الخصائص

المجلد الاول
المقدمة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد العدل القديم، وصلى الله على صفوته محمد وآله المنتخبين 1. وعليه وعليهم السلام أجمعين.
هذا -أطال الله بقاء مولانا السيد المنصور "المؤيد"2 بهاء الدولة وضياء الملة وغياث الأمة, وأدام ملكه ونصره، وسلطانه ومجده وتأييده وسموه, وكبت شانئه وعدوه- كتاب لم أزل على فارط الحال وتقادم الوقت ملاحظاً له, عاكف الفكر عليه, منجذب الرأي والروية إليه وادًّا أن أجد مهملاً3 أصله به أو خللاً أرتقه4 بعمله والوقت يزداد بنواديه5 ضيقًا ولا ينهج لي إلى الابتداء طريقًا. هذا مع إعظامي له وإعصامي6 بالأسباب المنتاطة به واعتقادي فيه أنه من أشرف ما صنف في علم العرب وأذهبه في طريق القياس والنظر وأعوده عليه بالحيطة والصون وآخذه له من حصة التوقير7 والأون, وأجمعه8 للأدلة على ما أودعته هذه اللغة الشريفة من خصائص الحكمة ونيطت به من علائق الإتقان والصنعة،
__________
1 في ب: "المنتجبين"، والمنتجب والمنتخب بمعنى واحد.
2 زيادة في ج.
3 في ج: "موصلا".
4 في ج: "أربقه بعلمه"، أي أقيده.
5 نوادي الكلام: ما يخرج منه وقتًا بعد وقت، ونوادي الإبل: شواردها" فالمعنى أن الوقت لا يتسع لشوارد هذا الكتاب ولا يسمح بجمعها وإبلاغها.
6 في المطبوعة، د: "اعتصامي". وما أثبته موافق للأصول الأخرى، وهو يجانس "إعظامي".
7 التوقير مصدر وقر الدابة سكنها، ويراد به الإراحة؛ فالمراد حصة الراحة والتخفيف من حركة العمل. والأون: الدعة والسكون؛ والتوقير هو كذا في ش، ج، هـ. وفي أ، ب "التوفير". ويعبر في هذا العصر عن هذا المعنى بأوقات الفراغ.
8 في ج بدل "وأجمعه للأدلة على": "وأجله على".

(1/1)


فكانت مسافر وجوهه ومحاسر أذرعه وسوقه تصف لي ما اشتملت عليه مشاعره وتحي1 إلي بما خيطت عليه أقرابه2 وشواكله وتريني أن تعريد3 كل من الفريقين: البصريين والكوفيين عنه وتحاميهم طريق الإلمام به والخوض في أدنى أوشاله وخُلُجه فضلاً عن اقتحام غماره ولُجَجه إنما كان لامتناع جانبه، وانتشار شعاعه، وبادي تهاجر قوانينه وأوضاعه. وذلك أنا لم نر أحدًا من علماء البلدين4 تعرض لعمل أصول النحو، على مذهب أصول الكلام والفقه. فأما كتاب أصول أبي بكر5 فلم يلمم فيه بما نحن عليه، إلا حرفًا أو حرفين في أولهن وقد تعلق عليه به. وسنقول في معناه.
على أن أبا الحسن6 قد كان صنف في شيء من المقاييس كتيبا، إذا أنت قرنته بكتابنا هذا علمت بذاك أنا نبنا عنه فيه7، وكفيناه كلفة التعب به، وكافأناه على لطيف ما أولاناه من علومه المسوقة إلينا، المفيضة ماء البشر8 والبشاشة9 علينا، حتى
__________
1 مضارع وحى، وهو كأرحى. يقال: رحى إليه بكذا: أشار إليه به وأومأ. وهو كذلك "تحي" في أ، ب، ج، وفي ش، د، هـ: "تجيء".
2- الأقراب جمع قرب كقفل وهي من الفرس خاصرته، والشواكل واحدها شاكلة وهي من الفرس الجلد بين عرض الخاصرة والثفنة، وهي الركبة.
3 التعريد: الهرب والفرار.
4 البلدان: البصرة والكوفة.
5 هو ابن السراج محمد بن السري. كانت وفاته سنة 316هـ وهو المعني بأبي بكر حيث أطلق. وكتاب الأصول له يقول فيه صاحب كشف الظنون: "كتاب مرجوع إليه عند اضطراب النقل". وينقل عنه صاحب الخزانة كثيرًا.
6 هو الأخفش سعيد بن مسعدة مات سنة 210هـ. وهو الأخفش الأوسط، وحيث أطلق أبو الحسن في هذا الكتاب فهو الأخفش هذا. ويزعم ابن الطيب في شرح الاقتراح أن هذه الكنية خاصة بالأصفر علي بن سليمان؛ وهو وهم.
7 سقط في ألفظ "فيه".
8 تبعت في هذا نسخة ج، وفي المطبوع وأ, ب "البر".
9 في ج: "البشارة". والظاهر أن يقرأ بفتح الباء وهي الحال.

(1/2)


دعا ذلك أقوامًا نُزرت من معرفة حقائق هذا العلم حظوظهم، وتأخرت عن إدراكه أقدامهم، إلى الطعن عليه، والقدح في احتياجاته وعلله. وسترى ذلك مشروحًا في الفصول بإذن الله تعالى.
"ثم إن بعض من يعتادني1، ويُلم لقراءة هذا العلم بي، ممن آنس بصحبته لي، وأرتضي حالى أخذه عني، سأل فأطال المسألة، وأكثر الحفاوة والملاينة، أن أمضي الرأي في إنشاء هذا الكتاب، وأوليه طرفًا من العناية والانصباب2. فجمعت بين ما أعتقده: من وجوب ذلك علي، إلى ما أوثره3 من إجابة هذا السائل4لي. فبدأت به، ووضعت يدي فيه، واستعنت الله على عمله، واستمددته سبحانه من إرشاده وتوفيقه", وهو -عز اسمه- مؤتِي ذاك بقدرته، وطَوله ومشيئته.
__________
1 اتبعنا في إثبات هذا النص المكنوف بالقوسين ما في ج. وليس في باقي النسخ إلا النص الآتي "وأنا بادئ به، ومستعين الله على عمله، ومستمده سبحانه إرشاده وتوفيقه".
2 أي الاجتهاد فيه، من قولهم: انصب البازي على الصيد.
3 الواجب في العربية أن يقال: وما إلخ. ولكنه راعى في الجمع معنى الضم.
4 كذا ولو كان "إليّ" لكان أرفق بالسجع، ولكن هذا يحتاج إلى تضمين السائل معنى الطالب.

(1/3)


هذا باب القول على الفصل بين الكلام والقول:
"ولنقدم أمام القول على فرق1 بينهما طرفًا من ذكر أحوال تصاريفهما واشتقاقهما مع تقلب حروفهما فإن هذا وضع يتجاوز قدر الاشتقاق ويعلوه إلى ما فوقه. وستراه فتجده طريقًا غريبًا ومسلكًا من هذه اللغة الشريفة عجيبًا "2.
فأقول: إن معنى " ق ول " أين وجدت وكيف وقعت3، من تقدم بعض حروفها على بعض وتأخره عنه, إنما هو للخفوف والحركة 4, وجهات تراكيبها الست مستعملة كلها لم يهمل شيء منها , وهي: " ق ول", "ق ل و ", " وق ل " , "ول ق " , " ل ق و ", "ل وق ".
الأصل الأول "ق ول " وهو القول. وذلك أن الفم واللسان يخفان له ويقلقان ويمذلان به5. وهو بضد السكوت الذي هو داعية إلى السكون ألا ترى أن الابتداء لما كان أخذًا في القول لم يكن الحرف المبدوء به إلا متحركًا ولما كان الانتهاء أخذًا في السكوت لم يكن الحرف الموقوف عليه إلا ساكنًا.
الأصل الثاني "ق ل و " منه القلو: حمار الوحش وذلك لخفته وإسراعه قال العجاج:
__________
1 في ش: "الفرق" وهنا تقرأ بإضافة فرق إلى "بينهما" والبين هنا الوصل والاجتماع، وهو اسم متمكن وقرئ لقد "تقطع بينكم" بالرفع.
2 سقط ما بين القوسين في ج.
3 في ج: "تصرفت".
4 كذا في النسخ. والأنسب بالسياق: "الخفوف". وهو معرفة قولهم: خف القوم إذا ارتحلوا مسرعين.
5 من قولهم: مذل المريض من باب فرح إذا لم يتقاتر من الضجر، ويقال أيضًا: مذل: فتن.

(1/5)


#تواضخ التقريب قلوا مغلجا1:#
ومنه قولهم: "قلوت البسر والسويق, فهما مقلوان ", وذلك لأن الشيء إذا قلي جفّ وخفّ, وكان أسرع إلى الحركة وألطف ومنه قولهم: "اقلوليت يا رجل " قال2:
قد عجبت مني ومن بعيليا ... لما رأتني خلقا مقلوليا
أي خفيفا للكبر3, "و" طائشا, "و"5 قال 6:
وسرب كعين الرمل عوج إلى الصبا ... رواعف بالجادي حور المدامع7
سمعن غناء بعد ما نمن نومة ... من الليل فاقلولين فوق المضاجع8
أي خففن لذكره وقلقن فزال عنهن نومهن واستثقالهن على الأرض. وبهذا يعلم أن لام اقلوليت واو لا ياء. فأما لام اذلوليت9 فمشكوك فيها.
__________
1 بعده:
#جأبا ترى تليله مسحجا#
وهذا في وصف أتان الوحش. وقوله تواضخ التقريب أي تجتهد مع فحلها في الجري، وأصل المواضخة المباراة في الاستقاء بالدلاء، والمفلج: الشديد المدمج أو هر الذي يطرد أنه، يعني الفحل. والجأب: الغليظ. والتليل: العنق، ومسحج أي معضوض من طراده الحمر، والسحج: القشر. وانظر الأرجوزة بتمامها في ديوان العجاج ص9.
2 نسب الرجز: "قد عجبت مني ومن بعيليا" إلى الفرزدق وقد أورد السيرافي في "باب ما يحتمل الشعر من الضرورة" بيت الفرزدق:
فلو كان عبد الله مولى هجرته ... ولكن عبد الله مولى مواليا
ثم قال: وقال آخر: "قد عجبت مني ومن بعيليا" ويقضي هذا أن قائل الرجز ليس للفرزدق.
3 في أ: "للكيرة" وانظر في هذا الرجز الأعلم في ذيل سيبويه ص59 ج2، وهو للفرزدق.
4 زيادة ب، د.
5 زيادة في ج.
6 البيتان من مقطوعة تنسب إلى يزيد بن معاوية في صدر ذيل ثمرات الأوراق، وورد البيتان في حماسة ابن الشجري ص187 غير منسوبين.
7 يصف نساء حسانًا، وقوله: كعين الرمل يريد كبقر الوحش، وعوج: ميل، والجادي -بالجيم وكتب خطأ في المطبوعة بالحاء: الزعفران، يريد أن الزعفران يظهر في أنوفهن, فكأنما هو أثر الرعاف، وهو خروج الدم من الأنف.
8 في الأساس في فلو: "غنائي" في مكان "غناء".
9 اذلولى: ذل وانقاد.

(1/6)


ومن هذا الأصل أيضًا قوله:
#أقب كمقلاء الوليد خميص1#
فهو مفعال2 من قلوت بالقلة, ومذكرها القال؛ قال الراجز:
#وأنا في الضراب قيلان القلة#
فكأن القال مقلوب قلوت وياء القيلان مقلوبة عن واو وهي لام قلوت ومثال3 الكلمة فلعان. ونحوها عندي في القلب قولهم "باز " ومثاله فلع واللام منه واو لقولهم في تكسيره: ثلاثة أبواز ومثالها أفلاع. ويدل على صحة ما ذهبنا إليه: من قلب هذه الكلمة قولهم فيها "البازي", وقالوا في تكسيرها "بُزاة" و"بوازٍ " أنشدنا أبو علي4 لذي الرمة:
كأن على أنيابها كل سدفة ... صياح البوازي من صريف اللوائك5
__________
1 قائله امرؤ القيس، وصدره:
#فأصدرها تعلو النجاد عشية#
وأقب أي ضامر البطن، وكذلك خميص. وهذا البيت في أبيات في وصف الحمار الوحشي يطارد أتنه، منها قوله:
أذلك أم جاب يطارد آتنا ... حملن فأدنى حملهن دروص
فالضمير "ها" في "فأصدرها" للأتن، وأقب خميص من وصف الحمار، انظر اللسان في "د ر ص".
2 المقلاء: القال، وهي لعبة للصبيان: يأخذون عودين، أحدهما نحو ذراع والآخر قصير فيضربون الأصغر بالأكبر، فالمقلاء. والقال: العود الكبير الذي يضرب به، والقلة: الصغير. وهذه اللعبة تعرف عند العوام بالعقلة. وانظر شفاء الغليل في حرف القاف.
3 يريد ميزانها الصرفي.
4 هو الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي، الإمام في العربية؛ أخذ من الزجاج وابن السراج؛ وهو أستاذ ابن جني ومخرجه، وله الآثار الجليلة. توفي ببغداد سنة 377هـ. انظر البغية 216.
5 السدفة: الظلمة. واللوائك يريد المواضع من الأسنان، وهو في وصف إبل. والبيت في أسرار البلاغة ص72 وفيه: سحرة مكان سدفة، وهو أيضًا في الكامل 19/ 7 طبعة المرصفي. ويقول المرصفي: إن الصواب: "أنيابه" إذ هو في وصف بعير. وكذلك هو في الديوان طبعة أوروبا 418.

(1/7)


وقال جرير:
إذا اجتمعوا عليّ فخل عنهم ... وعن باز يصك حباريات1
فهذا فاعل؛ لاطراد الإمالة في ألفه, وهي في فاعل أكثر منها في نحو مال وباب.
وحدثنا أبو علي سنة إحدى وأربعين2 قال: قال أبو سعيد3 الحسن بن الحسين "بازٌ " وثلاثة "أبواز " فإن كثرت فهي "البيزان" فهذا فلع وثلاثة أفلاع وهي الفلعان.
ويدل على أن تركيب هذه الكلمة من "ب ز و " أن الفعل منها عليه تصرف, وهو قولهم " بزا يبزو " إذا غلب وعلا ومنه البازي -وهو في الأصل اسم الفاعل ثم استعمل استعمال الأسماء كصاحب ووالد- وبُزاة وبواز يؤكد ذلك وعليه بقية الباب من أبزى وبزواء وقوله:
#فتبازت فتبازختُ لها4#
__________
1 حباريات واحده حبارى، وهو طائر يصيده البازي، كني بالبازي عن نفسه وبالحباريات عن بني نمير المذكورين في قوله قبل:
أنا البازي المطل على ثمير ... على رغم الأنوف الراغمات
وهذا من إحدى نقائض جرير مع الفرزدق. وانظر النقائض 775 طبعة أوروبا.
2 أي بعد الثلاثمائة. وكانت وفاة أبي علي سنة 377هـ.
3 هو السكري الإمام في النحو واللغة، الراوية المكثر الثقة. كانت وفاته سنة 275، وانظر البغية 219, وقد أورد المؤلف هذا الحديث في المحتسب في الكلام على سورة الفاتحة.
4 هذا صدر بيت لعبد الرحمن بن حسان وتمامه:
#جلسة الجازر يستنجي الوتر#
وقبله:
سائلا مية هل نبهتها ... آخر الليل بعرد ذي عجر
والعرد: الذكر المنتشر وقوله: تبازت أي رفعت مؤخرها، وتبازخ: مشى مشية العجوز أقامت صلبها فأخر كاهلها، وقوله يستنجي الوتر أي يقطعه، ويروى: جلسة الأعسر. وانظر اللسان في بخا وبزا.

(1/8)


والبزا1 لأن ذلك كله شدة ومقاولة2 فاعرفه.
فمقلاء من قلوت وذلك أن القال -وهو المقلاء- هو العصا التي يضرب بها القلة وهي الصغيرة، وذلك لاستعمالها في الضرب بها.
"الثالث" "وق ل " منه الوقل3 للوعل, وذلك لحركته, وقالوا: توقل في الجبل: إذا صعد فيه, وذلك لا يكون إلا مع الحركة والاعتمال. قال ابن مقبل:
عودا أحم القرا إزمولة وقلا ... يأتي تراث أبيه يتبع القُذَفا4
"الرابع" "ول ق " قالوا: ولق يلق: إذا أسرع.
قال:
#جاءت به عنس من الشام تلق5#
أي تخِف وتسرع. وقرئ6 "إذ تِلقونه بألسنتكم " أي تخفون7 وتسرعون. وعلى
__________
1 البزا: أن يستقدم الظهر ويتأخر العجز. والوصف أبزى وبزواء؛ وكان الأنسب قرنه بهما.
2 كذا في الأصول. ويبدو لي أن هذا تحريف مصاولة.
3 الوقل كضرب وسبب وكنف.
4 العود: المسن وفيه بقية، و"أحم القرا": أسود الظهر، و"إزمولة": خفيفًا، وقوله: "يأتي تراث أبيه" أي يفعل فعل أبيه في التصعيد في الجبال، و"القذف" واحده قذفة كغرفة وغرف وهي ما أشرف من الجبال. وانظر كتابة الأعلم على شواهد سيبويه ص316 ج2.
5 قائله القلاخ بن حزن المنقري يهجو جليدًا الكلابي، وقبله:
إن الجليد زالق وزملق ... كذنب العقرب شوال غلق
هذا ما في اللسان في زلق، وفي المخصص 9/ 7: "عيس" في مكان "عنس". وفي اللسان في أنق:
إن الزبير زلق وزملق ... جاءت به عنس من الشام تلق
لا أمن جليسه ولا أنق
6 نسب هذه القراءة أبو حيان في البحر، 438/ 6 إلى عائشة وابن عباس وعيسى بن عمر وزيد بن علي.
7 وكأن الأصل: تخفون فيه فحذف الجار والمجرور، وفي ج "تخفونه".

(1/9)


هذا فقد يمكن أن يكون الأولق1 فوعلا من هذا اللفظ وأن يكون أيضا أفعل منه. فإذا كان أفعل فأمره ظاهر وإن سميت به لم تصرفه معرفة وإن كان فوعلا فأصله وولق فلما التقت الواوان في أول الكلمة أبدلت الأولى همزة لاستثقالها أولا كقولك في تحقير واصل: أويصل. ولو سميت بأولق على هذا لصرفته. والذي حملته الجماعة عليه أنه فوعل من تألق البرق إذا خفق وذلك لأن الخفوق مما يصحبه الانزعاج والاضطراب. على أن أبا إسحاق2 قد كان يجيز فيه أن يكون أفعل من ولق يلق. والوجه فيه ما عليه الكافة: من كونه فوعلا من " أل ق " وهو قولهم "ألق الرجل فهو مألوق " ألا ترى إلى إنشاد أبي زيد فيه:
تراقب عيناها القطيع كأنما ... يخالطها من مسه مس أولق3
وقد قالوا منه 4: ناقة مسعورة أي مجنونة وقيل5 في قول الله سبحانه {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} : إن السعر هو الجنون وشاهد هذا القول قول القطامي 6:
__________
1 هو الجنون.
2 يريد الزجاج، وكانت وفاته سنة 315هـ. وانظر في أولق الكتاب 344/ 2.
3 روى "يخامرها" بدل "يخالطها" والقطيع: السوط.
4 أي من معنى هذا البيت، وهو وصف الناقة بالأولق الذي هو الجنون.
5 قائله كما في اللسان في "سعر" الفارسي. ويرى غيره أن "سعرا" جمع سعير النار.
6 هو عمير بن شييم -بالتصغير فيها- الشاعر التغلبي الأموي، والقطامي -بضم القاف وفتحها- في الأصل الصقر.

(1/10)


يتبعن سامية العينين تحسبها ... مسعورة أو ترى ما لا ترى الإبل1
"الخامس" "ل وق " جاء في الحديث2: "لا آكل من الطعام إلا ما لوّق لي " , أي ما خُدِم وأعملت اليد في تحريكه وتلبِيقه3، حتى يطمئن وتتضامّ جهاته. ومنه اللوقة للزُبْدة وذلك لخفتها وإسراع حركتها وأنها ليست لها مسكة الجبن وثقل المصل ونحوهما. وتوهم قوم أن الألوقة -لما كانت هي اللوقة في المعنى, وتقاربت حروفهما- من لفظها4 وذلك باطل؛ لأنه لو كانت من هذا اللفظ لوجب تصحيح عينها إذ كانت الزيادة في أولها من زيادة الفعل والمثال مثاله فكان يجب على هذا أن تكون ألوقة كما قالوا في5 أثوب وأسوق وأعين وأنيب بالصحة ليفرق بذلك بين الاسم والفعل وهذا واضح. وإنما الألوقة فعولة من تألق البرق إذا لمع وبرق واضطرب وذلك لبريق الزبدة واضطرابها.
"السادس" "ل ق و " منه اللقوة للعقاب قيل لها ذلك لخفتها وسرعة طيرانها قال6:
كأني بفتخاء الجناحين لقوة ... دفوف من العقبان طأطأت شملال7
__________
1 "مسعورة" روي مجنونة، وسامية العينين: رافعتهما، أو ترى ما لا ترى الإبل فهي تفزع منه لنشاطها. يصف ناقة يتبعها الإبل في السير، وهو في لاميته:
#إنا محبوك فأسلم أيها الطلل#
2 يريد حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. وقد خرج هذا الحديث أبو عيد. وانظر البلوى 77/ 2.
3 يقال: لبق الزبد إذا خلطه بالسمن ولينه.
4 هذا خير "أن الألوقة"، والضمير في "لفظها" بعود إلى "اللوقة".
5 يريد: في باب أثوب وما بعده. ولو حذفت "في" لكان أعذب في الأسلوب.
6 هو امرؤ القيس بصف فوسا. انظر اللسان في "دف".
7 يروي صيود، وفتخاء الجناحين لينتهما، ودفوف أي تدنو من الأرض في طيرانها، وشملال: خفيفة. وهذا في وصف فرس من قصيدته التي مطلعها:
ألا عم صباحا أيها الطلل البالي ... وهل يعمن من كان في العصر الخالي

(1/11)


ومنه اللقوة1 في الوجه. والتقاؤهما أن الوجه اضطرب شكله فكأنه خفة فيه وطيش منه، وليست له مسكة الصحيح، ووفور المستقيم. ومنه قوله:
#وكانت لقوة لاقت قبيسا2#
واللقوة: الناقة السريعة اللقاح وذلك أنها أسرعت إلى ماء الفحل فقبلته ولم تنب عنه نبو العاقر.
فهذه الطرائق التي نحن فيها حزنة المذاهب, والتورد لها وعر المسلك, ولا يجب مع هذا أن تستنكر, ولا تستبعد فقد كان أبو علي رحمه الله يراها ويأخذ بها ألا تراه غلب كون لام أثفية3 -فيمن جعلها أفعولة- واوا على كونها ياء -وإن كانوا قد قالوا: "جاء يثفوه ويثفيه "4 - بقولهم: " جاء يثفه " , قال: فيثفه لا يكون إلا من الواو, ولم يحفل بالحرف الشاذ من هذا وهو قولهم "يئس " مثل يعس5؛ لقلته. فلما وجد فاء وثف واوا قوي عنده في أثفية كون لامها واوا فتأنس للام بموضع الفاء على بعد بينهما 6.
وشاهدته غير مرة إذا أشكل عليه الحرف: الفاء, أو العين، أو اللام، استعان على علمه ومعرفته بتقليب أصول المثال الذي ذلك الحرف فيه. فهذ
__________
1 هي عرض يعرض الوجه فيميله إلى أحد جانبيه.
2 هذا مثل يضرب للرجلين يكونان متفقين على رأي ومذهب فلا يلبثان أن يصطحبا ويتصافيا. واللقوة -كما فسر الكتاب- السريعة اللقاح، والقبيس الفحل السريع الإلقاح أي لا إبطاء عندهما في الإنتاج. وانظر اللسان في "لقو".
3 هي الحجرة تنصب ويجعل عليها القدر، وهن ثلاث أثافي.
4 أي يتبعه ويأتي على أثره.
5 لما كانت الهمزة في بعض وجوه الرسم لا صورة فها ظاهرة جروا على أن يقابلوها بالعين كما هنا، ويئس هنا مضارع يئس بحذف فاء الكلمة وهي ياء، وهذا شاذ، وإنما ينقاس ذلك في الواوي. وانظر الكتاب 333/ 2.
6 في ج: "بعد ما بينهما".

(1/12)


أغرب مأخذًا مما تقتضيه صناعة الاشتقاق؛ لأن ذلك إنما يلتزم فيه شرْج1 واحد من تتالي الحروف, من غير تقليب لها ولا تحريف. وقد كان الناس: أبو بكر رحمه الله وغيره من تلك الطبقة, استسرفوا2 أبا إسحاق رحمه الله, فيما تجشمه من قوة حشده, وضمه شعاع ما انتشر من المثل المتباينة إلى أصله. فأما أن يتكلف تقليب الأصل ووضع كل واحد من أحنائه3 موضع صاحبه فشيء لم يعرض له ولا تضمن عهدته. وقد قال أبو بكر: "من عرف أنس ومن جهل استوحش " وإذا قام الشاهد والدليل وضح المنهج والسبيل.
وبعد فقد ترى ما قدمنا في هذا أنفًا4 وفيه كاف من غيره؛ علي أن هذا وإن لم يطرد وينقد في كل أصل, فالعذر على كل حال فيه أبين منه في الأصل الواحد من غير تقليب لشيء من حروفه فإذا جاز أن يخرج بعض الأصل الواحد من أن تنظمه قضية الاشتقاق له كان فيما تقلبت أصوله: فاؤه وعينه ولامه أسهل والمعذرة فيه أوضح.
وعلى أنك إن أنعمت النظر ولاطفته وتركت الضجر وتحاميته, لم تكد تعدم قرب بعض من بعض وإذا تأملت ذاك وجدته بإذن الله.
__________
1 الشرح: الضرب، يقال، هما شرج واحد وعلى شرج واحد أي ضرب واحد. وفي المطبوعة والأصول: "شرح" ولا معنى له هنا.
2 أي عدوه مسرفا، وهو كذلك بالسين في أ. وفي المطبوعة: "استشرفوا" ولا معنى له. وانظر في استشراف النحويين للزجاج في طرده الاشتقاق ترجمته في معجم الأدباء 144/ 1 طبعة الحلبي.
3 أحناء الأمور: أطرافها ونواحيها، واحدها حنو كعلم، وأحناء الأصل اللغوي: تصاريفه، فإن كل تصريف طرف له وناحية منه وأظهر من هذا أن أحناء الأصل اللغوي حروفه.
4 أنفا كعنق أي لم يسبق به، من قولهم: روضة أنف: لم ترع، وقد ضبط في المطبوعة وبعض الأصول: "آنفا"، وهذا غير مناسب.

(1/13)


وأما "ك ل م " فهذه أيضًا حالها, وذلك أنها حيث تقلبت فمعناها الدلالة على القوة والشدة. والمستعمل منها أصول خمسة, وهي: "ك ل م " "ك م ل " "ل ك م " "م ك ل " "م ل ك ", وأهملت1 منه2 "ل م ك ", فلم تأت في ثبت.
فمن ذلك الأصل الأول "ك ل م " منه الكلم للجرح. وذلك للشدة التي فيه وقالوا في قول الله سبحانه: {دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} قولين: أحدهما من الكَلام والآخر من الكِلام أي تجرحهم وتأكلهم وقالوا: الكُلام: ما غلظ من الأرض وذلك لشدته وقوته وقالوا: رجل كليم أي مجروح وجريح قال:
عليها الشيخ كالأسد الكليم3
ويجوز الكليم بالجر والرفع, فالرفع على قولك: عليها الشيخ الكليم كالأسد والجر على قولك: عليها الشيخ كالأسد "الكليم"4, إذا جرح فحمي أنفًا وغضب فلا يقوم له شيء, كما قال:
__________
1 كأنه لم يصح عنده ما رواه المفضل: أن التلمك تحرك اللحيين بالكلام أو الطعام، وقالوا: ما ذقت لماكا أي شيئًا. وانظر اللسان.
2 مقتضى السياق أن يقول: "منها" وهو يعود على "ك ل م" باعتبارها مادة وقد راعى في التذكير أنها أصل.
3 هذا عجز بيت للكلحية اليربوعي يصف فرسه العرادة. وصدره:
هي الفرس التي كرت عليهم
وقبله مطلع القصيدة وهو:
تسائلني بنو جشم بن بكر ... أغراء العرادة أم بهيم
ويتبين هذا أن القصيدة مرفوعة الروي، فتجويز الجر في الكليم من أبي الفتح لأنه لم يطلع على عمود القصيدة. وانظرها في المفضليات.
4 زيادة من ش ومن اللسان، خلت منها سائر الأصول.

(1/14)


كأن محربا من أسد ترج ... ينازلهم لنابيه قبيب1
ومنه الكلام وذلك أنه سبب لكل شر "وشدة"2 في أكثر الأمر؛ ألا ترى إلى قول3 رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كفي مئونة لقلقه وقبقبه وذبذبه دخل الجنة" , فاللقلق: اللسان, والقبقب: البطن, والذبذب: الفرج. ومنه قول4 أبي بكر -رضي الله عنه- في لسانه: "هذا أوردني الموارد".
وقال:
وجرح اللسان كجرح اليد5
وقال طرفة:
فإن القوافي يتلجن موالجا ... تضايق عنها أن تولجها الإبر6
__________
1 قائله أبو ذؤيب الهذلي. والمحرب: المغضب, وترج: جبل بالحجاز كثير الأسد، وقيل قرية بين مكة واليمن مأسدة، وقبيب: تصويت وقعقعة، وهذا من قصيدة يرثي بها حبيبا الهذلي. وانظر ديوان الهذليين 98/ 1 طبعة الدار.
2 زيادة من ج.
3 رواه البيهقي في شعب الإيمان عن أنس بلفظ: "من وقي شر لقلقه ... " , وانظر الجامع الصغير في حرف الميم.
4 رواه مالك وبن أبي الدنيا والبيهقي. انظر الترغيب والترهيب في "باب الترغيب في الصمت إلا عن خير، والترهيب من كثرة الكلام".
5 قبله -وفيه مطلع القصيدة:
تطاول ليلك بالأثمد ... ونام الخلى ولم ترقد
وبات وباتت له ليلة ... كليلة ذي العائر الأرمد
وذلك من نبأ جاءني ... وخبرته عن أبي الأسود
ولو عن نثا غيره جاءني ... وجرح اللسان كجرح اليد
لقلت من القول ما لا يزا ... له يؤثر عني يد المسند
وهذه القصيدة يختلف الرواة فيها فينسبها بعضهم إلى امرئ القيس بن حجر وهي في ديوانه، وينسبها آخرون إلى امرئ القيس بن عابس، وانظر معاهد التنصيص.
6 رواية ديوانه طبعة فازان ص5: "رأيت القوافي".

(1/15)


وامتثله الأخطل وأبر عليه، فقال:
حتى اتقوني وهم مني على حذر ... والقول ينفذ ما لا تنفذ الإبر1
وجاء به الطائي2 الصغير, فقال:
عتاب بأطراف القوافي كأنه ... طعان بأطراف القنا المنكعر
وهو باب واسع.
فلما كان الكلام أكثره إلى الشر, اشتق له من هذا الموضع. فهذا أصل.
الثاني "ك م ل " من ذلك كمَل الشيء وكمُل وكمِل فهو كامل وكميل. وعليه بقية تصرفه. والتقاؤهما أن الشيء إذا تم وكمل كان حينئذ أقوى وأشد منه إذا كان ناقصًا غير كامل.
الثالث "ل ك م " منه اللكم إذا وجأت الرجل ونحوه, ولا شك في شدة ما هذه سبيله؛ أنشد الأصمعي:
__________
1 من قصيدته الطويلة التي يمدح فيها بني أمية، ومطلعها:
خف القطين فراجوا منك وابتكروا ... وأزعجتهم نوى في صرفها غِر
وقبل البيت من المن على بني أمية بهجو من لم يكن من حزبهم من الأنصار:
بني أمية قد ناضلت دونكم ... أبناء قوم هم آووا وهم نصروا
أفحمت عنكم بني النجار قد علمت ... عليا معد وكانوا طالما هذروا
ورواية الديوان بدل "اتقوني": "استكانوا" وانظر الديوان 105 طبعة بيروت.
2 هو أبو عبادة البحتري. والطائي الكبير هو أبو تمام. والبيت من قصيدة في إبراهيم بن الحسن بن سهل، وكان قد اشترى غلام البحتري نسيمًا ثم رده إليه، وانظر الديوان 181.

(1/16)


كان صوت جرعها تساجل ... هاتيك هاتا حتنى تكايل1
لدم العجى تلكمها الجنادل
وقال:
وخفان لكامان للقلع الكبد2
الرابع "م ك ل " منه بئر مكول, إذا قل ماؤها, قال القطامي:
كأنها قلب عادية مكل3
والتقاؤهما أن البئر موضوعة الأمر على جمتها بالماء, فإذا قل ماؤها4 كره موردها, وجفا جانبها. وتلك شدة ظاهرة.
__________
1 في لسان العرب: ضرعها تشاجل، "حتنى" أي مستوية، فعلى من الحتن, وهو المثل والنظير، ولدم العجى: ضربها، والعجى: أعصاب قوائم الإبل والخيل. وعلى رواية اللسان يصف صوت ضرع الإبل وقت الحلب، وقوله: تساجل أي تتبارى، وكذلك تكايل، وأصل المكايلة المباراة في السير. يقول: كأن صوت ضرعها حين تباري هذه تلك وهن متقاربات أو متماثلات صوت ضرب قوائم الإبل حين تلكمها الجنادل. وقد ورد وصف الضرع وقت الحلب في قوله:
كأن صوت شخبها المحتان ... تحت الصقيع جرش أفعوان
فأما على ما هنا فهو وصف لجرعها حين تشرب.
2 صدره:
ستأتيك منها إن عمرت عصابة
وقائل هذا لص يهزأ بمسروقه، والقلع: الحجارة الضخمة، والكبد جمع أكبد وكبداء من الكبد وهو عظم الوسط. وانظر اللسان في "لكم".
3 هذا عجز بيت من قصيدة له مطلعها:
إنا محبوك وسلم أيها الطلل ... وإن بليت وإن طالت بك الطيل
وصدره:
لراغب الطرف منقوبا محاجرها
وقبله في وصف الإبل:
خوصا تدير عيونا ماؤها سرب ... على الخدود إذا ما أغرورق المقل
فقوله: كأنها قلب يريد محاجر العين يصفها بغثور العين وسعة موضعها، والمحاجر جمع محجر، وهو ما دار بالعين، والقلب جمع قليب وهو البئر، والعادية: القديمة منسوبة إلى عاد، والمكل جمع مكول. وانظر جمهرة العرب للقرشي، وديوان القطامي المطبوع في ليدن.
4 جمة البئر: ما اجتمع من مائها وارتفع.

(1/17)


الخامس "م ل ك " من ذلك ملكت العجين, إذا أنعمت عجنه فاشتد وقوي. ومنه ملك الإنسان ألا تراهم يقولون: قد اشتملت عليه يدي, وذلك قوة وقدرة من المالك على ملكه ومنه الملك, لما يعطى1 صاحبه من القوة والغلبة, وأملكت الجارية؛ لأن يد بعلها تقتدر عليها. فكذلك بقية الباب كله.
فهذه أحكام هذين الأصلين على تصرفهما وتقلب حروفهما.
فهذا أمر قدمناه أمام القول على الفرق بين الكلام والقول؛ ليرى منه غور هذه اللغة الشريفة, الكريمة اللطيفة, ويعجب من وسيع مذاهبها, وبديع ما أمد به واضعها ومبتدئها. وهذا أوان القول على الفصل.
أما الكلام فكل لفظ مستقل بنفسه, مفيد لمعناه. وهو الذي2 يسميه النحويين الجمل, نحو زيد أخوك, وقام محمد وضرب سعيد, وفي الدار أبوك, وصه, ومه, ورويد, وحاء وعاء في الأصوات, وحس, ولب3، وأف, وأوه, فكل لفظ استقل بنفسه, وجنيت منه ثمرة معناه فهو كلام.
وأما القول فأصله أنه كل لفظ مذل به اللسان, تامًّا كان أو ناقصًا. فالتام هو المفيد, أعني الجملة وما كان في معناها, من نحو صهٍ وإيهٍ. والناقص ما كان بضد ذلك, نحو زيد, ومحمد, وإن, وكان أخوك, إذا كانت الزمانية لا الحدثية 4. فكل كلام قول, وليس كل قول كلامًا. هذا أصله. ثم يتسع فيه؛ فيوضع
__________
1 كذا في ب، ش. وفي أ: "يعطيه" وفي ج: "أعطى".
2 نسخة بحذف "وهو".
3 لب: في معنى لبيك في لغة بعض العرب، وهو في هذه الحالة يجري مجرى أمس وغاق. انظر اللسان.
4 يريد بالزمانية الناقصة، وبالحدثية التامة.

(1/18)


القول على الاعتقادات والآراء؛ وذلك نحو قولك: فلان يقول بقول أبي حنيفة, ويذهب إلى قول مالك ونحو ذلك, أي يعتقد ما كانا يريانه, ويقولان به, لا أنه يحكي لفظهما عينه, من غير تغيير لشيء من حروفه؛ ألا ترى أنك لو سألت رجلًا عن علة رفع زيد, من نحو قولنا: زيد قام أخوه فقال لك: ارتفع بالابتداء لقلت: هذا قول البصريين. ولو قال: ارتفع بما يعود عليه من ذكره1 لقلت: هذا قول الكوفيين, أي هذا رأي هؤلاء, وهذا اعتقاد هؤلاء. ولا تقول: كلام البصريين, ولا كلام الكوفيين, إلا أن تضع الكلام موضع القول, متجوزًا بذلك. وكذلك لو قلت: ارتفع لأن عليه عائدًا من بعده, أو ارتفع لأن عائدًا عاد عليه أو لعود ما عاد من ذكره, أو لأن ذكره أعيد عليه أو لأن ذكرًا له عاد من بعده, أو نحو ذلك, لقلت في جميعه: هذا قول الكوفيين, ولم تحفل باختلاف ألفاظه؛ لأنك إنما تريد اعتقادهم لا نفس حروفهم. وكذلك يقول القائل: لأبي الحسن في هذه المسئلة قول حسن, أو قول قبيح, وهو كذا, غير أني لا أضبط كلامه بعينه.
ومن أدل الدليل على الفرق بين الكلام والقول إجماع الناس على أن يقولوا: القرآن كلام الله, ولا يقال: القرآن قول الله؛ وذلك أن هذا موضع ضيق متحجر, لا يمكن تحريفه, ولا يسوغ تبديل شيء من حروفه. فعبر لذلك عنه بالكلام الذي لا يكون إلا أصواتًا تامة مفيدة, وعدل به عن القول الذي قد يكون أصواتًا غير مفيدة, وآراء معتقدة. قال سيبويه 2: " واعلم أن "قلت " في كلام العرب إنما وقعت على أن
__________
1 يراد بالذكر الضمير العائد على المبتدأ، كأنه سبب في تذكره واستحضاره. وما ذكر من مذهب الكوفيين رأي لهم، ومنهم من يرى أن المبتدأ والخبر يترافعان في نحو: زيد منطلق. وانظرالإنصاف 21 وشرح الرضى على الكافية 88/ 1.
2 انظر الكتاب ص62 ج1.

(1/19)


يحكى بها, وإنما يحكى بعد القول ما كان كلامًا لا قولًا". ففرق بين الكلام والقول كما ترى. نعم وأخرج الكلام هنا مخرج ما قد استقر في النفوس, وزالت عنه عوارض الشكوك. ثم قال في التمثيل: "نحو قلت زيد منطلق, ألا ترى أنه يحسن أن تقول: زيد منطلق" فتمثيله بهذا يعلم منه أن الكلام عنده ما كان من الألفاظ قائمًا برأسه مستقلًا معناه وأن القول عنده بخلاف ذلك إذ لو كانت حال القول عنده حال الكلام لما قدم الفصل بينهما ولما أراك فيه أن الكلام هو الجمل المستقلة بأنفسها الغانية عن غيرها وأن القول لا يستحق هذه الصفة من حيث كانت الكلمة الواحدة قولًا وإن لم تكن كلامًا ومن حيث كان الاعتقاد والرأي قولًا وإن لم يكن كلامًا. فعلى هذا يكون قولنا قام زيد كلامًا فإن قلت شارطًا: إن قام زيد, فزدت عليه "إن " رجع بالزيادة إلى النقصان فصار قولًا لا كلامًا ألا تراه ناقصًا ومنتظرًا للتمام بجواب الشرط. وكذلك لو قلت في حكاية القسم: حلفت بالله أي كان قسمي هذا لكان كلامًا لكونه مستقلًا ولو أردت به صريح القسم لكان قولًا من حيث كان ناقصًا لاحتياجه إلى جوابه. فهذا ونحوه من البيان ما تراه.
فأما تجوزهم في تسميتهم الاعتقادات والآراء قولًا؛ فلأن الاعتقاد يخفى, فلا يعرف إلا بالقول, أو بما يقوم مقام القول: من شاهد الحال فلما كانت لا تظهر إلا بالقول سميت قولًا إذ كانت سببًا له, وكان القول دليلًا عليها كما يسمى الشيء باسم غيره إذا كان ملابسًا له. ومثله في الملابسة قول الله سبحانه: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} ومعناه -والله أعلم- أسباب الموت؛

(1/20)


إذ لو جاءه الموت نفسه لمات به لا محالة. ومنه تسمية المزادة1 الراوية1 والنجو2 نفسه الغائط, وهو كثير.
فإن قيل: فكيف عبروا عن الاعتقادات والآراء بالقول, ولم يعبروا عنها بالكلام, ولو سووا بينهما أو قلبوا الاستعمال، كان ماذا؟ 3.
فالجواب أنهم إنما فعلوا ذلك من حيث كان القول بالاعتقاد أشبه منه بالكلام وذلك أن الاعتقاد لا يفهم إلا بغيره, وهو العبارة عنه كما أن القول قد لا يتم معناه إلا بغيره ألا ترى أنك إذا قلت: قام وأخليته من ضمير فإنه لا يتم معناه الذي وضع الكلام عليه وله؛ لأنه إنما وضع على أن يفاد معناه مقترنًا بما يسند إليه من الفاعل, وقام هذه نفسها قول, وهي ناقصة محتاجة إلى الفاعل كاحتياج الاعتقاد إلى العبارة عنه. فلما اشتبها من هنا عبر عن أحدهما بصاحبه. وليس كذلك الكلام؛ لأنه وضع على الاستقلال, والاستغناء عما سواه. والقول قد يكون من الفقر4 إلى غيره على ما قدمناه فكان إلى الاعتقاد المحتاج إلى البيان أقرب وبأن يعبر به عنه أليق. فاعرف ذلك.
__________
1 المزادة: وعاء الماء كالقربة، والراوية في الأصل: البعير يستقى عليه ويحمل المزادة، وتقال الراوية للمزادة نفمها لأن الراوية -وهو البعير- يحملها، فكانت بسبب منه.
2 النجو: البراز الخارج من الدبر. والغائط في الأصل: المنخفض من الأرض، وكانت العادة عندهم قضاء الحاجة في الغائط، إذ هو أستر لصاحبها، فسمى النجو بالغائط لهذه الملابسة.
3 ترى أنه أخرج "ماذا" عن الصدر؛ إذ أعمل فيها "كان" وهذا لا شيء فيه. وكلام العرب على ذلك. وقد ذكر ابن مالك هذا في توضيحه الموضوع على مشكلات الجامع الصحيح، وقد طبع في الهند، واستشهد على هذا الحكم بقول عائشة رضي الله عنها في حديث الإفك: أقول ماذا؟ أفعل ماذا؟ وانظر حاشية الشيخ يس على التصريح في مبحث الموصول.
4 في عبارة اللسان: "المفتقر".

(1/21)


فإن قيل: ولم وضع الكلام على ما كان مستقلًا بنفسه البتة والقول على ما قد يستقل بنفسه, وقد يحتاج إلى غيره ألاشتقاق قضى بذلك أم لغيره من سماع متلقى بالقبول والاتباع قيل: لا؛ بل لاشتقاق1 قضى بذلك2 دون مجرد السماع. وذلك أنا قد قدمنا في أول القول من هذا الفصل أن الكلام إنما هو من الكَلم والكَلام والكُلوم وهي الجراح؛ لما يدعو إليه, ولما يجنيه في أكثر الأمر على المتكلمة3, وأنشدنا في ذلك قوله:
وجرح اللسان كجرح اليد
ومنه قوله 4:
قوارص تأتيني ويحتقرونها ... وقد يملأ القطر الإناء فيفعم
ونحو ذلك من الأبيات التي جئنا بها هناك وغيرها مما يطول به الكتاب، وإنما ينقم من القول ويحقر5, ما ينثى6 ويؤثر, وذلك ما كان منه تامًّا غير ناقص ,ومفهومًا غير مستبهم وهذه صورة الجمل وهو ما كان من الألفاظ قائمًا برأسه غير محتاج إلى متمم له, فلهذا سموا ما كان من الألفاظ تامًا مفيدًا كلامًا؛ لأنه
__________
1 كذا في ج. وفي غيرها من الأصول: "الاشتقاق".
2 كذا في ب، ش، د، هـ. وفي أ: "به".
3 يريد الطائفة المتكلمة، وفي ش، د: "المتكلم" وقد يكون "المتكلمة" تحريفًا عن "المتكلمه": أي المتكلم الكلام.
4 هو الفرزدق. والقوارص جمع القارصة وهي الكلمة المؤذية؛ وقيل هذا البيت:
تصرم مني ود بكر بن وائل ... وما كان مني ودهم يتصرم
وانظر الكامل طبعة المرصفي 127/ 1. وانظر ديوانه طبعة أوروبا 60؛ وفيه "عني" بدل "مني" في الموضعين "فيحنقرونها" بدل "ويحتقرونها".
5 في الأصول والمطبوعة: "يحقد" وما أثبته هو الموافق لقوله في الشعر: "ويحتقرونها"، ولأن حقد لا يعرف متعديًا.
6 يقال: ثنا الحديث: أذاعه وحدث به.

(1/22)


في غالب الأمر وأكثر الحال مضر بصاحبه وكالجارح له. فهو إذًا من الكلوم التي هي الجروح. وأما القول فليس في أصل اشتقاقه ما هذه سبيله؛ ألا ترى أنا قد عقدنا تصرف " ق ول" وما كان أيضًا من تقاليبها الستة, فأرينا أن جميعها إنما هو للإسراع والخفة, فلذلك سموا كل ما مذل به اللسان من الأصوات قولًا, ناقصًا كان ذلك أو تامًّا. وهذا واضح مع أدنى تأمل.
واعلم أنه قد يوقع1 كل واحد من الكلام والقول موقع صاحبه, وإن كان أصلهما قبل ما ذكرته؛ ألا ترى إلى رؤبة كيف قال:
لو أنني أوتيت علم الحكل2 ... علم سليمان كلام النمل
يريد قول3 الله عز وجل: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} وعلى هذا اتسع فيهما جميعًا اتساعًا واحدًا فقال أبو النجم:
قالت له الطير تقدم راشدا ... إنك لا ترجع إلا حامدا
وقال الآخر:
وقالت له العينان سمعًا وطاعة ... وأبدت كمثل الدر لما يثقب4
__________
1 في ش: "يوضع ... موضع"، وفي ج: "واعلم أنه قد يتسع فيهما فيوضع كل واحد منها موضع الآخر".
2 الحكل ما لا يسمع صوته. وبين الشطرين شطر ثالث هو:
علمت منه مسنسر الدخل
وانظر ديوانه.
3 كأنه يريد أن حديث النمل أشبه بالاعتقاد, فكان الأجدر به القول الذي يستعمل في الرأي والاعتقاد لخفائه، فاستعمال الكلام فيه من إيقاع الكلام موقع القول.
4 في اللسان في "قول" بدل "وأبدت كمثل الدر": "وحدرتا كالدر", وهذا يناسب التثنية في العينين. وقد جاء الإفراد في "أبدت" في رواية الكتاب؛ لأن العينين لتلازمهما في حكم الفرد كما قال الراجز:
لمن زحلوقة زل ... بها العينان تنهل
أو لأن الضمير في أبدت لمحبوبته.

(1/23)


وقال الراجز:
امتلأ الحوض وقال قطني1
وقال الآخر:
بينما نحن مرتعون2 بفلج ... قالت الدلح الرواء إنيه
إنيه: صوت رزمة السحاب وحنين الرعد وأنشدوا:
قد قالت الأنساع للبطن الحق3
فهذا كله اتساع في القول.
ومما جاء منه في الكلام قول الآخر:
فصبحت والطير لم تكلم ... جابية طمت بسيل مفعم4
وكأن الأصل في هذا الاتساع إنما هو محمول على القول ألا ترى إلى قلة الكلام هنا وكثرة القول وسبب ذلك وعلته عندي ما قدمناه من سعة مذاهب القول, وضيق مذاهب الكلام. وإذا جاز أن نسمي الرأي والاعتقاد قولًا, وإن لم يكن صوتًا, كانت تسمية ما هو أصوات قولًا أجدر بالجواز. ألا ترى أن الطير لها هدير والحوض له غطيط, والأنساع لها أطيط, والسحاب له دوي. فأما
__________
1 بعده:
مهلا رويدا قد ملأت بطني
وانظر العيني 361/ 1 والكامل 246/ 4 وحمل العيني هنا على دلالة الحال.
2 مرتعون وصف من أرتع القوم إذا رعوا أي نازلون بهذا المكان. وفلج: واد بين البصرة وحي ضربة، والدلح وصف للسحب واحده دالحة أي مثقلة بالماء، وإنيه بكسر الهمزة كما نص عليه صاحب التاج في "أنه".
3 بعده:
قدما فآضت كالفنيق المحنق
وهو لأبي النجم، وانظر تفسير الطبري 1/ 405.
4 الجابهة: الحوض العظيم، وطمت: غمرت، يقال: جاء السيل فطم كل شيء أي علاه وغمره، وفي أ: "حفت". وكتب في هامشها "وطمت معا" وهو إشارة إلى الرواية الأخرى. ومفعم ورد هكذا بصيغة المفعول، وهو على الإسناد الهبازي، ولو جاء على وجهه لقيل: مفعِم بكسر العين.

(1/24)


قوله:
وقالت له العينان سمعًا وطاعة
فإنه وإن لم يكن منهما صوت فإن الحال آذنت بأن لو كان لهما جارحة نطق لقالتا: سمعًا وطاعة. وقد حرر هذا الموضع وأوضحه عنترة بقوله:
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى ... ولكان لو علم الكلام مكلمي
وامتثله شاعرنا1 آخرًا فقال:
فلو قدر السنان على لسان ... لقال لك السنان كما أقول
وقال أيضًا:
لو تعقل الشجر التي قابلتها ... مدت محيية إليك الأغصنا
ولا تستنكر ذكر هذا الرجل -وإن كان مولدًا- في أثناء ما نحن عليه من هذا الموضع وغموضه ولطف متسربه؛ فإن المعاني يتناهبها المولدون كما يتناهبها المتقدمون. وقد كان أبو العباس2 -وهو الكثير التعقب لجلة الناس- احتج بشيء من شعر حبيب3 بن أوس الطائي في كتابه في الاشتقاق, لما كان غرضه فيه معناه دون لفظه, فأنشد فيه له 4:
لو رأينا التوكيد خطة عجز ... ما شفعنا الأذان بالتثويب5
__________
1 يريد بقوله شاعرنا المتنبي وكان ابن جني يحضر عند المتنبي الكثير، يناظره في شيء من النحو، وكان المتنبي يعجب به وبذكائه وحذقه. ويقول: هذا رجل لا يعرف قدره كثير من الناس، ويقول ابن جني في المحتسب وقد استشهد ببيت المتنبي: "ولا تقل ما يقوله من ضعفت نحيرته، وركت طريقته: هذا شاعر محدث، وبالأمس كان معنا، فكيف يجوز أن يحتج به في كتاب الله جل وعز! فإن المعاني لا يرفعها تقدم، ولا يزري بها تأخر"، ولابن جني شرحان على ديوان المتنبي. انظر البغية ومعجم الأدباء.
2 يريد المبرد محمد بن يزيد الإمام في النحو واللغة والأخبار. كانت وفاته سنة 385هـ.
3 هو أبو تمام. وتوفي بالموصل سنة 231.
4 كذا في أوفي ب، ش. "قوله".
5 في أ: "إليك في التثويب" بعد شفعنا.

(1/25)


وإياك والحنبلية بحتًا؛ فإنها خلق ذميم, ومطعم على علاته وخيم 1.
وقال سيبويه 2: "هذا باب علم ما الكلم من العربية " فاختار الكلم على الكلام وذلك أن الكلام اسم من كلم بمنزلة السلام من سلم, وهما بمعنى التكليم والتسليم, وهما المصدران الجاريان على كلم وسلم قال الله سبحانه: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} وقال -عز اسمه: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} فلما كان الكلام مصدرًا, يصلح لما يصلح له الجنس, ولا يختص بالعدد دون غيره3, عدل عنه إلى الكلم, الذي هو جمع كلمة, بمنزلة4 سلمة5 وسلم, ونبقة ونبق, وثفنة6 وثفن. وذلك أنه أراد تفسير ثلاثة أشياء مخصوصة, وهي الاسم, والفعل, والحرف, فجاء بما يخص الجمع, وهو الكلم, وترك ما لا يخص الجمع, وهو الكلام, فكان ذلك أليق بمعناه, وأوفق لمراده. فأما قول مزاحم العقيلي:
لظل رهينًا خاشع الطرف حطه ... تخلب جدوى والكلام الطرائف7
__________
1 أي على كل حال.
2 في أول الكتاب.
3 كذا في الأصول، والأسوغ "بعدد".
4 في ج. "مثل".
5 هي الحجرة.
6 الثفنة من البعير والناقة: الركبة.
7 "الطرائف" كذا في أ. وفي ش، ب. "الطوائف" والبيت من قصيدته التي يقول فيها:
نقالا تعرفها المنازل من منى ... وما كل من وافى مني أنا عارف
وقد أورد منها العيني في شواهده الكبرى بضعة أبيات، والبغدادي في شرح شواهد المغني بعضا، وصاحب فرحة الأديب بعضا، ولم أقف فيها على البيت الشاهد ولا سابقه. وأورد صاحب اللسان في "زغرف" منها بيتين أرجح أن الثاني منهما هو سابق هذا البيت وهو:
ولو بذلت أنسا الأعصم عاقل ... برأس الشرى قد طردته المخاوف
وقوله: بذلت هكذا أصلحته. وفي اللسان والتاج: أبدلت. والأعصم العاقل يريد الوعل، والعاقل من عقل إذا صعد. "ورهينا" ثابتا في مكانه لا يريمه من الطرب لما سمع، "جدوى": المرأة التي يتغزل بها، وقد ذكرها في بيت آخر من القصيدة إذ يقول:
تذكرني جدوى على النأي والعاي ... طوال الليالي والحام الهواتف
وتخليها: دلها وحسن حديثها وسلبها عقل من يقع في حبالة هواها.

(1/26)


فوصفه بالجمع, فإنما ذلك وصف على المعنى, كما حكى أبو الحسن عنهم, من قولهم: "ذهب به الدينار1 الحمر والدرهم البيض " وكما قال:
تراها2 الضبع أعظمهن رأسا
فأعاد الضمير على معنى الجنسية لا على لفظ الواحد, لما كانت الضبع هنا جنسًا. وبنو تميم يقولون: كِلمة وكِلَم, ككِسرة وكِسَر.
فإن قلت: قدمت في أول كلامك أن الكلام واقع على الجمل دون الآحاد, وأعطيت ههنا أنه اسم الجنس؛ لأن المصدر كذلك حاله؛ والمصدر يتناول الجنس وآحاده تناولًا واحدًا. فقد أراك انصرفت عما عقدته على نفسك: من كون الكلام مختصًا بالجمل المركبة, وأنه لا يقع على الآحاد المجردة وأن ذلك إنما هو القول لأنه فيما زعمت يصلح للآحاد, والمفردات, وللجمل المركبات.
قيل: ما قدمناه صحيح وهذا الاعتراض ساقط عنه, وذلك أنا نقول: لا محالة أن الكلام مختص بالجمل, ونقول مع هذا: إنه جنس أي جنس للجمل, كما أن الإنسان من قول الله سبحانه: {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} جنس للناس, فكذلك الكلام, جنس للجمل, فإذا قال: قام محمد فهو كلام, وإذا قال: قام محمد, وأخوك جعفر فهو أيضًا كلام؛ كما كان لما وقع على الجملة الواحدة كلامًا؛ وإذا قال:
__________
1 كذا في أ. وسقط "به" في ش، ب، د، هـ.
2 كذا في اللسان في كلم وجرهم، والمخصص 8/ 71 وفي أصول الخصائص "تراه". وعجز هذا البيت:
جراهمة لها حرة وثيل
وهو في وصف ضبع تحفر قبور الموتى، والجراهمة: العظيمة الرأس الجافية، والحرة: الحر، والثيل قضيب البعير وذكره وقد استعاره للضبع، وتزعم العرب أن الضبع خنثى لها ما للرجال والنساء. يقول: إن هذه الضبع تراها الضباع أعظمهن رأسًا أي أنها أعظم الضباع. والبيت لحبيب الأعلم الهذلي "2/ 87 من ديوان الهذليين طبع الدار". وورد في المخصص 8/ 71 من غير عزو. وقد عزاه صاحب اللسان في "جرهم" لساعدة بن جؤية، وهو اشتباه سببه أن لساعدة قصيدة على هذا الروي، وفيها أيضًا وصف الضبع.

(1/27)


قام محمد وأخوك جعفر, وفي الدار سعيد, فهو أيضًا كلام؛ كما كان لما وقع على الجملتين كلامًا. وهذا طريق المصدر لما كان جنسًا لفعله؛ ألا ترى أنه إذا قام قومة واحدة فقد كان منه قيام, وإذا قام قومتين فقد كان منه قيام, وإذا قام مائة قومة فقد كان منه قيام. فالكلام إذًا إنما هو جنس للجمل التوام: مفردها, ومثناها, ومجموعها؛ كما أن القيام جنس للقومات: مفردها ومثناها ومجموعها. فنظير القومة الواحدة من القيام الجملة الواحدة من الكلام. وهذا جلي.
ومما يؤنسك بأن الكلام إنما هو للجمل التوام دون الآحاد أن العرب لما أرادت الواحد من ذلك خصته باسم له لا يقع إلا على الواحد, وهو قولهم: "كلِمة ", وهي حجازية, و "كِلمة " وهي تميمية. ويزيدك في بيان ذلك قول كثير:
لو يسمعون كما سمعت كلامها ... خروا لعزة ركعا وسجودا1
ومعلوم أن الكلمة الواحدة لا تشجو2, ولا تحزن, ولا تتملك قلب السامع، إنما ذلك فيما طال من الكلام, وأمتع سامعيه, بعذوبة مستمعه, ورقة حواشيه؛ وقد قال سيبويه 3: "هذا باب أقل ما يكون عليه الكلم " فذكر هنالك حرف العطف, وفاءه, وهمزة الاستفهام, ولام الابتداء, وغير ذلك مما هو على حرف واحد, وسمى كل واحد4 من ذلك كلمة. فليت شعري: كيف يستعذب قول القائل, وإنما نطق
__________
1 من مقطوعة له مطلعها:
ولقد لقيت على الدريجة ليلة ... كانت عليك أيامنا وسعودا
وقبل البيت:
رهبان مدين والذين عهدتهم ... يبكون من حذو العذاب قعودا
وانظر شرح الديوان 1/ 65 والعيني في الشواهد 4/ 460.
2 في عبارة ابن سيده في اللسان في "كلم": "تشجيه"، وأشجاه وشجاه معناهما واحد.
3 انظر الكتاب ص304 ج2، وترجمة الباب فيه: "هذا باب عدة ما يكون عليه الكلام".
4 في عبارة ابن سيده في اللسان في "كلم": "واحدة".

(1/28)


بحرف واحد! لا بل كيف يمكنه أن يجرد للنطق حرفًا واحدًا؛ ألا تراه أن لو كان ساكنًا لزمه أن يدخل عليه مكن أوله همزة الوصل, ليجد سبيلًا إلى النطق به, نحو "أِب أِص أِق " وكذلك إن كان متحركًا فأراد الابتداء به والوقوف عليه قال في النطق بالباء من بكر: بَه وفي الصاد من صلة: صِه وفي القاف من قدرة: قُه؛ فقد علمت بذلك أن لاسبيل إلى النطق بالحرف الواحد مجردًا من غيره ساكنًا كان, أو متحركًا. فالكلام إذًا من بيت كثير إنما يعني به المفيد من هذه الألفاظ, القائم برأسه المتجاوز لما لا يفيد ولا يقوم برأسه من جنسه، ألا ترى إلى قول الآخر 1:
ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسح بالأركان من هو ماسح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت2 بأعناق المطي الأباطح
فقوله بأطراف الأحاديث يعلم منه أنه لا يكون إلا جملًا كثيرة, فضلًا عن الجملة الواحدة, فإن قلت: فقد قال الشنفرى:
كأن لها في الأرض نسيًا نقصه ... على أمها وإن تخاطبك تبلت3
__________
1 نسب البيتين غير واحد لكثير عزة، وهما في ديوانه المطبوع نقلا عن معاهد التنصيص، ونسبهما المرزباني للمضرب بن كعب بن زهير. وانظر نوادر القالي 166 والسمط على النوادر، واللسان في "طرف".
2 "سالت"، كذا في ش، ب، وفي أ: "مالت".
3 النسي: الشيء المنسي الذي لا يذكر، وتقعه: تتبع آثره لتجده، وعلى أمها "بفتح الهمزة" أي على سمتها وجهة قصدها، وقوله إن تخاطبك، يروى: إن تحدثك، وتبلت -بكسر اللام- أي تقطع الكلام من الحياء، وروي تبلت -بفتح اللام- أي تنقطع وتسكت، يريد شدة استحيائها فهي لا ترفع رأسها كأنها تطلب شيئًا في الأرض، والبيت من قصيدة مفضلية، وانظر شرح المفضليات لابن الأنباري 201، وانظر الكامل 10/ 7.

(1/29)


أي تقطع كلامها, ولا تكثره, كما قال ذو الرمة:
لها بشر مثل الحرير ومنطق ... رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر1
فقوله: رخيم الحواشي: أي مختصر2 الأطراف وهذا ضد الهذر والإكثار وذاهب في التخفيف والإختصار قيل: فقد قال أيضًا: ولا نزر, وأيضًا فلسنا ندفع أن الخفر يقل معه الكلام, ويحذف فيه أحناء المقال إلا أنه على حال لا يكون ما يجري منه وإن قل ونزر أقل من الجمل التي هي قواعد الحديث, الذي يشوق موقعه ويروق مستمعه. وقد أكثرت الشعراء في هذا الموضع, حتى صار الدال عليه كالدال على المشاهد غير المشكوك فيه؛ ألا ترى إلى قوله:
وحديثها كالغيث يسمعه ... راعي سنين تتابعت جدبا!
فأصاخ يرجو أن يكون حيا ... ويقول من فرح هيا ربا 3
-يعني حنين السحاب وسجره4, وهذا لا يكون عن نبرة واحدة, ولا رزمة مختلسة, إنما يكون مع البدء فيه والرجع, وتثنى الحنين على صفحات السمع- وقول ابن الرومي 5:
__________
1 من قصيدته التي مطلعها:
ألا يا اسلمي يا دار مي على البلا ... ولا زال منهلا بجرعائك القطر
2 كذا فسر ابن جني "رخيم الحواشي" وكأنه ذهب بالترخيم إلى معناه في النحو، وهو حذف آخر الكلمة ففهم الكلمة ففهم منه معنى الاختصار. والمعروف في رخامة الصوت لينه. ويقول شارح الديوان: "رخيم الحواشي: أي لين نواحي الكلام" وانظر الديوان المطبوع في أوروبا 213.
3 البيت الثاني غير مذكور في أ: وهذا البيت أورده صاحب اللسان في هيا، وفيه: "من طرب" في مكان "من فرح". والبيتان في أمالي القالي 84/ 1 وعنده: تتايعت، قال في السمط 275: "وهي رواية جيدة؛ لأن التتايع أخص بالشر، ونسب البيتين البلوي في "ألف باء" 478/ 2 إلى الراعي, وهو يقول في التقدمة لهما: "ألم تسمع أيها الواعي، قول الراعي".
4 السجر في الأصل: صوت الناقة إذا مدت حنينها في إثر ولدها. وقد يستعمل في صوت الرعد، وهو المراد هنا.
5 نسب ابن الشجري في حماسته ص195 الأبيات إلى البحتري.

(1/30)


وحديثها السحر الحلال لو انه ... لم يجن قتل المسلم المتحرز
إن طال لم يملل وإن هي أوجزت ... ود المحدث أنها لم توجز
شرك القلوب وفتنة ما مثلها ... للمطمين وعقلة المستوفز1
فذكر أنها تطيل تارة وتوجز أخرى, والإطالة والإيجاز جميعًا إنما هما في كل كلام مفيد مستقل2 بنفسه ولو بلغ بها الإيجاز غايته لم يكن له3 بد من أن يعطيك تمامه وفائدته مع أنه لا بد فيه من تركيب الجملة, فإن نقصت عن ذلك لم يكن هناك استحسان ولا استعذاب؛ ألا ترى إلى قوله 4:
قنا لها قفي لنا قالت قاف
وأن هذا القدر من النطق لا يعذب, ولا يجفو, ولا يرق, ولا ينبو, وأنه إنما يكون استحسان القول واستقباحه فيما يحتمل5 ذينك, ويؤديهما إلى السمع, وهو أقل ما يكون جملة مركبة. وكذلك قول الآخر -فيما حكاه سيبويه6: "ألا تا " فيقول مجيبه:
__________
1 سقط هذا البيت في أ.
2 "مقل" في أ.
3 في أبإسقاط "له".
4 هو الوليد بن عقبة بن أبي معيط. وكان عاملا لعثمان رضي الله عنه على الكوفة، فاتهم بشرب الخمر فأمر الخليفة بشخوصه إلى المدينة، وخرج في ركب، فنزل الوليد يسوق بهم، فقال:
قلت لها قفي فقالت قاف ... لا تحسبينا قد نسبنا الإيجاف
والنشوات من معتق صاف ... وعزف قينات علينا عزاف
وانظر شواهد الشافية 271 والأغاني 131/ 5 وترى في الشطر الشاهد بعض المخالفة وقوله: قالت قاف, أي إني واقفة أو وقفت، فاستغنى بالحرف عن الجملة.
5 "يحمل" في أ.
6 انظر الكتاب ص62 ج2 والنص فيه: "وسمعت من العب من يقول: ألا تا، بلى فا, فإنما أرادوا: ألا تفعل، وبلى فافعل. ولكنه قطع، وفي الكامل 127/ 4 عن الأصمعي: "كان أخوان متجاوران لا يكلم كل واحد منهما صاحبه سائر سنته حتى يأتي وقت الرعي؛ فيقول أحدهما لصاحبه: ألاتا، فيقول الآخر: بلى فا. يريد ألا تنهض، فيقول الآخر: بلى فانهض، وانظر نوادر أبي زيد 127 وشرح الشافية 366.

(1/31)


"بلى فا ". فهذا ونحوه مما يقل لفظه, فلا يحمل حسنًا ولا قبحًا, ولا طيبًا ولا خبثًا. لكن قول الآخر "مالك بن أسماء "1:
أذكر من جارتي ومجلسها ... طرائفًا من حديثها الحسن
ومن حديث يزيدني مقة ... ما لحديث الموموق من ثمن
أدل شيء على أن هناك إطالة وتمامًا2, وإن كان بغير حشو ولا خطل؛ ألا ترى إلى قوله: " طرائفًا من حديثها الحسن " فذا لا يكون مع الحرف الواحد, ولا الكلمة الواحدة, بل لا يكون مع الجملة الواحدة, دون أن يتردد الكلام, وتتكرر فيه الجمل فيبين ما ضمنه من العذوبة وما في أعطافه من النعمة واللدونة؛ وقد قال بشار:
وحوراء المدامع من معد ... كأن حديثها ثمر الجنان3
ومعلوم أن4 من حرف واحد, بل كلمة واحدة, بل جملة واحدة لا يجنى ثمر جنة واحدة, فضلًا عن جنان كثيرة. وأيضًا فكما أن المرأة قد توصف بالحياء والخفر فكذلك أيضًا قد توصف بتغزلها ودماثة حديثها ألا ترى إلى قول الله سبحانه: {عُرُبًا أَتْرَابًا، لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} وأن العروب في التفسير هي المتحببة إلى زوجها المظهرة له ذلك؛ بذلك فسره أبو عبيدة. وهذا لا يكون مع الصمت5, وحذف أطراف القول, بل إنما يكون مع الفكاهة والمداعبة وعليه بيت الشماخ:
__________
1 انظر ذيل الأمالي 90 واللسان في "طرف".
2 كذا في ش، وفي أ: "إتماما".
3 بعده:
إذا قامت لمشيشتها تثنت ... كأن عظامها من خيزران
وانظر المختار من شعر بشار 34.
4 يريد أنه، وهذا ضمير الشأن حذفه هنا.
5 كذا في ش، ب. وفي أ: "الضمير".

(1/32)


ولو أني أشاء كننت جسمي ... إلى بيضاء بهكنة شموع1
قيل فيه: الشماعة هي المزح والمداعبة. وهذا باب طويل جدًا وإنما أفضى بنا إليه ذرو2 من القول أحببنا استيفاءه تأنسًا به وليكون هذا الكتاب ذاهبًا في جهات النظر إذ ليس غرضنا فيه الرفع والنصب والجر والجزم لأن هذا أمر قد فرغ في أكثر الكتب المصنفة فيه منه. وإنما هذا الكتاب مبني على إثارة معادن المعاني وتقرير حال الأوضاع والمبادي, وكيف سرت أحكامها في الأحناء والحواشي.
فقد ثبت بما3 شرحناه وأوضحناه أن الكلام إنما هو في لغة العرب عبارة عن الألفاظ القائمة برءوسها المستغنية عن غيرها وهي التي يسميها أهل هذه الصناعة الجمل على اختلاف تركيبها. وثبت أن القول عندها أوسع من الكلام تصرفًا وأنه قد يقع على الجزء الواحد وعلى الجملة وعلى ما هو اعتقاد ورأي لا لفظ وجرس.
وقد علمت بذلك تعسف المتكلمين في هذا الموضع وضيق القول فيه عليهم حتى لم يكادوا يفصلون بينهما. والعجب ذهابهم عن نص سيبويه فيه، وفصله بين الكلام والقول.
ولكل قوم سنة وإمامها4
__________
1 البهكنة: المرأة الغضة الخفيفة الروح. والشموع: المزاحة اللعوب، وقوله: كنت، يوافق ما في ش، وما في المخصص ص2 ج4، وفي المطبوعة وأ: "كتبت". وفي ديوانه: "كنئت نفسي".
2 أي طرف.
3 كذا في أ، وفي ش: "لما".
4 هذا عجز بيت من معلقة لبيد صدره:
من معشر سنت لهم آباؤهم

(1/33)


باب القول على اللغة وما هي1:
أما حدها "فإنها أصوات"2 يعبر بها كل قوم عن أغراضهم. هذا حدها. وأما اختلافها فلما سنذكره في باب القول عليها: أمواضعة هي أم إلهام. وأما تصريفها ومعرفة حروفها فإنها فعلة من لغوت. أي تكلمت وأصلها لغوة3 ككرة وقلة وثبة كلها لاماتها واوات لقولهم. كروت بالكرة, وقلوت بالقلة؛ ولأن ثبة كأنها من مقلوب ثاب يثوب. وقد دللت على ذلك وغيره من نحوه في كتابي في " سر الصناعة "4. وقالوا فيها: لغات ولغون ككرات وكرون5 وقيل منها لغى يلغى إذا هذى؛ "ومصدره اللغا"6 قال:
ورب أسراب حجيج كظم ... عن اللغا ورفث التكلم7
وكذلك اللغو قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} أي بالباطل وفي الحديث: " من8 قال في الجمعة: صه فقد لغا " أي تكلم 9. وفي هذا كاف.
__________
1 سقط الواو في ج.
2 في أ: "فأصوات".
3 في المطبوعة وأ، ج: "لفة" ولا يناسب السياق. وما هنا يوافق ما في ش، ب.
4 ذكر هذا في حرف الواو.
5 كذا بالواو التي تكون في الرفع لتبدو المضاهاة لـ"يلغون" وفي المخصص ج1 ص7 "كرين" وهي ظاهرة.
6 زيادة من ج.
7 سقط صدر البيت في أ. هو لرؤبة، ونسبه ابن يرى للعجاج وهو الصواب، انظر اللسان في "لغو" وديوان العجاج. و"رب"، تبعت في هذا الضبط ش، واللسان في كظم ولغا، وفي المطبوعة، وب: "رب" بضم الراء وأسراب جمع سرب وهو في الأصل القطيع من الوحش والظباء، استعير للطائفة من الحجيج، وقد ضبطتها من غير تنوين مضافة تبعا لما في اللسان، وكظم أي سكوت.
8 لفظ الحديث في البخاري في أبواب الجمعة: "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت والإمام يخطب فقد لغوت" , وانظر الجامع الصغير في حرف الألف.
9 كذا في الأصول وفي اللسان، ويفسر شراح الحديث هنا اللغو بالكلام بما لا ينبغي.

(1/34)


باب القول على النحو:
هو انتحاء سمت كلام العرب في تصرفه من إعراب وغيره كالتثنية والجمع والتحقير والتكسير والإضافة والنسب والتركيب وغير ذلك ليلحق من ليس من أهل اللغة العربية بأهلها في الفصاحة فينطق بها وإن لم يكن منهم وإن شذ1 بعضهم عنها رد به إليها. وهو في الأصل مصدر شائع أي نحوت نحوًا كقولك: قصدت قصدًا ثم خص به انتحاء هذا القبيل من العلم كما أن الفقه في الأصل مصدر فقهت الشيء أي عرفته ثم خص به علم الشريعة من التحليل والتحريم وكما أن بيت الله خص به الكعبة وإن كانت البيوت كلها لله. وله نظائر في قصر ما كان شائعًا في جنسه على أحد أنواعه. وقد استعملته العرب ظرفًا وأصله المصدر. أنشد أبو الحسن:
ترمي الأماعيز مجمرات ... بأرجل روح مجنبات2
يحدو بها كل فتى هيهات ... وهن نحو البيت عامدات3
__________
1 في المطبوعة: "أو" وهو يخالف ما في الأصول.
2 الأماعيز واحدها أمعز، هو ما غلظ من الأرض، والوجه فيها الأماعز، ولكنه زاد الباء للشعر، و"مجمرات" يريد خفافا صلبة، يقال: خف مجمر، وقوله: "بأرجل" إبدال من قوله: "بمجمرات"، وقد جاء هكذا في ش، وأ، وفي اللسان في "نحو"، و"هبت": وأرجل". وروح جمع أروح وروحاء، يقال: رجل روحاء إذا كان في القدم انبساط واتساع، و"مجنبات" كذا في أ. وفي ش، ب: "محنبات". وتجنيب الرجل انحناء فيها وتوتير، وتحنيبها أيضًا بهذا المعنى. وهذا في وصف إبل. وانظر شواهد العيني في مبحث المعرب والمبني.
3 هيات أي يهيت بها، يصيح بها ويدعو: هيت هيت أي أقبلي، وقوله: "وهن نحو البيت عامدات", فنحو البيت هو الخبر أي قاصدات جهة البيت، و"عامدات" حال من الضمير المستكن في الظرف. وانظر اللسان في "وحى" ففيه بعد الشطر الثالث:
تنقاه بعد الوهن ذا وحاة

(1/35)


باب القول على الإعراب:
هو الإبانة عن المعاني بالألفاظ ألا ترى أنك إذا سمعت أكرم سعيد أباه وشكر سعيدًا أبوه علمت برفع أحدهما ونصب الآخر الفاعل من المفعول ولو كان الكلام شرجًا1 واحدًا لاستبهم أحدهما من صاحبه.
فإن قلت: فقد تقول ضرب يحيى بشرى فلا تجد هناك إعرابًا فاصلًا وكذلك نحوه قيل: إذا اتفق ما هذه سبيله مما يخفى في اللفظ حاله ألزم الكلام من تقديم الفاعل وتأخير المفعول ما يقوم مقام بيان الإعراب. فإن كانت هناك دلالة أخرى من قبل المعنى وقع التصرف فيه بالتقديم والتأخير نحو أكل يحيى كمثرى: لك أن تقدم وأن تؤخر كيف شئت وكذلك ضربت هذا هذه وكلم هذه هذا وكذلك إن وضح الغرض بالتثينة أو الجمع جاز لك التصرف نحو قولك أكرم اليحييان البشريين وضرب البشريين اليحيون2 وكذلك لو أومأت إلى رجل وفرس فقلت 3: كلم هذا هذا فلم يجبه لجعلت الفاعل والمفعول أيهما شئت لأن في الحال بيانًا لما تعني. وكذلك قولك ولدت هذه هذه من حيث كانت حال الأم من البنت معروفة غير منكورة. وكذلك إن ألحقت الكلام ضربًا من الإتباع جاز لك التصرف لما تعقب4 من البيان نحو ضرب يحيى نفسه بشرى أو كلم بشرى العاقل معلى أو كلم هذا وزيدًا يحيى. ومن أجاز قام وزيد عمرو لم يجز ذلك في نحو "كلم هذا وزيد يحيى " وهو يريد كلم هذا يحيى وزيد كما يجيز "ضرب زيدًا وعمرو جعفر ".
__________
1 أي نوعًا، وفي ج: "شرعًا"، يقال: هما في هذا الأمر شرع واحد أي سواء. وقد أثبت "شرجا" بالجيم وفقا لما في د، هـ. وفي بقية الأصول: "شرحا".
2 في الأصول: "البشرين". والصواب ما أثبته.
3 كذا في ج. وفي سائر الأصول: "قلت.
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "يعقب".

(1/36)


فهذا طرف من القول1 أدى إليه ذكر الإعراب.
وأما لفظه فإنه مصدر أعربت عن الشيء إذا أوضحت عنه؛ وفلان معرب عما في نفسه أي مبين له, وموضح عنه؛ ومنه عربت الفرس تعريبًا إذا بزغته, وذلك أن تنسف أسفل حافره, ومعناه أنه قد بان بذلك ما كان خفيًا من أمره لظهوره إلى مرآة العين بعد ما كان مستورًا وبذلك تعرف حاله: أصلب هو أم رخو؟ و"أصحيح"2 هو أم سقيم وغير ذلك.
وأصل هذا كله قولهم "العرب " وذلك لما يعزى إليها3 من الفصاحة, والإعراب والبيان. ومنه قوله4 في الحديث " الثيب تُعرِب عن نفسها " والمعرب: صاحب الخيل العراب وعليه قول الشاعر:
يصهل في مثل جوف الطوى ... صهيلًا يبين للمعرب5
__________
1 في المطبوعة تبعا لما في ش وب: "من القرآن الذي أدى إليه ذكر الإعرب" وقد سقطنا "الذي" إذ لا وجه لها في هذا التركيب.
2 كذا في الأصول بتقديم العاطف على أداة الاستفهام والاستفهام له الصدر، والاستعمال الصحيح: "أو صحيح".
3 تبعت في هذا ما في ج، والضمير في "إليها" يرجع إلى العرب وفي المطبوعة، أ، ب: "إليه"، وكأن المراد: إلى الإعراب. وفي ابن يعيش على المفصل 72/ 1: "إليهم" وهي ظاهرة.
4 في المطبوعة، أ، ب. "قولهم"، ولا وجه له. وفي اللسان أنه يروي عن الرسول عليه الصلاة والسلام. وفي ج: "ومنه الحديث: الثيب ... " والحديث في مسند أحمد وابن ماجه. انظر الجامع الصغير.
5 "في مثل جوف الطوى" -ويروى الركي؛ وكلاهما البئر- يصف سمة جوفه، كأن جوفه بئر، أو أنه يصف شدة صهيله لأن الصوت يبين في البئر، ويذكر أنه مجفر: عظيم الجنبين، "يبين" كذا في ش، أ، واللسان في "عرب" والمخصص ص177 ج6. وفي المطبوعة وب "تبين". وهذا من قصيدة للنابغة الجعدي ذكرت في كتاب الخبل لأبي عبيدة. وانظر سمط اللآلي 414/ 1 والكامل 168/ 6

(1/37)


أي إذا سمع صاحب الخيل العراب صوته علم أنه عربي. ومنه عندي عروبة والعروبة للجمعة1 وذلك أن يوم الجمعة أظهر أمرًا من بقية أيام الأسبوع لما فيه من التأهب لها والتوجه إليها وقوة الإشعار بها؛ قال:
بوائم رهطًا للعروبة صيمًا2
ولما كانت معاني المسمين مختلفة كان الإعراب الدال عليها مختلفًا أيضًا وكأنه من قولهم: عربت معدته أي فسدت كأنها استحالت من حال إلى حال كاستحالة الإعراب من صورة إلى صورة. وفي هذا كاف بإذن الله.
__________
1 يريد أن عروبة -ممنوعة الصرف- والعروبة معناهما الجمعة. وعبارة اللسان: وعروبة والعروبة كلتاهما الجمعة. وقد تبعت في هذا الرسم أ، وفي المطبوعة وب: "الجمعة". والجمعة بيان لهما.
2 صدره كما في شرح المفصل 93/ 10
فبات عذوبا للسماء كأنما
وقوله: عذوبا أي لم يذق شيئًا، وقوله للسماء أي باد للسماء ليس بينه وبينها ستر. وقوله: يوائم أي يوافق ويفعل ما يفعلون، وصيما: قياما: يريد قوما يصلون الجمعة. وهذا في وصف بعير ظل قائما لا يضع رأسه للرعي. وانظر خلق الإبل للأصمعي في مجموعة الكنز اللغوي 132.

(1/38)


باب القول على البناء:
وهو لزوم آخر الكلمة ضربًا واحدًا: من السكون أو الحركة لا لشيء أحدث ذلك من العوامل. وكأنهم إنما سموه بناء لأنه لما لزم ضربًا واحدًا فلم يتغير تغير الإعراب سمي بناء من حيث كان البناء لازمًا موضعه لا يزول من مكان إلى غيره وليس كذلك سائر الآلات المنقولة المبتذلة1 كالخيمة والمظلة والفسطاط والسرادق ونحو ذلك. وعلى أنه قد أوقع على هذا الضرب من المستعملات المزالة من مكان إلى مكان لفظ البناء تشبيهًا لذلك2 -من حيث
__________
1 أي التي دون الأبنية الثانية. وهذا الرسم يوافق ما في المطبوعة، ب، واللسان. وفي ش وأ: "المبتدلة"، وقد تكون إن صحت "المتبدلة". أي التي تبدل وتنقل.
2 تبعت في هذا نسخة أ، وفي المطبوعة وب: "بذلك"، ولا وجه له.

(1/38)


كان مسكونًا, وحاجزًا ومظلًا -بالبناء من الآجر والطين والجص؛ ألا ترى إلى قول أبي مارد الشيباني:
لو وصل الغيث أبنين امرأ ... كانت له قبة سحق بجاد1
أي لو اتصل الغيث لأكلأت الأرض وأعشبت فركب الناس خيلهم للغارات فأبدلت الخيل الغني الذي كان له قبة من قبته سحق بجاد فبناه بيتًا له بعد ما كان يبني لنفسه قبة. فنسب ذلك البناء2 إلى الخيل لما كانت هي الحاملة للغزاة الذين أغاروا على الملوك فأبدلوهم من قبابهم ونظير معنى هذا البيت ما أخبرنا به أبو بكر محمد3 بن الحسن عن أحمد4 بن يحيى من قول الشاعر:
قد كنت تأمنني والجدب دونكم ... فكيف أنت إذا رقش الجراد نزا5
ومثله أيضًا ما رويناه عنه "عنه"6 أيضًا من قول الآخر:
قوم إذا اخضرت نعالهم ... يتناهقون تناهق الحمر7
__________
1 البجاد: الكساء المخطط، والسحق: البالي. والبيت في تنبيه البكري على أوهام القالي 19 وفي اللآلي له 123/ 1 والذي في اللآلي: "أبنينا" بإسناد هذا الفعل إلى الشاعر وقومه في الحيوان للجاحظ طبعه "الساسي" 5/ 137، وفي معاني ابن قتيبة 895.
2 كذا في الأصول. والمناسب: "الإبناء".
3 هو المعروف بابن مقسم، وهو أبو بكر العطار المقرئ النحوى، كان من أعرف الناس بالقراءات ونحو الكوفيين مات 355، وهو رواية لثعلب.
4 هو أبو العباس ثعلب من أئمة الكوفيين مات 291.
5 قوله: "نزا" كان ينبغي تأنيث الفعل فيقول: نزت، ولكنه نظر إلى المضاف إليه وهو الجراد، ونزو الجواد كناية عن الخصب وكثرة المزدرع.
6 زيادة من أ، يريد عن أبي بكر عن أحمد بن يحيى.
7 انظر المخصص ص179 ج1 وفيه بعد البيت: "واخضرار النعل من اخضرار الأرض" وفي هذا ميل إلى أن النعل: ما يلبس في الرجل، والكلام كناية عن الخصب.

(1/39)


قالوا في تفسيره: إن النعال جمع نعل وهي الحرة أي إذا اخضرت الأرض بطروا وأشروا1 فنزا بعضهم على بعض.
وبنحو من هذا فسر أيضًا قول النبي2 صلى الله عليه وسلم: "إذا ابتلت النعال فالصلاة في الرحال" أي إذا ابتلت الحرار. ومن هذا اللفظ والمعنى ما حكاه أبو زيد من قولهم: "المعزى تبهى ولا تبنى". ف "تبهى " تفعل من البهو أي تتقافز على البيوت من الصوف فتخرقها فتتسع الفواصل من الشعر فيتباعد ما بينها حتى يكون في سعة البهو 3. "ولا تبنى " أي لا ثلة لها وهي الصوف فهي لا يجز منها الصوف ثم ينسجونه ثم يبنون منه بيتًا. هكذا فسره أبو زيد. قال: ويقال أبنيت الرجل بيتًا إذا أعطيته ما يبني منه بيتًا.
ومن هذا قولهم: قد بنى فلان بأهله وذلك أن الرجل كان إذا أراد الدخول بأهله بنى بيتًا من أدم أو قبة أو نحو ذلك من غير الحجر والمدر ثم دخل بها فيه فقيل لكل داخل بأهله: هو بان بأهله وقد بنى بأهله. وابتنى بالمرأة هو افتعل من هذا اللفظ وأصل المعنى منه. فهذا كله على التشبيه لبيوت الأعراب ببيوت ذوي الأمصار.
ونحو من هذه الاستعارة في هذه الصناعة استعارتهم ذلك في الشرف والمجد قال لبيد:
فبنى لنا بيتًا رفيعًا سمكه ... فسما إليه كهلها وغلامها
__________
1 في أ: "فأشروا"، وما هنا أجود؛ فإن الأشر هو البطر.
2 لم أقف على لفظ هذا الحديث. وفي الصحاح معناه. فقد روى مالك والشيخان وأبو داود والنسائي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر المؤذن في الليلة الباردة أو ذات المطر في السفر أن يقول: ألا صلوا في رحالكم. انظر تيسير الوصول للزبيدي في باب الجماعة.
3 هكذا "يكون" كما في ش، وفي المطبوعة وأ: "تكون"، وما هنا أجود.

(1/40)


وقال غيره 1:
بنى البناة لنا مجدًا ومأثرة ... لا كالبناء من الآجر والطين
وقال الآخر 2:
لسنا وإن كرمت أوائلنا ... يومًا على الأحساب نتكل
نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثل ما فعلوا
ومن الضرب3 الأول قول المولد:
وبيت قد بنينا فا ... رد كالكوكب الفرد
بنيناه على أعم ... دة من قضب الهند
وهذا واسع4 غير أن الأصل فيه ما قدمناه.
__________
1 البيت لان كدراء العجلي كما في الفاضل: 38، وانظر الحماسة بشرح التبريزي 4/ 119.
2 هو بعد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، انظر كامل المبرد بشرح المرصفي ص175 ج2. وفي معجم الشعراء للمرزباني 400 نسبتهما إلى معن بن أوس.
3 يبدو أن قول المولد من الضرب الثاني، وهو استعارة البناء لبيت الشرف والمجد، فهو يريد أنهم بنوا بيت شرفهم بحد السيوف ومصاولة الأعداء، وذلك ما عناه بقوله: بنيناه على أعمدة من قضب الهند، وقضب الهند هي السيوف.
4 في ش: أوسع.

(1/41)


باب القول على أصل اللغة أإلهام1 هي أم اصطلاح:
هذا موضع محوج إلى فضل تأمل غير أن أكثر أهل النظرعلى أن أصل اللغة إنما هو تواضع واصطلاح لا وحي "وتوقيف "2. إلا أن أبا علي رحمه الله قال لي يومًا: هي من عند الله واحتج بقوله سبحانه: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} وهذا لا يتناول موضع الخلاف. وذلك أنه قد يجوز أن يكون تأويله: أقدر
__________
1 جعلتها هكذا "أإلهام" إذ المقام للاستفهام، ويؤنس لهذا ما في أ: "ا. لهام" وفي ش, ب، والمطبوعة "إلهام". ويمكن تخريج هذا على حذف همزة الاستفهام، وهذا يجيزه الأخفش في الاختيار إذا كان في الكلام ما يدل عليه كما هما، وفي المزهر 7/ 1 حيث ساق عبارة ابن جني: "باب القول على أصل اللغة أإلهام هي أم اصطلاح".
2 كذا في أ، وفي ش، ب "ولا توقيف".

(1/41)


آدم على أن واضع عليها وهذا المعنى من عند الله سبحانه لا محالة. فإذا كان ذلك محتملًا غير مستنكر سقط الاستدلال به. وقد كان أبو علي رحمه الله أيضًا قال1 به في بعض كلامه. وهذا أيضًا رأي أبي الحسن على أنه2 لم يمنع قول من قال: إنها تواضع منه 3. على أنه قد فسر هذا بأن قيل: إن الله سبحانه علم آدم أسماء جميع المخلوقات بجميع اللغات: العربية والفارسية والسريانية والعبرية والرومية وغير ذلك من سائر اللغات فكان آدم وولده يتكلمون بها ثم إن ولده تفرقوا في الدنيا وعلق كل منهم بلغة من تلك اللغات فغلبت عليه واضمحل عنه ما سواها لبعد عهدهم بها.
وإذا كان الخبر الصحيح قد ورد بهذا وجب تلقيه باعتقاده والانطواء على القول به.
فإن قيل: فاللغة فيها أسماء وأفعال وحروف وليس يجوز أن يكلم المعلم من ذلك الأسماء دون غيرها: مما ليس بأسماء فكيف خص الأسماء وحدها؟ قيل: اعتمد4 ذلك من حيث كانت الأسماء أقوى القبل5 الثلاثة ولا بد لكل كلام مفيد من الاسم وقد تستغني الجملة المستقلة عن كل واحد من الحرف
__________
1 أي بالقول بالتواضع والاصطلاح.
2 أي أبا الحسن، هو الأخفش، وحاصل هذا أن أبا علي وأبا الحسن قالا بالرايين، وقد صرح بهذا في ج ففيها بعد ذكر القولين: "وكلا الأمرين أجازه أبو الحسن وأبو علي". والتوقيف رأي الأشعري، والاصطلاح رأي المعتزلة.
3 كأن الضمير يعود على آدم، وقد سبق ذكره في قوله "أقدر آدم على أن وضاع عليها".
4 ضبط بالبناء للفاعل، أي اعتمد ذلك الله تعالى، وقد اعتمدت في هذا الضبط على ما في المخصص ص4 ج1.
5 واحده قبيل، وهو الجماعة، كأن كل نوع من أنواع الكلمة جماعة وطائفة. وفي عبارة المخصص: "الأنواع".

(1/42)


والفعل فلما كانت الأسماء من القوة والأولية في النفس والرتبة على ما لا خفاء به جاز أن يكتفى بها مما هو تال لها ومحمول في الحاجة إليه عليها 1. وهذا كقول المخزومي 2:
الله يعلم ما تركت قتالهم ... حتى علوا فرسي بأشقر مزبد
أي فإذا كان الله يعلمه فلا أبالي بغيره سبحانه أذكرته واستشهدته3 أم لم4 أذكره ولم أستشهده. ولا يريد بذلك أن هذا أمر خفي فلا يعلمه إلا الله وحده بل إنما يحيل فيه على أمر واضح وحال مشهورة5 حينئذ متعالمة. وكذلك قول الآخر:
الله يعلم أنا في تلفتنا ... يوم الفراق إلى أحبابنا صور6
__________
1 بنى ابن جني هذا الجواب على أن المعنى بالأسماء في الآية الكريمة مصطلح النحاة فيها. وهذا اصطلاح حادث. والاسم في اللغة ما كان علامة على مسمى، وهذا يشمل الأنواع الثلاثة، وبهذا يسقط السؤال. وانظر المزهر 11/ 1.
2 هو الحارث بن هشام، عيره صيدنا حسان بفراره يوم بدر من المسلمين، فقال هذا في قصيدة يعتذر بها عن فراره. ويعني بالأصقر المزبد الدم، وهو مزبد أي علاه الزبد، وفي رواية سيرة ابن هشام: "الله أعلم". انظر هذه السيرة في غزوة بدر.
3 هكذا في الأصول ما عدا المطبوعة وب، ففيهما: "استشهدت به".
4 كذا في ج "أم" وفي سائر الأصول "أو" وهذا لا يصح في العربية.
5 هكذا في أ. وفي المطبوعة وب: "مشهودة".
6 صور واحده أصور، وصف من الصور، وهو إمالة العنق. وبعده:
ونسب الزوزني عند قول عنترة في معلقته.
ينباع من ذفرى غضوب جسرة
الشطر الأخير إلى ابن هرمة. وهذا اشتباه، فإن لابن هرمة بيتا ينشد في هذا المقام -وهو إشباع الحركة فيتولد الحرف- وهو:
وأنت من الغوائل حين ترمى ... ومن ذم الرجال بمنتزاح
وانظر اللسان في "نزح" وقد تابع الزوزني ابن جماعة في حاشيته على شرح الجاربردي للشافية ص40. والبيتان في الخزانة في الشاهد الحادي عشر ولم يعزهما.

(1/43)


وليس بمدع أن هذا باب مستور ولا حديث غير مشهور حتى إنه لا يعرفه أحد إلا الله وحده وإنما العادة في أمثاله عموم معرفة الناس به لفشوه فيهم وكثرة جريانه على ألسنتهم.
فإن قيل: فقد جاء عنهم في كتمان الحب وطيه وستره والبجح1 بذلك والادعاء له ما لا خفاء به؛ فقد ترى إلى اعتدال الحالين فيما ذكرت.
قيل: هذا وإن جاء عنهم فإن إظهاره أنسب2 عندهم وأعذب على مستمعهم ألا ترى أن فيه إيذانًا من صاحبه بعجزه عنه وعن ستر مثله ولو أمكنه إخفاؤه والتحامل3 به لكان مطيقًا له مقتدرًا عليه وليس في هذا من التغزل ما في الاعتراف بالبعل4 به وخور الطبيعة عن الاستقلال بمثله ألا ترى إلى قول عمر "بن أبي ربيعة"5:
فقلت لها ما بي من ترقب ... ولكن سري ليس يحمله مثلي6
وكذلك قول الأعشى:
وهل تطيق وداعًا أيها الرجل7
وكذلك قول الآخر:
ودعته بدموعي يوم فارقني ... ولم أطق جزعًا للبين مد يدي8
__________
1 البجح بالشيء: الفرح به.
2 أي أرق نسيبا واغزل.
3 مصدر تحامل في الأمر وبه: تكلفه على مشقة.
4 البعل -بالتحريك: الضجر.
5 زيادة من ج.
6 من قصيدة له مطلعها:
جرى ناصح بالود بيني وبينها ... فقربني يوم الحصاب إلى قتل
وقبله:
فقال وأرخت جانب الستر بيننا ... معي فتحدث غير ذي رقبة أهلي
وانظر الديوان. والحصاب -بزنة كتاب- موضع رمي الجمار بمنى.
7 صدره:
ودع هريرة إن الركب مرتحل
وهو مطلع معلقته
8 هذا البيت أول ثلاثة أبيات في المختار من شعر بشار 348 ويه "صالحته" بدل "ودعته".

(1/44)


والأمر في هذا أظهر وشواهده أسير وأكثر.
ثم لنعد فلنقل في الاعتلال لمن قال بأن اللغة لا تكون وحيًا. وذلك أنهم ذهبوا إلى أن أصل اللغة لا بد فيه من المواضعة قالوا: وذلك كأن يجتمع حكيمان أو ثلاثة فصاعدًا فيحتاجوا إلى الإبانة عن الأشياء المعلومات فيضعوا لكل واحد "منها"1 سمة ولفظًا إذا ذكر عرف به ما مسماه2، ليمتاز من غيره وليغنى بذكره عن إحضاره إلى مرآة العين فيكون ذلك أقرب وأخف وأسهل من تكلف إحضاره لبلوغ الغرض في إبانة حاله. بل قد يحتاج في كثير من الأحوال إلى ذكر ما لا يمكن إحضاره ولا إدناؤه كالفاني3 وحال اجتماع الضدين على المحل الواحد كيف4 يكون ذلك لو جاز وغير هذا مما هو جار في الاستحالة والبعد مجراه فكأنهم جاءوا إلى واحد من بني آدم فأومئوا إليه وقالوا: إنسان إنسان إنسان فأي وقت سمع هذا اللفظ علم أن المراد به هذا الضرب من المخلوق وإن أرادوا سمة عينه أو يده أشاروا إلى ذلك فقالوا: يد عين رأس قدم أو نحو ذلك. فمتى سمعت اللفظة من هذا عرف معنيها5 وهلم جرا فيما سوى هذا من الأسماء والأفعال والحروف. ثم لك من بعد ذلك أن تنقل هذه المواضعة إلى غيرها فتقول: الذي اسمه إنسان فليجعل مكانه مرد6 والذي اسمه رأس فليجعل مكانه سر6 وعلى هذا بقية الكلام. وكذلك لو بدئت اللغة الفارسية فوقعت المواضعة عليها لجاز أن تنقل ويولد
__________
1 زيادة من ش.
2 العبارة في المزهر ص8 ج1: "عرف به مسماه".
3 في عبارة الخصائص التي ساقها ابن علان في شرح الاقتراح: "كالمعاني".
4 في المزهر: "وكيف".
5 في ش: "معناها".
6 مرد: هو الإنسان، وسر: الرأس في الفارسية. والمرد -في العربية- النضيج من ممر الأراك.

(1/45)


منها لغات كثيرة: من الرومية والزنجية وغيرهما. وعلى هذا ما نشاهده الآن من اختراعات الصناع لآلات صنائعهم من الأسماء: كالنجار والصائغ والحائك والبناء وكذلك الملاح. قالوا: ولكن لا بد لأولها من أن يكون متواضعًا1 بالمشاهدة والإيماء. قالوا: والقديم سبحانه لا يجوز أن يوصف بأن يواضع أحدًا من عباده على شيء إذ قد ثبت أن المواضعة لا بد معها من إيماء وإشارة بالجارحة نحو المومأ إليه والمشار نحوه والقديم سبحانه لا جارحة له فيصح الإيماء والإشارة بها منه فبطل عنهم أن تصح المواضعة على اللغة منه تقست أسماؤه قالوا: ولكن يجوز أن ينقل الله اللغة التي قد وقع التواضع بين عباده عليها بأن يقول: الذي كنتم تعبرون عنه بكذا عبروا عنه بكذا والذي "كنتم تسمونه"2 كذا ينبغي أن تسموه كذا3 وجواز هذا منه -سبحانه- كجوازه من عباده. ومن هذا الذي في الأصوات ما يتعاطاه الناس الآن4 من مخالفة الأشكال في حروف المعجم كالصورة5 التي توضع للمعميات6 والتراجم6 وعلى ذلك أيضًا اختلفت أقلام ذوي
__________
1 كذا في الأصول. والواجب أن يقال: "متواضعًا عليه"، وفي المزهر 5/ 1: "متواضعها" وكأنه مصدر ميمي.
2 كذا في الأصول عداش ففيها "والذي سميتموه".
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "بكذا".
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "في".
5 كذا في الأصول. وفي المزهر 9/ 1: "كالصور".
6 يريد بالمعميات ما عمى وألغز في الرسم والكتابة. وذلك ما يكتب بصورة مصطلح عليها غير الاصطلاح المألوف، ومن أمثلة ذلك أن يكتب الكاف بدل الميم، والطاء بدل الحاء، والراء بدل الدال، فيكتب محمد: كطكر. وهو ما يعرف في اصطلاح العصر بالشفرة. والتراجم جميع الترجمة وهو المعمى نفسه" ويقال له المترجم؛ فكأنه سمي بذلك لما أنه يحتاج إلى الترجمة والكشف عنه، وقد كان المتقدمون يعرفون هذا، وعقد له في صبح الأعشى بابا طويلا -ص231 ج9، وذكر أن لابن الدريهم كتابا فيه، وقد نقل عنه قدرا صالحا في هذا العلم. وانظر في فن المعمى بوجه عام الخزانة 113/ 3. وفي نقد النثر: 26 و"من الظن العيافة والقيافة والزجر والكهانة واستخراج المعمى والمترجم من الكتب، وفيه في ص28: "ألا ترى أنك تظن بالترجمة أنها حروف ما، فإذا أدرتها في سائر المواضع التي تثبت صورها فيها امتحنتها فوجدتها مصدقة لظنك حكمت بحصتها، وإذا خالفت علمت أن ظنك لم يقع موقعه، فأوقعته على غير تلك الحروف إلى أن تصح لك".

(1/46)


اللغات؛ كما اختلفت أنفس الأصوات المرتبة على مذاهبهم في المواضعات. وهذا قول من الظهور على ما تراه. إلا أنني سألت يومًا بعض أهله1 فقلت: ما تنكر أن تصح المواضعة من الله تعالى وإن لم يكن ذا جارحة بأن يحدث في جسم من الأجسام خشبة أو غيرها إقبالًا على شخص من الأشخاص وتحريكًا لها نحوه ويسمع في نفس تحريك الخشبة نحو ذلك الشخص صوتًا يضعه اسمًا له2 ويعيد حركة تلك الخشبة نحو ذلك الشخص دفعات مع أنه -عز اسمه- قادر على أن يقنع في تعريفه ذلك بالمرة الواحدة فتقوم الخشبة في هذا الإيماء وهذه الإشارة مقام جارحة ابن آدم في الإشارة بها في المواضعة وكما أن الإنسان أيضًا قد يجوز إذا أراد المواضعة أن يشير بخشبة نحو المراد المتواضع عليه فيقيمها في ذلك مقام يده لو أراد الإيماء بها نحوه فلم يجب عن هذا بأكثر من الاعتراف بوجوبه ولم يخرج من جهته شيء أصلًا فأحكيه عنه وهو عندي3 وعلى ما تراه الآن لازم لمن قال بامتناع مواضعة القديم تعالى لغة مرتجلة4 غير ناقلة لسانًا إلى لسان. فاعرف ذلك.
وذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسموعات كدوي الريح وحنين الرعد وخرير الماء وشحيج الحمار ونعيق الغراب،
__________
1 هم المعتزلة. انظر المزهر ص12 ج1، وينسب هذا المذهب إلى أبي هاشم الجبائي عبد السلام بن محمد من رءوس المعتزلة. وكانت وفاته سنة 321. وانظر المزهر 10/ 1.
2 أي الشخص المراد وضع الاسم له. والشخص: سواد الإنسان وغيره، والذي يفهم التسمية بالضرورة غير الشخص المسمى.
3 العبارة في المزهر "وهذا عندي على ما تراه الآن لازم"
4 قيد بهذا لأن هذا موضع المنع عند القائلين به، فهم إنما ينكرون أن يواضع الباري لغة مرتجلة، فأما أن يواضع لغة ثابتة من قبل بأن ينقلها إلى لغة أخرى فيقول: ما تعبرون عنه بكذا عبروا بكذا فلا شيء فيه ما سبق له.

(1/47)


وصهيل الفرس ونزيب1 الظبي ونحو ذلك. ثم ولدت اللغات عن ذلك فيما بعد. وهذا عندي وجه صالح ومذهب متقبل.
واعلم فيما بعد أنني على تقادم الوقت دائم التنقير والبحث عن هذا الموضع فأجد الدواعي والخوالج قوية التجاذب لي مختلفة جهات التغول2 على فكري. وذلك أنني إذا تأملت حال هذه اللغة الشريفة الكريمة اللطيفة وجدت فيها من الحكمة والدقة والإرهاف والرقة ما يملك علي جانب الفكر حتى يكاد يطمح به أمام غلوة3 السحر. فمن ذلك ما نبه عليه أصحابنا رحمهم الله ومنه ما حذوته على أمثلتهم فعرفت بتتابعه وانقياده وبعد مراميه وآماده صحة ما وفقوا لتقديمه منه. ولطف ما أسعدوا به وفرق لهم عنه. وانضاف إلى ذلك وارد الأخبار المأثورة بأنها من عند الله عز وجل فقوى في نفسي اعتقاد كونها توفيقًا من الله سبحانه وأنها وحي.
ثم أقول في ضد هذا: كما وقع لأصحابنا ولنا وتنبهوا وتنبهنا على تأمل هذه الحكمة الرائعة الباهرة كذلك لا ننكر أن يكون الله تعالى قد خلق من قبلنا -وإن بعد مداه عنا- من كان ألطف منا أذهانًا وأسرع خواطر وأجرأ جنانًا. فأقف4 بين تين الخلتين حسيرًا وأكاثرهما فأنكفيء مكثورًا. وإن خطر خاطر فيما بعد يعلق الكف بإحدى الجهتين ويكفها5 عن صاحبتها قلنا به وبالله التوفيق.
__________
1 التزيب: صوت تيس الظباء عند السفاد.
2 تغول الأمور: اشتباهها وتناكرها.
3 الغلوة: الغاية في سياق الخيل، يريد أنه يدنو من غاية السحر.
4 يبدو من هذا أن مذهب ابن جني في هذا المبحث للوقف، فتراه لا يجزم بأحد الرأيين: الاصطلاح والتوقيف. وقد صرح بهذا ابن الطيب في شرح الاقتراح.
5 كذا في ش والمزهر 10/ 1. وفي أ: "يفكها". أي يفصلها عنها. وهذا يرجع، إلى المعنى الأول.

(1/48)