هو مني درج السيل، أي: مكان درج السيل من السيل، ويقال: رجع أدراجه أي: رجع في الطريق الذي جاء منه.
5 فوت اليد: يريد أنه يقرب ما بينه وبينه.
6 الكتاب جـ1/ 207. نص سيبويه: فإنما رفعوه لأنهم جعلوه هو الأول حتى صار بمنزلة قولهم: أنت مني قريب.
7 أبو عمرو: أبو عمرو بن العلاء اسمه: زبان بن العلاء التميمي المازني، كان من أكثر الناس علما بالعربية وغريبها، وبالقراءات، نحويا لغويا ثقة مرضيا، توفي سنة 154هـ، ترجمته في مراتب النحويين/ 13، وأخبار النحويين/ 22.
8 الكتاب 1/ 208.

(1/200)


فرسخان, شبهه: بدارك مني فرسخان. قال: وتقول في البعد زيد مني مناط الثريا, كما قال:
وإنَّ بني حَرْبٍ كمَا قَد عَلِمْتُمُ ... مَناطَ الثُّريَّا قَد تَعَلَّت نُجُومُها1
واعلم: أنه لا يجوز: أنت مني مربط الفرس وموضع الحمار, لأن ذلك شيء غير معروف في تقريب ولا تبعيد, وجميع الظروف من الأمكنة خاصة تتضمن الجثث دون ظرف الأزمنة, تقول: زيد خلفَكَ والركب أمامَكَ والناس عندَكَ, وقد مضى تفسير هذا, ذلك أن تجعل الظروف من المكان مفعولات على السعة كما فعلت ذلك في الأزمنة.
__________
1 من شواهد سيبويه 1/ 206 على نصب "مناط الثريا" على الظرفية ومناط الثريا: معلقها في السماء. وهو نطت الشيء أنوطه إذا علقته.
بني حرب: آل سفيان بن حرب.
يقول: هم في ارتفاع المنزلة وعلو المرتبة كالثريا إذا استعلت وصارت على قمة الرأس.
والبيت للأحوص وهو بالخاء المعجمة والحاء المهملة، يمدح آل سفيان بن حرب. وقد نسبه ابن الشجري لعبد الرحمن بن حسان.
وانظر: المقتضب: 4/ 243. وأمالي ابن الشجري 2/ 254 والمؤتلف والمختلف/ 47.

(1/201)


مسائل من هذا الباب:
تقول: وَسْطَ رأسه دهن, لأنك تخبر عن شيء فيه وليس به, هذا إذا أسكنت السين كان ظرفًا1, فإِنْ حركت السين فقلت: وسَطَ لم يكن ظرفًا تقول: وسط رأسه صلب فترفع؛ لأنك إنما تخبر عن بعض الرأس, فوسط إذا أردت به الشيء الذي هو اسمه وجعلته بمنزلة البعض فهو اسم وحركت/ 220 السين, وكان كسائر الأسماء وإذا أردت به الظرف وأسكنت
__________
1 قال المبرد: وتقول: وسط رأسك دهن يا فتى، لأنك أخبرت أنه استقر في ذلك الموضع فأسكنت السين ونصبت، لأنه ظرف، انظر: المقتضب 4/ 341. والكتاب 1/ 24.

(1/201)


السين: تقول: ضربت وَسْطَهُ, وَوَسْطَ الدار واسع, وهذا في وَسَط الكتاب, لأن ما كان معه حرف الجر فهو اسم بمنزلة زيد وعمرو.
وأما قول الشاعر1:
هَبَّتْ شَمالًا فذِكرى ما ذكرتُكُم ... عِنْدَ الصَّفَاةِ التي شرقيَّ حَوَرانَا
فإنه جعل الصفاة في ذلك الموضع, ولو رفع الشرقي لكان جيدًا بجعل الصفاة هي الشرق بعينه, ونقول: زيد خلفك وهو الأجود. فإن جعلت زيدًا هو الخلف قلت: زيد خلفك فرفعت. وتقول: سير بزيد فرسخان يومين وإن شئت: فرسخين يومان, أي: ذلك أقمته مقام الفاعل على سعة الكلام وصلح.
وتقول: ضربت زيدًا يوم الجمعة عندك ضربًا شديدًا, فالضرب مصدر, ويوم الجمعة ظرف من الزمان, وعندك ظرف من المكان, وقولك: شديدًا نعت للمصدر, ليقع فيه فائدة. فإذا بنيت الفعل لما لم يسم فاعله, رفعت زيدًا وأقررت/ 221 الكلام على ما هو عليه؛ لأنه لا سبيل إلى أن تجعل شيئًا من هذه التي ذكرنا من ظرف أو مصدر في مكان الفاعل, والاسم الصحيح معها, فإن أدخلت "شاغلًا" من حروف الإِضافة كنت مخيرًا بين هذه الأشياء وبينه. فإن شئت نصبت الظرف والمصدر وأقمت الاسم الذي
__________
1 من شواهد سيبويه 1/ 113، 201. على نصب "شرقي" على الظرف، إذ لا يسوغ هنا رفعه لحذف الضمير، ولو أظهر فقال: هي التي شرقي حورانا لجاز الرفع على الاتساع. ورواية سيبويه: هبت جنوبا.
وصف أنه تغرب عن أهله ومن يحبه وصار في شق الشمال فكلما هبت الشمال ذكرهم لهبوبها من شقهم.
وحوران: مدينة من مدن الشام. وأضمر الريح في "هبت" لدلالة الشمال عليها.
وما زائدة مؤكدة، والتقدير: فذكرتكم ذكرى. والصفاة: الصخرة الملساء، وهي هنا موضع بعينه والبيت من قصيدة طويلة لجرير في هجاء الأخطل.
وانظر: الكامل للمبرد/ 468. وشروح سقط الزند 3/ 1194، والديوان/ 596.

(1/202)


معه حرف الإِضافة مقام الفاعل, وإن شئت أقمت أحدها ذلك المقام, إذا كان متصرفًا في بابه, فإن كان بمنزلة عند وذات مرة, وما أشبه ذلك, لم يقم شيء منها مقام الفاعل, ولم يقع له ضمير كضمير المصادر, والظروف المتمكنة1, وأجود ذلك أن يقوم المتصرف من الظروف والمصادر مقام الفاعل إذا كان معرفة أو نكرة موصوفة, لأنك تقرب ذلك من الأسماء وتقول: سير على بعيرك فرسخان يوم الجمعة, فإن شئت نصبت "يوم الجمعة" على الظرف وهو الوجه, وإن شئت نصبته على أنه مفعول على السعة, كما رفعت الفرسخين على ذلك, وتقول: الفرسخان سير بزيد يوم الجمعة, فإن قدمت يوم الجمعة وهو/ 222 ظرف قلت: يوم الجمعة سير بزيد فيه فرسخان, وإن قدمت: يوم الجمعة على أنه مفعول قلت: يوم الجمعة سيرُه بزيد فرسخان, وإن قدمت يوم الجمعة والفرسخين ويوم الجمعة ظرف قلت: الفرسخان يوم الجمعة سيرا فيه بزيد, وإن جعلت يوم الجمعة مفعولًا قلت: سيراه. فإن أقمت يوم الجمعة مقام الفاعل قلت: الفرسخان يوم الجمعة سير بزيد فيهما, فإن جعلت الفرسخين مفعولين على السعة قلت: الفرسخان يوم الجمعة سيرهما بزيد, فإن زدت في المسألة خلفك قلت: سير بزيد فرسخان يوم الجمعة خلفك, فإذا قدمت الخلف مع تقديمك الفرسخين واليوم وأقمت الفرسخين مقام الفاعل, وجعلت الخلف واليوم ظرفين قلت: الفرسخان يوم الجمعة خلفك سيرا بزيد فيه فيه, وإن جعلتهما مفعولين على السعة قلت: الفرسخان يوم الجمعة خلفك سيراه بزيد إياه, ترد أحد الضميرين المنصوبين إلى اليوم والآخر/ 223 إلى خلف, وأن لا تجعل الخلف مفعولًا ولا مرفوعًا أحسن؛ وذلك لأنه من الظروف المقاربة للإِبهام, وكذلك أمام ويمين وشمال فإذا
__________
1 الذي منعها من التمكن أنها لا تخص موضعا، ولا تكون إلا مضافة، فإذا قلت: جلست عند زيد - فإنما معناه الموضع الذي فيه زيد، فحيث انتقل زيد فذلك الموضع يقال له عند زيد.

(1/203)


قلت: عندك قام زيد فقيل لك أكن عن "عندك" لم يجز لأنك لا تقول: قمت في عندك فلذلك لم توقعه على ضمير وإنما دخلت "من" على "عند" من بين سائر حروف الجر, كما دخلت على "لدن"1.
وقال أبو العباس: وإنما خصت "من" بذلك لأنها لابتداء الغاية2, فهي أصل حروف الإِضافة.
واعلم: أنَّ الأشياءَ التي يسميها البصريونَ ظروفًا يسميها الكسائي صفة3, والفراء4 يسميها محال ويخلطون الأسماء بالحروف فيقولون: حروف الخفض: أمام وقدام وخلف وقبل وبعد وتلقاء وتجاه وحذاء وإزاء ووراء ممدودات. ومع وعن وفي وعلى ومن وإلى وبين ودون وعند وتحت وفوق وقباله وحيال وقبل وشطر وقرب ووسَطَ ووسْطَ ومِثل ومَثَلَ وسوى/ 224 وسواء ممدودة ومتى في معنى وَسْطَ والباء الزائدة والكاف الزائدة وحول وحوالي وأجْلٌ وإجلٌ وإجلىَ مقصورٌ وجَلَل5 وجِلالٌ في معناها وحذاء ممدود ومقصور وبَدْل وَبَدلٌ ورئِد
__________
1 قد ورد دخول "من" على لدن وعند في قوله تعالى: {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} .
2 انظر المقتضب 1/ 44 وجـ4/ 136.
3 ويعني بها الكوفيون: الظرف الذي يطلقه البصريون على نحو: أمام وخلف، ويمين، وشمال وغيرها من ظروف المكان، وعلى نحو: يوم، وليلة وقبل، وبعد من ظروف الزمان، ومجافاة الكوفيين للتأثر بالفلسفة ظاهرة في هذا المصطلح فلم تعرف العربية كلمة، "الظرف" بهذا المعنى لأن الظروف فيها هو الوعاء. واعتبار مدلولات هذه الألفاظ أوعية للموجودات غني بالتأثر الفلسفي، وانظر الإنصاف مسألة 60. ومفاتيح العلوم/ 35.
4 الفراء: هو أبو زكريا يحيى بن زياد، أخذ عن الكسائي، وكان فقيها عالما في النحو واللغة، مات سنة "207هـ". ترجمته في نزهة الألباء/ 134 ومعجم الأدباء جـ2/ 9.
5 جلل، وجلال: جمع جلة وهي القفة الكبيرة.

(1/204)


وهو القرنُ ومكانُ, وقُرابُ, وَلدة1, وشبهَ وخدن2, وقرن, وقرْن, وميتاء3, وميداء والمعنى واحد ممدود ومنا4 مقصورٌ بمنزلة حذاء ولدى, فيخلطون الحروف بالأسماء, والشاذ بالشائع, وقد تقدم تبيين الفرق بين الاسم والحرف, وبين الشاذ والمستعمل, فإذا كان الظرف غير محل للأسماء سماه الكوفيون الصفة الناقصة وجعله البصريون لغوًا5 ولم يجز في الخبر إلا الرفع, وذلك قولك: فيك عبد الله راغب, ومنك أخواك هاربان, وإليك قومك قاصدون؛ لأن "منك وفيك وإليك" في هذه المسائل لا تكون محلا6 ولا يتم بها الكلام, وقد أجاز الكوفيون: فيك راغبًا عبد الله, شبهها الفراء/ 255 بالصفة التامة لتقدم "راغب" على عبد الله. وذهب الكسائي إلى أن المعنى: فيك رغبةً عبد الله.
واستضعفوا أن يقولوا: فيكَ عبدُ الله راغبًا, وقد أنشدوا بيتًا جاءَ فيهِ مثلُ هذا منصوبًا في التأخير:
فَلاَ تَلْحَنيِ فِيهَا فإنَّ بِحُبِّها ... أَخَاكَ مُصَابَ القَلبِ جَمًا بلابِلهُ7
__________
1 لدة: الترب وهو الذي تربى معك.
2 الخدن: الحبيب والصاحب، للمذكر والمؤنث. والجمع أخدان.
3 ميداء وميتاء: ميداء الشيء قياسه ومبلغه، ويقال: هذا ميداء ذاك وبميدائه, أي: بحذائه.
4 المن: لغة في المنا الذي يوزن، والمن والمنا: هو رطلان: وقال ابن بري: والمن أيضا الفترة.
5 اللغو: ما كان فضلة، وسمي لغوا لأنه لو حذف لكان الكلام مستغنيا عنه لا حاجة إليه.
6 لأن الخبر هنا محذوف، والاستقرار أو مستقر حذف اختصارا.
7 من شواهد سيبويه 1/ 280 على جواز تقديم معمول خبر "إن" على اسمها إذا كان مجرورا، والظرف يساويه في ذلك. ورواية "جم" بالرفع.
وتلحني: يقال: لحيت الرجل إذا لمته. والجم الكثير، والبلابل: الأحزان وشغل البال. واحدها: بلبال، يقول: لا تلمني في حب هذه المرأة فقد أصيب قلبي بها واستولى عليه حبها فالعذل لا يصرفني عنها. ولا ينسب هذا البيت لقائل معين وانظر شرح السيرافي 3/ 5. والمغني 2/ 773 تحقيق الدكتور مازن المبارك: وابن عقيل جـ1/ 137. والهمع جـ1/ 135.

(1/205)


فنصب "مصاب القلب" على التشبيه بقولك: إن بالباب أخاك واقفًا, وتقول: في الدار عبد الله قائمًا, فتعيد "فيها" توكيدًا ويجوز أن ترفع "قائمًا" فتقول: في الدار عبد الله قائم فيها, ولا يجيز الكوفيون الرفع قالوا: لأن الفعل لا يوصف بصفتين متفقتين, لأنك لو قلت: عبد الله قائم في الدار فيها, لم يكنْ يحسنُ أنْ تكرَر "في" مرتين بمعنى.
وهذا الذي اعتلوا به لازم في النصب, لأنه قد أعاد "في" والتأكيد إنما هو إعادة للكلمة, أو ما كان في معناها, فإن استقبح التكرير سقط التأكيد ويجيزون في قولك: عبد الله في الدار قائم في البيت, الرفع والنصب لاختلاف/ 226 الصفتين وتقول: له عليَّ عشرون درهمًا فلك أن تجعل "له" الخبر ولك أن تجعل "عليَّ" الخبر. وتلغي أيما شئتَ.

(1/206)


شرح الرابع من المنصوبات: وهو المفعول له.
اعلم: أن المفعول له لا يكون إلا مصدرًا, ولكن العامل فيه فعل غير مشتق منه, وإنما يذكر لأنه عذر لوقوع الأمر1 نحو قولك: فعلت ذاك حذار الشر وجئتك مخافة فلان "فجئتك" غير مشتق من "مخافة" فليس انتصابه هنا انتصاب المصدر بفعله الذي هو مشتق منه نحو "خفتك" مأخوذة من مخافة وجئتك ليست مأخوذة من مخافة, فلما كان ليس منه أشبه المفعول به الذي ليس بينه وبين الفعل نسب.
قال سيبويه: إن هذا كله ينتصب لأنه مفعول له كأنه قيل له: لِمَ فعلتَ
__________
1 الكتاب 1/ 184 قال سيبويه: هذا باب: ما ينتصب من المصادر لأنه عذر لوقوع الأمر فانتصب لأنه موقوع له ولأنه تفسير لما قبله لِمَ كان، وليس بصفة لما قبله، ولا منه فانتصب كما انتصب الدرهم في قولك: عشرون درهما, وذلك قولك: فعلت ذاك حذار الشر. وفعلت ذاك مخافة فلان وادخار فلان.

(1/206)


كذا وكذا؟ فقال: لِكَذا وكذا, ولكنه لما طرح اللام عمل فيه ما قبله1, ومن ذلك: فعلت ذاك أجل كذا وكذا وصنعت ذلك ادخار فلان, قال حاتم2: / 227.
"وأَغْفِرُ عُوْرَاءَ الكَرِيمِ ادِّخَارَهُ ... وأَصْفَحُ عَنْ شَتْمِ اللَّئيمِ تَكَرُّمَا3
وقال الحرث بن هُشام:
فَصفُحْتُ عَنْهُم والأَحِبَّةُ فِيهِمُ ... طَمَعًَا لهَم بِعِقَابِ يَوْمٍ مُفسدٍ4
وقال النابغة:
وحَلَّتْ بُيوتي في يَفَاعٍ مُمنَّعٍ ... يُخَالُ بِه راعي الحمولةِ طَائرا
حِذارًا عَلَى أنْ لا تُصَابَ مقَادتي ... ولا نِسوتي حَتَّى يَمُتْنَ حَرائَرا5
__________
1 انظر الكتاب 1/ 185-186.
2 انظر الكتاب 2/ 184 "ونص سيبويه": وفعلت ذاك مخافة فلان وادخار فلان.
3 من شواهد سيبويه جـ1/ 184 و464 "على نصب" الادخار والتكرم على المفعول له. والتقدير: لادخاره وللتكرم. فحذف حرف الجر ووصل الفعل ونصب.
والعوراء: الكلمة القبيحة أو الفعلة.
يقول: إذا جهل على الكريم احتملت جهلة إبقاء عليه وإدخارا له، وإن سبني اللئيم أعرضت عن شتمه إكراما لنفسي.
وانظر: المقتضب 2/ 348. والكامل/ 165. وشرح السيرافي 2/ 109، والنوادر/ 110، ومعاني القرآن 2/ 5. وشروح سقط الزند/ 619، وابن يعيش 2/ 54، وديوان حاتم/ 108.
4 من شواهد سيبويه جـ1/ 185 "على نصب" طمعا. على المفعول له.
يقول هذا معتذرا من فراره يوم قتل أبو جهل أخاه ببدر، وهو من أحسن الاعتذار فيما يأتيه الرجل من قبيح الفعل، أي: لم أفر جبنا ولم أصفح عنهم خوفا وضعفا. ولكن طمعا في أن أعدلهم وأعاقبهم بيوم أوقع بهم فيه فتفسد أحوالهم. انظر: شرح السيرافي 2/ 310 وابن يعيش 2/ 89.
5 من شواهد سيبويه 1/ 185 "على نصب" حذارا على المفعول له.
اليفاع: ما ارتفع من الأرض. والحرائر: جمع حرة على غير قياس وقيل: واحدتها حريرة بمعنى حرة وهو غريب. والحمولة: الإبل التي قد أطاقت الحمل.
يقول: من أجل حذاري أن تصاب مقادتي: أي: لئلا أقاد إليك أنا ونسوتي نزلت هذا الجبل.
والبيتان من قصيدة للنابغة الذبياني يقولها للنعمان وكان واجدا عليه. وانظر: شرح السيرافي 2/ 110 وشرح ابن يعيش جـ2/ 54، والتهذيب للأزهري جـ5/ 91، والديوان/ 40.

(1/207)


وقال العجاج:
يَركَبُ كُلُّ عَاقِرٍ جُمهْورِ ... مَخافَةً وزَعَلَ المَحبْورِ1
يصف ثور الوحش, والعاقر هنا: الرملة التي لا تنبت أي: يركب هذا الثور كل عاقر مخافة الرماة, والزعل: النشاط, أي: يركب خوفًا ونشاطًا, والمحبور: المسرور.
واعلم: أن هذا المصدر الذي ينتصب لأنه مفعول له يكون معرفة ويكون نكرة كشعر حاتم, ولا يصلح أن يكون حالًا كما تقول: جئتك مشيًا لا يجوز أن تقول: جئتك خوفًا تريد: خائفًا وأنت تريد معنى للخوف, ومن أجل الخوف, وإنما يجوز: جئتك خوفًا, إذا أردت الحال فقط, أي: جئتك في حال خوفي, أي: خائفًا ولا يجوز أيضًا في هذا المصدر الذي تنصبه نصب المفعول له أن تقيمه مقام ما لم يسم فاعله/ 228.
قال أبو العباس -رحمه الله: أبو عمر2 يذهب إلى أنه ما جاء في معنى لـ"كذا" لا يقوم مقام الفاعل, ولو قام مقام الفاعل لجاز: سير عليه مخافة الشر, فلو جاز: سير فيه المخافة لم يكن إلا رفعًا فكان مخافة وما أشبهه لم يجئ إلا نكرة
__________
1 من شواهد سيبويه 1/ 185 على نصب "مخافة" وزعل وعلى أنهما مفعولان لأجله وهذا رجز للعجاج. وانظر شرح السيرافي 2/ 110، والتمام في تفسير أشعار هذيل: 89 والاقتضاب للبطلوسي: 220، وابن يعيش 3/ 54. والخزانة 1/ 488، وديوان العجاج/ 28.
2 أي: الجرمي: وقد مرت ترجمته/ 116. من الأصل.

(1/208)


فأشبه مع خرج مخرج مع لا يقوم مقام الفاعل نحو: الحال والتمييز, ولو جاز لما أشبه "مخافة الشر" أن يقوم مقام الفاعل لجاز سير "بزيد راكب" فأقمت "راكبًا" مقام الفاعل, ومخافة الشر وإن أضفته إلى معرفةٍ فهو بمنزلةِ "مثلِكَ" وغيركَ وضارب زيد غدًا نكرة.
قال أبو بكر: وقرأت بخط أبي العباس في كتابه: أخطأ الرياشي1 في قوله: مخافة الشر ونحوه "حال" أقبح الخطأ لأن باب لـ"كذا" يكون معرفة ونكرة, وهذا خلاف قول سيبويه, لأن سيبويه بجعله معرفة ونكرة إذا لم تضفه أو تدخله الألف2 / 229, واللام كمجراه في سائر الكلام, لأنه لا يكون حالًا قال سيبويه: حسن فيه الألف واللام, لأنه ليس بحال فيكون في موضع فاعل حالًا, وأنه لا يبتدأ به ولا يبنى على مبتدأ3, لأنه عنده تفسير لما قبله وليس منه. وأنه انتصب كما انتصب الدرهم في قولك عشرون درهمًا.
__________
1 أبو العباس بن الفرج أبو الفضل الرياشي مولى محمد بن سليمان بن علي، قرأ على المازني، وكان عالما بالرواية، واللغة والشعر. مات سنة "257هـ" ترجمته في إنباه الرواة 2/ 368، المنتظم 5/ 5-6 وبغية الوعاة 275 وإشارة التعيين ورقة "23".
2 الكتاب 1/ 184-185.
3 الكتاب 1/ 186 وجـ1/ 184.

(1/209)


شرح الخامس: وهو المفعول معه.
اعلم: أن الفعل إنما يعمل في هذا الباب في المفعول بتوسط الواو1, والواو هي التي دلت على معنى "مع" لأنها لا تكون في العطف بمعنى "مع" وهي ههنا لا تكون إذا عمل الفعل فيما بعدها إلا بمعنى "مع" ألزمت ذلك, ولو كانت عاملة كان حقها أن تخفض. فلما لم تكن من الحروف التي تعمل في الأسماء, ولا في الأفعال وكانت تدخل على الأسماء والأفعال وصل الفعل إلى ما بعدها فعمل فيه. وكان مع ذلك أنها في العطف لا تمنع الفعل الذي قبلها أن يعمل فيما بعدها/ 230 فاستجازوا في هذا الباب إعمال الفعل ما بعدها في الأسماء وإن لم يكن قبلها ما
__________
1 هذا مذهب سيبويه انظر الكتاب 1/ 105.

(1/209)


يعطف عليه وذلك قولهم: ما صنعت وأباك, ولو تركت الناقة وفصيلَها لرضعها.
قال سيبويه: إنما أردت: ما صنعت مع أبيك, ولو تركت الناقة مع فصيلها والفصيل مفعول معه. والأب كذلك والواو لم تغير المعنى. ولكنها تعمل في الاسم ما قبلها. ومثل ذلك: ما زلت وزيدًا, أي: ما زلت بزيد حتى فَعَلَ فهو مفعول به1 فقد عمل ما قبل الواو, فيما بعدها والمعنى معنى الباء, ومعنى "مع" أيضا يصلح في هذه المسألة, لأن الباء يقرب معناها من معنى "مع"2 إذ كانت الباء معناها الملاصقة للشيء, ومعنى "مع" المصاحبة ومن ذلك: ما زلت أسير والنيل واستوى الماء, والخشبة أي: مع الخشبة وبالخشبة وجاء البرد والطيالسة, أي: مع الطيالسة وأنشد سيبويه:
وكُوُنُوا أَنْتُمُ وَبَني أَبِيكُمْ ... مَكَانَ الكُلْيَتيْن مِنَ الطَّحَالِ3
__________
1 الكتاب جـ1/ 150. قال: وما زلت أسير والنيل، أي: مع النيل، واستوى الماء والخشبة، أي: بالخشبة، وجاء البرد والطيالسة، أي: مع الطيالسة.
2 تكون الباء بمعنى "مع" وهي التي يقال لها باء المصاحبة، نحو: دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به واشترى الدار بآلاتها. قيل: ولا تكون بهذا المعنى إلا مستقرا أي: كائنين بالكفر وكائنة بالآتها، والظاهر لا مانع من كونها لغوا، ومن ذلك قوله تعالى: {اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا} ، أي: انزل مع سلام، والفرق بينها وبين الإلصاق، أن الإلصاق يستلزم المصاحبة من غير عكس. وانظر: شرح التصريح 2/ 12، وتحفة الإخوان 16.
3 من شواهد سيبويه 1/ 150 على أرجحية النصب على المعية، لأن العطف حسن من جهة اللفظ وفيه تكلف من جهة المعنى، لأن المراد: كونوا لبني أبيكم، فالمخاطبون هم المأمورون، فإذا عطفت كان التقدير: كونوا لبني أبيكم وليكن بنو أبيكم لكم، وذلك خلاف المقصود قال العيني: قوله: وبني أبيكم أراد بهم الإخوة والمعنى: كونوا أنتم مع إخوتكم متوافقين متصلين اتصال بعضكم ببعض كاتصال الكليتين وقربهما من الطحال.
وأراد الشاعر بهذا الحث على الائتلاف والتقارب في المذهب. وضرب لهم مثلا بقرب الكليتين من الطحال. ولم ينسب هذا البيت لقائل معين. وانظر: مجالس ثعلب/ 25، وشرح السيرافي 2/ 79، والمفصل للزمخشري 56، وابن يعيش 2/ 48، والعيني 3/ 102.

(1/210)


وقال كعيب بنُ جعيل:
فَكانَ وإيَّاهَا كَحَرَّانَ لَمْ يُفِقْ ... عَنِ الماءِ إذ لاقاهُ حَتَّى تقدَّدا1
قال: وإن قلت: ما صنعت أنت وأبوك, جاز لكل الرفع والنصب, لأنك أكدت التاء التي هي اسمك بأنت. وقبيح أن تقول: ما صنعت وأبوك, فتعطف على التاء, وإنما قبح لأنك قد بنيتها مع الفعل, وأسكنت لها ما كان في الفعل متحركًا, وهو لام الفعل فإذا عطفت عليها فكأنك عطفت على الفعل وهو على قبحه يجوز, وكذلك لو قلت: اذهب وأخوك كان قبيحًا حتى تقول: أنت, لأنه قبيح أن تعطف على المرفوع المضمر.
فقد دلك استقباحهم العطف على المضمرات الاسم ليس بمعطوف على ما قبله في قولهم: ما صنعت وأباك. ومما يدلك على أن هذا الباب كان حقه خفض المفعول بحرف جر أنك تجد الأفعال التي لا تتعدى, والأفعال التي قد تعدت إلى مفعولاتها/ 232 جميعًا, فاستوفت ما لها تتعدى إليه فتقول: استوى الماء والخشبة وجاء البرد والطيالسة, فلولا توسط الواو وإنها في معنى حرف الجر لم يجز, ولكن الحرف لما كان غير عامل عمل الفعل فيما بعدها, ولا يجوز التقديم للمفعول في هذا الباب لا تقول: والخشبة استوى الماء, لأن الواو أصلها أن تكون للعطف وحق المعطوف أن يكون بعد العطف عليه, كما أن حق الصفة أن تكون بعد الموصوف وقد أخرجت الواو في هذا الباب عن حدها ومن شأنهم إذا أخرجوا
__________
1 من شواهد الكتاب 1/ 150، على قوله: "إياها" والمعنى: فكان معها، يقول: كان غرضا إليها فلما لقيها قتله الحب سرورا بها فكان كالحران وهو الشديد العطش أمكنه الماء وهو بآخر رمق، فلم يفق عنه حتى انقد بطنه، أي: انشق، يقال: قددت الأديم إذا شققته وهذا مثل.

(1/211)


الشيء عن حده الذي كان له الزموه حالًا واحدة, وسنفرد فصلًا في هذا الكتاب لذكر التقديم والتأخير وما يحسن منه ويجوز وما يقبح ولا يجوز إن شاء الله1.
وهذا الباب, والباب الذي قبله أعني: بابي المفعول له والمفعول معه, كان حقهما أن لا يفارقهما حرف الجر, ولكنه حذف فيهما ولم يجريا/ 233 مجرى الظروف في التصرف في الإِعراب, وفي إقامتها مقام الفاعل فيدلك ترك العرب لذلك أنهما بابان وضعا في2 غير موضعهما, وأن ذلك اتساع منهم فيهما؛ لأن المفعولات التي تقدم ذكرها وجدناها كلها تقدم وتؤخر وتقام مقام الفاعل وتبتدأ ويخبر عنها إلا أشياء منها مخصوصة. وقد تقدم تبييننا إياها في مواضعها.
ويفرق بين هذا الباب والباب الذي قبله أن باب المفعول له إذا قلت: جئتك طلب الخير إن في "جئتك" دليلًا على أن ذلك لشيء. وإذا قلت: ما صنعت وأباك فليس في "صنعت" دليل على أن ذلك مع شيء, لأن لكل فاعل غرضًا له فعل ذلك الفعل وليس لكل فاعل مصاحب لا بد منه, ولا يجوز حذف الواو في ما صنعت وأباك كما جاز حذف اللام في قولك: فعلت ذاك حذار الشر تريد: لحذار الشر, لأن حذف اللام لا يلبس وحذف/ 234 الواو يلبس. ألا ترى أنك لو قلت: ما صنعت أباك صار الأب مفعولًا به.
__________
1 سوفي يذكر هذا الباب في أول الجزء الثاني من هذا الكتاب، وهو باب التقديم والتأخير 3/ 71 من الأصل.
2 أضفت كلمة "في" لأن المعنى يقتضيها.

(1/212)


القسم الثاني من الضرب الأول من المنصوبات: وهو المشبه بالمفعول.
المشبه بالمفعول ينقسم على قسمين: فالقسم الأول قد يكون فيه المنصوب في اللفظ هو المرفوع في المعنى. والقسم الثاني: ما يكون المنصوب في اللفظ غير المرفوع والمنصوب بعض المرفوع.

(1/212)


ذكر ما كان المنصوب فيه هو المرفوع في المعنى:
هذا النوع ينقسم على ثلاثة أضرب: فمنه ما العامل فيه فعل حقيقي, ومنه ما العامل فيه شيء على وزن الفعل, ويتصرف تصرفه وليس بفعل في الحقيقة, ومنه ما العامل فيه حرف جامد غير متصرف.
ذكر ما شبه بالمفعول والعالم فيه فعل حقيقي:
وهو صنفان يسميها النحويون الحال والتمييز: فأما الذي يسمونه الحال فنحو قولك: جاء عبد الله راكبًا, وقام أخوك منتصبًا, وجلس بكر متكئًا1. فعبد الله مرتفع "بجاء" والمعنى: جاء عبد الله في هذه الحال, وراكب/ 235 منتصب لشبهه بالمفعول, لأنه جيء به بعد تمام الكلام واستغناء الفاعل بفعله, وإن في الفعل دليلًا عليه كما كان فيه دليل على المفعول, ألا ترى أنك إذا قلت: قمت فلا بد من أن يكون قد قمت على حال من أحوال الفعل فأشبه: جاء عبد الله راكبًا. ضرب عبد الله رجلًا وراكب, هو عبد الله, ليس هو غيره, وجاء وقام فعل حقيقي تقول: جاء يجيء, وهو جاء, وقام يقوم وهو قائم, والحال تعرفها, وتعتبرها بإدخال "كيف" على الفعل والفاعل تقول: كيف جاء عبد الله فيكون الجواب: راكبًا وإنما سميت الحال, لأنه لا يجوز أن يكون اسم الفاعل فيها إلا لما أنت فيه تطاول الوقت أو قصر. ولا يجوز أن يكون لما مضى وانقطع ولا لما لم يأت من الأفعال ويبتدأ بها.
والحال إنما هي هيئة الفاعل أو المفعول أو صفته في وقت ذلك الفعل المخبر به عنه, ولا يجوز أن تكون تلك الصفة إلا صفةً متصفة/ 236 غير ملازمة. ولا يجوز أن تكون خلقة, لا يجوز أن تقول: جاءني زيد أحمر ولا
__________
1 في الأصل متمكنا، وهو تحريف أثناء النسخ.

(1/213)


أخوك ولا جاءني عمرو طويلًا, فإن قلت: متطاولًا أو متحاولًا جاز, لأن ذلك شيء يفعله وليس بخلقة.
ولا تكون الحال إلا نكرة لأنها زيادة في الخبر والفائدة, وإنما تفيد السائل والمحدث غير ما يعرف, فإن أدخلت الألف واللام صارت صفة للاسم المعرفة وفرقًا بينه وبين غيره, والفرق بين الحال وبين الصفة تفرق بين اسمين مشتركين في اللفظ والحال زيادة في الفائدة والخبر, وإن لم يكن للاسم مشارك في لفظه. ألا ترى أنك إذا قلت: مررت بزيد القائم فأنت لا تقول ذلك إلا وفي الناس رجل آخر اسمه زيد وهو غير قائم ففصلت بالقائم بينه وبين من له هذا الاسم وليس بقائم. وتقول: مررت بالفرزدق قائمًا وإن لم يكن أحد اسمه الفرزدق غيره فقولك: قائمًا إنما ضممت به إلى الأخبار/ 237 بالمرور خبرًا آخر متصلًا به مفيدًا.
فهذا فرق ما بين الصفة والحال, وهو أن الصفة لا تكون إلا لاسم مشترك فيه لمعنيين أو لمعان, والحال قد تكون للاسم المشترك والاسم المفرد, وكذلك الأمر في النكرة إذا قلت: جاءني رجل من أصحابك راكبًا إذا أردت الزيادة في الفائدة والخبر وإن أردت الصفة خفضت فقلت: مررت برجل من أصحابك راكب, وقبيح أن تكون الحال من نكرة, لأنه كالخبر عن النكرة والإِخبار عن النكرات لا فائدة فيها إلا بما قدمنا ذكره في هذا الكتاب فمتى كان في الكلام فائدة فهو جائز في الحال كما جاز في الخبر, وإذا وصفت النكرة بشيء قربتها من المعرفة وحسن الكلام. تقول: جاءني رجل من بني تميم راكبًا. وما أشبه ذلك.
واعلم: أن الحال يجوز أن تكون من المفعول كما تكون من الفاعل تقول: ضربت زيدًا قائمًا فتجعل قائمًا لزيد. ويجوز أن تكون/ 238 الحال من التاء في "ضربتُ" إلا أنك إذا أزلت الحال عن صاحبها فلم تلاصقه لم يجز ذلك إلا أن يكون السامع يعلمه كما تعلمه أنت, فإن كان غير معلوم لم يجز وتكون الحال من المجرور كما تكون من المنصوب إن كان العامل في الموضع فعلًا فتقول: مررت بزيد راكبًا, فإن كان الفعل لا يصل إلا بحرف جر لم يجز أن تقدم الحال على

(1/214)


المجرور إذا كانت له فتقول: مررت راكبًا بزيد إذا كان "راكبًا" حالًا لك وإن كان لزيدٍ لَمْ يجز لأن العامل في "زيد" الباءُ فلمَّا كانَ الفِعْل لا يصلُ إلى زيدٍ إلا بحرفِ جر لم يجز أن يعمل في حالِه قبل ذكر الحرف.
والبصريون يجيزون تقديم الحال على الفاعل والمفعول والمكنى والظاهر إذا كان العامل فعلًا1, يقولون: جاءني راكبًا أخوك وراكبًا جاءني أخوك وضربت زيدًا راكبًا وراكبًا ضربت زيدًا فإن كان العامل معنى. لم يجز تقديم الحال تقول: زيد فيها/ 239 قائمًا فالعامل في "قائم" معنى الفعل لأن الفعل غير موجود. ولا يجوز أن تقول: قائمًا زيد فيها ولا زيدٌ قائمًا فيها.
والكوفيون لا يقدمون الحال في أول الكلام؛ لأن فيها ذكرًا من الأسماء فإن كانت لمكنى جاز تقديمها2, فيشبهها البصريون بنصب التمييز ويُشَبّهها الكسائي بالوقت.
وقال الفراء: هي بتأويل جزاء وكان الكسائي يقول: رأيت زيدًا ظريفًا,
__________
1 قال المبرد: وإذا كان العامل في الحال فعلا، صلح تقديمها وتأخيرها, لتصريف العامل فيها، فقلت: جاء زيد راكبا، وراكبا جاء زيد، وجاء راكبا زيد. قال الله عز وجل: {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ} .
انظر المقتضب 4/ 300.
وذكر ابن هشام: أن الحال تتقدم على عاملها إذا كان فعلا متصرفا، أو وصفا يشبهه نحو: {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ} وقوله:
عدس ما لعباد عليك إمارة ... نجوت وهذا تحملين طليق
أي: وهذا طليق محمولا لك. المغني 2/ 462.
2 يذهب الكوفيون إلى أنه لا يجوز تقديم الحال على الفعل العامل فيها مع الاسم الظاهر -أي: إذا كان صاحب الحال- الذي هو الفاعل للفعل مثلا اسما ظاهرا نحو: راكبا جاء زيد، ويجوز مع المضمر نحو: راكبا جئت، وذلك لأنه يؤدي إلى تقديم المضمر على المظهر. ألا ترى. أنك إذا قلت: راكبا جاء زيد كان في "راكبا" ضمير زيد وقد تقدم عليه، وتقديم المضمر على المظهر لا يجوز. الإنصاف 1/ 143.

(1/215)


فينصب "ظريفًا" على القطع, ومعنى القطع أن يكون أراد النعت, فلما كان ما قبله معرفة وهو نكرة انقطع منه وخالفه.
واعلم: أنه يجوز لك أن تقيم الفعل مقام اسم الفاعل في هذا الباب إذا كان في معناه وكنت إنما تريد به الحال المصاحبة للفعل, تقول: جاءني زيد يضحك أي: ضاحكًا. وضربت زيدًا يقوم وإنما يقع من الأفعال في هذا الموضع ما كان للحاضر من الزمان.
فأما المستقبل والماضي فلا يجوز إلا أن تدخل "قد" على الماضي فيصلح حينئذ/ 240 أن يكون حالًا, تقول: رأيت زيدًا قد ركب أي: راكبًا إلا أنك إنما تأتي "بقد" في هذا الموضع إذا كان ركوبه متوقعًا فتأتي "بقد" ليعلم أنه قد ابتدأ بالفعل, ومر منه جزء والحال معلوم منها أنها تتطاول فإنما صلح الماضي هنا لاتصاله بالحاضر فأغنى عنه ولولا ذلك لم يجز فمتى رأيت فعلًا ماضيًا قد وقع موقع الحال, فهذا تأويله ولا بد من أن يكون معه "قَدْ" إما ظاهرةً1, وإما مضمرةً لتؤذَن بابتداء الفعلِ الذي كان متوقعًا.
__________
1 في الأصل "ظاهرا".

(1/216)


مسائل من هذا الباب:
تقول: زيد في الدار قائمًا. فتنصب "قائمًا" بمعنى الفعل الذي وقع في الدار, لأن المعنى: استقر زيد في الدار, فإن جعلت في الدار للقيام ولم تجعله لزيد قلت: زيد في الدار قائم, لأنك إنما أردت: زيد قائم في الدار, فجعلت: "قائمًا" خبرًا عن زيد وجعلت: "في الدار" ظرفًا لقائم فمن قال هذا قال: إن زيدًا في الدار قائم ومن قال: الأول قال: إن زيدًا في الدار/ 241 قائمًا, فيكون: "في الدار" الخبر ثم خَبَّرَ على أي حال وقع استقراره في الدار, ونظير ذلك قوله

(1/216)


تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، آخِذِينَ} 1, فالخبر قوله: {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُون} و {آخِذِينَ} : حال وقال عز وجل: {وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} 2, لأن المعنى: وهم خالدون في النار, فخالدون: الخبر و "فِي النَّارِ": ظرف للخلود.
وتقول: جاء راكبًا زيد كما تقول: ضرب عمرًا زيد, وراكبًا جاء زيد, كما تقول: عمرًا ضرب زيد, وقائمًا زيدًا رأيتُ كما تقولُ: الدرهمُ زيدًا أعطيت, وضربتُ قائمًا زيدًا.
قال أبو العباس3: وقول الله تعالى عندنا: على تقدير الحال, والله أعلم وذلك قوله: {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ} 4, وكذلك هذا البيت:
مُزِبْدًا يَخْطُر ما لَمْ يَرَني ... وإذَا يَخلوُ لَهُ لحمي رَتَعْ5
__________
1 الذاريات: 15.
2 التوبة: 17.
3 انظر المقتضب 4/ 168، وقول الله -عز وجل- عندنا: على تقديم الحال -والله أعلم- وذلك: {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ} .
4 القمر: 7، في البحر المحيط 8/ 175 انتصب: "خشعا" على الحال من ضمير "يخرجون" والعامل فيه "يخرجون" لأنه فعل متصرف وفي هذا دليل على بطلان مذهب الجرمي، لأنه لا يجيز تقديم الحال على الفعل وإن كان متصرفا، وقد قالت العرب: شتى تئوب الحلبة: وقيل: هو حال من الضمير المجرور في "عنهم" من قوله: "فتول عنهم". وقيل: مفعول: "بيدع" وفيه بعد.
5 الشاهد فيه نصب "مزبدا" على الحال مع تقدمه على عامله ومزبدا: من أزبد الجمل: إذا ظهر الزبد على مشافره وقت هياجه. ويخطر من الخطر -بسكون الطاء وهو ضرب الفحل بذنبه إذا هاج. والبيت من قصيدة من المفضلية "40" وهي من أغلى الشعر وأنفسه، لسويد بن كاهل اليشكري/ 191-202 وفي شرحها للأنباري/ 381-409. والبيت في الأصول، وفي المقتضب 4/ 170، مركب من بيتين، وروايتهما:
مزبد يخطر ما لم يرني ... فإذا أسمعته صوتي انقمع
ويحييني إذا لاقيته ... وإذا يخلو له لحمي رتع
والرواية: برفع "مزبد" في المفضليات والشعر والشعراء 1/ 421، وطبقات الشعراء 35، والأغاني 11/ 165، واللآلي: 313، والإصابة لابن حجر 3/ 173، والتهذيب 5/ 104 وروايته: وإذا أمكنه لحمي رتع.

(1/217)


قال: ومن كلام العرب: رأيت زيدًا مصعدًا منحدرًا, ورأيتُ/ 242 زيدًا ماشيًا راكبًا1 إذا كان أحدُهما ماشيًا والآخر راكبًا وأحدكما مصعدًا والآخر منحدرًا. تعني أنك إذا قلت: رأيت زيدًا مصعدًا منحدرًا أن تكون أنت المصعد وزيد المنحدر فيكون "مصعدًا" حالًا للتاء و"منحدرًا" حالًا لزيد وكيف قدرت بعد أن يعلم السامع من المصعد ومن المنحدر جاز وتقول: هذا زيد قائمًا وذاك عبد الله راكبًا فالعاملُ معنى الفعل وهو التنبيه كأنك قلت: أنتبه له راكبًا وإذا قلت: ذاك زيد قائمًا فإنما ذاك للإِشارة كأنك قلت: أشير لك إليه راكبًا ولا يجوز أن يعمل في الحال إلا فعل أو شيء في معنى الفعل لأنها كالمفعول فيها2, وفي كتاب الله: {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} 3.
ولو قلت: زيد أخوك قائمًا وعبد الله أبوك ضاحكًا/ 243 كان غير جائز. وذلك أنه ليس ههنا فعل ولا معنى فعل ولا يستقيم أن يكون أباه أو أخاه من النسب في حال ولا يكون أباه أو أخاه في أخرى4, ولكنك إن قلت: زيدٌ أخوك قائمًا فأردت: أخاه من الصداقة جاز, لأن فيه معنى فعل كأنك قلت: زيد يؤاخيك قائمًا فإذا كان العامل غير فعل ولكن شيء في معناه لم تقدم الحال على العامل لأن هذا لا يعمل مثله في المفعول وذلك
__________
1 انظر المقتضب 4/ 169.
2 انظر الكتاب 1/ 256. باب ما ينتصب لأنه خبر للمصروف.
3 هود: 72 وقرئ في الشواذ: شيخ بالرفع - الإتحاف/ 259 وانظر الكتاب 1/ 258.
4 في المقتضب 4/ 168: "ولا يستقيم أن يكون أباه في حال، ولا يكون أباه في حال أخرى".

(1/218)


قولك: زيدٌ في الدار قائمًا لا تقول: زيدٌ قائمًا في الدار1, وتقول: هذا قائمًا حسن, ولا تقول: قائمًا هذا حسن2, وتقول: رأيت زيدًا ضاربًا عمرًا, وأنت تريد رؤية العين ثم تقدم الحال فتقول: ضاربًا عمرًا رأيت زيدًا, وتقول: أقبل عبد الله شاتمًا أخاه ثم تقدم الحال فتقول: شاتمًا أخاه أقبل عبد الله, وقوم يجيزون: ضربت يقوم زيدًا, ولا يجيزون: ضربت قائمًا/ 244 زيدًا إلا وقائم حال من التاء. لأن "قائمًا" يلبس ولا يعلم أهو حال من التاء أم من زيد, والفعل يبين فيه لمن الحال. والإِلباس متى وقع لم يجز, لأن الكلام وضع للإِبانة إلا أن هذه المسألة إن علم السامع من القائم جاز التقديم كما ذكرنا فيما تقدم تقول: جاءني زيد فرسك راكبًا, وجاءني زيدٌ فيك راغبًا وتقول: فيها قائمين أخواك تنصب "قائمين" على الحال ولا يجوز التقديم لما أخبرتك ولا يجوز: جالسًا مررت بزيد3, لأن العامل الباء وقد بنيته فيما مضى, ومحال أن يكون: "جالس" حالًا من التاء, لأن المرور يناقض الجلوس إلا أن يكون محمولًا في قبة أو سفينة, وما أشبه ذلك تقول: لقي عبد الله زيدًا راكبين ولا يجوز أن تقول: الراكبان ولا الراكبين وأنت تريد النعت, وذلك لاختلاف إعراب المنعوتين, فاعلم.
__________
1 لا يجوز هذا إلا برفع "قائم"، لأنك جعلت في "الدار" للقيام، ولم تجعله لزيد لأنك إنما أردت: زيد قائم في الدار. فجعلت: "قائما" خبرا عن زيد وجعلت: "في الدار" ظرفا لقائم.
2 انظر الكتاب 1/ 277.
3 جالسا مررت بزيد "يجوز إذا كان "راكبا" لك، فإن أردت أن يكون لزيد لم يجز لأن العامل الباء، قال سيبويه جـ1/ 277"، ومن ثم صار: مررت قائما برجل، ولا يجوز، لأنه صار قبل العامل في الاسم، وليس بفعل والعامل الباء، ولو حسن هذا، لحسن قائما هذا رجل، فإن قال: أقول: مررت بقائما رجل، فهذا أخبث من قبل أنه لا يفصل بين الجار والمجرور، وانظر أمالي ابن الشجري جـ2/ 280-281 وشرح الكافية جـ1/ 189، وقال ابن مالك:
وسبق حال ما بحرف جر قد ... أبو ولا امنعه فقد ورد

(1/219)


والأخفش/ 245 يذكر في باب الحال: هذا بسرًا أطيب منه تمرًا1 وهذا عبد الله مقبلًا أفضل منه جالسًا, قال: وتقول: هذا بسر أطيب منه عنب, فهذا: اسم مبتدأ, والبسر: خبره, وأطيب: مبتدأ ثانٍ, وعنب: خبر له, قال: وكذلك ما كان من هذا النحو لا يتحول فهو رفع, وما كان يتحول فهو نصب وإنما قلنا: لا يتحول, لأن البسر لا يصير عنبًا, والذي يتحول قولك: هذا بسرًا أطيب منه تمرًا, وهذا عنبًا أطيب منه زبيبًا, وأما الذي لا يتحول فنحو قولك: هذا بسر أطيب منه عنب, وهذا زبيب أطيب منه تمر "فأطيب منه": مبتدأ وتمر: خبره وإن شئت قلت: "تمر" هو المبتدأ و"أطيب منه": خبر مقدم وتقول: مررت بزيد واقفًا فتنصب "واقفًا" على الحال, والكوفيون يجيزون نصبه على الخبر يجعلونه كنصب خبر "كان" وخبر الظن ويجيزون فيه إدخال الألف واللام, ويكون: مررت عندهم على ضربين: مررت بزيد فتكون تامة, ومررت/ 246 بزيد أخاك فتكون ناقصة إن أسقطت الأخ كنقصان "كان" إذا قلت: كان زيد أخاك ثم أسقطت الأخ كان ناقصًا حتى تجيء به. وهذا الذي أجازوه غير معروف عندي من كلام العرب ولا موجود في ما يوجبه القياس.
وأجاز الأخفش: إن في الدار قائمين أخويك, وقال: هذه الحال ليست متقدمة, لأنها حال لقولك "في الدار" ألا ترى أنك لو قلت: قائمين في الدار أخواك لم يجز, لأن: "في الدار" ليس بفعل. وتقول: جلسَ
__________
1 في المقتضب جـ3/ 351 قولك: هذا بسرا أطيب منه تمرا, فإن أومأت إليه وهو بسر، تريد: هذا إذ صار بسرا أطيب منه إذا صار تمرا، وإن أومأت إليه وهو تمر قلت: هذا بسرا أطيب منه تمرا، أي: هذا إذ كان بسرا أطيب منه إذ صار تمرا، فإنما على هذا يوجه، لأن الانتقال فيه موجود، فإن أومأت إلى عنب قلت: هذا عنب أطيب منه بسر، ولم يجز إلا الرفع، لأنه لا ينتقل. فتقول: هذا عنب أطيب منه بسر، تريد: هذا عنب البسر أطيب منه.
وانظر: أمالي ابن الشجري جـ2/ 285، والكافية للرضي 1/ 190-191.

(1/220)


عبد الله آكلًا طعامك, فالكسائي يجيز تقديم "طعامك" على "آكلٍ" فيقول: جلسَ عبد الله طعامك آكلًا, ولم يجزه الفراء, وحكي عن أبي العباس محمد بن يزيد: أنه أجاز هذه المسألة.

(1/221)