الأصول في النحو

باب التمييز
مدخل
...
باب التمييز: 1
الأسماء التي تنتصب بالتمييز والعامل فيها فعل أو معنى فعل, والمفعول هو فاعل في المعنى وذلك قولك: قد تفقأ زيد شحمًا, وتصبب عرقًا/ 247 وطبت بذلك نفسًا, وامتلأ الإِناء ماءً, وضقت به ذرعًا, فالماء هو الذي ملأ الإِناء والنفس هي التي طابت, والعَرَق هو الذي تصبب فلفظهُ لفظ المفعول, وهو في المعنى فاعل. وكذلك: ما جاء في معنى الفعل, وقام مقامه نحو قولك: زيد أفرهم عبدًا, وهو أحسنهم وجهًا فالفاره في الحقيقة هو العبد, والحسن هو الوجه إلا أن قولك: أفره وأحسن في اللفظ لزيد وفيه ضميره والعبد غير زيد والوجه إنما هو بعضه إلا أن الحسن في الحقيقة للوجه والفراهة للعبد, فإذا قلت: أنت أفره العبيد فأضفت فقد قدمته على العبيد, ولا بدّ من أن يكون -إذا أضفته- واحدا منهم. فإذا قلت: أنت أفره عبد في الناس فمعناه: أنت أفره من كل عبد إذا أفردوا عبدًا عبدًا كما تقول: هذا خير اثنين في الناس أي: إذا كان الناس اثنين اثنين2.
__________
1 ويقال له التبيين والتفسير، وهو رفع الإبهام في جملة أو مفرد وإزالة اللبس.
2 قال المبرد 3/ 34. وإذا قلت: أفره عبد في الناس، فإنما معناه: أنت أفره من كل عبد، إذا أفردوا عبدا عبدا، كمال تقول: هذا خير اثنين في الناس، إذا كان الناس اثنين اثنين.

(1/222)


واعلم: أن الأسماء التي تنصب على التمييز لا تكون/ 248 إلا نكرات تدل على الأجناس, وأن العوامل فيها إذا كن أفعالًا, أو في معاني الأفعال كنت بالخيار في الاسم المميز إن شئت جمعته, وإن شئت وحَّدته تقول: طبتم بذلك نفسًا, وإن شئت أنفسًا قال الله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} 1, وقال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} 2, فتقول على هذا: هو أفره الناس عبيدًا, وأجود الناس دورًا.
قال أبو العباس: ولا يجوز عندي: عشرون دراهم يا فتى, والفصل بينهما أنك إذا قلت: عشرون فقد أتيت على العدد فلم يحتج إلا إلى ذكر ما يدل على الجنس. فإذا قلت: هو أفره الناس عبدًا جاز أن تعني عبدًا واحدًا فمن ثم اختير وحسن إذا أردت الجماعة أن تقول: عبيدًا3, وإذا كان العامل في الاسم المميز فعلًا جاز تقديمه عند المازني4 وأبي العباس5, وكان سيبويه لا يجيزه6, والكوفيون في ذلك على مذهب سيبويه فيه لأنه يراه
__________
1 النساء: 4.
2 الكهف: 103. وانظر سيبويه 1/ 103.
3 انظر: المقتضب 3/ 34.
4 المازني: هو أبو عثمان بكر بن عثمان المازني أستاذ المبرد. مات سنة 249هـ وقيل: 236 ترجمته في طبقات الزبيدي 143، معجم الأدباء جـ7/ 107، وإنباه الرواة جـ1/ 246.
5 انظر المقتضب جـ3/ 36 قال المبرد: واعلم: أن التبيين إذا كان العامل فيه فعلا جاز تقديمه، لتصرف الفعل فقلت: تفقأت شحما، وتصببت عرقا، فإن شئت قدمت فقلت: شحما تفقأت، وعرقا تصببت، وقال: وتقول: راكبا جاء زيد، لأن العامل فعل، فلذلك أجزنا تقديم التمييز إذا كان العامل فعلا وهذا رأي أبي عثمان المازني.
6 انظر الكتاب جـ1/ 105: لا يجيز سيبويه تقديم التمييز إذا كان عامله فعلا، لأنه يراه كقولك عشرون درهما، وهذا أفرههم عبدا. قال: جاء من الفعل ما أنفذ إلى مفعول ولم يقو قوة غيره، مما قد تعدى إلى مفعول وذلك قولك: امتلأت ماء، وتفقأت شحما، ولا تقول: امتلأته، ولا تفقأته، ولا يعمل في غيره من المعارف، ولا يقدم لمفعول فيه فتقول: ماء امتلأت، كما لا تقدم المفعول فيه في الصفات المشبهة، ولا في هذه الأسماء لأنها ليست كالفاعل وذلك لأنه فعل لا يتعدى إلى مفعول وإنما هو بمنزلة الأفعال، وإنما أصله: امتلأت من الماء، وتفقأت من الشحم ...

(1/223)


كقولك/ 249: عشرون درهمًا, وهذا أفرههم عبدًا, فكما لا يجوز: درهمًا عشرون, ولا: عبدًا هذا أفرههم, لا يجوز هذا1, ومن أجاز التقديم قال: ليس هذا بمنزلة ذلك, لأن قولك: عشرون درهمًا, إنما عمل في الدرهم ما لم يؤخذ من فعل2.
وقال الشاعر فقدم التمييز لما كان العامل فعلًا:
أتَهْجُرُ سَلْمَى لِلفِرَاقِ حبيبها ... ومَا كانَ نَفْسًا بالفِرَاقِ تَطِيبُ3
فعلى هذا تقول: شحمًا تفقأت, وعرقًا تصببت, وما أشبه ذلك, وأما قولك: الحسن وجهًا والكريم أبا فإن أصحابنا4 يشبهونه: بالضارب رجلًا وقد قدمت تفسيره في هذا الكتاب وغير ممتنع عندي أن ينتصب على التمييز أيضًا بل الأصل ينبغي أن يكون هذا. وذلك الفرع, لأنك قد بينت بالوجه
__________
1 انظر الكتاب 1/ 105.
2 يشير إلى قول المبرد في المقتضب جـ3/ 36. وهو يرد على سيبويه، لأنه يراده -أي: سيبويه- كقولك: عشرون درهما وهذا أفرههم عبدا، وليس هذا بمنزلة ذلك لأن: عشرين درهما، إنما عمل في الدرهم ما لم يؤخذ من الفعل.
3 الشاهد فيه تقديم التمييز "نفسا" على عامله تطيب.
والشاهد للمخبل السعدي ربيع بن ربيعة بن مالك. وقيل: لأعشى همدان، ولقيس بن معاذ. ويروى:
أتوذن سلمى بالفراق حبيبها ... ولم تك نفس بالفراق تطيب
ولا شاهد فيه على هذه الرواية. ويرى أتهجر ليلى ... بدلا من سلمى.
وانظر: المقتضب 3/ 37. وشرح السيرافي 1/ 25 والخصائص 2/ 28. والإنصاف 447، وابن يعيش 2/ 74، وشرح الكافية للرضي 1/ 204.
4 أي: البصريون.

(1/224)


الحسن منه, كما بينت في قولك: هو أحسنهم وجهًا, وكذلك يجري عندي/ 250 قولهم: هو العقور كلبًا وما أشبه, فإذا نصبت هذا على تقدير التمييز لم يجز أن تدخل عليه الألف واللام, فإذا نصبته على تقدير المفعول والتشبيه بقولك: الضارب رجلًا جاز أن تدخل عليه الألف واللام, وكان الفراء لا يجيز إدخال الألف واللام في وجه وهو منصوب إلا وفيما قبله الألف واللام نحو قولك: مررت بالرجل الحسن الوجه, وهو كله جائز لك أن تنصبه تشبيهًا بالمفعول.

(1/225)


مسائل من هذا الباب:
تقول: زيد أفضل منك أبًا, فالفضل في الأصل للأب كأنك قلت: زيد يفضل أبوه أباك, ثم نقلت الفضل إلى زيد وجئت بالأب مفسرًا1, ولك أن تؤخر "منك" فتقول: زيد أفضل أبًا منك, وإن حذفت "منك", وجئت بعد أفضل بشيء يصلح أن يكون مفسرًا, فإن كان هو الأول فأضف أفضل إليه, واخفضه, وإن كان غيره فانصبه/ 251 واضمره نحو قولك: علمك أحسن علم تخفض "علمًا", لأنك تريد: أحسن العلوم وهو بعضها, وتقول: زيد أحسن علمًا تريد: أحسن منك علمًا فالعلم غير زيد فلم تجز إضافته وإذا قلت: أنت أفره عبد في الناس فإنما معناه: أنت أحد هؤلاء العبيد الذين فضلتهم.
ولا يضاف "أفعل" إلى شيء إلا وهو بعضه كقولك: عمرو أقوى الناس ولو قلت: عمرو أقوى الأسد لم يجز وكان محالًا لأنه ليس منها2،
__________
1 أي: تمييزا وهو من مصطلحات الكوفيين.
2 في المقتضب: 23/ 38 ولا يضاف "أفعل" إلى شيء إلا وهو بعضه كقولك: الخليفة أفضل بني هاشم، ولو قلت: الخليفة أفضل بني تميم كان محالا، لأنه ليس منهم، وكذلك هذا خير ثوب في الثياب، إذا عنيت ثوبا وهذا خير منك ثوبا، إذا عنيت رجلا.

(1/225)


ولذلك لا يجوز أن تقول: زيد أفضل إخوته, لأن هذا كلام محال يلزم منه أن يكون هو أخا نفسه, فإن أدخلت "من" فيه جاز فقلت: عمرو أقوى من الأسد أفضل من إخوته, ولكن يجوز أن تقول: زيد أفضل الإِخوة إذا كان واحدًا من الإِخوة, وتقول: هذا الثوب خير ثوب في اللباس, إذا كان هذا هو الثوب فإن كان هذا رجلًا قلت: هذا الرجل/ 252 خير منك ثوبًا, لأن الرجل غير الثوب, وتقول: ما أنت بأحسن وجهًا مني, ولا أفره عبدًا, فإن قصدت قصد الوجه بعينه قلت: ما هذا أحسن وجه رأيته, إنما تعني الوجوه إذا ميزت وجهًا.
وقال أبو العباس -رحمه الله: فأما قولهم: حسبك بزيد رجلًا, وأكرم به فارسًا وما أشبه ذلك, ثم تقول: حسبك به من رجل وأكرم به من فارس, ولله دره من شاعر, وأنت لا تقول: عشرون من درهم, ولا هو أفره منك من1, عبد فالفصل بينهما أن الأول كان يلتبس فيه التمييز بالحال فأدخلت "من" لتخلصه للتمييز ألا ترى أنك لو قلت: أكرِم به فارسًا وحسبك به خطيبًا2, لجاز أن تعني في هذه الحال, وكذلك إذا قلت: كم ضربت رجلًا, وكم ضربت من رجل, جاز ذلك لأن "كم" قد يتراخى عنها مميزها, فإن قلت: كم ضربتَ رجلًا؟ لم يدر السامع/ 253 أردت: كم مرة
__________
1 المقتضب 3/ 35، قال المبرد: ومن التمييز: ويحه رجلا، لله دره فارسا، وحسبك به شجاعا، إلا أنه إذا كان في الأول ذكر منه حسن أن تدخل "من" توكيدا لذلك الذكر، فتقول: ويحه من رجل، ولله دره من فارس وحسبك به من شجاع. ولا يجوز: عشرون من درهم، ولا: هو أفرههم من عبد، لأنه لم يذكره في الأول.
2 قال سيبويه: باب ما ينتصب انتصاب الاسم بعد المقادير وذلك قولك: ويحه رجلا، ولله دره رجلا، وحسبك به رجلا، وما أشبه ذلك، وإن شئت قلت: ويحه من رجل، وحسبك به من رجل، ولله دره من رجل، فتدخل "من" ههنا كدخولها في "كم" توكيدا. وانتصب الرجل لأنه ليس من الكلام الأول، وعمل فيه الكلام الأول. فصارت الهاء بمنزلة التنوين. الكتاب جـ1/ 299.

(1/226)


ضربتَ رجلًا واحدًا, أم: كم ضربت من رجل فدخول "من" قد أزال الشك وقال في قول الله تعالى: {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} 1, وقوله: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} 2: أن التمييز إذا لم يسم عددًا معلومًا: كالعشرين والثلاثين جاز تبيينه بالواحد للدلالة على الجنس, وبالجميع إذا وقع الإِلباس ولا إلباس في هذا الموضع لقوله: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ} , ولقوله: {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ} , وقال: وقد قال قوم "طِفْلًا" حال وهذا أحسن إلا أن الحال إذا وقعت موقع التمييز لزمها ما لزمه كما أن المصدر إذا وقع موقع الحال لم يكن إلا نكرة تقول: جاء زيد مشيًا فهو مصدر ومعناه ماشيًا وهذا كقوله تعالى: {يَأْتِينَكَ سَعْيًا} 3 لأنه في هذه الحال.
واعلم: أن "أفعل منك" لا يثنى ولا يجمع, وقد مضى ذكر هذا, تقول: مررت برجل أفضل منك وبرجلين أفضل منك وبقوم أفضل منك/ 254, وكذلك المؤنث. وأفضل موضعه خفض على النعت, إلا أنه لا ينصرف, فإن أضفته جرى على وجهين, إذا أردت: أنه يزيد على غيره في الفضل, فهو مثل الذي معه "من" فتوحده, تقول: مررت برجل أفضل الناس وأفضل رجل في معنى أفضل الرجال, وكذلك التثنية والجمع, تقول: مررت برجلين أفضل رجلين, وبنساء أفضل نساء. والوجه الآخر أن تجعل أفضل اسمًا ويثنى ويجمع في الإِضافة ولا يكون فيه معنى "من كذا" فإذا كان بهذه الصفة جاز أن تدخله الألف واللام إذا لم تضفه, ويثنى ويجمع ويؤنث.
__________
1 غافر: 67. وفي تأويل مشكل القرآن/ 219: أنه من وضع المفرد موضع الجمع. وفي المخصص جـ1/ 31: قد يقع الطفل على الجميع، وفي البحر المحيط جـ6/ 346: يوصف بالطفل المفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث بلفظ واحد، يقال أيضا: طفل وطفلان وأطفال.
2 النساء: 4. وانظر المقتضب 2/ 173. فالآيتان مذكورتان ولكن شرحهما غير موجود.
3 البقرة: 260.

(1/227)


ويعرف بالإِضافة, فتقول: جاءني الأفضل, والأفضلان, والأفضلون, وهذان أفضلا أصحابك وهؤلاء أفاضل أصحابك, فإذا كان على هذا لم تقع معه "من" وكانت أنثاه على "فعلى" وتثنيتها الفضليان والفضلين وتجمع الفضل والفضليات قال سيبويه: لا تقول: نسوة صغر1, ولا قوم/ 255 أصاغر إلا بالألف واللام, وأفعل التي معها "منك" لا تنصرف2, وإن أضفتها إلى معرفة ألا ترى أنك تقول: مررت برجل أفضل الناس فلو كانت معرفة ما جاز أن تصف بها النكرة, ولا يجوز أن تسقط من أفعل "من" إذا جعلته اسمًا أو نعتًا تقول: جاءني رجل أفضل منك ومررت برجل أفضل منك فلا تسقطها, فإن كان خبرًا جاز حذفها وأنت تريد: أفضل منك وزيد أفضل وهند أفضل.
قال أبو بكر: جاز حذف "من", لأن حذف الخبر كله جائز, والصفة تبيين ولا يجوز فيه حذف "من" كما لا يجوز حذف الصفة, لأن الصفة تبيين وليس لك أن تبهم إذا أردت أن تبين.
__________
1 انظر الكتاب 2/ 14 تابع 5/ 276 قال سيبويه: قلت: ما بال أُخر لا ينصرف في معرفة ولا نكرة؟ فقال -أي: الخليل- لأن أُخر خالفت أخواتها وأصلها، وإنما هي بمنزلة: الطول، والوسط، والكبر، لا يكن صفة إلا وفيهن ألف ولام فيوصف بهن المعرفة، ألا ترى أنك لا تقول: نسوة صغر، ولا هؤلاء نسوة وسط ولا تقول: هؤلاء قوم أصاغر، فلما خالفت الأصل جاءت صفة بغير الألف واللام، وتركوا صرفها كما تركوا صرف لكع حين أرادوا: يا ألكع، وفسق حين أرادوا: يا فاسق.
انظر: الكتاب 2/ 14.
2 انظر: الكتاب 2/ 5.

(1/228)


الضرب الثاني: المنصوب فيه هو المرفوع في المعنى:
هذا الضرب العامل فيه ما كان على لفظ الفعل, وتصرف تصرفه وجرى مجراه وليس به فهو خبر "كان وأخواتها" ألا ترى أنك/ 256 إذا قلت: كان عبد الله

(1/228)


منطلقًا, فالمنطلق هو عبد الله, وقد مضى شرح ذلك في الأسماء المرفوعات إذ لم يمكن أن تخلى الأسماء من الأخبار فيها. فقد غنينا عن إعادة ذلك في هذا الموضوع.

(1/229)


الضرب الثالث: الذي العامل فيه حرف جامد غير متصرف.
الحروف التي تعمل مثل عمل الفعل فترفع وتنصب خمسة أحرف1 وهي: إنَّ ولكن وليت ولعلَّ وكأنَّ.
فإنَّ: توكيد الحديث وهي موصلة للقسم لأنك لا تقول: والله زيد منطلق, فإنْ أدخلت "إنَّ" اتصلت بالقسم فقلت: والله إنَّ زيدًا منطلق2, وإذا خففت فهي كذلك, إلا أنَّ لام التوكيد تلزمها عوضًا لما ذهب منها فتقول: إنَّ زيدًا لقائم, ولا بدّ من اللام إذا خففت كأنهم جعلوها عوضًا ولئلا تلتبس بالنفي.
ولكنَّ: ثقيلة وخفيفة توجب بها بعد نفي, ويستدرك بها فهي تحقيق وعطف حال على حال تخالفها.
وليت: تمن/ 257.
ولعل: معناها التوقع لمرجو أو مخوف.
__________
1 كان سيبويه قد أشار إلى أن الحروف المشبهة خمسة، فهو لم يذكر أن المفتوحة الهمزة حين عدد الحروف المشبهة بالفعل، ولكن المتتبع لأمثلة الكتاب وشواهده يرى سيبويه يذكرها أحيانا وهو يتحدث عن مكسورة الهمزة. وقد أفرد بابا خاصا لاستعمالات "إن وأن" في آخر الجزء الأول، كل هذا يدل على أنه يراها حرفا واحدا تكسر همزته في مواطن، وتفتح في مواطن أخرى، انظر الكتاب: 1/ 285 و1/ 461 والمقتضب 4/ 107.
2 كلام ابن السراج صريح في أنه إذا وقعت "إن" في جواب القسم وجب كسر همزتها وإن لم يكن في خبرها اللام.

(1/229)


وقال سيبويه: لعل وعسى: طمع وإشفاق1.
وكأنَّ: معناها التشبيه إنما هي الكاف التي تكون للتشبيه دخلت على "أن"2.
وجميع هذه الحروف مبنية على الفتح مشبهة للفعل الواجب, ألا ترى أن الفعل الماضي كله مبني على الفتح, فهذه الأحرف الخمسة تدخل على المبتدأ والخبر فتنصب ما كان مبتدأ, وترفع الخبر فتقول: إن زيدًا أخوك, ولعل بكرًا منطلق, ولأنَّ زيدًا الأسد, فإنّ: تشبه من الأفعال ما قدم مفعوله نحو: ضرب زيدًا رجل, وأعلمت هذه الأحرف في المبتدأ والخبر كما أعلمت "كان" وفرق بين عمليهما: بأن قدم المنصوب بالحروف على المرفوع كأنهم جعلوا ذلك فرقًا بين الحرف والفعل, فإن قال قائل: إن "أنَّ" إنما عملت في الاسم فقط فنصبته وتركت الخبر على حاله كما كان مع الابتداء, وهو قول الكوفيين3. قيل له: الدليل على أنها هي الرافعة/ 258 للخبر, أن الابتداء قد زال وبه وبالمبتدأ كان يرتفع الخبر فلما زال العامل بطل أن يكون هذا معمولًا فيه, ومع ذلك أنا وجدنا كلما عمل في المبتدأ رفعًا أو نصبًا علم في خبره, ألا ترى إلى ظننت وأخواتها لما عملت في المبتدأ عملت في
__________
1 الكتاب 1/ 287 و2/ 67.
2 والذي قال بتركيب "كأن" هو الخليل، قال سيبويه: وسألت الخليل عن "كأن" فزعم: أنها "أن" لحقتها الكاف للتشبيه ولكنها صارت مع "أن" بمنزلة كلمة واحدة، وكذلك يراها سيبويه مركبة أيضا، قال وهو يتحدث عن زيادة اللام في "لعل"، وكذلك: كأن، دخلت الكاف فيها للتشبيه ومثل ذلك: "كأن وكذا" انظر الكتاب 1/ 287 و2/ 67.
3 مذهب الكوفيين أنها لم تعمل في الخبر، بل هو باق على رفعه قبل دخولها، وذلك لأن الأصل في هذه الحروف أن لا تنصب الاسم إنما نصبته لأنها أشبهت الفعل فإذا كانت إنما عملت لأنها أشبهت الفعل فهي فرع عليه، وإذا كانت فرعا عليه فهي أضعف، لأن الفرع أبدا يكون أضعف من الأصل، وينبغي في الخبر جريا على القياس في حط الفروع عن الأصول. انظر الإنصاف جـ1/ 104 وارتشاف الضرب/ 583.

(1/230)


خبره, وكذلك: كان وأخواتها, فكما جاز لك في المبتدأ والخبر, جاز مع "أن" لا فرق بينهما في ذلك, إلا أن الذي كان مبتدأ ينتصب بأن وأخواتها. ولا يجوز أن يقدم خبرها ولا اسمها عليها, ولا يجوز أيضًا أن تفصل بينهما وبين اسمها بخبرها إلا أن يكون ظرفًا لا يجوز أن تقول: إن منطلق زيدًا تريد: إن زيدًا منطلق1 ويجوز أن تقول: إن في الدار زيدًا وإن خلفك عمرًا, لأنهم اتسعوا في الظروف, وخصوها بذلك وإنما حسن تقديم الظرف إذا كان خبرًا, لأنَّ الظرفَ ليسَ مما تعملُ فيه "إنَّ" ولكثرتهِ في الاستعمال.
وإذا/ 259 اجتمع في هذه الحروف المعروفة والنكرة, فالاختيار أن يكون الاسم المعرفة والخبر النكرة, كما كان ذلك في المبتدأ لا فرق بينها في ذلك2, واللام تدخل على خبر "إن" خاصة مؤكدة له ولا تدخل في خبر أخواتها, وإذا دخلت لم تغير الكلام عما كان عليه تقول: إنَّ زيدًا لقائم وإنَّ زيدًا لفيك راغب, وإنَّ عمرًا لطعامك آكل, وإن شئت قلت: إنَّ زيدًا فيك لراغب, وإنَّ عمرًا طعامك لآكل, ولكنه لا بدّ من أن يكون خبر "إنَّ "بعد اللام, لأنه كان موضعها أن تقع موقع "إن" لأنها للتأكيد ووصلة للقسم مثل إن فلما أزالتهما "إن" عن موضعها وهو المبتدأ أُدخلت على الخبر فما كان بعدها فهي داخلة عليه, فإن قدمت الخبر لم يجز أن تدخل اللام فيما بعده لا يصلح أن تقول: إنَّ زيدًا لفيك راغب ولا: إنَّ زيدًا أكل لطعامك وتدخل هذه/ 260 اللام على الاسم إذا وقع موقع الخبر. تقول: إنَّ في الدار لزيدًا وإنَّ خلفك لعمرًا قال الله تعالى: {وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى} 3.
__________
1 لا يجوز فيها التقديم والتأخير، لأنها حرف جامد، لا تقول فيه: فعل، ولا فاعل كما كنت تقول في "كان" يكون، وهو كائن. وانظر الكتاب 1/ 280، ذلك في إشارته إلى جواز تقديم الخبر في "إن وأخواتها" إذا كان ظرفا أو جارا ومجرورا.
2 لأن "إن وأخواتها" تدخل على الابتداء والخبر فقصتها قصتهما.
3 الليل: 13.

(1/231)


واعلم: أنهم يقولون: إنه زيد منطلق, يريدون: أن الأمر زيد منطلق, وإنما أظهروا المضمر المجهول في "إن وظننت" خاصة, ولم يظهروا في "كان" لأن المرفوع ينستر في الفعل والمنصوب يظهر ضميره فمن قال: كان زيد منطلق قال: إنه زيد منطلق وإنه أمة الله ذاهبة وإنه قام عمرو والكوفيون يقولون: إنه قام عمرو هذه الهاء عماد ويسمونها المجهول1. ويجوز أن تحذف الهاء وأنت تريدها فتقول: إنَّ زيدًا منطلق تريد: إنه وإن حذفت الهاء فقبيح أن يلي إن فعل يقبح أن تقول: إن قام زيد وإن يقوم عمرو2 تريد: إنه فإن فصلت بينها وبين الفعل بظرف جاز ذلك/ 261 فقلت: إن خلفك قام زيد ويقوم عمرو وإن اليوم خرج أخوك ويخرج عمرو وقال الفراء: اسم إن في المعنى وقال الكسائي: هي معلقة وأصحابنا3 يجيزون: إن قائمًا زيد وإن قائمًا الزيدان وإن قائمًا الزيدون ينصبون "قائمًا" بإنَّ ويرفعون "زيدًا" بقائم على أنه فاعل. ويقولون: الفاعل سد مسد الخبر كما أن "قائمًا" قام مقام الاسم. وتدخل "ما" زائدة على "إن" على ضربين: فمرة تكون ملغاة دخولها كخروجها لا تغير إعرابًا تقول: إنما زيدًا منطلق وتدخل على "إن" كافة للعمل فتبنى معها بناء فيبطل شبهها بالفعل فتقول: إنما زيد منطلق "فإنما": ههنا بمنزلة "فعل" ملغى مثل: أشهد لزيد خير منك.
__________
1 يطلق الكوفيون على الضمير الذي لم يتقدمه ما يعود عليه هذه التسمية ويسميه البصريون: ضمير الشأن والقصة والحديث.
وانظر: شرح المفصل 3/ 114.
2 لا يجوز هذا لبعده، وذلك أن موضع الأخبار إنما هو للأسماء، لأن الخبر إنما هو الابتداء في المعنى، ثم إن "أن" مشبهة بالفعل، فلا يجوز أن تلي الفعل، كما لا يلي فعل فعلا، وليس فيها ضمير فيكون بمنزلة: كاد يقدم زيد، لأن في كاد ضميرا حائلا بينها وبين الفعل.
3 أي: البصريون.

(1/232)


قال سيبويه: وأما ليتما زيدًا منطلق, فإن الإِلغاء فيه حسن, وقد كان رؤبة ينشد هذا البيت رفعًا1:
قَالَتْ ألا لَيْتَمَا هَذا الحَمَامَ لَنَا ... إلى حَمَامَتِينَا وَنِصفه فَقَدِ2
قال وأما لعلَّما فهو بمنزلة كأنما, قال ابن كراع:
تَحَلَّلْ وعَالِجْ ذَاتَ نَفْسِكَ وانظُرَنْ ... أبا جُعَلٍ لعلَّما أنْتَ حَالِمُ3
قال الخليل: إنما لا تعمل في ما بعدها كما أن "أرى" إذا كانت لغوًا لم تعمل, ونظير "إنما" قول المرار:
__________
1 انظر الكتاب 1/ 282.
2 من شواهد الكتاب 1/ 282. ويروى "الحمام" بالرفع كرواية المصنف وبالنصب فمن رفع جعل "ما" بمعنى الذي وهي منصوبة "بليت" وهذا: خبر مبتدأ مضمر، تقديره: الذي هو هذا، ومثله: ما بعوضة. فيمن رفع، ويجوز أن تكون "ما" كافة فترفع "هذا" بالابتداء ويكون "الحمام" بدلا منه. فإن جعلت "ما" زائدة نصبت وهي في "ليت" أحسن وفي "أن" إذا وصلت بها قبيح. ويروى: أو نصفه فقد.. والبيت للنابغة الذبياني في وصف ما كان من زرقاء اليمامة حين نظرت إلى القطا طائرة فأحصت عددها وخبرها مشهور.
وانظر الخزانة 4/ 297، وشواهد العيني 2/ 254. وشعراء النصرانية/ 664. والمغني جـ1/ 66، تحقيق: د. مازن المبارك. وشرح ابن يعيش 8/ 58 وديوان النابغة/ 45.
3 من شواهد الكتاب جـ1/ 283، على إلغاء "لعل" لأنها جعلت مع "ما" من حروف الابتداء.
يقول: هذا هازئا برجل توعده، أي: إنك كالحالم في وعيدك لي ويمينك على مضرتي فتحلل من يمينك، أي: استثن وعالج ذات نفسك من ذهاب عقلك وتعاطيك ما ليس في وسعك.
والبيت لسويد بن كراع العكلي. وانظر ابن يعيش 8/ 54 والخزانة 4/ 297.

(1/233)


أَعَلاقَةً أمَّ الوَلِيدِ بَعْدَمَا ... أفْنَانُ رأسِكِ كالثَّغَامِ المُخْلِسِ1.
جعل "بعد" مع "ما" بمنزلة حرف واحد وابتدأ ما بعده, والفرق بين إن وإنما في المعنى أن إنما تجيء لتحقير الخبر, قال سيبويه تقول: إنما سرت حتى أدخلها, إذا كنت محتقرًا لسيرك إلى الدخول2.
و"أن" المفتوحة الألف عملها كعمل "إن" المكسورة الألف, إلا أن الموضع الذي تقع فيه المكسورة خلاف الموضع الذي تقع فيه المفتوحة, ونحن نفرد بابًا لذكر الفتح والكسر يلي هذا الباب إن شاء الله, "وأن" المفتوحة مع ما/ 263 بعدها بمنزلة المصدر, تقول: قد علمت أن زيدًا منطلق, فهو بمنزلة قولك: علمت انطلاق زيد, وعرفت أن زيدًا قائم, كقولك: عرفت قيام زيد.
__________
1 من شواهد سيبويه أيضا 1/ 283. على زيادة "ما" وجعلها كافة "لبعد" عن الإضافة. وكذلك في جـ1/ 60 "على نصب" أم الوليد بعلاقة فإنه اسم مصدر "لتعلق" وعمل عمل المصدر.
والعلاقة: الحب. والأفنان: جمع فنن وهو الغصن، وأراد بها ذوائب الشعر على سبيل الاستعارة. والثغام: نبات له خيوط طوال دقاق من أصل واحد, وإذا جفت ابيضت كلها. ويشبه بها الشيب. والمخلس: ما اختلط فيه البياض بالسواد. وصغر الوليد ليدل على شباب المرأة، ولأن صغر ولدها لا يكون إلا في عصر شبابها. والبيت للمرار الفقعسي.
وانظر المقتضب 2/ 54. وإصلاح المنطق/ 45. والتمام في تفسير أشعار هذيل/ 210. وأمالي ابن الشجري 2/ 242. وجمهرة الأمثال للعسكري 2/ 38. واللسان "ثغم" وشرح الرضي على الكافية 2/ 359. والمغني 1/ 344 وشرح الشافية 1/ 273. والخزانة 4/ 493.
2 انظر الكتاب 1/ 415. ذكر سيبويه هذا المثال تحت باب "حتى" من الأدوات الناصبة للفعل المضارع، لكن ابن السراج ذكره تحت باب "إن وأخواتها" وذلك لاتصاله بهذا الموضوع وعلاقته به.

(1/234)


واعلم: أنَّ "إن وأن" تخففان, فإذا خففتا فلك أن تعملهما, ولك أن لا تعملهما أما من لم يعملهما, فالحجة له: أنه إنما أعمل لما أشبهت الفعل بأنها على ثلاثة أحرف وأنها مفتوحة. فلما خففت زال الوزن والشبه. والحجة لمن أعمل أن يقول: هما بمنزلة الفعل. فإذا خففتا كانتا بمنزلة فعل محذوف. فالفعل يعمل محذوفًا عمله تامًا وذلك قولك: لم يك زيد منطلقًا فعمل عمله والنون فيه والأقيس في "أن": أن يرفع ما بعدها إذا خففت وكان الخليل يقرأ: "إِنْ هَذَا لَسَاحِرَانِ"1 فيؤدي خط المصحف2, ولا بدّ من إدخال اللام على الخبر إذا خففت إن المكسورة تقول: إنِ الزيدان لمنطلقان, وإنْ هذا لمنطلقان/ 264 كيلا يلتبس "بإن" التي تكون نفيًا في قولك: إن زيد قائم, تريد: ما زيد بقائم وإذا نصب الاسم بعدها لم يحتج إلى اللام, لأن النصب دليل, فكان سيبويه لا يرى في "إن" إذا كانت بمعنى "ما" إلا رفع الخبر3 لأنها حرف نفي دخل على ابتداء وخبر, كما تدخل ألف
__________
1 طه: 63.
2 في الإتحاف ص/ 304. فنافع وابن عامر وأبو بكر وحمزة والكسائي وأبو جعفر ويعقوب وخلف بتشديد "إن"، وهذان بالألف وتخفيف النون، وقرأ ابن كثير وحده بتخفيف "إن" وهذان بالألف مع تشديد النون. وقرأ حفص كذلك، إلا أنه خفف نون "هذان".
وهاتان القراءتان أوضح القراءات في هذه الآية معنى ولفظا وخطا، وذلك أن "إن" المخففة أهملت، وهذان: مبتدأ، وساحران: الخبر, واللام للفرق بين النافية والمخففة.
وقرأ أبو عمرو: إن بتشديد النون، وهذين بالياء مع تخفيف النون، وهذه القراءة واضحة من حيث الإعراب لكن استكملت من حيث خط المصحف، وذلك أن هذين رسم بغير ألف ولا ياء. ولا يرد بهذا على أبي عمرو، وكم جاء في الرسم مما هو خارج عن القياس مع صحة القراءة وتواترها. وانظر البحر المحيط 6/ 255.
3 قال سيبويه 1/ 475 وتكون "إن" في معنى "ما" قال الله عز وجل: {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} ، أي: ما الكافرون إلا في غرور، ولم يمثل لها سيبويه في حالة إعمالها.

(1/235)


الاستفهام, ولا تغير الكلام وذلك مذهب بني تميم.
قال أبو العباس وغيره: نجيز نصب الخبر على التشبيه بـ"ليس" كما فعل ذلك في ما1.
قال أبو بكر: وهذا هو القول, لأنه لا فصل بينهما وبين "ما" في المعنى2.
قال أبو علي الفارسي3: القول غير هذا, ولـ"إنْ" المخففة أربعة مواضع: "إن" التي تكون في الجزاء نحو: إن تأتني آتك. والثاني: أن تكون في معنى "ما" نفيًا تقول: إن زيد منطلق, تريد: ما زيد منطلق. والثالث: أن تدخل زائدة مع "ما" فتردها إلى/ 265 الابتداء, كما تدخل "ما" على إن الثقيلة فتمنعها عملها وذلك قولك: ما إن يقوم زيد, وما إن زيد منطلق, ولا يكون الخبر إلا مرفوعًا, قال الشاعر فروة بن مسيك:
ومَا إنْ طِبُّنا جُبْنٌ وَلكِنْ ... مَنَايَانَا ودَوْلهٌ آخِرينَا4
__________
1 انظر المقتضب 2/ 362.
2 هذه الجملة للمبرد، قال في المقتضب 2/ 362: وغير سيبويه يجيز نصب الخبر على التشبيه بليس كما فعل ذلك في "ما" وهذا هو القول لأنه لا فصل بينهما وبين "ما" في المعنى.
3 أظن هذا من عمل الناسخ لأن أبا على تلميذ ابن السراج وربما أخذ الأستاذ عن تلميذه النابه.
4 من شواهد سيبويه 1/ 475 و2/ 305. على زيادة "إن" بعد "ما" وكفها عن العمل كما تكف "ما" إن عن العمل في قولك: إنما.. والطب: العلة والسبب. أي: لم يكن سبب قتلنا الجبن، وإنما كان ما جرى به القدر من حضور المنية وانتقال الدولة عنا.
وانظر المقتضب جـ1/ 50 والصاحبي/ 103 والخصائص جـ3/ 108. والمنصف جـ3/ 128 والسيرة لابن هشام/ 950. والروض الأنف. والمحتسب جـ1/ 92 والوحشيات/ 27 وشرح الكافية للرضي جـ1/ 246.

(1/236)


الرابع: أن تكون مخففة من الثقيلة, فإذا رفعت ما بعدها لزمك أن تدخل اللام على الخبر, ولم يجز غير ذلك لما خبرتك به, وعلى هذا قوله تعالى: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} 1 وقوله: {وَإِنْ كَانُوا يَقُولُون} 2, وإن نصبت بها لم تحتج إلى اللام, إلا أن تدخلها توكيدًا كما تدخلها في "إن" الثقيلة, لأن اللبس قد زال. وأما "أن المخففة" من المفتوحة الألف إذا خففتها من أن المشددة فالاختيار أن ترفع ما بعدها على أن تضمر فيها الهاء, لأن المفتوحة وما بعدها مصدر فلا معنى لها في الابتداء, والمكسورة إنما دخلت على الابتداء/ 266 وخبره.
وأن الخفيفة تكون في الكلام على أربعة أوجه: فوجه: أن تكون هي والفعل الذي تنصبه مصدرًا نحو قولك: أريد أن تقوم, أي: أريد قيامك.
والثاني: أن تكون في معنى "أي" التي تقع للعبارة والتفسير وذلك قوله تعالى: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا} 3. ومثله: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} 4.
والثالث: أن تكون فيه زائدة مؤكدة وذلك قولك: لما أن جاء زيد
__________
1 الطارق: 4. وقراءة تشديد "لما" ليس لها تخريج سوى أن تكون "إن" نافية ولما بمعنى إلا، انظر البحر المحيط جـ8/ 454 وجـ7/ 334، والكشاف 4/ 202 والمغني 1/ 220، وقراءة تخفيف الميم من "لما" تكون "إن" فيها مخففة و"ما" زائدة. والقراءتان سبعيتان. النشر جـ2/ 399.
2 الصافات: 167.
3 سورة ص: 6 "في سيبويه 1/ 479" باب ما تكون أن فيه بمنزلة أي وذلك قوله عز وجل: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا} زعم الخليل: أنه بمنزلة أي، لأنك إذا قلت: انطلق بنو فلان أن امشوا فأنت لا تريد أن تخبر أنهم انطلقوا بالمشي - وانظر: المقتضب 1/ 49.
4 المائدة: 117.

(1/237)


قمت: والله أن لو فعلت لأكرمتك, قال الله تعالى: {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا} 1.
والرابع: أن تكون مخففة من الثقيلة وذلك قوله تعالى: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 2. ولو نصبت بها وهي مخففة لجاز.
قال سيبويه: لا تخففها أبدًا في الكلام وبعدها الأسماء إلا وأَنتَ تريد الثقيلة تضمر فيها الاسم -يعني الهاء- قال: ولو لم يريدوا ذلك لنصبوا كما ينصبون إذ اضطروا في الشعر3 / 267 يريدون معنى "كأن" ولم يريدوا الإِضمار وذلك قوله:
كأنَّ وَرِيْدَيهِ رِشَاءُ خُلْبِ4
قال: وهذه الكاف إنما هي مضافة إلى "إن" فلما اضطر إلى التخفيف ولم يضمر لم يغير ذلك التخفيف أن ينصب بها كما أنك قد تحذف من الفعل
__________
1 العنكبوت: 33.
2 يونس: 10 "وفي سيبويه جـ1/ 480 وأما قوله تعالى: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، وآخر قولهم: أن لا إله إلا الله فعلى قوله: أنه لا إله إلا الله. وعلى أنه الحمد لله".
3 انظر الكتاب جـ1/ 280.
4 من شواهد سيبويه جـ1/ 480. على تخفيف "كأن" ونصبها الاسم وجوز الرفع أيضا على إلغاء العمل.
والوريدان: عرقان في الرقبة، والرشاء: الحبل، والخلب: الليف. وقيل: البئر البعيدة القعر.
والرجز: كما نسبه العيني إلى رؤية بن العجاج، وبعده:
غادرته مجدلا كالكلب.
وانظر: المقتضب 1/ 50. الإنصاف جـ1/ 113. والمفصل للزمخشري/ 301. وابن يعيش جـ8/ 83. واللسان 1/ 352.

(1/238)


فلا يتغير عن عمله نحو: لم يكن صالحًا, ولم يك صالحًا, ومثل ذلك -يعني الأول- قول الأعشى:
في فتيةٍ كسُيُوفِ الهِنْدِ قَدْ عَلِمُوا ... أنْ هالكٌ كلُّ منْ يَحْفَى ويَنْتَعِلُ1.
كأنه قال: إنه هالك وإن شئت رفعت في قول الشاعر: كأن وريداه رشاء خلب2.
واعلم: أنه قبيح أن يلي "إن" المخففة الفعل إذا حذفت الهاء وأنت تريدها, كأنهم كرهوا أن يجمعوا على الحرف الحذف وأن يليه ما لم يكن يليه وهو مثقل, قبيح أن تقول: قد عرفت أن يقوم زيد: حتى تفصل بين أن والفعل/ 268 بشيء يكون عوضًا من الاسم نحو: لا, وقد, والسين,
__________
1 من شواهد سيبويه جـ1/ 282، 440، 480، جـ2/ 123، على تخفيف "أن" واسمها ضمير الشأن محذوف. وقوله: هالك: خبر مقدم، وكل: مبتدأ مؤخر، والجملة منهما في محل رفع خبر "أن"، يريد: أنهم كالسيوف في المضاء والعزم أو في صباحة الوجوه، تبرق كالسيوف. وخص سيوف الهند لحسن صقالتها.
ويحفى: من الحفاء، وهو المشي بلا نعل ولا خف، وأراد به الفقير. وينتعل: يلبس النعل، وأراد به الغني.
والمعنى: قد علم هؤلاء الفتيان أن الموت يعم غنيهم وفقيرهم فهم يبادرون إلى اللذات قبل أن يحول الموت بينها وبينهم.
وقيل: إن الشاهد مصنوع والرواية الصحيحة في هي:
أن ليس يدفع عن ذي الحيلة الحيل..
وفي هذه الرواية شاهد أيضا، إذ إن تقدير الكلام: أنه ليس يدفع.. والبيت من قصيدة مشهورة للأعشى. ورواية الديوان:
أن ليس يدفع عن ذي الحيلة الحيل
وانظر: المقتضب 3/ 9. وشرح السيرافي 4/ 49. والخصائص 2/ 441. وأمالي ابن الشجري 2/ 2. وابن يعيش 8/ 74. والعيني 2/ 287. والخزانة 3/ 547. والديوان/ 59.
2 انظر الكتاب 1/ 480. والرفع على إلغاء العمل بعد التخفيف.

(1/239)


تقول: قد عرفت أن لا يقوم زيد, وأن سيقوم زيد وأن قد قام زيد كأنه قال: عرفت أنه لا يقوم زيد وأنه سيقوم زيد وأنه قد قام زيد ونظير ذلك قوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} 1, وقوله: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا} 2.. وأما قولهم: أما أن جزاك الله خيرًا فإنهم إنما أجازوه لأنه دعاء ولا يصلون إلى "قد" هنا ولا إلى "السين" لو قلت: أما أن يغفر الله لك. لجاز لأنه دعاء ولا تصل هنا إلى السين ومع هذا كثر في كلامهم حتى حذفوا فيه: أنه وإنه لا يحذف في غير هذا الموضع. وسمعناهم يقولون3: أما أن جزاك الله خيرًا شبهوه "بأنه" أضمروا فيها كما أضمروا في "أن" فلما جازت "أن" كانت هذه أجوز.
واعلم: أنك إذا عطفت اسمًا على/ 296 أن وما عملت فيه من اسم وخبر فلك أن تنصبه على الإِشراك بينه وبين ما عملت فيه أن ولك أن ترفع, تحمله على الابتداء, يعني -موضع أن- فتقول: إن زيدًا منطلق وعمرًا وعمرو, لأن معنى: إن زيدًا منطلق, زيد منطلق, قال الله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} 4. ولك أن تحمله على الاسم المضمر في "منطلق" وذلك ضعيف إلا أن تأتي "بهو" توكيدًا للمضمر فتقول: إن زيدًا منطلق هو وعمرو, وإن شئت حملت الكلام على الأول فقلت: إن زيدًا منطلق وعمرًا ظريف.
ولعل وكأن وليت: ثلاثتهن يجوز فيهن جميع ما جاز في إن إلا أنه لا
__________
1 المزمل: 20، واسمها ضمير الشأن والجملة خبرها.
2 طه: 89، قراءة نصب الفعل من الشواذ، ابن خالويه/ 89 وقال أبو حيان: الرؤية من الأبصار، البحر المحيط 6/ 269.
3 انظر: الكتاب 1/ 481.
4 التوبة: 3. وانظر الكتاب 1/ 285.

(1/240)


يرفع بعدهن شيء على الابتداء, وقال سيبويه: ومن ثم اختار الناس: ليت زيدًا منطلق وعمرًا, وضعف عندهم أن يحملوا عمرًا على المضمر حتى يقولوا "هو", ولم تكن ليت واجبة ولا لعل1 / 270 ولا كأن فقبح عندهم أن يدخلوا الكلام الواجب في موضع التمني فيصيروا قد ضموا إلى الأول ما ليس في معناه2, يعني أنك لو قلت: ليت زيدًا منطلق وعمرو, فرفعت عمرا كما ترفعه إذا قلت إن زيدا منطلق وعمرو فعطف عمرا على الموضع لم يصلح من أجل أن ليت وكأن ولعل لها معان غير معنى الابتداء وإن: إنما تؤكد الخبر والمعنى معنى الابتداء والخبر, ولم تزل الحديث عن وجوبه وما كان عليه. وإذا كان خبر إن فعلًا ماضيًا لم يجز أن تدخل عليه اللام التي تدخل على خبرها إذا كان اسمًا تقول: إنّ عمرًا لقائم وإنّ بكرًا لأخوك, ولا يجوز أن تقيم "قام" مقام "قائم" فتقول: إن زيدًا لقامَ, وأنت تريد هذه اللام, لأن هذه اللام لام الابتداء.
تقول: والله لزيد في الدار, ولعمرو أخوك فإذا دخلت إن أزيلت إلى الخبر والدليل على ذلك قولهم: قد علمت إنّ زيدًا لمنطلق, فلولا/ 271 اللام لانفتحت أن, وإنما انكسرت, لأن اللام مقدرة بين علمت وإن, ألا ترى أنك تقول: قد علمت لزيد منطلق أقحمت اللام بين الفعل والابتداء, لأنها لام الابتداء فلما أدخلت "أن", وهي تدخل على المبتدأ وخبره تأكيدًا كدخول اللام للتأكيد لم يجمعوا بين تأكدين, وأزالوها إلى الخبر, فإن كان الخبر اسمًا كالمبتدأ أو مضارعًا للاسم دخلت عليه, وإن لم يكن كذلك لم تدخل عليه, قال الله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُم} 3, أي: لحاكم, فإن قال
__________
1 انظر الكتاب جـ1/ 286.
الكتاب 1/ 286، ونص سيبوبه ... فيصيروا قد ضموا إلى الأول ما ليس على معناه بمنزلة "أن".
2 النحل: 124، قال سيبويه: وإنما ضارعت أسماء الفاعلين أنك تقول: إن عبد الله.
3 ليفعل، فيوافق قولك لفاعل.

(1/241)


قائل: أراني أقول: لأقومن, ولتنطلقن, فأبدأ باللام وأدخلها على الفعل؟ قيل له: ليست هذه اللام تلك اللام, هذه تلحقها النون وتلزمها وليست الأسماء داخلة في هذا الضرب فإذا سمعت: والله لقامَ زيد, فهذه اللام هي التي إذا دخلت على المستقبل كان معها النون كما قال امرؤ القيس:
حَلَفْتُ لَهَا بالله حلفَةَ فَاجِرٍ ... لَنَامُوا فَمَا إن مِنْ حَديثٍ ولا صَالي1
قال/ 272: ويقال: إنه أراد: لقد ناموا, فلما جاء "بقد" قربت الفعل من الحاضر, فهذه اللام التي تكون معها النون غير مقدر فيها الابتداء.
تقول: قد علمت أن زيدًا ليقومن, وأن زيدًا لقائم, فلا تكسر أن كما تكسرها في قولك: أشهد إن محمدًا لرسول الله. واعلم إن بكرًا ليعلم ذلك, قال سيبويه: إن هذه اللام دخلت على جهة الشذوذ2.
قال سيبويه: وقد يستقيم في الكلام: إن زيدًا ليضرب وليذهب3, ولم يقع "ضرب" والأكثر على ألسنتهم كما خبرتك في اليمين, ولا يجوز أن تدخل "إنَّ" على "أنَّ"4, كما لا يدخل تأنيث على تأنيث, ولا استفهام على
__________
1 الشاهد فيه حذف "قد" من "لناموا" على الشذوذ، وقد ذكر ابن هشام: أن ابن عصفور قال: إن القسم إذا أجيب بماض متصرف مثبت، فإن كان قريبا من الحال جيء باللام و"قد" جميعا، نحو: تالله لقد آثرك الله علينا، وإن كان بعيدا جيء باللام وحدها كقوله: حلفت لها بالله ...
والصالي: المستدفئ.
وانظر: شرح المفصل لابن يعيش جـ9/ 20، والمغني جـ1/ 188 تحقيق د. مازن المبارك، والخزانة جـ4/ 221. والشعر والشعراء/ 136. وروايته: وما إن من حديث ولا صالي. والتهذيب للأزهري جـ5/ 66. والمفصل للزمخشري/ 12.
2 انظر الكتاب 1/ 473.
3 انظر الكتاب 1/ 473.
4 قال سيبويه: اعلم: أنه ليس يحسن أن تلي أن إن، ولا إن أن، ألا ترى أنك لا تقول: إن إنك ذاهب في الكتاب، ولا تقول: قد عرفت أن إنك منطلق في الكتاب، وإنما قبح هذا ههنا كما قبح في الابتداء. فهو يرى أن كل واحدة منهما لا تستغني عن الاسم والخبر، كما أن المبتدأ لا يستغني عن الخبر، والجملة يتعذر أن تكون في آن واحد اسما وخبرا لأن وأن على السواء. الكتاب 1/ 463.
أما السيرافي فيرى المانع هو: أنهما جميعا للتأكيد، يجريان مجرى واحد فكرهوا الجمع بينهما، كما كرهوا الجمع بين اللام وإن، وهذا لا يختلف عن رأي ابن السراج انظر شرح الكتاب جـ4/ 22.

(1/242)


استفهام, فحرف التأكيد كذلك لا يجوز أن يدخل حرف تأكيد على حرف مثله, لا يجوز أن تقول: إن إنكَ منطلق يسرني/ 273 تريد: إن انطلاقَك يسرني. فإن فصلتَ بينها فقلت: إن عندي أنك منطلق جاز. قال الله عز وجل: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى، وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} 1, فإنَّ هي التي فتحت أن وموضع أن في قوله: {وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا} , وما علمت فيه نصب بأن الأولى كما تقول: إن في الدار لزيدًا, فحسن إذا فرقت بين التأكيدين. ومن قرأ: {وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ} , وجعلهُ مستأنفًا, كقولكَ: إن في الدارِ زيدًا وعمرو منطلق, لأن الكلام إذا تم فلك أن تستأنف ما بعده, فإن قال قائل: من أين قلت في قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُم} 2 أن الفعل المضارع وقع موقع "حاكم", ولم تقل إن الموضع للفعل وإنما وقع الاسم موقعه بمضارعته له؟ قيل له: لو كان حق اللام أن تدخل على الفعل وما ضارع الفعل لكان دخولها على الماضي/ 274 أولى, لأنه فعل كما أن المضارع فعل. ومع ذلك إنها قد تدخل على الاسم
__________
1 طه: 118-119. في سيبويه 1/ 463، وتقول: إن لك هذا على وأنك لا تؤذي، كأنك قلت: وإن لك ألا تؤذي، وإن شئت ابتدأت ولم تحمل الكلام على أن لك، وقد قرئ هذا الحرف على وجهين، قال بعضهم: وإنك لا تظمأ فيها، وقال بعضهم: "وأنك" القراءتان: فتح همزة أنك وكسرها سبعيتان.
الفتح بالعطف على ألا تجوع والكسر بالعطف على جملة أن الأولى أو على الاستنئاف.
انظر: النشر 2/ 322، الإتحاف 308. الكاشف 2/ 444. البحر المحيط 6/ 284.
2 النحل: 124.

(1/243)


الذي لا يضارع الفعل, نحو قولك: إن الله لربنا, وإن زيدًا لأخوك, فليس هنا فعل ولا مضارع لفعل. ولا يجوز أن تُدخل هذه اللام على حرف الجزاء, لا تقول: إن زيدًا, لأن أتاني أكرمته, ولا ما أشبه ذلك. ولا تدخل على النفي, ولا على الحال, ولا على الصفة, ولا على التوكيد, ولا على الفعل الماضي كما قلنا, إلا أن يكون معه "قد".
ولكنَّ الثقيلة التي تعمل عمل "إن" يستدرك بها بعد النفي وبعد الإِيجاب, يعني إذا كان بعدها جملة تامة كالذي قبلها نحو قولك: ما جاءني زيدٌ لكن عمرًا قد جاء, وتكلم عمرو لكن بكرًا لم يتكلم.
ولكن الخفيفة إذا ابتدأت ما بعدها وقعت أيضًا بعد الإِيجاب والنفي للاستدراك. فأما إذا كانت "لكن" عاطفة اسمًا مفردًا على اسم/ 275 لم يجز أن تقع إلا بعد نفي, لا يجوز أن تقول: جاءني زيد لكن عمرو, وأنت تريد عطف عمرو على زيد1.
__________
1 بل القول الصحيح: ما جاءني زيد لكن عمرو هذا في المفرد أما إذا عطفت بها جملة جاز أن يكون ذلك بعد الإيجاب، تقول: قد جاءني زيد لكن عمرو لم يأتني.

(1/244)


مسائل من هذا الباب:
تقول: إن عبد الله الظريف منطلق, فإن لم تذكر "منطلق" وجعلت الظريف خبرًا رفعته فقلت: إن عبد الله الظريف1, كما كنت تقول: كان زيدٌ الظريف ذاهبًا, وإذا لم تجئ بالذاهب قلت: كان زيدٌ الظريف وتقول: إن فيها زيدًا قائمًا إذا جعلت "فيها" الخبر ونصبت "قائمًا"على الحال. فإن جعلت "قائمًا" الخبر والظرف "فيها" رفعت فقلت: إن فيها زيدًا قائم, وكذلك إن زيدًا فيها قائمٌ وقائمًا, تقول: إن بك زيدًا مأخوذ, وإن لك زيدًا, واقف لا يجوز إلا الرفع؛ لأن "بك ولكل" لا يكونان خبرًا لزيد2, فلو قلت: إن زيدًا بكَ وإن زيدًا لك, لم يكن كلامًا تاما وأنت
__________
1 وذلك لأن الخبر لا بد منه، وله وضع الكلام، والصفة تبيين وتركها جائز.
2 لأن المتعلق مخصوص لا يفهم المراد به إلا ذكر "لا" للإلغاء.

(1/244)


تريد هذه المعاني, فإن أردت بأن زيدًا لك/ 276 أي: ملك لك, وما أشبه ذلك, جاز, ومثل ذلك: إن فيك زيدًا لراغب, ولو قلت: إن فيك زيدًا راغبًا لم يصلح, وإنما تنصب الحال بعد تمام الكلام, وتقول: إن اليوم زيدًا منطلق, لا يجوز إلا الرفع, لأن "اليوم" لا يكون خبرًا لزيد, وتقول: إن اليوم فيك زيد ذاهب فتنصب "اليوم" بإن؛ لأنه ليس هنا بظرف إذ صار في الكلام ما يعود إليه. وتقو ل: إن زيدًا لفيها قائمًا. وإن شئت ألغيت "لفيها" فقلت: إن زيدًا لفيها قائم واللام تدخل على الظرف خبرًا كان أو ملغى, مقدمًا على الخبر خاصة ويدلك على ذلك قول الشاعر وهو أبو زبيد:
إن أمرًا خصني عمدًا مودته ... على التنائي لعندي غير مكفور1
وإذا قلت: إن زيدًا فيها لقائم, فليس "فيها" إلا الرفع؛ لأن اللام لا بُدَّ من/ 277 أن يكون خبر إن بعدها على كل حال, وكذلك: إن فيها زيدًا لقائم, وروى الخليل: أن ناسًا يقولون: إن بك زيد مأخوذ, فقال: هذا علي: إنه بك زيد مأخوذ, وشبهه بما يجوز في الشعر نحو قول ابن صريم اليشكري:
وَيْوَمًا تُوافِينَا بِوَجْهٍ مقسَّم ... كَأَنْ طَبْيةٌ تَعْطُو إلى وَارِقِ السلمِ 2
__________
1 من شواهد الكتاب 1/ 281. على إلغاء الظرف وهو "عندي" والمكفور هنا: من كفر النعمة. وجحودها، وأراد: خصني بمودته فحذف وأوصل الفعل فنصب، والبيت لأبي زبيد يمدح أخاه لأمه وليد بن عقبة.
وانظر: شرح السيرافي 3/ 5، ابن يعيش 8/ 64. والهمع جـ1/ 116 والمغني جـ2/ 752. تحقيق د. مازن المبارك.
2 من شواهد سيبويه 1/ 281 على رفع ظبية على الخبر وحذف الاسم مع تخفيف "كأن" والتقدير: كأنها ظبية. ويجوز نصب "الظبية" "بكأن" تشبيها بالفعل إذا حذف بعضه وعمل نحو: لم يك زيد منطلقا. والخبر محذوف لعلم السامع، والتقدير: كأن ظبية تعطو هذه المرأة. ويجوز جر الظبية على تقدير: كظبية و"أن" زائدة مؤكدة. والموافاة: الإتيان. والمقسم -بضم الميم وفتح القاف والسين- المحسن من القسامة وهو الحسن، يقال فلان: قسيم الوجه ومقسمه، أي: حسنه، وتعطو: تتناول وعداه "بإلى" لتضمنه معنى تميل. والوراق: اسم فاعل، وفعله أورق وهو نادر. والسلم: شجر العضاة، وصف امرأة حسنة الوجه، فشبهها بظبية مخصبة، تأتي إلى الشجر الكثير الأوراق فتتناول منه ما تشاء وذلك أدعى لسمنتها وتمام خلقها.
وانظر: الكامل/ 49، وشرح السيرافي 4/ 50، والمحتسب 1/ 308، وابن يعيش 8/ 83، والتصريح 1/ 234، والعيني 2/ 301، والخزانة 4/ 365، والمغني 1/ 32.

(1/245)


وقال آخر:
وَوَجْه مُشْرِقِ النَّحْرِ ... كأنْ ثَدْياهُ حُقَّانِ1
لأنه لا يحسن ههنا إلا الإِضمار.
__________
1 من شواهد سيبويه 1/ 281 على تخفيف "كأن" وحذف اسمها ورفع الاسم المذكور بعدها على أنه مبتدأ، والجملة منه ومن خبره خبر "كأن" والتقدير: كأنه ثديا حقان.
ويجوز أن تقول: كأن ثدييه حقان على الأعمال، وقد ورد كذلك في رواية أخرى.
والهاء في ثدييه عائدة على النحر أو الوجه لأن فيه رواية أخرى: ونحر مشرق اللون.
والمراد: كأن ثديي صاحبه حقان في نهودهما. واكتنازهما. ومشرق: من أشرق أي: أضاء. والنحر: موضع القلادة من الصدر والحق بالضم، ويقال أيضا حقة معروفة.
ولم ينسب لقائل معين. وانظر: شرح السيرافي 3/ 6، وأمالي ابن الشجري 1/ 237، وشرح المفصل لابن يعيش 8/ 82، وشرح ابن عقيل 147، والخزانة 4/ 358.

(1/246)


وزعم الخليل: أن هذا يشبه قول الفرزدق:
فَلَوْ كُنْتٌ ضَبِّيًا عَرَفْت قَرَابتي ... وَلَكِنَّ زِنجيٌ عَظِيمُ المشافِرِ1
قال سيبويه: والنصب أكثر في كلام العرب, كأنه قال: ولكن زنجيا عظيم المشافر لا يعرف قرابتي. ولكنه أضمر هذا. قال: والنصب أجود, لأنه لو أراد الإِضمار لخفف ولجعل المضمر مبتدأ كقولك: ما أنت صالحًا ولكن طالح: وتقول: إن مالًا وإن ولدًا, وإن عددًا أي: إن لهم2 / 278 مالًا, والذي أضمرت "لهم" وقال الأعشى:
إنَّ محلًا وإنَّ مرتحلًا ... وإنَّ في السفر إذ مَضَوْا مَهَلًا3
__________
1 من شواهد سيبويه 1/ 282 و284 على جواز حذف اسم "لكن" والتقدير: ولكنك زنجي، ويجوز نصب "زنجي" "بلكن" على إضمار الخبر وهو أقيس. والتقدير: ولكن زنجيا عظيم المشافر لا يعرف قرابتي. والبيت في هجاء رجل من ضبة اسمه: أيوب بن عيسى فنفاه عنها ونسبه إلى الزنج. وأصل المشفر للبعير فاستعاره للإنسان لما قصد به تشنيع الخلق. والقرابة التي بين ضبة وبينه، أنه من تميم بن مر بن أد بن طابخة وضبة هو ابن أد بن طابخة. وقافية البيت اشتهرت عند النحويين كذا وصوابه:
"ولكن زنجيا عظيما مشافره" وبعده:
مقتت له بالرحم بين وبينه ... فألقيته مني بعيدا أواصراه
ورواية الديوان:
ولو كنت ... .... ولكن زنجي.
وانظر: مجالس ثعلب 1/ 105 وشرح السيرافي 3/ 6 والمحتسب 2/ 182 وجمهرة اللغة 3/ 490، والأغاني 19/ 24، والمخصص 7/ 48، وشرح القصائد السبع لابن الأنباري/ 145، وابن يعيش 8/ 82، والمغني 1/ 323 والإنصاف/ 18، والديوان/ 481.
2 انظر الكتاب 1/ 282 و284.
3 من شواهد الكتاب 1/ 284، على جواز حذف خبر "إن" للعلم ولا يشترط في ذلك أن يكون الاسم معرفة، بل هو جائز سواء أكان الاسم معرفة أم نكرة، وسواء كررت "إن" أم لم تكرر وزعم الكوفيون: أنه يشترط تنكير الاسم، وزعم الفراء، أنه يشترط تكرير "إن" ويروى: إذ مضوا مهلا. والمحل والمرتحل: مصدران ميميان بمعنى الحلول والارتحال، أو اسما زمان، أي: إن لنا في الدنيا حلولا، وإن لنا عنها ارتحالا. والسفر: اسم جمع مسافر وقيل جمع سافر. والمهل: السبق. والبيت مطلع قصيدة للأعشى في المدح. وانظر المقتضب 4/ 130، وشرح السيرافي 3/ 8، والخصائص 2/ 373، وأمالي الشجري 1/ 322 وابن يعيش 8/ 84، والمغني 1/ 87 تحقيق: د. مازن المبارك، والسيوطي/ 84, والأغاني 9/ 121 وروايته: وإن في السفر من مضى مهلا. والخزانة 4/ 381. والمحتسب 1/ 349، والديوان 170.

(1/247)


وتقول: إن غيرها إبلا وشاء, كأنه قال: إن لنا غيرها إبلا وشاء, وإن عندنا غيرها إبلا وشاء, فالذي يضمر هذا النحو وما أشبهه, ونصبت إبلا وشاء على التمييز, والتبيين, كانتصاب الفارس إذا قلت: ما مثله من الناس فارسًا, ومثل ذلك قول الشاعر:
يا لَيْتَ أياَّمَ الصِّبَا رواجِعَا1
كأنه قال: يا ليت أيام الصبا لنا رواجعا أو أقبلت رواجعًا. وقال الكسائي: أضمر "كانت"2 وتقول: إن قريبًا منك زيدًا إذا جعلت "قريبًا" ظرفًا, وإن جعلته اسمًا قلت: إن قريبًا منك زيد, فيكون الأول هو
__________
1 من شواهد سيبويه 1/ 284 على نصب "رواجعا" على الحال، وحذف الخبر ويستدل به الكوفيون -الفراء خاصة- على نصب المبتدأ والخبر "بليت". ولم ينسب هذا الرجز لقائل معين، وقد نسب في حاشية المغني تحقيق الدكتور مازن المبارك إلى العجاج ولم يوجد في ديوانه وانظر شرح السيرافي 3/ 9 والتمام في تفسير أشعار هذيل/ 165، وابن يعيش 8/ 84، والمغني 1/ 316، والخزانة 4/ 290.
2 الكسائي يقدر "رواجعا" خبرا لكان المحذوفة، لأن "كان" تستعمل كثيرا هنا. قال تعالى: {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} وقال: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ} . والفراء يجعل "ليت" ناصبة للمبتدأ والخبر معا، وانظر المغني 1/ 361 تحقيق الدكتور مازن المبارك، وشرح المفصل 8/ 84، والخزانة 4/ 291، والهمع 1/ 134.

(1/248)


الآخر. وإذا كان ظرفًا كان غيره. وتقول: إن بعيدًا منك زيد, والوجه: أن تجعل المعرفة اسم إن1 فتقول: إن زيدًا بعيد منك.
قال سيبويه: وإن شئت/ 279 قلت: إن بعيدًا منك زيدًا, وقلما2 يكون بعيد منك ظرفًا. وإنما قل هذا لأنك لا تقول إن بعدك زيدًا, وتقول إن قربك زيدًا3, فالدنو أشد تمكنا من الظروف من البعد, لأن حق الظرف أن يكون محيطًا بالجسم من أقطاره.
وزعم يونس: أن العرب تقول: إن بدلك زيدًا, أي: إن مكانك زيدًا4, وإن جعلت البدل بمنزلة البديل, قلت: إن بدلك زيد, أي: إن بديلك5 زيد, وتقول: إن ألفًا في دراهمك بيض, إذا جعلت: "بيضًا" خبرًا فإن وصفت بها "ألفًا" قلت: إن ألفًا في دراهمك بيضًا, يجوز لك أن تفصل بين الصفة والموصوف وتقول: إن زيدًا منطلق وعمرًا ظريف فتعطف عمرًا على "إن" ومثل ذلك قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} 6. وقد رفعه قوم ولم يجعلوا/ 280 الواو عاطفة على تأويل "إذ"7 كقولك: لو ضربت عبد الله وزيد قائم
__________
1 قال المبرد: والمعرفة والنكرة ههنا واحد، وإنما تحذف إذا علم المخاطب ما تعني بأن تقدم له خبرا، أو يجري القول على لسانه، وانظر المقتضب 4/ 130.
2 في الأصل: وقل ما.
3 انظر الكتاب 1/ 284-285.
4 المصدر السابق 1/ 285.
5 في الأصل "بدلك".
6 لقمان: 27.
7 في الكتاب 1/ 47. وأما قوله -عز وجل: {يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} ، فإنما وجهوه على أنه يغشى طائفة منكم وطائفة في هذه الحال. كأنه قال إذ طائفة في هذه الحال، فإنما جعله وقتا، ولم يرد أن يجعلها واو عطف، إنما هي واو الابتداء. وانظر المقتضب 4/ 125.

(1/249)


ما ضرك, أي: لو ضربت عبد الله وزيد في هذه الحال, فكأنه قال: ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر هذا أمره ما نَفَدِتْ كلمات الله وتقول: إن زيدًا منطلق وعمرًا فتعطف على زيد وتستغني بخبر الأول, إذ كان الثاني في مثل حاله, قال رؤبة:
إنَّ الرَّبيعَ الجود والخريفا ... يدا أبي العباس والصيوفا1
أراد: وإن الصيوف يدا أبي العباس فاكتفى بخبر الأول.
ولك أن ترفع على الموضع, لأن موضع إن الابتداء فتقول: إن زيدا منطلق وعمرو, لأن الموضع للابتداء, وإنما دخلت إن مؤكدة للكلام. وتقول: إن قومك فيها أجمعون. وإن قومك فيها كلهم ففي "فيها" اسم مضمر مرفوع كالذي يكون في الفعل/ 281 إذا قلت: إن قومك ينطلقون أجمعون, فإذا قلت: إن زيدًا فيها, وإن زيدًا يقول ذلك, ثم قلت: نفسه. فالنصب أحسن. فإذا أردت حمله على المضمر قلت: إن زيدًا يقول ذاك هو نفسه, فإذا قلت: إن زيدا منطلق لا عمرو, فتفسيره كتفسيره مع الواو في النصب والرفع وذلك قولك: إن زيدًا منطلق لا عمرًا, وإن زيدًا منطلق لا عمرو, ولكن بمنزلة إن وتقول: إن زيدا فيها لا بل عمرو, وإن شئت نصبت و"لا بل" تجري مجرى الواو ولا تقول: إن زيدًا منطلق العاقل اللبيب, إذا جعلته صفة لزيد, ويجوز أن تقول: إن زيدًا منطلق العاقل اللبيب فترفع.
__________
1 من شواهد سيبويه 1/ 285، على العطف على اسم أن بالنصب. والجواد: بفتح الجيم وسكون الواو: المطر الغزير.
مدح الشاعر: عبد الله السفاح، وأراد بالربيع والخريف والصيوف: أمطارهن. وفي هذا الرجز عكس التشبيه. والأصل أن يدي أبي العباس الربيع والخريف والصيوف. وانظر المقتضب 4/ 111، وشرح السيرافي 3/ 10، والتصريح 1/ 226، والعيني 1/ 261، وديوان رؤبة/ 179. وذكر هناك على أنه مما نسب إليه مع بيتين آخرين من الرجز، والهمع 2/ 144.

(1/250)


قال سيبويه: والرفع على وجهين: على الاسم المضمر في "منطلق" كأنه بدل منه, كقولك: مررت به زيد -يعني أنه يجعله بدلًا من المضمر في منطلق. قال: وإن شاء رفعه على معنى: مررت به زيد, إذا كان جواب1 / 282 من هو فتقول: زيد كأنه قيل له: من هو؟ فقال: العاقل اللبيب, وقد قرأ الناس هذه الآية على وجهين: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} 2, وعلامَ الغيوب. وتقول: إن هذا أخاك منطلق, فتنصب أخاك على ضربين من التقدير: على عطف البيان وهو كالصفة, وعلى البدل, فمن قال هذا قال: إن الذي رأيت أخاك ذاهب, ولا يكون الأخ صفة "الذي", لأن أخاك أخص من الذي. فلا يكون صفة وإنما حق الصفة أن تكون أعم من الموصوف. قال الخليل: إن من أفضلهم كان زيدًا, على إلغاء "كان"3.
قال سيبويه: وسألت الخليل عن قوله: {وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} 4 و {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} 5, فزعم: أنها وي مفصولة من "كأن" والمعنى وقع على أن القوم انتبهوا فتكلموا على قدر علمهم أو نبهوا فقيل لهم: أما يشبه أن يكون ذا عندكم هكذا والله أعلم. قال: وأما المفسرون فقالوا: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ} 6, وقال/ 283 زيد بن عمرو بن نفيل.
__________
1 الكتاب 1/ 286.
2 سبأ: 48 وقراءة: "عَلَّامُ الْغُيُوبِ" بالنصب من الشواذ. ابن خالويه/ 122. وفي البحر المحيط 7/ 292 قرأ الجمهور: {عَلَّامُ الْغُيُوبِ} بالرفع. فالظاهر أنه خبر ثانٍ وهو ظاهر قول الزجاج. وقال الزمخشري رفعه محمول على محل "أن" واسمها أو على المستكن في "يقذف" أو هو خبر مبتدأ محذوف.
3 انظر الكتاب 1/ 290.
4, 5 القصص: 82.
6 انظر الكتاب 1/ 290.

(1/251)


سألتاني الطَّلاق إذْ رأتَاني ... قَلَّ مالي قَدْ جِئْتُماني بنكر
ويَ كأنْ مَنْ يَكُنْ لَه نَشَبٌ يُحبَـ ... ـبْ ومَنْ يفتقرْ يَعشْ عيَشَ ضُرِّ1
قال2 وناس من العرب, يغلطون فيقولون: إنهم أجمعون ذاهبون, وإنكَ وزيد ذاهبان وذلك: أن معناه معنى الابتداء فيرى أنه قال هم كما قال زهير:
بَدَا لي أنِّي لَسْتُ مُدْرِكٌ ما مَضَى ... ولا سَابِقٍ شيئًا إذَا كَانَ جَائِيا3
__________
1 من شواهد سيبويه 1/ 290. على تركيب "ويكأن" من "وي" التعجبية، و"كأن" المخففة من المثقلة. وفيها شاهد: على أن أسماء الأفعال ترد للتندم. وذكر الأعلم: أن بعض النحويين زعم: أن قولهم: ويكأن بمعنى: ويلك اعلم أن.. فحذفت اللام من "ويلك" كما قال عنترة: قيل الفوارس ويك عنتر أقدم. وحذف "اعلم" لعلم المخاطب مع كثرة الاستعمال. وهذا القول مردود لما يقع فيه من كثرة التغيير. وقوله: سألتاني أبدل فيه الهمزة ألفا صورة، أو يكون استعمل لغة من يقول: سلته أسأله مثل: خفته أخافه، وهما يتساولان وهي لغة معروفة وعليها قراءة من قرأ: "سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذابٍ وَاقِعٍ". والنشب: المال، ويروى: سألتاني الطلاق أن رأتاني ...
وانظر شرح السيرافي 1/ 234، والمقتضب 2/ 155، تحقيق د: مازن المبارك، 2/ 139، والصاحبي لابن فارس/ 147، ومجالس ثعلب 389، وابن يعيش 4/ 76، ومعاني القرآن 2/ 312.
2 يعني سيبويه: انظر الكتاب 1/ 290، وانظر الدرر اللوامع للشنقيطي 3/ 140، والخزانة 3/ 95.
3 من شواهد الكتاب 1/ 154 على عطف "سابق" بالجر على "مدرك" على توهم الباء فيه. ورواية سيبويه: ولا سابقا شيئا، والديوان: ولا سابقي شيء.
وانظر الكتاب 2/ 278، والمقتضب 2/ 339، وشرح السيرافي 3/ 16، والإنصاف 111، وابن يعيش 8/ 69، والمفصل للزمخشري 256، والعيني 2/ 262، والخزانة 3/ 665، والديوان 287.

(1/252)


فأضمر الباء وأعلمها, وأما قولهم: {وَالصَّابِئُونَ} 1 فعلى التقديم والتأخير كأنه ابتدأ فقال: والصابئون بعد ما مضى الخبر, قال الشاعر:
وإلاَّ فاعْلَمُوا أنَا وأَنْتُم ... بُغَاة ما بَقيْنَا في شِقَاقِ2
كأنه قال: فاعلموا أنا بغاة ما بقينا وأنتم كذلك. وتقول: إن القائم أبوه منطلقة جاريته, نصبت القائم بإن, ورفعت الأب بفعله وهو القيام ورفعت "منطلقةً", لأنه خبر إن, ورفعت الجارية بالانطلاق, لأنه فعلها. ويجوز أن/ 284 تكون الجارية مرفوعة بالابتداء, وخبرها: "منطلقة" والجملة خبر "إن" فيكون التقدير: إن القائم أبوه جاريته منطلقة, إلا أنك قدمت وأخرت ويقول: إن القائم وأخوه قاعد, فترفع الأخ بعطفك إياه على المضمر في "قائم" والوجه إذا أردت أن تعطفه على المضمر المرفوع أن تؤكد ذلك المضمر, فتقول: إن القائم هو وأخوه قاعدٌ. وإنما قلت: "قاعد" لأن الأخ لم يدخل في "إن" وإنما دخل في صلة القائم فصار بمنزلة قولك: إن الذي قام مع أخيه قاعدٌ, ونظير ذلك أن المتروك هو وأخوه مريضين
__________
1 المائدة: 66 والآية: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى} هذا على التقديم والتأخير عند البصريين، أما الكوفيون فيرون أن "الصابئين" معطوف على موضع "أن" قبل تمام الخبر, وهو قوله تعالى: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} . وانظر الإنصاف 1/ 108، وابن يعيش 8/ 69.
2 من شواهد الكتاب 1/ 290 على رفع قوله: بغاة على التقديم والتأخير فأنتم: مبتدأ، والخبر محذوف لعلم السامع، والتقدير: نحن بغاة ما بقينا وأنتم، والذي سوغ حذف الأول لدلالة الثاني عليه، والبغاة: جمع باغ، وهو الساعي بالفساد. والشقاق: الخلاف وأصله أن يأتي كل واحد من الفريقين ما يشق على صاحبه، أو يكون كل واحد منهما في شق غير شق صاحبه. والشق: الجانب. والبيت لبشر بن أبي خازم الأسدي: وانظر: معاني القرآن 1/ 311، وشرح السيرافي 3/ 16، وابن يعيش 8/ 70، والإنصاف 1/ 108، والتصريح 1/ 328، وشرح شواهد الألفية للعاملي/ 112، والخزانة 4/ 315.

(1/253)


صحيح, ولو أردت أن تدخل الأخ في "إن" لقلت: إن المتروك مريضًا وأخاه صحيحان, وتقول: إن زيدا كان منطلقًا, نصبت زيدًا "بإن" وجعلت ضميره في "كان". وكان وما عملت فيه في موضع خبر "إن" وإن شئت رفعت "منطلقًا" على وجهين:
أحدهما: أن تلغي "كان"/ 285 وقد مضى ذكر ذلك.
والوجه الثاني: أن تضمر المفعول به في "كان", وهو قبيح, وتجعل منطلقًا اسم "كان" فكأنك قلت: إن زيدًا كأنه منطلق.
وقبحه من وجهين: أحدهما: حذف الهاء, وهو كقولك: إن زيدًا ضرب عمرو, تريد: ضربه, والوجه الآخر: أنك جعلت منطلقًا هو الاسم "لكان" وهو نكرة وجعلت الخبر الضمير وهو معرفة فلو كان: إن زيدًا كان أخوك, تريد: كأنه أخوك, كان أسهل وهو مع ذلك قبيح لحذف الهاء وتقول: إن أفضلهم الضارب أخًا له -كان صالحًا- فقولك: كان "صالحًا" صفة لقولك: "أخا له", لأن النكرات توصف بالجمل, ولا يجوز أن تقول: إن أفضلهم الضارب أخاه كان صالحًا, فتجعل: "كان صالحًا" صفة لأخيه, وهو معرفة، فإن قال قائل: فإنها نكرة مثلها فأجز ذلك على أن تجعله حالًا فذاك قبيحٌ والأخفش يجيزه على قبحه/ 286 وقد تأولوا على ذلك قول الله تعالى: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} 1 وتأويل ذلك عند
__________
1 النساء: 90، وقوع الفعل الماضي حالا من غير تقدير "قد" وهو مذهب الكوفيين والأخفش، وقد عقد ابن الأنباري لذلك مسألة في الإنصاف/ 160-164 وقد جهد ابن الأنباري في تضعيف مذهب الكوفيين وإن كان مرتكزا على أساس متين من القياس والسماع.
والمتبع لأبي حيان في البحر المحيط يجده في مواضع كثيرة يرجح مذهب الكوفيين، ولا يقدر "قد" مع الماضي فيقول 3/ 317 جاء منه ما لا يحصى كثرة بغير "قد" ويقول 6/ 355 ولا يحتاج إلى إضمار "قد" لأنه قد كثر وقوع الماضي حالا في لسان العرب بغير "قد" فساغ القياس عليه. ويقول في 6/ 355 "أيضا" ولا يحتاج إلى إضمار "قد" فقد كثر وقوع الماضي حالا بغير "قد" كثرة ينبغي القياس عليها.
ويقول 7/ 493 وقد أجاز الأخفش من البصريين وقوع الماضي حالا بغير "قد" وهو الصحيح، إذ كثر ذلك في لسان العرب كثرة توجب القياس، ويبعد فيها التأويل.

(1/254)


أبي العباس: على الدعاء وأنه من الله تعالى إيجاب عليهم. وقال: القراءة الصحيحة التي جل أهل العلم عليها إنما هي: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَةً صُدُورُهُمْ} 1.
وقال الأخفش: أقول: إن في الدار جالسًا أخواك, فانصب "جالسًا" "بإن" وارفع "الأخوين" بفعلهما واستغنِ بهما عن خبر "إن" كما أقول: أذاهب أخواكَ فارفع "أذاهب" بالابتداء, وأخواك بفعلهما واستغنِ عن خبر الابتداء, لأن خبر الابتداء إنما جيء به ليتم به الكلام.
قال: وكذلك تقول: إن بك واثقًا أخواك, وإن شئت "واثقين أخواك" فجعلت "واثقين" اسم "إن", ولا يجوز: أن بك واثقين أخويك فتنصب "واثقين" على الحال, لأن الحال لا يجوز في هذا, لأنك لا تقول: إن بك أخويك, وتسكت. وتقول: إن فيها قائمًا أخواك, وإن شئت/ 287 قائمين أخويك, فتنصب أخويك "بأن" وقائمين على الحال, وفيها خبر "إن" وهو خبر مقدم, وإذا ولي "قائم" إن, ولم يكن بينهما ظرف لم يجز توحيده عند الكوفيين, وصار اسمًا لا يفصل بينه وبين عمله بخبر إن وذلك قولك: إن قائمين الزيدان, وإن قائمين الزيدون.
__________
1 هذه جرأة من المبرد فصنيعه هذا يشعر بأن قراءة "حصرت" بالتاء المفتوحة ليست بصحيحة مع أن القراء السبعة اتفقوا عليها، ولم يقرأ "حصرة" إلا يعقوب من العشرة.
انظر: النشر 2/ 251، والإتحاف/ 193، والمقتضب ج4/ 125.

(1/255)


وأجاز الفراء: إن قائمًا الزيدان وإن قائمًا الزيدون, على معنى إن من قام الزيدان. وإن من قام الزيدون.
وأجاز البصريون إن قائمًا الزيدان والزيدون على ما تقدم ذكره, ولا يجيز الكوفيون. إن آكلًا زيد طعامك, إذا كان المنصوب بعد زيد, وهذا جائز عند البصريين, فإن قلت: إن آكلًا طعامك زيدٌ, كانت المسألة جائزة في كل قول, وكذلك كل منصوب, من مصدر أو وقت أو حال أو ظرف, فإن قلت/ 288: خلفك آكلًا زيد, استوى القولان في تأخير الطعام بعد زيد فقلت: إن خلفك آكلًا زيد طعامك, ولك أن تؤخر "آكلًا", والظروف من الزمان في ذا كالظروف من المكان.
والفراء1 يجيز: إن هذا وزيد قائمان, وإن الذي عندك وزيد قائمان, وإنك وزيد قائمان, إذا كان اسم "إن" لا يتبين فيه الإِعراب نحو هذا وما ذكرناه في هذه المسائل, وعلى ذلك ينشدون هذا البيت2:
__________
1 قال الفراء: ولا أستحب أن أقول: إن عبد الله وزيد قائمان، لتبين الإعراب في عبد الله، وقد كان الكسائي يجيزه لضعف "إن" وقد أنشدونا هذا البيت رفعا ونصبا:
فمن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقيارا بها لغريب
وقيار: ليس هذا بحجة للكسائي في إجازته: "إن عمرا وزيدا قائمان" لأن قيارا قد عطف على اسم مكنى عنه والمكنى لا إعراب له فيسهل ذلك فيه كما سهل في "الذين" إذا عطفت عليه "الصابئون". وهذا أقوى من الصابئين، لأن المكنى لا يتبين فيه الرفع في حال، والذين قد يقال: اللذون فيرفع في حال. معاني القرآن جـ1/ 311.
2 من شواهد الكتاب 1/ 8. على أن قوله: "وقيار" مبتدأ حذف خبره، والجملة على هذا اعتراضية بين اسم إن وخبرها، وتقدير الكلام: فإني وقيار كذلك لغريب.
ويروى البيت: وقيارا بالعطف على اسم "إن" وقيرا: هو فرس الشاعر أو غلامه وقيل: هو اسم جملة.
والمعنى: من يك مقيما بالمدينة فلست على صفته وإني غريب عنها. والبيت لضابئ بن الحارث البرجمي من أبيات قالها في سجنه بالمدينة على عهد عثمان وذلك لقذفه المحصنات.
وانظر: معاني القرآن 1/ 311، وشروح سقط الزند 4/ 1773، وابن يعيش 8/ 68، والخزانة 4/ 323.

(1/256)


ومَنْ يَكُ أَمْسَى بالمَدينة رَحلُه ... فَإنِّي وَقَيَّارٌ بَهَا لَغَريبُ
فيرفع "قيارًا" وينصب وكذلك لو قال: الغريبان, فإفراد الفعل وتثنيته في هذا عندهم سواء.
والكسائي يجيز الرفع في الاسم الثاني مع الظاهر والمكنى, فإن نعت اسم إن أو أكدته أو أبدلت منه, فالنصب عندنا لا يجوز غيره, وإنما الرفع جاء عندنا على الغلط1.
وقد قال الفراء: يجوز أن تقول: إنهم أجمعون قومك على/ 289 الغلط لما كان معناه: هم أجمعون قومك, وإنه نفسه يقوم, يجوز أن ترفع توكيد ما لا يتبين فيه الإِعراب, وهو وأصحابه كثيرًا ما يقيسون على الأشياء الشاذة.
وقال قوم: إن الاختيار مع الواو التثنية في قولك: إن زيدًا وعمرًا قائمان, ويجوز: قائم مع ثم والفاء التوحيد, ويجوز التثنية, يجوز: إن زيدًا ثم عمرًا قائم, وقائمان. وإن زيدًا فعمرًا قائم وقائمان. ومع "أو" "ولا" التوحيد, لا غير, لأن الخبر عن أحدهما خاصة دون الآخر.
واعلم: أن الهاء التي تسمى المجهولة في قولك: إنه قام بكر, وفي كل موضع تستعمل فيه, فهي موحدة لا ينسق عليها, ولا تكون منها حال منصوبة ولا توكيد, ولا تؤنث ولا تثنى, ولا تجمع, ولا تذكر, وما بعدها مبتدأ وخبر أو فعل وفاعل. وقوم يقولون: إنها إذا كانت مع مؤنث أنثت,
__________
1 يشير إلى قول سيبويه: واعلم: أن ناسا من العرب يغلطون فيقولون: إنهم أجمعون ذاهبون وإنك وزيد ذاهبان، وانظر الكتاب 1/ 290.
ووجه الغلط أنهم رأوا أن معنى: إنهم: ذاهبون هم ذاهبون، فاعتقد سقوط "أن" من اللفظ، ثم عطف عليه بالرفع.

(1/257)


وذكرت نحو قولك: إنه قائمة جاريتك/ 390 وإنها قائمة جاريتك. وقالوا إذا قلت: إنه قائم جواريك, ذكرت لا غير, فإن جئت بما يصلح للمذكر والمؤنث أنثت وذكرت نحو قولك: إنه في الدار جاريتك, وإنها في الدار جاريتك.
وحُكي عن الفراء أنه قال: لا أُجيز: إنه قام؛ لأن هاء العماد إنما دخلت لشيئين, لاسم وخبر, وكان يجيز فيما لم يسم فاعله: إنه ضُرِب, وقال: لأن الضمة تدل على آخر.
والكسائي يجيز: إنه قام, قال: والبغداديون إذا وليت أن النكرات أضمروا والهاء ولم تضمر1 الهاء إلا صفة متقدمة, وإن جاءوا بعدها بأفعال -يعنون بالأفعال اسم الفاعل- أتبعوها إذا كانت نكرة ورفعوها إذا كانت معرفة كقولهم: إن رجلًا قائمًا, وإن رجلًا أخوك, وإذا أضمروا الخبر لم ينسقوا عليها بالمعرفة فلا يقولون: إن رجلًا وزيدًا, لأن خبر المعرفة لا يُضمر عندهم ويقولون: كل أداة ناصبة/ 291 أو جازمة لا تدخل عليها اللام مع "إن", فإن كانت الأداة لا تعمل شيئًا دخلت اللام عليها.
وقد أجاز الفراء حذف الخبر في: "إن الرجل" وإن المرأة, وإن الفأرة, وإن الذبابة, ولا يجيزه إلا بتكرير "إن"2.
ويقولون: "ليت" تنصب الأسماء والأفعال, أي: الأخبار نحو: ليت زيدًا قائمًا, وقال الكسائي: أضمرت: "كان"3.
__________
1 حذفت "يضمروا" لأنها زائدة.
2 هذا مذهب سيبويه والبصريين، قال: هذا باب ما يحسن عليه السكوت في هذه الأحرف الخمسة لإضمارك ما يمكن مستقرا لها وموضعا لو أظهرته وليس هذا المضمر نفس المظهر. وذلك: إن مالا، وإن ولدا، أي: إن لهم مالا، فالذي أضمرت "لهم". وانظر الكتاب 1/ 284.
3 إذا قلت: ليت زيدا قائما، فالتقدير عند الكسائي: ليت زيدا كان قائما، بإضمار "كان"، لأنها تستعمل هنا كثيرا، نحو قوله تعالى: {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} ، و {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} . أما الفراء: فأجاز نصب الاسمين جميعا بأن قال: ليت زيدا قائما. على معنى "تمنيت" فكأنه قال: أتمنى زيدا قائما، أو تمنيت زيدا قائما، كأنه يلمح الفعل الذي ناب عنه الحرف. وانظر ابن يعيش 8/ 64.

(1/258)


وقالوا: "لعل" تكون بمعنى: "كي"1 وبمعنى: خليق وبمعنى: ظننت, وقالوا: والدليل على ظننت أن تجيء بالشيئين, والدليل على "عسى" أن تجيء بأن, وقالوا: "ليت" قد ذهب بها إلى "لو" وأولوها الفعل الماضي, وليتني أكثر من ليتي, ولعلي أكثر من لعلني, وإنني وإني سواءٌ.
وذكر سيبويه: لهنك لرجل صدق2 قال: وهذه كلمة تتكلم بها العرب في حال اليمين وليس كل العرب تتكلم بها في "إن" ولكنهم/ 292 أبدلوا الهاء مكان الألف كقولك: هرقت3. ولحقت هذه اللام "إن" كما لحقت "ما" حين قلت: "إن زيدًا لما لينطلقن فلحقت" اللام في اليمين والثانية لام "إن" وفي: لما لينطلقن اللام الأولى: لام "لئن" والثانية: لام اليمين. والدليل على ذلك النون التي معها. وقال: قول العرب في الجواب إنه, فهو بمنزلة أجل4 وإذا وصلت قلت: إنَّ يا فتى.
__________
1 تأتي لعل بمعنى: "كي" للتعليل، كقولك: ابعث إليّ بدابتك لعلي أركبها، أي: كي أركبها، وجعلوا منه قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ، {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ، {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون} ، أي: كي تتقوا، وكي تعقلوا، وكي تذكروا، قال الكسائي والأخفش: ومنه لعله يتذكر.
انظر التصريح جـ1/ 213.
2 انظر الكتاب 1/ 474.
3 من قال: هراق، فالهاء عنده بدل من همزة "أراق" على حد: هردت أن أفعل في أردت ونظائره. ومن قال: إهراق، فجمع بين الهمزة والهاء، فالهاء عنده زائدة كالعوض من ذهاب حركة العين على حد ضيعهم في "اسطاع" وانظر شرح المفصل لابن يعيش 10/ 5.
4 قال سيبويه: وأما قول العرب في الجواب: إنه بمنزلة أجل، وإذا وصلت قلت: إن يا فتى وهي بمنزلة أجل، قال الشاعر:
ويقلن شيب قد علاك وقد كبرت فقلت إنه
الكتاب 1/ 475 و2/ 279.

(1/259)


واعلم: أن "إنَّ وأخواتها" قد يجوز أن تفصل بينها وبين, أخبارها بما يدخل لتوكيد الشيء أو لرفعه؛ لأنه بمنزلة الصفة في الفائدة يوضح عن الشيء ويؤكده وذلك قولك: إن زيدًا فافهم ما أقول رجل صالح, وإن عمرًا والله ظالم, وإن زيدا هو المسكين مرجوم؛ لأن هذا في الرفع يجري مجرى/ 293 المدح والذم في النصب وعلى ذلك يتأول قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا، أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} 1, فأولئك هو الخبر.
ومذهب الكوفيين والبغداديين في "إن" التي تجاب باللام, يقولون: هي بمنزلة "ما" وإلا وقد قال الفراء: إنها بمنزلة "قد" وتدخل أبدًا على آخر الكلام نحو قولك: إن زيدًا لقائم, تريد: ما زيد إلا قائم, وقد قيل: إنه, يريد: قد قام زيد, وكذلك: إن ضرب زيد لعمرًا, وإن أكل زيد لطعامك وكان الكسائي يقول: هي مع الأسماء والصفات -يعني بالصفات والظروف- إن المثقلة خففت, ومع الأفعال بمعنى ما وإلا, وقال الفراء: كلام العرب أن يولوها الماضي قالوا: وقد حكى: إن يزينك لنفسك وإن يشينك لهيه, وقد حُكي مع الأسماء وأنشدوا2:
فقلت:
إن القوم الذي أَنَا مِنهم ... لأَهل مَقَامَات وشَاء وجامِلِ3
__________
1 الكهف: 30.
2 رد ما ذهب إليه الكسائي بسماع الإعمال. يؤيد ذلك ما ذكره سيبويه من جواز إعمالها مع التخفيف، فحال "إن" المخففة كحالها وهي مشددة في جميع الأحكام إلا في شيء واحد، وهو أنها لا تعمل في الضمير بخلاف المشددة، تقول: إنك قائم، ولا تقول: إنك قائم، وانظر الارتشاف/ 583. والأشباه والنظائر 2/ 61.
3 لم أعثر لهذا الشاهد على ترجمة في كتب النحو واللغة والأدب.

(1/260)


وكل ما كان من صلة الثاني لم تدخل اللام عليه, وكل ما كان من صلة الأول أدخلت اللام عليه نحو قولك: إن ظننت زيدًا لفي الدار قائمًا, فإن كان في الدار من صلة الظن دخل عليها, وإن كان من صلة "قائم" دخلت اللام على "قائم" يعنون أن اللام إنما تدخل على ما هو في الأصل خبر المبتدأ, ألا ترى أنه لو خلا الكلام من "ظننت": كان زيد في الدار قائمًا, فزيد مبتدأ وفي الدار خبره وقائم حال, والعامل فيه "في الدار" فهو من صلة "في الدار" فاستقبحوا أن يدخلوا اللام على "قائم" لأنه من صلة الثاني, وهو الخبر, وقالوا: كل أخوات الظن وكان على هذا المذهب, وكذلك صلة الثاني في قولك: إن ضربت رجلًا لقائمًا, لا يدخلون/ 295 عليها اللام, و"قائمًا" صلة رجل هذا خطأ عندهم, وعند غيرهم, ولا يجوز: إن زال زيد قائمًا, لأنه لا يجوز, زال زيدٌ قائمًا وتقول: إن كان زيدٌ لقائمًا.

(1/261)